أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - عادل جندي - إسهام حضاري للعالم العربي الإسلامي: دمقرطة الإرهاب وإرهاب الديموقراطية















المزيد.....



إسهام حضاري للعالم العربي الإسلامي: دمقرطة الإرهاب وإرهاب الديموقراطية


عادل جندي

الحوار المتمدن-العدد: 1468 - 2006 / 2 / 21 - 11:38
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


سيذكر مؤرخوا الفكر السياسي في المستقبل أن عالمنا العربي الإسلامي قد قام في الفترة التي نعيشها الآن بابتكار ظاهرتين جديدين لم يعرفهما العالم من قبل؛ وهما "دمقرطة الإرهاب" و "إرهاب الديموقراطية"

وقبل الاسترسال في باقي المقال نلفت النظر إلى أن موضوعه ليس بعيدا عن أوضاعٍ وتطوراتٍ لا تغيب كثيرا عن خلفيات أزمة "الكاريكاتير" الشهيرة...
***
الإرهاب يمكن تعريفه ببساطة (وبدون الحاجة لمؤتمرات دولية هدف الدعوة إليها، غالبا، هو التهرب من لب الموضوع...) بأنه يتعلق بالأساس بالاعتداء على الأبرياء. وللإرهاب، كما يقول بول بيلار، نائب سابق لرئيس السي آي إيه، عناصر أربعة توفر أركانه:
1 ـ سبق التدبير والإعداد، وليس مجرد انفجار آني لشحنة من الغضب؛
2 ـ ذو دوافع سياسية، مثل السعي لتغيير نظام (أو واقع) سياسي قائم؛ وليست إجرامية كما تمارسها جماعات مثل المافيا؛
3 ـ موجه ضد مدنيين وليس ضد أهداف عسكرية أو قوات قتالية؛
4 ـ تقوم به جماعات وليس جيش دولة.
والإرهاب ليس ظاهرة حديثة تماما. ففي القرن الأول الميلادي قامت جماعة "الغيوريين" اليهود بقطع رقاب الرومان والمتعاونين معهم في فلسطين. وفي 1092 أسس الحسن بن الصباح جماعة "الحشاشين" من الشيعة النزاريين، التي كانت تقوم بعمليات اغتيال انتحارية ضد أعدائها المدنيين، غالبا من السنة. (ويقال أنها سميت كذلك لأن أعضاءها كانوا يتعاطون الحشيش قبل العمليات لتسهيل الاقتناع بدخول الجنة. وبالمناسبة فكلمة "حشاشين" لها علاقة بكلمة اغتيال في اللغات الأوروبية assassin).
وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأ الإرهاب الحديث على يد جماعة "إرادة الشعب" الروسية المعادية لحكم القيصر. وانتشر الإرهاب من 1870 وحتى 1920 في أوروبا، حيث قام الفوضويون الثوريون الساعون لقلب أنظمة الحكم بعمليات تفجيرات واغتيالات استهدفت رؤساء الدول. وكان اغتيال الدوق فرانز فيرديناند في 1914 على يد متطرف صربي من الأحداث التي اشعلت الحرب العالمية الأولى.
ولد الإرهاب المعاصر في 22 يوليو 1968 عندما قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بأول عملية خطف طائرات. ومعها بدأ عصر العمليات الإرهابية الاستعراضية المصممة بهدف التأثير على جمهور واسع أبعد من ضحايا العنف أنفسهم؛ أي بغرض استخدام الوقع السيكولوجي للعنف، أو التهديد بالعنف، لمحاولة التأثير السياسي.
وظهر بعد ذلك الإرهاب "الأيديولوجي"، مثل اليساري الذي يهدف للقضاء على الرأسمالية. ومن نماذجه جماعة "بادر ماينهوف" الألمانية والجيش الأحمر الياباني والألوية الحمراء الإيطالية في السبعينيات. ولكن هؤلاء جميعا قد حدوا من درجة العنف المستخدم لتحاشي إيذاء الضحايا الذين يسعون للدفاع عنهم، واقتصروا في النهاية على بعض عمليات خطف أثرياء وأخذ فدية عنهم. وهناك أيضا الجماعات اليمينية وهي من بين الأقل تنظيما وغالبا ما ترتبط بالنازيين الجدد ويفضلون أعمال الشغب بهدف زعزعة الحكومات الليبرالية الديموقراطية وإقامة دول فاشية. وهناك الإرهاب "القومي" أو الانفصالي (وهو الأصعب في التحديد إذ تصر الكثير من جماعاته على كونها مقاومة أو مدافعين عن الحرية) وهو عادة ما يعاير درجة العنف المستعمل لجذب انتباه العالم ولكن بدون تأليب المتعاطفين أو استثارة طائفتهم؛ ومن نماذجه جيش التحرير الأيرلندي.
