أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - المخرجة الإيرانية سبيدة فارسي في فيلمها الروائي الثاني - نظرة مُحْدقة -: اللعبة الإستعارية بين الرؤية التأملية والمشاهدة العابرة















المزيد.....

المخرجة الإيرانية سبيدة فارسي في فيلمها الروائي الثاني - نظرة مُحْدقة -: اللعبة الإستعارية بين الرؤية التأملية والمشاهدة العابرة


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1471 - 2006 / 2 / 24 - 11:08
المحور: الادب والفن
    


التأسيس للمنحى البصري
وُلدت الفنانة والمخرجة الإيرانية سبيدة فارسي في طهران عام 1965. وما إن أنهت دراستها الإعدادية حتى شدّت الرحال إلى باريس عام 1984 لأن عقليتها المتفتحة، وروحها الطليقة لم تتحملا البقاء في ظل القيود التي كبلت الناس المتحررين. كما أنها كانت تحلم بدراسة الرياضيات هناك. ولأن باريس تحفّز على ظهور المواهب المكبوتة، فسرعان ما وجدت سبيدة نفسها منغمسة في الفنون البصرية التي كانت تمحضها حباً من نوع خاص مذ كانت في إيران. وفي باريس لم تذهب إلى مدرسة أو معهد للتصوير، فهي شابة مفعمة بالحيوية والنشاط، إذ علّمت نفسها بنفسها فن التصوير الفوتوغرافي قبل أن تتجه كلياً للسينما، وتحترف أكثر من جنس فني، إذ شرعت في كتابة عدد من السيناريوهات للأفلام القصيرة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، ومن بينها " الأحذية الحمراء " 1988، و " التانغو " 1989، و " ريح الشمال " 1993، و " أحلام المياه " 1997. بدأت تجربتها السينمائية بـ " رجال الأطفاء " عام 2001، وهو فيلم تسجيلي يتحدث عن رجال الأطفال في إيران. أما فيلمها التسجيلي الثاني فقد كان بعنوان " العالم بيتي " 1999وقد كشف هذا الفيلم عن هاجس سبيدة الفلسفي لأنه يبحث عن سؤال الهوية الثقافية للإيرانيين الذين يعيشون في المنافي الأوروبية، وفي فرنسا على وجه التحديد، خصوصاً إذا عرفنا بأن سبيدة تنحدر من أصول أفغانية وإيرانية مشتركة، ثم أنها هي نفسها قد إستقرت في باريس، ونهلت من معرفتها وفنونها الشيء الكثير حتى باتت ذاكرتها مزيجاً من معارف متنوعة شرقية وغربية في آن معاً. وربما يكون الفيلم التسجيلي المعنون بـ " هومي دي سيثنا مخرجاً " الذي أنجزته عام 2000 هو الفيلم الذي رسّخ إسمها في ذاكرة النقاد السينمائيين ومحبي السينما على حد سواء. فقد صوّرت هذا الفيلم في الهند، وهو يتناول حياة مخرج زرادشتي كبير في بومباي. وقد عُرض هذا الفيلم في بعض المهرجانات الدولية، وحاز على العديد من الجوائز من بينها جائزة فيبريسي الشهيرة أو جائزة النقاد. وقد بررت لجنة التحكيم منح هذا الفيلم جائزة النقاد لكونه " يدمج دمجاً فعّالاً ومؤثراً بين الصورة والفكرة. كما يتوفر على أناقة أسلوبية، ومقترب إنساني لفنان وإنسان إستثنائي ورائع. ". ولأن سبيدة متعددة المواهب فقد جرّبت حظها في التمثيل، وجسّدت دور مريم في فيلمها التسجيلي " رحلة مريم "2002 ، وقد إعتبره النقاد " فيلماً مؤثراً، وقطعة شاعرية تستكشف طبيعة الذاكرة، والتوق، والفقدان، والأمكنة، والناس." ثم تضيف سبيدة نفسها " أن المقصود بالناس هنا، هم الذين صنعوا منا ما نحن عليه الآن. " وقد صُوّر هذا الفيلم بالكامل في مكان حميم لسبيدة لدرجة أنها كانت ترى الأشياء كلها بوضوح كبير. فهي بطلة غيرمرئية تبحث عن أبيها. وفي عمق هذا البحث تكمن طبيعة الرحلة التي تتجلى جماليتها في القدرة على التجريب وإستنطاق الصورة، وتعزيز الخطاب البصري الذي تعوّل عليه. ولهذا فقد