أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - السفينة والبطيخ















المزيد.....

السفينة والبطيخ


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 5769 - 2018 / 1 / 27 - 20:03
المحور: الادب والفن
    


قرية المناجير مقامة فوق مرتفع أرضي عالي أقرب إلى الجبل يطل على الخابور والسهول البعيدة، حيث يمكث الجمال والاخضراء والجمال.
وفي هذا المكان تنتصب الأرض فوق الأرض وتلوح للخابور بنهديها وضلوعها.
كم أحببت ذلك المكان الذي كنت أقف عليه، على السفح تحت دفق خلجات الشمس والنجوم، رافعًا رأسي بزهو نحو الفرح. وأرى امتداد الأرض المنبسطة تحت قامتي الصغيرة. وأرى كيف يدفع رجل فوق قارب بيده عصا أو مجداف يوجه مسار طريقه ليسير مع التيار. من هناك، من فوق ذلك المرتفع العالي كنت أرى السفينة الكبيرة من على بعد خمسمائة متر تحمل السيارات والبضائع والناس والحيوانات من ضفة إلى أخرى وبالعكس.
كنت في الخامسة أو السادسة من العمر.
احدى المرات جلب أحد الرجال شاحنة جبس " بطيخ الأحمر" وأراد ان ينقلها إلى الضفة الثانية من أجل بيعها للناس في المناجير. لم تستطع السفينة حمل الشاحنة والحمولة لهذا اضطر إلى تفريغها ووضعها هناك. كان من عادتي، مع بعض الأطفال أن نذهب إلى جوار الخابور لنسلم عليه ونعقد علاقة حب وصداقة بيننا.
مثل الصقر سمرت نظري على ما يحدث. نزلت إلى الأسفل وسرت بجوار الخابور، يحدني من اليمين الجبل والبيوت، ومن اليسار النهر العظيم. وصلت إلى غرفة المحركات العملاقة التي بناها ترزيباشي، لاستجرار الماء من الخابور وضخه عبر قساطل تصل إلى الأقنية البيتونية المفتوحة ليتم توزيعه في عمق الاراضي الزراعية الخصبة التي تمتد إلى عشرات الكيلومترات.
وصلت إلى السفينة رأيت خوشابا ذلك الرجل النحيف، الاسمر والاعرج والقصير القامة والضعيف البنية يصرخ بأعلى صوته علينا. قال:
ـ يا شباب، أرجوكم؟ أريد مساعدتكم. قلت له:
ـ ماذا تريد يا خوشابا؟
ـ هل لكم أن تركبوا السفينة وتأتوا إلى عندي؟
وكان الوقت غروبًا
ومن عادتنا أن ركوب السفينة والانتقال إلى الضفة الأخرى. نستغبي جهل أمهاتنا بمكاننا. تكون السفينة مربوطة بحلقة معدنية مغروسة في الأرض. نحرر الجنزير ونربطه بحلقة مربوطة في السفينة وبكبل مربوط من الضفة إلى الضفة، ونصعد عليها فتسير بقوة دفع التيار إلى الجهة الأخرى.
وصلنا إلى مكان وقوف خوشابا أمام تلة الجبس الممدود على الأرض. قال:
ـ إذا ساعدتموني في نقل هذه الحمولة إلى الضفة الثانية سأعطي كل واحد منكم جبسة واحدة.
طرنا من الفرح. قلنا له:
ـ بسيطة. المسألة سهلة. بأمان الله. اتفقنا.
كنا أربعة أطفال. رحنا نحمل الجبس، حبة وراء حبة ونضعها فوق ظهر السفينة. وما أن تمتلئ نجهز السفينة لتنقلنا إلى الضفة الأخرى.