إضافة لتلك الأنواع ـ الفوضوي، القومي الانفصالي، والأيديولوجي ـ هناك الإرهاب الديني الذي من نماذجه جماعة أوم شينريكو اليابانية (التي ليست أكثر من "لعب أطفال" مقارنة بجماعة مثل القاعدة). وبصفة عامة، الإرهاب الديني هو الأقل ضبطا للنفس (انكباحا). فالجماعات الانفصالية، مثلا، تتحدث عادة عن أهداف محددة (دولة مستقلة مثلا) بينما بن لادن يتحدث عن الجهاد، ووسائله أكثر دموية ووحشية. وذلك لأنه وأمثاله يرون العنف غاية في حد ذاته، أو كأسلوب إلهي لخدمة قضية سامية. يقول بروس هوفمان من مؤسسة راند أن عتاة الإرهابيين من أمثال كارلوس وأبو نضال لم يخطر ببالهم أفعالٌ مثل استهداف بنايات عالية مليئة بالعاملين. ولكن بالنسبة للقاعدة وأتباعها فإن القتل الجماعي لا يعتبر فقط مقبولا بل هو مطلوب.
وبالإضافة للوحشية الفائقة للإرهاب الديني، فالملاحظة الأساسية في كل ما سبق من عينات الجماعات الإرهابية أنها بكافة أنواعها يجمعها الاعتماد على مجموعات صلبة صغيرة (hard core) من العنفيين الملتزمين بفكرة معينة ممن يسعون لفرضها بدرجة أو أخرى عن طريق الإرهاب.
لكن أيامنا هذه شهدت تحولا عن طريق "دمقرطة" الإرهاب الإسلامي (أو الجهادي أو الإسلاميزم)؛ فأصبح أشخاص "عاديون تماما" يقومون، أو يسعون بكل طريقة للقيام، بعمليات إرهابية. وأكثر من ذلك، أصبح للإرهاب شعبية واسعة:
ـ لا يكاد يمر أسبوع دون أن يتم القبض على مجموعات ممن يخططون لعمليات إرهابية في أوروبا؛ خاصة فرنسا وبلجيكا وأسبانيا وإلى درجة أقل في ألمانيا وهولندا؛ بصورة تجعل الإعلام والشعوب تطرح الكثير من الأسئلة حول المهاجرين وحول المسلمين بصورة عامة. والملاحظ أن هذه المجموعات لا توجد بينها روابط تنظيمية ولا يمكن حتى الجزم بوجود أي صلة بينها وبين "القاعدة". ينقل المحلل السياسي وليام بفاف عن ريك كولسيت، من المعهد الملكي البلجيكي للعلاقات الدولية، أن الإرهاب في أوروبا أصبح "خليطا من الخلايا ذاتية التطرف التي لها اتصالات دولية لكن بدون توجيه مركزي". بصورة أخرى، فهو مجموعة من الدوائر متحدة المركز، الذي مايزال هو تنظيم القاعدة الدموي. الدائرة الأولى تتكون من منظمات لها هياكل بصورة أو بأخرى، تحيط بها دائرة أخرى مخلخلة من الأفراد المحاربين المستقلين (free lance) حيث يمكن ربط أي منهم بأي من الآخرين بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بأساليب مطاطة وتبدو عفوية.
ـ اتساع رقعة "النشطاء" في هذا المجال ليشمل شبابا ومن هم أقل شبابا؛ رجالا ونساء؛ متعلمين وأنصاف متعلمين؛ فقراء وأغنياء؛ من أبناء دول إسلامية ودول غربية (متجنسين أو مولودين بها، أو من أهلها الأصليين المتحولين دينيا)؛ منتمين لمنظمات ومستقلين "من منازلهم"؛ متفرغين وغير متفرغين!
