أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رزاق عبود - الغربة اللعينة والذكرى الأليمة!*















المزيد.....

الغربة اللعينة والذكرى الأليمة!*


رزاق عبود

الحوار المتمدن-العدد: 5742 - 2017 / 12 / 30 - 04:59
المحور: الادب والفن
    


الغربة اللعينة والذكرى الأليمة!*
عندما تلتقي اي مهجر، مهاجر، مغترب، مبعد، مشرد، لاجئ، منفي، دارس، مسافر، يجيبك عندما تسأله: انا بغدادي، كرخي، رصافي، بصري، جنوبي، كردي شمالي من اربيل، او السليمانية، او دهوك، من كربلاء، او النجف، من الحلة، او سامراء، من العمارة، اوالناصرية، او الكوت، او الانبار، من السماوة، او الموصل، او ديالى، او كركوك ويضيف: انا سليل وادي الرافدين الغريب، او: انا من مواليد العراق، وارقامه في الغربة. لكل عراقي في الخارج قصة يحكيها بلوعة، والم، وحسرة، وشوق، وحنين، وتوق "نوستالجيا" عجيبة.
بقايا الذاكرة ترافقني في غربتي، وتزورني كل ليلة في احلامي، وتلازمني في جلساتي، وترافقني في جولاتي، وتحضر في كل حديث: غادرت كالملايين على امل العودة. بين الغربة والموت توجد فسحة انتظار، تسمى العمل، او الدراسة، او ممارسة الهواية، اومتابعة اخبار الوطن، او الترقب، المرض، اوتقدم العمر. ظننت مثل غيري، انها مغادرة مؤقتة، ولازلت انتظر بين الحياة والموت. اكلم نفسي، احاورها، اناجيها، ولا اسمع سوى صدى عذابي، ولوعة غربتي. رفقة الغربة على خلاف رفقة الوطن، وجوه ساكنة، وارواح صامتة، وعلاقات مؤقتة، ومجاملات باهتة، واحباطات لا تتوقف، وخذلان لا ينتهي. كل يوم يمر ألم قاس وجرح عميق اتمنى ان يندمل، لكنه يتسع، ويزداد وجعا. سرقوا مني كل شئ حتى هويتي المدنية بعد ان سلبوا كرامتي، وحريتي، ودراستي، وعملي، ومسكني، وكتبي، واصدقائي، ورفقتي، وتاريخي، وموطني.
أتخيل اشياء بقيت عالقة في الذاكرة. البيت الاول، ربما هو اهم شئ رغم انهم اغتصبوه، او هدوه، او شوهوه. اتذكر النصب، نصب الحرية، جداريات فائق حسن، وتماثيل الرصافي، والسياب، والفراهيدي، ومحسن الكاظمي. نخيل البساتين، واشجار الشوارع، وزهور ونبتات الحدائق، والمدارس، والسفرات، والسهرات، والشناشيل، والاثار، والانهار، والشطوط، والسواقي، والمعامل، والموانئ، والسفن، والابلام، والاكلاك، والگفة، والساحات، والجسور، والقناطر، والزوارق، والابلام، والمشاحيف، والطبگة، ومضايف الكرم. اتذكر الاسماك الحية التي تتحول الى مسگوف لذيذ في شارع ابي نؤاس. نوروز على ضفاف شط العرب، او في قمم الجبال، وامسيات رمضان البهية، ولعبة المحيبس وصواني الزلابية، واقداح الشاي ابو الهيل، والنومي بصرة، وصيحات الفوز، او حسرات الخسارة، ابتسامات الكبار، وضحكات الاطفال، واستحياء النسوة، وشغب الفتيىة. بائعات القيمر، والحليب، والزبد، والتمر، والرطب، والخلال المطبوخ، والخريط، وطيورالهور، واسماكه، وشدات الزوري، ومنتجات الخوص، والقصب، وسعف النخيل. خبز التنور، والكليجة، والصمون الحار، وخبز الاعاشة والتجاري، والافغاني، ولفات الحلاوة والبيض، والعمبة، وعسلية ام العسل، وحلاوة الجزر، ونهر خوز، واللوبية، والشلغم، واللبلبي، والباقلاء الدسمة المعطرة بالبطنج. شربت النومي، وشربت زبيب، والسوس، والعصير، والسيفون، وماء السبيل. الچرك، والبغصم، والكعك، والعرموط (الطاطلي)!
اتذكر الشيخ الوقور متوجها عند الفجر الى الجامع ملبيا نداء الاذان، واسمع صوت نواقيس الكنائس، وهيبة القداس في الكنائس المكتظة بالمصلين، وملابسهم الزاهية، وصلبانهم اللامعة، وعطر البخور، والراهبات والرهبان في اديرتهم العتيقة. بهجة عيد الميلاد، وراس السنة. رجل يتعبد، او يتعمد في مندي للصابئة، او يبدع في مصوغات الذهب والفضة في شارع النهر، او يزيدي يتخشع في معبده الجبلي. اليهود في ملابسهم التقليدية، وابتساماتهم المرحبة عند ابواب محلاتهم. أمرأة مسلمة تضع نذرها امام تمثال السيدة العذراء تحلم بطفل جميل. امرأة مسيحية تزور "سيد محمد" وهي تأمل ان يعطيها مرادها. يهودي يتحايل على السلطات كي ينجو من التهجير، او سحب الجنسية. كردي يبيع "عسل شمال" في ازقة، وشوارع، المدن واسواقها. اتذكر صفر، يحيى زكريا، وشموع تسبح في مياه خريسان، او شط العشار، لعبات المحلات الشعبية واهازيج ماجينة يا ماجينة!
