أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد العالي زغيلط - البنّاء في عين الفوّارة















المزيد.....


البنّاء في عين الفوّارة


عبد العالي زغيلط

الحوار المتمدن-العدد: 5734 - 2017 / 12 / 21 - 18:08
المحور: الادب والفن
    


بنّاء في عين الفوّارة

أنتم لا تعرفون معنى أن يكون المرء بنّاء عند مقاول حديث عهد بالنعمة.. لا تعرفون معنى أن تعمل عتّالا؛ تحمل أكياس الإسمنت إلى الطابق الرابع، وتملأ براميل الماء،وتحضّر الملاط،وفي المساء تنتظر في محطة المسافرين وتزاحم لأجل العودة إلى كوخ..بنَّاء ويسكن الكوخ..أي نعم..وجزّار ويأكل اللوبيا بالكرعين..وطبيب ولا يفارقه دواء السكّري ..هذه هي الحياة.. لا تعرفون معنى أن يكون الغذاء في كانون الثاني حبّات زيتون وقطعة جبن ميتة،ونصف خبزة باردة وملتوية كنفوس الساسة...نعم كانون الثاني وبلا كانون، بالخبز وحده لا يحيا الإنسان يا أصدقائي، بالخبز وحده يموت الإنسان كلما انحدرت إلى بطنه اللقمة الناشفة مدفوعة بلعنة ((البطرون)) صاحب شهادة "مطرود من المدرسة" ..أو يحوّل إلى الحياة العملية...
لا تعرفون أن تكون صاحب شهادة جامعية، وتنتظر من((المعلّم)) أو ((الباطرون)) أجرة آخر الشهر،وكأنها صدقة أو إحسان يجود بها عليك...أعطوا الأجير حقّه قبل أن يجف عرقه،ونحن أجرنا يأتي بعد أن يجف العرق،وماء الوجه ودم العروق...
عندما سدّت الأبواب، قصدت الرحيم التواب، ولم يكن في انتظاري غير ورشة البناء، كنت مساعدا لبنّاء حر، يشبه البنّائين الأحرار في الكتمان وخبث الطوية.. رأى في عضلاتي المفتولة رافعة لأكياس الإسمنت، وتخليط الملاط أو (البغلي...) نعم هكذا يسمى عند البنّائين غير الأحرار في وطن نفّاج،وفشوش،وزوّاخ بالباطل على العالم وفخور بأنه من نسل الأحرار،وأن الحرية عنده أغلى من كل شيء،...يا للخديعة.. المدرسة وكذبة الجرائد..ثم زادت (وان.. تو.. ثري) الطين بلّة،وزادت العلة علة..نعم! يسمّى الملاطُ (البغليَّ)، ولهذا فتفكيري بغليٌّ بامتياز، وللبغل أيها السادة خصائص قرأتها في مجلات كنت أحملها معي لأتسلى بها وقت الراحة...البغل يشبهني وأشبهه،وكلانا يشبه ساسة الجزائر في كثير من صفاته فهو: هجين وعقيم،وعنيد...
بين كوخي وورشة البناء مسيرة ساعة بالسيارة.. نثرثر في المقهى حتى نطرد الوخم، والكسل والنعاس ثم نتوجه إلى الورشة..نغيّر ألبستنا بعد تدفئتها على نار الأكياس الورقية الفارغة، والحطب الفاسد، فتلتصق بها رائحة تشبه رائحة الوطن، وتنحدر الدمعات من الأعين مثل الأوراق النقدية في حساب ((الباطرون)) ..ندفئ أيادينا على لهب النار، ونتعطّر بالدخان، ثم نغيّر ملابسنا، فيعلّق البنّاؤون المتمرّسون على أجساد بعضهم وكأنهم في الحمّام...ومنهم من يتحسس المناطق الحسّاسة لصاحبه بشكل أقرفني..وصدمني في بداية الأمر..ثم تكيفت مع الوضع بالصمت والتأمل..واللامبالاة...
ــــ شفت يا بوخشم عندو ماتريال شنيور..
