ياسين المصري - كاتب وباحث علماني من مصر، يهتم بشؤون الإنسان وحياته أينما كان - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: كيف نصنع ثقافة التنوير والحداثة في العالم الإسلاموي؟ .


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 5765 - 2018 / 1 / 22 - 00:18
المحور: مقابلات و حوارات     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة، وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى، ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء، تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -216- سيكون مع الأستاذ د.ياسين المصري - كاتب وباحث علماني من مصر، يهتم بشؤون الإنسان وحياته أينما كان -  حول: كيف نصنع ثقافة التنوير والحداثة في العالم الإسلاموي؟ .


إنني على دراية بأن التفكير الناقد بوجه عام عمل مُقْـلِـق بطبيعته، وعمل مستفز بوجه خاص في الثقافات التي لا تقبل النقد ولا تعترف بتعدد الأفكار والآراء، فهو محاولة لامتحان الافتراضات التي نقر بها أو نصادر عليها ونَسْلُك بمقتضاها، وأعرف أننا لا نرغب عادة في أن تُمتَحَن افتراضاتنا وتُبْتَلى تصرفاتنا أكثر مما يجب، ولا يروق لنا أن تصبح جذورنا بادية في العراء. ولكن ثمة مبدأ يضمره كل تفكير ناقد، فحواه أن الحقيقة ليست في حَوْزة أحد، وأن قيمة الفكرة تكـمن في وجاهة ما تؤسس عليه من أسباب وحجج ودلائل، وأن الحوار مع الآخرين وتقبل مبدأ تعددية أجوبتهم الوجيهة في حل أية مسألة خلافية، أفضل سبيل لفهمهم والإستفادة من تجاربهم، ومن ذلك يعد الاهتمام بمهارات التفكير الناقد مشروعاً تنويرياً يكرس قيم العقلانية والموضوعية والتعددية والتسامح الفكري. إن التغاضي عن رأي الآخر، أو التقليل من شأنه لمجرد أنه لا يتسق مع ما نقر من معتقدات يُعَـد جريمة في حق أنفسنا قبل أن يكون جريمة في حق الآخرين.
إن محاولات التنوير في العالم المتأسلم لم تتوقف قط، نظرًا لما يعتري الثفافة الإسلاموية الطاغية من غموض واضطراب وتناقض، بل وتعارض سافر مع حقوق الإنسان التي كافحت البشرية من أجلها زمنًا طويلًا. فمنذ ما يزيد على قرن من الزمان طالب الكثيرون بإعادة العقل إلى احترامه، بهدف تحقيق بعض المصالحة بين التراث الاسلاموي وفلسفة التنوير الوافدة من أوروبا آنذاك. فوصل الأمر - مثلًا - بمفتي الديار المصرية الإمام محمد عبده (1905 - 1849)، الى حد القول: "انه اذا نشب اي خلاف بين العقل والدين فان الكلمة الاخيرة ينبغي ان تكون للعقل". وهذا الموقف الجريء أزعج رجال الدين المحافظين فاتهموه بالعمالة للانكليز! وهو الموقف نفسه الذي اتخذه ابن رشد قبل ثمانمئة عام.
وفي مخالفة لحديث رواه الفارسي مسلم النيسابوري (206 هـ) عن النبي يقول: "كل بدعه ضلالة ، وكل ضلالة في النار"، أباح الإمام اللجوء الى " البدعة " اذا كانت مفيدة للمصلحة العامة، على أساس أن البدعة هي التقدم الجديد الوافد من اوروبا. ثم أصدر بعض الفتاوى الجريئة الاخرى التي تبيح الفائدة في البنوك وتخلع المشروعية على سنّ دستور للحكم في الامبراطورية العثمانية. ومن المعلوم ان السلطان كان يحكم بشكل تعسفي مطلق وبحسب نزواته.
وقبل الإمام محمد عبده بزمن طويل اعترف احد فقهاء القاهرة ويدعى محمد بن عبد الباقي الزرقاني ( 1710 - 1645) بانه ليس من الغريب ان تتأقلم القوانين مع الظروف المستجدة. وهذا يعني ان الشرع او التشريع لا ينبغي ان يكون جامداً أبدياً سرمدياً.
