أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر سالم - سكّان الأزقة الكافكوية ، سعدي عباس العبد أنموذجا















المزيد.....

سكّان الأزقة الكافكوية ، سعدي عباس العبد أنموذجا


حيدر سالم

الحوار المتمدن-العدد: 5771 - 2018 / 1 / 29 - 18:05
المحور: الادب والفن
    


سكّان الأزقة الكافكوية
سعدي عباس العبد أنموذجا
.............

لم ينل سعدي عباس العبد ( ١٩٥٧٢٠١٤) شهرة واسعة ، ولم يأخذ مكانه الذي يستحق ، فسعدي قاص كبير ، له أسلوبه ، و نبرته الخاصة ، و عزفه الوئيد الذي يلمس حافات الروح المغمورة ، لسعدي مجموعة يتيمة " الكلاب و المارينز " صدرت بطبعة رديئة عن دار الشؤون الثقافية العراقية و له عشرات القصص و أكثر من رواية مخطوطة - حسب علمي ثلاث روايات - يأكلهن النسيان كما أكله في بيت قصي و هو يصارع المرض الذي قضى عليه ، لا أقول مات فهو يسمي الموت " النوم السرمدي " او " الخراب السرمدي " .

لأبي وائل قصة قصيرة بعنوان ( أمي الحشرة الحسناء ) ، يدخلنا معه في أزقة كافكوية ، ترسم فضاءها أنامل ممسوخة الى كتلة وجع ، يدخلنا الى مدنٍ لها ملامح كافكا ، أنفه النافر و تقاطيع باكية ، لكن جل هيئتها شربت من عيني كافكا ، تلك الاشعة السوداء التي تخترق الانفاس و تحيلها الى جدران تقف في الرئة ، يحوطنا سعدي بوابل من الضجيج و الصمت ، ينقلنا بينهما برشاقة ، بين ضجيج الحياة السوداء و صمت نظراته الواهية التي تراقب المشهد ، مراقبة من بعيد ، يقول كافكا " لا أستطيع حمل العالم على عاتقي ، لا أكاد اطيق ثقل معطفي الشتوي على كتفي " ، لذلك يطالع سعدي المشهد من بعيد رغم أنه في داخله ، مشهد الحياة الذي لاينتهي بموت بطل أو انتصاره بل يمضي بنا حتى بعد موتنا ، يخزننا في أمكنة نسجتها خطوات تائهة .

