عباس علي العلي - الأمين العام للتجمع المدني الديمقراطي للتغيير والأصلاح _ العراق - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: المدنية الأجتماعية ودور النخبة في أرساء مفاهيم التغيير الأجتماعي.


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5714 - 2017 / 11 / 30 - 23:44
المحور: مقابلات و حوارات     



من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة، وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى، ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء، تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -212- سيكون مع الأستاذ د.عباس علي العلي - الأمين العام للتجمع المدني الديمقراطي للتغيير والأصلاح _ العراق -  حول: المدنية الأجتماعية ودور النخبة في أرساء مفاهيم التغيير الأجتماعي. .


قبل الدخول في حوار مع القارئات والقراء حول مفهوم المدنية الأجتماعية علينا أن نطرح هنا جملة من التساؤلات ونثير الكثير من القضايا الفكرية كمقدمة للحوار ومقدمة لفهم الموضوع، هذه التساؤلات والأفكار تؤسس أولا لقاعدة الحوار ومنطلقه حتى لا نضيع بين التشتيت والتداخل بالمفاهيم، وثانيا كيء نؤطر لحوارنا دائرة فكرية واضحة للطرفين، هذه المقدمة ضرورية وهامة لمن يريد أن يبني المفاهيم والأفكار وفقا لرؤية أجتماعية وسياسية فكرية قابلة للتدول وقابلة للتناقل بين أنماط مختلفة من الهضم الفكري والإدراك المعرفي، وقبل أن نبدأ في طرح هذه القضايا لا بد أن نؤمن أن لا شيء نهائي وكامل وغير قابل للتحديث والتطوير وحتى الأختلاف عليه، فهذه الميزات هي من صنمت الكثير من الأفكار وحولت العقل إلى معبد أصنام للأفكار وأماتت روح الحركة فيها:....
السؤال الأول ماذا لو لم يكن الإنسان أجتماعيا متمدنا بالطبع؟ هل يمكن أن تكون هناك قوى وعوامل قادرة على تطبيعية بمعزل عمن يقول أن الإنسان حيوان تمدن لاحقا وبالتجربة؟
لو كان الإنسان فعلا كائنا طبيعيا فيه ملكة الأجتماع والتمدن لماذا في كل مرة ينكص عنها ليمارس حيوانية متوحشة أحيانا أكثر مما في وحشانية بعض السباع؟ هل لأن بقايا الحيوان في الإنسان أقوى أم لأن بقايا الإنسان الطبيعي فيه أضعف من أن تحد من حيوانيته المفرطة؟.
سؤال من ضمن متوالية الإشكالات هل ينجح الفكر والمعرفة في تدجين الميول الحيوانية داخل الذات البشرية ليحولها إلى كائنات مسالمة تنشد السلام دون الأمل من رجوعها مرة أخرى إلى ثقافة الغابة وقوانين البراري؟
أم يكن الإنسان في تأريخه المعرفي وعلى الأقل من زمن أكتشاف الكتابة والنار والعجلة قد بدأ في تشييد منظومته المدنية، وبعد كل هذا الزمن التأريخي ما زلنا نشهد عند البعض ممن عاش هذه المعرفة وشهدها ونال من نتاجها يمارس كل أشكال همجية القوة ووحشانية الأنا المتضخمة المنفجرة في وجه الأخر، هل هذا يعني أننا لم نبرح ذاتيتنا الأصيلة أم أن هؤلاء لا يمثلون البشرية كمجموعة تتميز بالأجتماع والتمدن؟.
سؤال خاص في هذا الموضوع ، ما هي المدنية الأجتماعية وما فرقها عن الأنسنة الأجتماعية كمصطلح شائع ومعروف؟.
هل نستطيع أن نعيد التوازن الكوني لواقعنا الإنساني من خلال قتل الحيوان المتوحش الساكن في المضمر اللا واعي في العقل البعيد، أو ما يسمى بالقاع النفسي؟...
هل يمكننا أن نتجاوز مفاهيم وشروط المدنية الأجتماعية والأنتقال إلى المدنية السياسية والفكرية كسبا للوقت وأعتبار أن ما نجنيه من مدنية السياسة والفكر لا بد أن يرسخ تلقائيا مفاهيم المدنية الأجتماعية وبذلك ننتصر للزمن؟.