ـ تمتع "شخصيات" مثل أسامة بن لادن بشعبية كبيرة في الدول الإسلامية. تقول دراسة ميدانية نشرت في يوليو 2005 لمركز "بيو" الذي ترأسه مادلين أولبرايت أن نسبة من "يثقون تماما أو بعض الشيء" في أسامة بن لادن تصل إلى 60% في بلد مثل الأردن (51% في باكستان و 35% في اندونيسيا و 26% في المغرب؛ مع ملاحظة أن المركز مُنع من عمل استقصاءاته في عدد من الدول العربية...). بل إن تأييد "العمليات الانتحارية التي تستهدف المدنيين" بلغ 57% في الأردن، مقابل 43% في استقصاء سابق تم بمنتصف 2002! وإن كانت هذه النسبة ربما تناقصت، فيما يتعلق بالمدنيين "المؤمنين"، بعد انفجارات عمان الزرقاوية....
ـ يمكنك أن تجد جماعات إرهابية بالفكر أو العمل تدخل "انتخابات" وتخرج منها بتأييد شعبي واسع، كما حدث مؤخرا في العراق ومصر وفلسطين الخ، وقبلها في الجزائر وغدا في سوريا. وبالطبع ليس من المفترض أن يحدث هذا! فالديموقراطية في لبها هي عملية تستند إلى إرادة شعب يتمتع أفراده بالحرية التامة، وأسسها تشمل المشاركة السلمية في الحكم واحترام كافة الفرقاء. فكيف نفسر تسليم الشعب قياده لعنفيين ليس هناك ما يضمن ألا يمارسوا عنفهم ضد من انتخبوهم؛ إذ تؤكد تجارب التاريخ أن ذلك بالضبط هو ما يحدث!
***
وسوف يكون على أساتذة العلوم السياسية البحث عما يفسر كل هذا بالتفصيل. لكن، وبغض النظر عن عدد من الأسباب التي لا نريد الخوض فيها، يمكننا الإشارة إلى ما يلي:
1 ـ الإرهاب الديني الإسلامي هو النوع الوحيد الذي مازال ينمو. وفيه يُستخدم العنف لإعلاء أهداف يعتقد ممارسوه أنها تستند لأوامر إلهية، بهدف إحداث تغيرات سياسية أو مجتمعية شاملة. وبما أن أمثالهم لا يهمهم اجتذاب ولاء أحد بل اتباع رؤيتهم الخاصة حول الإرادة الإلهية؛ فليس لديهم ما يكبح أفعالهم بالطريقة التي سبق تاريخيا حدوثها لغيرهم. وكما يقول هوفمان: "فإن الجماعات الإرهابية الدينية المتطرفة يمكنها استخدام العنف اللامحدود ضد قائمة واسعة، بل غير محدودة، من الأهداف قد تشمل أيا من يكون مغايرا للجماعة في الدين أو الطائفة". وبالتالي فليس هناك حتمية للانتماء إلى تنظيم مغلق ومحدد، إذ يكفي أن يشعر شخص ما بأن واجبه الديني يدفعه للقيام بتنفيذ أوامر إلهيه لكي يسعى للقيام بما في وسعه.
ولكي يأخذ الشخص هوية جهادية، فعليه أن يقتلع ذاته من مجتمعه القريب، وأن يسيس وجهات نظره ويبحث عن مجموعات تشارك نفس الأفكار. وبالتدريج يؤدي أسلوب التفكير الجَمعي (group thinking) إلى القضاء على تعدد وجهات النظر وإلى تبسيط الواقع واختزاله، ويدفع الشخصَ إلى نزع الإنسانية عن كل من يعارضه، حتى لو كان مسلما مثله. وقد أدت "ميكانيزم" شبيهة إلى هزيمة الإرهابيين اليساريين الأوروبيين في السبعينيات والفوضويين في نهاية القرن 19 لأنها تعزلهم عن الفئات أو الطوائف التي (يظنون أنهم) يعملون بالنيابة عنها. ولكن من المستبعد أن تؤدي لنفس النتيجة (أي الهزيمة) في حالة الإرهاب الإسلامي لارتباطه بالولاء لما هو "مطلق" وكذلك لأن "التفويض المعنوي" المتفق عليه ضمنا لم يتم سحبه بصورة واضحة.
