أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - مقتل الملك بطليموس و نهاية الحكم الملكي بموريطانيا السياق و التمثلات















المزيد.....



مقتل الملك بطليموس و نهاية الحكم الملكي بموريطانيا السياق و التمثلات


يوسف رزين

الحوار المتمدن-العدد: 5687 - 2017 / 11 / 3 - 01:14
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    




مقدمة
I- تنصيب الملك بطليموس، السياق التاريخي
1- انقسام في روما
2- موريطانيا، مرآة روما
3- الملكية بموريطانيا، انقطاع و عودة
II- بطليموس ملكا
1- ثورة تكفاريناس
2- كرونولوجيا المستوطنات
3- اشكالية العاصمة
III- مقتل الملك بطليموس 1- تيبريوس، الاحتواء المزدوج
2- أب الجيوش
3- زعيم الهلينيين

خاتمة
بيبليوغرافيا



مقدمة :
يهتم علم التاريخ برصد لحظات التحول في حياة المجتمعات، لذلك سمي بعلم المتغيرات، فرسم المسار الذي سلكته الشعوب عبر تاريخها الطويل و المنعطفات التي مر منها ، هي ما يثير فضول و اهتمام المؤرخ ، فيلتفت اليها متسلحا برغبته في الفهم و التفسير.
ان اي تحول في مسار الشعوب لا يحدث من فراغ، بل له اسبابه المباشرة و غير المباشرة. و ضبط هذه الاسباب و تحديدها هو من صميم عمل الباحث في التاريخ. و لهذا وفي هذا الاطار، يندرج بحثنا هذا، كمحاولة منا لفهم سبب مقتل بطليموس آخر ملوك موريطانيا.
قد يطرح السؤال التالي : ما علاقة مقتل هذا الملك بدراسة لحظات التحول في حياة الشعوب؟ و الجواب هو ان حدث مقتل بطليموس يتطابق تماما مع حدث فقدان موريطانيا لاستقلالها و الحاقها بالامبراطورية الرومانية.
ان هذا العمل قد يبدو ظاهريا بأنه بحث في البيوغرافيا ، اي انه بحث في حياة هذا الملك الموريطاني و اعماله و منجزاته. و لكنه في الواقع بحث في البنيات العميقة لشعوب العالم الروماني والتحولات البطيئة التي مرت منها سواء على المستوى الاجتماعي او الاقتصادي او الذهني او الجغرافي، و التي صنعت لنا سياقا تاريخيا ادى في النهاية الى مقتل بطليموس.
لذلك سنأخذ القارئ في رحلة زمنية طويلة، تمتد من بداية تشكل الدولة الرومانية الى مقتل بطليموس و نهاية الحكم الملكي بموريطانيا. إذ ان واقع هذه الاخيرة لم يكن معزولا عن واقع روما. لقد كانت هناك علاقة جدلية بين الطرفين اساسها التأثير و التأثر. فكما اثرت روما في تاريخ موريطانيا فإنها ايضا تاثرت بها. و يكفي ان نشير في هذا الصدد الى ان الملك بطليموس و غريمه الامبراطور كاليكولا كانا ينحدران من جد واحد ، و كلاهما مات بطريقة دراماتيكية. و كأن مصير روما لصيق بموريطانيا و العكس صحيح.
غير ان هذا العمل ليس بحثا عن اسباب مقتل بطليموس و السياق التاريخي الذي جاء فيه فحسب ، بل هو ايضا كشف و تبديد للتمثلات التي احاطت بهذا الملك و مملكته موريطانيا. ذلك انه بالاطلاع على الابحاث التي قام بها عدد من المؤرخين، لتقديم تفسير لمقتل بطليموس، فإننا نجد انفسنا امام حيرة حقيقية و عدم اتفاق من طرفهم. و ذلك راجع في نظرنا الى ان سيرة هذا الملك الموري و مملكته موريطانيا، عانت من تمثلات و سرد غير منظم ، ما جعل من عملية ايجاد السياق التاريخي الصحيح لمقتله امرا مستحيلا.
لذلك، و ادراكا منا للاشكالات المحيطة بهذا العمل، من معطيات تاريخية قليلة وتمثلات راسخة و خلط تأريخي ، فإننا قررنا معالجة موضوع بحثنا بمنهج تركيبي، يقوم على تحليل المعطيات التاريخية و الاركيولوجية و الجغرافية و الانثروبولوجية، و نقدها و ترتيبها و تركيبها، بغية اعادة بناء تاريخ موريطانيا، بشكل اكثر علمية و واقعية و دقة.








I- تنصيب بطليموس ، السياق التاريخي :
1- انقسام في روما :
ظهرت الدولة الرومانية للوجود اول مرة، في شكل نظام ملكي كان نتاج مجتمع انقسم الى طبقتين، هما طبقة العامة و طبقة الاشراف . كان للعامة مجلس يمثلهم يدعى الجمعية القبلية، اما الاشراف فكانوا اعضاء في مجلس الشيوخ باعتبارهم من كبار اصحاب الاراضي. و في اعلى هذا الهرم الاجتماعي و السياسي كان يوجد الملك، الذي كانت بيده السلطات السياسية و القضائية و العسكرية و الدينية، و قد كان ينتخب من طرف مجلس الشيوخ، و بمجرد توليه الحكم، كان يجمع في قبضته سلطة مطلقة، لا تحدها قيود.
ادت هذه السلطة الملكية المطلقة، الى تذمر الطبقة الارستقراطية في عهد الملك لوقيوس تاركونيوس سوبريوس L. tarquinius superbusمن تصرفاته المستبدة. فاطلقت عليه لقب المتكبر و اطاحت به ، و قضت على النظام الملكي سنة 509 ق.م ، مدشنة بذلك عهد النظام الجمهوري. ثم قامت روما في هذا العهد بتوحيد شبه الجزيرة الايطالية، بعد عدة حروب خاضتها مع جيرانها الاتروسكيين و السابينيين و الغاليين الخ .. و بذلك صارت الدولة الرومانية قوة سياسية و عسكرية، ستستطيع فيما بعد، ان تفرض سيطرتها على كافة ارجاء حوض البحر الابيض المتوسط.
تميز نظام الحكم الجمهوري بروما بوجود عدد من الوظائف و المؤسسات المؤطرة لنظامها السياسي. ذلك انه بعد الغاء الحكم الملكي، تم استبدال الملك بشخصين كان مجلس الشيوخ ينتخبهما تحت اسم القنصلين، حيث كانت وظيفتهما من اعلى الوظائف في الجمهورية الرومانية . هذا و قد كان القنصل يحكم كل سنة، ثم يعين حاكما في احدى المقاطعات تحت اسم البروقنصل.
و يقع تحت رتبة القنصل مجلس الشيوخ، كممثل لعظمة الشعب الروماني و دولته، وقد كان له حق ابرام او نقض قرارات الجمعية القبلية. بحيث ان مصادقة الشيوخ على هذه القرارات كانت شرطا اساسيا لتكتسب قوة القانون. ما يعني ان مجلس الشيوخ كان يشكل هيئة رقابية عليا. و بذلك فان الفئة المسيطرة داخل هذا النظام، كانت هي فئة البطارقة او النبلاء، اما فئة العامة فظلت على الهامش محرومة من الامتيازات التي يتمتع بها النبلاء.
بيد ان العامة لم يرضوا بهذا الواقع، و دخلوا في صراع مع النبلاء مطالبين بالمساواة معهم، و امام تعنتهم هاجر العامة سنة 287 ق.م الى تل بانيقولوس، و هددوا بالانفصال عن الدولة الرومانية، ما جعل السناتو يقبل بتنصيب احد افراد العامة و يدعى هورتنسيوس دكتاتورا عليهم لفض الخلاف بينهم، فاستصدر قانونا قضى بان تصبح قرارات الجمعية القبلية سارية المفعول دون ان تسبقها او تعقبها موافقة السناتو عليها .
بيد ان هذه الاصلاحات القانونية التي حصل عليها العامة لم تنه التوتر الكامن بينها وبين طبقة النبلاء، حيث انقسم المجتمع الروماني الى حزبين، و هما حزب الاخيار او النبلاء و حزب الديموقراطيين او الشعبيين، و لكل حزب جهازه التشريعي الذي له حق اصدار القوانين (سناتو و جمعية قبلية) . و لم ينحصر الصراع بين الحزبين فيما هو قانوني، بل تعداه الى ما هو اقتصادي، ذلك ان روما في تلك الفترة عانت من مشكلة الاراضي الزراعية، اذ ان اراضي الدولة الرومانية انقسمت الى ثلاثة انواع، و هي : قطع محدودة المساحة يملكها المواطنون الرومان الفقراء او منحتها الدولة الرومانية لهم، و قطع كبيرة عرضتها الحكومة للشراء، و قطع اكبر منها عرضتها للتأجير و التي كان معظم مستاجريها من الاثرياء الذين يستطيعون اصلاحها و استثمارها، و هم جميعا من النبلاء لكنهم سيطروا عليها مع مرور الوقت، و اعتبروها ملكا لهم، رغم انها تدخل في خانة اراضي الحيازة وليس اراضي الملك الخاص. كما اضاف الاثرياء الى املاكهم العقارية الاراضي التي اشتروها من الفقراء، فامتلأت المدينة بالعاطلين منهم مع تضخم اعداد العبيد في المزارع .
لقد كان واضحا امام هذا الوضع ان الامور تنذر بالانفجار، لذلك ظهر في هذه الاثناء مصلح شاب يدعى تبيريوس جراكوس، حيث تقلد وظيفة التريبون سنة 133 ق.م و تقدم بمشروعه الاصلاحي، القائم على استعادة اراضي الحيازة من النبلاء على الا يحتفظوا باكثر من 500 يوجيرا للفرد الواحد، و اما المساحات الزائدة فتقسم الى ثلاثين يوجيرا ، و توزع على الرومان الفقراء، و هو ما تحمس له العامة و رفضه النبلاء، و ادى الى اندلاع الصراع بين الطرفين، و الذي انتهى بمقتل تيبروس و ثلاثمائة من انصاره سنة 132 ق.م.
لم تشكل هذه الاحداث الدموية نهاية للتوتر القائم بين الطرفين، بل تاكيدا له، خصوصا مع ظهور طبقة الفرسان كمساند لطبقة العامة، و انتخاب جايوس جراكوس تريبونا للشعب عام 123 ق.م، و الذي سيتابع مشروع اخيه، و ذلك من خلال انشاء جبهة سياسية مكونة من طبقة الفرسان و العامة لمعارضة النبلاء . فاستصدر مجموعة من القوانين لتنفيذ مشروعه الاصلاحي و هي كالتالي :
قانون الاراضي الذي هو استمرار لقانون اخيه، و قانون القمح الذي يضمن تزويد روما بالقمح باسعار زهيدة في متناول المواطنين، و قانون الطرق الذي يهدف الى تاسيس شبكة من الطرق الجيدة لربط انحاء الدولة، و قانون الجيش الذي حدد السن الادنى للخدمة العسكرية، و القانون الخامس لانشاء عدة مستعمرات للمواطنين الرومان خارج روما، و القانون السادس الذي كان خاصا بمنح حقوق المواطنة الرومانية للحلفاء الايطاليين .
لكن كما هو متوقع، فان النبلاء رفضوا مشروع جايوس، و نشب الصراع بين الطرفين، و انتهى بمقتل جايوس و 3000 من انصاره على يد القنصل اوبيموس . و منه يتضح ان المجتمع الروماني كان منقسما بشكل جلي الى فئتين متناحرتين ، فئة النبلاء او الاخيار و فئة الشعبيين او الديموقراطيين. و هو ما سيغرق روما في سلسلة من الحروب الاهلية.
اندلعت في هذه الظروف حرب يوغرطة بشمال افريقيا. و اهم ما ميز هذه الحرب هو ان الحملات العسكرية التي جردها مجلس الشيوخ ضد الزعيم النوميدي لم تؤت اكلها، ما ادى الى ظهور القائد العسكري ماريوس كزعيم لتيار الشعبيين، حيث ظفر عام 115 ق.م بمنصب البرايتور، ثم في عام 109 ق.م وقع عليه الاختيار ليكون مساعدا لقائد الحملة ميتيلوس التي ارسلت الى شمال افريقيا لمحاربة يوغرطة . و امام فشل هذا القائد في مهمته اصدرت الجمعية القبلية سنة 107 ق.م قرارها باسناد قيادة الحرب ضد يوغرطة الى ماريوس، متجاهلة قرارا كان السناتو قد اصدره باستمرار ميتيلوس في قيادة القوات الرومانية بافريقيا .
ما ان تولى ماريوس قيادة الحملة العسكرية ضد يوغرطة، حتى ادخل عدة تعديلات على نظام الجندية بروما . نذكر منها انه استحدث اسلوبا جديدا في طريقة تجنيد القوات العسكرية، و نعني به اسلوب التطوع بدلا من نظام الخدمة الالزامية، حيث فتح باب الانتظام في صفوف الجيش على مصراعيه لكل مواطن روماني، بصرف النظر عن حظه من الثراء، بعد ان كان على الجندي الروماني ان يتوفر على نصاب مالي معين لا يملكه جميع المواطنين الرومان للانتساب للجيش . و بذلك يكون ماريوس بهذا الاجراء الذي قام به، قد ادى الى حدوث تغيير بنيوي في الجيش الروماني، فتحول من جيش نبيل الى جيش "شعبي" (اذا جاز هذا التعبير).
اذن، فكما استطاع العامة اختراق مؤسسات الدولة، و ضمان مساواة قرارات الجمعية القبلية بقرارات السناتو، فانهم استطاعوا الان اختراق الجيش و التاثير فيه. كما انه من ناحية اخرى، فإن ولاء هؤلاء الجند المحترفين صار موجها الى قائدهم الذي يضمن لهم رواتبهم، و على هذا النحو انمحى ولاء الجند للدولة و صار موجها لقائدهم، الذي من جهة اخرى صار في وسعه ان يعتمد على جنده المسرحين كأنصار يؤيدونه في حياته المدنية و مستقبله السياسي. و بذلك يكون ماريوس قد دشن مرحلة تدخل العسكريين في الحياة السياسية لروما، بعد ان كانوا قبل ذلك مجرد منفذين لقرارات السناتو.
لقد اتت اصلاحات ماريوس اكلها في حرب يوغرطة، حيث تراجع هذا الاخير امام جيش القائد الروماني. و في النهاية تمكن القائد سولا مساعد ماريوس من القبض على يوغرطة بعد مفاوضات اجراها مع بوكوس ملك موريطانيا، حيث اقنعه بالغدر بحليفه وتسليمه للرومان . لكن و رغم هذا الانتصار على الزعيم النوميدي، الا ان الانقسام لم ينته داخل روما بل تجدد، حيث احتدم جدل عنيف بين الحزبين المتنافسين ، حزب الاخيار(الاشراف) وحزب الشعبيين .
لقد كان ماريوس ابن فلاح، اما مساعده سولا، فكان سليل بيت من بيوت الاشراف ينتمي الى حزب الاخيار . و لهذا فقد اخذ كل حزب ينسب الفضل في النصر لنفسه ، فالنبلاء يقولون ان سولا هو الذي ادار المفاوضات التي انهت القتال، و هو الذي اقنع بوكوس بتسليم يوغرطة للرومان، و العامة يقولون ان ماريوس هو قائد الحرب، و صاحب الانتصارات في معاركها، و لولاها لما استجاب بوكوس لسولا و وافقه على الايقاع بيوغرطة .
و لم يهدأ هذا الجدل، بل تطور الى صراع مسلح بين قوات سولا و قوات ماريوس، و تمخض عنه زحف سولا بجيشه على روما، مسجلا بذلك سابقة خطيرة في تاريخها ، وفرار ماريوس الى شمال افريقيا لاجئا عند جنده القدامى، حيث كانت مستعمراتهم هناك . لكن و بينما غادر سولا روما الى اسيا ليقمع الثورات هناك، عاد ماريوس الى روما و دخلها فاتحا عام 87 ق.م. فما كان من سولا الا ان عاد من آسيا بجيشه، و دخل روما منتصرا ليعلن نفسه دكتاتورا . ثم شرع بعد ذلك ينتقم من خصومه الشعبيين، فاستصدر قانونا بتجريدهم من حقوق المواطنة، و مصادرة املاكهم، و حرمانهم من حماية القانون . كما عمل على تركيز السلطات كلها في قبضة السناتو و سلبها من الجمعيات الاخرى .
و رغم كل هذه الاجراءات التي اتخذها سولا الا ان دستوره لم يصمد بعد وفاته. اذ سرعان ما احتدم الخلاف بين القنصلين اللذين خلفاه كاتولوس و ليبيدوس ، و انحاز هذا الاخير الى الشعبيين، و جمع جيشا في شمال ايطاليا، و قرر الزحف على روما، و هنا احتاج السناتو الى خدمات العسكريين، فاستعان ببومبي و منحه سلطة البروبرايتور، و خوله قيادة جيش للقضاء على ليبيدوس، مع انه لم يكن عضوا في السناتو و لم يسبق له ان تولى منصبا عاما من قبل. و امام توالي الاضطرابات العسكرية من تمرد سرتوريوس باسبانيا و ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس بايطاليا، لم يجد السناتو بدا من الاستنجاد بالقادة العسكريين كبومبي و كراسوس ، و اللذان سينتهزان الفرصة للضغط على السناتو، للترشح لمنصب القنصلية.
و قد لجأ بومبي لتحقيق هذا الهدف الى دغدغة مشاعر العامة. فنادى بضرورة اعادة سلطات الترابنة الشعبيين اليهم كاملة غير منقوصة. و هو ما جعل السناتو يرضخ لمطالب القائدين، فترشحا لمنصب القنصلية لعام 70 ق.م و ظفرا بها. و بذلك يكون قد تم خرق دستور سولا القاضي بمنع الجيش من ممارسة النشاط السياسي، حيث ستصبح سابقة يحتذي بها قادة عسكريون اخرون . و لم يقف الامر عند هذا الحد من الخرق، بل ان القنصلين ردا الجميل للعامة، و استصدرا تشريعا يعيد لترابنة الشعب سلطاتهم كاملة. و هكذا تقوض دستور سولا بشكل كامل، و عادت الاوضاع في روما الى سابق عهدها من تصارع حزب النبلاء و حزب الشعبيين، مع بروز دور القادة العسكريين
ظهر في هذه الاثناء يوليوس قيصر كسياسي مغامر و طموح، و الذي سيشغل منصب البرايتور عام 62 ق.م، ثم سيتولى حكم ولاية اسبانيا عام 61 ق.م، و يفوز بمنصب القنصل سنة 60 ق.م، ليتحالف بعد ذلك مع بومبي و كراسوس، مشكلين بذلك "الحكومة الثلاثية الاولى"I Triumvirat ، او ما يطلق عليه المؤرخون اسم "تحالف القوة"، لان المتحالفين الثلاثة سرعان ما لجأوا الى التهديد باستخدام القوة العسكرية لفرض ارادتهم على السناتو ، وعلى ضوء هذا الواقع الجديد قام هؤلاء الثلاثة بتقاسم النفوذ داخل الامبراطورية الرومانية.
كان من نصيب قيصر ان صار حاكما لولاية غاليا جنوب الالب، بعد ان اوصى زميله في القنصلية بوبيليوس باستصدار قانون من الجمعية القبلية باسناد حكمها اليه لمدة خمسة اعوام، و ان توضع تحت امرته ثلاث فرق عسكرية، و ان يكون له الحق في انشاء ما يرى من المستعمرات .
لقد اختار قيصر ولاية غاليا جنوب الالب لغناها، و لكونها اصلح الممتلكات الرومانية لتجنيد القوات العسكرية، و هي غير بعيدة عن روما. كما اوعز الى السناتو بعد فترة قصيرة باصدار قرار يقضي باسناد ولاية غاليا عبر الالب اليه، و ان يرتفع عدد الفرق العسكرية الى اربع، و هو ما هيأ له بناء جيش قوي عالي التدريب . و بذلك يكون الجيش الروماني قد عرف تغييرا بنيويا ثانيا تمثل في ادخال العنصر الغالي اليه بعد ادخال العنصر الشعبي من طرف ماريوس، و هو ما سيكون له ابلغ الاثر على الحياة السياسية بروما.
كان السناتو يعتقد ان قيصر سيخفق في مهمته في غاليا، نظرا لقوة شعوبها، وبالتالي سيستريح من خطره دون عناء. لكن العكس هو الذي حصل، حيث ان قيصر استطاع اخضاع غاليا، و تكوين جيش قوي و مدرب يأتمر بأوامره وحده، ما جعل السناتو يتوجس خيفة منه، و لذلك حينما طلب قيصر في بداية عام 51 ق.م تمديد فترة بروقنصليته فان السناتو رفض طلبه .
رد قيصر على هذا الرفض بانفاق الاموال لشراء ولاء ساسة روما، و بث عملاءه في صفوف عامة الشعب لكسبهم الى صفه، و هو ما عبر عنه شيشرون في احد خطاباته بان كل المجرمين و الشبان الفاسدين و دهماء المدينة قد وقفوا جميعا الى جانب قيصر و كذلك كل ترابنة العامة و المفلسين . و استمر الوضع الداخلي بروما على النحو المنذر بعودة الحرب الاهلية، فطلب السناتو من قيصر في اول دجنبر عام 50 ق.م ان يتخلى عن ولايتيه و يسرح جيشه، و الا اعتبر عدوا للدولة. كما استقدم السناتو بومبي من خارج روما ،و فوضه مهمة الدفاع عن الجمهورية ضد قيصر.
رد قيصر في المقابل على اجراءات السناتو في حقه، برسالة ارسلها اليهم تتضمن دفاعه عن نفسه و عن حقوق الشعب الروماني و عن الخدمات التي اسداها للدولة، ثم عرض استعداده للتخلي عن بروقنصليته و ان يسرح جيشه شريطة ان يفعل بومبي نفس الشيء، والا فانه سوف يجد نفسه مضطرا للدفاع عن حقوقه و حقوق الشعب . لكن السناتو رد عليه في اليوم السابع من يناير عام 49 ق.م باصدار قراره النهائي القاضي بتخويل بومبي وشيشرون مهمة التصدي لقيصر، و حماية الدولة من الخطر الذي يوشك ان ينزل بها ، وهنا اتخذ قيصر قراره باصدار اوامره لجيشه بعبور نهر روبيكون الذي يفصل بين ولاية غاليا الغربية و ايطاليا و الزحف على روما.
لقد خاض قيصر حروبا عدة، و قام بمناورات سياسية كثيرة، و استطاع التخلص من خصومه بذكاء، الا انه مع ذلك سيلقى مصير الاخوان الجراكيان، اذ سيقوم اعضاء من مجلس الشيوخ باغتياله عند قدومه اليهم . بيد ان هذا الاغتيال لم ينقذ النظام الجمهوري من الانهيار، اذ ستقع الجمهورية مجددا تحت حكم العسكريين ممثلا في سلطة الحكومة الثلاثية الثانية المكونة من مارك انطونيوس و اكتافيوس و ليبيدوس، الذين بدورهم سيتصارعون على كرسي الحكم، و الذي سيؤول في نهاية الامر الى اكتافيوس، ليدشن بذلك عهد الامبراطورية او دولة المواطن الاول، كنظام هجين يجمع بين سلطة الامبراطور و سلطة مجلس الشيوخ .
نذكر في هذا الصدد ان اكتافيوس كان اكثر حكمة من والده بالتبني قيصر، فرغم تدشينه للنظام الامبراطوري الا انه كان حريصا على عدم استفزاز مجلس الشيوخ و اثارة غضبه، فتحاشى اتخاذ لقب المحصي Censor لانه كان يعني مؤدب الشيوخ و مجلسهم ، كما اهتم بشان الشيوخ الذين خسروا اموالهم فاعادها اليهم ، والغى قانونا كان قد اصدره قيصر يقضي بان توزع يوميا نسخ من قرارات السناتو على افراد الشعب . لكن و رغم ذلك، فإن الانقسام السياسي في روما لم يختف في عهد اكتافيوس، بل ظل كالنار تحت الرماد ليندلع من جديد بعد وفاته .
ان اهم ما ميز الوضعية الداخلية لروما في هذه المرحلة، هو انقسامها الى قوتين : قوة النبلاء المشكلين للسناتو ، و قوة الامبراطور المدعوم بالجيش المكون من العناصر الشعبية والغالية . لقد صارت روما تعيش تحت رحمة توازن قوى متعادية تمت ترجمته على ارض الواقع بتقاسم ممتلكات الامبراطورية بين الامبراطور و السناتو، فاختار الاول مقاطعات نذكر منها شمال اسبانيا و غاليا، بينما حاز الثاني مقاطعات يغلب عليها الطابع الهليني ، كاليونان و مقدونيا و صقلية و كريت و ليبيا القورينائية و سردينيا و بيتيكا و نوميديا وافريقيا .
نلاحظ في هذا الصدد صمت المصادر الرومانية عن ذكر مصير موريطانيا، و الى اي فريق آلت ، الامبراطور ام السناتو ، لهذا سنجتهد من جهتنا و نقول انه مادام ان موريطانيا تقع بين بتيكا شمالا و نوميديا شرقا التابعتين لنفوذ السناتو، فاننا نرى انها هي بدورها انتمت لنفوذ هذا الاخير، بدليل ان من صار ملكا عليها هو يوبا الثاني ابن يوبا الاول حليف مجلس الشيوخ و ليس احد افراد عائلة بوكوس الابن حليف اوكتافيوس ، و هو ما سيفسر لنا كثيرا من الاحداث التي ستعرفها هذه المملكة.


