أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ثائر دوري - الحروب الإبادية كطريقة حياة في االعصور الحديثة















المزيد.....


الحروب الإبادية كطريقة حياة في االعصور الحديثة


ثائر دوري

الحوار المتمدن-العدد: 1480 - 2006 / 3 / 5 - 11:19
المحور: الادب والفن
    


تحليل لقصة " أسير القفقاس" لتولستوي
أصدرت دار قدمس للنشر كتاباً قيماً اسمه (( الطرد و الإبادة )) و هو من تأليف "جستن مكارثي " و قام بترجمته إلى العربية "فريد الغزي" . يتناول هذا الكتاب موضوع الإبادة الذي تعرض لها المسلمون العثمانيون خلال قرن من الزمان من /1820 – 1920 م/ في كل من البلقان و القوقاز و شرق الأناضول . و أهمية هذا الكتاب أنه يتناول موضوعاً تم التعتيم عليه باتفاق ضمني بين كل الأطراف بما فيهم أبناء الضحايا . فبينما جرى التركيز على عذابات الطرف الآخر سواء في البلقان أم في شرق الأناضول أم في القوقاز جرى تجاهل مصير المسلمين في تلك المناطق . يورد الكاتب تفاصيل تاريخية دقيقة عما تعرض له العثمانيون المسلمون من طرد و إبادة في تلك المناطق التي كانوا يشكلون أكثرية في كثير من مناطقها فإذ بهم يتحولون إلى أقلية هامشية بسب الطرد و الإبادة. و يركز الكاتب على أن ذلك كان سياسة منهجية و ليس كنتاج ثانوي للحروب التي اندلعت . لقد كانت سياسة تطهير عرقي للمسلمين مصممة بدقة و عناية .
أعادني هذا الكتاب إلى هوامش كنت قد كتبتها على متن قصة للكاتب الروسي ليف تولستوي و عنوانها (( أسير القفقاس ))
يومها دهشت و أنا أقرأ تلك القصة أن تولستوي ، هذا الكاتب الإنساني الذي اتخذ موقفاً مناوئاً لحرب القفقاس ، حتى أنه كثيراً ما وصف الجرائم التي قام الروس بها هناك . ينقل عنه الكاتب جستن مكارثي وصفه لهجوم الروس على القرى القوقازية . فيقول :
((جرت العادة أن تهاجم القرى في أثناء الليل ، عندما بسبب المباغتة ، لا يتسنى الوقت للنساء و الأطفال الفرار ، و كان الرعب الذي تلا تحت جنح الظلام حين اقتحم الروس البيوت بمجموعات مؤلفة من اثنين و ثلاثة شديداً إلى حد لم يجرؤ أي معلق رسمي على وصفه )) ص58
أدهشني أن هذا الكاتب الكبير وقع ضحية للأفكار لسائدة في عصره فإذ به يرسم في تلك القصة صورة نمطية للآخر تخرجه عن إطار الحياة الإنسانية و تجعله أقرب للحيوانات ، و يتغنى عبر شخصية البطل بالدور التمديني للروس بين القوقازيين الهمج المتخلفين . لقد رسم صورة نمطية للآخر تجرده من كل إنسانيته فأظهره شراً مطلقاً يجب استعباده أو طرده او إبادته . و هو أمر طالما اتبعه الغزاة الأنغلو ساكسون في وصفهم الهنود الحمر في أمريكا تمهيدا لطردهم و إبادتهم .
تدور هذه القصة في القفقاس و قد أطلق عليها الكاتب اسماً أساسياً (( أسير القفقاس )) و عنواناً فرعياً (( قصة حقيقية )) . تدور هذه القصة حول ضابط روسي اسمه جيلين له أم عجوز تتمنى أن تزوجه قبل أن تموت . ترسل له رسالة :
(( .....وجدت لك عروساً عاقلة ، حلوة ، و لها ضيعة أيضاً. و قد تعجبك ، فتتزوج ، و تبقى عندنا نهائياً ))
يقرر جيلين بعد هذه الرسالة أن يطلب إجازة ليذهب لأمه .
