أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نادية خلوف - النّزل















المزيد.....


النّزل


نادية خلوف
(Nadia Khaloof)


الحوار المتمدن-العدد: 5740 - 2017 / 12 / 28 - 15:33
المحور: الادب والفن
    



قصة ل غي دي موباسان
ترجمها عن الإنكليزية: نادية خلوف
يشبه في منظره جميع الخانات " الهستولات " الخشبية الموجودة في جبال الألب العالية، والتي تستقرُّ عند سفح الجبال الجليدية في الممرات الصخرية الجرداء، والتي تتقاطع مع قمم هذه الجبال. نزل" تشاورن باش´ يقدم خدماته كمكانٍ لاستراحة المسافرين عبر ممر جيمني .
يبقى النزل مفتوحاً لستة أشهرٍ في العام . تسكنُ فيه عائلة "جان هاورز "، وحالما ينزل الثلجُ ويملأ الوادي، وتصبح الطرق السفلية غير سالكة إلى لوتش. يذهب الأبُ وأبناؤه الثلاثة ، ويترك النزل بعهدة الدليل المسن :غاسبار هاري ،والدليل الشاب أولريش كوني ، وسام الكلب الجبلي الكبير .
بقي الرجلان والكلب في سجنهم الثلجي حتى الربيع ، ولا شيء يرونه غير المنحدرات البيضاء الهائلة "لبالماهورن "محاطة بالأضواء . لامعة مدفونة بالثلج الذي يغلفها ويرتفع حولها، ويغلق الرابط بالبيت الصغير الذي يقع على ذلك السطح المكدس بالثلج. والذي يغطي الشبابيك ، ويغلق الباب .
إنه اليوم الذي آن به للعائلة أن تعود فيه إلى لوشو، بينما كان الشتاء يقترب، والمنحدرات تصبح أكثر خطورة , ثلاثة بغال كانت مستعدة لحمل حقائب الأمتعة ، يقودهم ثلاثة أخوة . امتطت جين هاوزر وابنتها لويز البغل الرابع عندئذٍ . انطلقوا يتبعهم الأب برفقة الرجلين المسؤولين الذين كانوا يرشدون العائلة. في البدء مروا من قرب بحيرة صغيرة كانت متجمدة عند أسفل الصخور الممتدة أمام النزل . ثم اتبعوا الوادي المغطى من كل جوانبه بكتل كبيرة من الثلج .
شعاعٌ من ضوء الشمس . وقع على البياض مضيئاً للصحراء المتجمدة وجعلها تلمع مع البرد ، واللهب المبهر للشمس. لم يبدُ أنّ هناكَ حياة في ذلك المحيط من الجبال، ولا يمكن الوصول إلى رأي يقالُ في تلك العزلة الرهيبة حيث لا ضجيج يخترق ذلك الصمت العميق .

2
ترك المرشد الشاب أولرش كنسي الرجل المسن هارو والكلب كاسبار خلفه، كي يلحق بالبغل الذي يقلّ المرأتين نظرت إليه الصغرى حالما اقترب، بدت كأنها تحدثه بعينيها الحزينتين. هي شّابه لها شعر متوسط الطول . تبدو ملامحها صغيرة ، وخدودها كالحليب الأبيض، وشعرها الأشقر بدا كما لو أنه فقد لونه خلال السكن في البيوت وسط الجليد. عندما أمسك بالبغل الذي كانت تركبه ووضع يده على اللجام . خفّف َمن سرعة البغل . بدأت الأم هاوزر تتحدّث إليه معدّدة أدّق التّفاصيل لما يجب أن يحضره من أجل الشتاء. إنّها المرة الأولى التي يذهب بها للاستقرار هناك ، بينما قضى هاري المسن أربعة عشر شتاء وسط الثلوج في نزل سوارنباش.
استمع أوليرش دون اهتمام واستيعاب للأم . كان ينظرُ باستمرار إلى الفتاة ويجيب بين الفينة والأخرى : نعم سيدة هاوزر. لكنّ تفكيره كان بعيداً عنها ، بدت ملامحه غير متأثرة بما تقوله . وصلوا إلى بحيرة داب الواسعة المتجمدة السطح والتي تمتدّ إلى نهاية الوادي . على اليمين رأى أحدهم بقعة سوداء . قمة صخرية من داون هورن . الكتل الجلدية من الجبل الجليدي والتي ترتفع حتى وايلد سترويل . عندما اقتربوا من ممر جيمي حيث بدأ يظهر أول "لوشو" . فجأة رأوا قمم جبال الغرب في" فاليه" حيث بدا يلوحُ لهم الأفق في واد عميق. هو وادي الرون الذي يفصلهما في تلك المساحة حيث المجموعات غير المتجانسة من البياض . إما مسطحة ، أو في قمم الجبال التي تلمع في الشمس مع قمتين ومجموعة ضخمة" لوستورهوبرون كهام" الضخمة الثقيلة . وهرم جبل "سيرفن" قاتل الرجال و"دنت بلانش الرهيبة " تحتهم في حفرة في قاع الهاوية الرائعة. يعتقدون أنها لوشو . حيث تبدو المنازل كحبّات الرمل التي ألقيت في ذلك الكهف الذي ينتهي ويغلق عند ممر جيمي، والذي يفتح من الأسفل على نهر الرون