2 ـ استخدام واسع للتكنولوجيا الحديثة. تقول دراسات مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي أن عدد المواقع الإرهابية الإسلامية قد تعدت 4000 ونشاطاتها تشمل بث الأفكار وتبادل المعلومات والدعاية والسايبرإرهاب. ويقوم الإرهابيون اليوم بتبادل التعليمات وخطط الهجوم بل والتحويلات المالية عبر لوحات الرسائل وغرف الدردشة. وتقوم مواقعهم بدور أرض تدريب تخيلية تعطي دروسا في صنع القنابل وإطلاق الصواريخ الخ. كما أنها تبث فيديوهات دعائية مصممة بحرفية عالية بهدف رفع الروح المعنوية التحميس واستقطاب أعضاء جدد. وعلى سبيل المثال نشرت جماعة الزرقاوي في يوليو 2005 فيديو بروباجاندا عالي الجودة (وصفته الواشنطن بوست بأنه يشبه التقارير السنوية لكبرى الشركات) مدته 46 دقيقة وعنوانه "الدين سيصبح لله".
4 ـ الإعلام الذي يمجد الإرهاب ويدعو إليه، بحرفية فائقة. وما تقوم به فضائيات إخبارية (مثل "الجزيرة") وغيرها من المنابر المشابهة التوجه في هذا المجال لا يحتاج لدليل على أهميته في اجتذاب الإرهابيين الجدد، إذ تقوم بتحويل رموز الإرهاب إلى "أيقونات"، وأفكار الإرهاب إلى دوافع ليست فقط مقبولة وذات مشروعية تامة، بل هي أقرب إلى الواجب الذي يؤدي التقاعس عنه إلى شعور بالذنب.
5 ـ يرتبط بهذا بالطبع وجود الكثيرين ممن يدفعهم حب الظهور والتشبه بالأبطال الأيقونية إلى القيام بأعمال "خارقة" تجلب لهم المديح والاعتراف، حتى بعد موتهم. ومن بعض الأوجه، وكما قال بريان جنكينز في 1974 ، فإن "الإرهاب هو عمل مسرحي".
6 ـ الدور الذي تقوم به النظم الاستبدادية التي تقاوم الإرهاب المنظم إذا كان يهدد استقرارها، لكنها تنافسه بهدف سحب البساط من تحت رجليه، عن طريق بث أفكاره على نطاق واسع مما يسهم بشكل حاسم في "دمقرطة" الإرهاب.
7 ـ انتشار الحفز والحث الديني الذي يؤدي بالمؤمن إلى أن يتحول لإرهابي يأخذ الأمور بيديه بدون انتظار لأحد. ونماذج هذا قيام "أناس عاديين"، أحيانا من الجيران، بمهاجمة كنائس في باكستان ومصر والعراق وغيرها. ولا تنجو من الاستهداف صالونات الحلاقة، وبالطبع محلات بيع الخمور، كما يحدث في العراق أو غزة. ومع مثل هذه الأفعال تنهار المسافة بين الإرهاب (كما تم تعريفه أعلاه) وانفجارات الغضب الهمجي للغوغاء.
8 ـ انسحاب "النخب" من المفكرين والمثقفين من الساحة خوفا من تهديدات وابتزاز "شباب" الإرهابيين، مما يشجع هؤلاء أكثر فأكثر؛ إذ يرون نتائج مباشرة لأعمالهم تجعلهم يشعرون بالنشوة وتدعوهم للتمادي. ومن نماذج هذا انسحاب سيد القمني وغيره من المفكرين في مصر والعراق وغيرهما، وأخيرا بلغت الأمور حد المهزلة الكارثية غير المسبوقة في العالم، عندما أصر نجيب محفوظ، الأديب العربي الوحيد الحائز على جائزة نوبل، على ألا ينشر روايته "أولاد حارتنا" في مصر إلا إذا وافق على ذلك الأزهر (الجهة الدينية التي ليس لها أصلا حق الرقابة على الأعمال الأدبية) وإلا إذا كتب مقدمة الطبعة أحد رموز الإسلاميين في مصر!! [فقط نرجو ألا تقوم حملة للمطالبة بسحب جائزة نوبل من محفوظ بسبب ما فعل...].
***
هذا قليل مما يمكن قوله حول "دمقرطة الإرهاب" وهو واحد من أهم الإنجازات والمساهمات الحضارية للعالم العربي الإسلامي في العصور الحديثة. والآن إلى الظاهرة الثانية التي ابتكرها العالم العربي الإسلامي: "إرهاب الديموقراطية".