ــــ واش من ماتريال؟!.. راه راقدلو...سحرتو عاصمية..من هذاك العام ما طبطبش فيها ضربة (أي سلاح عنده؟ لقد سحرته عاصمية ،ومنذ ذاك العهد لم يقرب امرأة)...
بوخشم هو (عبد التوّاب)..الكهل الأعرج، ذو الشعر الأشعث والعزوبة المستمرّة بعد تطليق ابنة عمّه.. يمازحه أصحابه (الشوانطية) البناءون الأحرار:
ــــ أشكون تقدر تتحمل الطوماهوك؟!...
عَلِق اسم الصاروخ الأمريكي في أذهان الشوانطية من يوم أباد العراقيين،ولكنني أدركت لاحقا لماذا علق هذا الاسم بالذات؛ للإسم وقع صوتي عنيف بطائه وكافه واويه ... يضحك (عبد التوّاب) من بذاءتهم..يجرّونه إلى تحدٍ أرعن:
ــــ إذا أوقعت صاحبة ((الباطرون)) فسنعفيك من العمل شهرا كاملا..ونحن نتدبّر الأمر..يتحمسون..يثرثرون ..يضحكون...ثم ننصرف إلى أعمالنا..نجترّ الصمت والأحلام التي مقدارها : كِنٌّ وكانونٌ وكاسُ طلا وكُسٌّ ناعم وكِسَا...العزاب يحلمون بالخامس والسادس (كُسّ وكسا)، والمتزوجون يفكرون في كأس دهاق،تبعد عنهم الملل والرتابة والتعب، وتبعد عنهم مطالب الزوجات والأبناء، إنهم يحلمون بـــ(كاس طلا)..فحليب الأطفال، وتدفئتهم، وتمدرسهم، وعلاجهم،ومستقبلهم كلها تلوح كوابيس من اللعنة تحتاج إلى دنان من الخمر، ومزارع من الكيف المعالج!
منتصف النهار، نجتمع في مكان واحد، نتقاسم زجاجة المشروب الغازي، الكوكاكولا، أو حموّد بوعلام، يدردشون، ويتحدثون عن دفء الجيب.. أنصت إليهم صامتا، لا أعرف كيف اندمج في حديثهم، ولكنهم يحاولون استفزازي وإخراجي من قوقعتي..
ــــ الجيب يدفا بالصّوارد يقول كبير لنا.. وأنت واش تقول يا الطَّالب؟ موجها الحديث إليّ..
ــــ لي جابو ربي مليح...هذه هي جملتي المفضلة، أسكتهم بها وأنا أتساءل: لقد خرج الأتراك منذ عهد بعيد ومع ذلك لازالت تسمية المال بلغتهم ...الصوردي...
يتبادلون النظرات فيما بينهم،كأنهم يتعجبون من زهدي.. فعلى الرغم من المهنة القاسية، مهنة تفتيت الحجر، وتجميعه ليكون سكنا لأناس لا نعرفهم،ولا يعرفوننا.. وعلى الرغم من بخل ((الباطرون)) وتماطله،وتحايله في دفع الأجور..على الرغم من الشعر الأشعث الذي لا يحلقونه، وثيابهم المتسخة ،وأحذيتهم الممزقة، ولقمتهم الباردة فهم يحلمون، يحلمون بلقمة دافئة، ومسكن واسع، وأنثى لا تنبعث منها رائحة البصل.. الإنسان جحود، ولربّه كنود.. سينمار هو جدّنا..هكذا قال لي (المختار) المدعو (المخ) اختصارا لاسمه أو لثقافته وذكاءه.. نعم! نحن من سلالة هذا البناء الأحمق الذي وثِقَ في صاحب السلطة والمال.. عرفت بعدها أن محدّثي يتقن الفرنسية، ويطالع الكتب...جدّنا سينمار لهذا لن نفلح، ولن نرى النور، ولن يتجاوز حمارنا العقبة...لقد رموا به من شاهق بعدما أنجز تحفته المعمارية (قصر الخورنق)...لا أسلاف لنا مثل ما للأطباء والمهندسين والفنّانين، جدّنا الوحيد هو سينمار..وتساءل أحدهم به شيء من صمم..أطرش في زفة بناء الدور والقصور: اشكون هذا (سي عمّار)؟
ــــ الشاف لجديد..أجابه (عبد التوّاب) يضلله مازحا..