2- موريطانيا ، مرآة روما :
لم تكن روما في تعاملها مع شمال افريقيا كتلة واحدة ، فالواقع ان الانقسام الحادث في روما كان يجد صداه على الارض الافريقية، التي بدورها انقسمت الى حزب يناصر النبلاء و اخر يناصر الشعبيين . يعبر المؤرخ استيفان اكزيل عن هذا الوضع بالقول : "بعد نوميديا دخلت موريطانيا في نفوذ الجمهورية لكن حيث ان الاحزاب المتعادية كانت في هذا العهد تتصارع على حكم روما فإن الملوك الافارقة كان لا بد لهم ان يختاروا بين هذه الاحزاب وان ينساقوا طوعا او كرها للمشاركة في الصراع الواقع بينهما " . و من جهتها تقول المؤرخة ميشال كولتولوني : " في نهاية عهد الجمهورية دفعت الحروب التي خاضها الجنرالات الرومان فيما بينهم على الارض الافريقية على امل امتلاك السلطة بروما ، دفعت الملوك الاهالي لخوض غمار شطرنج سياسي لم يكن باستطاعتهم ضبط قواعده" .
ما يهمنا في هذين التعليقين، هو ان افريقيا الشمالية كانت فاعلا اساسيا في مجرى السياسة الرومانية، و ان كل حزب روماني احتاج لمساندة الافارقة ضد غريمه السياسي من اجل حسم الصراع على السلطة بروما، و هو ما تعبر عنه بوضوح المؤرخة ميشال كولتولونوي بعبارة " على امل امتلاك السلطة بروما " ما يفند نظرية مقاومة الافارقة للحضارة الرومانية، او ما تعبر عنه الادبيات الكولونيالية ب "رفض مسلسل الرومنة"، فشمال افريقيا لم تكن تقاتل كتلة رومانية موحدة، بل كانت تساهم في صنع الاحداث داخل روما بمناصرتها لهذا الحزب او ذاك.
اننا بتتبعنا لاطوار الحملات العسكرية لروما على الارض الافريقية، نجد ان الجيوش الرومانية كانت تعاني من انقسام واضح، بين حزب النبلاء و حزب الديموقراطيين، مع سعي حثيث لكل حزب لكسب تاييد الافارقة له.
نجد حينما نبدا بحرب يوغرطة، ان هذا الملك النوميدي قام باقتحام مدينة كيرتا، و قتل المواطنين الرومان بها . قرر مجلس الشيوخ بناء على ذلك تجريد حملة عسكرية لمعاقبته. اسند قيادة الجيش الى كلبورتيوس بيستا الذي كان من النبلاء، و كان الديموقراطيون يكرهونه بسبب ضلوعه في مقاومة مشاريع الاخوين الجراكيين، و انتهت حملته بعقده اتفاقا مع يوغرطة و عودته الى ايطاليا، لكن الديموقراطيين ثاروا ضده، و اتهموا النبلاء بالتواطؤ مع يوغرطة.
تزعم الديموقراطي ميميوس غضب الجماهير، ثم عين السناتو قنصلا جديدا لحرب يوغرطة يدعى البينوس لكنه بدوره عاد لايطاليا و ترك اخاه اولوس الذي استسلم ليوغرطة، حيث ابقى الزعيم النوميدي على حياته تحت شرط ان يمر بجنوده تحت النير وأن يغادر نوميديا في اجل لا يتعدى عشرة ايام . و ارسلت روما بعد ذلك حملة عسكرية بقيادة ميتيلوس، الذي كان ايضا من النبلاء و خصما شديدا للشعبيين ، و رافقه في هذه الحملة مساعده ماريوس عن حزب الشعبيين ذي الاصول المتواضعة.
لكن سرعان ما سيدب الخلاف بينهما، اذ سيتهم ماريوس قائده ميتيلوس بالتباطؤ والتهاون في الحرب ، ذلك ان ماريوس طمح الى الترشح لمنصب القنصلية، فطلب من رئيسه ميتيلوس السماح له بالذهاب الى روما لهذا الغرض، لكن ميتيلوس صده صدا جارحا ملمحا الى ان طموحه قد ذهب به بعيدا، فرد عليه ماريوس منددا به، و متهما اياه باطالة امد الحرب عمدا، و انه يستطيع لو اعطيت له قيادة الحرب، ان ينهيها في ايام قليلة و بنصف حجم قوات ميتيلوس. و وصل ذلك الى اسماع الناس في روما، و وجد صداه لدى الفرسان والشعبيين بصفة خاصة .
تحرج مركز ميتيلوس، و اضطر للسماح لماريوس بالذهاب الى روما، فسانده الفرسان و الشعبيون، و فاز بمنصب القنصلية، و هنا تدخلت الجمعية القبلية و اصدرت قرارها باسناد قيادة الحرب ضد يوغرطة اليه، متجاهلة قرارا كان السناتو قد اصدره باستمرار ميتيلوس في قيادة القوات الرومانية . و هكذا انزلت بالسناتو هزيمة قاسية امام رجل الشعبيين ماريوس، الذين فرضوه فرضا رغم انف مجلس الشيوخ .
ان اطوار هذا المعركة، تكشف بجلاء ان الجيش الروماني كان موزعا بين قيادة ذات ولاء لحزب النبلاء، و اخرى ذات ولاء لحزب الديموقراطيين، بمعنى ان ازمة الانقسام السياسي داخل روما كانت تصاحب حتى حملاتها العسكرية في شمال افريقيا .
تولى القائد ماريوس هذه المرة قيادة الحملة العسكرية ضد يوغرطة، مرفوقا بمساعده سولا المنتمي لحزب النبلاء . انتهت هذه الحملة بان استطاع سولا اقناع الملك الموري بوخوس بتسليم صهره يوغرطة للرومان . و رغم ان هذا الانتصار كان يفترض ان يعيد اللحمة الى المجتمع الروماني، الا انه على العكس من ذلك، زاد من تعميق الانقسام، حيث ادعى كل حزب الفضل لنفسه في انهاء هذه الحرب و الانتصار على يوغرطة، و سيتطور في النهاية الى حرب اهلية بين جيوش ماريوس و سولا.
ما يلفت الانتباه هنا، هو ان ملوك شمال افريقيا انقسموا بدورهم الى انصار و حلفاء الى هذا الحزب او ذاك، فالملك بوخوس ظل طوال حياته مرتبطا بسولا و حزب الاخيار، حيت كان يساهم في الالعاب التي كان سولا يقيمها حين كان قنصلا، فبعث اليه بمائة اسد مع القناصين لصرعها، كما شيد بروما في الكابيتول تماثيل للنصر تحمل شعار الغلبة و بجانبها صورا ذهبية تمثله و هو يسلم يوغرطة الى سولا الشيء الذي اغضب ماريوس فألح في ازالة هذا الاثر . و كذلك فعل بوكود بن بوخوس، فقد كان مع الملك هيمبسبال من المناصرين النشيطين لبومبي الذي بعثه سولا الى افريقيا لمحاربة حلفاء ماريوس واصدقائهم النوميديين و على راسهم الملك يارباس .
يلاحظ في هذا الصدد، ان شرق شمال افريقيا، اي ولاية افريقيا و شرق نوميديا، كان مساندا لانصار ماريوس و حزب الشعبيين، اما غرب شمال افريقيا، اي غرب نوميديا وموريطانيا، فكان مساندا لانصار سولا و حزب النبلاء. و هو ما سيتكرر في الصراع الدائر بين حزب القيصريين و حزب البومبيين .
تذكر لنا المصادر، ان ماريوس نفسه عندما فر من روما بعد احتلالها من طرف سولا سنة 88 ق.م التجأ الى سدرة الصغرى ، ثم الى جزيرة قرقنة، ثم عاد بعد ذلك الى روما لمساندة القنصل سينا عام 87 ق.م . و يذكر اكزيل ان افريقيا كانت ميدانا للصراع بين الديموقراطيين و الارستقراطيين، اي بين كايكيليوس ميتيلوس بيوس بن ميتيلوس الذي قاد الحرب ضد يوغرطة و فابيوس هادريانوس، حيث انتصر هذا الاخير، لكنه في النهاية احرق حيا من طرف مواطنين رومان عقابا على طغيانه عام 82 ق.م .
كما كان في افريقيا عدد من المستوطنين المرينسيين تحت قيادة كنيوس دومتيوس أهنوباربوس عن الحزب الديموقراطي، و كان يحالفه يارباس ملك النوميديين حليف ماريوس، و الذي سيأسره بومبي، و يضع مكانه الملك هيمبسبال حليف النبلاء تنفيذا لاوامر قائده سولا سنة 81 ق.م .
لقد جرت على ارض افريقيا معركة طاحنة بين بومبي عن حزب النبلاء و دوميتيوس عن حزب الديموقراطيين. كما جرت معركة طاحنة بين هيرباس حليف الديموقراطيين وبوكود بن بوخوس حليف النبلاء، و انتهت بهزيمة انصار الحزب الديموقراطي، و اعدام كل من ديميتيوس و هيرباس ، و اعادة هيمبسبال الى ملكه. و قد ساهم الجيتوليون ايضا في هذا النزاع، حيث كانوا انصارا لماريوس في حرب يوغرطة، كما يحتمل ان يكونوا قد ساهموا في جيش دوميتيوس، و لذلك فإنهم بعد عودة هيمبسبال الى ملكه، فقدوا استقلالهم، وصاروا من رعايا هذا الملك .
لقد كان انجاز بومبي على ارض شمال افريقيا من الاهمية بمكان، لدرجة انه عاد كقائد منتصر الى روما، و وجد سولا في استقباله، مانحا اياه لقب العظيم، ما يوضح الاهمية القصوى للانتصار على ارض شمال افريقيا لدى الحزب الحاكم بروما.
تجدر الاشارة الى ان الملك هيمبسبال هو والد الملك يوبا الاول، الذي بدوره سيعبر عن دعمه الشديد لحزب النبلاء في صراعه ضد قيصر. و توضح لنا حادثة حصلت في عهد الملك هيمبسبال تطابق الانقسام الروماني مع نظيره الافريقي . فقد حدث خلاف شديد بين امير نوميدي يدعى ماسينتا و هيمبسبال، فالتجأ الى روما محتميا بقيصر، و بعث هيمبسبال ابنه يوبا يطلبه، و رغم انه حصل على الموافقة على طلبه، الا ان قيصر دافع عن الامير النوميدي و اهان يوبا. و حينما ذهب قيصر الى اسبانيا اخذ معه الامير النوميدي اليها، وحمله في محفته ، مما يوضح رغبة قيصر كممثل للحزب الديموقراطي في اختراق البيت الحاكم لنوميديا، و تحويل ولائه من حزب النبلاء الى حزب الشعبيين.
و بذلك نشأ حقد كبير بين قيصر و يوبا، سيترجم فيما بعد في شكل معارك طاحنة. و لم يقتصر الامر على هذه الحادثة، بل سنجد ان قيصر سنة 50 ق.م يوعز لعميله النقيب كوريون Curion بالتقدم بمشروع قانون يرمي الى الاستيلاء على المملكة النوميدية ، مما يوضح تعطش الحزب الديموقراطي لاستعادة مناطق نفوذه بشمال افريقيا التي كانت له في عهد ماريوس . و هو ما سيتضح جليا عند اندلاع الحرب الاهلية بداية سنة 49 ق.م بين بومبي وقيصر . لقد جرت حروب عديدة على ارض شمال افريقيا بين انصار حزبي هذين القائدين و مرة اخرى انقسمت شمال افريقيا بينهما.
انضم الملك النوميدي يوبا الاول في هذه الاحداث الى حزب مجلس الشيوخ، الذي عين فاروس Varus و كندسيوس لنكوس لحماية افريقيا من هجوم يقوم به القيصريون. اما قيصر فكلف سكربيونيوس كوريون Scribonius Curio بالاستيلاء على افريقيا . يذكر ان كوريون هذا هو من طلب حينما كان نقيبا بالاستيلاء على مملكة نوميديا. و هنا يتضح انه قد قرر ان يجعل هذا الطلب موضع التنفيذ لذلك فان يوبا كان يبغض قيصر، و يبغض كوريون اكثر منه . و قبل ان يغادر هذا الاخير صقلية، كان يوبا قد حشد جيشا، استطاع ان يسيره بمجرد ما علم بنزول القيصريين و مسيرهم الى اوتيكا.
اشتبك الطرفان، و هزم القيصريون، و مات كوريون، و دخل يوبا الى اوتيكا يتبعه عدد من الرومانيين الاعضاء في مجلس الشيوخ، و كان سلوكه بالمدينة سلوك السيد. و قد خوله مجلس الشيوخ الذي كان يجتمع بمقدونيا، صفة الملك الصديق و حليف الشعب الروماني. اذ ان انتصاره على فيالق رومانية يستحق هذا التشريف الذي جاء متاخرا ، على حد قول اكصيل. ما يعني ان الانقسام لم يكن افقيا، اي روما ضد شمال افريقيا ، بل عموديا، اي ان روما و شمال افريقيا كانتا ضد روما و شمال افريقيا، او بعبارة اخرى، كان انصار حزب النبلاء من الرومان و الافارقة ضد انصار حزب الشعبيين من الرومان و الافارقة . فشمال افريقيا لم تكن تقاوم مسلسل الرومنة كما يدعي المؤرخون الكولنياليون، بل كانت تساهم بقوة في صنع الحدث الروماني بانحيازها لهذا الفريق او ذاك.
أشار البعض على بومبي بعد هزيمة فرسال Pharsale بالذهاب الى افريقيا، لان العديد من الشيوخ الجمهوريين قد التجاوا اليها منذ السنة السالفة، و لان الولاية الرومانية تخضع لمساعديه، كما ان ملك نوميديا القوي هو حليف موثوق به، اذ ان دم كوريون يمنع كل تصالح بين قيصر و يوبا، ولكن بومبي قرر ان يتوجه الى مصر، و في 28 ستنبر عام 48 ق.م قتل في القارب الذي كان يحمله الى الشاطئ المصري ، ما يوضح لنا ان رهان الجمهوريين على مصر كان خاسرا.
لذلك قرر صهر بومبي و زميله في القيادة ميتلوس سيبيون الذهاب الى ولاية افريقيا ومعه بعض القادة، و اخيرا فإن بعضهم التفوا حول بوركيوس كاتون Porcius Cato الذي بدوره قرر الذهاب الى افريقيا. و هكذا صارت افريقيا ملجأ الجمهوريين و قلعتهم ، وكأنها قد انقلبت الى روما ثانية. لكن اذا كانت ولاية افريقيا قد صارت تابعة لمجلس الشيوخ، فان اهل اوتيكا كانوا يميلون الى قيصر، لذلك طلب يوبا تقتيلهم و تهديم المدينة .
لكن كل ما قام به مجلس الشيوخ هو انه عامل اهالي اوتيكا المشكوك فيهم بشدة، حيث حجز جميع الاسلحة، و جمع كل الرجال الذين هم في سن القتال في معتقل اقيم خارج اسوار المدينة، كما شددت المراقبة على اصحاب المناصب العليا ، اما مجلس الشيوخ التابع لقيصر فتذكر المصادر انه اعلن ان يوبا عدوا للشعب ، و اعترف لبوكود و بوخوس و هما خصمان للملك النوميدي، بانهما ملكان، لان مساعدتهما كانت ضرورية للجيوش الرومانية التي ستنطلق من الهضبة الايبيرية، و تعبر اراضي الملكين لتقتحم نوميديا، ثم تحتل ولاية افريقيا .
و هنا يجدر بنا ان نتوقف قليلا عند هذه الرواية الخاصة بالملك بوكود، و نقول بأنها غير صحيحة، لان بوكود ملك موريطانيا الغربية سبق و أن كان حليفا لحزب النبلاء حيث قاتل هيرباس حليف الديموقراطيين. ثم انه بتتبع حملة كسيوس لنكسيوس القائد العسكري التابع لقيصر، و الذي طلب منه ان يعبر بفيالقه الخمسة من ايبيريا الى افريقيا عبر موريطانيا الغربية، فاننا نجد ان هذا المرور قد استعصى على لونكسيوس، بسبب المقاومة المورية، التي لا نجد لها تفسيرا الا انها كانت بتوجيه من الملك بوكود، الذي ليس من صالحه ان تقتحم القوات الرومانية ارضه.
و لهذا نجد ان قيصر لم يحاول مرة اخرى استقدام قوات رومانية عبر موريطانيا الغربية، اما عن بوخوس، فمن الواضح ان قيصر ضمه لحزبه، بعد ان لعب على التناقضات الحاصلة بينه و بين جاره الغربي بوكود. نلاحظ كذلك ان بوخوس وحده من قدم مساعدة عسكرية لقيصر في حربه مع يوبا، اما بوكود فظل على الحياد، مما يؤكد مرة اخرى انه لم يكن حليفا لحزب قيصر.
اذن توزعت القوى الافريقية في الصراع الدائر بين البومبيين و القيصريين كالتالي : يوبا الاول مع مجلس الشيوخ، و بوخوس ملك موريطانيا الشرقية مع قيصر، و بوكود ملك موريطانيا الغربية الذي نراه مع مجلس الشيوخ. و اما عن سكان ولاية افريقيا فكانوا مستوطنين رومان استقدمهم ماريوس، بالاضافة الى الجيتوليين انصار ماريوس ايضا، وبالتالي فرغم وقوعهم تحت سيطرة قوات مجلس الشيوخ، الا انهم كانوا قلبا و قالبا مع قيصر، و يتحينون الفرصة لمساندته .
نجد من جهة اخرى، ان النقود المضروبة بالولاية كان قد ضربها سيبيون باسمه، لكنه حرص على ان تظهر عليها صور تمثل افريقيا و قد جلل راسها بجلد فيل او الهة افريقيا، على اعتبار انها ربة الاراضي الافريقية، ما يوضح تقرب مجلس الشيوخ من الافارقة، وشعورهم بان قضيتهم واحدة امام العدو القيصري ، لكن استيفان اكصيل رغما عن ذلك، يفسر هذا السلوك تجاه الافارقة بعكسه، و يقول بان السادة الرومان ابانوا لاهل البلاد بانهم لم يكونوا يستحقون اهتماما كبيرا! . هل وضع رموز افريقية على عملة رومانية هو علامة احتقار ام افتخار ؟! لقد وجدنا بتتبعنا لاقوال اكصيل في كثير من المواضع انه يقوم بلي عنق الحدث، ليتفق و ايديولوجيته الكولونيالية.
تمركزت قوات البومبيين في اوتيكا حيث مركز القيادة العليا، و كان بها رهن اشارة سيبيو 8 فيالق. كان مع كندسيوس فيلقان ، و في ثبسوس كان هناك القائد فرجيليوس، و كانت هناك جيوش اخرى للبومبيين باوزيتا و سرسورا و زيتا جنوب هدروميت، كما كان كنايوس كلبورنيوس بيزو يحرس الطريق الرابطة بين هدروميت و ليبتيس الصغرى و كلوبيا، حيث كان معه حوالي 3000 فارس من الاهالي، كما كانت هناك قوات عظيمة خلف الولاية جمعها الملك يوبا في نوميديا ، و قد بلغت اربعة فيالق مكونة على النمط الروماني و عدد من الاهالي و 60 فيلا.
شارك قيصر في المقابل بعشر فيالق، و ما يلاحظ هنا هو الحضور الوازن للعناصر الغالية فيها، حيث شكلوا لوحدهم الفيلق الخامس. كان قيصر يملك حظوظا ضعيفة في هذه الحرب لولا انه وجد شركاء افريقيين انحازوا الى حزبه، و نذكر منهم الملك بوكوس جار يوبا الاول من جهة الغرب، و الذي كان سيدا على قسم كبير من الجزائر، و يمكنه مهاجمة يوبا من الخلف و منعه من استخدام جميع قواته ضد قيصر، و هو ما حصل حيث اخذ يوبا يجد في المسير يريد ان يقضي بسرعة على قيصر، علما منه ان هذا الاخير صارت فرقه العسكرية قليلة وضعيفة، فغادر نوميديا للالتحاق بسيبيون و هو على راس جموع من الفرسان و المشاة.
لكن في هذه الاثناء تدخل الملك بوكوس و قائد جنود المرتزقة سينيوس، فعبرا بسرعة ممالك مسينيسا و انقضا على ممالك يوبا، و بعد ايام قليلة دخلا مدينة سرتا. بلغ خبر هذا الهجوم الى يوبا و هو على مسافة قريبة من سيبيون، فعجل بالعودة لانقاذ مملكته ، اما عن معسكر سيبيون فقد كان كل يوم يفر منه نوميديون و جيتوليون و يذهبون الى معسكر قيصر، لعلمهم ان له قرابة عائلية مع ماريوس الذي كان احسن الى اجدادهم عقب حرب يوغرطة .
تمت الحرب بين الطرفين، و انتهت بانتصار قيصر على خصومه، فما كان من قادتهم ككاتو و بتريوس و يوبا الا الاقدام على الانتحار، مفضلين ذلك على الوقوع في الاسر. ونتج عن انتصار قيصر تغييرات سياسية و ترابية مهمة في شمال افريقيا. لقد مات مسينيسا الذي كانت اراضيه تمتد من سيرتا الى موريطانيا، و مات كذلك يوبا الذي شاركه مسينيسا نفس المصير، و فر اربيون بن مسينسا الى اسبانيا مع القادة الجمهوريين الذين استطاعوا الفرار اليها، فنال بوخوس قسما من هذه المملكة الفارغة من الحكم، و وسع بذلك نحو الشرق حدود مملكته.
و اما بوكود ملك موريطانيا الغربية، فيرى اكصيل انه كان ايضا حليفا لقيصر، غير انه لم يتدخل في حرب افريقيا، و نحن نرى ان العكس هو الصحيح، اي ان عدم مشاركة بوكود في حرب افريقيا لمساندة قيصر هو دليل على عدم تحالفه معه و ليس العكس. يقول اكصيل : " ..ثم قام قيصر بعد انتصاره على يوبا بالغاء مملكة نوميديا لان المثل الذي اعطاه يوغرطة ثم يوبا اوضح ان هناك خطرا في ان يبقى قرب ولاية افريقيا الصغيرة ملك قوي مستعد للافلات من رقبة روما و ان يقوم بدور مهم في الخصومات بين الرومانيين ثم قام بعد ذلك بتوطين الكثير من المعمرين في افريقيا القديمة فقد قرر بالنسبة لهذه الولاية التي مر عليها قرن ان الوقت قد حان للقيام بصبغها بالصبغة الرومانية التي اهملتها بل منعتها الحكومة الارستقراطية " .
هكذا بدا بعد انتصار قيصر، ان حزبه من الافارقة و الرومان الشعبيين هم من سيسود على الارض الافريقية، لكن بمجرد موته ستدخل افريقيا مرة اخرى في الخلافات التي كانت تهز العالم الروماني حيث يقول اكصيل :" فقد تصادم في الصراع انصار الجمهورية و انصار المثلثين كما تصادم انصار اوكتاف و انصار انطوان و اشترك في هذه المصادمات مرة اخرى امراء من الاهالي " .
و يضيف اكصيل : " هكذا صار بعد اغتيال قيصر ببضعة اشهر حاكم افريقيا هو كورنيفيوس الذي كان صديقا للجمهوري شيشرون و الذي نال الولاية بقرار من مجلس الشيوخ حيث لم يكن يخفي ميوله الحزب الجمهوري . ان ارض افريقيا و هي التي تزود روما بالقمح كانت ذات اهمية بالنسبة للحزب الجمهوري و بامر من مجلس الشيوخ ضرب في هذا الابان عملة ذهبية و عليها صورة نصفية تمثل افريكا و كان هذا العمل نوعا من التملق لاحد الولايات التي يحتاجها". (يتناقض اكصيل هنا مع قوله السابق ). و يضيف ايضا : " اما بخصوص موريطانيا الغربية فان ملكها بوكود بعد موت قيصر وضع نفسه في خدمة مارك انطوان و في 43 ق.م كان في جيش انطوان خيالة موريون لابد ان بوكود هو الذي بعث بهم اليه "
اذن كما نرى في هذه الفقرة، فان شمال افريقيا لم تكن ذلك البلد البربري الذي يتلقى الضربات من روما المتحضرة، او ذلك البلد الذي يقاوم مسلسل الرومنة لتشبثه بقيم الهمجية، بل كانت بلدا ساهم بقوة في صنع الاحداث داخل روما نفسها، و ان الحزب الفائز فيها لا يكون كذلك، الا اذا حسم صراعه مع الحزب المنافس له على الارض الافريقية .
لقد كانت شمال افريقيا ذات اهمية بالغة بالنسبة للدولة الرومانية، و ان ما كان يحدث فيها من صراع سياسي و عسكري، كان لابد ان ينتقل للأرض الافريقية، ليساهم الافارقة بدورهم في مجريات هذا الصراع، علما انهم كانوا اقرب الى حزب النبلاء منه الى حزب الديموقراطيين، و هو ما سيعلي من شان هذه المنطقة من العالم في قلوب الجمهوريين ويدفعهم الى التشبث بها و الاعتناء بملوكها . لقد كانت الروابط التي تجمع الجمهوريين بالافارقة، اقوى من تلك الروابط التي تجمعهم بابناء وطنهم الديموقراطيين (و كأن النبلاء والافارقة ابناء مصير واحد) و هو ما سنراه في الفقرة الموالية .  
3- الملكية بموريطانيا ، انقطاع و عودة :
كان غرب شمال افريقيا مناصرا لمجلس الشيوخ منذ عهد سولا، اما شرقها فكان محسوبا على حزب الديموقراطيين . تفطن قيصر لهذا الامر، و قرر ان يخترق هذا الغرب، فدق اسفينا بين مملكة يوبا في نوميديا و مملكة بوكود في موريطانيا الغربية . كان الملك بوخوس هذا الاسفين. هكذا تجلت خطة قيصر في القضاء على خصومه النبلاء بشمال افريقيا ، لقد شاغل بوكود بجيشه المرابط على الضفة الايبيرية، و لهذا لم يستطع بوكود تقديم الدعم ليوبا، اما الملك بوخوس و قائد الجنود المرتزقة سينيوس، فكانت مهمتهما الانقضاض على مملكة يوبا، ما جعل قيصر يفرغ لسيبيون .
بهذا التخطيط استطاع قيصر تحييد قوة بوكود، و طعن يوبا من الخلف، و مواجهة قوات الجمهوريين بافريقيا. و هكذا تبقت بعد انتصار قيصر قوتان افريقيتان، هما مملكة بوخوس بموريطانيا الشرقية و مملكة بوكود بموريطانيا الغربية، و كان طبيعيا ان ينحاز بوكود بعد مقتل قيصر و اندلاع الحرب الاهلية بين اوكتافيوس و انطوان لهذا الاخير، لانه يمثل المعسكر الهليني بينما انحاز بوكوس لاكتافيوس، لانه يمثل المعسكر الغالي .
ذهب الملك بوكود سنة 38 ق.م في حملة عسكرية على اسبانيا ، في اطار الصراع المحتدم بين معسكر اوكتاف و معسكر انطوان . تذكر المصادر ان اهل طنجة ثاروا على ملكهم و منعوه من العودة، لكن هذه الرواية غير صحيحة، فالذي حدث هو ان اوكتاف حرك عميله بوخوس باتجاه مملكة بوكود بعد ذهاب هذا الاخير لاسبانيا، مكررا ما فعله قيصر مع يوبا، و بذلك استولى على مملكته، و نال الاعتراف من اوكتاف على سيادته على الموريطانيتين .
ان المصير الذي لقيه بوكود راجع لكونه كان رجل حزب الاخيار، اما بوخوس فكان رجل حزب الديموقراطيين. توفي بوخوس سنة 33 ق.م، و مع ذلك لم يحكم موريطانيا احد من اسرته او سلالته، رغم انه كان رجل اوكتاف الوفي. يقول اكصيل في هذا الصدد:" هل وهب اوكتاف مملكته للشعب الروماني او لاكتاف ؟ اننا نجهل ذلك و على كل حال فإن اوكتاف هو الذي قرر في مصير المملكة فلم يعين خلفا للملك الراحل " . لا يلاحظ اكصيل انه بدلا من استمرار الحكم في اسرة بوكوس، فإنه انتقل الى اسرة يوبا ذات التاريخ العريض في معاداة الديموقراطيين و مناصرة النبلاء .
يفسر اكصيل هذا التناقض بكون اغسطس قرر ان يكون لطيفا مع يوبا ! . هل فعلا تصدر قرارات الحكام عن اللطافة ؟ ! ان استيفان اكصيل عاجز بسبب مرجعيته الكولونيالية، عن التقاط الخيط الناظم للاحداث، و لهذا نجده في كثير من المواضع يقدم تحليلات بعيدة عن الواقع.
و ينضاف الى حدث تنصيب يوبا الثاني ملكا على موريطانيا حدث لا يقل عنه دلالة، وهو زواجه من كليوبترا سليني ابنة مارك انطوان و كليوبترا ذوا التاريخ بالغ السوء مع اوكتافيوس. و مع ذلك تقول المصادر ان اوكتاف بارك هذا الزواج !. بل تستمر المصادر في تناقضها، و تخبرنا ان اوكتافيا اخت اوكتاف و الزوجة السابقة لانطوان، و التي هجرها لاجل كليوبترا، هي من ربت كليوبترا سليني، و هي من اشارت على اوكتاف ان يزوج بنت كليوبترا المصرية لابن يوبا النوميدي، لان هذا الامير (حسب اكصيل) و هذه الاميرة قد يصبحان خديمين وفيين للعظمة الرومانية بعدما سبق لهما ان اتخذا امام عربات موكب تمجيد قيصر و اوكتاف مكان اب و ام غلبا و ماتا موتا فاجعا .
هل هذا فعلا تحليل منطقي ؟! هل نحن امام تاريخ حقيقي ام تاريخ متخيل؟. ان السؤال الذي يجب ان يطرح هو: هل فعلا كان اكتاف يملك حق تعيين حاكم لموريطانيا ؟ لكن قبل الاجابة على هذا السؤال، لابأس من المرور على تحليلات اكصيل لهذا الحدث ، حدث تعيين يوبا الثاني ملكا على موريطانيا.
يقول اكصيل : ".. و لا شك ان اغسطس قرر العزم بمجرد وفاة بوكوس على تهييء ضم موريطانيا نهائيا الى الامبراطورية الرومانية لكن عوض ان يحولها الى ولاية رومانية فانه بعد ثمانية اعوام جعل منها مملكة من جديد لفائدة ابن يوبا "الباربار" الذي حلم في كبريائه الخرقاء بطرد روما من افريقيا" .
يتناقض اكصيل مع نفسه في هذه الفقرة، فاوكتاف كان يريد ضم موريطانيا الى روما بعد وفاة بوخوس، و لكنه دون سبب مفهوم، و ضدا على المنطق، منحها لابن يوبا الباربار عدو روما . هل هذا سلوك منطقي من طرف اوكتاف؟ ما الذي جعل اوكتاف ينقلب على خطته الاصلية؟ لا جواب عند اكصيل .
يذكر اكصيل ايضا : " تذكر النصوص انه زيادة على مملكة بوكوس و بوكود فان يوبا قد حاز من اغسطس اراضي شاسعة في بقية افريقيا و تذكر انه حاز قسما من جيتوليا وانه حاز المناطق التي كانت على ملك ابيه" اذن فالامبراطور لم يكتف باغماض عينه على تاريخ اسرة يوبا السيء، بل اضاف اليه مناطق جديدة لمملكته. و يشرح اكصيل ذلك بالقول : " فالامبراطور اذن كان ينهج في افريقيا سياسة جديدة ، فقد عدل عن الاستيلاء على موريطانيا و بذلك يكون قد اغلق من ناحية الجنوب المنطقة الرومانية بحدود مشتركة مع مملكة صديقة" .هل فعلا يمكن اعتبار يوبا الثاني ابن يوبا الاول و كليوبترا سليني ابنة كليوبترا و مارك انطوان صديقين لاوكتاف ؟ ! أليس هذا التفسير المقدم من طرف اكصيل مناقضا للطبيعة البشرية ؟.
و يضيف اكصيل : " كما تنبه اوكتاف من ناحية اخرى الى ان موريطانيا تستلزم وجود جيوش كثيرة لاحتلالها كما تستلزم من النفقات اكثر مما تستلزم من ريع فكان من الافضل تسليمها لامير اعطى البراهين بابقائهم في نطاق السلام و الزيادة في تمدنهم شيئا فشيئا " . نرد على هذا التحليل بالسؤال التالي : ما هي هذه البراهين التي اعطاها يوبا على اخلاصه ؟ الاجابة لا شيء !، العكس هو الصحيح ، فسيرة يوبا اثناء ملكه هي كلها تحدي للامبراطور، لا العكس.
اما بخصوص رعايا يوبا، فان هذا الاخير لم يستخدم اي وسيلة لضبطهم و منعهم من تهديد السلم، بدليل مشاركتهم لسنوات طويلة في ثورة تكفاريناس. ثم اذا اعتبرنا ان شعوب افريقيا باربارية و متأخرة و جامحة و جافية، فهل يعقل ان يضع عليها اميرا هو في الواقع ابن لملك سبق و ان حارب روما، و حلم بطردها على حد قول اكصيل. يريد منا اكصيل ان تقتنع بان اوكتاف وضع نارا فوق برميل بارود على امل ان تمنعها من الانفجار ! .
و يضيف اكصيل :" و لم يهبه اوغسطس الملك فحسب بل وهبه زوجة كذلك هي كليوبترا سليني بنت كليوبترا الشهيرة و مارك انطوان المثلث و قد ولدت على الراجح سنة 40 ق.م مع اخيها توامها اسكندر . وقعت في اسر اوكتاف و عمرها احدى عشرة سنة ومرت في الموكب الذي احتفل فيه القائد الغالب يوم 15 غشت سنة 29 ق.م تخليدا لانتصاره على مصر و كليوبترا فكفلتهما اوكتافيا اخت اكتافيوس الزوجة التي هجرها انطوان ثم طلقها و يقال ان اوكتافيا هي التي طلبت من اخيها ان يزوج بنت كليوبترا المصرية لابن يوبا النوميدي لان هذين الاميرين قد يصبحان خديمين وفيين للعظمة الرومانية بعدما سبق لهما ان اتخذا امام عربات موكب تمجيد قيصر و اوكتاف مكان اب و ام غلبا و ماتا موتا فاجعا" . هل فعلا هذا تحليل منطقي ؟
يريد كصيل ان يقنعنا ان اوكتاف ناقض طبيعته البشرية و سلم موريطانيا لابناء اعدائه، كما ان اخته اوكتافيا فعلت نفس الشيء، و ربت ابنة عدوتها ، بل و طلبت من اخيها بجعلها ملكة رفقة يوبا. هل فعلا تسير طبائع السياسة و البشر بهذا المنطق المثالي ؟ ! نذكر اكصيل بقصة الامير الجرماني أرمينوس، الذي اخذته روما من والده رهينة عندها، و كان هذا في عهد اغسطس بالذات، و ربته عندها حتى صار قائدا عسكريا، و في النهاية كافأ هذا الامير الجرماني روما، بان تمرد عليها و اباد عشرين الفا من جنودها في مقاطعة جرمانيا، علما ان هذا الامير لم تقتل روما والده و لم تؤذ اسرته و السؤال الذي نطرحه هنا هو: لماذا لم يتعلم اغسطس الدرس من تمرد هذا الامير الجرماني، و ابقى رغما عن ذلك يوبا في منصبه، رغم ان رعاياه ساهموا بكثافة في ثورة تكفاريناس؟ !.
و يضيف اكصيل بخصوص يوبا الثاني :" و قد ولد ليوبا من كليوبترا ابن ببضعة اعوام قبل ميلاد المسيح و سمي بطولمايوس تذكارا لجد امه" . نتساءل بدورنا هل هذا دليل طاعة من طرف يوبا لاكتاف ؟ هل ملك يريد ان يعبر عن اخلاصه لاوكتاف، يسمي ابنه على اسم جد زوجته بطليموس، مع ما يحمله ذلك من دلالات سيئة بالنسبة لاوكتاف؟ ان اكصيل امام كل هذه التناقضات التي اوردها، لا يجد الا عاملا واحدا يستنجد به، الا و هو اللطافة، فيقول: " كان في هبة اغسطس هذه المملكة الشاسعة للنوميدي المنفي في ايطاليا برهان كبير على تلطفه به " . هل فعلا تصدر قرارات الحكام عن اللطافة ؟ ! .
نعلق على هذه التحليلات، بكون التناقض الكامن فيها، يعود الى وجود مسكوت عنه في المصادر الرومانية، و عملنا في هذا البحث يندرج في سياق الكشف عن هذا المسكوت ، عن طريق استخدام البرهان الرياضي، القائم على الانطلاق من المعلوم للكشف عن المجهول . نقول في هذا الصدد، ان اوكتاف و بعد انتصاره على مارك انطوان، استوعب دروس سابقيه و خصوصا والده بالتبني قيصر. لم يشأ اوكتاف ان يعادي السناتو، و قرر بدلا من ذلك، ان يتقاسم النفوذ معهم، سواء تعلق الامر بالسلطة داخل روما او خارجها، حيث تقاسم مع مجلس الشيوخ اراضي الامبراطورية الرومانية، فكانت موريطانيا من نصيب السناتو .
نذكر في هذا الصدد، ان السناتو حتى وقت قريب كان هو من يعين حكام المقاطعات و الولايات. لذلك لا معنى لان يمتلك السناتو موريطانيا ضمن دائرة نفوذه، و الا يمتلك حق تعيين حاكمها. نستنتج اذن انه على هذا الاساس، و في هذا السياق، فإن من عين يوبا الثاني ملكا على موريطانيا هو السناتو لا اغسطس. و في هذا السياق من توازن القوى بين الامبراطور و السناتو و توزيع مناطق النفوذ بين داخل العالم الروماني، نفهم لماذا لم يستمر حكم موريطانيا داخل اسرة بوخوس الوفية لاوكتاف، و عودة الحكم الى اسرة يوبا الوفية للسناتو . فتعيين يوبا ملكا على موريطانيا لم يكن راجعا للطافة، بل للمصلحة و المصير المشترك بين السناتو و شعب موريطانيا .
لقد كانت موريطانيا هي الجدار الذي يستند عليه السناتو ضد خصومه ، فبتسرب العنصر الغالي الى شرايين الدولة الرومانية، قرر السناتو ان يصطف الى جانب موريطانيا و باقي العالم الهليني . يمكننا القول ان العالم الروماني في هذه اللحظة، انقسم الى نصف شعبي غالي و نصف نبيل هليني .
لقد استخلص السناتو الدروس من تجاربه السابقة ، فقد سبق و راهن على الجزء الشرقي من العالم الهليني فخسر رهانه . تجلى ذلك في رهان بومبي على مصر رغم تحذيرات مساعديه، و دعوتهم له بالذهاب الى افريقيا، لكنه اصر على رايه فقتل. و راهن مثله مارك انطوان على مصر ايضا فانهارت جيوشه و جيوش كليوبترا بسرعة امام قوات خصمه اوكتافيوس ، اما حينما راهن السناتو على يوبا فان هذا الملك قاتل حتى النهاية و لم يخذلهم. و بذلك ادرك هذا السناتو ان موريطانيا هي النواة الصلبة للعالم الهليني ، لذلك قرر ان يحتفظ بها لنفسه و يعين عليها ابن يوبا الاول .
ان تعيين يوبا الثاني ملكا على موريطانيا التابعة لمجلس الشيوخ، يعني استمرار سياسة يوبا الاول المقاومة للحزب الديموقراطي. و اما عن تزويج كليوبترا سليني ليوبا الثاني، فمعناه استمرار المشروع الهليني الديونيزي المقاوم للمشروع الغالي الابولوني . يعني زواج يوبا و كليوبترا هنا، ان شعلة الحضارة الهلينية مازالت متقدة و لم تنطفئ بعد . اذن هذا هو السياق الذي عادت فيه الملكية الى موريطانيا منتقلة من اسرة بوخوس الى اسرة يوبا، و لا دخل للطافة بالامر، فالسياسة لا تحتمل مثل هذه المثاليات.
نشير في هذا الصدد، الى ان ما يذكره اكصيل من اهتمامات يوبا الثاني الثقافية، و التي يضعها في خانة الولع الشخصي، هي في الواقع سياسة دولة باكملها. فاهتمام يوبا الثاني بالثقافة الاغريقية لم يكن مصدره الشغف الشخصي، بل كان سياسة مقصودة و معبرا عن ايديولوجية الدولة المقاومة للسياسة الامبراطورية المستقوية بالعنصر الغالي.
ان سياسيات و سلوكات يوبا توضح انه كان له توجه واضح و محدد، قوامه الاستقلال عن الامبراطور، و اعلان تمايزه عنه و عدم تبعيته له . فلنلقي اذن نظرة على سلوكاته . يقول اكصيل : " ضرب يوبا في سنة 46 من الملك (21-22م) نقودا جديدة مماثلة و مغايرة حيث يشاهد فيل يحمل تاجا بخرطومه و الملك في بعض من صوره التي يظهر ان احداها على الاقل ترجع لهذا العهد يرى معصوب الراس باكليل من الغار و مع ذلك فانه لما مات لم تكن روما و لا هو قد توصلا لقهر تاكفاريناس و حلفاءه بعد " .
ان يضع يوبا على راسه اكليل الغار رغم حدوث ثورة تكفاريناس يعني ان مركزه غير مهدد من طرف الامبراطور بسبب عدم قيامه بواجبه لقمع هذه الثورة . بل الاكثر من ذلك نجده يضع صورة الفيل على عملته رغم انها ذات دلالات سيئة لدى الديموقراطيين ، فالفيل كان هو الحيوان الذي استعمله يوبا الاول لمقاتلة جيش كوريون و قيصر . يكشف هذا التصرف من طرف يوبا الثاني بطبعه لصورة الفيل على عملته، بأنه يهتم بشعور الموريين و لا يقيم وزنا لشعور الامبراطور، و بالطبع فهو ما كان ليقدم على هكذا استفزاز، لولا انه مدعوم من مجلس الشيوخ .
و اذا كان اكصيل اعتقد ان اوكتاف نصب يوبا ملكا على موريطانيا، على اساس ان ينسى افعال والده، و يصبح ممتنا له فان العكس هو الذي حصل، فاستيفان اكصيل بنفسه يذكر ذلك حيث يقول :" لكن يوبا لم يتنكر لاجداده و لا لموطنه الاصلي فمستعمرة قرطاجنة التي انتخبت لمنصب المثنى هذا المواطن الروماني فكرت ان تسترضيه بذكر اسلافه حتى مسينيسا و ذلك في كتابة امرت بنقشها على شرفه و لم يكن يخشى ان يذكر على المنشآت الرسمية بانه ابن يوبا العدو اللدود لاب الامبراطور الحالي و هناك راس من المرمر عبارة عن قطعة من تمثال اكتشفت بشرشال يظهر انه صورة يوبا الاول بعصابته الملكية و تشبيكة شعره المعقد و لحيته النوميدية الطويلة و الصورة نحتت بعد مرور زمن طويل على موت الشخص الذي تمثله و لهذا السبب لا تظهر عليها سماته الشخصية بوضوح و لكنها على يحتمل كانت برهانا على البرور البنوي" .
كما اعتبر يوبا نفسه جسرا بين وطنه الافريقي والعالم الهليني . و هو ما عبر عنه استيفان اكصيل قائلا : " و فوق هذا فان يوبا لم يقف بسلسلة اجداده عند مسينسا بل صعد الى هركول الذي كان له خواص هيركليس الاغريقي و مع ذلك فان يوبا محب الهيلينيين لم ينس انه من سلالة افريقية لذلك اعتمد سلسلة نسب لا تجعله ينحدر من احدى الاغريقيات كبنت تيسبيوس الجدة المزعومة ليوبا الاول بل ينحدر من احدى الليبيات و هي تنجي ارملة انطي التي شرفها البطل هيركليس بوصاله بعد موت زوجها" .
ان سلوكات يوبا تصدر دائما عن رغبة اكيدة في الاستقلال عن الامبراطور، و اعلاء المشاعر الوطنية، فهو كما يقول اكصيل: "ضرب هو و ابنه نقودا عليها صور افريقيا (كما سبق و فعل سيبيون) او رسم لبعض الحيوانات التي ترمز لهذه المقاطعة كالفيل و الاسد كما ان يوبا كتب كتابا كبيرا عن ليبيا لتمجيد وطنه " .
و لانه كان رمزا للمشروع الهليني المقاوم، فان اهل اثينا قرروا ان يكرموه فاقاموا تمثالا بالقرب من احدى خزانات الكتب . لقد كان يوبا يدرك ان معركته هي معركة ايديولوجية بالاساس، لهذا ان يقيم له الاثينيون تمثالا بالقرب من خزانة كتب هو امر مفهوم لدينا، لانه عمل في فترة ملكه على دعم الثقافة الهلينية و نشر كتبها، من خلال تسخير ميزانية الدولة لها، و هو ما يعبر عنه اكصيل بشكل مقتضب: " و كان لا بد لاجراء بحوثه وكتاباته من خزانة حسنة و من عدد كبير من الناسخين و الملخصين و كانت ثروته الملكية تجد في هذه المصاريف مساغا كريما" . ان ما يبدو و كانه هوس شخصي من طرف يوبا بالثقافة الهلينية، كان في الواقع سياسة دولة لا شخص بعينه.
كان يوبا الثاني يدعم الثقافة الهلينية، و الاكثر من ذلك، كان يعمل على نشر فكرة الاصل الهليني للفرع اللاتيني، و بالتالي فان افراد الحضارة الهلينية هم الاحق بالفخر لانهم الاصل بينما اللاتين و الغاليون فمجرد فرع و طارئون على حضارة البحر الابيض المتوسط . لذلك نجده يؤكد على الاصول الاغريقية للغة اللاتينية و هو ما ذكره اكصيل بالقول :" و له غرام بالدراسات اللغوية (فقه اللغة) و كان مقتنعا ان اللاتينية كانت من قبل هي الاغريقية ولكن اعتراها شيئا فشيئا التحريف بسبب اختلاطها باللغة الايطالية فكان هو يجتهد في الكشف عن الاصول الاغريقية للعديد من الالفاظ اللاتينية " .
لقد كان يوبا حاملا لمشعل الحضارة الهلينية معتبرا انها الاصل اما منافستها اللاتينية فمجرد تحريف لها. و بالطبع فان هذا الراي يندرج في سياق الاصطفافات السياسية والعسكرية و الثقافية الجارية في تلك الفترة، بين المعسكر الهليني السيناتوري و المعسكر اللاتيني الامبراطوري . لهذا نجد اكصيل يقول عنه : " و كان حبه للاغريق يجعله يجدهم في كل شيء في اللغة و في اصول روما و اصول ليبيا و حتى في اصول عائلته هو " .
كان هذا عن يوبا ، اما عن ابنه بطليموس، فانه هو ايضا يندرج في نفس السياق المقاوم لسلطة الامبراطور، و اعلاء شان العالم الهليني في مواجهة خصومه الغاليين . يقول اكصيل عن بطلمي ما يلي : " حمل بطلمي و هو صغير جدا شارة الملك و لقب الملك و يرى على راسه الاكليل في تمثال نصفي يمثله في نحو السادسة عشرة من عمره " ثم يضيف "نال بطلمي لقب ملك مع الاكليل و هو لا يزال وليا للعهد " ثم " بعد موت يوبا بشهور قليلة ابلغه مبعوث عن مجلس الشيوخ الاعتراف الرسمي بملكه" و " عند نهاية صيف 24م بعث له مجلس الشيوخ لقب ملك حليف و صديق و معه حلى التمجيد" .
و يضيف اكصيل :" لم يسك بطلمي الدوانق فحسب بل ضرب حتى العملة الذهبية. وكتابتها تشير للسنة الاولى من الملك و لعلها روجت كذكرى لتولي العاهل الشاب الملك و حسب القاعدة العامة كان الاباطرة يخصون انفسهم بسك العملة الذهبية و يمنعون الملوك الاتباع من القيام بذلك و انا لنعجب من اقدام بطلمي على ذلك خصوصا في عهد لم تكن الحكومة الرومانية قد قررت ان تعترف بملكيته و لعل بطلمي و هو شريك ابيه في الملك راى ان بمستطاعه هو ايضا ان يضرب نقودا من ذهب و ذلك بالموافقة الضمنية لروما... ويحسن ان نلاحظ ان هذه القطع لا تدخل ضمن النظام الامبراطوري فهي مقصورة على مملكة موريطانيا و ما كان الامبراطور ليرضى ان يزاحمه امير افريقي بمكان اخر" .
لو ان اكصيل ادرك ان بطليموس تابع لمجلس الشيوخ، و ليس للامبراطور، لزال عجبه و تساؤلاته بخصوصه . نعيد و نكرر ان قدرة بطليموس على خرق العرف الامبراطوري باحتكار اصدار العملة الذهبية، و ضربه هو ايضا عملة ذهبية في السنة الاولى من حكمه، هو دليل على قوة الدعم الذي يجده من مجلس الشيوخ و تحرره من سلطة الامبراطور ، و هو ما لم يفطن له اكصيل، و ظل مصرا على تمثل بطليموس في شخص الملك التافه حسب ما يذكره في هذه السطور :" و رغما عن الضآلة الشخصية لبطلمي فقد كان له بعض الذكر في العالم و ذلك بفضل سعة مملكته و خصوصا بسبب ذكرى ابيه واجداده فقد اقيم له تمثال في اثينا بمسرح جده فيلديلف قرب تمثال يوبا و لاشك كما ان المجلس الاتحادي في لوقيا اقام له تمثالا ايضا و لا ندري لماذا و نال التكريم في روما اذ عثر بها على رؤوس لبعض تماثيل هذا الملك الموري " .
ان اكصيل و هو يتناول سيرة بطليموس، يستغرب و يتعجب و يحتار . بعبارة اخرى لايجد تفسيرا للاحداث المتعلقة به، بينما مهمة المؤرخ المحترف تتحدد اساسا في تقديم تفسير لاحداث الماضي المتناثرة، و ايجاد الخيط الناظم لها، لكن عليه قبل ذلك ان يجهد نفسه في التحرر من تمثلاته، و وضع هذه الاحداث في سياقها التاريخي الصحيح.
نقول في نهاية هذه الفقرة، ان بطليموس كان ثمرة زواج يوبا الثاني من كليوبترا سليني. و هذا الزواج كان تعبيرا عن استمرار المشروع الهليني المقاوم للمشروع الامبراطوري الغالي، ثم اتى بعد ذلك ابنهما حاملا اسم بطليموس، ليذكر العالم الهليني بامجاد الملك بطلميوس مؤسس الدولة البطليموسية بمصر، و كرسالة للعالم اللاتيني الغالي، بان شعلة الحضارة الهلينية مازالت متقدة، و انها ستتجدد على يد حفيد يوبا الاول و مارك انطوان و كليوبترا ، و هذا دليل اخر على ان ملكية موريطانيا لم تكن تابعة للامبراطور، بل مقاومة له، و منه نفهم لماذا كان بطليموس طفل السناتو المدلل، و لماذا كان يلقى كل ذلك الحبور من العالم الهليني، فحصل على التكريم في قرطاجنة و اثينا و حتى روما .
لقد ولد بطليموس و في فمه ملعقة من ذهب . كان محط امال العالم الهليني، و لهذا دعمه مجلس الشيوخ منذ صغره، فنجد انه صار شريكا لوالده في الملك و هو ما يزال شابا . ان بطليموس هو امل السناتو و العالم الهليني، و تنتظره تحديات عظام، و لذلك يجب ان يتلقى تربية جيدة تمكنه من ادارة شؤون مملكته المقاومة للمد الامبراطوري، و اعادة امجاد الحضارة الهلينية الى سابق مجدها. لذلك كان لزاما عليه ان يتدرب على فنون الحكم في حياة والده يعضده في ذلك مساعدون اغريق و نبلاء من مجلس الشيوخ و وطنيون مور حتى يمثل العالم الهليني افضل تمثيل امام خصومه حين يصبح ملكا.
اذن في هذا السياق التاريخي اختفت مملكة بوكوس الابن، رغم كل خدماتها للامبراطور، و اعتلت اسرة يوبا عرش موريطانيا بدعم من مجلس الشيوخ.