يعيش الروس في القفقاس وسط بيئة معادية في قلاع و حصون و لا يتحركون إلا بقوافل . يقول الكاتب :
(( كانت الحرب ناشبة في القفقاس آنذاك ، لا حركة على الطرق لا في الليل و لا في النهار . و الروسي ما يكاد يبتعد عن القلعة راكباً أو ماشياً حتى يقتله التتار ، أو يأخذوه إلى الجبال . و قد جرت العادة أن يخرج جنود مرافقون من قلعة إلى قلعة مرتين في الأسبوع . يسير الجنود في المقدمة و في الخلف ، و الناس في الوسط ))
يقع جيلين في كمين للتتار بعد أن يبتعد عن القافلة
(( يفكر جيلين في نفسه :
أنا أعرفكم أيها الشياطين إذا أمسكتم أحدا حياً ، حبستموه في حفرة ، و هرأتم جلده بالسوط ، فلن أستسلم حياً ))
و من هذا المقطع يبدأ اللا وعي الباطن المشتق من ايديولوجيا العصر الغربي الإبادي . يبدأ هذا اللاوعي برسم صورة نمطية للعدو تدمجه بالشيطان . فالتتريان اللذان ينقضا على جيلين " منتنين " و يتكرر وصف منتن مرة أخرى بعد قليل .
و في الأسر يتعرف الأسير على الفتاة دينا ذات الثانية عشر ربيعاً . و هنا نرى النظرة للآخر التي لا تنظر ليه كبشر و إنما كشيء خارج حدود الحياة البشرية و هذا أمر ضروري من أجل قتله أو طرده و تصفيته . فـ"الفتاة تقفز كالماعز البرية " . و الجامع " كنيستهم ذات البرج "
يطلب " التتار " منه أن يرسل لأهله ليدفعوا ثلاثة آلاف روبل كفدية له . لكنه يرفض و يقرر أن يهاجمهم . و هنا يصور الكاتب الضابط الروسي شجاعاً حتى و هو في الأسر ، فيقول جيلين لنفسه :
(( آه الجبن معهم يجعل الأمر أسوأ )) و يثب على قدميه ، و يقول :
" و لكن قل لهذا الكلب – لن أدفع فلساً واحداً إذا كانا يريدان أن يرهباني ، بل و لن أكتب لأهلي ، أنا لم أخف ، و لن أخاف منكم يا كلاب !"
هنا يتراجع التتار و يرضون بألف روبل فدية .
و في هذا المقطع نلاحظ انقلاب الأدوار فالتتاري الذي يدافع عن أرضه يصور جشعاً لا يهمه سوى المال . أما الروسي المحتل المعتدي فهو الشجاع و كأنه صاحب قضية نبيلة . و هو أمر شبيه بما اتبعته هوليوود أثناء تصويرها الهندي الأحمر ، حيث صورته كمتوحش يسلخ جلد فروة رأس الأبيض و يعتدي على قطارات البيض المسالمين و على قوافلهم في حين أن العكس هو الصحيح !!يقول منير العكش محللاً آلية التفكير الإبادية هذه :
(( إن اغتصاب أراضي الهنود وإبادتهم فضيلة إنسانية. أما مقاومة ذلك الاغتصاب وتلك الإبادة فوحشية وشر وجريمة عقابها الموت". ومع تقدم الزمن صارت شيطانية الهندي ووحشيته بديهية لا تحتاج إلى دليل مثلما أن إنكليزية الله وتفوق شعبه من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل ))
يصر جيلين أنه لن يدفع إلا خمسمائة روبل فدية فيوافق التتار أخيرا على ذلك .