للإجابة على كل ذلك من سيل لا ينقطع من التساؤلات والإشكاليات لا بد أن نتحلى بكثير من الشجاعة لنرسم حقيقة ما في الواقع من أنحراف وضياع سببه ليس الطارئ من الأفكار ولا المعارف التي تم تحريفها أو تسخيرها خارج كيانها الذاتي، ولكن السبب يعود في كل مرة لهذا الإنسان المثير للجدل والحاد في تصرفاته، لأن لم يجد الفسحة الكافية من الحرية ليؤمن ويمارس مدنيته الطبيعية، ومن الأجابات المبكرة التي أو أن أطرحها هنا، حقيقة أن الإنسان كلما تقدم خطوة في مدنيته وشيد مجتمعا ما على رؤية أقرب للمفاهيم الكلية التي نطرحها هنا فسوف يعود لينتكس عنها أما بفعل خارجي كالغزوات والحروب والكوارث، أو بفعل خارجي حين يسود التطرف عند بعض الأفراد أو حتى عند فرد واحد فيتحول إلى ديكتاتور متوحش يعيد صياغة واقع المجتمع ليحوله من مجتمع العلاقة المتشاركة إلى مجتمع عبودية الطاعة، السؤال لماذا يتكرر كل هذا وفي كل مرة، الجواب ببساطة لأننا أصلا لم نهتم بصياغة قواعد المدنية الأجتماعية ونقدمها كمقدس فكري قبل الأخلاق مثلا وقبل الدين وحتى قبل مبررات الوجود.
الموضوع
لعل مفهوم المدنية الأجتماعية أسبق في الحضور معرفيا من مفهوم المدنية السياسية كفكر أنتشر في العصر الحديث ليميز أنماط من التعامل مع أسس النظم السياسية وكيفية إدرتها، والسبب يعود إلى أن المفهوم الأجتماعي للمدنية متأت من فكرة طبيعية تلمسها الإنسان عبر إيمانه الخاص بأنه كائن أجتماعي أولا، وكل كائن أجتماعي لا بد له من أطار خاص يعيش ضمن أجواءه ويلتزم بقوانيه وشروطه، هذا الأطار الجامع هو الشكل الأول من مفهوم المدنية القائم على فكرة أن أي مجتمع في طريقه للتطور لا بد أن يبني مدينته الخاصة أو مدائنه كلما تضخم وتطور فكره وبالتالي لا بد أن يخضع هذا التطور للتأسيس المعرفي والفكري، فولدت الأجتماعية الطبيعية أولا ثم تحولت إلى الأجتماعية المدنية حتى وصل به التطور إلى عصر العولمة وما بعد العولمه في سلسلة متلاحقة من النتاج الفكري والمعرفي الإنساني.
ولتحل علاقات الواقع الجديد بكل تبدلاتها وأساليبها المعرفية والحضارية محل ما سبقها من تحولات المجموعة إلى مجتمع اقرية أو شبيه بالمدينة إلى المدينة الدولة إلى المجتمع العالمي المفتوح على بعضه والمنفتح لكل تطور ممكن وحتى المتخيل والمفترض، هذا الإحلال محل أي علاقة سبقتها لا بد له من شرط مكون وشرط تكيفي أما بقوة الأداء أو قوة الحاجة لها، فكل مجتمع تمدن هناك مظاهر تطور في شكل العلاقة التي تربطه بينيا وبنيويا وتتفاعل مع طريقة فهمه للوجود الجديد من جهة، وبين أستجابته لعلاقات العمل التي تنشأ في هذا التطور وتقوده لاحقا في سلسلة لا تتوقف من التبدلات والتحولات، لو تركت أن تستمر دون نكوص أو أنتكاسة ستبلغ به مرحلة الكمالات البشرية، ومن هنا كان لا بد من تأطير هذا المفهوم خاصة ودراسته بشكل منفصل عن مفهوم المدنية السياسية كي لا تتداخل المفاهيم مع بعضها وتسبب نوعا من الخلط الماهوي بينها.
أذن المدنية الأجتماعية أسلوب تفصيلي ويومي يكشف عن طبيعة التعامل البشري المباشر مع الواقع وما حوله عبر شبكة العلاقات الرابطة التي تفصح هوية المجتمع ورؤيته للعالم، أو من خلال مجمل السلوكيات التي تؤكد العلاقة الطبيعية المباشرة بين الإنسان ومحيطه الفاعل والمنفعل بالتطور والأفكار المتجددة، فهي تمثل العنصر التلقائي والمتماهي مع مسيرة الإنسان دون أن تفرض عليه هذه العلاقة من خلال أفكار أو قوى قاهرة، حتى الدين كشكل من أشكال المعرفة التدخلية إذا تم تطبيقه خارج هذه العلاقة فأنه سيجر الإنسان والمجتمع إلى الأنحراف عن طبيعية الوجود ويخرب شبكة العلاقات المدنية، لأن القهر وأستخدام القوة الجبرية لا يمكنها أن تلبي شروط مدنية الإنسان الحر والطبيعي ولا تنجز عملية تحول في أطارها الموضوعي.