II- بطليموس ملكا :
1- ثورة تكفاريناس :
أتى بطليموس الى سدة الحكم و ثورة تكفاريناس مازالت مندلعة . تحدثت المصادر الرومانية عن بطليموس بكونه الشخص الذي استطاع إخماد هذه الثورة التي أرهقت الجيش الروماني طيلة سبع سنوات .و يلاحظ هنا ان المصادر الرومانية تقع في تناقض . فتارة تصف بطليموس بالملك الكسول المستسلم لعتقائه ، و تارة تذكر بأنه الشخص الذي قضى على الثائر الاوراسي علما ان هذا الاخير قاتل لعدة سنوات الفيلق الاغسطي الثالث، و هنا يطرح السؤال التالي : هل فعلا كان بطليموس ملكا كسولا ؟ هل فعلا كان بطليموس مستسلما لعتقائه؟ و إذا كان كذلك، فكيف استطاع القضاء على ثورة تكفاريناس بينما عجز الرومان عن ذلك؟
يجدر بنا للإجابة على هذه الاسئلة البحث في جذور هذا الحدث، اي ثورة تكفاريناس. ذلك أن الحدث التاريخي لا يبرز من فراغ، و لكنه ابن بيئته و واقعه. تذكر المصادر أن تكفاريناس ثار على الرومان و عميليهم يوبا الثاني و بطليموس، لكن ما يثير الانتباه في هذه الثورة، هو أنها انحصرت في الحدود الشرقية لموريطانيا و لم تتعداها الى داخلها.
لقد هاجمت قوات تكفاريناس المستوطنات الرومانية في المناطق الواقعة بين افريقيا البروقنصلية و موريطانيا تحديدا. فلماذا لم تهاجم المستوطنات الرومانية في كل من موريطانيا الشرقية و الغربية ، علما ان أعدادا كبيرة من رعايا يوبا الثاني و بطليموس المور انضموا بدورهم الى هذه الثورة ؟. لماذا لم يمارس هذان الملكان دورهما في ضبط رعاياهما المور و منعهم على الأقل من مساندة تكفاريناس ؟ لماذا لم يقم الجيش الروماني باي إنزال عسكري في قيصرية لتطويق قوات تكفاريناس، و ظلت حملاته تنطلق فقط من افريقيا البروقنصلية؟.
يتضح من خلال هذه الاسئلة ان الرواية الخاصة بثورة تكفاريناس مليئة بالتناقض . لذا سيكون من الجيد العودة الى الوراء، لاستجلاء حقيقة هذا الحدث، و الكشف عن أسبابه العميقة.
تبدأ أولى ارهاصات هذا الحدث في التهديد الذي قام به العامة في صراعهم مع النبلاء، حينما رحلوا الى تل بانيقلوس سنة 287 ق.م، و هددوا بالانفصال عن روما . لقد كان هذا التهديد من الخطورة انه جعل النبلاء يرضخون لمطالب خصومهم، و يقبلون بتعيين احد أفراد العامة ديكتاتورا عليهم ليحل الأزمة المندلعة بينهم.
ان تأسيس مستوطنة رومانية للعامة في تل بانيقولوس معناه تحول هذا التل الى روما ثانية، تكون باستطاعتها محو روما الاصلية من الوجود نظرا للكثرة العددية للعامة. لهذا كان النبلاء ينظرون دائما بعين الريبة للمستوطنات الشعبية، و يعملون على تدميرها. و كان العامة في المقابل يتحينون الفرص لإنشائها ضدا على رغبة النبلاء . لذلك حينما تولى جايوس جراكوس منصب التريبونية، فإنه قام باستصدار عدد من القوانين التي كان من بينها، قانون إنشاء مستوطنة يونونيا في مكان قرطاج المدمرة. و أشرف بنفسه على إنشائها لكن السناتو كان له بالمرصاد و قتله و انصاره، و دمر هذه المستوطنة . ما يعني أن انشاء مستوطنات شعبية خارج روما كان خطا أحمرا من طرف السناتو.
تأتي بعد هذه الأحداث حرب يوغرطة . يقدم لنا المؤرخ سالوست تفسيرا لتمرد يوغرطة على روما، مفاده أن الزعيم النوميدي امتلك الجرأة على تحدي روما، بل و قتل التجار الرومان بكيرتا، لأنه ادرك ضعف النبلاء امام المال فأغرقهم بالرشاوي، مقابل أن يفعل ما يشاء. لكن هل هذا فعلا تفسير مقنع؟ لماذا لم يستطع يوغرطة إرشاء الديموقراطيين إذن؟ لماذا النبلاء هم من قبل اخذ الرشوة من يوغرطة ، بينما أصر الديموقراطيون على معاقبته؟ هل يتعلق الامر بفساد ذمم سياسيي روما، ام بأسباب اعمق؟ الا يمكن ان تكون الروابط التي بين يوغرطة و السناتو راجعة لأسباب و عوامل اقوى من عامل الرشوة؟
إن التفسيرات المقدمة لا تستحضر صراع النبلاء و العامة، و انقسام روما الى حزبين: اخيار و ديموقراطيين، و انقسام شمال افريقيا بدورها الى حزبين : حلفاء للاخيار و حلفاء للديموقراطيين . كما لا تستحضر هذه التفسيرات رفض السناتو تأسيس مستوطنات شعبية خارج روما، و بخاصة في شمال افريقيا. و لهذا حينما يتم استحضار كل هاته الأمور، يصبح من الممكن فهم لماذا صمت السناتو عن اعتداءات يوغرطة على ابن عمه اذربعل ، ولماذا لم يعر هذا الملك النوميدي تهديد القنصل ايميليوس سكوروس له اي اهمية، بل وتجرأ و قتل التجار الرومان بكيرتا . كما يصبح من اليسير فهم غضب الديموقراطيين الشديد على يوغرطة، و على رأسهم التريبون ميموس و مطالبتهم بمعاقبته و اتهامهم السناتو بالتواطؤ معه .
أجل ، لقد كان السناتو متواطئا مع يوغرطة و لكن ذلك لم يكن راجعا للرشاوي التي تلقاها اعضاؤه منه، بل لأنه كان يرفض رفضا باتا استيطان الديموقراطيين بشمال افريقيا . لذلك دعم السناتو يوغرطة منذ فترة شبابه، و دربه على يد سيبيون، ثم فرضه على الملك مكيبسا. و منه نفهم كيف استطاع يوغرطة قلب الأوضاع لصالحه داخل المملكة النوميدية، والإنتصار على أبناء عمه. فكل ذلك كان بدعم من مجلس الشيوخ، من أجل تحقيق هدفهم، المتمثل في مسح الوجود الروماني الديموقراطي من على أرض كيرتا. و هو ما تم لهم في النهاية على يد يوغرطة.
إن يوغرطة و هو يقتل التجار الرومان، لم يكن لا راشيا للسناتو و لا فاقدا لصوابه، بل كان ينفذ الهدف الذي من اجله صار ملكا على نوميديا. و هو استئصال الوجود الروماني الشعبي من افريقيا الشمالية خدمة لمصالح حلفاءه النبلاء. لكنه في المقابل جر عليه غضب الديموقراطيين.
كان لمقتل التجار الرومان في كيرتا وقع أليم في صفوف حزب الديموقراطيين و عموم الشعب . هاج الديموقراطيون و طالبوا بالقصاص . و اتهم زعيمهم ميموس النبلاء بالتواطؤ مع يوغرطة . تحرج مركز السناتو فقرر ان يساير العاصفة، فأرسل تجريدة عسكرية بقيادة كلبورنيوس بيستا لمعاقبة يوغرطة . يذكر ان بيستا هذا هو احد الخصوم الاشداء للديموقراطيين، و ساهم بقوة لمنع قوانين جراكوس . حارب هذا القائد بعضا من الوقت، ثم أبرم هدنة مع يوغرطة و عاد الى روما . و هذا أمر طبيعي، فالسناتو لم يكن جادا في حربه ضد الملك النوميدي . لقد كان في الواقع يريد ربح الوقت ريثما ينسى الناس مقتل التجار الرومان . انه هنا يراهن على عامل الوقت حتى تصبح مذبحة كيرتا ذكرى متقادمة . وهذا يتضح من الحملات المتتالية للسناتو، اذ أنه يرسل الحملة تلو الحملة ، دون رغبة جادة في القبض على يوغرطة.
تكرر نفس الشيء مع حملة ألبينوس، الذي طارد يوغرطة بعضا من الوقت، ثم ترك أخاه أولوس على رأس الحملة و عاد لروما. اما أخوه فهو أيضا قاتل يوغرطة بنفس التهاون، و تظاهر بانهزامه . و هنا لم يتملك يوغرطة الغضب كما فعل مع التجار الرومان في سيرتا، بل أبقى على حياة الجيش الروماني، داعيا إياه لمغادرة نوميديا في أجل لا يتعدى عشرة أيام .
ان السناتو كما يتضح كان يريد كسب الوقت، و دفع الناس في روما الى أن يملوا من هذه الحرب، و ينسوا مقتل التجار الرومان. لكن الديموقراطيين استمروا في تحريضهم للعامة ، فقام السناتو إثر ذلك بإرسال ميتيلوس . لكن ما يلاحظ في هذه الحملة هو مرافقة ماريوس له . يمكن هنا القول أن الديموقراطيين ضغطوا كي يرافقه على اعتبار شكوكهم الواسعة في جدية و نزاهة القادة النبلاء.
بدأت الحرب مع وجود ميتيلوس تأخذ نوعا من الجدية الظاهرية ، فانتقد هذا القائد التراخي البادي على الجنود الرومان و اتخذ التدابير لمنعه .و استمرت المناوشات بين ميتيلوس ويوغرطة . كان ماريوس في المقابل يمارس عمله بجدية و يكسب ثقة الجنود، وضم إلى صفه شقيق يوغرطة الأمير كاوضاGauda، في حين كان ميتيلوس ينفر من هذا الأمير ويهينه علنا . و هذا أمر طبيعي فيوغرطة هو رجل حزب الأخيار، اما هذا الأمير فقد اختار جانب الحزب الديموقراطي و تحالف معه .
فهم ماريوس أنه لا يمكن حسم المعركة دون أن يكون قائدها الاعلى . لذلك طلب من رئيسه ميتيلوس السماح له بالذهاب الى روما ليترشح لمنصب القنصلية. أدرك ميتيلوس نوايا ماريوس فعمل على إحباطه و الحط من شأنه . إن فوز ماريوس بمنصب القنصلية معناه خروج مسار حرب يوغرطة من يد السناتو و انكشاف امرهم. لكن ماريوس رد على رئيسه بانتقاده و اتهامه علنا بانه يتعمد اطالة الحرب ، و أن باستطاعته حسمها بنصف القوات وفي زمن محدود
وصلت أصداء هذه الحرب الكلامية بين القائدين الى روما، و رددها الديموقراطيون هناك بقوة. فاضطر ميتلوس الى السماح لماريوس بالذهاب الى روما . و فعلا نجح هذا الأخير في الانتخابات، و فاز بمنصب القنصلية. و هنا تدخل الديموقراطيون، و أصدروا قرارا من خلال الجمعية القبيلة يقضي باسناد قيادة الحملة العسكرية ضد يوغرطة الى ماريوس، متجاهلين قرارا كان أصدره السناتو باستمرار ميتلوس في قيادة هذه الحملة.
رضخ السناتو لهذا القرار، و قبل بتولي ماريوس لقيادة الحملة العسكرية. لكن ما يلاحظ في هذا الصدد، هو مرافقة سولا لماريوس كمساعد له. فإذا كان ماريوس منتميا لحزب الديموقراطيين، فإن سولا كان منتميا لحزب الاخيار، ما يعني ان السناتو مادام لم يستطع منع ماريوس من قيادة الحملة، فانه استطاع فرض سولا مساعدا له، كخطة منه لمراقبة مجريات المعركة .
إن نجاح ماريوس في القبض على يوغرطة معناه تضرر مكانة السناتو داخل روما، و افتضاح امرهم، و ظهور الديموقراطيين بمظهر الابطال المنتقمين لكرامة روما التي دنسها هذا الزعيم النوميدي . لذلك لم يكن من صالح السناتو أن يهزم ماريوس يوغرطة ويقبض عليه. و منه نفهم لماذا تفاوض سولا مع ملك موريطانيا الغربية بوخوس بشأن يوغرطة.
صار واضحا ان المعركة بدأت مع ماريوس تاخذ منحى جادا. لذلك تواصل كل من سولا و بوكوس فيما بينهما. لقد صار يوغرطة ورقة محروقة، و لم يعد بالامكان الدفاع عنه. ان القبض عليه و قتله من طرف ماريوس معناه انهيار مكانة حزب الاخيار داخل روما، و تضرر حلفاءه بشمال افريقيا بشكل بالغ. لذلك اتفق كل من سولا و بوكوس على القبض على يوغرطة و تسليمه لروما . فأن يقبض عليه النبلاء انفع لشمال افريقيا من ان يقبض عليه الديموقراطيون.
يبدو للوهلة الأولى ان بوكوس غدر بصهره يوغرطة. و انه خان شعوب شمال افريقيا، و طعن مقاومتها لروما في الظهر. لكن هذا غير صحيح . انه بالنظر لدقائق الامور و خبايا الساحة السياسية بروما، و صراعاتها الداخلية و تحالفاتها الخارجية، يمكن فهم لماذا قرر ملك موريطانيا الغربية تسليم يوغرطة لسولا . لقد كان قرارا قاسيا فرضته الظروف حتى لا ينتصر حزب الديموقراطيين في روما ، فيكتسح بقواته ما تبقى من اراضي شمال افريقيا، اي مملكة موريطانيا الغربية.
تسلم سولا رجل حزب الاخيار يوغرطة، و جلبه معه الى روما. و بذلك استطاع ان ينقذ ماء وجه السناتو ، بل و خلد عمله هذا بنقش يصوره و هو يتسلم يوغرطة من حليفه بوكوس . ما يعني ان النبلاء و حلفاءهم هم من يحمي كرامة روما و يجلب لها الانتصارات. و طبعا لم يسكت القائد ماريوس و طالب بازالة هذا الاثر . و اندلعت الحرب الكلامية بين الحزبين و نسب كل فريق الانتصار لنفسه ، فقال النبلاء ان رجلهم سولا هو من اقنع الملك بوكوس بالغدر بصهره يوغرطة، و بالتالي هو من انهى هذه المعركة الطويلة. و رد عليهم الديموقراطيون بأن رجلهم ماريوس هو من خاض المعركة بجدية، و لولاه لما قرر بوكوس تسليم يوغرطة . و لأن سبب الحرب الاصلي كان هو قتل التجار الرومان بكيرتا، و منع الاستيطان بشمال افريقيا، فإن حزب الشعبيين بقيادة ساتورنينوس و ماريوس، قام بتأكيد انتصاره على يوغرطة، فأسس مستوطنة بإفريقيا البروقنصلية ضدا على رغبة النبلاء
هكذا اذن جرت الامور على ارض شمال افريقيا ، فالديموقراطيون يؤسسون المستوطنات بها، و النبلاء يزيلونها، في مد و جزر متواصل . إن هذه الرغبة في الاستقرار بشمال افريقيا من طرف الديموقراطيين، و المنع لها من طرف النبلاء، هي ما سيفسر لنا اسباب اندلاع الثورات في عهد يوبا الثاني و بطليموس.
فلو كانت هذه الثورات موجهة ليوبا الثاني لاتجهت مباشرة الى عاصمته و مدن الداخل الموريطانية . لكن بتقصي مكان وجودها، نجد انها تمركزت اساسا على الحدود الفاصلة بين افريقيا البروقنصلية و موريطانيا. فتارة تندلع في جنوب هذه الحدود و تارة في شمالها. لقد اندلعت هذه الثورات من طرف الجيتول الذين ثاروا جنوبا ، و هاجموا المستوطنات الرومانية. ثم تلتها ثورة الموسولام في منطقة الاوراس. ثم ظهر تكفاريناس سنة 17م و قاد تحالفا موزولاميا موريا شكله مع الزعيم الموري مازيبا . كما انضمت اليهما قبائل الجيتول وقبائل الغرامنت . لكن مع ذلك ظلت ثورة هذه القبائل منحصرة في مجال محدود، وهو.الحدود الفاصلة بين افريقيا البروقنصلية و موريطانيا. إذن فرغم هذه الأعداد الهائلة من الثوار، فانهم لم يفكروا لحظة واحدة في الهجوم على عاصمة يوبا أو بطليموس، رغم اتهامهم لهما بالتبعية لروما(على حد قول المصادر)، بل ركزت مجهودها على محاربة القوات الرومانية على الحدود الشرقية لموريطانيا.
انه بإلقاء نظرة بانورامية على هذا الحدث، فإننا نجد أن ثورة تكفاريناس هي تكرار لحرب يوغرطة . لقد أراد يوبا الثاني و السناتو منع استيطان الديموقراطيين بشمال افريقيا. لأنه حينما تم توزيع المقاطعات بين اغسطس و السناتو، فإن هذا الاخير حاز مقاطعات شمال افريقيا ضمن ممتلكاته . لكن يبدو انه بعد ذلك تم خرق هذا الاتفاق، و انفتحت شهية الديموقراطيين مرة اخرى للاستقرار في شمال افريقيا . فظهرت المستوطنات الرومانية في حيدرة و تبسة و قفصة. و تم تعزيز هذا الإستيطان بإقامة الفيلق الاغسطي الثالث في حيدرة، مع شق طريق استراتيجي من حيدرة الى قابس مرورا بقفصة سنة 14م . ما يعني خرق الاتفاق القديم المبرم بين السناتو و الامبراطور اغسطس، و العودة الى سياسة الاستيطان الديموقراطي. لذلك كان لزاما على النبلاء و حلفاءهم المور إيقاف هذا الاستيلاء التدريجي على مملتكاتهم، فدفعوا بعسكري مغمور يدعى تكفاريناس، ليتكلف بهذه المهمة كما سبق وتكلف بها يوغرطة.
خاض تكفاريناس حروبا عدة ضد الرومان لمدة سبع سنوات . لكن يبدو أن مركز السناتو قد تعرض للحرج ربما، فأوعز لحليفه بطليموس بإيقاف ثورة تكفاريناس، التي يبدو انها حققت اهدافها و أوقفت الزحف الامبراطوري على أراضي موريطانيا.
هكذا إذن، يمكن القول أن تكفاريناس هو تكرار لتجربة يوغرطة، و بطليموس تكرار للملك بوكوس. لقد دافع كل واحد منهما عن بلده بطريقته و من موقعه و حسب امكانياته وظروفه. أما القول بأن رعايا بطليموس إنضموا الى ثورة تكفاريناس احتجاجا منهم على استسلامه لعتقائه، فقول ينطوي على جهل واضح بمسببات الأشياء . فأن يثور الرعايا المور على حكومة ملكهم، معناه أن يهاجموا عاصمته و وزراءه، لا أن يرحلوا بكثافة الى الحدود الشرقية لمملكته، للإنضمام إلى تكفاريناس دون أن يتدخل بطليموس لمنعهم.
لقد كان بطليموس حليفا للسناتو، و ملكا ذا سيادة على بلده موريطانيا. لم يكن خائنا في نظر شعبه، بل ملكا وطنيا بدليل اهتمامه بالشعور الوطني، و سكه للرموز الافريقية على عملاته . و حينما اراد الجيش الامبراطوري في عهد تيبريوس تغيير قواعد الاتفاق بين السناتو و الامبراطور اغسطس، و قرر الاستيطان بافريقيا البروقنصلية و تمديده باتجاه موريطانيا، فإنه كان لزاما على السناتو و بطليموس، التدخل و منع هذا التوغل الاستيطاني داخل اراضي المملكة، فتقرر الرد على هذا التوغل بطريقة غير معلنة، تمثلت في ثورة تزعمها عسكري مغمور يدعى تكفاريناس يقف وراءه حلفاء اقوياء.