وبين عامي 1898 و1900 نشر قاسم أمين كتابين يدعوان الى تحرير المرأة واختلاطها بالرجال ومساهمتها في التربية والتعليم وتطوير المجتمع ونزع الحجاب!
ثم استمرت حركة التنوير العقلاني في مصر بعد موت محمد عبده على يد الشيخ علي عبد الرازق (1888 - 1966) صاحب "كتاب الاسلام وأصول الحكم" (1925)، وفيه يقول ان مفهوم الدولة الاسلامية لم يوجد قط في الماضي. فنظام الخلافة في أوج مجده أيام الامويين والعباسيين لم يولد شكلاً جديداً للحكم وانما استعار الشكل الذي وجده في البلاد المفتوحة موروثاً عن البيزنطيين والفرس. وهو نظام أثبت فاعليته الإدارية والعسكرية فاستعاره المتأسلمون من الحضارات السابقة وتبنّوه دون اي مشكلة. وتوصَّل علي عبد الرازق إلى نتيجة مفادها أنه اذا كان المسلمون الأوائل قد قلدوا الفرس والبيزنطيين، فلماذا لا نقلّد نحن اليوم الاوروبيين في أفضل ما أعطوه؟!. بمعنى أننا في حاجة الى دولة حديثة تستوحي النموذج الاوروبي المتولد عن عصر التنوير.
ورأى الشيخ علي عبد الرازق ان الشيء المهم في تجربة النبي محمد ليس القدرة العسكرية او السلطوية وانما الهداية الروحية والاخلاقية. فالاسلام رسالة الهية وليس نظاماً للحكم. انه دين لا دولة وكفى. وقال إنه ينبغي فصل الدين عن الدولة لكي نشكل دولة حديثة لكل المواطنين وليس لأتباع دين واحد او مذهب واحد (الفرقة الناجية).
ثم جاء مفكر التنوير الأكبر في القرن العشرين الدكتور طه حسين (1889 - 1973) وقال ان مصر ساهمت من خلال الاسكندرية في تشكيل الثقافة الاغريقية، اي الاوروبية، ثم ذكّر مواطنيه بالدور الكبير الذي لعبته الفلسفة الاغريقية في تشكيل الثقافة العربية في العصر الكلاسيكي المجيد، عصر الرشيد والمأمون وسواهما. وتساءل: لماذا كل هذا الفصل التعسفي بين الثقافة الاوروبية والثقافة العربية الاسلامية، لماذا نعتبر انه يفصل بيننا وبينهم سور الصين في حين اننا من معدن واحد واننا تفاعلنا مع بعضنا البعض اكثر من مرة، و بذلك اراد حسين ان يخلع المشروعية على الاستفادة من فلسفة التنوير والتفاعل الايجابي مع الحداثة الاوروبية. لكنهم لعنوه ورجموه واتهموه بالعمالة والخيانة الى درجة ان الكاتب الفرنسي جان كوكتو (1889 - 1963) عندما زار مصر في الاربعينات من القرن الماضي قال هذه العبارة الرائعة: " مشكلة طه حسين انه يرى الى ابعد مما تستطيع مصر ان تتحمله! انه كثير على مصر والعرب. مثلما كان ابن عربي كثيرا عليهم، وكذلك ابن رشد، وابن خلدون، والمعري، وكل الخلاقين الكبار ".
ومن ناحية أخرى نجد الهم الذي لازم الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود ( 1905 - 1993) والمشكلة التى عني بها هي مشكلة التخلف المتجلية في الرجعية، والتقليد وإهمال العقل والولوع بالكلام على حساب الفعل، واستبداد السياسة وغياب الحريات، وإهمال الطبيعة ومباهجها ومجاهلها بالركون إلى الزهد والولوع بالتصوف، والميل إلى الجانب الديني على حساب الجانب الدنيوي، وترك روح المغامرة وبهجة الاكتشاف لحساب روح الجمود والإكتفاء بالاجترار من الكتب القديمة، كل هذه التجليات لمشكلة التخلف كانت في صميم تفكير الدكتور زكي نجيب محمود. ففي كتابه "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري" عاد إلى دراسة التراث العربي فوجد أنه تراث مطبوع بطابع اللامعقول، موسوم بسمة التنجيم، روحه روح الاجترار لا روح الإبتكار وميزته ميزة التقليد لا التجديد إنه تراث عمي عن رؤية الكون والتأمل في الطبيعة بحرية وروح مُغامِرة واكتفى بتوليد الكلام من الكلام في شكل حواشي وتعليقات يحتل الجانب الدينيحتل الجانب الديني- فقها وتصوفا- الحيز الأكبر، وتغيب الدنيا بأسرارها ومجاهيلها ومباهجها عن أبصار أسلافنا، وانتقلت عدواهم إلينا، فواصلنا السبات وأسلمنا قيادنا لغيرنا يمارس البحث والتفكير والاكتشاف نيابة عنا مع أننا نحن الذين أعطينا العالم ابن رشد والبيروني وابن الهيثم وابن سينا والتوحيدي وابن خلدون.