خلال القصة يرسم تولستوي صورة للضابط الروسي مليئة بالثقة فقد رأينا كيف شتمهم و هو واثق من أنه سيهرب . و يبدأ يسلي وقته بصنع أشياء حضرية تبهر التتار المتخلفين ، حسب الرواية السائدة في ذلك الوقت ، فيصنع دمية فتركض ابنة مالكه ، دينا، و تخطفها و تهرب بها . و دينا هي الطفلة التي لم تشوه بعد بثقافة أهلها المتوحشين . فقط لأنها طفلة :
(( و يتطلع في اليوم التالي ، فيرى دينا تخرج على عتبة بيتها عند الفجر ، تحمل الدمية ، و قد زينتها بالخرق الحمراء ، و تهدهدها كالطفلة و تترنم لها بلغتهم . خرجت أمها العجوز ، و شرعت تقرعها ، و اختطفت الدمية و حطمتها ، و أرسلت دينا في شغل ))
لكن الروسي "المتحضر" لا ييأس فيحاول مرة أخرى نشر الحضارة بين هؤلاء المتوحشين لذلك يصنع دمية أخرى و يعطيها لدينا . فتبدأ الصغيرة بالتعاطف معه ، فتحضر له الحليب مرة بعد مرة و تكتشف أنه لطيف ثم جلبت له لحماً . و يبدأ الروسي بإظهار مهاراته الحضارية فيبهرهم بالدمى التي يصنعها و يصلح لهم الساعات و المسدسات و يصبح محور حياة القرية و الجوار ، و عندما مرض تتري دعوه ليشفيه :
(( مرض تتري ذات مرة . و جاءوا إلى جيلين يدعونه لعلاجه . و جيلين لا يعرف كيف يعالج المرضى . و يفكر أظنه سيشفى لحاله )) عاد إلى السقيفة . تناول شيئاً من الماء ، و الرمل ، و خلطهما . ووسوس على الماء بحضور التتار ، و أعطاه ليشربه المريض . و شفي المريض لحسن حظه . و الفضول العلمي و حب الاكتشاف لا ينقطع عند جيلين حتى في أسره . و قد عرضه ذلك للقتل .
(( لم أرد أن أمسه بسوء . أردت أن أرى كيف يعيش ))
ثم يهرب جيلين فيلقي التتار القبض عليه و يضعونه في حفرة . لكنه يصنع من الطين دمية لدينا . التي تحضر بعد حين لتخبره أن أهلها سيقتلونه لأن الروس قريبين . ثم تساعده على الخروج من الحفرة عبر جلب عصا له ليستعملها في الخروج . و بعد ذلك يطلب من دينا أن تعيدها إلى مكانها كي لا يضربوها ، فحتى في أصعب الظروف لا ينسى إنسانيته . و تساعده دينا بفك القيد . و قبل أن يغادرها لا ينسى أن يذكرها بفضله عليها
"يا عاقلة من يصنع لك الدمى بعدي – و مسد على رأسها .
" و تبكي دينا ، حاجبة وجهها بيديها ، و ركضت في الجبل ، قافزة كالعنزة "
في هذه القصة توجد كلالعناصر الأساسية ،التي استند لها الإباديون الغربيون أثناء تصويرهم شعوب آسيا و افريقيا ، خاصة في أمريكا . فهم متوحشون يقتربون من الحيوانات في سلوكهم و تصرفاتهم ، و إذا وجد طيب بينهم فهو من الأطفال الذين لم يتلوثوا بثقافة أهلهم ، أو ممن يساعدون المحتل على الخروج من ورطته عبر خيانة أهلهم . و في هذه القصة يتجسد بشخصية دينا فهي طفلة و تساعد الغازي . لتكون طيباً بالنسبة للغزاة يجب أن تكون طفلاً أو خائناً !!!
ليس الهدف من الإشارة إلى هذه القصة هو محاكمة كاتب عظيم كتولستوي . بل إن الهدف هو الإشارة إلى أي مدى يمكن أن ينغمس المرء ، حتى دون أن يشعر ، في علاقات عصره و إن كان يرفضها في وعيه . و هذا أمر دعا البعض إلى الجزم بأن الحرية وهم ، لأن الإنسان منذ ولادته موضوع بين خيارات محدودة و إن توهم أنه حر الإختيار . لكنه بطريقة أو بأخرى يستمد خياراته و أفكاره و مفاهيمه من تلك السائدة في عصره، فإما أن يتماثل معها ، أو يرفضها . و في الحالتين تكون مفاهيم عصره قد صاغته و حددت طريقة تفكيره و ربما تسربت إلى عقله الباطن دون أن يشعر و نفس الأمر ينطبق على الشعوب . لقد تلوثت كل الأمم و الشعوب ، بدرجات متفاوتة ، بروح العصر الغربي الذي انطلق قبل خمسمائة عام و يسميه المفكر تشومسكي "رايخ الخمسمائة عام "و هو ينهض على الإبادة و الاستعباد فيلخص العلاقات بين البشر و الشعوب بعلاقة " سيد - عبد " . واضعاً الشعوب بين خيارين ، إما أن تكون قاتلة أو تصير مقتولة . إما ظالمة أو مظلومة .