بقيت الجبسة التي وعدني بها خوشابا مرسومة أمام نظري. سأخذ ثمن اتعابي. نسيت الوقت والزمن، أمي، البيت وأخواتي. غابت الشمس وحلقت النجوم في السماء ونحن على ما عليه نحن. نحمل ونملأ وننقل. وخوشابا يحثنا على المزيد من الجهد عبر كلمات وعبارات جميلة ومشجعة:
ـ بطل يا هاكوب. رائع وقوي أنت يا آرام. الجبسة التي حملتها يا سيمون كبيرة وثقيلة ولا يمكن لرجل قوي مثلك أن يحملها. تحول رأسي إلى كتلة كبيرة من الغرور والتكبر والفخر ولم أعد أرى أمامي الا كلمات خوشابا المعبرة.
تحت السكينة، وهدوء الليل تسير السفينة مختالة، يضربها الماء بنعومة. صوته الرقيق يأتيني نهنهة. أرى الخابور جميلًا، مخيفًا، قويًا جبارًا. في الليل له هيبة الوجود وأسرار الكون. يندفع نحو السفينة بقوة ثم يميل رأسه جانبًا. أرى فيه صورة أمي وأبي والناس والغموض.
قرابة الساعة العاشرة جاء رجل لا أعرفه، ومسكني من يدي بغضب ومسك يد هاكوب باليد الأخرى، قال لنا زاجرًا:
ـ أنتم هنا، وأمهاتكم يبكين ويندبن حظهمن العاثر على فقدانكم.
في طريق العودة أخذ هاكوب جبسة معه، بيد أني لم أخذ أي شيء. بقيت يدي بيد الرجل. وجرنا جرًا بسرعة البرق قال:
ـ ربما أمك رمت نفسها في النهر. علينا الإسراع بالعودة قبل ان تنتحر حزنًا عليك.
إنها تمشي كالسكرانة على ضفاف الخابور، تولول وتلوح له، تناجيه وتطلب منه السماح والمغفرة. تحولت البيوت كلها إلى غابة أحزان. وليل الخابور كما تعلم صامت. إنها لا تهدأ. عيناها مغرورقتين بالدموع، متورمتين وشعرها منفوش كالمجانين. ولا يوجد من يستطع أن يهدأ خاطرها.
في الحقيقة كنت مستغربًا من سلوك أمي، قلت لنفسي:
ـ لماذا تخاف؟ وما الذي يخيفها؟ كنت أعمل!
وصلنا إلى البيت، فرأيت الكآبة والحزن مسلطًا على أمي والجيران. وأخواتي يبكون ويندبون. وما أن راوني حتى جاؤوا إلي، عيونهم مغرورقة بالدموع والأسى. حضنوني وقبلوني ووقفوا أمامي مذهولين. ما أن اقتربت أمي مني حتى انهالت علي بالضرب والصفع:
ـ يا حيوان. أربعة ساعات وأنا واقفة على فم النهر العظيم أبكي. أراه يسير بصمت. اتحدث معه، اقول:
ـ يا خابور، يا غابة الأسرار والحزن والفرح، لماذا أخذت أبني مني؟ لماذا لم تحترم العشرة والجيرة والأخوة بيننا.
ولم تتوقف من البكاء. وتضيف:
ـ أليس في قلبك رحمة يا آرام. كيف ذهبت إلى السفينة ولم تقل لي. الا تخاف أن تقع في النهر أو تنقلب السفينة عليكم رأسا على عقب. كانت تضربني وتحضنني, تشتمني وتمدحني, تبكي وتضحك. كانت المشاعر متداخلة. قلت لها:
ـ لقد وعدني خوشابا بجبسة. إذا نقلنا الحمولة كلها سيعطيننا حقنا لهذا بقيت هناك إلى أن انتهي. على المرء أن يحترم وعوده وكلمته. أن لا يتراجع. لقد اتفقنا أن ننقل الحمولة مقابل جبسة. من المعيب أن انكث بوعدي.
ـ وهل تعتقد أن خوشابا رجل.
ـ بالطبع. فالرجل لم يجبرنا على عقد الاتفاق بالقوة. عرض علينا غرضه ونحن وافقنا.