بعد عودة سعدي في وقت متأخر ، نصيخ السمع لذوبان ذاته وهو يستمع الى غربته ، يصغي لكلام يحمله " هواء لزج ثقيل " ، هواء يربض فوق أحلامه و يطفئ وميضها ، هواء الوطن المذبوح الذي أسكنه فراش المرض لسنين ، و قبلها في زوايا بيت أكلته الرطوبة ، ينقل سنواته في منفاه الإختياري كخرز صغيرة ، تنسل من بين يديه لتسقط في هوة قاتمة ، و يقاوم بيئته لدرايته بغربته ، بات متلائما مع الخوف كجزء حميمي لا ينفصل " فعرفت اني ساتجمد من الرعب " ، يسرد سعدي بحثه عن أمه ، ذات البحث / الهروب من والد كافكا ، هو بحث مزدوج ، قد يكون ليس بحثاً شخصيا يروم وجود الهيكل و إحتضانه ، بل البحث عن مبرر للفجوة الممتدة بين سعدي و والدته / كافكا و والده ، ذهب سعدي خلف بحثه طوال حياته العصيبة ، البحث الذي قاده الى مديات نائية في داخله ، مديات لا يعرفها سواه ، لعلها ندبة أوديبية رافقت مشواره الصعب ، يقول فرويد عن تأثير عقدة أوديب انها " أعظم مشكلة يلقاها الانسان في بدأ حياته ، و أهم مصدر لمتاعبه التالية " ، و ثمة فجوة شاسعة بين سعدي و والدته جلية ، فصار يبحث عنها بين سطور القصص التي تنساب من يديه ، من المحتمل أن الفجوة ليست متأخرة بل رافقته منذ طفولته المبكرة ، يقول فرويد " في الظاهر أن الامراض العصابية تكتسب فقط أثناء الطفولة المبكرة ، بالرغم من ان اعراضها قد لا تظهر الا فيما بعد ذلك بمدة طويلة " ، إذن قصص قصيرة أم مجهر حرفي ؟ نعم فقصص سعدي حسرة حجرية تقف منتصبة في صدره ، حسرة القتها فيه لحظات ضياع رسمت ملامحه الشاكية ، فيمضي محاولا إيجاد حضنا في هذا العالم المتخشب ، بحث طويل لا طائل منه " سأمكث وقتا عصيبا صعبا أبحث خلاله عن أمي " ، و هكذا هو في بحث دائم عنها داخل نفسه ، يسائل ذاته عن البقعة التي تلاشت فيه أمه كبخور أسود ، " أفتش عنها في سائر الغرف " ، لكن هذا البحث يكشف عن نفسه من خلال مفردات خرجت لوحدها من أنامله ، يكشف لنا لاوعيه عن الاماكن التي يبحث فيها عن أمه ، يبحث في " الزوايا الحالكة " ؟ ، يراها من " نافذة " غرفته ، مكانه الذي يسيطر عليه و يفرض نفوذه ؛ ذاته ، فنحن نقطن داخل ذواتنا التي نتمشى فيها دون خوف أو خجل ، هي ذاتها النافذة التي أبصر امه تقف خلفها ، " تخرج ببدنها المهدود من ثقوب الجدران كأنها حشرة ضخمة في غاية الجمال " ، تخرج وقد مسّها " غيرغور سامسا " بحشريته . الأم التي يرتكز عليها " أنا " الكاتب و " جميعنا " تعاني من عطب ما ، عطب نتلمسه لكن لا نمسك بحقيقته الكاملة ، الحيقيقة التي غابت في ذاكرة سعدي ، صاغته ، و تركته يبحث عن كف يردم الفراغ الناتج عن علاقته بأمه أو الحشرة الحسناء ! ، يتتبعها و هي " تمشي بسيقان بيض عديدة مشّعة " يراها تمشط شعرها الحشري و هي ترمقه " بعدد من العيون المضيئة المتخمة بالنعاس " ، العيون فاترة لا تطالعه بوهج ، عيون " ناعسة " لا تنثره ببهجة ما تفتت المسافة بين حياتين منفصلتين ، وهو يحلم بحياة واحدة تجمعهما ، او على الاقل يحل ضيفا على حياتها لبضع سويعات ! ، سويعات تعوض عن " سنوات متوحشة مليئة بالجفاء الأمومي " ، في القصة يكون والد سعدي مغتالا ، رمزية واضحة عن غياب دوره في حياته ، أقصاه لعدم فعّاليته في خلقه ، و إن كان يتناوله في قصص أخرى بإسهاب ، لكن تبقى لأمه المساحة الاكبر من التأثير فيه .

لمجتمع سعدي النصيب الثاني في نسج إغترابه ، المجتمع الذي لا ينفك تكسير الضلوع بحوافر فولاذية ، و عقائد تلتف كأفعى معدنية حامية على رقابنا ، نتذكر هنا إفتتاحية كافكا في " القضية " لا بد ان شخصا ما كان يروي الاكاذيب عن جوزيف ك ، لانه دون ان يكون قد ارتكب خطأ القي القبض عليه ذات صباح جميل " ، و ينساب سعدي مع تيار خوفه ، الخوف الذي صار صديقا لا يفارقه ، و يخشى غيابه ، و هو يشاهد الجيران " يغرسون عيونهم في وجهي " ، حتى يعترف بأنه صار " فريسة ميسورة تتحلل تحت إيقاع المصائب المتواترة " ، البيئة الكبيرة التي نخرها الجوع و العوز لا تعرف الاستقرار ، و لا تضيء أفكاره بنور مستقر ، بل تملئه باضواء راعشة ، و بيئة صغيرة ، بيت لا ينبض فيه حنان الام ، بارد دائما حتى في قيظ تموز اللاهب ، لا يجد فيه من يعرفه و يشاطره همومه ، ليس فيه الا " مخلوقات غامضة " ترتع فيه و تعبث و تمد السنتها هازئة بكل شيء ، مخلوقات تخرج من ضغينة و فتور يطفق من الصدور التي لم تعرف الود بينها ، غاطسة في تقاسيم واجمة ، سعدي الذي لا يرى نور النهار يصادق شجرة تتوسط البيت ! ، ترافق عزلته ، و تقف في وجه المؤامرة التي تحاك عليه من صوب مجهول ! ، ذاتها المؤامرة التي يصحو كافكا على حين غرة ليجد نفسه محبوسا و ملقى في السجن بسبب تهمة لا يعلمها في رواية القضية ، يقول سعدي " كأنها واقفة لتحرسني! ، وتفعمني بعبق الطمأنينة وتملاْني باخضرار متوهج على الدوام " ، أخذت الشجرة دور الام ، لكنها الان أكثر حيوية من تلك الحشرة و لا نعرف أيهما من خشب ؟ .
يقف سعدي إزاء طرد آخر ، إمرأة بدينة و كريهة تطلب منهم إخلاء البيت ، يسندها أشخاص يرتدون اللثام ، بهذه الإشارة الطفيفة ينقلنا سعدي مع تغير عصر ، تغير سيادة و موازين في القوى المسيطرة على الوضع العام بعد 2003 .