إن المسؤول الأول عن الجرائم التي جرت خلال القرون الخمسة الماضية في كل أنحاء العالم ، و بغض النظر عن اليد التي ارتكبتها ، هي العقلية الغربية الإبادية التي حولت الحرب إلى طريقة حياة ، و حولت الشعوب إلى قاتلة أو مقتولة ، و لم تترك فرصة كي يحل السلام على سطح الأرض . إن فهم هذه النقطة يجعل الشعوب و الأفراد أكثر قدرة على التعامل مع مآسيها الخاصة ، و يحول التجارب المريرة التي تعرضت لها على يد الآخرين إلى رصيد إيجابي يخدم الإنسانية إذا ما صبت هذه الشعوب حقدها على منظري هذا العصر و بٌناته بدل أن تفرغها في أحقاد ثانوية ضد من تتوهم أنهم سبب مأساتها ، و الذين لا يزيدون عن كونهم أدوات تنفيذ ، أو روبوتاً ينفذ الأوامر التي تمت برمجته بها . و بهذه الطريقة تصبح دماء و عذابات الذين قتلوا في العصر الإمبريالي الراهن ، لا سيما في القرنين الماضيين ، ذات قيمة إنسانية عظيمة و يجري استثمارها لصالح البشرية جمعاء . لكن للأسف ما يجري حتى الآن هو تحول هذه العذابات التي ارتكبت بتأثير عقيدة العصر الإبادي إلى عامل ترسيخ عداوات وروح انتقام بين الشعوب بما يخدم مصلحة سادة العصر الإبادي أنفسهم ، فكثيراً ما رأينا في هذا العصر كيف يتمرد العبيد على سادتهم و بدل أن يدفعوا الحياة الإنسانية إلى الأمام عبر بناء عالم خال من العبودية فإذ بهم يتحولون إلى تجار عبيد ، و هو أسوأ ما يمكن أن يطرأ على المرء من تبدل ، أي أن يتحول المرء من عبد إلى تاجر عبيد . كما شاهدنا شعوباً مقموعة مظلومة لكن عند أول فرصة سنحت لها تقمصت سلوك ساداتها و تحولت إلى ظالمة قامعة .
لقد تلوثت كل الشعوب و الأمم ، خاصة في القرنين الأخيرين ، بالعقلية الغربية الإبادية . فكل شعب من الشعوب حاول أن يبني دولة على الطريقة الغربية ، أي دولة قومية تستعبد الآخرين و يكون لها مجالاً حيوياً تنهبه . بعض الأمم فشلت و بعضها نجح . من فشل صب جام غضبه على من نجح و اتخذ سحنة المظلوم و بدأ يبكي عذاباته . لكن لو أتاح التاريخ له أن ينتصر لفعل مثل ما فعل المنتصرون الذين يلومهم .
إن المذنب في كل ذلك هو الأسس التي قام عليها النظام العالمي . و إن من يحتاج إلى الهزيمة هي الفكرة ، فكرة الإبادة و الطرد و الإستعباد ، فكرة النظر للآخر على أنه شيطان ، على أنه الشر المطلق ، مما يفتح الطريق لاحقاً أمام إبادته أو استعباده . و إن النضال يكون مجدياً و يكون له قيمة إنسانية كبرى حينما نسعى لبناء عالم يجد الجميع مكاناً لهم فيه بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي أو اللغوي أو الجهوي . لا يعني ذلك إلغاء الفروقات الدينية و اللغوية و العرقية و إنما أن تتحول إلى عوامل إغناء للحياة البشرية بدل أن تكون صواعق لتفجير الصراعات ، كما هي في عالم اليوم .