فهي كمفهوم أساسي في الحياة الوجودية تمثل وتتمثل في وجه من وجوهها بإدارة الإنسان لواقعه كما ينبغي له والبحث عن أفضل ما يمكن أن يكون عليه الواقع كهدف وغاية، فهي تملك دوافعها الذاتية من ضروريتها الحتمية وطبيعيتها التكوينية ليكون الإنسان منتجا ومستثمرا للحياة بكل أبعادها وما فيها من فرص للتغيير الإيجابي، ومرة أخرى تمثل شروط البيئة والواقع الطبيعي خارج تدخلات القوى والمحركات الضاغطة على الإنسان من خارجها، لتقوده للمخالفة أو التضاد أو حتى التخلي عما هو أصيل وطبيعي في الوجود، فهي موضوعية في علاقتها معه وتتفاعل مع الجانب الذاتي فيه في وحدة نسقية ينتج لنا سلوكيات سوية وغير منحرفة ولا سالبة في ما تكسبه أو تتعامل به خارجيا وحتى داخليا مضمرا أو في حالات اللا وعي المستتر.
إذا المدنية الأجتماعية كمفهوم نشأ وأرتبط بتبلور الوعي الإنساني أنه كائن أجتماعي يميل إلى الترابط والعمل الجمعي أكثر من ميله للتوحد والأنفراد والحيونة الأصلية التي نشأ منها وتخلى عنها بعقله وحريته، وتماهى معها وأسس عليها معطياته وواقعه الخاص بما فيها من تناغم مع إحساسه بالضرورة وشعوره بأهمية أن يكون فردا في مجموعة، فليس من المعقول أن نحول هذا الترابط بين الوعي الطبيعي الأصيل والوجود المنظم بقواعد وأسس ومرتبط بأهداف ونتائج واضحة وبينة، إلى وجهة أخرى فيها خروج وتعدي وأحيانا تعارض كامل مع وعي الإنسان اللازم بضرورة الأجتماع والتعارف، لنرسخ لمفهوم أخر ولنؤسس لفكرة أخرى سواء أكانت ترتبط بعالمنا المعلوم أو ربطه بأحتمالات غيبية أو أفتراضية، هذا إذا فهمنا أن المدنية هي قيمة سلوكية حياتية وطرائق تفكير وتنفيذ لهذه القيم، وليست أفكار أو مبادئ يمكن الأتفاق عليها أو تعديلها أو تطويرها نحو وجهة ما.
عليه يمكن توصيف المدنية الأجتماعية أستنادا لما قدمنا على أنها النموذج الحي والحقيقي للإنسان طبيعيا، طالما أنه يعي وجوده كذات منفردة ومميزة كجزء من منظومة كونية منضبطة ومتفاعلة ومتخادمة فيما بينها، هنا نستنتج من هذا الفهم قضيتين مهمتين هما:
أن كل ما هو غير طبيعي لا يمكن أن يستمر خلاف المنطق الأصيل ولا بد وحتما أن يصل للمنطقة الحرجة ليعود له مرة أخرى، ولأن ما هو طارئ على كال حال زائل مع المؤثر وأنه سيزول ويعود ما هو تكويني وجودي لأشغال مكانه بما هو مصمم عليه أصلا.
عليه لا يمكن الجمع بين المدنية الأجتماعية كأطار حتمي فرضته الطبيعة وبين أفكار ونظريات ورؤى تعيد الإنسان إلى مجتمعات القطيع وقوانينه، أو الأعتياد على مظاهر الخضوع للقوة أو نتائجها لسبب بسيط جدا أن القوة الطارئة مهما أمتلكت من أسباب لا يمكنها البقاء والتحكم الأبدي والحتمية التأريخية تؤكد ذلك بل فرضته واقعا بالنجربة الإنسانية المباشرة، بالنتيجة المدنية لوحدها تستحوذ على الوجود وكل مزاحمة لها يعني تضييق الواقع عليها لصالح ما هو غير طبيعي وغير تكويني قياسي وهذا ما لا يمكن لطبيعة أن تستسلم له.