2- كرونولوجيا المستوطنات :
يؤدي الحديث عن ثورة تكفاريناس، الى الحديث عن المستوطنات الرومانية في عهد يوبا الثاني و بطليموس . فكيف ذلك ؟
تذكر المصادر أن تكفاريناس أعلن ثورته على المستوطنات الرومانية المتواجدة بين إفريقيا البروقنصلية و موريطانيا، حيث هاجمت قواته مستوطنات قفصة و حضروميت وقابس و الطريق الرابطة بينها. لكن لماذا ؟ الجواب هو أن هذه المستوطنات كانت تستولي على أراضي النوميديين أو تحرم القبائل هناك من الانتجاع فيها . لقد كانت هذه المستوطنات اماكن استقرار الجنود الرومان، و بالتالي فهي لم تكن اماكن مدنية بل عسكرية. و كان يحرسها بالطبع الفيلق الاغسطي الثالث . لذلك كان حتميا أن ينشب الصراع بين القبائل الأوراسية و الجيتولية مع سكان هذه المستوطنات، بل انضم إلى هؤلاء الثوار قبائل الكرامنت و المور. ما يعني أن الاستيطان الروماني كان مرفوضا من طرف شعوب شمال افريقيا. ثم اذا أضفنا التناقض الكامن بين السناتو و الامبراطور المدعوم من طرف الديموقراطيين، و كيف أن السناتو كان يرفض بشدة أي استيطان ديموقراطي على اراضي شمال افريقيا، و كيف أن هذه المستوطنات كانت بالأساس مستوطنات ديموقراطية ، أي انها كانت تأكيدا لسياسة جايوس جراكوس و ماريوس و يوليوس قيصر ، و كيف أن السناتو كان يعتبر موريطانيا مجالا خاصا به خارجا عن سيطرة الامبراطور ، فكيف إذن استطاع أغسطس تأسيس 12 مستوطنة أغسطية بموريطانيا بشقيها الشرقي و الغربي ؟ إن هذه رواية يصعب تصديقها.
يقول أكصيل في هذا الصدد : " تأسست في مملكة بوخوس ست مستعمرات بأمكنة بحرية ، كانت توجد بها مدن و هي : 1- ايجيلجيلي (جيجل)، 2- صلداي (بجاية). و كان بها و بالتي تليها محاربون قدماء من فيلق يحمل الرقم السابع، روصازوس (هي ازفون بساحل ارض القبائل الكبرى). 4- روشكوني (براس ماتيفو في مدخل مدينة الجزائر). 5- كونوكو (بالقرب من كورايا، غربي شرشال)، و هي مستعمرة كونتها فرقة من الحرس البريطوري. 6- كرطناس (تنيس) كان بها محاربون قدماء من فيلق يحمل الرقم الثاني.
كما كان هناك ثلاث مستعمرات اخرى بداخل البلاد، هي : 1- توبوسوبتو ( و هي تيكلات بالجنوب الغربي لبجاية، في وادي سومام) في مكان يمكن منه مراقبة القبائل الكبرى و الصغرى في ان معا. 2- اكواي (هي حمام ريغة بجنوب الجنوب الشرقي لشرشال)، وكانت مياهها المعدنية مشهورة منذ العهود القديمة. 3- زوكبار (هي مليانة) في موقع يشرف على وادي شليف.
و في مملكة بوكود كانت : 1- زليل (او: زيليس) على ساحل المحيط بين تنجي (طنجة) و ليكسوس، في أزيلة، المكان الذي كانت توجد به مدينة فينيقية. 2- بابا بداخل البلاد، و مكانها غير معروف بدقة ، (و لكنها كانت في ناحية وزان بالجنوب الشرقي من ليكسوس التي كانت تتصل بها بابا على ما يظن). 3- بناسا في سيدي علي بوجنون على نهر سبو، و كانت في ناحية الشمال تتصل بتنجي و ليكسوس و زيلي، كما تتصل في الجنوب الغربي بسلا (على مصب نهر بورقراق)، و في الجنوب الشرقي تتصل بوليلي المدينة المهمة القريبة من مكناس ".
يطرح السؤال التالي : إذا كان اغسطس فعلا أسس هذه المستوطنات على أرض موريطانيا، فكيف لم يتعرض لها الثوار بالهجوم؟ لقد هاجم تكفاريناس مستوطنات حضروميت و قفصة و قابس طيلة سبع سنوات، علما أنها تقع على الحدود الشرقية لموريطانيا. فلماذا لم يجرب و لو مرة واحدة مهاجمة مستوطنات موريطانيا الشرقية نفسها؟ كيف غفل عنها ؟ كما أن الثوار المور انضموا بكثافة الى تكفاريناس، و قدموا من اماكن بعيدة، أي من موريطانيا الغربية ، فلماذا بدورهم لم يهاجموا مستوطنات موريطانيا الغربية ؟ لماذا تغافلوا عنها و تركوها سالمة، و ذهبوا الى ابعد نقطة في الشرق الموريطاني، لمهاجمة المستوطنات الرومانية هناك؟
يذكر اكزيل ان هجمات المور لم تقتصر على المستوطنات بافريقيا البروقنصلية، بل امتدت إلى أراضي إسبانيا من خلال عمليات القرصنة. إذن فهؤلاء الثوار هاجموا المستوطنات الرومانية على الحدود الشرقية و الشمالية لموريطانيا، و تركوا مستوطنات الداخل سليمة دون ان يمسوها بمكروه . فهل هذا سلوك منطقي ؟
اذا كان الثوار ينتقلون شرقا و شمالا بكل حرية، لمهاجمة الممتلكات الرومانية . و على فرض أن بطليموس ملك كسول و مستسلم لعتقائه ، فلماذا لم تتدخل المستوطنات الاثني عشر المتواجدة بالداخل الموريطاني، لقمع الثوار، و منعهم من القرصنة و الالتحاق بتكفاريناس ؟ أليس سكان هذه المستوطنات الاغسطية هم من الجنود المسرحين، و بالتالي يمكنهم في اي لحظة التدخل لتهدئة الاوضاع بموريطانيا و قمع الشغب بها ؟
يتضح إذن من خلال هذه الاسئلة ، أن إشكالية المستوطنات الاغسطية في عهد يوبا الثاني و بطليموس، بحاجة الى إعادة نظر. نعم لقد وجدت هذه المستوطنات على ارض موريطانيا، و لكن التفصيل الذي يغفل عنه الباحثون هو تاريخ تأسيسها. بعبارة اخرى ، هل وجدت هذه المستوطنات في عهد بطليموس ام بعده ؟ إن ما يلزمنا التحقق منه هنا في هذه الفقرة هو كرونولوجيا تأسيس هذه المستوطنات.
يذكر بلين الشيخ أن هذه المستوطنات تأسست في عهد اغسطس ، لكن عند الفحص يتضح العكس . إذ أن وجودها في عهد يوبا و بطليموس هو مناف للمنطق . لأنه حدثت ثورات كثيرة في عهدهما و لسنوات عدة دون ان تتعرض للهجوم. ثم أن من يقول بهذا الامر، فإنه يجهل تماما كره السناتو لتأسيس المستوطنات الشعبية على ارض شمال افريقيا. كما أن هناك عاملا آخر و هو الأهم، و هو أن هذه المستوطنات الأغسطية هي في الأصل مدن مورية ، أي أن أغسطس لم ينشئها من فراغ. و بالتالي فإن تحول هذه المدن المورية الى مستوطنات اغسطية معناه طرد الساكنة المحلية منها، و احتلالها من طرف الجنود الرومان. و مع ذلك لم تسجل المصادر أي ثورة مورية ضد هذه المستوطنات . و هذا أمر غير منطقي. و بالتالي فإن هذه المستوطنات لم تكن موجودة في عهد يوبا الثاني او بطليموس، بل وجدت بعد مقتل هذا الاخير، و إلحاق مملكته بالامبراطورية الرومانية. آنذاك يمكن الحديث عن مستوطنات رومانية بموريطانيا ، أما قبلها فلا.
إن ما يقال عن تأسيس هذه المستوطنات في عهد أغسطس، هو مجرد تمثل فرضه المؤرخ بلين الشيخ . كما انه لا توجد دلائل أركيولوجية قاطعة بوجودها اثناء عهد يوبا الثاني أو بطليموس . و حتى بالعودة الى المصادر الأدبية، فإننا نجدها لا تتحدث عن هذا الحدث بشكل واضح و قاطع . فهي غير مذكورة في التقرير الرسمي الذي حرره أوكتافيوس بنفسه بخصوص المستوطنات التي أسسها . فلم يرد فيه ذكر موريطانيا من بين الولايات التي كانت خاضعة له، و لم يرد فيه أيضا ذكر المستوطنات الإثني عشر التي يقال انه أسسها بموريطانيا. كل ما هنالك هو أن بلين الشيخ ادعى أن هذه المستوطنات هي من انشاء اوكتافيوس. بل أن اكزيل نفسه يرفض فكرة تأسيس مستوطنات رومانية في مملكة اجنبية. وهذه بعض من فقرات كتابه تاريخ شمال افريقيا القديم، نوردها لمزيد من التوضيح:
" لم يحول اوكتاف مملكة بوخوس الابن الى ولاية، و الفقرة التي ذكرناها من قبل والتي وردت في مكتوب رسمي حرره اوكتاف بنفسه لم يرد فيها إسم موريطانيا من بين ولايات الغرب التي كانت خاضعة له سنة 32 ق.م و كذلك فإن ديون لم يوردها من بين الولايات الموجودة في سنة 27 ق.م".
" أسس اوكتاف بموريطانيا اثنتي عشرة مستعمرة و لم يذكرها في التقرير الرسمي لحكمه لأنه دون شك لم يؤسسها في ولاية رومانية حقيقية. و نحن نعرف هذه المستعمرات عن طريق بعض النقوش وعلى الخصوص عن طريق بلين الشيخ الذي استمد معلوماته من وثيقة او وثيقتين اداريتين "
لا يوضح أكصيل طبيعة هذه النقوش و التي قد تحتمل تأويلا اخر غير ما يذهب اليه .
" و نعتقد انها كلها احدثت بين سنة 33 و سنة 25 ق.م أي في عهد كانت فيه موريطانيا تابعة عمليا للدولة الرومانية . و منذ سنة 25 عادت مملكة ، أي بلدا اجنبيا ، اذن يصعب علينا قبول كون المستعمرات تؤسس به ". يعبر اكصيل في هذه الفقرة عن ظنه بقوله (و نعتقد) اي أنه غير متأكد من تاريخ انشاء هذه المستوطنات . ثم يعبر في جملة اخرى عن رفضه لفكرة انشاء مستوطنة ببلد اجنبي. لكن ما لا يذكره، هو أنه إذا كان يصعب إنشاء مستوطنة ببلد اجنبي، فإنه يصعب أيضا الابقاء على المستوطنات الاغسطية بعد تولي يوبا الثاني الحكم. لان الاهالي المور سيرفضون بكل بساطة استمرارها على اراضيهم، خصوصا اذا علمنا ان هذه المستوطنات الاغسطية هي في الاصل مدن مورية. ما يعني ان هذه المستوطنات لم تكن اصلا موجودة اثناء حكم يوبا الثاني و بطليموس.
إن كرونولوجيا تأسيس هذه المستوطنات تعاني من ضبابية كثيفة ، و لهذا يصعب الجزم بانها تأسست في عهد اغسطس. و هو ما تعبر عنه المؤرخة ميشال كولتولوني بالقول:
" لا تخبرنا البتة النصوص القديمة القليلة التي نتوفر عليها بخصوص موضوع مستوطنات موريطانيا (و التي تعود بالاساس الى سترابون و بلين الشيخ) عن تاريخ تأسيسها. يعود سرد الاحداث لدى سترابون لوثائق تخص المرحلة الاغسطية التي لا يمكنها أن تدقق كرونولوجيا المستوطنات مادام سترابون لا يشير إليها بأي شكل . فيما يخص بلين فإنه استعمل في نفس الوقت معلوماته الشخصية و مصادر مكتوبة التي من بين اهمها تضمنت كتب رحلات بحرية لوصف السواحل .... لجأ بلين فيما يخص اسبانيا الى وثائق اغسطية و بالنسبة لموريطانيا الى وثائق تعود الى ما بعد فترة الحاقها و مؤرخة ببداية حكم كلود."
إذن فقد لجأ بلين إلى وثائق تعود الى فترة حكم كلود فيما يخص المستوطنات الموريطانية. أي بعد إلحاق موريطانيا بالإمبراطورية الرومانية و ليس قبلها . كما توضح المؤرخة أن هذه المستوطنات كانت مراكز عسكرية، حيث تقول : " كل المؤسسات الموريطانية كانت مستوطنات تخص المحاربين القدماء " . و طبعا و مع ذلك، فإن هذه المستوطنات العسكرية لم تحم بتيكا من هجمات القراصنة و افريقيا البروقنصلية من هجمات تكفاريناس في عهد يوبا و بطليموس.
تشعر المؤرخة ميشال كولتولوني بأن وضعية المستوطنات تظل غامضة، لكونها لم تذكر في وثائق اغسطس المتعلقة بالمستوطنات. و تفسر ذلك بكون هذا الامبراطور صمت عن ذكر هذه المستوطنات في وثائقه، و ترك وضعيتها غامضة كنوع من الديبلوماسية المتبعة مع يوبا الثاني. لأنه لم يكن يشعر بأنه يقف على ارض صلبة !. و هنا نطرح السؤال التالي: إذا كان الإمبراطور هو ولي نعمة يوبا الثاني، و هو من نصبه ملكا على موريطانيا، فلماذا سيتعامل معه بهذا الحذر البالغ ؟ ! سواء تعلق الأمر بتفسيرات اكصيل او كولتولوني فإنها تظل غير متينة .
إن المتأمل في وضعية المستوطنات الأغسطية بموريطانيا، سيستغرب من كونها ظلت سليمة دون أن تتعرض للهجوم من طرف المور، و كأنها عضو طبيعي في جسم موريطانيا. فلا المور هاجموها، و لا قاطنوها من الجنود المسرحين إعترضوا سبيل القراصنة و الثوار، ومنعوهم من الإنضمام إلى تكفاريناس . ثم إذا علمنا أن هذه المستوطنات هي في الاصل مدن مورية، فكيف استطاع جنود اغسطس أصلا الاستيطان بها دون مشاكل مع الساكنة المحلية ؟
تقول المؤرخة ميشيل كولتولونوي : " من جهة أخرى لا نلاحظ أبدا تشييدا أو توسعا للعمران الحضري مقارنة مع الشبكة الحضرية الماقبل الرومانية . لم يتعلق الامر بالاستثمار بموريطانيا بل بدفع و جذب المراكز القديمة للحضارة الليبية البونيقية للحياة الرومانية" . تعترف هنا المؤرخة ميشيل بأن الرومان لم يضيفوا شيئا للمجال الحضري المحلي بموريطانيا. فهم لم يشيدوا مراكز جديدة ، بل اقتصروا في استيطانهم على استغلال المراكز المورية الاصلية. ما يعني انهم طردوا الساكنة المحلية منها و حلوا مكانها .
و ما يزيد الطين بلة، هو أن هؤلاء المستوطنين لم يكتفوا بالسكن داخل هذه المدن/المستوطنات، بل باشروا أعمالهم الاقتصادية المتمثلة اساسا في استغلال الاراضي الفلاحية . ما يعني أنهم زيادة على احتلالهم لمنازل الاهالي، فانهم انتزعوا اراضيهم الفلاحية لاستغلالها لصالحهم . فكيف اذن تقبل المور هذا الوضع دون ضجة ؟
يذكر جيروم كركوبينو ان الانشطة الاقتصادية للمستوطنين تناقضت مع حاجيات المور، و لم يعيروا لها اهتماما . لقد اهتموا بتربية الخنازير بينما كان المور ينفرون من اكل لحمها، كما توسعوا في زراعة القمح ما يعني انتزاع المزيد من اراضي الاهالي،و اصطادوا الحيوانات و الفيلة من اجل العاج و الالعاب بروما، بينما كان الفيل حيوانا مقدسا لدى المور، كما قطعوا غابات العرعار بشكل مفرط .
اذن مع هكذا استيطان، و هكذا استغلال لثروات البلاد، كيف يعقل أن الداخل الموريطاني ظل ينعم بالسلم حسب ما يقول جيروم كركوبينو؟. و كيف استطاع بطلمي أن يترك موريطانيا في حالة اقتصادية جيدة مع وجود هذا العدد الضخم من المستوطنات؟
إذن لجعل تاريخ موريطانيا في عهد بطلمي اكثر منطقية ، فإنه يتعين علينا اعادة النظر في كرونولوجيا تأسيس المستوطنات الاغسطية بها. فيصبح تاريخ انشائها يبدأ مع حكم كلود حينما تم الحاق موريطانيا بالامبراطورية الرومانية و ليس قبلها.
إنه بعد هذا الإلحاق ، و القضاء على المقاومة المورية ، و احتلال المدن الموريطاينة من طرف الجيش الروماني ،يمكن الحديث آنذاك عن تحويل هذه المدن الى مستوطنات يقطنها جنود مسرحون يستغلون المجال الموريطاني وفق حاجياتهم الاقتصادية . فتوسعوا في انتاج القمح و قطعوا الاشجار بكثافة و اصطادوا الفيلة حتى انقرضت. أما قبل هذا الالحاق فقد كانت موريطانيا تحت حكم بطليموس، تنعم بالاستقلال السياسي و الاداري و حتى الاقتصادي عن سلطة الامبراطور، و هو ما صمتت عنه المصادر الرومانية.