3
توقّف البغل عند طرفِ الممر حيثُ الرياح تتجدد باستمرار، ثمّ انطلق بشكلٍ مدهش وغريب مختفياً ولم يبق إلا آثار قدميه. قفزت المرأة على الثلج ،شاركها الرجلان المسنّان . قالَ الأب هاوزر :
حسناً. احتفظا بمعنوياتكما. مع السلامة .
إلى العام المقبل يا أصدقائي .
أجاب هاري : حتى العام المقبل.
عانقوا بعضهم بعضاً، قدّمت السيدة هاوزر خدّها ، وفعلت الفتاة مثلها . وعندما استدار ألرتش كونسي . همس في أذن ليزا : لا تنسي هذا هناك . أجابت بصوت منخفض دون أن يسمعها أحد : لا . الوداع .
أجابت جين هاوزر . انتبهوا على صحتكم ، وذهبا قبل السيدتين، وفي الحال اختفى الثلاثة عند المنعطف الأول. عاد الرجلان إلى النزل في سشواربسي . ساروا جنباً إلى جنب ببطء . دون أن يتحدثوا كثيراً. يرغبون في البقاء مع بعضهمم البعض لأربعة أو خمسة أشهر . بدأ كاسبر يعيدُ ذكرياته للشتاء الأخير حيث بقي مع "مايكل كانت" التي هي اليوم عاجزة عن مساعدته بسبب حادث ما قد يكون ألمّ بها في تلك العزل ، ومع ذلك لم يشعروا بالملل ، والعمل الوحيد للعناية بالعقل أولاً وأخيراً هي إيجاد الألعاب، وكل الأشياء التي تدع الوقت يمر. استمع أوريتش كنسي وعينيه تنظرُ إلى الأرض وهو يفكّر أنه لو يستطيع أن يتبع هؤلاء الذاهبين إلى القرية. كانوا قربَ النزل الذي كان بالكاد يمكن رؤيته. يبدو صغيراً كبقعة سوداء على قمة من الثلجتحته. فتح سام الباب ، وبدأ الكلب الكبير الأجعد الشعر يدور حولهم . قال كازبار العجوز: تعال يا بني . ليس لدينا الآن نساء . اذهب وقشر البطاطا. جلس الاثنان على مقاعد خشبية وبدءا بتحضير الحساء.
"4"
بدا الصباحُ التالي طويلاً بالنسبة إلى كنسي . كان الرجل العجوز قد دخّن وبصق على الموقد، بينما الشّابُ ينظرُ من النافذة إلى الجبال المغطاةِ بالثلوجِ مقابل النزل، وخرج إلى نفس المكان الذي خرج إليه البارحة في فترة بعد الظهر. ونظرَ إلى آثار البغلِ الذي حمل المرأتين ، عندما وصل إلى ممّر جيمي استلقى على بطنه ونظرَ إلى قرية لوشو التي كانت في حفرة رمادية لم تدفن تحتَ الثلوج بعد ،لأنها محمية بغاباتِ الصنوبر من جميع أطرافها، وبدت البيوتُ المنخفضة تشبهُ حجارة مرصوفةٍ في برجٍ كبير.تساءلَ : في أيّ منزلٍ من تلك المنازلِ الرمادية ستكون ابنة هاوزر؟
لم يكن أولرش قادراً على التفرقة بينهم عندما كان يذهب إلى الأسفل عندما يكون قادراً على فعل ذلك .، لكنّ الشمس اختفت خلف القمة، وعاد الشاب إلى النزل. كان بابا هاري يدخن سيجارة عندما رأى شريكه قادماً اقترح عليه أن يلعبا الورق. جلسا مقابل بعضهما البعض إلى الطاولة، ولعبا لوقت طويل لعبة بسيطة ، ثم تناولا العشاء وانصرفا إلى أسرّتهما.
كانت الأيام التالية مشابهة. لامعة وباردة دون ثلوج جديدة . قضى كاسبارد وقته بعد الظهر في مشاهدة النسور والطيور النادرة التي غامرت في المجيء إلى المرتفعات المتجمدة ، بينما عاد أولريش لزيارة ممر جيمي لينظر إلى القرية. كانا يلعبان النرد والورق والدمينو . يربحان ويخسران . وتكون المعركة فقط لخلق البهجة.
استيقظ هاري في إحدى المرات دعا رفيقه لمشاهدة السحابة الكبيرة التي تتحرك وينزلُ منها رذاذ أبيض. كان الجو بارداً لدرجة أنّهم بقوا في أسرّتهم ملتحفين بغطاء ثقيل. استمرّ الوضع هكذا أربعة أيام وأربعة ليالي وكان يجب من أجل تحرير الباب والنافذة أن يتمّ تنظيف الممر كي يكون هناك مكان للخطوات يمكن المرور منها بسبب رذاذ الثلج الذي صنع في إثنى عشرة ساعة صقيعاً متجمدأ يشبه الكرانيت.