***
هناك أكثر من وسيلة للاحتيال على الديموقراطية أو الالتفاف حولها أو اغتيالها:
ـ الديموقراطيات "الشعبية" التي كانت إسما على غير مسمى للديكتاتوريات الشيوعية التي انهارت معظمها مع انهيار الاتحاد السوفييتي ولم يبق منها سوى أمثال "الجمهورية الديموقراطية الشعبية الكورية" التي يرأسها "القائد المحبوب كيم يونج إل"، نجل "القائد الكبير كيم إل سونج". والحق يقال أن تلك النظم كانت تعتبر نفسها "ديموقراطية" طبقا لتعريف الأحزاب الشيوعية، حيث تعني ديكتاتورية الطبقة العاملة (البروليتاريا) التي يمثلها الحزب الشيوعي الذي تتركز قيادته في لجنته المركزية الخ.
ـ القفز عن طريق الديموقراطية إلى إقامة نظم فاشية. والمثال الأشهر في ذلك، كما سبق وكتبنا، هو صعود هتلر إلى الحكم بطريقة ديموقراطية تماما. ومازال المؤرخون يبحثون في كيفية تحول ألمانيا من ديموقراطية ليبرالية مستقرة إلى فاشية بشعة في ظرف مائة وخمسين يوما فقط بين يناير ويونيو 1933.
ـ ديموقراطية "العصارة والمصفاة"، وفيها يقوم النظام الحاكم بإقصاء معارضيه وتحديد من يحق لهم الترشيح للمناصب السياسية بناء على تطابق أفكارهم مع توجهاته. وهذا ما يحدث في جمهورية الملالي الإيرانية حيث تكون "مجلس الخبراء" بعد الثورة الإيرانية التي شاركت فيها قوى متعددة لكن الخوميني وأتباعه انقضوا عليها وتخلصوا من كافة شركائهم. ويقوم المجلس، الذي يرأسه "المرشد الأعلى للجمهورية"، بفحص المرشحين بتدقيق شديد، بما في ذلك لمنصب رئيس الجمهورية (الذي هو في الحقيقة رئيس للحكومة، ينفذ توجيهات المرشد الأعلى)، قبل السماح فقط لمن يتماشون مع توجهات النظام بخوض الانتخابات. وهذه تجري عادة في جو معقول من الحرية لأنها، في النهاية، تفسح المجال لاختياراتٍ بين متشابهِين: إذ الناخب حر تماما في أن يختار، بكامل إرادته، عبر طيف الألوان بين الأسود الغامق والأسود الفاتح.
ولكن نموذج "الديموقراطية" الذي نحن بصدده هو الجديد في الموضوع. وفيه يمكن لجماعات ذات أجندات إرهابية أو ديكتاتورية أو توتاليتارية شمولية معروفة مسبقا أن تنجح في الوصول إلى الحكم بتأييد شعبى عن طريق إحدى آليات (procedures) الديموقراطية. أي إنه أحد نتائج اختزال فكرة الديموقراطية لتصبح محصورة في صندوق الانتخابات. وفي هذه الظاهرة، يمكن لأعداء الديموقراطية الذين يعتبرونها رجسا من عمل الشيطان أن يصبحوا فجأة من أشد "أنصارها" المدافعين عنها، ويسرقون شعارات الإصلاح والتغيير ليصبح لها معنى مناقض لمضمونها الأصلي. وإن تجاسر من يعترض، هب "الديموقراطيون الجدد" للدفاع التام أو الموت الزؤام عن لعبتهم الجديدة صارخين في وجوه منتقديهم: "ألستم تطالبون بالديموقراطية؟ هاهي أمامكم بأبدع صورها! أم أنكم ترفضونها لأن نتائجها لا تعجبكم؟"
والخطوة التالية بعد الوصول إلى الحكم هي "إرهاب الديموقراطية" حيث يتم تقنين وممارسة أفعال مناقضة لقيم الديموقراطية بتأييد "شعبي". وتُفرض دساتير وقوانين تتنافى مع مباديء مواثيق حقوق الإنسان العالمية بحجة أنها تمثل رغبة "الأغلبية"؛ وبالتالي فليس على "الأقلية" سوى أن تقبل بهذا أو تبحث لها عن بلاد أخرى! ويجري تحديد خطوط حمراء يؤدي الاقتراب منها إلى التهديد ببحار من الدماء. ويتم كل هذا عبر الادعاء بأن الأغلبية والأقلية ليست مسألة تجمعات سياسية مبنية على الرؤى والمصالح المشتركة، بل جماعات مصنفة طبقا لهويتها (غالبا "الدينية"). وهكذا فإن مجرد موافقة "أغلبية" (طبقا لهويتها) على شيء ما، حتى لو كان يتناقض مع أسس وقيم الديموقراطية أو يعني ذبحها بعد الممارسة الأولى أو لا يقبله الضمير الإنساني بالمعنى الواسع مثل "الحجر على الحريات" أو "تقنين عدم المساواة"، يُقدم على أنه قمة "الديموقراطية".
