أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - باقر جاسم محمد - حول حرية الكلام















المزيد.....



حول حرية الكلام


باقر جاسم محمد

الحوار المتمدن-العدد: 1479 - 2006 / 3 / 4 - 10:02
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


روي هاريس
Roy Harris
ترجمة: باقر جاسم محمد
تتكشف الإنحيازات العقلية المستقرة في الحقل العلمي الأكاديمي بأجلى صورها عندما يؤخذ بعين الاعتبار ليس مدى التفسيرات التي تجعل بالإمكان تيسرها للظواهر الواقعة في دائرة اهتمامها فحسب، بل الأحرى في الأسئلة ذات الصلة بتلك الظواهر التي لا يمكن طرحها داخل الإطار النظري الذي توفره. و القضية الوثيقة الصلة بهذا الموضوع هنا هي اللسانيات و مسألة حرية الكلام.
مع أن اللسانيات الحديثة قد زعمت أنها قد أنشأت علما ً للاتصال الكلامي، فإن نموذج الاتصال الكلامي الذي تبنته على الدوام( سوسور1922: 27-8؛ دينيس و بنسون1963: 4-7؛ كاتز1966: 103-4؛ تشاف1970: 15؛ كايرنز و كايرنز1976: 15) قد كان من النوع الذي يستبعد بالنتيجة أي َ احتمال ٍ لإثارة أية قضايا تتعلق بحرية الكلام. إن السبب في هذا هو أن النموذج المتبنى يقترح في الأساس صحة وشرعية ثلاثا ً من عمليات التجريد:
( i ) فهو يتجرد من هويتي كل من المتكلم و السامع,
(ii ) و هو يتجرد من السياق الاجتماعي المحدد لفعل الكلام،
(iii) وهو يتجرد من مضمون ما يقال.
و بتفعيل عمليات التجريد الثلاث هذه، بزعم أنها ستكون ذات فوائد في تقديم نموذج يتمتع بأقصى درجة من العمومية، تجرد اللسانيات، في النتيجة، اللغة من سياقها. فالكلام يـُعزل في فضاء ٍنظري فارغ لا يـُمـْنـَحُ فيه المتكلم أو السامع أية حقوق لسانية، كونهما نفسيهما ليسا بشخصين ( حقيقيين : المترجم)، و لكن مشتركيـَن مجهولي الاسم.
و يدافع الباحث اللساني الأصولي عن هذا النموذج النظري بالحجاج بأن مسألة حرية الكلام تتضمن أحكام َ قيمةٍ أخلاقية ً و سياسية ً، و هذه لا مكان لها في أية دراسة علمية للكلام. و لكن هذا هو مجرد تكرار لعمليات العزل و التجريد التي بُنيت عليها اللسانيات الحديثة، و ليس تقديم مسوغات لها. و من ناحية أخرى فإنه سيكون نظرا ً أحادي الجانب إذا ما وضعنا اللوم على المنظر اللساني فحسب، لأن الفلاسفة الذين تناولوا مسألة حرية الكلام بالبحث قد فعلوا ذلك غالبا ً على نحو مشابه و بطريقة تتجاهل ببساطة تلك الوجوه التي لها علاقة منطقية بأساسها اللساني، و لذلك فهي تعطي، على نحو غير مباشر، دعما ً لرفض الباحث اللساني أن يأخذ بعين الاعتبار أمثال تلك القضايا.
و يمثل جون ستيوارت مـِل عينة مثالية، فليست مصادفة أن معالجة ميل قد بقيت مؤثرة خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر ، و هي المرحلة التي تشكلت فيها اللسانيات الحديثة. و حتى في الوقت الراهن ، يظل القول صحيحا ً بأنه لا شيء قد كـُتِبَ حول حرية الكلام يتفوق على ما خصصه مـِل لذلك الموضوع في مقالته" حول الحرية"( مـِل1859 )أو يجعل منه قديم الطراز. و منذ العام1859 صارت وجهة نظر مـِل في حرية الكلام مقبولة على نطاق واسع بوصفها جزءا ً من الموقف الديموقراطي الشائع تجاه أنماط الحكومات المتسلطة، و إذا ما نـُودي للدفاع عنها، فإن الكثير سيشيرون ببساطة إلى أنظمة سياسية حديثة مثل تلك التي في روسيا في ظل ستالين و أتباعه، و ألمانيا في ظل هتلر، و الصين في ظل ’ الثورة الثقافية ‘، بوصفها أمثلة رهيبة لما يمكن أن يحدث للمجتمع الذي يسخر من المبادئ التي دافع عنها مـِل.