5
عاشوا جميعاً كالسجناء ، ولا يقومون بأي عملٍ خارج مكان إقامتهم . كما أنهم قسموا واجباتهم التي يقومون بها بشكل روتيني ، أخذ أولريش كنسي على عاتقه الغسيل، وكل ما يمتُّ بصلة للنظافة، كما أنّه يقطّع الحطب ، بينما كاسبارد هاري يطبخ وينتبه إلى النار. تتوقفُ أعمالهم المعتادة قبل المباراة الطويلة بالنرد أو الورق . هم لا يتشاجرون أبداً وكانوا دائماً هادئي الملامح. لا يشعرون أنهم صابرون أو أنهم يعاملون بشكل سيء. وضعوا الكلمات القاسية في مخزن الصبر. هم لا يستعملونها فقط من أجل قضاء الشتاء على قمة الجبل. يأخذُ كاسبار العجوز بندقيته ويذهب خلفَ الغزلان ذات الفراء الشاموا. أحيانا يقتل أحدها وتكون عندئذٍ وليمة في النزل. يتناولون فيه اللحم الطازج . في أحد الأيام كان ميزان الحرارة أعطى ثمانية عشر تحت درجة تحت الصف. لم تكن الشمستظهر، وتمنّى الصياد أن يفاجئ الحيوانات قرب أبرشية وايد ستروب. بقي أولريش وحيداً . ظلّ في فراشه . حتى الساعة العاشرة وكان هو من الناس الذين يميلون إلى النوم ، لكنّه لم يتجرأ على التجاوب مع ميله بسبب خبرته القديمة في هذا الموضوع . حيث لم يستيقظ أبداً مبكراً
تناول الإفطار مع سام الذي كان يمضي أوقات الليل في النوم أمام التلفاز . وشعر بانخفاض معنوياته حتى بدا أنه خائف من العزلة ، وجهزّ نفسه للعبة اليومية التي يمارسها لوقت طويل ."لعبة الورق " التي بدا أنه يحنّ لتأكيد اللعب بها وخرج للقاء شريكه الذي سيعود في الرابعة .
كان الثلج قد غمرَ الوادي العميق ، وملأ القمم العالية ببياض هائلٍ مبهر وسطوح متجمدة . لمدّة ثلاثة أسابيع لم يكن أولريش على حافة الهاوية التي رآها في القرية. أراد الذهاب إلى هناك . قبل أن يتسلق المنحدرات التي تقود إلى وايلد ستربل. لوشو أيضاً الآن مغطاة بالثلوج ، والمنازل بالكاد يمكن تمييزها . لبست عباءة بيضاء كما يقولون.

