أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمانة القروي - قصة قصيرة - القرار..















المزيد.....

قصة قصيرة - القرار..


جمانة القروي

الحوار المتمدن-العدد: 1467 - 2006 / 2 / 20 - 09:36
المحور: الادب والفن
    


جلس على فراشه كعادته.. ثانيا إحدى رجليه واضعا عليها يده بشكل مستقيم وبين أصابعه سيجارة قلما ينطفئ وهجها ، كانت رجله الأخرى قد استقرت تحته ، متكأ على حائط تلك القاعة الفسيحة،والمكتظة بالناس متعددي الأجناس مختلفي الأمزجة... الذين أرغم على العيش معهم فيها ولم يستطع التأقلم مع ظروف تلك الحياة التي زج بها بأي حال من الأحوال، كان بينهم وليس معهم ..صراخ الأطفال لا ينقطع، ضحكات البعض، وشجار البعض الأخر، ضجيج النرد والكلام بلغات مختلفة بصوت عالي يصم أذنيه. دوي لا يتوقف أبدا، كثيرا ما يخرجه من أحلام اليقظة التي يحيا بها .. كان لا يلبث أن يحدث نفسه ، ويسترجع سنوات حياته الماضية، فيلوح له وجه حبيبته، وبريق عينيها فيتوغل في غابتيهما،و يحس بدفء جسدها وهي تلف ذراعيها حول رقبته، فيمد يديه يداعب خصلات شعرها تمري اللون ويمرر أصابعه على رقبتها وشفتيها ، محاولا رسم انحناء تهما، فتثيره رائحتها .. وما أن يلتفت للناحية الأخرى حتى تقف أمام عينيه صورة أمه، ووجهها الحزين ودموعها وهي تودعه عند عتبة باب بيتهم قبل سنوات طويلة ..عندما اضطر لترك مقاعد دراسته الجامعية واللجوء إلى كردستان...كان يبتعد عن كل الإحباطات والهموم المحيطة به باللجوء إليهما .. حبيبته وأمه...فحب الأولى يغنيه عن الوحدة والوحشة التي يشعر بها وحنان الثانية يعينه على التفكير والتروي.. إلا أنه لا يلبث أن يتساءل دون انقطاع كيف مرت عليه عشرة أعوام من النضال بين الجبال والوديان، حاملا بندقيته على كتفه، واضعا حياته على راحة يده، وها هي شهور أخرى تنقضي الآن بين جمهرة من الناس اضطروا مثله على ترك ديارهم وقراهم والسير لمسافات بعيدة وأيام عديدة لكي ينجوا بحياتهم وحياة أطفالهم، هربا من الأسلحة الكيماوية..ليصلوا في نهاية المطاف، معسكرا نائيا وبعيدا على تخوم حدود تركيا ...
سال نفسه كثيرا لماذا أنا هنا ؟وإلى متى سأبقى ؟؟ ..لا .. لا.. لا يمكنك أن تعيش هكذا دون هدف دون أمل .. يتردد صدى صوت من أعماقه ..!!
أحيانا يترك زاويته المفضلة مبتعداً إلى زوايا أخرى في قاعات مجاورة للحديث مع معارفه عن همومهم المشتركة، أو ربما للسير بين قاعات يحيطها سد منيع من الأسلاك الشائكة يحرسه جنود غلاظ القلوب يراقبون من أبراجهم العالية الناس الذين يعيشون داخل المعسكر تحت رحمتهم، مستعدون لإطلاق النار على من يحاول مخالفة قوانينهم دون أن يرف لهم جفن..
ها هو الصيف بدا يستعد للرحيل، بلياليه المقمرة الدافئة.. وأخذ البرد الجبلي يزحف إلى أوصاله رويدا رويدا.. حجبت السماء بالغيوم الخريفية المتناثرة هنا وهناك، منذرة بهطول الأمطار .. فاجتاحت روحه غمامة من اليأس والكآبة والقنوط.. لا .. لا يمكنني الاستسلام هكذا!! كيف اترك نفسي لتعبث بها الأقدار !!! قريبا ستهطل الثلوج،ويصبح من المتعذر عليَ ترك هذا المكان، إلا بحلول الصـــيف مرة أخرى..لا .. لن أستطيع ذلك، أذن يجب أن افعل شيئاً ما، إي شئ !! حدث نفسه.. وفجأة ، مثل برق لمعت في ذهنه الفكرة وأتخذ القرار.. الهروب !! نعم ..الهروب .. ولا بديل عنه..سيطر عليه هذا الهاجس واستعد لتنفيذه وأعداد العدة له...