حرية الكلام ، بالنسبة لمـِل ، هي سفينة القيادة في أسطول الحريات المدنية،لأن الكلام هو الطرح الخارجي لأحكامنا العقلية، و لأن حرية قرار الحكم لا يمكن فصلها عن حرية الكلام. فإن ’ منطقة الحرية الإنسانية ‘، يقول مـِل:
تتضمن، أولا ً ، منطقة الوعي الداخلي، وحرية متطلبة للوعي بأوسع المعاني، حرية الفكر و الشعور، وحرية مطلقة للرأي و العاطفة حول كل الموضوعات ، سواء أكانت عملية أو تأملية أو علمية أو أخلاقية أو لاهوتية. قد تبدو حرية التعبير عن الآراء و نشرها واقعة في نطاق مبدأ مختلف، لأنها تعود إلى ذلك الجزء من سلوك الفرد الذي يخص أناسا ً آخرين، و لكن ، و لكونها تكاد تكون بأهمية حرية الفكر نفسها و تستند في جانب كبير منها على الأسباب ذاتها، فإنها عمليا ً غير قابلة للفصل عنها.
( ميل1959: 71)
إن ’عدم إمكانية الفصل‘ هذه هي مكون حركي فعال في مناظرة مـِل؛ لأنه، و بدونها سيكون معرضا ً للاعتراض عليه استنادا ً إلى الاعتراض الذي ذكره؛ أعني أن حرية الكلام يجب أن لا تلتبس مع حرية الفكر و هي مسؤولة إزاء مبادئ مختلفة تماما ً. و الأكثر إثارة للدهشة هو أن مـِل في مقالة حول الحرية لم يوضح بتعبيرات لا لبس فيها طبيعة ’عدم إمكانية الفصل‘ هذه أو الدليل الأساسي في دعمها. و برغم ذلك، قد يغامر المرء في بناء حالة مشتقة من الأسباب التي أوردها لصالح حرية الكلام. و هذه الحالة يمكن أن تكون على النحو الآتي: تـُشكـَلُ أحكامنا على أساس المناقشة مع الآخرين. و لكن إذا ما كان الآخرون غير أحرار في التعبير عن آرائهم الصادقة, فلن نستطيع أن نعرف منهم، بشكل يعول عليه ، ما هي وجهات النظر التي يحملون و لماذا. و نستنتج من ذلك بأن المناقشة أساس غير ثابت للبناء عليه من أجل الوصول إلى أية نتيجة أو تقويم أية قضية. و باختصار، فإن المجتمع الذي ليس فيه حرية كلام يجب أن يكون بالضرورة مجتمعا ً تكون فيه كل الأحكام مشوهة نظاميا ً بوساطة التهرب و المراوغة، و في مثل هذا المجتمع ستكون حرية تكوين الحكم وهما ً. ( اللحمة العقلية من هذا النوع ، كما قد يزعم كثيرون، هي بالضبط ما حصل عندما قـُمعت حرية الكلام لفترات طويلة في الأنظمة الشمولية).
إن معقولية نسبة مجرى من الحجاج العقلي إلى مـِل من قبيل المقترحات التي أعيد صوغها في أعلاه تحظى بأرجحية اعتمادا ً على الأهمية التي يعلقها على الوصول إلى الحقيقة عبر موازنة الآراء المتضاربة. و هذا هو الأساس لرفضه الإقرار بأن لنا أية مسوغات في قمع وجهة نظر ما على أساس كونها كاذبة لا غير. لأنه، و بعيدا ً عن حقيقة أننا ربما نكون على خطأ في افتراضنا أنها كاذبة، لا يمكن اختبار الحقائق إلا من خلال مقارنتها بالأكاذيب.
الحرية التامة في تناقض رأينا و عدم إثباته هي بذاتها الشرط الذي يسوغ لنا افتراض كونه حقيقة لغرض الفعل؛ و ليس من صيغة اصطلاحية أخرى يمكن، بارتباطها مع الملكات الإنسانية، أن تنطوي على توكيد عقلاني على كونها صائبة.