6
عندئذ تحوّل إلى اليمين، ووصل إلى النهر الجليدي. مضى بخطوات متسلق الجبال الطويلة . ومعه عصاه الحديدية يضرب الثلج الذي كان كالصخرة نظر إلى بقعة السواد التي كانت تتحرك ضمن مساحة على الامتداد الأبيض الكبير بعينين متمعنتين ، عندما وصل إلى نهاية الجبل الجليدي توقف ، وسأل نفسه: إذا ما كان الرجل العجوز قد سلك هذا الطريق، ثم بدأ يمشي على طول ذلك الركام بخطوات طويلة متعثرة بدأ النهار يتلاشى وبدا الثلج بلون وردي والرياح الجافة الباردة تتدفق عبر الرياح العادية على السطح الكريستالي . كان أولرش خائفاً ومتوتراً . كلماته ترتجف. انطلق صوته حيثُ تنام الجبال خلال الصمت الذي كان يشبه صمت القبور ، وصل الصوتُ عبر المسافة عبر موجات عميقة من الرغوة الجليدية تشبه صرخة طائر عبر أمواج البحر مات بعيداَ دون أن يجيبه أحد.
بدأ يمشي ثانية، وكانت الشمس قد اختفت وراء قمم الجبال وما زال منها لون ارجواني ينعكس من السماء ، لكنّ أعماق الوادي بدت رمادية . فجأة شعر الشاب بالخوف، بدا له كما لو أن الصمت ، البرد .،العزلة ، وهذا الموت للجبال في الشتاء يحاصرونه، وفي طريقهم لجعل دمه يتجمد وأطرافه تتخشب ومن ثم يتحول إلى كائن بلا حراك. توقف عن الركض فاراً باتجاه مسكنه. فكّر أن الرجل المسن قد عاد في غيابه. أخذ طريقاً آخر ، فهو لم يشكّ بأنّه سيراه جالساً مقابل النار مع جوربي الشاموا في قدميه . أسرع أولرتش في مشيته ، وفتح باب النزل . أتى سام إليه ليحييه . لم يكن كاسبارد هاري قد عاد. تنبّه كنسي واستدار فجأة كما لو توقع أن يرى العسكري مختبئاً في الزاوية . جدد عندئذ إشعال النار . أعدَّ الحساء متمنياً في كل لحظة أن يرى الرجل المسن داخلاً. كانت ليلة هادئة.هو غاضبٌ الآن من الجبال التي أضيئت بقمر هلال أصفر مختبئ تماماً خلف قمم الجبال .


7

ذهب الشاب إلى الأسفل، وجلس لتدفئة يديه وقدميه. كان يتخيّلُ كلّ الحوادث الممكنة. أن يكون كاسبرد قد قام بخطوة خاطئة أوقعت رجله في صدع وكسرتها، أو خلعت كاحله. ربما هو ملقى على الثلج وقد تيبس جسده بعد أن ضاعت عليه فرصة التغلب على البرد . كان هذا العتاب يمرّ في ذهنه ويتخيله، وهو أنه قد يكون ربما يصرخ بكل ما أوتي من قوة في هذا الليل المظلم من أجل المساعدة، ولما كان الجبل كبيراً جداً، وعراً جداً، أماكنه خطرة ، وبخاصة في مثل هذا الوقت من العام . ويحتاج ربما لعشرة أو عشرين دليلاً يمشون لأسبوع في جميع الاتجاهات ليعثرون على رجل ضمن هذه المساحة. اتخذ أولريش غيس قراره كي يخرج مع سام إن لم يعد كاسبرد حتى الواحدة صباحاً. عمل استعداداته. وضع في كيس مؤونة لمدة يومين . أخذ معه أدوات التسلق الحديدية التي تثبت بقطعة رقيقة وحبل قوي على خصره . أراد أن يرى عصاه الحديدية والفأس التي تساعد في حفر الخطوات ضمن الجليد. هو الآن على أهبة الاستعداد. انتظر كانت النار مشتعلة في الموقد والكلب الكبير يشخر أمامه وعقارب الساعة تضرب كما يضرب القلب مدوية قائلة له : انتظر . كانت أذناه تسترق السمع للأصوات البعيدة ، عندما هبت الريح على السقف والجدران وبقي الصراع معها حتى الثانية عشر كان خائفاً ومرتجفاً . وضع بعض الماء في وعاء فوق النار وهذا يعني أنه سيتناول بعض القهوة قبل الاستعداد، وعندما تدق الساعة الواحدة سيذهب. استيقظ سام . فتح الباب وذهب في اتجاه وايلد ستروبل . تسلق الجبل لمدة خمسة ساعات بواسطة أدوات تسلقه الحديدية مزيلاً الجليد، متقدماً باستمرار. وأحيانا يعود إلى الكلب الذي بقي عند السفح المنحدر الحاد جدا، وعن طريق الحبل استطاع الوصول إلى القمة التي يأتي إليها كاسبرد عادة مطارداً الشاموا . استطاع أن يصل إلى القمة في السادسة صباحاً وانتظر إلى أن يظهر ضوء النهار .