خلال الأشهر التي قضاها هنا تعرف على أحد الفلاحين الذين كانوا يترددون على المعسكر باستمرار لبيع محاصيلهم الزراعية ولحوم أغنامهم .. وبمرور الوقت كسب وده، حيث كان يقوم بالترجمة بينه وبين زبائنه، ويساعده في تصريف بضاعته، وما لبث أن تحول الود إلى صداقة ثم ثقة فطلب من الفلاح، بالمبلغ الموجود لديه شراء بعض الملابس الجديدة، مع حقيبة يدوية .. لم يتوانَ الفلاح في تأدية هذه المهمة بكل سرية، وتسليم ما جلبه بعيدا عن أعين الحراس والرقباء ..كم كان هذا الفلاح طيب القلب ودودا، ويستحق الثقة والاحترام ، حقا ما تزال الدنيا فيها قلوب لم تشبها بعد شوائب الحقد والضغينة!! آه كم اشعر بالاطمئنان، حتى مشكلة الملابس انتهت بخير..حدث نفسه مرة أخرى ..
لم تكن فكرة الهرب من المعسكر بالشيء الهين ، فمجرد التفكير فيها تجعل أوصاله ترتعش ويحس بدقات قلبه كأنها طبول تقرع،وتجتاحه قشعريرة حمى، فيرتجف.. لكن ورغم كل المصاعب والعقبات التي تقف أمامه إلا أن الفكرة استأثرت بالجزء الأكبر من تفكيره ولم تبارحه، فسخر كل ذكائه من اجل تحقيق هدفه، الذي بات لا يفارقه أبدا .. قضى معظم وقته في التخطيط ومراقبة الأجواء المحيطة به .. ومع كل يوم يمر عليه تزداد قناعته بأنه لا سبيل إلى الحرية والخلاص من هذا المكان إلا بالهرب من بين تلك الأسوار ...
أحيانا كان يتردد في تنفيذ ما عزم عليه .. فتطل عليه عيون حبيبته ببريقها الأخاذ،ونظرتها التي مازالت تسلب لبه، فيسمع صوت ضحكتها الرنانة،ويشعر بيديها وهي تشد على يديه و تقول له.. لا تجبن ..؟؟ لا.. لست حبيبي إذا خانتك شجاعتك ..!!
كان ندائها يشد من أزره ويجعله يحكم الخطة .. لابد له من اجتياز هذه المحنة...كثف جهوده في البحث عن الطريق الأسلم والأسرع للهرب.. لم يكن يثق بأحد فتكتم على قراره، وحبسه في ثنايا روحه خوفا من الوشاية !!
حينما ينشر الليل عباءة الظلام، وفي أوقات مختلفة منه لم يكن ليغمض له جفن أو يستسلم للنوم ،فيترك فراشه و يسير بين ممرات المعسكر، يراقب بعيون الذئب المتربص بالطريدة جنود الحراسة، لم يتوانَ عن ذلك ، ولم يصبه اليأس فحفظ عن ظهر قلب مواعيد تغيير أماكنهم وكيفية تسليم الواجب لبعضهم البعض ،ومتى يبددون العتمة بالأنوار الكاشفة .. لقد ألم بكل صغيرة وكبيرة عن تحركهم .. غير مرة تفقد السياج المحيط بالمعسكر ومن مختلف الأماكن، فوجده مكهربا... إلا مسافة لا تتجاوز المترين وهي البوابة الرئيسية،المُراقبة من البرج، بالإضافة إلى جنديين يتناوبان السير أمامها، يتبدلان كل ساعتين .. لا مفر، المنفذ الوحيد هو اجتياز البوابة الرئيسية، ومنها سيكون الطريق أما إلى الحياة .. أو الموت ..
توالت عليه الأيام ثقيلة، تلاشى فيها الأمل،فرزح تحت الضغط النفسي ، وزهد في كل شئ، فهانت ورخصت حياته عليه..لكن المطر المدرار الذي لم يتوقف ليلاً ولا نهاراً، ولثلاث ليالِ متتالية كان بمثابة مفتاح الفرج وطوق النجاة بالنسبة إليه، ليالي حالكة السواد، عاصفة الرياح ..لا يمكن التأجيل اكثر. أذن فقد أزفت اللحظة المناسبة.. الليلة يجب التنفيذ وإلا لن يستطيع مطلقا .. حدث نفسه ..!!! كان يؤمن دائما بان الفرصة السانحة للسعادة تأتى للإنسان مرة واحدة في الحياة أما أن يستغلها وأما أن تضيع منه وإلى الأبد ..