إذا وضعنا النقاط السابقة أمامنا و نحن ندرس التجربة الروسية الإبادية في القفقاس يمكننا فهم ما جرى بشكل أفضل يقول مؤلف كتاب " الطرد و الإبادة " واصفا السياسة الروسية في القفقاس :
((...حرروا المناطق التي أخضعوها من المسلمين و استبدلوا المسيحين بهم . لم تكن تلك السياسة استثنائية للروس ، ففي الوقت الذي كان الروس يقومون فيه بأفعالهم ضد المسلمين على سيل المثال ، كان المستوطنون الأوربيون في أمريكا الشمالية يفرضون سياسة مشابهة على الأمريكيين الأصليين ))
فالدب الروسي الذي استيقظ متأخراً تعلم الدرس الغربي سريعاً و بدأ يحاول بناء دولة قومية على الطراز الغربي ، و الخطوة الأولى في هذا الطريق هي الاستحواذ على مستعمرات . و اكتملت القضية في عهد بطرس الأكبر الذي تقول كتب التاريخ إنه كان شخصاً ماجناً سكيراً , فقد قرب منه الأجانب و اللوثريين في بلد أرثوذكسي محافظ . ويقال إنه كان يحتقر كل ما هو روسي و كان معجباً بالغرب و بكل تفاصيل حياته . لقد كان سلفاً نموذجياً لقادة العالم الثالث في القرن العشرين عبر انبهارهم بالغرب و تبنيهم حضارة الغرب بكل تفاصيلها و احتقارهم لكل ما هو موروث و أصيل في أوطانهم ، و النموذج الأشهر لهؤلاء هو أتاتورك و الأتاتوركية . و يصل التشابه إلى حده الأقصى بين هذين الشخصين فقد تبنى أتاتورك مرسوماً أجبر بموجبه الأتراك على ارتداء ملابس غربية , و كذلك فعل بطرس الأكبر . يشير مرسوم الثياب الذي فرضه بطرس الأكبر إلى ما يجب أن يرتديه المواطنون :
(( بدلات سكسونية و فرنسية و تحتها قمصان و سراويل , و الجزمات و الأحذية و القبعات ألمانية الطراز )) .
إن هذا الافتتان بالغرب و محاولة تقليده في كل شيء يعني أول ما يعني على الصعيد السياسي الرغبة بالتحول إلى دولة نهب , أي دولة لها مستعمرات . هذا هو جوهر التحديث الذي قام به بطرس الأكبر .
كان الوضع السياسي المعقد داخل أوربا يمنع الدولة الروسية من التوسع هناك و امتلاك مستعمرات , لذلك اندفعت روسيا جنوباً حيث الدولة العثمانية و العالم العربي _ الإسلامي , و كان القوقاز مسرح هذه الإندفاعة الروسية . لقد كان نجاح حلم بطرس الأكبر الاستعماري مرتبطاً بشكل وثيق بالوصول إلى منافذ بحرية تحقق الصلة بأوربا . و كانت الخيارات أمامه هي التالية :بحر الشمال , و بحر البلطيق و البحر الأسود . أما بحر قزوين فلم يدخل في الحسابات لأنه رغم سعته بحيرة داخلية مغلقة . وجد بطرس أن بحر الشمال بعيد وغير مناسب للتجارة و للعلاقات الثقافية مع الغرب . وفي تسعينات القرن السابع عشر قرر تأجيل موضوع بحر البلطيق بسبب ظروف أوربا السياسية , فتفرغ للبحر الأسود , الذي كان بحيرة عثمانية بالكامل من سيباستول في الشمال إلى مضيق البوسفور . و هنا كان الدخول الروسي إلى القوقاز .
يمتد القوقاز من البحر الأسود إلى بحر قزوين و كان يشكل الحد الفاصل بين الدولة العثمانية و قياصرة روسية . و منذ اللحظة الأولى كان لدى الروس خطة استعمارية متكاملة للسيطرة على القوقاز الذي سيفتح لهم أبواب البحر الأسود , فقد كانوا ينشئون القلاع و الطرق و المباني العسكرية و التحصينات تمهيداً للدخول إلى عمق القفقاس . وفي القرن التاسع عشر لخص الجنرال ديليالينوف خطة استعمار القفقاس بالتالي :
1-إقامة تحصينات في المناطق المهمة طبوغرافياً .
2- أخذ الأراضي من الجبليين بسرعة و إسكان القوقاز في محطات على هذه الأراضي .
3-تخريب الحقول و مصادرة الأراضي .
أي أن الخطة هي مزيج من سياسة الاستيطان و الأرض المحروقة و التهجير . كتبت صحيفة القفقاس الرسمية :
(( كان جنرالات الروس يقومون بحملات في الجبال و يطلقون النار على كل شيء و يقتلون السكان بالحراب و النار و يأخذون كل شيء و يسرقون الماشية , و كانوا يعاقبون الناس بتدمير قرى بأكملها )) .
و يمكننا أن نلخص بعض المحطات الأساسية في تاريخ القفقاس . فقد استولى بطرس الأكبر على دربند و باكو في عامي 1722 – 1723 م لكن نادر شاه استرجعهما . و عاد الروس ثانية إلى المنطقة عام 1812 و إلى جورجيا عام 1873 ، حيث أصبحت دافعة للجزية . و في عام 1836 اندلعت ثورة شامل ، الذي هزم 1859 . و في عام 1864 كانت السيطرة الروسية على القفقاس شبه تامة .