[وإذ لا نمل عن إعادة التأكيد، المرة بعد الأخرى، بأن الديموقراطية تستند إلى قيم وأسس محددة، فلنتخيل ـ من قبيل التسالي ـ حالة عصابة لصوص تتبع أساليبا "ديموقراطية" بمعنى التوافق بين أعضائها على "الزبون" القادم الذي سيتم سرقته، وعدم القيام بعملية ما لم تتم مناقشتها وأخذ الرأي حولها. هل تعني كل هذه الممارسات أن ما تقوم به العصابة هو "عمل ديموقراطي" ؟]
***

هذه الظاهرة الجديدة مرتبطة أساسا بصعود وتنامي الإسلام السياسي في العقود الأخيرة. وبالطبع، فإن الانتخابات لم تخلقه من عدم لكنها قننت واقعا موجودا.
يرى أستاذ العلوم السياسية ألان جيرار سلاما (لو فيجارو) أنه "لا يمكن للمرء ألا يلاحظ الترابط الشديد بين البدء في الممارسات الديموقراطية في العالم العربي الإسلامي وبين صعود أعداء الديموقراطية الأكثر راديكالية وعنفا إلى السلطة" (أو اقترابهم منها). أي إن "الديموقراطية تحولت إلى منصة قفز لأعداء الحرية".
ويعبر فؤاد عجمي، الأستاذ بجامعة جون هوبكنز (وول ستريت جورنال) عن الأمر بانزعاج شديد: "قيل لنا في السابق أن الخيار هو بين النظم الاستبدادية وبين الإرهاب. وقد استيقظنا على الإدراك المرعب بأن الأوتوقراطيات والإرهاب كانا توأمين، وأن حكام البلاد العربية الخبثاء قاموا بتحويل غضب شعوبهم تجاه بلاد وشعوب أخرى".
ويرى فريد زكريا، رئيس تحرير الطبعة الدولية لنيوزويك، أن "هذا الذي يبدو وكأنه تقبل للديموقراطية لا ينبغي إساءة فهمه واعتباره تقبلا للقيم الغربية مثل الليبرالية والتسماح والحرية. فالبرنامج الذي تتبناه معظم هذه الجماعات هو معاد لليبرالية ويتضمن تراجعا عن حقوق المرأة ويعني المواطنة من الدرجة الثانية للأقليات ويعني المواجهة مع الغرب واسرائيل". ويحذر من أن "تقبل هذه القوى (كأمر واقع) لا ينبغي أن يعني الاحتفاء بها. فمن المهم ألا يُعامل التطرف الديني والتوجهات المعادية للحداثة على أنها تنويعات ثقافية جديرة باحترامها". ويضيف "وكما أظهرت أزمة الكاريكاتير، فإن عنف رد الفعل في بعض أجزاء العالم الإسلامي يشير إلى رفض أفكار التسامح وحرية التعبير، التي هي في قلب المجتمعات الغربية الحديثة".
ويقدم زكريا تحليله لكيفية وصولنا إلى هذه النقطة قائلا: "الأصولية الإسلامية كان لها أهداف ثورية (..) والرغبة في إقامة نظم إسلامية وليس ديموقراطيات غربية كان في موقع القلب من رسالتهم، وغالبا بأهداف عريضة وعابرة للأمم. ولكن اتضح أن تقبل مثل هذه الأيديولوجية كان محدودا. بل إن الناس في الجزائر ومصر والسعودية كانوا يفضلون أن يتقبلوا ـ على مضض ـ الديكتاتوريات التي يعيشون تحتها عن مساندة التطرف العنفي. ومع الوقت، أدرك الكثير من الإسلاميين الواقع وبدأوا في تغيير برنامجهم، وبدلا من الانقلاب العنفي والثورة والفوضى الاجتماعية، أدركوا أن أفكارهم يمكنها في الواقع أن تلقى قبولا شعبيا واسعا. ولذا أعادوا اختراع أنفسهم، مؤكدين على "التغيير السلمي" بدلا عن الثوري".