ــــ هذاك القوّاد نتاع ((الباطرون))، وجه البخص، لو كان يحل فمّو معايا نكسرلو الماشوار نتاعو..كل واحد راه عارف شغلو..والقوادة علاه؟ نزلت كلمات (موسى الراشكلو) كما ينادونه على (عمّار المذرّح) صواعق..والحمدُ لغياب (عمّار المذرّح)..في ورشة البناء الجميع يحمل اسمه العائلي ،وإلى جانبه يحمل لقبا آخر يمنح له..وسرعان ما ينسيهم اسمه الحقيقي، لقب يلصقونه مثلما يفعلون بالآجر والإسمنت...وتكسير الأشياء ،أو تحطيم الأوجه، والأرجل، وخنق الخصم، وملء فمه بالدبزات هي اللغة التي يحسم بها البناءون خلافاتهم، فلا مكان للنواعم بينهم،ومن لانت قناته قد ينسى لبس السروال ويتحول إلى (فام دو ميناج).. كل شيء صلب وقاس، من الآجر إلى الأجر...والجدل يبدأ بالسلام عليكم وينتهي بشهادة طبية تؤكد حاجة المصاب إلى راحة مدة شهر أو يزيد..عالم يتقاتل فيه صاحب المارطو مع ((الباطرون))...ويتقاتل فيه الماصّو مع الماناف...ويتعاركون فيه كأهل الجحيم أو العالم السفلي....
هاهو رأس الشهر يطل كرأس المحنة، أجرة الشهر ذهبت في الديون، التجار شطفوا ثلثها، وثلثها شطفه الأطباء، والثلث المتبقي أتلفته زوجات المتزوجين، أو عشيقات العزّاب..فالمرأة عدو الجيب..والحبيب عندها من كان مليء الجيب..وتراث هجائها بذلك معروف وشائع..وعندما يتواجه بنّاءان في معركة حاسمة فإن شرارة المعركة تبدأ بقول أحدهم للآخر: يا وجه المرا....
ــــ أنتم والله ما راكم متزوجين خلاص استفزهم (عبد التوّاب)
ــــ وعلاش؟ أجابه الراشكلو وهو يعضعض حبة الزيتون الهزيلة..
ــــ من عرف النساء مثلي.. لايصبر على رائحة البصل وجلب الحفَّاضات وحليب الأطفال..
ــــ ولهذا خسرت ساقك!..قال له المخ..
ــــ المهم أن لا أخسر رجلي الثالث مثل عمّار المذرّح..قوّاد ((الباطرون)).
ــــ ما بقاتش هدرة أنا نروح نكمّل خدمتي..انصرف (المخ) إلى عمله..وقام الباقون في إثره...لحقت بمعلّمي أساعده بتقديم الآجر..منتظرا أجري الزهيد بداية الشهر..ولمّا سألته عن (عبد التوّاب) قال لي إنه عسكري سابق..وقد طلّق زوجته ..ويعيش لوحده ..ولا تخدعنّك لحيته؛ فتوبته مشكوك في أمرها..
ــــ كيف؟
لمعّلمي الخبيث والكتوم طريقة في تقصّي أخبار أصحابه.. أعجبتني في البداية..ولكنني صرت أخشى سطوتها..وأدركت أنني في مرمى قصصه..وأن لعنته ستلحق بي لو أخطأت مرّة وكشفت حقيقتي أمامه...
ــــ عبد التواب حكاية لوحدها يا ولد الناس...
ــــ عبد التواب من متقاعدي الجيش..وله منحة معطوب حرب..وكما ترى فلم يثنه عرجُه عن العمل..ولا عن مطاردة النساء..
ــــ يبدو لي رجلا صالحا..
ــــ ضحك الخبيث من سذاجتي..