8
كانت السماء تزدادُ في الأعلى تبدو باهتة باستمرار ، مع ظهور ضوء غريب لا أحد يستطيع التكهن من أين مصدره .. أضيء محيط قمم الجبال التي تمتد لمئات الأقدام فجأة. قال أحدهم :أن هذا السطوع الغامض برز من الثلج نفسه، وانتشر في الفضاء تدريجياً، ويبدو يثير الدهشة في القمم البعيدة. ظهر اللون الأحمر والوردي والشمس الحمراء من خلف جبال الألب العملاقة في بيرل .
جلس أوليرش كنسي من جديد. مشى كالصياد، انحنى، نظر إلى المسارات ، وقال لكلبه : هيا ابحثْ عن الرجل العجوز ، أوجده .
هو ينزلُ من الجبل الآن. ينظرُ في الأعماق عن كث، ومن وقت لآخر يصرخ بصوت عال ، ثم يبكي لفترة طويلة ، ويختفي كل شيء في هذا المتسع الصامت . عندئذ وضع أذنه على الأرض كي يسمع . اعتقد أنه سيميّز الصوت، ثم بدأ يركض ويصرخ، ويجلس ثانية . هدّه اليأس وفي منتصف النهار تناول طعام الإفطار وأعطى لسام الذي كان متعباً مثله شيئاً ما ليأكله، ثم استأنف عملية البحث. وعندما أتى المساء كان لا يزال يمشي . مشى أكثر من ثلاثين ميلاً على الجبال. وكان منزله بعيداً جداً كي يعود إليه ، وهو متعب لدرجة أنه لا يمكنه جرّ نفسه أكثر. حفر حفرة في الثلج . قبعَ فيها هو وكلبه تحت البطانية التي جلبها معه ، واستلقى الرجل والكلب بجانب بعضهما كي يدفآ، مع ذلك وصل الجليد إلى دماغه وبالكاد نام . كانت دماغ أولرتش مملوءة بالتصورات، وأطرافه ترتجف من البرد . قارب اليوم على نهايته. عندما نهض كانت ساقاه يابستان كقضبان الحديد ومعنوياته منخفضة لدرجة أنه يستطيع البكاء والعويل .
بينما قلبه يدق لدرجة أنه اعتقدَ أنّه يقعُ منه بشكل مثير . عندما اعتقد أنه سمع صوتاً .
تخيّلَ فجأة أنه سيموت من البرد في وسط هذه العزلة . فنشأت لديه طاقة زودته بقوة جديدة ، ونزل جهة النزل يترنح يغمض أحيانا عينيه متبعاً طريق سام الذي كان يعر،ولم يعثروا على الرجل حتى الساعة الرابعة بعدد الظهر. كان البيت خالياً . أشعل الفتى النار . أكل شيئا ما ، ولبس ثم ذهب إلى النوم وكأنه لا يفكر بأي شيء آخر .