قيل عن هذا الفيلم تحديداً " أنه يستدعي الرؤية البصرية الرفيعة لفيرتوف أو لمبدع بلدها الشهير كياروستمي. " وفي نهاية هذا الفيلم يرتفع صوت أصيل إلى الأعالي يتواءم مع هذه الرحلة الشخصية الحميمة إلى الأمكنة المجاورة بكل تفاصيلها المهمة طرقاً وأزقة وزوايا، ولكن يبقى الشيء الأكثر أهمية هو الإنسان، هدفها الأول والأخير، سواء في طهران أو غيرها من حواضر العالم. ولأهمية هذا الفيلم من ناحية عمق الثيمة وجمالة الصورة السينمائية فقد وصفه بعض من النقاد الحاذقين " بالفيلم الشاعري الذي يلغي الحدود بين ما هو تسجيلي وروائي " كما تلّمسوا فيها روحية مخرجة عالمية تتجاوز الأطر المحلية من دون أن تهملها، كما أن هذا النزوع الكوني لديها يكشف هويتها الثقافية الملغزة وغير المتعيّنة. وفي العام ذاته أنجزت فيلمها الروائي الأول " أحلام الغبار " ثم توقفت قليلاً لتراجع تجربتها وتتأملها جيداً قبل أن تُقدم على إنجاز فيلمها الروائي الثاني " نظرة مُحدقة " بعد أن غيّرت عنوانه الأولي " عودة أسفانديار " لكي يتطابق المنحى المجازي للعنوان مع الثيمة الجوهرية لهذا الفيلم الذي دخل في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لنيل جائزة النمر في مهرجان روتردام الدولي، خصوصاً وأنه من بين الأفلام المدعومة من قبل صندوق هيوبيرت بالس في روتردام.
الصورة المجازية في فيلم " نظرة مُحْدقة "
كما أشرنا سابقاً إلى أن سبيدة، على رغم حداثة تجربتها الفنية، تعمل في ذات المنطقة التي يعمل بها فيرتوف وكياروستمي، وربما يكون هذا الأخير أكثر تأثيراً على تجربتها السينمائية ورؤيتها الفنية لأنه ابن بلدها أولاً، ولا بد أنها قد تابعث الكثير من أفلامه التي تجاوزت الثلاثين فيلماً، خصوصاً بعد الشهرة التي حققها بعد إندلاع الثورة الإيرانية التي ناصبته العداء، لكنه رفض مغادرة إيران لأنه مؤمن بأن الشجرة عميقة الجذور حينما تنقل إلى تربة أخرى قد تعيش، لكنها لا تثمر، وإذا ما أثمرت فإنها قطعاً لن تعطي فاكهة جيدة كتلك التي تعطيها في تربتها الأصلية. وطالما أن كياروستمي ينتمي إلى ما يسمى في إيران بـ " الموجة الجديدة " هذا التيار السينمائي الذي نشأ في ستينات القرن الماضي، وإزدهر في السبعينات، وجمع حوله عدد من الأسماء الإخراجية المهمة في إيران أمثال فروغ فروغزاد، وشوهراب شهيد ساليس، وبهرام بيضائي، وبرفيز كيمياوي، وكانوا روّاداً فعليين لهذه الحركة السينمائية الفاعلة التي قدّمت منجزاً بصرياً مهماً يتوفر على نبرة سياسية وفلسفية من جهة، ولغة شعرية من جهة أخرى. كان شوهراب ساليس غالباً ما يُقارن بروبيرت بريسون. بعض هؤلا تبنوا الأسلوب الواقعي غير التقليدي، بمعنى أن الحبكة، بما تنطوي عليه من تصعيد درامي، ليست قوية إلى الدرجة التي تسرق ذهن المشاهد وتمنعه من ممارسة فعل التخيّل، أو لا تدع مجالاً لعينيه كي تتمعاً بجماليات الصورة السينمائية، بخلاف الأخرين أمثال كيمياوي الذي كان يسمّى بغودار إيران لأنه يزاوج ما بين الفنتازيا والواقع، ويستعمل الشكل المجازي أو الإستعاري في الثيمة والصورة، وسبيدة فارسي لا تشذ عن هذا التوجه الذي يعوّل على الصورة السينمائية، والمجاز بأعلى تجلياته. وفيلم " نظرة مُحدقة " يراهن على البنية المجازية بشكل أعّم. فبدءاً من عنوان الفيلم " نظرة مُحدقة " يحيلنا إلى أن البطل الذي عاد إلى طهران لا ليلقي نظرة عابرة أو أخيرة على وجه والده المحتضر، وإنما جاء لتصفية حساباته سواء مع الأسرة أو مع الناس الآخرين من معارفة وأصدقائه أو الذين