تجري دموع العراقيين، مثل انهارهم، وهي نفسها سواء للفرح، او للحزن صادقة، ومعبرة، ومؤثرة. يشاركك فيها الجار، او الصديق. تسكبها نفس العيون، تبلل نفس الجفون، وتنساب على نفس الخدود العراقية، ممزوجة بالكحل والألم. دموعنا في "الخارج" تشكوا الغربة، وتبكي العراق، الذي تركناه مضطرين، وحملناه في حقائب سفرنا، وطيات افكارنا، ولواعج انفسنا، ودثرناه بوسائدنا. اتمنى ان ازرع العراق باجساد الذين رحلوا في الغربة من شمال العراق الى جنوبه، لتتحول شواهد قبورهم الى نخيل، او جبال، او انهار، او اشجار، اوسهول، او وديان، او اهوار، صريفة، او كوخ، اوخيمة بدوية، او مغارة جبلية. نخيل في صقيع السويد، اوكندا، او تحت شمس استراليا. تمثال للسندباد الذي سافر سبع مرات وعاد. سقط ونهض. اعتقل واطلق سراحه، او هرب، تاه، ووجد الطريق. غرق وعاد الى الحياة. السندباد يبحر من البصرة بعكس التيار وعينه على بغداد. السندباد العراقي اقوى من التيار، اشد من الصعاب، ويقهر الظلام. يعانق الفرات، ويعشق دجلة، ويدعوهما ان لا يبتعدا عن بعضهما، بل يلتقيا، يتعانقا، يعقدا قرانا عند حافة بدأ البشرية، عند شجرة ادم في القرنة، فيثمر حبهما شطا رائعا. عند الملتقي يستريح السندباد مستعدا للصعود الى سفينته التي تبحر به من جديد عبر مياه شط العرب مبشرا العالم بعودة العراق الى المياه البحرية، بعد ان ظنوه جف وانتهى.
اتذكر، كيف حرقوا البيوت، ودمروا المتاحف، وسرقوا الثروات، وداسوا على الكتب، ونهبوا ثروات الشعب والوطن. ملئوا دجلة بالجثث، والكتب، والاسلحة، والتماثيل، والتحف المسروقة. مسخ دجلة العظيم، وصار ساقية. تقلصت مساحته، تقاربت ضفتيه، ولم يعد نهرا تحول الى مجرى متسخ، ومقبرة للموتى المغدورين. لماذا؟ من وراء ذلك؟ لماذا قطع ابناء مدن "الحضارة" الغربية كل هذه المسافات، وعبروا البحار والمحيطات، ليرموا ابنائهم للموت، ويقتلوا الالاف من ابناء العراق، ويحولوا مدنه العامرة الى خرائب، واثاره الى معسكرات، وانقاض، وغنائم للبيع في السوق السوداء. العراق سمي في يوم ما بلاد السواد لكثرة سكانه، ويقال ايضا ان السواد هو لباس الملوك، اي ان العراق هو الملك الذي اجتمع كل لصوص، وصعاليك، وقتلة، ومرتزقة، ووحوش العالم لذبحه، ونهب مملكته، وتحويلها الى ركام. ارادوا ان يلبسوه سواد الحزن الابدي، لكنهم لايعرفون ان العراق قادرعلى خلق الفرح الحقيقى من رفات الحزن العميق. فرح اصيل لايوجد الا بين جدران بيوت العرقيين. الا بين اضلاع ابناء وبنات الرافدين الاصلاء.
اتذكر تربة العراق وطينه. حضاراته الاولى كانت ترابية طينية طمست عوالمها، وشواهدها بعكس الكثير من الحضارات الحجرية، لكن هذا التراب انعجن مع الروح العراقية، مع الجسد العراقي، مع الدم العراقي. تغلغل في الفكر العراقي فتجلى بصورة الشعر، والرسم، والنحت، والموسيقى، والغناء، والخط، والمعمار، والمسرح، والتحدي، والنضال، والاصرار. التراب اكثر متعة، واكثر وضوحا لانه في الفن والادب كلما تتضح الصورة تهبط القيمة، ويسف المعنى، وقتامة الواقع العراقي اكثر اصالة من وضوح الاخرين وترابه اكثر تعبيرا من احجارهم، وصخرهم، وذهبهم. حتى الحزن، والمحنة، واللوعة، والالم، غامض في العراق، ولا احد يدرك اسبابه، ومعانيه، وصور معضلته، وحلول مشاكله. بسبب لونه الترابي الغامض المعتم نمت الاحجية الغير قابلة للحل السهل، وسيقى ايضا عصيا على الغرباء وعلى الترويض.
العراق فسيفساء مثل الكثير من بلدان، ومناطق، ومدن، وموانئ، وجغرافية، وديموغرافية العالم. لكن فسيفساء العراق متميزة، وخالدة، ومتأصلة، ومتجذرة، غائرة في تربته، وبطعم خاص، لان العراق بتراثه، وثرائه، وموقعه، وخصوصيته، وتنوعه، وتعدده، وتفرده جعله مطمع الجميع قديما وحديثا. يندر ان تجد قوى عظمى، او صغرى، قريبه، او بعيدة لم تطمع بالعراق، او تغزوه، او تحتله، اوتتأمرعليه حتى من اقرب الجيران، والاهل، والاخوان. الغريب ان بقايا هذه الشعوب الغريبة تتعرق اذا بقيت فيه. تتأصل، وتتجذر، وتنغرس عميقا، وتتباهى اكثر من العراقيين بعراقيتها. وكأن عبق الطليع، وعطر الياسمين، وماء الفراتين، وهواء الصحراء، وسنابل القمح، ورطوبة الاهوار يمنحهم انسجاما روحيا مع اهل البلد، وارضه، وتقاليده، وعاداته. تتعانق انفاسهم مع عبق الرازقي، وريحة العنبر، وشواء الاسماك، وفوح البرتقال. الارمن الذين هربوا من مجازر الابادة الجماعية العثمانية، وقبلهم اليهود الذي جاؤا مع السبي البابلي، والفرس، والبلوش، والهنود، والباكستانيين، والافغان، والفيلية، والاتراك، والقوقاز، وغيرهم، وغيرهم جاؤا ليعملوا، او يدرسوا، او لاسباب دينية، او تجارية، او اجتماعية، او سياسية، او حتى جنودا مع قوات محتلة لكنهم انصهروا في بوتقة التسامح العراقية. يهود يرفضون الهجرة، او التهجير الى اسرائيل، ولا يرضون الا ان يسمون عراقيين، حتى وهم في اسرائيل. كلدان، واشور، وسريان يقدمون انفسهم كعراقيين وهم مولودين ابا عن جد احيانا في امريكا، او كندا، او استراليا. اتذكر امرأة ارمنية عجوز رحل ابنائها الى معظم ارجاء العالم، ورغم التوسلات تقول: "لا اريد ان ادفن الا بارض العراق".
من اين جاءنا هؤلاء الاوباش الذين يحكموننا الان باسم الطائفة؟
لا اصدق انهم عراقيين!!
رزاق عبود