(نفسه: 97)
في النظرة الأولى، يبدو هذا الأمر كما لو كان يترك افتراض مـِل النظري ضعيفا ً إزاء الاعتراض القائل بأنه يجيز نشر مختلف أنواع الأكاذيب تحت المظلة المشوشة لحرية الكلام . و طريقة مـِل للخلاص من هذه المشكلة هو استدعاء التحذير بأنه ليس من شأن أي تعبير عن أية وجهة نظر، سواء أكان صادقا ً أم كاذبا ً، أن يؤدي بالضرورة إلى إيذاء شخص ٍ آخر. ( و قد طبق هذا القيد نفسه ليس على حرية الكلام فحسب و لكن على كل الحريات.) و على هذا النحو، مثلا ً ، فإن التعبير عن وجهة النظر بأن الملكية الخاصة سرقة، على الرغم من أنه ليس استثنائيا ً بحد ذاته، يصبح عرضة للوم حينما يحرض الغوغاء على العنف.

لا أحد يزعم بأن الفعل يجب أن يكون حرا ً كما الآراء تماما ً. على العكس، إذ حتى الآراء تفقد حصانتها حينما تغدو الظروف التي يـُعـَبـَرُ فيها عنها من النوع الذي تجعل التعبير عنها يمثـِلُ تحريضا ً إيجابيا ً دافعا ً إلى فعل ٍ مؤذ ٍ و عابث.
( نفسه: 119)
و هذا يعني ، بلغة نظرية أفعال الكلام الحديثة، بأن مـِل يدرك أن الآثار التنفيذية لفعل الكلام هي ما يحدد في نهاية المطاف جدارتها في القبول في نطاق السماح الذي تقدمه حرية الكلام.
و في حال ضمان هذا، فإن من الصعب أن نرى كيف يمكن أن يتجنب مـِل النتيجة الطبيعية بأن أية وجهة نظر، سواء أكانت صادقة أم كاذبة، هي بطريقة مماثلة عرضة للنقد إذا كانت الظروف التي قيلت فيها هي مما تكون نتيجته فشل ضار في الشروع بالعمل.( و بذلك، على سبيل المثال، فإن التعبير عن القناعة بقدرة الإيمان على الشفاء يمكن أن يكون موضع نقد إذا ما نتج عنه موت شخص يمكن أن تنقذ حياته المعالجة الطبية.)
و على الرغم من كون الأساس العقلي كافيا ً ، فإن ما يترتب على هذا النظام لـه نتائج منطقية مدمرة بالنسبة لافتراض مـِل النظري. لأنه لا يمكن ببساطة الافتراض بأن الآثار التنفيذية أو أية آثار محتملة لأي نطق محدد هي واضحة. و قد لا يكون الناتج الضار مقصودا ً أو متوقعا ً في ذات الوقت الذي تم التعبير فيه عن وجهة النظر موضع البحث. إذ أن مسألة تحت أية ظروف يمثل التعبير عن وجهة النظر القائلة بأن الملكية الشخصية سرقة تحريضا ً على العنف أو الأعمال غير القانونية هي ليست مسألة خلافية فحسب و لكنها خلافية بطرق تشمل عملية وضع ذات الحقوق و المسؤوليات المناسبة لحرية الكلام موضع التنفيذ. و ما يعنيه هذا هو أنه على الرغم من أن مسألة حرية الكلام تبدو قد حظيت بالحل أخيرا ً ، فإنها تبرز بشكل غير متوقع مجددا ً و بنقلة واحدة بوصفها مسألة حول حرية الفعل. و الأكثر من هذا، فإن ما سيؤول إليه الناتج الحقيقي في أية حالة محددة لن يكون ذا عون. فإذا كان من حق الشخص ( أ ) أن يحاول إقناع الشخص ( ب ) بعدم ربط حزام الأمان فإن هذا الأمر لا يعتمد على فيما إذا كان (ب) أصيب بجروح بحادث طريق أعقب ذلك. و من الواضح ، على أية حال، أنه حالما يجري وضع التوضيح المسبق للعواقب الوخيمة موضع التنفيذ يغدو مناسبا ً تماما ً أن نضع في الاعتبار الآتي: من يقول، ماذا يقول، و لمن يقول. و لعل ما يثير القلق أكثر هو الأخذ بالحسبان بأنه يبدو من المستحيل بصورة عامة أن نحسب كل العواقب التي يمكن، من الناحية النظرية، أن تنجم من أي نطق محدد سواء أكان ذلك بإفاضة أم باختصار. لذلك فإن التعبير عن الرأي ، برغم كل شيء، متوقف على كل الاشتراطات التي تحكم الفعل غير اللفظي. فملاحظة الملك غير الحذرة ما كانت أقل فاعلية ً بوصفها أداة في قتل توماس بيكيت من أفعال الفرسان الذين قتلوه.