3 - إشكالية العاصمة :
لا تزال إشكالية عاصمة موريطانيا الغربية تثير جدل المؤرخين و تمثلاتهم ، سواء تعلق الأمر بالعهد الموري أو الامبراطوري. فمن ناحية، لا تذكر المصادر عاصمة الملك بوكود، بينما نجدها تتحدث بوضوح عن عواصم موريطانيا الشرقية. و من ناحية اخرى، فإنه في عهد يوبا الثاني و بطليموس و الحكام الرومان، لم يحسم الجدل بعد حول مكان عاصمة موريطانيا الغربية . فكيف يمكن إذن حل هذه الاشكالات؟
يجدر بنا قبل الشروع في الاجابة، التعرف على اقوال المؤرخين بخصوص عاصمة موريطانيا. تقول المؤرخة ميشال كولتولوني في هذا الصدد أن موريطانيا الشرقية عرفت عواصم مستقرة على عكس موريطانيا الغربية، التي لم يستطع ملوكها في العهد الموري إنشاء عواصم لهم، و اضطروا للتنقل باستمرار داخل ممالكهم، لتأكيد سلطتهم على حد قولها. ذلك ان المؤرخين القدماء، لم يذكروا اي عاصمة لموريطانيا في عهد الملوك الموريين ما يعني في نظرها دليلا على عدم وجودها .
لكنها تنسى ان عدم حديث المؤرخين عن عاصمة لموريطانيا الغربية، لا يقطع بعدم وجودها، بل يعني ربما انهم عتموا عليها عمدا. فالمؤرخة بنفسها تذكر أن مدن بناصا ووليلي و تاموسيدا كانت أكبر مساحة من تيبازا و ايول . إذن كيف يعقل أن تكون مدن موريطانيا الغربية اكبر من مدن موريطانيا الشرقية، و تتوفر الثانية على عاصمة و الأولى لا؟ ألا تدل هذه المساحات الكبرى لمدن موريطانيا الغربية ان حركة العمران بها اكثر ازدهارا من نظيرتها الشرقية ؟. و هو ما سينعكس ايجابا على استقرار نظامها السياسي ومؤسساته و أولها عاصمته.
لكن ورغم التعتيم الممارس من طرف المؤرخين الرومان، فإننا نجد أن الاساطير الاغريقية تحدثت عن ليكسوس كمدينة اقامة ملكية . كما أن استقرار يوبا و بطليموس بموريطانيا الغربية هو دليل على أنها شكلت النواة الصلبة لموريطانيا. ما يعني انه إذا توفرت موريطانيا الشرقية على عاصمة، فإن موريطانيا الغربية كانت بكل تأكيد تتوفر على عاصمة أكبر.
هذا عن وجود العاصمة بموريطانيا ، أما بخصوص موقعها في عهد يوبا الثاني و بطليموس، فإن الأراء بخصوصها مازالت تتأرجح بين قولين . فاصطيفان اكصيل و مركارت و كانيا يقولون بأن عاصمة موريطانيا الغربية هي طنجة، قياسا الى كون عاصمة موريطانيا الشرقية هي قيصرية، لأنها حملت أيضا اسم موريطانيا القيصرية. و بالتالي فمادام أن موريطانيا الغربية حملت أيضا إسم موريطانيا الطنجية، فإن عاصمتها تكون بالضرورة هي طنجة .
يرد جيروم كركوبينو على هذا الطرح بالقول بأن الشواهد الاركيولوجية لا تدعم هذا الرأي. لأنه في طنجة إذا تم العثور على اربع نقائش رومانية ، فإنه في وليلي عثر على 15 نقيشة، إضافة الى عدة تماثيل و شواهد إغريقية و رومانية، تدل على أنها كانت عاصمة موريطانيا منذ عهد يوبا الثاني .
لكن المؤرخة ميشيل كولتولوني ترد على جيروم بالقول، بأن النقائش الاغريقية الخمسة التي عثر عليها بوليلي، لا تعود لعصر يوبا بل الى القرن الثالث الميلادي . كما أن كثرة اللقى الاثرية بها راجع لكونها هجرت منذ القرن الخامس الميلادي، على عكس طنجة التي لم ينقطع السكن بها، ما جعل بقاياها الاثرية تندرس تحت البنايات الحديثة . ثم أنه مجاليا لا يمكن لوليلي ان تكون عاصمة لموريطانيا الغربية، لكونها محاصرة بمستنقعات سبو غربا و بسلسلة جبال الريف شمالا . كما ان الروايات الشفوية و الاساطير لم تتحدث ابدا عن وليلي .
توضح المؤرخة كذلك أن مكانة وليلي لم تبرز إلا في عهد كلود على يد المؤرخ بلين . كما أن طبيعة المجال الموريطاني الغربي، تجعل الاستقرار الحضري به، يتمركز في غالبيته على السواحل الاطلسية حيث توجد أكثرية مدنه.
نتفق مع المؤرخة ميشال في كون وليلي عاصمة لموريطانيا في عهد يوبا و بطليموس أمر يصعب تصديقه . فمجاليا لا يمكن لوليلي ان تكون عاصمة ، لأنها بعيدة عن الساحل الاطلسي و حوض سبو، حيث تتركز أغلب مدن المغرب الموري . فالعاصمة تكون أساسا في قلب المجال الحضري و وليلي توجد على هامش هذا المجال . لكن نفس الامر ينطبق على طنجة. فهي أيضا توجد في أقصى شمال الساحل الاطلسي، أي بعيدة عن مدن حوض سبو، و بالتالي فهي أيضا توجد على هامش المجال الحضري الموري مرة اخرى. وينضاف إلى هذا التحليل عامل اخر محدد لنشوء العاصمة، و هو عامل توفر الماء .
إن طنجة لا تتوفر على مصدر متجدد و دائم للماء اي النهر ، فكيف إذن قررت السلطة السياسية المورية أن تنشئ عاصمة بها و كيف أمكنها ذلك ؟ و بالتالي حتى و لو اتفقنا بأن وليلي ليست عاصمة لموريطانيا الغربية، فإن طنجة ليست بالضرورة هي الاجابة السليمة عن هذه الاشكالية . فطنجة بدورها لا تستطيع ان تكون عاصمة لموريطانيا، لعدم توفرها بكل بساطة على نهر يمدها بالماء .
ان ملوك موريطانيا الغربية اذا قرروا اتخاذ طنجة عاصمة لهم، فإنهم سيجبرون على جلب الماء الصالح للشرب لها من مناطق بعيدة عن طريق القنوات(Aqueducs). إذن فحتى و لو اندرست طنجة القديمة تحت البنايات الحديثة، كما يقول بذلك أنصار فكرة طنجة عاصمة موريطانيا الغربية، فإن القنوات التي تجلب الماء لطنجة من مناطق بعيدة ستظل اثارها موجودة و شاهدة عليها. لكنها في الواقع لا اثر لها. ما يعني ان طنجة لم تكن في يوم من الأيام عاصمة لموريطانيا الغربية . فأين كانت اذن ؟
ينبغي للإجابة على هذا السؤال، أن نحدد استراتيجية بحثنا التاريخي عن عاصمة موريطانيا الغربية . تتحدد هذه الاستراتيجية في الانطلاق من المصادر غير المقصودة الى المصادر المقصودة ، أي من المجال الجغرافي و البقايا الاثرية كمصادر غير مقصودة، لننتقل بعدها الى تحليل الروايات التاريخية كمصادر مقصودة.
يلاحظ إذن عند تحليل طبيعة المجال الموريطاني الغربي، أن أنهاره تنبع شرقا وتصب غربا في المحيط الاطلسي . تمنحه هذه الخاصية سهولا خصبة بتربة سميكة عند مصبات هذه الأنهار . و هو ما يجعل السواحل المحيطية تتوفر على ثلاث خصائص مجالية و هي: سهول شاسعة و خصبة، تشقها أنهار كبيرة صالحة للملاحة، و تصب في محيط مفتوح على العالم الخارجي. إذن فالفلاحون المستقرون بهذه السهول سيستطيعون تصريف فائض انتاجهم في السوق الداخلية عن طريق الملاحة النهرية، كما سيستطيعون تصريف نفس الفائض عن طريق موانئ مصبات الانهار في السوق الخارجية، و سيمتلكون ايضا ميزة تلقي فائض انتاج الدول المجاورة لهم عن طريق الموانئ البحرية عند مصبات هذه الانهار. ما يجعل من المدن الساحلية نقط تبادل تجاري داخلي و خارجي مزدهر. و هو ما يفسر ضخامة مساحة المدن الساحلية و كثرتها كليكسوس و تيماتيريون و سلا مثلا، و بنفس الدرجة تقريبا المدن النهرية القريبة منها، كباناصا و تاموسيدا.
اذن كيف يعقل ان تتواجد عاصمة موريطانيا الغربية بعيدا عن هذه الديناميكية الانتاجية و التجارية و العمرانية؟. إن القول بأن وليلي أو طنجة كانت عاصمة لموريطانيا الغربية هو قول مجانب للصواب، و لا يستقرئ المعطيات المجالية بشكل سليم. ذلك أن العاصمة الموريطانية على ضوء المعطيات المجالية، لا يمكن الا أن تكون على الساحل الاطلسي عند مصبات الانهار.
و يبقى السؤال المطروح بعد هذا الحصر لمكان تواجد العاصمة المورية على الساحل الاطلسي هو، اين كانت اذن ؟ بعبارة اخرى : أي من المدن على الساحل الاطلسي من تستحق لقب عاصمة موريطانيا الغربية ؟
نستبعد بطبيعة الحال مدينة طنجة، لانها كما ذكرنا لا تتوفر على نهر . اذن تظل لدينا المدن التالية : ليكسوس و تيماتيريون و سلا و روسبيس . صحيح أن ليكسوس تقع على نهر لوكوس و مدينة كبيرة و ذكرتها الأساطير، لكنها مع ذلك تظل بعيدة عن التجمع الأضخم للمدن المورية في حوض نهر سبو، و هي تيماتيريون و بناصا و تاموسيدا و ريغا. هل هي إذن تيماتيريون ؟ ربما ، لكن المدينة الاكثر سطوعا و التي تحضر بقوة هي مدينة سلا . فهي تقع عند مصب نهر أبي رقراق بين مصب نهر سبو و مصب نهر أم الربيع ، و التالي فهي تقع في قلب سهول منطقة الغرب الخصبة، مع توفرها على ميناء طبيعي الشيء الذي حرمت منه ربما مدينة تيماتيريون .
إذن نخلص إلى أن سلا كانت مركز ثقل المجال الموريطاني، فلاحيا و بشريا وعمرانيا و تجاريا، و بالتالي جبائيا، لكثرة مداخيلها من مكوس و جمرك. ما سيغري بالضرورة السلطة السياسية بالاستقرار بها، و جعلها عاصمة للبلد للاستفادة من امكانياتها الاقتصادية . أما أن تترك السلطة السياسية هذا المكان الديناميكي، و ترحل عنه الى الهامش شرقا في وليلي أو شمالا في طنجة فهذا أمر غير معقول.
و لتوضيح هذه النقطة أكثر نذكر أن كلا من المؤرخة كولتولوني و المؤرخ كركوبينو يتفقان على أن الساحل الاطلسي كان مركزا للإزدهار التجاري و العمراني. حيث تذكر ميشال أن :" الغالبية العظمى من المراكز تتوزع على السواحل و لا تدين في تواجدها إلا للملاحة الساحلية . يظهر الاستقرار الحضري بالداخل ضعيفا بشكل كبير" . و يضيف كركوبينو قائلا :" و نظرا لأن الفينيقيين كانوا يفضلون اختيار مواقعهم على المحيط بمصب الأنهار فيه ، فاننا نغري بأن نفرض أن بين ليكسوس بمصب وادي اللكوس وروسبيس (الجديدة) و مصب نهر أناتيس (أم الربيع) كانوا قد حلوا كذلك بمصب نهر سلا أبو رقراق" .
اذن، إذا كان ساحل الاطلسي هو المنطقة الأكثر ازدهارا من الناحية التجارية والعمرانية، فإنه يحق لنا أن نعتبر سلا هي المدينة الأكثر إزدهارا و مركزية في هذا الساحل، رغم التعتيم الممارس عليها. فها هو كركوبينو نفسه يوضح أن سلا قد حازت لقب "المتجر"، و ذلك لكونها منطقة تجارية بامتياز . يقول في هذا الصدد : " فأرمبيس يكون معناها بالاغريقية "المتجر" الذي سماه الرومانيون باسم سلا ، اخذا من اسم بونيقي ظاهر للعيان و لكنه اتخذ في الليبية اسما اخر" اذن من منظور جغرافي، فإن سلا كانت هي مركز ثقل المجال الموريطاني، و بالتالي فهي المكان الأحق بنيل لقب العاصمة في العهد الموري.
إن مشكلة العاصمة الموريطانية هي نفس مشكلة المستوطنات الرومانية بموريطانيا، أي الخلط الكرونولوجي . فإذا كان المؤرخون لا يدققون في تاريخ انشاء المستوطنات، و يجعلون تأسيسها يبدأ مع عهد اغسطس، بينما هو في الواقع بدأ مع عهد كلود، أي بعد نهاية الملكية بموريطانيا ، فإنهم أيضا لا يدققون في تاريخ وليلي و طنجة و تحولهما إلى مركزين حضريين كبيرين . فكيف ذلك ؟
إن البروز الكبير لمدينتي وليلي و طنجة في المصادر الأدبية، يعود بالأساس إلى كون تدبير المجال في العهد الموريطاني، اختلف عنه في العهد الروماني. ففي العهد الموريطاني المستقل، كان أكبر تجمع حضري يتواجد كما ذكرنا في حوض نهر لوكوس و سبو و أبي رقراق و أم الربيع . و لهذا تحتم جعل سلا عاصمة لهذا المجال. أما في العهد الروماني فإن السيطرة على هذه الاحواض كانت مهددة باستمرار، بسبب التواجد الكبير للموريين بها ، ما يجعلها قابلة في أي لحظة للانتفاض و الثورة. و لهذا و لتدبير عسكري جيد لهذا المجال، فإن روما جعلت من وليلي و طنجة مركزين عسكريين كبيرين، لمراقبة المجال الموريطاني وتقديم الدعم العسكري لباقي المستوطنات.
لقد تكفلت طنجة بمراقبة الشمال المغربي، و مساندة مستوطنات روسادير و تمودة و ليكسوس في حالة حدوث تمرد محلي ، و ذلك لقربها من اسبانيا .و بالتالي فهي كانت تلعب دور صلة الوصل بين جيش روما المرابط باسبانيا و الفيالق الرومانية المتواجدة بهذه المستوطنات. و أما منطقة الغرب المشكلة من السهول الواقعة بين نهري ابي رقراق ولوكوس، فتكفلت بمراقبتها مستوطنة وليلي، التي لعبت دور صلة الوصل بين وهران ومستوطنات الغرب كبناصا و تموسيدا و سلا.
و لهذا تظهر وليلي و طنجة كمدينتين بارزتين في التاريخ الموريطاني، و تبدوان كعاصمتين لموريطانيا .ما جعل المؤرخين يغرقون في جدل لا متناه، حول من تكون منهما عاصمة موريطانيا الغربية. بينما في الواقع يرجع بروز دورهما على مسرح التاريخ الموريطاني، إلى ما بعد احتلال موريطانيا من طرف الرومان، و هو ما فرض عليها تدبيرا مجاليا يختلف عن نظيره في العهد الموري المستقل.
إن المصادر الادبية، حتى و ان كانت تتعمد تجاهل ذكر سلا، كمدينة مركزية لدى الموريطانيين ، فإنها تقر بذلك بشكل ضمني حين تذكر بأن الافيال كانت ترعى في غابات سلا . و بالبحث عن مكانة الافيال لدى المور، نجد أنها كانت حيوانات مقدسة عندهم. فهي كانت آلهة تعبد من طرفهم . كما كانت مصدر فخرهم و اعتزازهم. لهذا ظهرت على عملاتهم، و لهذا أيضا حينما أراد مجلس الشيوخ التقرب من الأفارقة و كسب ولائهم في صراعه مع قيصر، فإنه سك عملة عليها صورة الفيل.
و لهذا حينما تقول المصادر بان الأفيال كانت ترعى في غابات سلا، فهذا يعني أن هذه الحيوانات لم تكن ترعى هناك بشكل اعتباطي، بل بشكل مقصود. اي أنها جلبت بإرادة من الموريين إلى غابات العاصمة لتعبد أولا، و لتدافع عن العاصمة ثانيا اذا ما تعرضت لهجوم عسكري. و لهذا نفهم أيضا لماذا انقرضت الافيال من موريطانيا ،لأن الرومان كانت لهم ذكريات سيئة معها. و بالتالي فبمجرد احتلالهم لسلا فانهم أعدموا هذه الحيوانات التي طالما سحقت جنودهم تحت اقدامها .
هذا و تضيف الأبحاث الاركيولوجية دليلا اخر، يؤكد مركزية سلا في المجال الموريطاني، و هو نقشية عثر عليها بسلا في قاعدة لتمثال نصبه اعضاء المجلس المحلي لبلديتها تشريفا لوال روماني كان يهم بمغادرة منصبه . فلنرى ماذا تقول هذه النقيشة :
" نحن أهل سلا اعتبارا منا لان كل أعمال الوالي الفاضل جدا و الفذ، سلبيكيوس فيلكس ، هي لنا كما لو اننا قد استطعنا ان نرجوها منه ، لو كان الحظ قد جعله يولد مواطنا في وطننا، و لتسمو به من بعد لهذه المنزلة النيرة، و هو اهل لعطايا السماء، اذ قبل ان يغادر عهد الشباب قد حلته بقيادات الفروسية الثلاث، و هو أيضا اهل لدروس اوتيدوس هونوراتوس الشخص الممتاز الذي هو أستاذه دون انكار في نشاطه المزدوج المدني والعسكري، لكي ينال من مسافة بعيدة مثالا بالغ الرفعة، فاعتقد أنه لا يمكن ان يوجد اشرف لكرامته الشخصية ألا رضى وال عظيم، و لم يكن لديه اجمل من ان يذكر بحبنا، و ذلك اما لتحريرنا بلطف يتناسب في ذلك مع وقاره، من العسف و من الغزوات التي اعتادت أن تصيبنا، و اما لأنه في مسائلنا المالية بدا حكما طيبا في غير ضعف و عادلا دون قسوة. والمحاكمات التي سودها ليل الزمان، باذية سواء للشأن العام و للخواص، فإنه اوضحها بحصافة، إذ قضى فيها حسب العدالة المحض. و اما لأنه احاط بلديتنا، على جميع النقط البالغة الخطر بأقوى السيران بأقل الاثمان، و إما بتنحية المصاعب الشديدة في التموين، بقطع حصص من مؤونة جيشه، تؤخذ غالبا جدا لصالحنا، و من غير إضرار بجنوده. واعتبارا بعد ذلك لأن نعود للصفات الحميدة التي تشهد بروح شديدة الوفاء، فإنه ظهر لطيفا محتشما، مراعيا لمجلس شيوخنا، صديقا للشعب، مهتما بواجبه، و أنه خولنا الوصول بأمن الى غاباتنا و حقولنا، إلى حد أن ضاعف الحراسة ليصون أمن العمال. و فوق هذا، في جميع ظروف الحياة المليئة باللطف، فإنه برهن على اهتمامه الكبير بالمساواة في تسيير الاملاك العامة مع جميع اعضاء المجموعة. و كان دائما يتقدم على الغير، ليس بفعل سطوته، بل بفعل التزامه، و لأننا كنا نشعر بلطفه المستمر، في آن واحد كتفضل منه بديع في الحاضر، و كمثال أمان للمستقبل.
اعتبارا منا لهذه الاعمال و لهذا السلوك، و لما سبق و ان وافقنا به على تخويل سلبيكيوس فيلكس الديوكوريونة مع رتبة مثنى سابق، بقرار اطلع عليه حاكمنا الفخم بسرور، فكذلك اليوم، و قد تعين له خلف، و نحن نفكر في رحيله المقبل بخشية وارتعاش، و نكاد لا نستطيع إساغة احتمال اسفنا المرير، إلا بأملنا العظيم في ترقياته المقبلة. و اننا لمتفقون على منح التشريفات الفائقة للرجل الذي لم نفتأ ننال منه الخدمات الممتازة. لذلك فاننا نرغب الى السيد الحاكم ذي السماح البالغ، الذي يسعد دائما بمقدرة ولاته و بشكرهم، و الذي هو وحده يعرف كيف يجعلهم اهلا لذلك، أن يهبنا الانعام لنؤدي ما علينا من دين فيأذن لنا بإقامة تمثال لواليه، زميلنا في مجلس شيوخ سلا، المواطن الشهير تمثالا به لا يضيع منا تماما الرجل الذي نحفظ حسناته. و أن يكون في نفس الموقع الذي فيه كان الرجال الافاضل بالبلدية قد سبق ان شرفوه بتمثال نصب اعترافا بالاهتمامات السعيدة التي قدمها للجماعة. فلا تضيع –جزاء من الجماعة نفسها- لأن ضياعها ينطق بنكران الجميل. و أن يأذن لنا فوق ذلك بأن نبعث ألى شخص الامير ذي القداسة الفائقة، بعثة كي تمدح لديه سلبيكيوس فيلكس، على أنه كان لنا الوالي، كما يجب أن يكون في هذا القرن ذي المجد السامي، و تحت القيادة التقية جدا لأوتيديوس هونراتوس (و في انتظار ذلك، نحن متفقون) على تكليف فابيوس فيدوس وفاليريوس بوليو بأن يحملا الى الحاكم ذي العظمة الفائقة هذا الود العمومي الذي يشهد به مجلس الشيوخ بالإجماع و شعب سلا، و ليشرحا له اننا قبل كل شيء لم نصوت كي نشرف سلبيكيوس فيلكس على كل ما نحن به مدينون له، بل لما ترك لنا تواضعه نقدمه له وكفى".
يظهر تحليل نص هذه النقيشة، أن ظاهره التملق و الانصياع لسلطة الوالي الروماني. لكن بالتمعن فيه جيدا، يتضح أن له خطابا مضمرا هو عكس ما يظهر. فكما يذكر كركوبينو، فإن سلا و موريطانيا الغربية كانت في عهد تحرير هذا النص، تحتل مكانة عظيمة في انشغالات الامبراطور ، بدليل الحرص الذي اتبعه في اختيار حاكم موريطانيا ، فهذا الأخير كما اوضح جيروم كروبينو يدعى أوتيديوس هونراتوس، و بالتالي فإن اسمه العائلي يدل على انتماء سيناتوري . ما يعني ان موريطانيا الطنجية كانت سنة 144 تسير من طرف احد اعضاء مجلس الشيوخ، و هو ما اعتبره كركوبينو شذوذا له نتائج عظيمة . و قد فسر ذلك بكون ثورات الاهالي انتشرت في عهد انطوان التقي، ما جعله ينصب على موريطانيا شخصية سيناتورية، اي انه نصب عليهم شخصية صديقة لهم تحسن التعامل معهم.
لقد كانت موريطانيا و مجلس الشيوخ الروماني دائما حلفاء ضد خصمهم الامبراطوري. و بالتالي فإنه حتى و لو بعد مائة عام (حررت النقيشة سنة 144)، فإن المنطقة لن تهدأ الا بوجود ولاة سيناتورات عليها، لا ولاة ينتمون لحزب الفرسان مثلا. لهذا فإن نص النقيشة و ان كان ظاهره التملق للوالي الروماني، الا انه في نفس الوقت رسالة تهديد مبطنة للامبراطور تذكره بالسياسة الواجب اتباعها من طرف الوالي الجديد لمدينة سلا، و التي يجب ان تسير على نفس نهج الوالي السابق . فهذا الأخير كان لا يزاحمهم في شراء القمح و التمون به رغم سلطته العسكرية . و سمح للسلاويين بالوصول الى غاباتهم وحقولهم ، ما يعني أنه لم يصادر اراضيهم لصالح روما .كما لم يفرض عليهم جبايات ثقيلة، حيث احاط بلديتهم باقوى الاسوار لكن باقل الاثمان، فقد كان فيما يخص المسائل المادية حكما طيبا في غير ضعف و عادلا دون قسوة ، و كان كذلك مراعيا لمجلس شيوخ سلا وصديقا للشعب.
اذن يظهر من هذا النص، ان والي سلا كان حذرا في تعامله مع شعب سلا، و مهتما بإرضائهم و عدم إثارة غضبهم. و لهذا قرر اعضاء المجلس المحلي لسلا إقامة تمثال له، لا تكريما له فحسب، بل و تذكيرا لمن سيأتي بعده باتباع منهجه، و الا فإن الثورة تتهدده.
أن يكون والي موريطانيا الغربية سيناتورا، و أن تهدد سلا الامبراطور بشكل مبطن إذا ارسل واليا جديدا يحيد عن منهج الوالي المعزول، هو دليل على قوة هذه المدينة و صعوبة اخضاعها، و أنها ليست مدينة هامشية في التراب الموريطاني، بل مركز له. إن اغضاب اهالي هذه المدينة معناه انتقال الثورة الى مجمل التراب الموريطاني، لذلك امتلك اعضاء مجلس شيوخها جرأة اقامة نصب تذكاري لواليها السابق، يتضمن نصا به تهديد مبطن للوالي الجديد . كما أنهم لم يكتفوا بنصب هذا التمثال في مدينتهم، بل قرروا الذهاب الى روما ، ليمتدحوا الوالي السابق لدى الامبراطور. ما يعني تحذيره من إرسال وال جديد يختلف في سياسته عن الوالي القديم.
إن جرأة مبطنة بهذا الشكل، لا تصدر من أعضاء مجلس شيوخ مدينة تقع في أقصى الامبراطورية الرومانية، إلا إذا كانوا يدركون مركزية مدينتهم في التراب الموريطاني، و قدرتها على إثارة ثورات ضخمة ضد التواجد الروماني.
و يبقى أن نشير في النهاية، إلى أن المدينة الوحيدة التي عثر فيها على تمثال للملك بطليموس في حالة سليمة، كانت هي سلا . و التمثال يوجد حاليا بمتحف الاثار بالرباط ، على عكس المناطق الاخرى، التي عثر بها على تماثيل ليوبا الثاني او بطليموس لكنها كانت في حالة تهشيم مقصود.
إذن لكل هذه الاسباب مجتمعة، من مركزية سلا في المجال الموريطاني بوقوعها بين نهري ام الربيع و سبو عند مصب نهر ابي رقراق، و ازدهارها التجاري لدرجة أن اسمها بالإغريقية هو أرمبيس أي المتجر، و رعي قطعان الفيلة بغاباتها، و سياسة الوالي الروماني الحذرة مع سكانها رغم مرور 100 سنة على احتلال روما لها، و قدرة مجلس بلديتها على رسم السياسة المقبلة للوالي الجديد، و العثور بها على تمثال لبطليموس في حالة سليمة دون غيرها من المدن، فإننا نرى انها كانت عاصمة المغرب الموري الى حدود عهد الملك بطليموس.