تربطهم وإياه علاقات غامضة تحتاج إلى تأويل. لنتوقف عند الهيكل العام للقصة علها تسلط بعض الضوء على التفاصيل الغامضة، والسرّية التي دفعت بأسفانديار للعودة من باريس إلى طهران بعد غياب دام عشرين عاماً بالتمام والكمال. بينما كان أسفانديار المغترب يقيم في باريس منذ سنيناً طوال، وصله خبران سيئان سيلعبان دوراً مهماً في قلب حياته رأساً على عقب، الأول: أنه سيفقد بصره تدريجياً، والثاني أن أباه يحتضر على فراش الموت. من هنا يتوجب علينا أن نأخذ مفردتي " الرؤية " و " المشاهدة " على محمل مجازي، وليس حقيقي. فجوهر الفيلم يعتمد على قوة الإستعارة ودقتها ومجيئها في المكان المناسب. كما أن هذه الرؤية تعكس " وجهة نظر " الإيرانيين المغتربين أو المنفيين قسراً، أو الباحثين عن تحقيق أحلامهم الشخصية في بلدان الغرب الأوروبي. هؤلاء الناس، وجلهم من المثقفين والسياسيين والليبراليين والمنفتحين لهم وجهات نظر مختلفة بطبيعة النظام الثيوقراطي الذي أزاح فيه الكهنةُ والمعممون كل من يرتدي زياً أوروبياً، ويعقد ربطة عنق. هؤلاء يجب أن نصيخ لهم السمع جيداً، ليس لأنهم مهجرّون ومنفيون ومشرّدون في الأرض، بل لأن لهم الحق في سلطة البلد وثروته، وأن يعيشوا الحياة التي يريدونها هم أنفسهم، وليس ما يقترحها رجال الدين الذين قفزوا من بيوت العبادة إلى سدة الحكم. تشكّل عودة المنفي أو المغترب إلى وطنه الأصلي معضلة حقيقية يجب معالجتها، لأنه هو نفسه قد تغيّر من جهة، ولا يستطيع الإندماج في بلده الأصلي، كما أن الوطن الأم قد تغيّر أيضاً ولم يعد يتقبل هذا النموذج الطارئ والمثقل بقيم وأفكار جديدة. وفي هذا الفيلم قدمت لنا المخرجة بطللها أسفنديار وأمثاله وكأن الوطن الأم لم يعد قائماً في أذهانهم منذ مدة طويلة. وأن هذا الغياب الذي إستمر لمدة عقدين من الزمان قد أثّر كثيراً على العلاقة بين الأب والإبن، وبالرغم من أن أسفنديار ينتمي إلى الإقليم الكردي في إيران إلا أن المخرجة لم تتعاطَ مع هذا الموضوع من ناحية سياسية مباشرة، لكنها لم تهملها تماماً. لقد إكتفى البطل بالقول إنه غادر كردستان إيران قبل عشرين عاماً، وها هو قد عاد من جديد لكي يلقي النظرة الأخيرة على والده المحتضر، لكن المتلقي الحصيف لا يخفى عليه البعد السياسي الذي لم تصرح به المخرجة ولا بطلها، وإنما تركا لنا حرية تخيّل علاقة هذا المواطن الذي يزور بلده بعد كل هذه السنوات الطوال، وهو في أعماقه لا يريد هذه الزيارة، لكنه مُجبر عليها. الفيلم يجسّد ثيمة الإغتراب بكل معانيها الفكرية والوجودية والإنسانية، وأن البعد المكاني ليس هو السبب الرئيس في هذا الإغتراب، وإنما النفور الفكري أوالآيديولوجي هو السبب الأول والأخير الذي هز قناعات الناس المغتربين والمنفيين ففضلوا المنفى على الوطن مجبرين لا مخيّرين. حينما يصل أسفنديار إلى طهران تتكشف له حقائق جديدة إضافة إلى الحسابات القديمة التي يجب أن يصفّيها معهم، ولعل أبرزها مع شخصيتين قريبتين جداً منه الأولى أباه الذي أحب فروغ، حبيبة إبنه، وقرّر أن يتزوجها في غيابه بالرغم من صغر سنّها. والثانية زوجة أبيه فروغ نفسها الشابة الجميلة التي تكشف الأحداث أن شيئاً مهماً بينهما قد مات إلى الأبد، ولعل موت هذه العلاقة يعزز موت الأب مجازياً، كما أن فقدان البصر هو موت بشكل أو بآخر. إن موت العلاقة القديمة يثبت لنا أنها قد غيّرت حياته بشكل نهائي، وساهمت في دفعه إلى الرحيل عن الوطن، إضافة إلى العوامل والمؤثرات السياسية والإجتماعية التي دفعته للغربة القسرية.