أين يترك ذلك حرية الكلام؟ في المعتزل نفسه تقريبا ً، كما يبدو، كما لو أنها تحت رعاية النظرية اللسانية. و بعبارة أخرى، تماما ً كما يجرد توضيح عالمُ اللسانيات التواصل َ الكلامي من هويتي المتحدث و السامع، و من محتوى ما قيل، و من الظرف الاجتماعي لفعل الكلام، كذلك يبدو توضيح الفيلسوف غير استثنائي ٍ بشرط أن تنجز تجريدات مشابهة. و لكن حالما يتم تحديد فعل الكلام و وضعه في سياقه فإن مسألة حرية- حقوق المتكلم- تصبح مباشرة إشكالية. و على ذلك فإن القضية التي مررها عالم اللسانيات إلى الفيلسوف قد مررها، الآن، الفيلسوف. لأنه نوع من التهرب و المراوغة أن توضع مبادئ أساسية يولد تطبيقها على حالات معينة مسائل مثيرة للجدل من النوع نفسه الذي أستعين بتلك المبادئ الأساسية لحسمها. فكل من الشبكة اللسانية و الشبكة الفلسفية قد سمحا بمرور شيء مهم عبرهما.
إن المفتاح إلى ما مر عبر الشبكتين يمكن العثور عليه في الفصل الختامي الغريب من كتاب روسو مقالة حول أصل اللغات. يجادل روسو بأن ’ هنالك بعض الألسن التي تنزع إلى الحرية. إنها الألسن الجهورية الرنانة، التي تنطوي على قيمة عروضية، و المتناغمة التي يمكن أن يـُفْهـَم فيها الخطاب من مسافة بعيدة جدا ً.‘ و هو يستمر ليصنع جملة من الملاحظات غير المقنعة حول نسبية قابلية اللغات المختلفة للسماع، زاعما ً بأن الإغريقية قد كانت متفوقة إلى حد بعيد على الفرنسية الحديثة في هذا الجانب. و هيرودوتس ، يقول روسو، قد روى تاريخه إلى حضور في الهواء الطلق و هم كانوا يستطيعون سماع ما كان يقول. و أية لغة لها قابلية سماع منخفضة تناهض الحرية. ’ أزعم بأن أية لغة لا يستطيع المرء من خلالها أن يجعل من نفسه مفهوما ً للناس المتجمهرين هي لغة وضيعة. و من المحال أن يبقى شعب ما حرا ً و هو يتكلم بذلك اللسان.‘
و بتطور يسير، كما هو الحال في علوم الصوتيات العامة و السماعية في هذه الأيام، فإن من الصعب، برغم ذلك، أن نتصور أن روسو أعتقد فعلا ً في صحة الأطروحة التي يبدو ظاهريا ً أنه يقدمها. فهذا الفصل الختامي هو في الحقيقة مهتم بعلاقة اللغات بالحكومات، و فرضية قابلية السماع هي طريقة روسو المجازية المتهكمة لفتح موضوع مسألة حرية الكلام في فرنسا القرن الثامن عشر.