III- مقتل الملك بطليموس :
1- تيبريوس، الاحتواء المزدوج :
ما يهمنا في هذه الفقرة، هو رصد التحولات التي عرفتها روما، على المستوى السياسي و الاجتماعي و الثقافي، و اثرها على موريطانيا . ذلك ان هذه الاخيرة لم تكن تحيى بمعزل عن الاحداث بروما بل تتأثر بها سلبا او ايجابا. سبق و ذكرنا في الفقرات السابقة ان روما عرفت منذ تأسيسها انقساما بين النبلاء و العامة، و الذي تحول مع الوقت الى انقسام بين حزب الاخيار و حزب الشعبيين، ثم الى انقسام بين السناتو و الجيش، بالاضافة الى انقسام بين العناصر الهلينية المؤسسة لروما و العناصر الغالية الوافدة عليها.
ذكرنا فيما سبق ان قيصر اعتد بقوته العسكرية، و اراد تجاوز سلطة السناتو و تنصيب نفسه دكتاتورا فانتهى مقتولا علي يد السيناتورات. وعى خليفته اكتافيوس هذا الدرس ، فرغم انتصاره على خصميه ليبيدوس و انطونيوس الا انه حفظ مكانة السناتو و تقاسم معهم املاك الامبراطورية . لقد كان على اكتافيوس ان يراعي توازنات دقيقة داخل روما ان اراد الحفاظ على عرشه. كانت سياسته اذن هي الموازنة بين التيارين : الهليني و الغالي .
نلاحظ في هذا الصدد انه حرص على ارضاء كلا الطرفين . فإذا كان قائدا للجيش ذي الغالبية الغالية، فانه في المقابل قام بمصاهرة التيار الهليني ، فزوجته الاولى سكريبونيا Scribonia كانت قريبة لسكتوس بومبي ذي الاصول الاغريقية لكن و لانها انجبت ابنة فقد طلقها و تزوج ليفيلا والدة تيبروس و المنتمية لنفس الاصول الهلينية، املا في ان نتجب له وريثا للعرش، لانها سبق و انجبت تيبروس و دروسوس.
هكذا كان حال الحاكم في روما بعد وفاة قيصر . انه يجد نفسه واقفا بين تيارين متناقضين ومتعاديين و مختلفين حتى في اسلوب الحياة . و لهذا نجد ان اغسطس قام بسن القانون اليولياني المحرم للخيانة الزوجية و الحرية الجنسية عموما . و هو قانون من الواضح انه سن بضغط من التيار الغالي المتعاظم وجوده داخل روما. فما هو معلوم هو ان الغاليين كانوا يقتصرون على زوجة واحدة و لا ينظرون بعين الرضى للعلاقات الجنسية المتعددة ، و يبدو ان نمط الحياة الهليني المتحرر كان يضايقهم فضغطوا لسن هذا القانون.
اذن في هذه الاجواء المتأرجحة بين هذين التيارين نشأ تيبر صغيرا في قصر اغسطس. كان هناك مرشحون اقوياء لخلافة اغسطس و لم يكن هو بالطبع ابرزهم. نذكر من بين هؤلاء المرشحين ابناء جوليا ابنة اغسطس الذين هم : لوشيوس و جايوس و بوستيموس و مارسلوس ابن اكتافيا اخت اغسطس . لذلك فضل تيبروس الانسحاب الى جزيرة رودس امام ضغط هولاء المرشحين و دسائسهم.
حرص تيبر في منفاه بجزيرة رودس على استغلال اخطاء خصومه خصوصا ابناء زوجته جوليا . لقد كانت هذه الاخيرة عاشقة لنمط الحياة الهليني الابيقوري، و كانت تمارس مغامراتها الجنسية علانية في روما رفقة صديقها الشاعر اوفيد، و كان ابناؤها يساندونها في ذلك. لقد كانت روما تعيش توترا حادا بين نمط الحياة الهليني الابيقوري الداعي الى اعتبار المتعة الحسية اساسا للسعادة ،و نمط الحياة الغالي المتشدد في مثل هاته الامور .
ان جوليا و هي تمارس نمط حياتها المتحرر، كانت في الواقع تعبر عن ايديولوجيا التيار الهليني، و تقاوم تسرب الثقافة الغالية الى روما . لكن سلوكها هذا جر عليها غضب والدها اغسطس بتحريض من زوجته ليفيا والدة تيبر، فعاقبها و ابنها و الشاعر اوفيد بالنفي . و بذلك يكون تيبر زوجها استفاد من اخطائها و تخلص من ابنها بوستيموس كمنافس له على العرش.
يلاحظ في سلوك تيبر انه كان مزدوجا. فهو و ان كان يشتكي من سلوك زوجته الابيقوري و يطالب بتطبيق القانون اليولياني عليها، فانه هو ايضا كان هليني النزعة وبدوره يعتبر المتعة الحسية طريقا نحو السعادة، الا انه كان يمارس نمط حياته هذا خفية و بعيدا عن روما في جزيرة رودس او كابري .
لقد كان تيبر واعيا منذ شبابه بالتناقضات الثقافية و السياسية الموجودة في روما، لذلك حينما صار امبراطورا قرر ان يقف على نفس المسافة من كلا التيارين، و الا ينحاز تماما لاي واحد منهما، بل فضل على العكس من ذلك ان يقلم اظافرهما معا. فكيف ذلك ؟
قرر تيبر عند تنصيبه امبراطورا استعراض قوته امام السناتو . لقد استقدم فيالقه العسكرية الى روما ثم طلب من السناتو اعفاءه من منصب الامبراطور . فهم السناتو الرسالة و ترجاه ان يظل في هذا المنصب . بذلك يكون تيبر قد احتوى خطر السناتو لكن ظل هناك خطر اخر ممثلا في الجيش ذي الغالبية الغالية. كان له منافسون اقوياء في هذا الجيش نذكر منهم بوستيموس اكريبا بن يوليا و حفيد اغسطس الذي ارسل له ضابطا لاغتياله لكن مع ذلك ظل له منافس يتهدد عرشه و هو جرمانيكوس ابن اخت اغسطس ذي الشعبية الكبيرة وسط الجيش .
عمل تيبر لمعالجة هذا الامر، على تعيين شخص ذي اصول متواضعة، يدعى سيجان Sejan قائدا على الحرس البريتوري، و هو حرس كانت له مكانة كبيرة داخل الجيش، حيث يتلقى افراده ثلاثة اضعاف رواتب الجنود في باقي الجيوش الرومانية . لقد كان سيجان هذا هو صلة الوصل بين الامبراطور و الادارة الرومانية من جيش و سناتو. لقد كان مكلفا بمراقبة الجيش و الشخصيات الكبيرة و احباط كل تهديد ضد الامبراطور . كان سيجان بلغة عصرنا رئيس مخابرات تيبر و عينه التي لا تنام .
عمل تيبر اضافة الى ذلك الى التحالف مع السناتو لمحاصرة خصمه جرمانيكوس فنقل سلطات الجمعيات الشعبية من تعيين للقضاة و حق التشريع الى السناتو . ان سياسته هاته لا تعني انه منحاز للسناتو فهو كما سنرى سينقلب عليه فيما بعد ، كل ما هنالك هو انه كان يضرب تيارا بتيار لاضعافهما معا. بيد ان سياسة تيبر هاته جرت عليه غضب الجيش. فتمردت فيالقه في مقاطعة بانونيا اولا . تذكر المصادر ان ممثلا سابقا يدعى برسينيوس تمرد على ضباطه، و حرض الجنود على العصيان و المطالبة بحقهم في العودة الى روما بعد طول خدمة في الجندية. و طبعا استطاع تيبر اخماد هذا التمرد بعد ارساله ابنه دروسوس و قائده سيجان لقمعه. لكن بالتمعن في اسباب انتفاضة هؤلاء الجنود، يتضح ان سبب غضبهم كان اعمق من الرغبة في تحقيق مطالب عادية، و ان السبب الحقيقي لتمردهم هو سياسة تيبر غير الودودة تجاه الجيش .
لم يكن تيبر ينظر بعين الارتياح لقوة الجيش المتنامية. ان تضخم هذه القوة يعني اخلالها بالتوازن القائم بينها و بين السناتو و خروجها عن سيطرته . و منه نفهم لماذا اصدر تيبر قراره بأن : " لا غزو و لا توسع بعد اليوم " ، لان الفتوحات العسكرية ستضاعف من اعداد العناصر الغالية داخل الجيش مما سيزيد من تغلغلها داخل شرايين الدولة الرومانية ويجعله تحت رحمتها لا العكس. لذلك نجد ان الجيش لم يتمرد فقط في مقاطعة بانونيا بل ايضا في جرمانيا.
تذكر المصادر ان جيوش مقاطعة جرمانيا ترجت جرمانيكوس ان يعلن انشقاقه على الامبراطور تيبر و ان تنصبه امبراطورا عليها، بل و صارت تناديه بلقب " قيصر" و هو لقب له دلالته ، فقيصر هو من ادخل العناصر الغالية الى الجيش الروماني و من الواضح انها صارت تحن الى عهده بعد ان شعرت بانخفاض مكانتها في عهد اغسطس و تيبر . لقد كانت ازمة حادة مرت بها الدولة الرومانية ، لكن يبدو انه قد تمت تهدئة هذه الجيوش بان تراجع تيبر عن قراره بوقف الفتوحات العسكرية و السماح لها باستئنافها . اذ نجد ان جرمانيكوس قام بتهدئة غضب الجيش بان عبر بهم نهر الراين فاتحا بذلك مناطق جديدة بجرمانيا .
كان تمرد جيوش مقاطعة جرمانيا أزمة حادة مر منها تيبر . صحيح انه استطاع تجاوزها بسلام، لكنه كان يدرك في قرارة نفسه انه لا يمكنه ان يحكم قبضته على مفاصل الدولة الرومانية بوجود زعماء اقوياء في كل من الجيش و السناتو. فهذا الاخير كان بدوره يضم اربع سيناتورات بارزين و قادرين على تحدي قراراته، و قد سبق لاكتافيوس ان حذره منهم و هم السناتورات التالية اسماؤهم : اسينيوس جالوس و ليبيدوس و ارونتيوس و بيزو . كان هذا الاخير اكثرهم جرأة و استقلالية، لذلك قرر تيبر ان يتخلص منه و من خصمه في الجيش جرمانيكوس معا .
انتهز تيبر فرصة حدوث اضطرابات في الشرق الادنى فاستدعى جرمانيكوس الى روما سنة 17 م حيث لقي استقبالا حافلا من طرف الشعب و هو ما زاد من مخاوف الامبراطور اتجاهه ثم ارسله رفقة السناتور بيزو الى سوريا بدعوى تهدئة الاوضاع هناك .
تجدر الاشارة الى ان سوريا كانت منطقة نفوذ السناتو ، لذلك لم يتقبل بيزو تواجد قوات جرمانيكوس عليها . ان جرمانيكوس هو ممثل العناصر الغالية داخل الجيش الروماني و تواجده بسوريا يعني تدخل التيار الغالي في منطقة نفوذ السناتو لذلك كان بيزو كثير الشجار مع جرمانيكوس و كان يضايقه باستمرار . و هو ما خدم في النهاية مصلحة تيبر ، اذ اوعز لقائده سيجان بتسميم جرمانيكوس . و لان انصار هذا الاخير لم يسكتوا على وفاته المريبة فانه تم اتهام السناتور بيزو باغتياله و طبعا تدخل سيجان مرة اخرى و اغتال بيزو بطريقة توحي و كأنه قد انتحر . و بذلك يكون تيبر قد تخلص من اخطر خصمين له في الجيش و السناتو معا مدشنا بذلك سياسة الاحتواء المزدوج و تقليم اظافر التيارين معا.
يسمي المؤرخون هذه المرحلة من حياة تيبر بالمرحلة الثانية . فاذا كانت السنوات الثماني الاولى من فترة حكمه، قد تميزت بانتهاجه سياسة الاعتدال و الحكمة، نظرا لوجود خصوم اقوياء له في كل من الجيش و السناتو، فانه بعد تخلصه منهم، دشن مرحلة جديدة عنوانها ارهاب و تعذيب المعارضين.
تذكر المصادر ان تيبر في هذه المرحلة غادر العاصمة روما و انسحب الى جزيرة كابري. تميزت هذه الجزيرة بانها ذات منفذ وحيد و لا يمكن اقتحامها بسهولة . شيد فيها تيبر اثنتي عشر فيلا خصصها لمتعه الحسية و لتعذيب معارضيه معا. لقد صار نجم هذه المرحلة هو قائده سيجان الذي كان مكلفا بالتجسس على معارضيه و ارسالهم اليه ليلقوا حتفهم في جزيرة كابري.
ما يلاحظ في هذا الصدد هو ان تيبر في هذه المرحلة كشف عن شخصيته الهلينية الابيقورية التي كان يعجز عن اظهارها في روما حيث يسود القانون اليولياني . هذا القانون الذي بفضله تخلص من زوجته جوليا لانها كانت وفية لنمط الحياة الهليني . نجد ان تيبر هو نفسه سيخرق هذا القانون، و لكن بعيدا عن روما في جزيرة كابري الحصينة، حيث تذكر المصادر انه قد مارس فيها شتى انواع المتع الحسية، بما فيها اغتصاب الاطفال الرضع .
تكشف هذه الانحرافات الجنسية التي ابان عنها تيبر، ان نمط الحياة الهليني الابيقوري كان يعاني من كبت شديد في روما، لدرجة ان الامبراطور نفسه قام باشباع جوعه لهذا النمط بشتى الاشكال في اواخر سنوات حياته . كما تكشف سياسة التعذيب التي اتبعها تيبر ضد خصومه انه كان يستشعر نفسه امام تيارين متناقضين، ينتظران الفرصة للانقضاض عليه. و انه مادام لا يستطيع الانحياز الى احدهما فانه قرر ان يحتويهما معا عن طريق قتل زعماءهما، و ارهاب بقية الاتباع بانتهاج سياسة تجسس فعالة و تعذيب ممنهج و هو الامر الذي برع فيه كثيرا مساعده سيجان .
كان من الواضح ان روما تجلس على فوهة بركان ، فالاستياء العام كان عميقا لدى كلا التيارين . فكل واحد واحد منهما فقد عددا لا يستهان به من زعماءه . حاول سيجان استغلال الوضع لصالحه ما دام قد صار الرجل صاحب الكلمة العليا بعد تيبر ، لذلك فكر في خلافة الامبراطور ، فأغرى زوجة دروسوس بن تيبر بالتآمر معه على زوجها . لقد اتفق معها على اغتيال دروسوس و جعل ابنها وريثا لعرش الامبراطورية تحت وصايته. وافقته ليفيلا على مخططه و اتفقت مع طبيبها بوديموس على تسميم زوجها بالتدريج حتى لا يبدو موته مدبرا و هو ما كان حيث توفي دروسوس مسموما.
اعتقد سيجان ان الطريق نحو خلافة تيبر صار سالكا، فاستأذن الامبراطور في الزواج من ليفيلا لكن طلبه قوبل بالرفض . لم ييأس سيجان و كرر طلبه عدة مرات و هو ما كان له حيث وافق الامبراطور على طلبه بالزواج من ليفيلا و لكن في نفس الوقت اعلن ان كاليكولا بن جرمانيكوس هو ولي عهده على عرش الامبراطورية الرومانية .
يبدو هنا تيبر متناقضا ، فقد اغتال جرمانيكوس و نفى زوجته اكريبينا Agrippine و ابنه نيرو Nero ومع ذلك يعين كاليكولا خليفة له على عرش الامبراطورية بعد وفاته . لكن يمكن تفسير ذلك بكون تيبر رغم سياسة الاغتيالات التي اتبعها بحق قادة الجيش و كذلك ايقافه للفتوحات العسكرية الا انه كان يدرك انه ما كان يستطيع ان يغضب الجيش الى ما لا نهاية. لذلك قرر جعل ابن جرمانيكوس "حبيب الجيش" خليفة له حتى يقضي بقية حياته في حالة سلام مع هذه المؤسسة القوية.
اغضب هذا القرار مساعده سيجان فبدأ يفكر في الانقلاب عليه ، فتحت إمرته القوات البريتورية و لكنه كان بحاجة الى ولاء القوات الرومانية بجرمانيا، فقد كان من الممكن ان يتحرك منها خمسون الفا الى روما، و يقصوه عن العرش. و لذلك فانه بعث رسله اليها وبقي ينتظر ردها عليه. لكن انتونيا والدة جرمانيكوس كانت على علم بهذه المؤامرة فاعلمت الامبراطور تيبر بما يدبره سيجان. و هنا كلف تيبر القائد ماكرو بتوجيه رسالة الى السناتو يذكر فيها خيانة سيجان، و تآمره عليه و يطلب منهم ادانته و اعدامه .
لم يكن سيجان بفعل اغتياله لكبار السيناتورات يلقى اي عطف من مجلس الشيوخ، لذلك بادر هؤلاء على الفور بادانته فاصدروا حكما باعدامه ، و هو ما كان حيث اعدم هو واسرته و اقرباءه . لكن هذا القرار من طرف اعضاء السناتو كان وبالا عليهم ، لانه باعدام سيجان يكون الغطاء قد زال عن تيار الجيش، حيث انه بعد تسعة اشهر من إعدامه، سيقوم القائد ماكرو باغتيال الامبراطور تيبر خنقا ، ليتولى بعده عرش الامبراطورية ابن جرمانيكوس كاليكولا محبوب الجيش و ممثل التيار الغالي .
و هكذا تكون السلطة بروما قد انتقلت من عهد الاحتواء المزدوج، الى عهد انتصار التيار الغالي، و تسيده داخل الدولة الرومانية. و هو ما سيكون له اثار وخيمة على التيار الهليني و حليفه في موريطانيا الملك بطليموس ، و هو ما سنراه في الفقرتين التاليتين.