#رزاق_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اسلحة الدمار الشامل في البيت العراقي!
- العباس ورئيس(أمير) جامعة البصرة!
- بدعة استفتاء برزانستان!
- اثر النزاعات المسلحة على المرأة! هل تكفي مقالات التضامن لانص ...
- من صولة -الفرسان- الى صولة الخصيان، الحشاشون الملثمون يحمون ...
- حوار حول شخصية -النبي- محمد وصحة نبوته وقرآنه!
- اختطاف افراح شوقي حرب مفتوحة ضد حرية الكلمة!
- فيديل كاسترو بين التمجيد والانتقاد!
- اردوغان(هتلرخان) على طريق صدام المحتوم!
- اياد علاوي يعود لمزاولة مهام قندرته!
- اطفال المزابل في بلاد الاسلاميين الثرية!
- ليس دفاعا عن وزير النقل كاظم فنجان الحمامي ولكن...!
- أهلي
- اضغاث الماضي العراقي!
- احبتنا الاكراد: لاتنخدعوا بالشعارات القومية!
- ابو كفاح
- مناشير الشعر..... الى زهير الدجيلي!
- ايام مظفر النواب
- متى يثور الشعب في المملكة الوهابية الصهيونية؟!
- العراق، والمرجعية، وثورة الاصلاح في خطر!


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رزاق عبود - الغربة اللعينة والذكرى الأليمة!*