ما هو جدير بالملاحظة في معالجة روسو المختالة للموضوع، و متقدما ً بذلك على زمانه إلى حد بعيد، أنه أدرك بأن من الخطأ معالجة حرية الكلام على أساس كونها واحدة من أشكال الحرية المختلفة للفعل قائمة بذاتها. في هذا كان نفاذ بصيرته أعظم قيمة إلى حد بعيد مما قدمه كثير ممن جاء بعده، الذين اخترق ذلك الخطأ بالتحديد تفكيرهم حول الموضوع و أحدث فيه صدعا ً. أدرك روسو حقيقة أن مسألة الحرية و اللغة برمتها مرتبطة ارتباطا ً لا انفصام لـه مع المدى الذي تكون فيه الجماعة اللسانية( اللغوية) أيضا ً مجتمعا ً تواصليا ً. و تقع الفترة التي كان روسو يكتب فيها في وسط المرحلة هي الغاية في التدني في أوربا بين اختراع الطباعة، التي جعلت، من الناحية النظرية، التواصل الجماهيري الواسع ممكنا ً، و جعل القدرة على القراءة و الكتابة ظاهرة سائدة على نطاق عالمي، التي هي من متطلبات الطباعة العملية. إن رواية هيرودوتس لتأريخه لزملائه المواطنين المتجمعين هي بالنسبة لروسو (إشارة) رمزية للشروط التي يتوق إليها التواصل في مجتمع حر. و دولة المدينة من وجهة النظر هذه هي الجماعة اللسانية المثالية. و يمكن أن يسهم كل أعضائها في التواصل العام، وهو الاحتمال الذي سيكون بخلاف ذلك معتمدا ً على تسامحهما المتبادل. ( كان ينبغي لجمهور هيرودوتس، كما يشير روسو، أن يحافظ على الهدوء لكي يسمع) و الأطروحة المضادة لهذا النموذج المثالي تتمثل بالنسبة لروسو في صورة الأكاديمي الفرنسي الذي يشق طريقه عبر مذكرة مغمغما ً، غير مسموع بالنسبة للناس الذين يجلسون في الخلف. و يقتبس روسو دوكلو إلى الحد الذي يمكن أن يكون مرغوبا ً فيه دراسة كيف أن ’ شخصيات، و أزياء، و اهتمامات الناس تؤثر في لغتهم’، و يقترح بطرافة بأن قابلية سماع اللغة من المخاطبين تتدهور حين تحل حكومة فاشية متسلطة محل حكومة الإقناع.

و يمكن بذلك أن ينظر إلى الأكاديمي المغمغم ( و في سياق المسؤوليات الخاصة المسندة إلى الأكاديمية الفرنسية بوصفها حارسة اللغة الفرنسية) على أنه صورة هزلية لاذعة لما يحصل في التخصص اللساني في خدمة حكومة فاشية متسلطة. فاللغة الرسمية التي تجعل منها تلك الحكومة الفاشية شفرة معتمدة و تستعملها هي من ذلك النوع الذي يجعل من المستحيل سماعه، لغة هي بالنتيجة عديمة الفائدة تماما ً بالنسبة للتواصل العام. و قد يفترض المرء بسذاجة أن علاج عدم قابلية السماع هو برفع الصوت. و لكن، يجادل روسو، كلما كان الصراخ بالفرنسية أعلى كان فهمها أقل:
إن واعظينا من الكهنة يعذبون أنفسهم، يحولون أنفسهم إلى كتلة من العرق أثناء الوعظ دون أن يعرف أي ُ شخص أي َ شيءٍ مما قالوه. و بعد أن يرهقوا أنفسهم صارخين من أجل ساعة، ينهارون في الكرسي، أنصاف موتى. و من المؤكد أن تعبهم بهذه الطريقة لن يكون فاعلا ً.
و شبيه بذلك، يزعم روسو، إذا ما كان على أي شخص أن يخطب في أهل باريس في سوق أقمشة مكتظة فلن يكونوا أكثر حكمة : ’ إذا ما صرخ بأعلى صوته، فسيسمع الناس صراخه، و لكنهم لن يستطيعوا أن يميزوا كلمة واحدة‘. و هذه الصور الساخرة الجديرة بالملاحظة للغة التي تحول دون التواصل بدلا ً من تجعله أكثر يسرا ً قد تكون الأكثر إدهاشا ً في الأدب الأوربي قبل أورويل. و هي تتعارض بشكل ذي مغزى هام مع المزاعم اللسانية الراسخة التي ظهرت في القرن الثامن عشر المتعلقة بخصائص الفرنسية، و بخاصة الزعم القائل بأنها كانت فوق كل لغات الوضوح.
