أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - من هم المرتدون الذين سيحاكمون لينين؟ كريم مروة واصحابه نموذجا!!















المزيد.....



من هم المرتدون الذين سيحاكمون لينين؟ كريم مروة واصحابه نموذجا!!


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1460 - 2006 / 2 / 13 - 10:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كان من "الطبيعي" ان يشهر جميع اعداء الاشتراكية سكاكينهم، للطعن بالفكر الاشتراكي العلمي الذي تمثله الماركسية ـ اللينينية. وأخطر هؤلاء هم المرتدون، من داخل الحركة الشيوعية بالذات، الذين ترعرعوا في كنف الستالينية والبيروقراطية السوفياتية، المعادية جذريا للينينية، والذين يجهدون اليوم في محاولة إلقاء مسؤولية الانهيار لا على الانحرافات الستالينية والبيروقراطية، بل على النظرية الاشتراكية ذاتها.
ومن هؤلاء كريم مروة، الذي يلبس اليوم مسوح "المفكر"، ويدعو الى "محاكمة لينين" (راجع "الحوار المتمدن" ـ 25/10/2005 ـ مقالة كريم مروة "يجب ان نحاكم لينين").
ولو اقتصر امر هذه "المراجعة" للاشتراكية العلمية، على الحوار النظري، التاريخي والعلمي، ربما كان ذلك "طبيعيا" فعلا، إذ ان من حق اي كان ان ينتسب الى الاشتراكية العلمية او ان ينتقدها او ان يرتد عنها. ولكن "المرتدين" يجعلون "المراجعة" توطئة، او خطوة اساسية لتبرير الانضواء تحت جناح "الدمقراطية" الاميركية، واستبدال ذيليتهم السابقة للبيروقراطية السوفياتية بذيلية جديدة لـ"الدمقراطية" الاميركية، بما في ذلك الاحتلال الاميركي للعراق المظلوم. وإنه ليتوجب على جميع الشيوعيين الحقيقيين، خاصة، والوطنيين الصادقين، عامة، الرد على هذه "المراجعة" للاشتراكية العلمية، ليس دفاعا عن الاشتراكية العلمية بذاتها وحسب، بل ايضا وبالاساس دفاعا عن المصالح الوطنية والقومية العليا ضد الهجمة الاميركية الشرسة، للسيطرة على الوطن العربي، وهي هجمة متعددة الاشكال، احدها الاستفادة من "مراجعة" المرتدين للاشتراكية العلمية.
وقد رأيت من الواجب ان اطلع القارئ على "معرفتي" ببعض هؤلاء المرتدين، وهم كريم مروة واصحابه، من خلال نص سبق وكتبته في 2002، بصيغة رسالة موجهة الى الصديق الكاتب والباحث صقر ابو فخر. فبعد طول انقطاع فيما بيننا بسبب غربتي عن لبنان، استطعت في تلك السنة اعادة الاتصال عبر البريد الالكتروني بصقر ابو فخر. وقد ابلغني حينها انه اصدر كتابا بعنوان "كريم مروة يتذكر"، هو حصيلة محاورة "تاريخية" طويلة بينه وبين الاستاذ كريم. وقد رأيت انه من الضروري ان ارسل له رسالة "اعرفه" فيها بمن هو كريم مروة واصحابه. وظلت تلك الرسالة خارج النشر. ولكن بعد ان نشر كريم مروة مقالته "يجب ان نحاكم لينين" احلني من الاعتبارات الشخصية، ووجدتني ملزما بنشر رسالتي الى صقر ابو فخر، مع الاستسماح المسبق منه. وفيما يلي الجسم الاساسي من الرسالة:
صوفيا 15/6/2002
لا بد لي من ملاحظة اساسية: ينبغي العمل بسعة صدر وبروحية اخوية وبصبر ايوب، لايجاد لغة وطنية وقومية واجتماعية وانسانية مشتركة مع الاسلاميين المناضلين والشرفاء. فالظاهرة الاسلامية كانت دوما ذات شقين او جناحين: سلطوي تسلطي، وشعبي مناضل. والسلـّم طبعا موجود بينهما. ولكن هذا لا يمنع وجود الجناحين، وضرورة التمييز بينهما. والحركة النضالية الشعبية عندنا كانت تنقسم تاريخيا الى ثلاثة تيارات: الاجتماعي ـ الاصلاحي ـ الاشتراكي ـ الشيوعي الخ. والقومي. والديني. وقد نجحت الامبريالية واسرائيل والرجعية وفساد السلطة واخطاء السوفيات الخ. في زرع الشقاق بين هذه التيارات الحليفة موضوعيا، والمتنوعة ايديولوجيا وذاتيا، الى درجة المذابح والحروب "الاخوية". وانه لسؤال تاريخي ينبغي الاجابة عليه: كيف أمكن للبلاشفة في عهد الثورة الروسية ان يجدوا "لغة مشتركة" مع القبائل الاسلامية الفقيرة والامية في روسيا القيصرية، التي هبت وقاتلت معهم ضد خاناتها انفسهم كما ضد القيصرية والبرجوازية والتدخل الاجنبي؟ في حين لا يستطيع الدمقراطيون والشيوعيون الروس الان وقف الحرب "الغبية" في الشيشان، التي لا يستفيد منها الا الاميركان واذنابهم وعملاؤهم؟ وكيف امكن للينينيين حينذاك ان يجدوا لغة مشتركة مع امير، او ملك لا اذكر، افغانستان، ومع الشيخ محمود البرزانجي الكردي، ومع شكيب ارسلان الخ الخ؟ في حين لا يستطيع اليوم الحزب الشيوعي الفيدرالي الروسي بقيادة الرفيق العزيز زيوغانوف ان يحمي عبدالله اوجلان، ويتعاون معه، حينما التجأ اليه هذا القائد لحركة كردية شعبية واسعة واصيلة، بعد ان خذلته الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة!؟
اهنئك على حواراتك مع العظم وادونيس ومروة. ذلك انه من الضروري جدا اجراء مراجعات فكرية واعادة قراءة للمرحلة المهمة السابقة من تاريخ امتنا (الممتدة بين تاريخين: منذ انهيار الامبراطورية العثمانية، وحتى انهيار الامبراطورية السوفياتية). وأسمح لنفسي بأن اسميها مرحلة ملحمية ـ مأساوية. العظم وادونيس هما من المثقفين الكبار "الضفافيين"، الذين أعطوا الكثير، الا انهم ساروا حياتهم "بمحاذاة"، او "على حافة" النهر. وشهادتهم، لهذا، تتصف بموضوعية اكثر، لكونهم مراقبين غير ملتزمين ـ متحيزين. ولكنها تتصف ايضا بهامشية، برجعاجية، اكثر، لكونهم من الذين "يعدون العصي" ولا"يأكلونها". والادب السياسي، وكل ادب في الحساب الاخير هو سياسي، هو بالنسبة لهم "رياضة روحية" و"جمالية وكمالية فكرية"، اكثر منه مشاركة فعلية وضرورة حياتية. اما مروة فهو من المثقفين الملتزمين الذين خاضوا في مجرى النهر وأغواره واوحاله، وكان لهم تضحياتهم وفضلهم وقسطهم وسقطاتهم في كل ما انجز. وهو واحد من المثقفين الشيوعيين الذين دفعوا، من شخصيتهم الانسانية وكرامتهم الادبية وبالتالي من موهبتهم، ضريبة كبرى للستالينية والذيلية السوفياتية. وهم لذلك يتحملون مسؤولية تاريخية ليس فقط عن اخطائهم الخاصة، واخطاء احزابهم، والفرص التاريخية المفوتة لشعوبنا، بل ولهم "حصتهم" الكبيرة في انهيار التجربة السوفياتية ذاتها. ذلك ان الحتمية التاريخية هي حتمية اختيار حر وليست ابدا حتمية ميكانيكية عمياء. ومثل هؤلاء المثقفين الشيوعيين، بذيليتهم السابقة للقيادة السوفياتية، عن قناعة او غير قناعة، او عن قناعة بضرورة "التظاهر بالقناعة"، كانوا، وعلى غرار المتمسحين بأعتاب الدكتاتوريات "الثورية" في بلادنا، يشجعونها على الانحراف اكثر، حتى كان الانهيار "البيريسترويكي". ولا بأس ان اتوقف قليلا عند كريم مروة، التجربة الشيوعية، اكثر منه الشخص بحد ذاته.
ان هذه العائلة (الاستاذ الكبير، شهيد العقل العربي حسين مروة، واولاده، وكريم واخوته، وعدد آخر من اقربائهم) هي عائلة شيوعية مناضلة حقيقية، اكن لها الاحترام والتقدير. وأنا شخصيا تعرفت على شقيق لكريم (ويدعى احمد او محمد، وكان يعمل خياطا على ما اذكر) في ايام دكتاتورية الشيشكلي في سوريا، حيث كنا معا من ضمن شبكة لتهريب المطبوعات الحزبية الى سوريا، كان يشرف عليها احد مؤسسي الحزب القائد التاريخي المرحوم ارتين مادويان. ثم تعرفت على كريم لفترة وجيزة جدا بعد صدور جريدة "النداء" (الشيوعية) في 1959، حيث كنا من المحررين الجدد او الشباب. ولكن هذه العلاقة لم تدم سوى بضعة شهور، حيث انني ارسلت في ايلول 1959 الى بلغاريا (مع الصديق الذي لا انساه الشهيد المرحوم خليل نعوس) للدراسة في مدرسة الحزب العليا. وبعد عودتي الى لبنان في صيف 1962، وحتى "طردي" من الحزب الشيوعي في 13 اذار 1964، لم التق مع كريم، الا بشكل عابر ربما. وهو ايضا كان قد ارسل الى المعسكر الاشتراكي، قبلي او بعدي لا اذكر.