ومما يؤسف له أعمق الأسف أننا مازلنا في موقعنا من خط سير التاريخ نقدم رجلا ونؤخر أخرى، ضعفت ثقتنا بأنفسنا إزاء أسلافنا، وعدنا إلى الدجل، والولوع بالكلام والجري وراء السراب، وإطلاق لقب العالم على من لا يستحقه، وفي الطبع اللامنتهي لكتب السحر والشعوذة وتفسير الأحلام.
أنظر مقال الأستاذ: إبراهيم مشارة بعنوان : زكي نجيب محمود وإخفاقات النهضة العربية على العنوان التالي؛
http://www.nashiri.net/articles/intellect-and-philosophy/4080-زكي-نجيب-محمود-وإخفاقات-النهضة-العربية-v15-4080.html
أمّا الدكتور نصر حامد أبو زيد وهو أحد أعمدة التنوير في العصر الحديث فقد لمس جوهر المشكلة بقوله: « الآن يوجد لدينا دعاة تنوير وليس صنَّاع تنوير، وهناك فرق بين أن تدعو للتنوير وبين أن تصنعه »،
هذا القول يضع دعاة التنوير أمام تحديات الإصرار على صناعة التنوير في عالم الأسلمة، خاصة وأن جميع الأفكار التنويرية السابقة واللاحقة لم تترك أثرًا جماهيريًّا يمكن الاعتماد عليه، ولم يتمكن التنويريون الجدد من التجذر في الواقع العربي، لا على المستوى الاجتماعي ولا على المستوى السياسي، ولا على المستوى الفكري والثقافي. فالنقل كان ولازال ينتصر على العقل وظل التدني مسيطرًا على الثقافة الاسلاموية الطاغية، حيث شاعت مقولة: من تمنطق فقد تزندق! وبذلك اصبح التفكير يعني الكفر او الخروج على الاسلاموية.

فما هي الأسباب ياترى ؟
وكيف يمكننا صناعة تنوير شامل يمس حياة المتأسلمين ويحرك مشاعرهم ؟



الثقافة الإسلاموية كما هو الحال في الثقافة العسكرية لا تعترف بمبدأ الذاتية في أي مجال من مجالات الحياة، إذ يجري الحديث دائما عن "الجماعة" التي معها يد الله، فيُسَيِّرها تبعًا لمشيئته التي لا تتغير (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [29] ومَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [30] (الإنسان) . لذلك ، لكل شيء سببًا إلهيًا ميتافيزيقيًا ، ينسجه ويفصله سدنة الديانة "الصالحين دائمًا وأبدًا"، وعلى المتأسلم أن يسلِّم ذاته له ويؤمن به. وكما نؤكد باستمرار على أنها ديانة سياسية بامتياز، فأنها تتدخل من خلال أولئك الموتورين في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا تعترف بالمفاهيم الجديدة التي صاحبت التنوير والحداثة ولها دلالات عميقة ومتأصلة في الطبع البشري كالحرية والعقلانية والنقد والتقدم الاجتماعي وغيرها.