وبالطبع فالتغيير في الأسلوب فقط، وبدون التخلي عن حرف واحد من الأهداف النهائية. وهكذا شرعوا في إعادة هندسة المجتمعات من أسفل لأعلى وبصورة تراكمية تجعل كل خطوة تبدو صغيرة في حد ذاتها، لكن المحصلة النهائية هائلة. ويتم الاستفادة بمهارة من التذمر الشعبي الناتج عن المشاكل الحياتية أو عن عجز الحكومات عن التنمية الحقيقية، بسبب الفساد والتخبط السياسي الخ. وتجري عملية سحر للعقول، بالتبشير بحلول يوتوبية صحراوية، مغلفة بعواصف كلامرملية تعمي الأبصار والبصائر. (ولا بأس ـ عند اللزوم ـ من إعطاء جرعات مركزة من بول البعير، صباحا على الريق ومساء قبل النوم). وكل هذا سيضمن التسليم والاستسلام الكاملين. ويكون "بارومتر" التغلغل الشعبي عن طريق قياس مظاهر محددة مثل نسبة المحجبات والملتحين.
***

وقد تزامنت المراحل المتقدمة لهذا المشروع مع التوجه الجديد في السياسة الأمريكية الذي جعل من نشر الديموقراطية هدفا رئيسيا في "الشرق الأوسط الكبير"، مما ساعد بصورة غير متوقعة على الإسراع بالنتائج الكارثية التي بدأنا نراها.
ولكن كوندوليزا رايس تدافع عن توجهات السياسة الأمريكية قائلة أنه برغم كل شيء فهي "مقتنعة بحكمة زرع الديموقراطية في الشرق الأوسط وأن البديل هو حبس الغضب المتراكم في المنطقة الذي يمكن أن يؤدي لمزيد من العمليات الإرهابية ضد الغرب"، وتعتقد أن "هناك تحولات هائلة عبر الشرق الأوسط، ولكن يصعب التنبؤ بنتائجها لأن هذه ببساطة هي طبيعة التغيرات التاريخية الكبرى".
وهذا الكلام يدل على سيطرة نوع من الفلسفة التفاؤلية المعروفة في أمريكا والتي تحسن الظن بالآخرين إلى حد السذاجة، بدلا من الواقعية المطلوبة في بعض الأحيان؛ أو يدل، كما يقول مارتين إنديك، الذي كان وسيط مفاوضات في الشرق الأوسط في إدارة كلينتون، على "الفشل المفهومي لإدارة بوش التي تعتقد أن الانتخابات والديموقراطية تحل كل شيء".
وقد سبق أن تساءل جريجوري كاوز، الأستاذ بجامعة فيرمونت، في سبتمبر 2005 (الفورين أفيرز)، أي قبل موجة الصعود الإخواني في انتخابات مصر وفلسطين، قائلا "هل صحيح أن الديموقراطية هي الترياق لسم الإرهاب؟ للأسف يبدو أن الإجابة هي لا". ويضيف "إن من يظنون أن الديموقراطية ستحد من خطر الإرهاب يبدو أنهم يعتقدون أن الإرهابيين والمتعاطفين معهم، إذا ما أُعطوا الفرصة للمشاركة المفتوحة في السياسات التنافسية وسُمح لأصواتهم بأن تُسمع في الساحة العامة، سوف لا يلجأون إلى العنف لتحقيق أهدافهم (...). ولكنه من المنطقي بنفس الدرجة افتراض أن الإرهابيين سوف يرفضون ذات المباديء الخاصة بحكم الأغلبية وحقوق الأقلية التي تتأسس عليها الديمقراطية الليبرالية. وإذا عجزوا عن تحقيق أهدافهم عبر سياسات ديموقراطية، فمن قال أنهم سيضحون بأهدافهم في سبيل احترام الآليات الديموقراطية؟ الأكثر احتمالا هو أنهم سينقضون على الديموقراطية إذا لم تؤدي للنتائج التي يرغبونها".