لا تغرّنك اللحى والصوّر ** فتسع أعشار من ترى بقرُ...وأخيرا تذكرت بيت الشعر..الحكمة تصنعها الحياة وتعجن بطينها وتنحت من مرمرها...
ــــ عندما قرر (عبد التواب) أن يمحو ما سَلَف من ذنوبه،وهي كثيرة ،وأن يثوب إلى رشده،أوعز إلى جهازه السري أن يمحق الباطل الذي آل إليه، وأن يطمس معالم الشر التي كانت ترشده إلى الضلال، أو تضله عن الرشاد..كما قرر وهو الأعرج البين عرجه أن يسلك الطريق المستقيم..صحيح أن الاستقامة برجل عرجاء مهمة ليست سهلة، ولكن عالم المعاني بدا له سهلا وقريبا كما نصحه الإمام عندما زاره في مرضه..
نعم! لقد سَكِر ،وقامر في الليالي الحمراء،بل في الليالي التي بكل لون،غازل.. أي نعم،عانق،وقبَّل بل...أي نعم ..ثم تراجع وراجع الحساب مع رب الحساب وآب إلى خالق البشر والحشرات والدواب، لقد عرف؛ ولا أحد يجزم كيف عرف:" إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ".
كان قراره الباطني أن يتحول رجلا صالحا قد صادقت عليه الترويكا؛ النفس ،والهوى، وبقي الشيطان ـــ كما يقول ـــ مترددا منتظرا متربصا واعدا متوعدا يماطل ويجادل..حججه قوية وأغاليطه كثيرة ومعضلاته لا تحصى، ووعوده لا تنسى، وفي قرارة نفسه يجزم (عبد التواب) أن الشيطان لن يصدِّق ولن يصادق،ولن يصْدُق، وتناهى إليه صوت كأنه القهقهة، بل كأنه رجع صدى في كهف مهجور، وتذكر ما قيل له من أن الإنسان الذي لا يقرأ القرآن كالبيت الخرب،لا شك أن تصادي الجدران في هذا البيت الخرب هو ما يبلغ سمعه!..صار موسوسا..
بقي الشيطان إذن، وبدت المسألة لــ(عبد التواب) يسيرة ،فتخيّل الشيطان صغيرا،وحقيرا، وتافها، وأن قوة الإيمان التي يستشعرها كافية لدحر أباطيله،وتسفيه مزاعمه، ورد كيده وفك أحابيله،وكَـبُـرَ قرار عودته إلى الجادة كما يقول لنفسه بنفسه مع نفسه...أي والله ..يقول معلّمي الخبيث..
كان زير نساء..في سيدي بلعباس تعرَّف على إحداهن، وتبادلا كلَّ شيء،هي الهاربة من بيت أهلها، وهو الخارج من قانون الطاعة، كان يجمعهما الفراش كل خميس، ويفرقهما ضوء صباح يوم الجمعة، تذهب إلى عالمها لتصطاد، أو تصطاد،بالرفع وبالنصب، وبالاحتيال أيضا! ويعود إلى ثكنته فيتلقى الأوامر.
جاءت القالمية "مسخوطة"بأنف منتصب كمنصة إطلاق الصواريخ،يشرف من على شفتين مكتنزتين،طالما تمرغ فيهما (عبد التوّاب)، بل لم يكتف بالعضعضة،فراح يطفئ بعضا من ساديته؛ سجائر عند شفتها السفلى..وكانت (نهاد) هي آخر حبة في سبحة الساقطات على فراشه، وكان يبكي كلما لامس هضابها العليا، وتعرق عند صحاريها الشاسعة،وتفيأ في واحاتها من وهج رغبات تتلظى،وكانت مخاوفه أن يتعرض للعقاب إن ثبت غيابه عن الحراسة،ولم يعاقب..فالحراسة بالتناوب، و(عبد التوّاب) يحسن اختيار النوّاب..وخرج بعد عراك أودى بساقه اليمنى،يحمل ورقة إنهاء الخدمة،ودريهمات يشتري بها بُضْعَ ابنة عمّه..وتزوّجها ..ثم أعفى لحيته وصار إلى ما صار إليه..تائبا بالنهار قلقا بالليل من مطالب زواج يوشك على الانهيار..