يستمر سعدي بالبحث عن أمه ، لكنه لا يجدها سوى ملفوفة بضباب الغياب الازلي ، الغياب الذي لا تقشعه عناقات عابرة ، و نظرات جافة ، " كم فتشت عنها ، لكني لم أرَ سوى حشرات تتدفق من الجدران " ، هذه الرؤيا اللاعضوية ، نظرة بصيرة ، تخترق نخاع الحقيقة المزيفة ، أمومة قاحلة إن تحدث عنها سد فمه بحجارة لا يقوى على إبعادها ، تسد فمه الأحكام الدينية ، و الأعراف الجاثمة فوق الجميع ، فلا يسمعه أحد إن صرخ ، لا يمسك أحد يديه الملتاعة من غرق أبدي ، و يحال هذا الوجع لإدعاء يلبسه العقل الجمعي لسعدي أو لغيره ، و يمدون أصابع الاتهام كاسياخ جمرية تخترق عينيه ، و لا يطالعونه وهو ينتحب " يعتريني الفزع ، فاجري مذعورا ناحية الشجرة " ، و رغم معرفته الراسخة بوجودها في البيت ، لكنه يبقى " واقفا خارج البيت اسمع كلاما غامضا يتدفق عبر الباب المغلق "كّان الأزقة الكافكوية
سعدي عباس العبد أنموذجا ،هذه هي الوحدة التي حاكت ملامح سعدي و كافكا ، العزلة الإختيارية / القسرية في عالمٍ هو عبارة عن منفى صخم ، يقول كافكا " عليّ أن أظل وحيدا قدرا كبيرا . وكل ما أنجزته هو ثمرة كوني وحيداً " ، يقطن سعدي وقوفه خارج بيت أهله ، الخارج الذي إلتهمه و بقي في مفترق طرق ، لا يذهب الى الخارج ، و لايعود الى الداخل ، يقطن الطرد من كل الجهات ، يسكن الأزقة الكافكوية .
رحم الله أبا وائل ، هل سنجد دار نشر تطبع الكتب النوعية و لا تفكر بالارباح لتطبع لنا ما كتبه ؟



#حيدر_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إبتسامة هاربة - قصة قصيرة
- العنف اللغوي في الاغنية العراقية
- برستيج العامل الجديد
- عن سوق مريدي (3 ) / مروءة أهل العراق البلاستيكية
- الأخطل الصغير و دماء الورد !
- الابنودي أصابع الطين - مقال
- باليه فوق الجثث - قصة قصيرة
- كافكا و جليل القيسي
- مهرجان الغايات و الوسائل
- عن جدي و الشهد و الدموع
- عجين مريدي - قصة قصيرة
- عن سوق مريدي - مقال
- عن سوق مريدي ( 2 ) - مقال
- جدار الاوراق _ قصة قصيرة


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر سالم - سكّان الأزقة الكافكوية ، سعدي عباس العبد أنموذجا