من كل ذلك نصل إلى حقيقة واحدة قد لا يتفق البعض معي في نتائجها أو منطقها طبقا للزاوية التي ينظر منها أو للمقدمات التكوينية لبعض العقل الإنساني وإيمانه المتعدد وهي، أن البدء الحقيقي لكل عملية أصلاح أجتماعي أو تحولات جذرية في بنية أي مجتمع لا بد أن تمر أولا من خلال أصلاح منظومة المدنية الأجتماعية أولا، ومحاولة أعادة توطين مفاهيمها وسلوكياتها وتجذيرها في واقع المجتمع كلما تنحتأو نحيت عن وظيفتها الأساس، حتى في القضايا التي تبعد بمسافة ما عن الأصلاح المجتمعي والتحول الأجتماعي لا بد لها أن تراعي هذا الجانب المهم، وبالأخص في قضايا الأصلاح الأقتصادي بعمومه لقوة تأثير علاقات العمل وشكلها وتنوعها وأختلاف الواقع بين المجتمعات، وأيضا في قضية الأصلاح الفكري والمعرفي في كل جوانبه وصوره لما له من قدرة على الكشف والتجديد والبناء المتراكم.
أصلاح وبسط وأشاعة مفاهيم المدنية الأجتماعية الطبيعية هي الخطوة الأولى والأساسية لكل عمليات التحول والتغيير والتحديث في واقع المجتمع والإنسان، وهذا الحال يتطلب من أصحاب مشاريع التغيير ومن المصلحين الأجتماعيين ومن النخب الفكرية والمثقفين والمعرفيين عموما، إدراك أن البعد الحقيقي لهذه العملية وفهمها وتسويقها على أنها من أسس المقدمات الحتمية لعمليات التحول الكبرى والأصلاح الأجتماعي ولا بد من فعل ذلك قبل الشروع بأي تغيير أو التحضير له، والأهتمام بالجانب السلوكي المدني كممارسة في أرض الواقع، وطرح النموذج الواقعي للشخصية المدنية بكل مجالات الفعل العقلي والفكري والفني والأدبي وفي مستويات أقدر على الثبات والترسخ، وأن مسألة أعادة الواقع للمدنية الأجتماعية ليست عملية تطوير له ولا هي أبتكار مرتبط بمرحلة أو إكمال وتكامل معها، بل هي عملية تصحيح لمسارات خاطئة تقدم لتصحيح أتجاهات الإنسان الساعي للتحرر من مظاهر العبثية واللا أنضباطية الفوضية أو الأسر الأستبدادي الأيديولوجي أو الفكري بما فيه الأستبداد والأستعباد الديني.
النخبة الفكرية إذن ومن ورائها رؤية أجتماعية مدنية يمكنها أن تصنع واقعا مطلوبا طبيعيا لذاته قادر على أن يعيد التوازن المفقود داخل المجتمعات التي تسعى للتحرر من هيمنة الأفكار الشاذة والمتطرفة، وأن تعيد هذه الرؤية للإنسان إنسانيته التي سلبتها الأفكار الشمولية وسلخت منه الهوية الطبيعية، إن تمسكت بما هو أصيل في الوجود وعملت على أستحضار الدرس التأريخي من وجود الإنسان على هذا الكوكب، ولا بد لهذه النخبة من أن تدرك أن أي عملية تحول ناجحة في أي مجال أخر يجب أن تتماهى مع قانون الطبيعة الفطرية التكوينية للوجود ومستجيب له.
إن قضايا مثل التخلف والجهل والأستبداد والظلم لم تنشأ من فراغ بالتأكيد أو أنها جاءت نتيجة نظريات أخترعها الإنسان أو لظروف مر بها دون تدخل منه أو فعل حدوثي أسسه، أو نسج خيطوه بمعزل عن وعيه بقدر ما هي تخلي هذا الكائن عن مدنيته وعن أجتماعيته بإرادة من شكل ما، الظروف التي وجد نفسه محاطا بها وبواقع منحرف رضخ للقوة وأنصاع لمفاهيم طارئة غيرت مسارات وهدف الوجود تحت مبررات وعناوين غيبية أو غبية، ومن المؤكد أيضا أن العلة الأولى فرضها ميل الذات الفردية الأعتباطية للخوف والقلق الناشيء عن سوء التقدير لها أو فهما كما يجب أو ينبغي، أو حتى سوء إدارة الذات لنفسها مما ولد أشكالا من العبودية للواقع المحرف والمزيف ورضوخا له، وهنا تصبح قضية التحرر من تلك العوامل والسلوكيات الهدف الأول والأساسي لعمل النخبة ومنهجها الحضاري.