ــــ وكيف صار إلى ما هو عليه؟ تساءلت..
عرف الخبيث سذاجتي
ــــ ومن قال لك إن الزواج توبة؟..لا شيء مما تتوهمه يا الطالب...
وواصل يسرد حكاية (عبد التوّاب)...ولأنه لا وجه للحياة في هذه المدينة الصغيرة،والبطالة ترحب بالجميع،بالخارجين من الثكنات،وبالخارجين من الجامعات،ولا تستثني إلا الخارجين عن القانون، ويكفيه خروجا عن القانون، وسجنا انفراديا مكث به بضعة أشهر بساق مهشمة، وجروح في القلب على فراق (نهاد).
ولأن الشيطان يملك أفلاما إباحية،ويملك مزبلة للقيم يفرغها على الرأس وساوس،ولأن النفس جحيم يستعر،وأهواء تتصارع،فقد جرفه سيل التخمين..ثم تراسلت قوى الثورة المضادة في وجه من ظنهم حلفاءه..واستسلم لأول إغراء..وطلق زوجته..وهو الآن صيّاد لا يهدأ..ولكنه ناقم على جنس ذوات النهود...
كان (المخ)يسوي إطار النافذة على الجدار..وكان يستمع إلى الخبيث يقص حكاية (عبد التوّاب) ويتمتم لاعنا الحظ الذي جمعه بهؤلاء الأوباش، يقاتلون البرد والجوع والقسوة ولا تصيبهم الهشاشة ولا اليأس من الحياة...
سمع هرجا وهو يعارك إطار النافذة حتى يتلاءم مع الجدار...عاد إلى الجماعة، وجدهم متحلقين حول ((الباطرون)) الذي جاء مصحوبا بالمُحَاسِبة...لحقنا به..أطلق (عبد التوّاب) صفيرا ..وعلّق (الراشكلو): ميني جيب يا دين الرب في نهار اليوم؟...هذي معاها شوفاج سونطرال (إنها تحمل مدفأة مركزية)..زاحمها (عبد التوّاب)..ابتعدت عنه في البداية ..ثم عرفت أن مقاومتها لا تجدي نفعا فتجاهلته.. التذَّ بمرفقه يدغدغ النهد النافر من وراء القميص الصوفي المطرّز.
ــــ والله ماراك خارج من هنا حتى تحطّهُم... قال (موسى الراشكلو) موجها كلامه إلى ((الباطرون)) في تبرّم من تأجيل دفع مستحقات العمّال..
أجابه ((الباطرون)) :
ــــ تتحداني؟
ــــ نعم..وإن لم تدفع أجورنا سأرميك من النافذة ...كانوا متجمعين في الطابق الثالث أين تناولوا غذاءهم..وأشار المتحدي إلى أنوية الزيتون والتمر، وأكياس الحليب وقطع الجبن: هذي ماكلة ياكلوها عباد الله؟ واش رانا اسكلاف (عبيد) عندك؟
تردد ((الباطرون)) وقد بدا مرتبكا وخائفا...
ــــ يا جماعة: والله الدولة لا تريد الدّفع ...هذا وين جيت من البنك، ووالله راني كنت في عركة معهم!
ــــ ما يهمناش! أحنا نخلصوا في راس الشهر، نخلصو في راس الشهر...الباقي هدرة فارغة...دبّر راسك..
حاول (عمّار المذرّح) أن يجيب بدلا عنها..فأسكته موسى الراشكلو:
ــــ الكلام مع الرّجالة ..ماش مع الطحاحنة..(الكلام مع الرجال، وليس مع الديّوثين وعديمي الشرف)..
ــــ سقسيو الكونتابلة نتاعي..قال ((الباطرون)) والتفت إليها...كانت متضايقة من مكانها بينهم، وإن كانت قد استكانت لــ(عبد التوّاب) وهو يضع المرفق على النهد الأبيض المتوسط، ويفاخذها بالرجل العرجاء لعلها تمنح تأشيرة لرجله الثالثة كي تعرف طريقها بعد أن يزيح ((الباطرون)) من طريقه...