2- أب الجيوش :
سبق و ذكرنا ان الجيوش في كل من مقاطعة بانونيا و جرمانيا عبرت عن استيائها من سياسة الامبراطور تيبروس . تذكر المصادر انه قد حدث تمرد للجيش في كلتا المقاطعتين. تمرد الجيش في بانونيا على قادته، اما في مقاطعة جرمانيا فقد اخذ هذا التمرد شكلا اكثر خطورة . اذ عرض الجنود على قائدهم جرمانيكوس ان يعلنوه امبراطورا لهم، مؤكدين بذلك عملا قاموا به الا و هو مناداته بلقب قيصر . ما يعني ان هذا التمرد لم يكن موجها من طرف الجند نحو قائدهم كما الشان في بانونيا، بل كان موجها الى الامبراطور نفسه.
كانت روما في هذه الاثناء على شفا حرب اهلية بين قوات جرمانيكوس و قوات تيبر . لم يشأ قائد جرمانيا ان يركب موجة هذا الغضب الغالي، و فضل ان ينسحب باسرته كدليل على عدم تمرده على الامبراطور ، لكن جنوده توسلوا اليه البقاء معهم، و تمسكوا بشكل خاص بابنه كاليكولا. كانت ازمة خطيرة مرت منها روما، لكن تم نزع فتيلها بأن قاد جرمانيكوس جيشه في معركة جديدة، حيث عبر بهم نهر الراين، و فتح مناطق جديدة في جرمانيا.
نستنتج من هذه الاحداث ان جيش المقاطعات الغالية صار قوة لا يستهان بها، و ان قوته بلغت حد التهديد بالتمرد على الامبراطور نفسه، لدرجة انه تراجع عن قراره بوقف الفتوحات العسكرية، و سمح لهم باستئنافها الى ما وراء نهر الراين. كما نستنتج ايضا الحضور القوي لذكرى قيصر في أذهان الجند الغاليين . لقد كان قيصر هو اول من ادخل العناصر الغالية في الجيش الروماني، و اسس معهم مشروع غزو روما و السيطرة عليها . لم يكتب لهذا المشروع النجاح، لان خصوم قيصر السيناتورات عاجلوه قبل اعلان نفسه دكتاتورا، و قتلوه في مجلس الشيوخ طعنا بالخناجر.
توقف مشروع السيطرة الغالية على روما عند هذا الحد. و رغم اندلاع الحرب الاهلية بين مارك انطوان و اكتافيوس، و انتصار هذا الاخير بسيوف الغاليين، الا انه مع ذلك فضل ان ياخذ موقعا وسطا بين الهلينيين و الغاليين. و كذلك فعل تيبر الذي عمل على احتواء التيارين معا. لذلك ظل التيار الغالي ينتظر بشوق ظهور قيصر جديد ينحاز اليهم بشكل تام. و منه نفهم تعلق جنود جرمانيا بابن جرمانيكوس الملقب بكاليكولا ، فالاسم الاصلي لهذا الاخير هو كايوس قيصر، و يبدو ان والده جرمانيكوس سماه عمدا بهذا الاسم كوعد منه للتيار الغالي بان ابنه هو من سيعيد لهم سياسة قيصر الداعمة لهم . بذلك حاز كايوس حب الجيش منذ صغره فلقبوه بطفل الثكنات و اب الجيوش و القيصر الكبير . لذلك عندما اراد جرمانيكوس الرحيل باسرته بعيدا عن جنوده، تمسك هؤلاء بابنه كاليكولا واوقفوا تمردهم.
لم يكن هذا الوضع ليريح الامبراطور تيبر، لذلك نجده سلط قائده سيجان على جرمانيكوس و اسرته، فتتبعهم بالقتل و الاغتيالات، كما انه وضع تابعا له يدعى جايتيليوس على رأس قوات جرمانيا. و رغم ان تيبر كان يرى في كل افراد اسرة جرمانيكوس خصوما له و خطرا يتهدده، الا ان يده لم تمتد الى كاليكولا، بل استبقاه عنده في جزيرة كابري. ان تيبر يعلم جيدا مكانة كاليكولا لدى الجيش، و انه يستطيع ان يتخلص من كل افراد اسرة جرمانيكوس باستثناء كاليكولا طفل الثكنات .
كان هذا الابن خطا احمرا، و اي مساس به معناه هجوم فيالق غاليا على روما. ولهذا نجد تيبر اعلن في نهاية حياته ان كاليكولا هو ولي عهده، فقد كان يعرف ان معارضته للجيش لا يمكن ان تستمر الى ما لا نهاية .
رفض سيجان هذا القرار، و قرر التحالف مع قائد جرمانيا جايتيليوس للانقلاب على تيبر. لكن هذا الاخير استطاع افشال هذه المؤامرة، و اعدام سيجان و اسرته و المتواطئين معه ، و لكن مع ذلك لم يجرؤ على معاقبة جايتيليوس، رغم ان نائبه القائد ابيديوس روزو فضح رئيسه، و كشف بانه عرض ابنه للزواج من ابنة سيجان.
لقد رد جايتيليوس على تيبر قائلا بانه لم يفعل شيئا سوى انه وثق بسيجان مثلما فعل الامبراطور نفسه و اخرون، ثم اضاف انه سيظل و فيالقه اوفياء مادام هذا الاخير لم يقرر مهاجمته او استدعاءه الى روما .
لم يكن تيبر محسوبا على التيار الغالي الجرماني . لقد سبق له ان اغتال زعماء هذا التيار كالقائد جرمانيكوس و القائد الغالي سيلوس ، لذلك فقد اخذ تهديد جايتيليوس له على محمل الجد، لان هذه الجيوش لم تكن تنتظر الا الفرصة للانتقام لقادتها. لذلك لم ير تيبر بدا من مهادنة قائد جيوش جرمانيا.
قضى تيبر تسعة اشهر بعد اعدام قائد حرسه البريتوري سيجان، ثم توفي بدوره مغتالا على يد القائد ماكرو، فتولى العرش بعده الامبراطور كاليكولا. و بذلك تكون اشياء كثيرة قد تغيرت في بنية السلطة الحاكمة لروما. فمن يجلس الان على عرش روما ليس اغسطس او تيبر، بل كايوس قيصر حبيب الجيش، و المنحاز تماما للتيار الغالي، و الذي سيعيد احياء سيرة يوليوس قيصر من جديد.
قرر كاليكولا على ضوء هذا الواقع الجديد، تطهير الادارة الرومانية من خصوم التيار الغالي. بدا اولا بحاكم بانونيا السناتور كلفيسيوس سابينوس، فاستدعاه لروما هو و زوجته كونيليا متهما هذه الاخيرة بالتسلل الى معسكرات الجيش بلباس الجنود و ممارسة الدعارة هناك مع تريبون شاب يدعى فينيوس. كان من اثر هذه الاتهامات ان اقدم هذان الزوجان على الانتحار . بذلك يكون كاليكولا قد حرر جيش بانونيا من قبضة احد خصومه، لكن مع ذلك ظل جيش جرمانيا العليا الذي لا يزال تحت قيادة جايتيليوس . فكيف تصرف معه ؟
يقول المؤرخ جون كلود فور ان كاليكولا حرص على عدم اثارة مخاوف جايتيليوس، لذلك لم يستدعه الى روما كما فعل مع سابينوس، بل قرر الذهاب اليه في رحلة تبدو و كانها زيارة تفقدية عادية من طرف الامبراطور لمقاطعة جرمانيا العليا . لكن الكاتب يشير في نفس الوقت الى ان كاليكولا جازف مجازفة كبيرة، لانه اصطحب معه في رحلته حرسه الجرماني فقط البالغ عدد افراده 200 رجل على اكثر تقدير، بينما بلغت قوات جايتيليوس 30000 رجل . فكيف واتته الجراة لاقتحام عرين خصمه بحرسه قليل العدد ؟
يجيب جون كلود فور ان كاليكولا لجأ الى الحيلة و المكر للايقاع بخصمه . فهو لم يذهب اليه في سرعة خاطفة، فيبدو كمن يريد القبض على خصمه قبل اعلان تمرده ، بل ذهب اليه في سرعة بطيئة و متثاقلة . و هكذا استطاع ان يلج الى قلب معسكرات جايتيلويس، و يقبض عليه دون ان يتفطن الى خطته.
لا نوافق جون كلود فور على هذا التحليل، لان كاليكولا كان قد كشف عن نواياه منذ الوهلة الاولى ، فهو لم يكتف باقالة حاكم بانونيا و محاكمته، بل قام ايضا باقالة قنصلي روما بحيث ظلت العاصمة دون قناصل لمدة ثلاث ايام. و هو حدث غير مسبوق في تاريخها ، والسبب في ذلك، هو انهما خلدا ذكرى انتصار اكتافيوس في معركة اكتيوم .
ان منع كاليكولا لهذا الاحتفال، لا يعني انه منحاز لتيار مارك انطوان الهليني، بل على العكس من ذلك. فالغاء هذا الاحتفال و منعه معناه الغاء سياسة اغسطس المهادنة للتيار الهليني و عودة سياسة قيصر المتحدية له و المتحالفة مع التيار الغالي و بالتالي فان محاكمة السناتور سابينوس حاكم بانونيا و اقالة قنصلي روما و منع الاحتفال بذكرى معركة اكتيوم كان كافيا ليدرك جايتيليوس نوايا كاليكولا اتجاهه، خصوصا و انه احد بقايا اتباع سيجان الذي كان اعدى اعداء كاليكولا و التيار الغالي.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: اذا كان جايتيليوس يعلم بنوايا كاليكولا تجاهه ، فلماذا لم يلعن تمرده و يقبض عليه حين اتاه بحرسه قليل العدد ؟. الجواب هو ان جيش جرمانيا كان جرمانيا، و بالتالي فان ولاءه كان لكاليكولا لا لجايتيلوس، و لهذا ذهب اليه الامبراطور في سرعة متثاقلة . فكل المناطق التي عبرها كاليكولا في رحلته هاته كانت مناطق غالية جرمانية. فهو كان يتحرك وسط انصاره، و بالتالي فان دخوله الى معسكرات جايتيليوس بجرمانيا العليا بحرسه الجرماني قليل العدد لم يكن يشكل عليه اي خطر. فجنود جرمانيا يعرفونه منذ صغره و هم من سموه بطفل الثكنات ، و جايتيليوس نفسه كان يدرك هذا الامر لذلك نجده قد حاول ان يقاوم خطط كاليكولا، بان تامر عليه مع ليبيدوس زوج اخته و مع الثري الغالي ساكردوس .
لقد كانت خطة جايتيلويس هي ان يتحالف مع ممثل للتيار الهليني ممثلا في ليبيدوس وممثل للتيار الغالي ممثلا في ساكردوس ليهزم كاليكولا و انصار الغاليين، لكن خطته هاته باءت بالفشل و قبض كاليكولا على المتامرين باجمعهم، و ساقهم الى مدينة ليون حيث حاكمهم و صادر اموالهم .
يلاحظ في هذا الصدد بروز مدينة ليون كعاصمة غير معلنة للامبراطورية الرومانية . يمكن القول ان مركز الثقل في الامبراطورية انتقل من روما الى ليون . صارت هذه المدينة الغالية هي المكان الاحب لكاليكولا بحيث حولها الى مزاد علني كبير تباع فيه املاك الرومان المصادرة . و بهذا تكون روما قد دخلت طور التفقير و ليون طور الاغتناء.
لاحظ السيناتورات ان كاليكولا اقام سنة باكملها في ليون، فارسلوا له وفدا يرجوه العودة الى روما . ان بقاء كاليكولا كل هذه المدة في ليون معناه انهيار دور روما كعاصمة للامبراطورية. و هذا ما كان يخشاه السناتورات منذ اليوم الاول في صراعهم مع العامة حينما هدد هؤلاء بترك روما و الاستقرار بتل بانيقولوس . لقد كان تهديدهم هذا من الخطورة لدرجة ان السيناتورات قبلوا بتعيين واحد من العامة ديكتاتورا عليهم، ليفض الخلاف بينهم . و ها هو هذا الخطر الذي تجنبوه في بداية عهد جمهوريتهم، يتكرر مرة اخرى على يد امبراطور روماني متحالف مع الغاليين.
صارت ليون هي عاصمة الامبراطورية غير المعلنة ، ففيها يقضي كاليكولا جل وقته و يحاكم خصومه و يصادر ممتلكاتهم، لدرجة انه استخدم جميع وسائل النقل المتوفرة في روما لنقل ممتلكات الرومان المصادرة و بيعها في ليون . بذلك ارتفعت مكانة هذه المدينة عاليا في عهده . اما روما فعانت من حقده و كراهيته لها، لدرجة انه قام في عدة مرات باغلاق مخازن القمح، و منع تموينها به، مهددا اياها بالتجويع .
لذلك حينما اتاه الوفد السيناتوري يرجوه العودة الى روما، فانه رد عليهم بانه سيعود و لكن مع هذه ، و ضرب قبضة سيفه عدة مرات . ما يعني انه سيعود كما عاد قيصر اول مرة غازيا و قاهرا لروما بقوة الجيش الغالي. كما اضاف انه سيعود لاجل الفرسان و العامة، اما بالنسبة للسناتورات فلن يعود لا كمواطن و لا كأمير.
كان كاليكولا يشعر بانه مطلق القوة في فعل ما يريد ضد خصومه ، فلقد انهارت تماما مكانة الهلينيين ، فكان يشتم السيناتورات علنا في مجلس الشيوخ، و يصفهم بانهم صنائع سيجان . كانوا يضطرون للجري اميالا طويلة وراء عربته، و يظلون واقفين وراء فراشه اثناء تناوله الطعام ، بل و قتل البعض منهم بشكل سري
و لم يكتف بذلك، بل امتدت يده الى مقدسات الهلينيين و اعتدى عليها . يذكر سويطون في هذا الصدد انه جلب جميع تماثيل الهة الاولمب من بلاد الاغريق، و قطع راسها و وضع مكانها نحتا لراسه ، بما في ذلك جوبيتر كبير الهة الاولمب. و لان هذا الاله ذو قدسية كبيرة لدى الهلينيين، فقد جعل من نفسه ندا له، فاطلق عليه اتباعه لقب جوبيتر اللاتيني،و تحداه قائلا: اثبت لي قوتك او اخش قوتي .
لم يعد في روما من يكبح الامبراطور . انه الان متحالف تماما مع التيار الغالي . ومادام الجيش راضيا عنه فانه يستطيع التحرر من جميع القيود و المحاذير، و فعل ما يشاء. ان كاليكولا لم يكن احمقا بمعنى الكلمة كما صورته لنا المصادر، بل كان مدعوما من طرف الجيش ، ما جعله يتصرف دون قيود تجاه خصومه. لذلك و لاجل ان يستمر دعم الجيش له فإنه فتح له خزائن روما، و انفق عليه كل ما ادخره سلفه تيبر من اموال.
يذكر سويطون ان كاليكولا منح لكل جندي هبة قدرها مائة دينار فضي ، و الدينار عملة رومانية تساوي 4 سسترس، و بحسبة بسيطة نجد انه اذا اعتبرنا ان عدد جنود جرمانيا و غاليا بلغ 50000 جندي، فهذا يعني ان كاليكولا انفق عليهم عشرين مليون سسترس في اليوم الواحد. و هذا امر مفهوم في تاريخ الدول، فالحاكم حينما يفقد ثقته في عصبيته او .شعبه، فانه يلجأ الى استخدام المرتزقة مما يرهق ميزانية الدولة و يصيبها بالافلاس . وهذا ما حصل مع كاليكولا، الذي تذكر المصادر انه انفق في ظرف وجيز اكثر من ملياري سسترس ، اي كل المدخرات التي تركها تيبر، فتلك الاموال التي انفقها على الجيش والاحتفالات و العاب السيرك، هي التي ادت به الى الافلاس، ما سيدفعه الى اعتماد سياسة مصادرة اموال الاغنياء و مضاعفة الضرائب، حيث فرض ضرائب على جميع المواد الغذائية و على مختلف الانشطة التي يقوم بها الرومان كالزواج و الدعارة .
عانت روما في عهده الامرين ، من مصادرة للاملاك و الحقوق و انهيار لمكانتها السياسية. تميز عهده بتغلغل قوي للتيار الغالي داخل روما. كان كاليكولا يشعر بانه واحد من الغاليين رغم رومانيته. يذكر سويطون انه كان معجبا بالمظهر الجرماني ، لذلك فرض على الغاليين طوال القامة ان يتركوا شعورهم دون حلاقة، و ان يصبغوها بنفس الوان الجرمانيين بل و ان يتعلموا لغتهم و يحملوا اسماءهم .
و يضيف سويطون ايضا ان كاليكولا نفسه لم يكن يحب الظهور في ملابس رومانية من ثياب و احذية، و انه كان يكره المنظر الانيق. لذلك فقد منع العائلات الرومانية النبيلة من اعلان اي مظهر يميزهم عن الاخرين، كارتداء قلادة او تسريحة شعر معينة . فكل مظهر في روما يجب ان يتماشى مع موجة الترعيع و الانحطاط الغالي الجاثم على روما.
كان كاليكولا يشمئز من روما، لدرجة انه لم يكن يفوت فرصة دون الاساءة لاهلها والحط من قدرها، فاقفل في وجههم مخازن القمح العامة عدة مرات و هددهم بالتجويع . كما حطم التماثيل التي نقلها اغسطس من معبد الكابيتول ، و كان يستمتع بزرع الخلافات بين الفرسان و العامة . و باع في ليون المجوهرات و الاثاث و العبيد المصادرين في روما . و امام هذا الوضع المزري الذي عاشه الهيلينيون في عهده، احتجت عليه جدته انطونيا فرد عليها قائلا : " تذكري بان كل شيء مسموح لي و ضد اي كان" .و هذا امر مفهوم، فهو مدعوم من التيار الغالي بجيشه المسلح، مع انهيار تام للتيار الهليني ، لهذا كان يردد باستمرار : "فليكرهوني ما داموا يخافونني" .
لم يكن كاليكولا يشعر باي قوة تستطيع كبح جماحه. كان يشعر بانه مطلق القوة ، يستطيع فعل اي شيء لخصومه دون رادع ، لدرجة انه كان في كل مرة يقبل عنق زوجته او عشيقته يقول لها : " هذه الرأس الجميلة ستسقط بمجرد ان اريد" . لكن مع ذلك ، ظلت هناك قوة هلينية وحيدة لم تمتد لها يده. انها الملكية الموريطانية في شخص الملك بطليموس. فكيف تصرف هذا الاخير مع هذه القوة العاتية ؟ هذا ما سنراه في الفقرة الموالية.