تجليّات الرؤيا بعد فقدان البصر
يبدأ إيقاع الفيلم في باريس سريعاً، متواتراً، وكأن المخرجة سبيدة فارسي تريد أن تضعنا في قلب الحدث مباشرة، كما أنها تشير من طرف غير خفي إلى أن طبيعة الإيقاع الحياتي الأوروبي متسارع، ولا يمنح الإنسان فرصة للتأمل والتفكير وإطالة النظر. فما أن صَدمه الخبران السيئان اللذان فاجآه في وقت واحد حتى وجد نفسه في مستشفى في باريس وهو يسأل مستفسراً من طبيب العيون الذي أبدى إستغرابه الشديد من تفاقم مرض أسفنديار بهذا الشكل السريع: " كم من الوقت سأستغرق قبل أفقد بصري نهائياً؟". فأجابه طبيب العيون: " لا أعرف، بضعة أسابيع على الأرجح، أو بضعة أشهر تقريباً.". إن سرعة إيقاع الفيلم مدروسة، ومبررة فنياً، لذلك لم نفاجأ حينما يحزم أسفنديار حقائبه، ويسافر على متن أول طائرة ذاهبة إلى إيران. وفي مطار طهران يعترضه ضابطا أمن، ويستجوبانه. ثم نعرف في الحال بأنه غادر إيران بطريقة غير شرعية، وأنه لم يعد إلى الوطن خلال العشرين سنة الماضية. وهذا ما يكشف لنا بأن وراء قصة هروبه غير الشرعية أسباب سياسية إكتفت المخرجة بالتلميح إليها، ولم تخض في التفاصيل. وتعزيزاً لفكرة تصفية الحسابات لم يذهب أسفنديار إلى بيت أبيه مباشرة، وإنما أقام في منزل ريفي. وقد أدهشت هذه الزيارة المفاجئة الجميع بمن فيهم الأخ الأصغر كيفان الذي لم يفرح لهذه العودة المفاجئة، بل على العكس أسقطته في الحيرة والذهول، لأن الجميع يدركون تماماً أن سبب العودة المفاجئة هو تصفية حسابات شخصية من جهة، وسياسية من جهة أخرى، مرّ عليها عقدان من الزمن. وتتأكد هذه النوايا حينما يصرّ أسفنديار على مقابلة والده منفرداً. وحينما يقع اللقاء على وجه السرعة تتكشف الحقيقة المرعبة التي صدمت الإبن المطعون في قلبه وكرامته. تساءل أسفنديار: " لماذا يا أبتي؟ " فأجابه الوالد بأنفاس متقطعة: " من أجل الحب ربما. وأن الأمر لم يعد يعنيني. . إفعل ما يتوجب عليك أن تفعله." إذاً، كانت فروغ، الفتاة الجميلة اليافعة تحب رجلاً طاعناً في الشيخوخة، وعلينا أن نقدّم تفسيراً لهذا الحب الخارج عن المألوف، والذي لا ينسجم مع أحلام الشباب وطموحاتهم، فلا بد من وجود خلل ما في تفكير المرأة في الأقل، أو في موت أحلامها بهذه الطريقة التراجيدية المفجعة التي قد تكشف في جانب منها فكرة " جَلْد الذات " بعد السقوط في الخيبة واليأس. وعندما يغادر أسفنديار الغرفة كان أبوه قد فارق الحياة بعد أن إنتهى الشوط الأول من لعبة التحدي والمجابهة، ليبدأ شوطها الثاني الذي إستغرق وقتاً طويلاً من مدة الفيلم " 83 " دقيقة. لم يكن بإستطاعة أسفنديار أن يتفادى فروغ، فهي حاضرة في كل أرجاء البيت. وهي أمامه أينما رفع بصره، أو أنى يمم وجهه. فثمة شيء كبير من الماضي المخبئ يربطهما معاً، ويشدهما لبعضهما البعض. . إنه الحب الجامح الذي لم تتضح معالمه جيداً من خلال الفيلم لأن المخرجة أرادت أن تفاجئ المشاهد بهذا البركان العاطفي الذي حمل صاحبة على عودة مفاجئة للوطن وغير مأمونة