ما فهمه روسو هو أنه بالرغم من كون الكلام شكل من أشكال الفعل، فإن ذلك لا يقتضي أنه يمكن رد حرية الكلام إلى حرية الفعل أو أنها يمكن تكون أحد أنواعه الثانوية. و لكي نكون أحرارا ً بالمعنى الذي يكون فيه العقل الإنساني حرا ً فإن إمكانية الموافقة أو المعارضة يجب أن توجد. و هذه هي الإمكانية التي تجعلها اللغة فقط متاحة. ( و من هنا فإن مسألة الحرية الفكرية كما تظهر لمعظم أبناء الجنس البشري لا يمكن أن تظهر لأفراد أو أجناس غير قادرة على استعمال اللغة.) و لهذا السبب فإن رفض حرية الكلام، مهما كان مؤقتا ً و مهما كانت أسبابه، هو اعتداء على إنسانية أولئك الذين حرموا منها. إذ أنه من خلال اللغة و عبرها نكتسب إمكانية إقناع الآخرين بالقبول أو الرفض أو التفكير بسلسلة كامنة غير متناهية من المعتقدات و المواقف و مسالك الفعل. و على هذا النحو تكون هذه الإمكانية شرطا ً مسبقا ً لكل الحريات الأخرى التي تشمل ضبط سلوك أفراد المجتمع إزاء بعضهم بعضا ً؛ و ضمانها العرفي الراسخ الجذور في أية جماعة هو وجود لغة الجماعة.
وبذلك فإن حرية الكلام هي أساسا ً حق المشاركة في تلك الفعاليات التواصلية المتاحة بمقتضى كون المرء عضوا ً في جماعة تواصلية. و لكن هذه الحرية، كما يقنعنا روسو بقوة، هي مظهر كاذب يدعو للسخرية ما لم يكن ما يقال قابلا ً لأن يسمع. و بعبارة أخرى ، إذا ما كان تنظيم المجتمع بطريقة ( سواء كان ذلك من خلال حكومة ذات نزعة مركزية تسلطية، أو لأي سبب آخر) ترفض المشاركة الفعالة في التواصل لأقسام كبيرة من الجماعة، فلن تعود اللغة ضمانا ً لحرية الكلام، و تغدو مسألة فيما إذا كان التعبير عن وجهات النظر أمام الجمهور مباحا ً أم مقموعا ً لا عديمة الصلة بالموضوع.
و ستلقى أطروحة روسو حول ’ قابلية السماع ‘ توكيدا ً مسهبا ً من الأحداث اللاحقة في السياسة البريطانية. ففي نهاية القرن الثامن عشر و بداية القرن التاسع عشر، تم رفض الاستماع إلى سلسلة من الالتماسات مقدمة للبرلمان على خلفية أنها لم تحظ َ بصوغ لغوي مناسب. و كما أشارت أوليفيا سميث في كتابها سياسة اللغة 1791-1819 : ’ لأن كلا ً من حق الانتخاب و الأفكار حول اللغة اعتمدا على مسألة من يـُعَدّ قادرا ً على الإسهام في الحياة العامة، فإن هذين الأمرين كانا مرتبطين بشكل حيوي‘ ( سميث 1984: 29-30). و بالكاد يمكن أن يكون الارتباط بين حرية الكلام و كون المرء عضوا ً في جماعة لسانية أوضح مما يظهره الموقف السياسي الذي يـُؤسس مباديء للياقة اللسانية بوصفها معايير لحق المرء في الاستماع إلى صوته. فالتهديد السياسي الذي يطرحه وجود لغة عامة يواجـَه برفض عموميتها، و بقصر حرية التمتع بالحق على اللغة ’ المناسبة‘ نتيجة لذلك.
إن الأطروحة المضادة لحرية الكلام ليست هي الرقابة، لكن العزل و الحرمان من عضوية الجماعة: إنها إنكار حق المشاركة. و الانحراف العقلي النهائي في السياسة هو الزعم بأنه يمكن تبرير مثل هذا الإنكار و أحيانا ً يمكن أن يكون ضروريا ً كونه لخير و مصلحة الآخرين، أو حتى لخير و مصلحة المعزولين أنفسهم. و هذا هو التبرير ’الأخلاقي‘ للوائح السرية الرسمية و ما يشابها.