9

نام لفترة طويلة. لفترة طويلة جداً، لم يستطع مقاومة النوم ، لكنه فجأة سمع صوتاً يصرخ باسمه. أيقظه من سباته العميق وجعله يجلس في سريره . قد يكون يحلم . هل يمكن أن تكون واحدة من تلك النداءات الغريبة التي تصل إلى عقل مشوش ؟ كلا . لازال يسمعُها. هي تلك الصرخة المدوية التي اخترقت أذنيه ، ولا زالت في ذاكرته يلمسها بيديه . بالتأكيد أن أحدهم صرخ أولرتش . هناك شخص ما قرب المنزل . لاشك بذلك. فتح الباب وصرخ بكل ما أوتي من قوة : هل أنت كاسبارد ؟ لم يكن هناك أي رد ، أي تأوه. لاشيء كان كل شيء مظلم تماماً عدا الثلج .
كانت الرياح الجليدية قد بدأت. تلك الرياح التي تشقق الصخر وتقضي على كل شيء حي في تلك المرتفعات المهجورة. أتت رياح مفاجئة أكثر شدة ، وأكثر قسوة من رياح الصحراء الحارقة. صرخ أولرتش . كاسبارد . كاسبارد. كاسبارد. انتظر ثانية. سكون في كل شيء على الجبال . ارتجف عندئذ من الخوف وانحنى فأصبح داخل النزل عندما أغلق الباب ارتمى على الكرسي مرتجفاً . كان متأكداً أن رفيقه قد نادا . في نفس اللحظة السابقة كان متأكداً من الأمر، كتأكده أنه على قيد الحياة ويأكل الخبز. قد يجوز أن يكون العجوز كاسبارد ميتاً من يومين وثلاثة ليال في مكان ما؟ في حفرة ما، في أحد تلك الوديان العميقة حيث أن البياض المبهر أشد خطراً من الظلام الدامس . قد يكون مات منذ يومين وليلة ، أو للتوّ وأن روحه قبل أن تصعد مرّت كضوء في المنزل حيث كان أولرتش ينام، وقد تكون نادته بهذا الغموض والقوة التي تصدر من الأرواح التي تطارد الأحياء. صرخت الروح الساكنة لتلامس روح النائم قد تكون تلفظت بالوداع الأخير، أو حلّت لعنتها وملامتها على الشخص الذي لم يبحث عنها كفاية .

10

شعر أولرتش أنّه هناك. قربه. خلف الحائط . خلف الباب الذي أغلقه للتو . كأنه طائر الليل يتحوّل ليلمس نافذة مضيئة بجناحيه بخفة. الشاب المرعوب على أهبة الاستعداد للصراخ . أراد أن يهرب من الرعب . لكنه لم يجرؤ على الهروب . لم يجرؤ . ولن يتجرأ أن يفعل ذلك في المستقبل . لأن هذا الشبح سوف يبقى هناك ليلاً ونهاراً حول النزل طالما لم يعثر على جثة الرجل العجوز ولم تطمر في التراب من قبل الكنيسة . عندما ظهر نور الصباح . استعاد كنسي بعضاً من شجاعته . بعد أن عاد ضوء الشمس للظهور . أعدّ وجبته . أعطى لكلبه بعض الطعام ، عندئذ جلس بلا حراك على الكرسي . معذب القلب . كلما فكر أن الرجل المسن ملقى على الثلج . عندئذ يحلّ به رعب جديد ؟عندما يعود الليل يغطي الجبال، هو الآن يسير جيئة وذهاباً في المطبخ المظلم الذي أضيء بالكاد بشمعة واحدة . يتنقل بخطوات واسعة مستمعاً للصوت الرهيب الآت من ليلة أخرى إذا ما كان سيكسر الصمت في الخارج، شعر بنفسه وحيداً، وغير سعيد ، وكأنّ أحداً قبله لم يبق وحيدا هو وحيد في هذه الصحراء الكبيرة من الثلج ، وحيد على ارتفاع خمسية آلاف قدم فوق سطح الأرض الغير مأهولة، وفوق مساكن البشر، وفوق الضجة والحياة المثيرة ، وحيداً تحت سماء جليدية . جنون وشوق للهرب، ليس مهماً إلى أين . بل ليرتمي على لوشي ويرمي بنفسه إلى الهاوية، لكنه لم يجرؤ على فتح الباب. أيقن أن الرجل الآخر ميتٌ .يشق طريقه عبر الشارع لذا ربما لا يكون مضطراً للبقاء وحيدا في منتصف الليل . متعب من المشي . ممزق من الحزن والخوف ، وفي النهاية يشعر بالنعاس وهو جالسٌ في كرسيه لأنه كان خائفاً في فراشه ، كما لو كان يسكن في بقعة، لكن صرخة حادة اخترقت أذنيه فجأة . كانت قوية لدرجة أنّ أولرتش فتح ذراعيه لإبعاد الشبح وسقط مع الكرسي إلى الخلف .