ـ أنت طائش. ولا تبال بأهلك، أنا وأبيك واخوتك. لا يهمك إلا نفسك. تتفق، وتمارس قناعتك على حسابنا. على حساب مشاعرنا واحاسيسنا. حزننا وفرحنا. الله لا يعيك العافية يا عاق.
ـ لست عاقًا.
ـ لسانك طويل. واحاسيسك مثل احاسيس الميت. لا بارك الله فيك.
كانت والدتي غاضبة جدًا ولم تتصالح مع الحدث. وتعتقد أن النهر كائن جبار يختزن في داخله كل كنوز الخير والشر والبشر. وإنه دائم السهر على افتراس الناس وخاصة الأطفال. وإنه متجدد وحيوي لا يشيخ أو يكبر أو يموت. خلوده دائم ومستمر. في أعماقه حياة أخرى لكائنات أخرى كثيرة على أهبة الانتظار والاستعداد للافتراس. أنياب هذه الكائنات الجوفية مشرعة ومفتوحة على مصراعيها لتشد كل من يقع بين براثنيها إلى الاسفل, لتأكله.
ليله الخابور مرعب. يمشي على سطحه الغول والكائنات اللامرئية. يسهرون على حماية النهر، ويحافظون على هيبته وسلطته وقوة جريانه. يمكن للمرء أن يحس بهم أثناء الليل أو المشي إلى جانبه.
أحس أن ثقافة المنطقة كلها كامن في عقل والدتي. وتعبر عنه ببساطتها وحسها. وتختزن فيه تراكمات تاريخ الناس وأفكارهم الميثولوجية، وسلوكهم وخوفهم أو فرحهم أو قرابين وجودهم.
والخابور روح الحياة والوجود. عالم غامض قائم بذاته ومتجدد، يحمل فرحنا وخوفنا ولهاثنا ويحطها في ماضينا وحاضرنا. إنه وطن الحنين إلى الحنين.
إحدى المرات أراد أرتين معلم الكهرباء للسيارات أن يتحدى الخابور. عام على الماء ومضى في العمق بزهو، مفتخرًا بقوته وبأسه وشبابه نحو جزيرة تتوسط الخابور. لم تمض الا دقائق حتى سمعنا صراخه يملأ السماء. قال:
ـ النجدة أنني أغرق. الخابور يشدني نحو الأسفل. روحه، زله، صفصافه واشنياته وجنياته يشدوني إلى قاعه. الرجاء منكم أن تخلصوني. كان يصرخ ويولول ويرفع يديه إلى الأعلى والماء يشده إلى الأسفل.
انطلق العديد من الرجال نحوه. غاصوا في العمق وراحوا يفكون الحبال الخضراء الملتفة حول رجليه إلى أن تحرر بالكامل.
لم يكن والدي موجودًا في المناجير. كان يقود شاحنة فستقية اللون نوع شيفروليه جميلة جدًا موديل العام 1958. ينقل على ظهر صندوقها الجرارات سواء من الجنزير أو الدواليب من المناجير إلى الزهيرية في المالكية أو بالعكس.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثانوية ابن خلدون
- في المناجير
- في رأس العين
- في ضيعة تل كيفجي
- دبانة
- العودة للجذور
- في ظلال الليل
- سراب بري
- الدولة الظاهرية والدولة الباطنية
- الديمقراطية ومخالب السلطة
- انهيار الدولة السورية
- الحداثة والغربة في رواية (الأشجار واغتيال مرزوق)
- عن علاقة الدين والدولة
- عبد السلام العجيلي الأديب والإنسان
- عن المجتمع المدني
- الغربة والسجن في رواية دروز بلغراد
- قهوة الجنرال
- المرأة في رواية “بجعات برية”
- الملك السويدي كوستاف الثاني ادولف
- أرض ورماد


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - السفينة والبطيخ