إنه لشكل من أشكال الانحراف العقلي أيضا ً كان الأكاديميون عرضة لـه وهو ما أظهره للأسف حظر اشتراك المختصين بالحفريات الأثرية ’الآركيولوجيين‘ من جنوب أفريقيا و ناميبيا في المؤتمر العالمي للحفريات في جامعة ساوثهامبتن في 1986. و الاعتراض الذي تذرعوا به لم يكن على الأفراد المحظورة مشاركتهم، و لا على وجهات نظرهم، سواء حول السياسة أو حول علم الحفريات. و مع ذلك فقد أنكر عليهم زملاء أكاديميون حقهم في الكلام في ملتقى مهني و يقع في صلب حقل تخصصهم الأكاديمي، و ذلك لتسجيل احتجاج ضد الاتجاهات السياسية التي تتبعها حكومتا جنوب أفريقيا و ناميبيا. و على هذا النحو فقد أضطهد البريء من أجل إزعاج المذنب. و في نطاق حرية الكلام، فإن هذه هي أخلاقيات أخذ الرهائن والإرهاب. و تبنيها من قبل الأكاديميين هو أمر بغيض بشكل خاص، كما إن من المحتمل أن يسارع مـِل إلى الإشارة إلى ذلك، لأن الجامعات هي مؤسسات مرتبطة بعهد ثابت و مقرر بالعرف و القانون لمواصلة البحث الحر. و هذا هو السبب في كون سيطرة الدولة على ما تدرسه الجامعات و كيف تدرسه( فيما يتعلق بموضوعات تخص الدين، و العـِرق، و اللغة، و التاريخ على سبيل المثال ) هو واحد من أخطر التهديدات لحرية الكلام التي كان على المجتمع الغربي أن يواجهها في القرن العشرين. و لكن الجامعات سوف تكون بالكاد مؤسسات تستحق أن تنقذ إذا ما كان الأكاديميون الذين يتولون إدارتها هم من الذين يستعملون مبتهجين حرية الكلام خاصتهم لكي ينكروها على الآخرين.
و اللسانيات، للسبب نفسه، لن تكون حقلا ً بحثيا ً أكاديميا ً يستحق المحافظة عليه إذا ما أستمرت في التهرب من واجب التصدي لقضية حرية الكلام بتأبيد التخيل النظري المريح القائل بأن عضوية الجماعة (المنسجمة) لسانيا ً تمنح تلقائيا ً الحقوق اللسانية نفسها- أو لا شيء منها- عموما ً، و نسبة أي خروج على هذا الوضع العام الموسوم بالمساواة إلى تدخل العناصر الخارجية التداولية التي هي بحكم التعريف ليست لسانية. و هذه بالتأكيد طريقة واحدة من طرق أمثلة ( جعل الأمر مثالياً) المشكلة خارج نطاق الوجود، أو في الأقل خارج نطاق اللسانيات. و تكمن الصعوبة في أنها تترك الباحث اللساني دونما موقف يمكنه من تقديم أي توضيح جدير بالقبول و التصديق ظاهريا ً لتلك الصيغة المحددة للسلوك الاجتماعي اللفظي الواضح الذي يسمى تقليديا ً ’ باللغة ‘.
إن الحرية هي أساسا ً مسألة حقوق و مسؤوليات. و الممارسة الاجتماعية لكل القدرات و المهارات مشروطة بالحقوق و المسؤوليات، الفردية منها و الجماعية؛ و ذلك لأن كل سلوك اجتماعي يتضمن تعاملات، في الأقل، بين شخص واحد و آخر أو آخرون. و بما أن اللغة هي البراعة الاجتماعية الأولى دونما منازع، فإن من العبث الافتراض جدلا ً بكونها استثناء ً بطريقة أو بأخرى. و مع ذلك فإن هذا هو بالتحديد العبث المتأصل في أية لسانيات تـُعـَرِّفُ الكلام دون الإشارة إلى مثل هذه المسائل، غير مدركة بأن استبعادها يرتد بالكلام إلى لغو ٍ صوتي. لأنه ليس من الواضح فيما إذا كان معقولا ً القول بأن أية براعة اجتماعية تكتسب و تمارس بكفاءة من قبل أشخاص هم ببساطة لا يفهمون الحقوق و المسؤوليات المتشابكة و المتضمنة. و ذلك الفهم هو، بحكم التعريف، جزء من البراعة. بل إنه ليس جزءا ً من البراعة فحسب، و لكنه الجزء الحاسم الذي يفصل البراعة الاجتماعية عن الخبرة و المعرفة التقنية. و لهذا السبب فإن طبيب معسكر الاعتقال الذي ينفذ تجارب لا إنسانية على النزلاء هو مدان بحق بصفته طبيبا ً، حتى حينما قد يكون مستوى الخبرة و المعرفة المضمنة في التجارب عاليا ً.