11
بدأ سام الذي أيقظته الضجة يعوي كالكلاب الخائفة، وبدأ يمشي في منزله محاولاً أن يجد من أين يأتي الخطر. عندما وصل إلى الباب . كانت تنبعثُ رائحة قوية مع معطف مرمي ، وبينما كان غاضباً قفز كنسي وهو مرعوب وبقيت رجلاً واحدة على الكرسي . وصرخ : لا تدخل. لا تدخل ، وإلا قتلتك.نبح الكلب بغضب . كان متحمساً للتهديد على العدو غير المرئي الذي فاق على صوت سيده ومع ذلك عاد وتمدّد أمام النار .أبقى رأسه مرتفعاً .كان غير مستقر ، وبقي أمام النار وأسنانه تصطك. استعاد أولرش وعيه بعد أن أغمي عليه بسبب الخوف .ذهب وجلب زجاجة براندي من الخزانة شرب عدة كؤوس . واحدة تلو الأخرى وبعدها أصبحت أفكاره تتحكم بشجاعته التي استعادها عندما سرى الدم في عروقه ، وفي اليوم التالي أكل شيئاً ما وبمجرّد أن فكّر بكاسبرد هاري بدأ في تناول الشراب إلى أن ثمل وسقط على الأرض. تغلب عليه السكر ، وظل ملقياً على وجهه أطرافه مخدرة . يشخر بصوت عالي وكأنها سكرة الموت . فهو نادراً مال تناول الخمور بهذا الجنون ، وحرق النفس بالخم. استيقظ وكأن رصاصة اخترقت رأسه . نهض مترنحاً اعتمد على يديه ليمنع نفسه من السقوط . ذهب الكلب الذي بدا مجنوناً كسيده إلى الباب، وأمسكه بمخالبه البيضاء بينما كان رأس الشاب لازال البراندي كما لو كان ماء بارداً .أفكاره وخوفه وذاكرته ترسله بالتدريج إلى النوم ثانية .


12
في الأسابيع الثلاثة كان قد استهلك كل ما خزّنه من المشروبات الروحية، لكن السكر لم يقدّم له سوى الهلع ، والذي بد أكثر حدة من أي وقت مضى . كان من المستحيل بالنسبة له التوصل إلى الهدوء وفكرته الثابته عن الأمور والتي كانت تزيد قبل شهر من بدء تعوده على شرب الكحول، والتي كانت تزيد من عزلته ، وفعلت فعلها به. هو الآن يسير في البيت كوحش بري في القفص . واضعاً أذنه على الباب ليستمع . إن كان هناك آخر خلف الباب يتحدّاه عبر الجدار . وعند ذلك وفور سيطرة النعاس عليه . يسمع ذلك الصوت الذي يجعله يهبّ واقفاً على قدميه
في الليلة السابقة . فعل كما يفعل المتهورون عندما يقودون بسرعة . قفزَ وذهب إلى الباب. فتحه ليرى من كان يدعوه . أراد أن يرغمه على الهدوء. فقط شبح الريح الباردة صدم وجهه وأبردته حتى العظم . أغلق الباب ثم أقفله على الفور دون ملاحظة سام وهو يسرع وبينما كان يرتجف من البرد . وضع بعض الخشب في النار وجلس مقابلها ليدفأ نفسه لكن فجأة بدا وكأنّ شخصاً ما يخربش بأظافره على الجدار ويبكي من اليأس . يصرخ به: اذهب بعيدا . الجواب مؤسف ،محزن . عندئذ تخلى عن كل مشاعره المتبقية فقط من الخوف أعاد الكلام : اذهب بعيداً استدار كي يجد زاوية يختبئ فيها بينما الآخر مازال حول المنزل يبكي ويخربش على الجدار . توجه أولرتش إلى البوفيه المليئة بالأطباق والصحون والمغلقة بإحكام وبقوة إنسان خارق رفعها بقوة ودفعها باتجاه الباب كي تصبح متراساً كما سحب إلى قربها كل الأثاث والفرش والكراسي ، ثم وقف يراقب الأحداث من النافذة كأي شخص يهاجمه عدو لكن الشخص الذي في الخارج قالها الآن : آهات طويلة . مؤلمة كئيبة ورد عليها الشاب بآهات مماثلة مرت الأيام والليالي دون التوقف عن العواء كلّ واحد للآخر كان أحدهم في الخارج . يخربش على الجدار بأظافره بنشاط شديد كما لو كان يرغب بتدمير الجدران ،بينما الآخر في الداخل يرصد كل تحركاته ويجيب على نداءاته بصرخات خائفة ،في مساء أحد الأيام لم يستمر أولرش، شعر بالتعب ذهب إلى النوم على الفور ، واستيقظ في الصباح دون أن يفكر بشيء تماماً كما لو أنه أفرغ رأسه خلال النوم العميق . شعر بالجوع . فأكل .