3- زعيم الهلينيين :
يظل تاريخ بطليموس ملك موريطانيا مبهما و محاطا بالغموض. يسجل الدارس لتاريخه ملاحظتين. تتعلق الاولى بكتابات المؤرخين الرومان عنه، و الثانية بالدراسات المنجزة حوله. نسجل بالنسبة للملاحظة الاولى ان المصادر الرومانية مرت على سيرة هذا الملك الموريطاني مرور الكرام . لقد تحدثت عنه باقتضاب و ايجاز غير مفهوم.
كان هذا الملك ينتمي لنفس عائلة الامبراطور كاليكولا من ناحية الجد انطوان . كان ملكا على بلد شاسع و قريب من روما. قتل بطريقة دراماتيكية ، و مع ذلك فإن كل عناصر الاثارة في سيرته لم تثر فضول اي من المؤرخين لكتابة تاريخه بالتفصيل ، بل مروا عليها مرور الكرام ، فلم يذكروا لنا معلومات عن اسرته (زوجته و ابناءه) و وزراءه و رعاياه وانجازاته . و حينما تناولوا حدث موته فإنهم مروا عليه سريعا، دون رغبة منهم في تقديم تفسير مقنع.
تناول قصة موت الملك بطليموس اربعة مؤرخين . ذكر بلين بان غضب كاليكولا ذهب من جراءه مقاطعتان. و قارن سينيك في حديث مقتضب بين مصير ميثردات الذي تعرض للنفي و بطليموس الذي ذكر انه بدون شك استحق ما حدث له. و ذكر ديون كاسيوس بان كاليكولا قتل بطليموس طمعا في ثراءه. و اما سويطون فذكر بأن كاليكولا استقبل بطليموس بحرارة و لكن في احد الايام عند اشرافه على الالعاب، قتله فجأة فقط لانه دخل الملعب و اثار الجمهور بلمعان معطفه الارجواني.
هل يمكن اعتبار هذا التدوين المقتضب لسيرة الملك بطليموس و مقتله امرا عاديا ؟ هل فعلا يتعامل المؤرخ مع الاحداث الدراماتيكية بهذا الاهمال و الاقتصاد في الكلام ؟ ام ان هذا الاقتضاب في حديث المؤرخين عن هذه الواقعة هو في حد ذاته معطى تاريخي؟ اي ان قوة قاهرة معادية لبطليموس منعت المؤرخين من الاقتراب من قصة حياته، و ارغمتهم على المرور عليها سريعا؟ اي بعبارة اخرى ان المؤرخين رغم شغفهم بالتأريخ للاحداث السياسية الكبرى، فإنهم هنا مارسوا رقابة ذاتية على كتاباتهم خوفا من العقاب؟.
ان هذا هو الراي الذي انتهينا اليه بعد طول تأمل في كتابات المؤرخين الرومان حول الملك بطليموس. ان الاعتقاد بأن الملك بطليموس كان تافها و ضعيف الشخصية و مغرورا، و انه ذهب ضحية تقلبات غضب الامبراطور كاليكولا كما حاول اسطيفان اكزيل اقناعنا بذلك يدخل في خانة البقاء في منطقة الراحة الفكرية، و عدم ارهاق الفكر بالبحث و التساؤل. و لهذا نجد مؤرخين معاصرين تمردوا على هذا التفسير الجاهز لمقتل الملك، و حاولوا تقديم تفسير اكثر اقناعا و واقعية.
حاول المؤرخ هوفمان الوصول الى تفسير اخر غير قصة نوبة غضب كاليكولا، وذلك بان رد سبب مقتل بطليموس الى نزاع اندلع بين الزعيمين على الكهانة الكبرى لديانة ايزيس . يقول هوفمان ان كاليكولا كاهن ديانة ايزيس كان يرى امامه بطليموس الذي ورث عن امه كليوبترا سليني الكهانة الكبرى لايزيس ، لذلك فانه قتله ليحرمه من لقب الكاهن الاكبر ويستحوذ عليه.
لكن المؤرخ كوتولا انتقد هذه الاطروحة، و رد عليها بانها ترتكز على كون كاليكولا و بطليموس من معتنقي ديانة ايزيس، و هذا غير صحيح. فكاليكولا قد أعطى عدة براهين على عدم احترامه للالهة، كما ان بطليموس بدوره رغم ان امه الملكة كليوبترا سليني كانت تهتم بوضع رموز الديانة الايزيسية على عملاتها ، الا ان عملاته لم تحمل اي اشارة لديانة ايزيس، ما جعل كوتولا يخلص الى ان نظرية هوفمان لتفسير مقتل بطليموس ليست مقنعة، و ان مقتل الملك يعود لاسباب اخرى .
تبقى في هذا الصدد دراسات كل من جون كلود فور و حليمة غازي الاكثر تعمقا في هذا المجال، فكلاهما لم يتوقف عند هذه التفاسير المبسطة، و حاول تقديم تحليلات اكثر عمقا فيما يتعلق بموت الملك الموريطاني، و لكن مع ذلك تظلان غير كافيتين للوصول الى لب الموضوع و تقديم تفسير مقنع ، اذ انهما رغم اقتناعهما بوجود اسباب وجيهة تقف وراء مقتل بطليموس ترتكز على نزاع عميق بين الزعيمين ، الا ان ابحاثهما اقتصرت على دراسة هذا الحدث ضمن سياق تاريخي قصير الامد ، بينما راينا نحن منذ بداية هذا البحث ان نضع هذا الحدث ضمن سياق تاريخي ممتد عبر امد طويل يعود الى بداية تشكل الدولة الرومانية.
ان بطليموس لم يقتل بسبب نزوة غضب كاليكولية، و لم يقتل بسبب صراع شخصي احتدم بينه و بين الامبراطور ، بل لاسباب اعمق بكثير. و هو ما سنحاول توضيحه في هذه الفقرة الاخيرة عبر رصد سلوكات كل من بطليموس و كاليكولا، و وضعها ضمن سياقها التاريخي الصحيح، لفهم خلفياتها الحقيقية و ما ادت اليه.
اشرنا في الفقرة السابقة الى ان كاليكولا اعتلى عرش الامبراطورية لا كامبراطور يمثل كل رعايا الدولة الرومانية – مثلما فعل سلفاه اغسطس و تيبر- بل كممثل خاص للتيار الغالي، و كناطق باسم مصالحه فقط . لقد عرف عهده تسيد التيار الغالي داخل روما و انهيار مكانة التيار الهليني. كان الهيلينيون على الاقل في عهدي اغسطس و تيبر يحظون بحصة من النفوذ السياسي و الاجتماعي داخل الامبراطورية . فقد حرص هذان الامبراطورين على عدم الانحياز لاي من التيارين . لكن بمجئ كاليكولا تغير الامر تماما، اذ اصدر قرارا باعتبار يوم تنصيبه تأريخا لتاسيس جديد لروما ، ما يعني ان سياسة جديدة قد بدات مع.عهده ، وهي بالطبع سياسة قيصر القديمة المستقوية بالعنصر الغالي و الكارهة للنبلاء.
عاشت روما في عهد كاليكولا وضعا اشبه بالاحتلال . اذ تدهورت مكانة الهلينيين، وعانوا الامرين بسببه. كان لا بد لهم امام هذا الوضع من التحرك . نجد في هذا الصدد محاولة جايتيليوس حاكم جرمانيا العليا لمقاومة كاليكولا، و ذلك بتامره مع ممثلين للتيار الهليني داخل البيت الحاكم. اذ نجده يتامر مع ليبيدوس و اختي كاليكولا ضد هذا الاخير . لكن كاليكولا استطاع تحييد خطر هؤلاء الاشخاص، و احباط مؤامراتهم، و قادهم الى ليون، و حاكمهم هناك كإشارة منه الى انتصار التيار الغالي على نظيره الهليني.
لكن مع ذلك ظل له خصوم هلينيون اخرون لا يقلون خطرا، و لكن خارج روما هذه المرة. اذ بقي له كل من حاكم مصر فلاكوس، و حاكم افريقيا البروقنصلية بيزو، و ملك موريطانيا، فكيف تعامل معهم ؟
كان كاليكولا يعلم ان بطليموس هو اقوى خصومه الهلينيين ، لذلك نجده لا يهجم عليه مباشرة، بل اختار ان يضيق عليه الخناق شيئا فشيئا. و ليحكم قبضته عليه فإنه اقال اولا حاكم مصر فلاكوس. كان هذا الحاكم احد خصوم والدة كاليكولا اجربينا، و لم يكن يؤيد جعل كاليكولا خليفة لتيبر، كما انه في عهده احتج سكان الاسكندرية على زيارة اجريبا ملك اليهود و صديق كاليكولا لمدينتهم، و هو ما دفع الامبراطور الى اقالته و نفيه و قتله .
انتقل كاليكولا بعد ذلك الى الخطوة الثانية لمحاصرة بطليموس، بان توجهت انظاره الى افريقيا البروقنصلية. كان يحكم هذه المقاطعة السناتور بيزو ابن السناتور بيزو عدو جرمانيكوس والد كاليكولا. كان بيزو يتميز بميزة خاصة، و هي انه السناتور الوحيد في الامبراطورية الذي يوجد تحت امرته فيلق عسكري الذي هو الجيش الاغسطي الثالث ، بالاضافة الى انه كان يتحكم في مخازن القمح الافريقي المخصص لروما.
قام كاليكولا بشطر مقاطعة افريقيا البروقنصلية الى نصفين، بحيث خلق مقاطعة جديدة بين المقاطعة الاولى و مملكة موريطانيا و التي هي مقاطعة نوميديا، كما سحب قيادة الجيش الاغسطي من يد بيزو، و وضعها في يد حاكم نوميديا الذي يتبع لاوامره مباشرة. و بذلك يكون كاليكولا قد وضع حاجزا بين مملكة بطليموس و مقاطعة صديقه السناتور بيزو، كخطة منه لتشديد الخناق على موريطانيا.
لقد كان الامبراطور كاليكولا يشعر انه امام خصم قوي، لذلك لم يتجه له مباشرة كما فعل مع ليبيدوس او جايتيليوس، بل قرر محاصرته بالتدريج، لان اي تسرع من جانبه قد يؤدي الى نتائج عكسية.
ان الملك بطليموس الان هو زعيم العالم الهليني . يحكم مملكة مترامية الاطراف، بجيش قوي و شعب مستعد للدفاع عن حدوده، كما سبق و راينا في ثورة تكفاريناس الموجهة ضد الاستيطان الروماني في نوميديا. ان كل انظار الهلينيين في العالم القديم موجهة اليه، فكيف رد على التحرشات الكاليكولية ؟
ان كاليكولا و هو يلتف على عنق خصمه بطليموس، و يشدد الحصار عليه ، انما يريد ان يرهبه و يدفعه للاستسلام ، و لم لا ترك معسكر الهلينيين و الانضمام اليه، خصوصا و انهما قريبان ينحدران من جد واحد.
كان بطليموس يستطيع ان يغير تحالفاته، و ينقلها من المعسكر الهليني الى المعسكر الغالي، و يتخلى عن سيادة بلده و استقلاله، و يفتح حدوده امام المستوطنين الغاليين، ويتحول الى ملك تابع للامبراطور. و لكنه قرر العكس. لقد ربي هذا الملك تربية هلينية ونصب ملكا على موريطانيا برعاية سيناتورية . كان دوره هو ان يدافع عن الحضارة الهلينية ضد الزحف الغالي . انه زعيم العالم الاغريقي بانتسابه لجده انطوان، و زعيم العالم البطليموسي الفرعوني بانتسابه لجدته كليوبترا، و زعيم العالم الافريقي بانتسابه لجده ماسينيا. لذلك نجده يرد على التحدي الامبراطوري بتحد مماثل . فكيف ذلك ؟
قام بطليموس بعد تاسيس كاليكولا لمقاطعة نوميديا و وضعه جيشه الامبراطوري بها، بسك عملة ذهبية في تحد صارخ للامبراطور. و لفهم دلالات هذا الحدث، يجب ان ندرك انه منذ عهد الامبراطور اغسطس، صار ممنوعا على السناتو او الملوك التابعين سك عملة ذهبية . لقد صار هذا الامر حقا مقصورا على الامبراطور ، لكن يوبا الثاني و ابنه بطليموس كانا قادرين على خرق هذا العرف، و سك عملات ذهبية خاصة بهما.
لقد سك بطليموس عملة ذهبية في سنة 24 لتخليد ذكرى تنصيبه ملكا و انتصاره على تكفاريناس . و لقد راينا في فقرة ثورة تكفاريناس ،ان انتصار بطليموس على هذا الثائر، كان في الواقع انتصارا غير معلن على الامبراطور تيبر، الراغب في تقليص النفوذ السيناتوري بافريقيا البروقنصلية، و التغلغل العسكري في نوميديا. فايقاف بطليموس لثورة تكفاريناس كان بعد ان ادت هذه الثورة دورها في ايقاف تيبر عند حده، بدليل ان من صار حاكما على افريقيا البروقنصلية بعد القضاء على تكفاريناس، هو السناتور بيزو ابن السيناتور بيزو غريم تيبر و جرمانيكوس.
لقد كافئ السناتو بطليموس في تلك الاثناء بان احيوا له عملا قديما، بان اعترفوا به ملكا و حليفا و صديقا لروما. ما يعني في دلالاته ان بطليموس هو خليفة يوبا الاول صديق السناتو و عدو قيصر. لقد حملوا اليه اكليل النصر و الصولجان اعترافا منهم بقدرته العسكرية على ايقاف خصومهم عند حدهم. و حرص هو في المقابل على نقش زخارف النصر هاته من صولجان و اكليل و معطف على عملته الذهبية الثانية .لهذا يمكننا القول انه بعد التغييرات التي قام بها كاليكولا في نوميديا، فإن بطليموس وجه رسالة واضحة المعالم للامبراطور،مفادها انه مستعد لمواجهته عسكريا اذا اقتضى الامر مثلما فعل مع سلفه تيبر .
ان بطليموس على عكس ما حاولت الدراسات الكولونيالية تصويره، في شخص الملك الضعيف غير القادر على ضبط مملكته، كان ملكا قويا ذا شعبية كبيرة وسط رعاياه، بدليل الاحترام الكبير الذي ظل يحظى به لدى الموريين. لقد اوضح المؤرخ الفرنسي جيروم كركوبينو ان كل الاهداءات المقدمة للملك بطليموس، التي تم اكتشافها سواء تلك التي نقشت في عهده او بعد مماته، لم تحمل اية علامة تطريق ، ما يدل على ان ذكراه ظلت دائما محل احترام و تقديس.
ان هذا التبجيل لذكرى بطليموس من طرف الموريين، يعني انه كان على راس دولة بمجتمع متماسك وراءه، و مستعد للدفاع عن سيادته ضد الاطماع الامبراطورية. و بالتالي فأن يسك الملك عملة ذهبية برموز حربية، متجاهلا اية اشارة للامبراطور كاليكولا فيها، معناه انه اعلن حالة الاستنفار ببلده، و انه مستعد للمواجهة العسكرية.
بهذا يكون بطليموس قد صار زعيما للعالم الهليني. انه على عكس هلينيي روما الذين انبطحوا امام قوة كاليكولا، فإنه رد على التحدي بمثله . و لم يكتف بطليموس بذلك بل نجده قد قرر فك الحصار عنه و التواصل مع بقية العالم الهليني و استنهاض قواه فكيف ذلك ؟
لم يعرف عن بطليموس القيام برحلات خارج بلاده. و رغم ان المصادر تحدثت عنه كملك تابع لروما ، الا انه على عكس جميع الملوك التابعين لها، لم يكن يزور الامبراطور في روما . فهو لم يزر تيبر طوال فترة حكمه، رغم ازمة تكفاريناس المندلعة انذاك . كما انه لم يفكر بزيارة كاليكولا عند تنصيبه امبراطورا .
ما يعني انه كان ملكا مستقلا بذاته غيرمجبر على تقديم فروض الطاعة و الولاء للامبراطور الحاكم بروما. لكننا نجده في سنة 39م مباشرة بعد اشتداد الازمة بين كاليكولا والسناتو و سحب الجيش الاغسطي الثالث من يد السناتور بيزو حاكم افريقيا البروقنصلية ووضعه تحت تصرف حاكم نوميديا ، نجده يقوم برحلة الى اثينا و اسيا الصغرى، حيث تم كريمه هناك باعتباره منحدرا من الجد بطليموس الاكبر ، و هو ما يفسر اقامة تمثال له بأثينا، و الذي لم يدرك استيفان اكصيل سبب اقامته.
لقد ذهب الملك بطليموس الى اثينا عاصمة بلاد الاغريق، و مهد الحضارة الهلينية لتجديد روابطه مع العالم الهليني، و التأكيد على ولاءه لقضيتهم. لقد كان بطليموس بحكم انتسابه الى جده ماسينيسا و انطوان و كليوبترا الممثل الاوحد لشعوب البحر الابيض المتوسط . انه املهم المتبقي، و هو القادر على مواجهة الخطر الغالي الذي يتهددهم. لذلك نرى ان زيارته هاته كانت لرص صفوف الهلينيين، من اجل مواجهة صارت مرتقبة مع الامبراطور و جيشه الغالي.
يكون بطليموس بهذا قد ارسل رسالتين لغريمه كاليكولا . انه مستعد للمواجهة العسكرية و لا يخشاها فخلفه جيشه و شعبه و العالم الهليني باسره، و على الامبراطور ان يقرر اذا كان سيستمر في سياسة المواجهة الصريحة مع التيار الهليني ام سيتراجع. فكيف سارت الامور بين الزعيمين؟
اذا كان بطليموس قد زار اثينا و اسيا الصغرى لربط الاتصال مع بقية العالم الهيليني و حشد تاييده ، فاننا نلاحظ في هذا الصدد ان كاليكولا قام بنفس الامر، حيث جال بدوره العالم الغالي، و تمت تحيته هناك سبع مرات من طرف جنوده بلقب الامبراطور، رغم انه لم ينتصر في اية معركة ، فهو بدوره كان يحشد تاييد العالم الغالي لمواجهة قريبة مع غريمه بطليموس زعيم الهلينيين.
انتقل كاليكولا بعد ذلك الى الخطوة الثانية و هي استدعاء الملك بطليموس الى روما. يذكر سويطون في هذا الصدد ان كاليكولا استدعى بطليموس لروما، و استقبله بحرارة . وعند هذا المقطع من رواية سويطون يتوقف الدارسون لفحص شكل مجئ بطليموس لروما . هل جاء برغبته ام لا؟ .
يوضح المؤرخ جون كلود فور ان كلا من سويطون و ديون كاسيوس يتفقان على ان كاليكولا استدعى بطليموس . و ان هذا الاستدعاء لم يكن عبارة عن دعوة ودية بل عبارة عن استدعاء بصيغة الامر . فهناك فرق واضح بين الاستدعاء و الدعوة. فديون كاسيوس يستعمل صيغة ارسل في طلب envoyer chercher اما سويطون فيستعمل صيغة قام باحضاره من faire venir de . اي ان الجملة التي استعملها سويطون تعني ان كاليكولا قام باحضار بطليموس ، اي جلبه من مملكته على حد تعبير المؤرخ جون كلود فور ، حيث يوضح ان فعل arcessere يعني احيانا اتهم accuser و يضيف ايضا ان الدارسين الفيلولوجيين اوضحوا بشكل قاطع ان بطليموس تم استدعاؤه الى روما و ليس دعوته .
ان هذا الاستدعاء و ليس الدعوة يوضح ان هناك مشاكل عميقة بين الزعيمين، و ان بطليموس لم يقتل بسبب نزوة غضب عابرة من طرف الامبراطور . و هو نفس الامر الذي اكده تعليق جون كلود فور على هذا الاستدعاء، حيث قال بانه اذا وضعنا في الاعتبار بان بطليموس لم يغادر موريطانيا طوال فترة حكم تيبر، و انه على عكس غالبية الملوك التابعين لروما الذين كانوا يقضون اغلب اوقاتهم مع الحاشية الامبراطورية، فسوف لن نندهش بان هذا كان استدعاء موجها من كاليكولا لبطليموس حاكم موريطانيا.
حاول جون كلود فور ان يسبر اغوار العلاقة بين الزعيمين، فطرح السؤال التالي : كيف يمكن تفسير امتناع بطليموس عن مغادرة موريطانيا بينما كل شيء كان يدعوه لزيارة روما؟ ثم اضاف تساؤلا اخر و هو: كيف يمكن تفسير اصرار كاليكولا على جلب النوميدي بطليموس لقصره الا بوجود نزاع بين الزعيمين كان الملك الموريطاني لا يرغب في اثارته و كاليكولا الامبراطور يرغب في وضع نهاية له ؟. لقد دعى هذا المؤرخ الى اعادة فحص العلاقات بين بطليموس و كاليكولا على ضوء هذا الاستدعاء و تساءل بقوة لماذا برهن كاليكولا عن رغبة اكيدة في استدعاء بطليموس؟ .
ردنا على اسئلة جون كلود فور هو انها تصب في نفس الطرح الذي قدمناه قبل قليل. فنحن نتفق معه في أن العلاقات لم تكن على ما يرام بين الزعيمين، بل كانت تطبعها الكراهية المتبادلة و الخلافات الدفينة، الا اننا نختلف معه في كون بطليموس كان لا يرغب في اثارة النزاع مع كاليكولا، فالعكس هو الصحيح . فبطليموس كان مستعدا لكل الاحتمالات بدليل عدم زيارته لروما و زيارته لاثينا و اسيا الصغرى معقل الهلينيين. ان كل المؤشرات كانت تدل على ان المواجهة قادمة لا محالة بين الرجلين و ان بطليموس لا يتجنبها.
حاول جون كلود فور ان يضع تفسيرا لسلوك كاليكولا تجاه موريطانيا فوضح بان سياسته يجب ان توضع في سياقها التاريخي، و ايضا في اطار السياسة الامبراطورية والدولية الرامية الى القطع مع السياسات التيبرية الحذرة و الانتظارية و ذلك لمتابعة فتوحاته العسكرية في بريطانيا و جرمانيا.
نرد عليه باننا نتفق معه في مسألة وضع الحدث في سياقه التاريخي، و لكننا نختلف معه في المدى الزمني لهذا السياق. ان جون كلود فور يريد دراسة سياسة كاليكولا تجاه موريطانيا ضمن سياق تاريخي قصير الاجل، ممتد من فترة تيبر الى عهد كاليكولا . و هذا مدى زمني قصير جدا لا يسمح برصد التغيرات البنيوية العميقة، التي عرفها العالم الروماني و اثرها على الاحداث التاريخية، التي مر منها منذ تشكله، سواء على المستوى الاجتماعي او الاقتصادي او الذهني او المؤسساتي، و التي في النهاية ذهب ضحيتها الملك بطليموس.
ان مقتل هذا الملك هو نتيجة صراع طويل بين التيار الهليني المؤسس للحضارة الرومانية و التيار الغالي الراغب في السيطرة عليها ، و ليس نتيجة نزاع شخصي بين الزعيمين، و هو ما سنوضحه فيما تبقى من هذه الفقرة.
يقول سويطون بان كاليكولا استدعى بطليموس ، و استقبله بحرارة و لكن في احد الايام حينما كان يشرف على الالعاب بمدينة ليون، قتله فجأة لانه دخل عليه في الملعب واثار انتباه الجمهور بارتداءه معطف الارجوان.
ان هذا النص يستحق منا دراسة متمعنة. نسجل بداية ان عبارة استدعى بطليموس تتناقض تماما مع عبارة استقبله بحرارة. ان جون كلود فور نفسه يذكر بان هناك مشاكل عميقة بين الرجلين فكيف سيستقبل كاليكولا الملك بطليموس بحرارة ؟ ! و كيف يعقل ان يقوم كاليكولا باستدعاء بطليموس و ليس دعوته، مع ما تعنيه هذه الكلمة (استدعاء) من رغبة في الاتهام و التوبيخ و العقاب ، و مع ذلك يستقبله بحرارة ؟ كيف يمكن اذن حل هذا التناقض؟
الجواب هو ان سيرة بطليموس تعرضت للتعتيم من طرف السلطة الحاكمة بروما. لقد ارادت هذه السلطة ان تجعل من قصة حياة هذا الملك امرا منسيا ، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، و هؤلاء لا يضفون صفات البطولة على خصومهم. و هذا ما يفسر لنا ندرة الشهادات حول مقتل بطليموس، و اقتصارها على اربعة و هم: سينيك و بلين و ديون كاسيوس وسويطون. و كل هذه الشهادات جاءت سريعة و مقتضبة لانها بطبيعة الحال مارست رقابة ذاتية خوفا من السلطة الحاكمة.
لكن لحسن حظنا نجد بين هذه الشهادات شهادة المؤرخ سويطون الذي يوصف بانه معادي للقيصر Anti-cesarien و لهذا فإن شهادته هي الاكثر افصاحا و لو بشكل سريع . فهو من ذكر لنا قصة الاستقبال الحار لبطيموس من طرف كاليكولا في روما. لكن اذا وضعنا في الاعتبار العداء المستحكم بين الزعيمين، فسنفهم ان حدث الاستقبال الحار هو حدث حقيقي لكنه صدر عن جهة اخرى غير الامبراطور، الا ان دواعي الرقابة الذاتية جعلت المؤرخ سويطون ينسبه لكاليكولا ضدا على كل منطق، تاركا لفهم القارئ تخمين و ادراك الجهة الحقيقية التي كانت وراء هذا الاستقبال الحار. فمن هي هذه الجهة اذن ؟
انها ببساطة السناتو و هلينيو روما . فكما استقبل انصار جرمانيكوس قائدهم بحرارة عندما استدعاه تيبر الى روما، فإن نفس الامر تكرر حينما استدعى كاليكولا الملك بطليموس، باعتباره غريمه الهليني الذي يتحداه في الضفة الجنوبية للبحر الابيض المتوسط. فما كان من السناتو و هيلينيي روما الا ان حولوا مناسبة قدوم زعيمهم بطليموس الى يوم عيد. و ما يؤكد هذا الامر هو حدث آخر قام به كاليكولا لا ينتبه له المؤرخون و هو كالتالي:
اذا كان كاليكولا قد استدعى بطليموس و لم يدعوه و الفرق واضح بين الكلمتين، ليوبخه او حتى يعاقبه، فلماذا حينما قدم عليه بطليموس تركه و ذهب الى ليون ؟ كيف يعقل ان يغضب كاليكولا من بطليموس و يحاصره بحيشه في نوميديا و يستدعيه ليوبخه او يعاقبه ثم يخصص له استقبالا حارا، ثم فجأة يذهب الى ليون؟ اين هو غضب الامبراطور كاليكولا من بطليموس اذن؟ اين تبخر ؟
ان هذه الرواية تحمل في طياتها الكثير من المتناقضات ، فحدث استدعاء الملك و حدث استقباله بحفاوة ثم حدث تركه بروما و الذهاب الى ليون ، لا رابط منطقي يجمع بينها. لان كاليكولا بناء على غضبه من بطليموس سيستدعيه و يعاقبه لا ان يستقبله بحرارة ثم يتركه بروما و يذهب الى ليون. اذن كيف يمكن تقديم تفسير معقول لتسلسل هذه الاحداث؟ كيف يمكن وصلها بشكل منطقي ؟
الجواب هو ان بطليموس قدم الى روما دون ان يخشى كاليكولا، لانه ترك بموريطانيا جيشا قويا يستطيع حرمان الامبراطور من قمح افريقيا، و حينما وصل الى روما راى فيه التيار الهليني المضطهد بها زعيمه المخلص فاستقبله استقبال الابطال، و هنا شعر كاليكولا بضعف مركزه و اهتزاز نفوذه، فقرر الانسحاب من روما من امام غريمه الهليني، و الذهاب الى قلعته الحصينة ليون عاصمة غاليا. و لانه فشل في ارهاب بطليموس في روما ، فانه قرر استدعاءه الى ليون حيث سيكون هذه المرة محاطا فقط بانصاره الغاليين، عله ينهار امامهم، فيخضع له و يفك ارتباطه بالهلينيين و يتركهم لمصيرهم.
قبل ان نسترسل في سرد احداث قصة مجئ الملك بطليموس الى ليون دعونا نطرح السؤال التالي : ماذا كان يرتدي الملك الموري عندما استقبله كاليكولا بروما ؟ ماذا نتوقع من ملك بسلوكه المعروف ان يرتدي عند قدومه على الامبراطور بروما؟ نعلم جيدا ان بطليموس كان ذا طبع فخور و محب للفخامة و الابهة الملكية، و بالتالي فمادام قد ارتدى معطف الارجوان في الملعب ذي 50000 متفرج غالي بمدينة ليون ، فانه قد فعل نفس الشيء بروما.
و نحن نعلم ان كاليكولا كان يكره المظهر الانيق و منع النبلاء من ارتداء اي ملابس تشير نبالتهم، و بالتالي فان قدوم بطليموس على الامبراطور كاليكولا برداءه الملكي الارجواني في روما رفع اسهمه عاليا لدى الهلينيين بها، فنظروا اليه كبطلهم المخلص، فخصصوا له استقبالا حماسيا الهب مشاعرهم و احيى امالهم باستعادة نفوذهم القديم.
نجد في المقابل ، ان كاليكولا شعر بان خطته في ارهاب بطليموس لم تنجح، بل انقلبت عليه . فقرر هنا الانسحاب من امام غريمه، و اللجوء الى قلعته الحصينة بليون ثم استدعاءه مرة اخرى.
قرر بطليموس من جهته مواصلة التحدي ، فسافر الى ليون. وصل الى الملعب. كان به كاليكولا و 50000 من المتفرجين الغال . كلهم يراقبون الجو المشحون بين الزعيمين و كأن على رؤوسهم الطير. هل سيدخل بطليموس برداء بسيط ام برداءه الملكي الارجواني؟. الكل ينتظر لحظة الصفر، لحظة قدوم الملك. هل سيخضع الملك الموري زعيم الهلينيين ام سيستخف بالامبراطور؟.
يدخل الملك بطليموس كعادته مرتديا معطفه الارجواني. تتوجه اليه الانظار كافة . ملك فرد في مواجهة جمهور. يشعر كاليكولا بدونيته. يفهم ان خطته لارهاب خصمه قد فشلت. ينتقل الزعيمان الى مرحلة اخرى من الشطرنج السياسي. مرحلة كسر عظم.
ارسل كاليكولا الملك بطليموس الى المنفى. رد عليه ايدمون باعلان الثورة و هاجم جيوش الامبراطور بافريقيا مباشرة بعد القبض على ملكه و ليس بعد مقتله، و هو الامر الذي يؤكده جون كلود فور.
اذا كان بطليموس لم ينج من منفاه، فانه في المقابل كسر الحاجز النفسي لدى الهلينيين بعد ان كانوا قد انبطحوا تماما لكاليكولا ، و هكذا نجد الهليني شييرا بعد بضعة اشهر قليلة يقدم على عملية استشهادية لاغتيال كاليكولا، و ينجح فيها. لكن هل بمقتل هذا الامبراطور توقف تدهور مكانة التيار الهليني داخل روما ؟. هل بمقتل كاليكولا استعاد الهلينيون زمام الامور بروما؟.
الجواب هو ان مقتل كاليكولا كان مجرد تفصيل صغير في مسلسل التغير البنيوي العميق و البطئ داخل ارجاء العالم القديم، مفاده تغلغل العنصر الغالي في شرايين الدولة الرومانية و زحفه عليها، و سير حضارتها نحو الافول. و تلك قصة اخرى !.

خاتمة :
يتضح من خلال هذا العرض، ان تاريخ موريطانيا قد تعرض لعملية تعتيم مقصود من طرف المؤرخين الرومان. فرغم ضخامة الدور السياسي الذي لعبته هذه المملكة، و قدرتها الكبيرة على التأثير في مجريات السياسة الرومانية، و المساهمة الوازنة في تاريخ روما، الا ان المؤرخين الرومان حرصوا على تدوين الاحداث السياسية لهذا البلد بتقتير شديد. و لم يكتفوا بذلك، بل قاموا بعملية خلط متعمد لاحداث هذا التاريخ، و اشاعة تمثلات خاطئة عنه.
نسجل ان هذه المصادر ادعت ان بوكود ملك موريطانيا الغربية كان حليف قيصر ضد يوبا الاول، بينما هذا الامر غير صحيح، و لا يصمد امام الفحص. كما وجدنا انها صمتت عن الجهة التي صارت موريطانيا تابعة لها عند تقسيم المقاطعات بين اغسطس و مجلس الشيوخ، رغم انه بفحص بسيط يتضح ان موريطانيا كانت من املاك السناتو. كما ادعت هذه المصادر ايضا ان اغسطس ربى يوبا الثاني ابن يوبا الاول عدو ابيه قيصر، و ان اخته اوكتافيا ربت كليوبترا سليني ابنة عدوتها كليوبترا ضدا على كل منطق. بل وقام اغسطس بتنصيب يوبا الثاني ملكا على موريطانيا لانه رأى ان يكون لطيفا معه على امل ان يعترف بجميله ، و كأن السياسة تسير بهكذا اسلوب.
لكن و رغم كل افضال اغسطس فإن يوبا الثاني ظل وفيا لذكرى والده يوبا الاول ومفتخرا به . كما ان كليوبترا سليني لم تحفظ جميل روما و سمت ابنها على اسم جدها بطليموس في تحد صارخ لاكتافيوس. اما عن اهتمام يوبا الثاني بالثقافة الهلينية الاغريقية وتخصيصه الاموال الطائلة لها، فكان مجرد ولع شخصي منه، و ليس سياسة دولة لمقاومة الايديولوجيا اللاتينية.
ثم يأتي حدث تنصيب الملك بطليموس، فتصوره لنا المصادر بأنه مجرد ملك مدلل عديم الشخصية مستسلم لعتقاءه، و غير قادر على اداء دوره المنوط به كملك . ثم نكتشف فجأة انه هو من انهى ثورة تكفاريناس التي ارهقت الجيش الروماني طيلة سبع سنوات. ويستمر الخلط التاريخي لهذه المصادر، فتدعي ان المستوطنات الرومانية بموريطانيا قد تأسست منذ عهد اغسطس، رغم انه لم يدونها في لائحته الرسمية . اما عن عاصمة موريطانيا فإن كل الاضواء مسلطة على قيصرية رغم ان مساحتها اصغر بكثير من اي مدينة بموريطانيا االغربية.
لقد وجدنا و نحن نسير الهوينى بين سطور المصادر الرومانية، ان هذه الاخيرة عن طريق منهجها القائم على التعتيم و فصل الاحداث عن سياقها و تقديم تفسيرات مغلوطة لها ، اننا امام تاريخ يروم قلب الحقائق التاريخية، و كتابتها وفق منظوره الايديولوجي . فصارت روما جبهة موحدة ضد شمال افريقيا، بينما في الواقع كانت منقسمة بين السناتو والديموقراطيين. كما صورت ملوك موريطانيا بالتابعين لروما، بينما هم في الحقيقة كانوا متحدين مع شعوبهم و السناتو ضد النفوذ الامبراطوري الغالي.
ثم تأتي الدراسات الكولونيالية في النهاية لتدعي ان شعوب موريطانيا انما كانت تقاوم مسلسل الرومنة لانها كانت شعوبا بربرية همجية، بينما العكس هو الصحيح . فموريطانيا كانت بلدا هلينيا سابقا على الحضارة الرومانية ، بل و كانت بتحالفها مع مجلس الشيوخ تدافع عن هذه الحضارة ضد الزحف الغالي البربري.
يبقى في النهاية ان نذكر بأن تاريخ موريطانيا هو تاريخ مسكوت عنه ، تاريخ فريق منهزم تمت كتابته من طرف خصمه المنتصر ، و بالتالي فمن الطبيعي ان يمر سريعا على احداثه الفاصلة و يخلطها و يعتم عليها، بل و حتى يزورها. لكن المثير في هذا التاريخ هو انه كلما نقبنا في ثناياه الا و وجدنا انفسنا نخوض في ثنايا التاريخ الروماني برمته والتأثيرات المتبادلة بين الطرفين. ما يؤكد لنا ان موريطانيا لم تكن ذلك البلد المعزول و الهامشي في حوض البحر الابيض المتوسط بل كانت ركنا اساسيا تمر عبره مجمل السياقات التاريخية للعالم الروماني القديم. و لهذا وجب على الباحث ان يتحلى بالصبر و الاناة ليعيد ترتيب وتركيب هذا التاريخ في بناء منطقي مترابط.




بيبليوغرافيا عربية :
المراجع :
1- اكزيل، اصطيفان، تاريخ شمال افريقيا القديم، الجزء: الثامن، ترجمة : محمد التازي سعود، الرباط،2007.
2- اكزيل، اصطيفان، تاريخ شمال افريقيا القديم، الجزء: السابع، ترجمة : محمد التازي سعود، الرباط،2007.
3- ايوب، ابراهيم، التاريخ الروماني، الطبعة الاولى، الشركة العالمية للكتاب، لبنان، 1996.
4- البشير شنيتي، محمد ، اضواء على تاريخ الجزائر القديم ، دار الحكمة ، الجزائر، 2003.
5- كركوبينو، جيروم، المغرب العتيق، ترجمة : محمد التازي سعود، مطبوعات اكاديمية المملكة المغربية سلسلة تاريخ المغرب، الرباط، 2008.
6- ماسون، ارنست، الامبراطور الرهيب تيبر ، تعريب : جمال السيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1985.
المقالات :
1- محمد عواد حسين، الثورة الرومانية المرحلة الاولى، مجلة كلية الاداب و التربية، جامعة الكويت، العدد الثالث عشر، عام : 1978.
2- محمد عواد حسين، الثورة الرومانية المرحلة الثانية، مجلة كلية الاداب و التربية، جامعة الكويت، العدد الخامس عشر، عام : 1979.
3- محمد عواد حسين، الثورة الرومانية المرحلة الثالثة، مجلة عالم الفكر، عدد اكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، عام 1981.

بيبليوغرافيا فرنسية :
المصادر:
1- Dion Cassius. Histoire romaine, tome :VII, traduit par E.Gros, librerie de Firmin,Paris,1865.
2- Suétone,Les douze Césares, traduction de M. Baudement, Dubochet , Le chevalier, Rue Richelieu, 60, 1845.
المراجع :
1- Coltelloni-Trannoy, Michèle. Le royaume de Maurétanie sous Juba II et Ptolémée (25 av. J-C. – 40 ap. J-C). Paris : Editions du Centre National de la Recherche Scientifique, 1997.
2- Franz de champagny, les Césars, Librairie de l. Maison, 1853.
المقالات :
1. A. Duméril, Tibère et le sénat romain sous son principat, Annales de la faculté des lettres de bordeaux, 1888.
2. Faur, Jean claude : La fin de Ptolémée, Klio, ISSN (Online) 2192-7669 .
3. Faur, jean paul , La première conspiration contre Caligula. In : Revue belge de philologie et d’histoire, tome 51 , fasce. 1, 1973.
4. Ghazi ben Maissa, Halima , Encore et toujours sur la mort de Ptolémée, Le roi amazigh de Maurétanie, Hespéris-Tamuda, Vol, XXXIII, (1995), pp. 21-37.
فيلم وثائقي :
1- Les Germains 4/2 La bataille de Varus, Youtube .



#يوسف_رزين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحماية القنصلية بالمغرب
- غزال الكعبة الذهبي
- يوسف و السجن قراءة في كتاب - يوسف و البئر- لفاضل الربيعي
- الاساطير المؤسسة للتاريخ الفاطمي
- تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء عبر العصور
- الاسلام في الأسر
- من بنى مراكش ؟ مقاربة مجالية لتاريخ المغرب
- علم العمران الخلدوني
- عبد الله العروي مضللا
- قراءة في كتاب : شدو الربابة بأحول مجتمع الصحابة ،خليل عبد ال ...
- كفاح بن بركة
- النظام الدولي : النشأة و التطور
- الحركة الوهابية النشأة و التطور و المآل
- الجزائر الفرنسية ..حكاية تطور مجهض
- عبادة الماء في المغارب القديمة
- سوسيولوجيا الأعيان
- حيرة شيخ - قراءة في مقال لعبد السلام ياسين -
- أحداث 23 مارس 1965
- الكتابة على الجسد..بحث في الدلالات
- وداعا نابليون


المزيد.....




- ولاية أمريكية تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة
- الملك السعودي يغادر المستشفى
- بعد فتح تحقيق ضد زوجته.. رئيس وزراء إسبانيا يفكر في تقديم اس ...
- بعد هدف يامين جمال الملغى في مرمى الريال.. برشلونة يلجأ إلى ...
- النظر إلى وجهك أثناء مكالمات الفيديو يؤدي إلى الإرهاق العقلي ...
- غالانت: قتلنا نصف قادة حزب الله والنصف الآخر مختبئ
- بايدن يوقع قانون مساعدات كبيرة لأوكرانيا والمساعدات تبدأ بال ...
- موقع أمريكي ينشر تقريرا عن اجتماع لكبار المسؤولين الإسرائيلي ...
- واشنطن.. التربح على حساب أمن العالم
- السفارة الروسية لدى سويسرا: موسكو لن تفاوض برن بشأن أصول روس ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - مقتل الملك بطليموس و نهاية الحكم الملكي بموريطانيا السياق و التمثلات