تلعثم ((الباطرون)) وهو يقدم الطراوة لعالم الوحوش الضارية، والنعومة للأيدي الخشنة، والأجفان الناعسة للنظرات الذئبية العطشى.. جو بونس بللي الكونطابلة (المحاسبة) راهي تعرف خير مني الشؤون المالية..(أظن أن المحاسبة عارفة بشؤون المالية)...
ضحك (المخ)من فرنسيةِ ((الباطرون)) والتفت إلي:
ــــ والله إن هذا البغل لا علاقة له بالفرنسية، راه غير يهرّس، أعرفه.. أبوه المهاجر هو من فتح له مقاولة صغيرة،ثم تجرأ على الرشوة لأخذ المشاريع الكبرى، يتصرف في الاسمنت والحديد فينقصها في الأساسات، بعض السكنات بناها بلا حديد، يخالف ما يقوله المهندسون، يملأ جيب الوالي، ورئيس الدائرة، ويخرص المتحمسين للنزاهة، حتى تراكمت الخسة والحقارة فصارت قبيلة من الرذائل تطوف في مستنقع متناقضاته.. صلف وتيه وجبروت، ثم ذلة ومسكنة وخوف مثلما رأيته قبل قليل عندما سمع تهديد (الراشكلو)...
بدأت (نزيهة) خطبتها العصماء، وكان مرفق (عبد التواب) يهزهز نهدها من حين لآخر، ولمّا عجزت عن إقناعهم لجأت إلى العواطف : إنني مثلكم لم أتقاضَ أجرتي مدة ثلاثة أشهر..الأزمة خانقة.. والمؤسسة توشك على الإفلاس..عض ((الباطرون)) شفته من هذه الزلة..واصلت حديثها: وأنا على استعداد لأقاسمكم مرتّبي، وسأسهر على حل المشكلة في أقرب وقت...
تدخل (عبد التواب):
ــــ يا جماعة .نعطوه فرصة ..والآنسة (نزيهة) ستتحمل مسؤولية ذلك..واش قلت؟
ــــ يعطيك الصحة خويا..
ــــ عبد التواب..اسمي عبد التوّاب
ــــ ميغسي عبد التوّاب
شهر مدفوع الثمن لـــ(عبد التوّاب) في حضن (نزيهة)...
****
عاد (المختار) إلى بيته..متعبا من يوم لم ينجز فيه شيئا، فالنافذة لم تستقر في مكانها، وأجرة الشهر مؤجلة بلعبة قذرة طرفها الزير (عبد التواب) وصاحبته الباطرونة المحاسبة صاحبة الخطبة العصماء (نزيهة)..وهو المخ صاحب الأفكار الجهنمية والقراءات التي لا يعرفها أوباش الورشة..دخل بيته متذمرا..واجهته سيدة البيت أستاذة الفرنسية سابقا، والتي تزوجته بشرط ترك مهنة التدريس، قبلت به زوجا مخافة العنوسة التي لا يحميها الطباشير..فنجان القهوة..وجهاز التحكم يقلّب القنوات...الصمت بينهما هو السيّد في نهاية الشهر، حيث لا يبقى من احتياطي الصرف إلا ما تصرّح به أستاذة الفرنسية السابقة..
ــــ لقد اشتريت سروالا لابنتك..
كان يقلّب القنوات غير آبه بما تقوله..
ــــ ماذا قلت؟
ــــ اشتريت سروالا لابنتك هذا اليوم
ــــ أرنيه..
قلب السروال بين يديه..قلْبان في مؤخرته.شراشف عند الخاصرة..مسح للونه الأزرق عند الركبتين..تمزق عند الفخذين..
ــــ ما شاء الله ..ما شاء الله...ومن عند من؟
ــــ من عند (كريمو لامود)..
ــــ وبكم ؟
ــــ......