***

هل هناك مخرج من هذا المأزق الخانق؟
يرى مارتن إنديك بضرورة البدء أولا وقبل كل شيء ببناء المجتمع المدني والمؤسسات الديموقراطية. ويعتقد كاوز أن القوى غير الإسلامية ستحتاج لسنوات طويلة قبل أن تكون مستعدة للمنافسة الانتخابية. ويحذر: " بدلا من الضغط نحو انتخابات سريعة، فعلى أمريكا أن تركز طاقاتها في تشجيع وتنمية المؤسسات السياسية العَلمانية الوطنية والليبرالية التي يمكنها المنافسة على نفس المستوى مع الأحزاب الإسلامية. وإذا لم يكن لديها الصبر، فعلى واشنطن إدراك أن سياساتها للدمقرطة السريعة ستؤدي لسيطرة الإسلاميين على سياسات العالم العربي... وبدون الحد من الإرهاب المعادي لأمريكا".
ومن ناحيته، يرى زكريا "أن التجربة أوضحت أن تشجيع الديموقراطية وتشجيع الحرية في الشرق الأوسط هما مشروعان مختلفان. كل منهما له مكانه؛ لكن الأخير ـ تشجيع قوى التحرر السياسية والاقتصادية والاجتماعية ـ هو المهمة الأصعب وأيضا الأهم. وما لم ننجح فيها، فالنتيجة ستكون سلسلة من النتائج الديموقراطية البشعة، كما بدأنا نرى بالفعل في عدد من الأماكن".
وهو يعتقد متفائلا بأن "هذا الصراع مع الأصوليين ليس قدريا أن يكسبوه. فالقوى الليبرالية كانت مقهورة في الشرق الأوسط لعقود، وهي تحتاج لمساعدة"، ولكنه يرى مشكلة آنية: إذ بينما الإدارة الأمريكية محقة في إدراك أن سياسة المساندة العمياء لديكتاتوريات الشرق الأوسط أدت إلى القهر وانعدام الاستقرار، إلا أنها لم تجد بعد طريقة لمساندة وتأييدالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. "لقد توقفنا عن الشراكة مع النظم القمعية ولكننا لم ننجح بعد في تكوين شراكة حقيقية مع المجتمعات".
***
المصيبة الحقيقية هي أنه، إضافة إلى قيم الحرية والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانية الفردية فإن الديموقراطية، كما يقول الأستاذ سلاما، تستند قبل كل شيء إلى ثالوث "العقلانية ـ المسئولية ـ العلمانية" كشرط ضروري. فكيف إذن يمكن أن نحلم بنجاح الديموقراطية ما لم تتم إعادة تأهيل شاملة للمجتمعات التي أصبحت ترفض كل تلك القيم الأساسية، وبدلا من ذلك تستمسك بيقينٍ وولهٍ شديدين بثالوث "الدوجماتية ـ التواكلية ـ الهلوسة الدينية"؟
ولنتذكر، أخيرا، أن الديموقراطية تشبه "الحانوتي" الذي مهما أجاد في عمله لا يمكنه أن يمنع "المرحوم" من الذهاب إلى الجحيم..



#عادل_جندي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نجاح الإخوان في الانتخابات البرلمانية المصرية ليس مفاجأة
- الإصــــــلاح والتصليــــــح
- التفسير الجُحاوي للتاريخ
- زوابع التصحير
- عـرض كتـاب هـام حول مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية - الح ...


المزيد.....




- فيديو غريب يظهر جنوح 160 حوتا على شواطىء أستراليا.. شاهد رد ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1000 عسكري أوكراني خلال 24 سا ...
- أطعمة تجعلك أكثر ذكاء!
- مصر.. ذعر كبير وغموض بعد عثور المارّة على جثة
- المصريون يوجهون ضربة قوية للتجار بعد حملة مقاطعة
- زاخاروفا: اتهام روسيا بـ-اختطاف أطفال أوكرانيين- هدفه تشويه ...
- تحذيرات من أمراض -مهددة للحياة- قد تطال نصف سكان العالم بحلو ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن سلمت كييف سرّا أكثر من 100 صاروخ ATA ...
- مواد في متناول اليد تهدد حياتنا بسموم قاتلة!
- الجيش الأمريكي لا يستطيع مواجهة الطائرات دون طيار


المزيد.....

- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - عادل جندي - إسهام حضاري للعالم العربي الإسلامي: دمقرطة الإرهاب وإرهاب الديموقراطية