التنوير كما عرفته أوروبا في عصر النهضة لا يمكن تطبيقه على الدول المتأسلمة، نظرًا إلى أن الكنيسة في العصور المظلمة لم يكن لديها نصوص مظلمة بقدر ما كان لديها عقول مظلمة، ورجال دين يسبحون في ظلمات الجهل، بينما الظلمات الإسلاموية لديها الإثنين معًا. يجب التخلص أولًا من مشكلة التراث الإسلاموي بما يتضمنه من نصوص ظلامية أو التغلُّب على « المعضلة التراثية » كما وصفها المفكر السوري هاشم صالح، الذي رأى إمكانية إرساء المصالحة المطلوبة والملحة بين الإسلام والحداثة، من أجل تجاوز الانسداد التاريخي الذي يقف حائلاً دون مواكبة المسلمين للأمم المتقدمة والقفز على عبء الماضي التراثي لبناء المستقبل. والحقيقة أنه قطع شوطًا هامًا نحو كيفية تتحقق هذه الإمكانية، في محاولة لتجاوز هذَا الانسداد التاريخي.
ففي كتابه الأخير «العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل إلى إسلام الأنوار؟!» (دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2016) حاول هاشم صالح محاصرة «المشكلة التراثية من مختلف جوانبها»، ساعياً إلى تفكيك الانغلاقات اللاهوتية ومطالباً بالقطيعة الإبيستمولوجية (المعرفية) مع العديد من «الثوابت» الفقهيه أو الدينية التي تكبل حركية الإسلام وتطوره، والهدف من وراء ذلك الفهم العقلاني للدين الإسلاموي.
وقد أصاب صالح في نواحي متعدِّدة، خاصة عندما شدد على التشابه بين أحوال أوروبا في القرن الثامن عشر والأوضاع الراهنة في العالم الإسلاموي، وهو: التدين الأصولي، هيمنة رجال الدين، الحروب الطائفية، سيادة سلاح التكفير، وطالب بالقطيعة المعرفية مع الثوابت الفقهية والدينية.
إن الحالة الظلامية المسيطرة على عالم العربان بسبب العنف السياسي والديني وسيادة العقل الأصولي والصراع الطائفي والمذهبي والعرقي وانتشار التنظيمات الإسلاموية، تقدم كلها مؤشرات الى شيء صاعد من الأعماق، كان مكبوتاً وحان أوان انفجاره، وبلغة حازمة، ويتساءل صالح: « متى سيفرغ التاريخ العربي الإسلامي كل ما في أحشائه من أحقاد وضغائن مكبوتة: متى ستهدأ البراكين التراثية يا تُرى؟». بناءً على مقولة « مكر التاريخ» الهيغلية فإننا في حاجة إلى هذه الأحداث وإلى هذه الانفجارات من أجل القيام بالنقد الراديكالي « للذات التراثية». فما الذي يقوله هيغل عن ذلك: ما من شيء عظيم يتحقق في التاريخ إلاّ من خلال الصراعات الدموية والأهواء البشرية المتناقضة والهائجة. إنه لوهم ساذج ومغفل أن نعتقد بأن البشر يتوصلون إلى الصح من دون المرور في الخطأ (...) وهذا ما حصل سابقاً للشعوب الأوروبية، قبل أن تتقدم وتتحضر وتستنير (انظر: صالح، هاشم، الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟ دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2007).
لم تتمكّن الديانة الإسلاموية من الاستمرار طيلة هذا الزمن إلاَّ لكونها ديانة سياسية هلامية مرنة تمنح رجال الدين مساحة واسعة جدًّا من الكلام في كل شيء، وتمنح الحكام والساسة تبريرات لأفعالهم مهما كانت مجحفة ومختلة؛ وفي نفس الوقت تمنح المؤمنين بها نفس المساحة لاختيار ما يرونه مناسبًا لهم مما يقوله رجال الدين ومن ثم التكيف باستمرار مع ما هو جديد. والجميع يظهرون في تصرفاتهم الحياتية عكس ما يبطنون منها، كنوع من الفصام العقلي (Schizophrenia).
كما أن هناك سور في القرآن تقول شيئًا وسور أخرى تقول شيئًا مختلفًا، وهناك إمكانية كبيرة لاختلاق الأحاديث والمرويات النبوية التي تتناقض مع القرآن ومع بعضها البعض. هذا جعل المفكر السوري صادق جلال العظم يصف الإسلام المتعصب عقائديًّا بأنه متناقضٌ مع الحداثة بسبب التركيز على التوحيد، ولكن الإسلام التاريخي يتكيّف باستمرار باعتباره دينًا يتطوّر ديناميكيًا. وهو بذلك يتجاهل النصوص الدينية وتأويلاتها، وأثر ذلك القوي على المتأسلمين.