لم تكمل جملتها، تحوّل السروال أشلاء ممزقة..احتجت بصراخ نسوي ...نزل عليها بلطمة فهوت إلى الأرض..(كريمو لامود)..ها هذا ما يخصّني! ..والثمن قطعة من لحمك؟..وأخرى من لحم ابنتك؟!..أشقى كالبغل طوال النهار..ثم أنفق أموالي على القحاب..هزلت!!!..
أشعل سيجارته..أغلق باب الصالون..وبقي يقلّب القنوات التلفزية...لا يدري ماذا يفعل..أخرج كتابا وراح يقلّب صفحاته على غير هدى..ثم قرأ:
" ...ويبدو من المؤكد أن رجال الشرطة لم يحاولوا تفريق المتظاهرين حتى وصلوا إلى وسط المدينة،أو بالأصح (مقهى فرنسا) ....وانطلقت رصاصات أخرى وسقط شاب يدعى (بوزيد) كان يحمل العلم الأخضر والأبيض..وينبغي اعتبار الشرطي الذي أطلق الرصاصات الأولى بغض النظر عن هويّته إنه هو من استهلّ القمع الدموي في 08 ماي 1945، ذلك لأنه ما إن ضغط على زناد مسدّسه حتى أطلق رجال شرطة آخرون النار على الموكب الضّخم ...." *
رمى بالكتاب جانبا،ثم عاود يقلّب القنوات التلفزية ...وشد انتباهه نقاش حول تحطيم تمثال عين الفوّارة ..تلك الأنثى المغرية بجلستها والناس عند قدميها يشربون الماء..ولا يحمدون السماء..فالسماء محجوبة بنهديها ورأسها..لقد قاومت تفجيرا سابقا..ولكن معول الهدم هذه المرة كان مشهديا...كان الفاعل يشبه صاحبه (عبد التوّاب)..عسكري مجنون..
شكل رقم الهاتف المخصص للمتصلين..انتظر ..سمحوا له بالتدخل..وجّه حديثه للمذيعة:
ــــ شوف يا اختي ـــ وأختي إن هي إلا كلمة هو قائلها ــــ أنا والله راني متعاطف بزّاف مع هذيك المرا لي كسّرها بولحية، حسيت بها كيما أنتِ كي يكسّرك واحد وأنت ما راضياش..
ــــ ماذا تريد أن تقول...بسرعة هناك مكالمات في الانتظار
ــــ أرجو من السلطات أن تصنع تمثالا لــ(بوزيد شعّال) يحمل علم الجزائر..ومن سارية العلم يتدفق الماء ينابيع ثمانية ترمز لانتفاضة الثامن ماي...
ــــ تدخّل الأنوش بجانبها قائلا: تمثال المرأة عمره أكثر من قرن..ونحْتُه تحفةٌ فنية لا يمكن تعويضه بتمثال سيء النحت ولا قيمة فنية له...
واصل (المخ) حديثه:
ــــ عندي اقتراح آخر..
ــــ تفضّل، الوقت يداهمنا..
ـــ أريد القول: يتوجب على الحكومة المحترمة أن ترمم التمثال الجميل، مثلما وعدت بذلك على لسان وزير الثقافة، ويا حبّذا لو توّسعون ما بين رجليها، فقد تعبت من جلستها المعذبة تلك، ويكون أفضل لو تتكرمون بإنزال ينبوع ماء من فرجها، حتى يرتوي الناس ويتبركون، ويستحسن أن يكون المسؤول قدوة في ذلك، وتنقلها لنا بكامرات تلفازكم العظييييم...
ــــ شكرا على اتصالك..قاطعته المذيعة..
انقطع البث بفاصل إشهاري عن الجبن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
عبد العالي زغيلط /جامعة جيجل/ الجزائر



#عبد_العالي_زغيلط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إذا الشعوب كُوِّرت!
- لا توبة لك أيها الراهب
- علامة تع(!)ب /قصة
- تاروايت (عبد الحق المؤجل) قصة
- قرابين للنسيان- قصة
- الفرقة الناجية
- قراءة في رواية -عصر الطحالب-* للكاتب: كمال بولعسل
- نهاية الوطنية القديمة
- عائشة -نائمة-...


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد العالي زغيلط - البنّاء في عين الفوّارة