في سكون الليل وتحت جنح الظلام ،لف لوازمه الضرورية جدا وملابسه الجديدة في كيس واتجه نحو البوابة الرئيسية، غير بعيد عنها، كمن هناك ، يراقب حركة الحراس الذين كانوا يقبعون في برج المراقبة، خوفا من أن يبللهم المطر وينخر عظامهم البرد.. زحف بكل تروي وهدوء إلى هدفه ..بعد أن تأكد من خلو المكان تماما، اقترب .. شيئا فشيئا،.. وفجأة انبلجت ظلمة المكان بالأنوار الكاشفة، وغمرته حزمة الضوء في مخبئه،فجمد الدم في عروقه وحبس أنفاسه،وكتم صرخة كادت تخرج من أعماق روحـه ،حاول بلع ريقــه،فأحس بجفاف في فمـــه ومرارة غريبـــــة ...لكن سرعان ما عاد الظلام يجتاح المكان.. تنفس الصعداء، ثم اخذ نفسا عميقا وحاول بشتى الطرق إسكات دوي دقات قلبه الذي كاد أن يخرج من بين ضلوعه.. راودته فكرة العودة إلى فراشه الدافئ ، ولينتظر كما ينتظر الآخرون مصيرهم ... لا.. لا .. لا تتردد يا حبيبي ما فاز باللذات إلا من كان جسورا .. !! لم يعد أمامك إلا بضع خطوات، وتصبح حرا طليقا..!! حثه صوت حبيبته، القادم من أعماق روحه يقوي من عزيمته.. أمســك بكيس ملابســـه بيد، لتكون بمنأى عن البلل ..وزحف بيد واحدة وبلا أدنى تردد و بسرعة وخفة كما القط..مخترقا أسلاك البوابة.. كان يتناهى إلى أسماعه بقايا أحاديث الحراس...لم يلتفت، وتوغل في عمق الظلام نحو المجهول .. زحف.. وزحف .. ولم يتوقف إلا عندما شعر انه قد قطع مسافة بعيدة، واصبح في مأمن..عندها نهض عن الأرض ورغم ثقل ملابسه المملوءة بالأوحال والماء والطين.. أطلق ساقيه للريح....



#جمانة_القروي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مبدعون عراقيون في المنافي ( 5 ) [ الدكتور رشيد الخيون ]
- الفنانة ناهدة الرماح - حب الناس هو النور لعيونها .. وبذاك تل ...
- السمفونية الأخيرة
- مبدعون عراقيون في المنافي الدكتور صلاح نيازي
- مبدعون عراقيون في المنافي ...الحلقة 2
- مبدعون عراقيون في المنافي
- زينب .. رائدة المسرح العراقي
- سنبقى نذكرك يا أرضا رويت بدمائنا وحبنا
- من زوايا الذاكرة ...القميص


المزيد.....




- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمانة القروي - قصة قصيرة - القرار..