العواقب. فالجروح كبيرة وما تزال مفتوحة حتى الآن، وهذه القصة لا تريد أن تنطوي أو تلوذ بزوايا النسيان. قال أسفنديار في سرّه: "لم تنته القصة بعد. ولا يستطيع أن يتخلص الإنسان من ماضيه بهذا الشكل. لقد توقفت ساعتى الداخلية عن التكتكة لمدة عشرين سنة، وبدأت تدق الآن من جديد عندما وطئت قدماي أرض هذا الوطن مرة ثانية.". ولأن المخرجة تفترض في المتلقي أن يكون ذكياً بما فيه الكفاية فإنها تضعه في مواجهة أسفنديار وهو ينظف مسدساً قديماً وجده في العلّية ذات ليلة، ولم يبق لدية متسع من الوقت، وعليه أن يستعمل هذا السلاح، ولكن ضد منْ؟ أيستعمله ضد أولئك الذين أجبروه الرحيل والنفي القسري من كردستان، وبطريقة غير قانونية، أم يستعمله ضد الناس الذين سببوا له هزائمه وخساراته العاطفية التي لا تعوّض؟. قال أسفنديار لصديقه سياماك: " ألا ترى أن الليل يهبط عليّ؟" ثمة إحساس مفجع بأن الحكايات القديمة تحاصره، وأن الذكريات البعيدة تطوّقه من كل حدب وصوب، وأن قطارة العيون لم تعد تسعفه كثيراً، لذلك يسقط أسفانديار فيما يشبه الهستيريا، وعليه أن يصب جام غضبه على رجل يطارده في أزقة ضيقة في حارة مشهورة في طهران، تلك المدينة التي بدأ اسفنديار يتعرف عليها شيئاً فشيئاً. وحينما يذهب أسفنديار إلى موعد غير محدد، لم يكن الشخص الذي كان ينتظره هناك سوى زوجة أبيه فروغ. منتظرة هي الأخرى لحظة المجابهة الحتمية. وكالعادة فقد وصل أسفنديار متأخراً بعض الشيء، فقالت فروغ: " دائماً تأتي متأخراً أيها الرفيق." وفي تلك اللحظة بالذات كان بمقدور أسفنديار أن يسألها سؤالاً واحداً لا غير طالما أرّقه خلال العشرين عاماً الماضية." لم يا فروغ، لماذا؟ "، فتجيبه من دون مواربة: " لأنني أحببته.". شعر أسفنديار بالإعياء. وكل الذي إستطاع أن يفعله هو أنه أغلق عينيه وطفق الليل يهبط عليه عندما بدأ يرى الأشياء على حقيقتها. هكذا إنتهت فكرة تصفية الحسابات الشخصية أو العامة قبل أن يفقد بصره ويغرق في ظلام دامس. وإذا كانت هناك ثمة أهداف مقصودة لمخرجة الفيلم تريد أن تضمّنها في هذا الفيلم فلعل أبرزها هو صعوبة الحُكم على الناس أو إتخاذ قرارات سريعة بحقهم، لأن هذه الأحكام قد تكون نسبية وتلحق الضرر بالشخص المعني. وإذا كان الفيلم برمته يقوم على ثنائية النظر والمشاهدة أو بكلمات أخرى يبين التناقض بين الذاتي والموضوعي، والذي حاولت المخرجة أن توضحه بواسطة الأسلوب البصري للفيلم فإن المجابهة بين الإبن العائد وأبيه وفروغ من جهة، وبين ماضيه من جهة أخرى تسفر عن جواب شديد البساطة والجمال، بل أنه محطّم للأعصاب في بساطته بحيث لم يتخيله هذا الشخص الذي عاد لكي يقلّب في أوراقه القديمة التي لم تحترق بعد. " إن عودة الأحداث التي لها صلة وثيقة بالموضوع هي أبعد مما ترويه حكاية الفيلم نفسه! " لأن فقدان بصر أسفنديار هو إستعارة أخلاقية لهذا العائق الفيزيقي الذي يتطابق مع وجهات النظر التي يتبناها العديد من الإيرانيين فيما يتعلق بماضي بلدهم القريب الذي يمتد منذ عام 1979 وحتى الآن، بل أن المخرجة نفسها قد صرّحت غير مرة قائلة " بأن كل شخص يريد أن ينسى هذه الحقبة الزمنية الأخيرة، ولكن الأحداث تكشف بأن الظلال تختبئ في الزوايا دائماً. ".