إن التسليم بأن المجتمعات تختلف بصدد ما تعترف به من الحقوق و المسؤوليات بوصفها اعتبارات لصيغ السلوك الاجتماعي المتباينة، لا يمثل ترخيصا ً بتجاهل مسألة الحقوق و المسؤوليات عند محاولة تعريف صيغة سلوك اجتماعي شائعة في مختلف المجتمعات. و حتى أن الأمر سيكون أقل ترخيصا ً عند الإقرار الضامن للقول بالنسبية التي تتعامل مع حرية الكلام على أنها ذات صلة بالممارسات الاجتماعية الأخرى. فالأمر على العكس إلى حد أن مجتمعا ً يؤسس حقوقا ً و مسؤولياتٍ تحدد حرية الكلام هو ليس مجتمعا ً حرا ً على الإطلاق، كون السعي وراء الحريات الأخرى أمر مشروط بحرية الكلام. و مفهوم المجتمع الذي سمح بكل الحريات الأخرى باستثناء حرية الكلام هو مفهوم متناقض مع ذاته.






المصادر المشار إليها في متن الدراسة

Cairns, H. and Cairns, C.(1976) Psycholinguistics, New york: Holt, Rinehart & Winston.
Chafe, W. L. (1970) Meaning and the Structure of the Language, Chicago: University of Chicago Press.
Denes, P. B., and Pinson, E. N.(1973) The Speech Chain,2nd edn, Garden City, NY: Anchor.
Katz, J. J.(1966) The Philosophy of Language, New York: Harper and & Row.
Mill, J. S. (1859) On Liberty, London , ed. G. Himmelfarb,1974, Harmondsworth: Penguin.
Rousseau, J. J.(1968) Essai sur l origne des langues, ed. C. Porset, Bordeaux: Ducros.
Saussure, F. de (1916) Cours de la linguistique gēnērale, ed. C. Bally and A. Sechahye, with the collaboration of A. Riedinger, Lausanne and Paris:Payot.
Smith, O. (1984) The Politics of Language 1791-1819, Oxford, Clarendon.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه ترجمة للفصل الثامن من كتاب:
Joseph, John E. and Taylor, Talbot J.(ed)(1990) Ideologies of Language
pp153-161.Routledge. London.



#باقر_جاسم_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصائد قصار
- الخطاب السياسي و اللغة العادية
- صمت الجميل ، فهل سيصمت كل جميل في حياتنا!؟
- قراءة جهرية في نص مسرحية صامت
- رسالة محبة للدكيور سيار الجميل
- أصدقاء الديمقراطية و أعداؤها
- حياة جديدة في كيريفاسو
- الأيديولوجيا و السلطة السياسية
- قريبا من الفن بعيدا عن السياسة
- نظرية الاحتمالات و نظرية المؤامرة
- الديمقراطية و الإصلاح السياسي بين الواقع و الطموح
- الكتاب المقدس: حول أصل اللغة و أختلافها
- أرسطو: حول الاستعارة
- من أغاني العاشق القديم
- أتألق دائما لأن مائي سيكون
- في أي الأرض...!؟ إلى جورج حاوي إنسانا
- مسألة ضمان حقوق المرأة في الدستور المنشود
- العمل السياسي ممارسة إنسانية الإنسان : رد على أسئلة الحوار ا ...
- الترجمة و حوار الحضارات / مقابلة مع الأستاذ باقر جاسم محمد
- حوار في مشكلة المصطلح في الكتابات الماركسية


المزيد.....




- لعلها -المرة الأولى بالتاريخ-.. فيديو رفع أذان المغرب بمنزل ...
- مصدر سوري: غارات إسرائيلية على حلب تسفر عن سقوط ضحايا عسكريي ...
- المرصد: ارتفاع حصيلة -الضربات الإسرائيلية- على سوريا إلى 42 ...
- سقوط قتلى وجرحى جرّاء الغارات الجوية الإسرائيلية بالقرب من م ...
- خبراء ألمان: نشر أحادي لقوات في أوكرانيا لن يجعل الناتو طرفا ...
- خبراء روس ينشرون مشاهد لمكونات صاروخ -ستورم شادو- بريطاني فر ...
- كم تستغرق وتكلف إعادة بناء الجسر المنهار في بالتيمور؟
- -بكرة هموت-.. 30 ثانية تشعل السوشيال ميديا وتنتهي بجثة -رحاب ...
- الهنود الحمر ووحش بحيرة شامبلين الغامض!
- مسلمو روسيا يقيمون الصلاة أمام مجمع -كروكوس- على أرواح ضحايا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - باقر جاسم محمد - حول حرية الكلام