لقد طبق الروس سياسة التهجير و النزوح القسري عبر تدمير البيوت و الحقول فلم يتركوا خياراً سوى الموت جوعاً أو الفرار . لكن الحرب لا تدور على الأرض فقط و إنما في العقول و الكلمات . فكي يسهل على الجنود قتل العدو يجب أن ترسم للعدو صورة تخرجه خارج الحياة الإنسانية الراقية المتحضرة . فطريقة التفكير الإبادية التي رسخها الغربيون في العالم المعاصر و تلوثت بها الشعوب ، كما ذكرنا ، تقول إن كل طريقة حياة أو تفكير مختلفة عن طريقة تفكيرنا هي همجية و غير متحضرة ، فمن واجبنا أن نحضّر الأغيار فإذا لم يقبلوا التحضر فلا مانع من طردهم أو إبادتهم . و خلال ذلك تنعكس المفاهيم فيصبح دفاع الآخرين عن أراضيهم و ممتلكاتهم عدوانا على حضارتنا .
و قد رأينا ذلك واضحاً في القصة السابقة فالطفلة تقفز كالماعز البري ، و التتار متخلفين يحاول الأسير أن يعلمهم الحضارة لكنهم يقاومون . و هم قتلة جشعون لا يهمهم سوى الحصول على المال من والدة الأسير الفقيرة .
في الختام ملاحظة أخيرة. هناك من يقول إن هذه الصراعات التي تنتج عنها الإبادة ممتدة عبر التاريخ البشري و هي موجودة على طول التاريخ و هذا أمر غير صحيح على الإطلاق ، فقبل صعود الغربيين على مسرح التاريخ كانت هناك حروب و صراعات لكن لم تجري إبادات ، كانت الحروب ، كما يقول تشومسكي ، أشبه بالرياضة ، أما مع الغربيين فقد تحولت إلى طريقة حياة . كان السلم هو القاعدة و الحرب هي الاستثناء . أما مع الغربيين فقد صارت الحرب هي القاعدة و السلم هو الاستثناء . و يدرك الكاتب جستن مكارتي الفرق الجوهري بين القيم التي كانت تحكم العالم قبل صعود الغربيين و بعد ذلك فيقول مقارناً :
(( كانت معاناة تلك المجتمعات ، من سخرية القدر ، إذ لو كان الأتراك في أيام قوتهم قوميين من النوع اليوناني ، لكان المسيحيون هم الذين طردوا تاركين وراءهم أراضي كانت تركية مسلمة بكل معنى الكلمة ، بدلا من ذلك ، عانى العثمانيون و بقي المسيحيون .
كثيراً ما كانوا يحصلون على معاملة حسنة و في أحيان كثيرة على نحو رديء ، لكنهم سمحوا لهم بأن يستمروا بالبقاء و أن يحافظوا على لغاتهم و على تقاليدهم و دياناتهم ، كانوا على حق حين فعلوا ذلك . لكن لو أن أتراك القرن الخامس عشر لم يكونوا متسامحين لبقي أتراك القرن التاسع عشر على قيد الحياة في بيوتهم ))



#ثائر_دوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مضيق هرمز
- شرارة واحدة كافية لتشعل السهل
- عرض لكتاب - التنصير الأمريكي في بلاد الشام -1834 – 1914 -
- الوجوه المتعددة للمثقف الكولونيالي في رواية (( موسم الهجرة إ ...
- الفقراء فئران تجارب أغنياء الحضارة المعاصرة !!
- في العالم المعاصر الصحة تعني المرض
- جحيم بغداد اليومي
- الإعلام بين السل و انفلونزا الطيور
- صدام الهويات المصطنع
- العالم يتمرد
- لشو الحكي خلص الكلام
- من مطبعة نابليون إلى انتخابات رايس
- تقديس الداعين إلى نموذج الحضارة الغربي على طول الخط
- بوش قصف لويزيانا بالقنابل
- تل عفر تصحح مسار التاريخ بعد مائة عام
- البحث الأمريكي عن إسلاميين معتدلين
- احتلال عقول النخب
- الصغائر و الكبائر عند عمرو موسى
- عصر الظواهر التلفزيونية
- كم هو عدد مساعدي الزرقاوي ؟


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ثائر دوري - الحروب الإبادية كطريقة حياة في االعصور الحديثة