وجدير ذكره أن المخرجة سبيدة فارسي لها حضور قوي في مهرجان روتردام للفيلم العالمي، فلقد سبق لها أن عرضت فيه فيلمها الروائي " أحلام الغبار " كما شارك فيلم " نظرة محدقة " بمسابقة الأفلام الروائية الطويلة المتنافسة على جائزة النمر " VPRO " لهذا العام، ومن المؤمّل أن يُعرَض لها في العام القادم فيلم " الأبرياء " والمدعوم أيضاً من صندوف هيوبيرت بالس للتنمية. شاركت سبيدة في العديد من المهرجانات العالمية في كل من فرنسا، كندا، الهند، أسبانيا، بولندا، إيطاليا، مصر، وهولندا.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: أشعر بأننا لم يعد لدينا ما نر ...
- مذكرّات - وصمة عار - للباكستانية مختار ماي التي تعرضت للإغتص ...
- وصمة عار - باللغتين الفرنسية والألمانية في آنٍ واحد: قصة حيا ...
- ورشة عمل للصحفيين العراقيين في هولندا. . . آراء وتوصيات
- إعلان جوائز مهرجان روتردام الدولي لعام 2006
- في مجموعته الجديدة - لكل الفصول -:الشاعر ناجي رحيم يجترح ولا ...
- ضمن فاعليات الدورة - 35 - لمهرجان الفيلم العالمي في روتردام: ...
- لقطة مصغّرة للسينما العراقية في الدورة الخامسة عشر لمهرجان - ...
- صدور العدد الأول مجلة - سومر - التي تُعنى بالثقافة التركماني ...
- الخبيئة - للمخرج النمساوي مايكل هانيكه: من الإرهاب الشخصي إل ...
- دجلة يجري هادئاً وسط الضفاف المضطربة: قراءة نقدية في الفيلم ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية/ الروائي ذياب ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية: الشاعر عواد ن ...
- أطفال الحصار - للمخرج عامر علوان: ضحايا اليورانيوم المنضّب و ...
- الخادمتان- باللغة الهولندية ... العراقي رسول الصغير يخون جان ...
- خادمات - رسول الصغير: البنية الهذيانية والإيغال في التغريب-
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية/ الروائي جاسم ...
- في ضيافة الوحش - لطارق صالح الربيعي: سيرة ذاتية بإمتيار يتطا ...
- الفيلم التسجيلي - مندائيو العراق- لعامر علوان: فلسفة الحياة ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي/ الشاعر وديع العبيدي: - ...


المزيد.....




- قريبه يكشف.. كيف دخل صلاح السعدني عالم التمثيل؟
- بالأرقام.. 4 أفلام مصرية تنافس من حيث الإيرادات في موسم عيد ...
- الموسيقى الحزينة قد تفيد صحتك.. ألبوم تايلور سويفت الجديد مث ...
- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- صدور ديوان الغُرنوقُ الدَّنِف للشاعر الراحل عبداللطيف خطاب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - المخرجة الإيرانية سبيدة فارسي في فيلمها الروائي الثاني - نظرة مُحْدقة -: اللعبة الإستعارية بين الرؤية التأملية والمشاهدة العابرة