إنظر مقالي بعنوان؛ العبث بالديانة الإسلاموية! المنشور على هذا الموقع بتاريخ 2017 / 12 / 2:
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=581290


لقد عجز التنويريون العرب الى الآن، عن صياغة افكار تصل بسرعة وسهولة الى قلوب الناس وعقولهم. فإن هم حاولوا ان يفعلوا ذلك، فإنهم يلجأون الى طرق نخبوية مستعصية على القراء العاديين، والى اساليب اكاديمية ثقيلة وجافة تجعل الناس ينفرون منهم، وعنهم وعن افكارهم ينصرفون غير آسفين. ولا احد من التنويريين العرب الجدد استطاع ان يكتسب تلك السهولة الرائعة، وتلك البساطة المشرقة؛ فعلاوة على انعدام حرية الرأي والفكر انعداما يكاد يكون كليا في جميع انحاء العالم العربي، هناك برامج دراسية من جميع مستويات التعليم من الابتدائي الى الجامعي، سيئة للغاية، ولا تكاد تتضمن إلَّا القليل مما يمكن ان يفتح ذهن التلميذ أو الطالب على معالم الحداثة، وعلى القيم الحضارية الجديدة. انها برامج تحيل الى الماضي اكثر مما تحيل على الحاضر أو المستقبل. واكبر دليل على ما اقول هو ان مادة الفلسفة لا تكاد تدرس في جل المعاهد والجامعات العربية، فإن هي درست فبشكل رديء، وبطرق تغيِّب الاسئلة الفلسفية العميقة الكبيرة، لتسلط الضوء على كل ما هو تافه وسطحي ومبتذل. وفي وضع كهذا، لا يمكن بأي حال من الاحوال لأفكار التنويريين العرب الجدد ان تصل الى الشباب، ولا ان تحدث التأثير المنتظر على الواقع العربي في المجال الثقافي أو المعرفي أو السياسي أو الاجتماعي أو غيره. واذا ما استمر الوضع على هذه الصورة القاتمة، وظلت البرامج والمناهج الدراسية تعدّ من قبل أولئك الذين يبتغون ان يظل العالم العربي غارقا في ظلمات الماضي السحيق فإن الشعوب الإسلاموية برمتها ستظل رهينة في ايدي دعاة التطرف والعنف، وسوف تواصل حصد الخسارة بعد الخسارة، والمصيبة بعد الأخرى.
إن المأزق الحالي الذي تواجهه الإسلاموية كدين، والمتأسلمون كأمة، لا بد له من وقفة جادة تعالج أسس الأزمة ولا تراوغ حولها. فالخطاب المتطرف ليس هو وحده أساس المشكلة. بل إن التعاليم المتوارثة في كتب التفسير وصحاح الحديث هي الأساس الأقوى، الذي يمكن له أن يفجر موجات إرهاب وتعصب تجرف أي خطاب معتدل في طريقها. إن ثقافة الكراهية وتمجيد سفك الدماء باسم الدفاع عن كلمة الله، لا يخلو منها كتاب تفسير أو حديث أو سيرة نبوية. فإذا توفرت لدينا الشجاعة لنعيد النظر في ما ندرسه وندرّسه لأبنائنا، فعندئذ فقط نتمكن من أن نعيد الديانة ومعتنقيها إلى مواكبة العصر وأفكاره النيِّرة. بغير هذا سنبقى ندور في فلك الإنكار الأجوف لكل أصول التطرف المبثوثة في كتبنا وثقافتنا، التي تغذي داعش وأمثالها من حركات التكفير والقتل.


في النهاية أأكد على ضرورة أن يختار المتحاور الموقف الذي يراه مناسباً له مادام قد دافع عن رأيه بالحجة المنطقية الدامغة ودعَـمه بالشواهد الموضوعية المؤيدة.
فليس هدفنا من هذا الحوار المتمدن النَّيْل من العقائد الدينية مهما كانت، بل البحث عن آليات تنويرية قد تنهي فترة مكر التاريخ الهيغلي التي تعاني منها المنطقة حاليا، ومن ثم الولوج إلى عصر النهضة والحداثة والرقي الإنساني والمادي.