13
انتهى الشتاء وبدأ ممر جيمي بالعمل ثانية . وبالتالي بدأت عائلة هاوزر تستعدُّ للعودة للنزل ، وحالما وصلوا إلى القمة. امتطت النساء البغال ، وتحدّثوا حول الرجلين اللذين سيجتمعون بهما ثانية .كانوا في الحقيقة متفاجئين أن أحداً منهم لم يظهر في الأيام السابقة، وحالما افتتح الطريق من أجل أن يخبرهم أحد ما حول كل شيء عن الشتاء الذي قضوه . على أية حال رؤوا النزل في النهاية ، لازال مغطى بالثلج مثل لحاف ، النافذة والباب مغلقان. القليل من الدخان يخرج من المدخنة وهذا ما طمأن العجوز هاوزر عندما صعد إلى الباب، لكنّه رأى هيكلاً عظمياً لحيوان ممزق إلى أشلاء من قبل النسور وهيكل عظمي آخر كبير ملقى إلى جانبه . نظرَ الجميع إليه بتمعّن قالت الأم " يجب أن يكون سام " عندئذ صرخت مرحبا كاسبار . أتت صرخة من المنزل كإجابة حادة كما لو كان حيواناً قد تلفّظ بها . كرّر هاوزر : مرحبا كاسباؤرد . سمعوا صرخة مشابهة للصرخة الأولى عندئذ حاول الأب وابناه فتح الباب لكنهما لم يفلحا، ومن الحظيرة الفارغة ضمن خلال شعاع ألقى إلى الباب بكل قوته . سقطَ الخشب ، ووقعت الرفوف وتكسرت عندئذ اهتز المنزل بصوت عال ورأوا رجلا وراء اللوحة المقلوبة شعره يتدلى على كتفيه ، ولحيته تنزل إلى صدره عيناه تبرقان. لباسه من خرق . لم يتذكروه ، لكن لويس هاوزر صاح : إنّه أولرش يا أمي تأكدت والدته أنه أولرش . كان شعره قد ابيض . سمح لهم بالذهاب إليه ولمسه، لكنه لم يرد على أسئلتهم ، واضطروا إلى نقله إلى لوشو. وجده الأطباء مجنوناً ولا أحد أبداً يعرف ماجرى لشريكه لويس هاوزر. مات تقريباً في الصيف التالي حيث عزا الأطباء السبب إلى هواء الجبال البارد .



#نادية_خلوف (هاشتاغ)       Nadia_Khaloof#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ولدن وفي أيديهن مكنسة
- هويات نفتقدها
- حان الوقت كي نضع نهاية لتقديس عيد الميلاد مرة واحدة وإلى الأ ...
- عندما عرفت حلب عن قرب
- الأشياء التي تلمع
- الحبّ في قصص الحبّ
- سهرة مع الذّكريات
- بيع الجسد، أم بيع العقل
- حكاية قلب حزين
- الرّجل الذي حاز على كراهية العالم
- كان وطني نخلة
- الحقيقة أغرب من المنام
- لم تصل مي تو إلى هنا
- من أجل سلامتي
- هادي فريد: راجع ضميرك - وقم بإضاءة شمعة ضد معاداة اليهودية
- من أنا يازمن؟
- سلام رجل
- مترجم لغات. . .يجيد ترجمة لغة الكلاب
- محاصرة في جبل الكريستال
- الانتهازية من بين قيمنا المجتمعيّة


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نادية خلوف - النّزل