ولكن، خلافا للخط السائد في الحزب، والقائم على التبعية للسوفيات، وهو ما حرص على التقيد به الرفيق كريم، فإن فترة دراستي في بلغاريا، ليس في المدرسة الحزبية بحد ذاتها، بل في صميم "التجربة الاشتراكية" التي عايشتها مباشرة، وناقشتها مع الاساتذة والزملاء والكثير من الناس العاديين، في المعامل والمزارع والمعاهد وحتى الخمارات، ـ هذه الفترة "الدراسية" علمتني، بل الاصح رسخت لدي "استقلاليتي" وان لا اكون ذيليا، وان مسألة الاشتراكية ليست ابدا مسألة "فيض نور رباني" من القيادة الى الحزب الى الطبقة الى الشعب، وأصلا من القيادة السوفياتية الى الحركة الشيوعية العالمية، بل هي مسألة صراع ذاتي للحزب (واستلحاقا: الدولة "الاشتراكية") قبل ان تكون مسألة صراع موضوعي مع الاعداء وانصاف الاعداء. فالاشتراكية (او بالاصح الشيوعية) هي التنظيم الذاتي الاجتماعي البديل للدولة. وعملية ـ ومرحلة ـ "بناء الاشتراكية" تعني الصراع الذاتي والموضوعي للاشتراكيين، لتفويت الدولة بأدواتها ذاتها توصلا الى المجتمع المنظم ذاتيا، اي مجتمع اللادولة. اما ما كان قد جرى فعلا فهو العكس تماما. اي انه بعد الاستيلاء على السلطة، جرى الانقلاب الستاليني وجرى ادراج "التعبد" و"الاستعباد" للسلطة. وتحول الحزب "القائد" و"الطليعي"، موضوعيا، الى أداة مسخـَّرة للدولة. فكانت النتيجة المنطقية القضاء على الحزب فعليا عبر تفريغه من محتواه الاجتماعي الاشتراكي، حيث اصبح حزب السلطة لا حزب الطبقة والشعب. وهذا لا ينتقص، موضوعيا، من قيمة الانجازات التاريخية التي حققتها الدولة "الاشتراكية". كما لا ينتقص، ذاتيا، من صدق واخلاص الجمهور الاوسع من الشيوعيين، الذين اصبحوا، من حيث يريدون او لا يريدون، ضحية ظاهرة انفصام شخصية تاريخية. وفي بلغاريا "تابعت" خلافاتي مع القيادة. وهي خلافات بدأت منذ 1953 او 54 وتجددت في 1956، ثم في 1958 (حول القضية الفلسطينية، والتدخل العسكري السوفياتي في المجر، والوحدة العربية). ومما قلته لهم، بعد معركة خليج الخنازير في كوبا واعلان كاسترو التحول الى الاشتراكية: لقد فوتهم فرصة قيادة ثورة التحرر الوطني في الجزائر، بالتخلي عن خط الكفاح المسلح. وها انتم تفوتون "الاشتراكية" ذاتها التي كنتم تعتبرون انها وقف على الحزب الشيوعي. حيث ان كاسترو لم يكن في الحزب الشيوعي الكوبي الرسمي الذي كان بزعامة بلاس روكا، وكان يعارض ثورة كاسترو، حتى قبل ستة اشهر من انتصارها. وحينما عدت الى لبنان في 62 بدأت اتحدث بقناعاتي بدون اي "حسابات مصلحية" مع القيادة. واكتشفت وجود تيار معارضة يشمل عددا كبيرا من المثقفين والكوادر الحزبية. وبدأت حركة مناقشة واسعة في الحزب كله. وقد "عولجت" هذه الحركة بعمليات الطرد والفصل والتجميد التقليدية، التي شملت فيمن شملت: الشهيدين حسن فخر وشقيقه حسيب، د.ميشال سليمان، اوهانس اغباشيان، نسيب نمر وشقيقه حسيب، احمد الحسيني، سهيل يموت، ماري ثابت، جاد ثابت، نخلة مطران، كامل المر، كسبار دردريان، ادمون عون، مصطفى مراد، عبدو مرتضى الحسيني، امين الاعور، وغيرهم كثير من كوادر الصف الثاني. (وعلى ذكر الطرد: في احد الاجتماعات، واثناء المناقشة قلت اننا لا نريد فرض رأينا، بل نطالب بحقنا بحرية النقد. فكان جواب الرفيق العزيز جورج حاوي: انتم لكم حق النقد، ونحن لنا حق الطرد). وكنت انا اول المطرودين، وكان الاخير نخلة مطران في خريف 1965. وفي الفترة ذاتها كان هناك تحرك تجديدي في الحزب الشيوعي العراقي والسوري. وكان من ابرز المتعاطفين مع التحرك الكادر الفلسطيني الماركسي المرحوم حمزة الرحيل، والفريق عفيف البزري، رئيس الاركان السوري السابق. (وكمثال على اهمية "المعارضة" حينذاك، كانت الصحافة الحزبية كلها تقريبا بيدها: جريدة "النداء" كانت باسم نسيب نمر ونخلة مطران. جريدة "الاخبار" كانت باسم نسيب نمر وسهيل يموت. مجلة "الطريق" كانت باسم ماري تابت وميشال سليمان. جريدة "الثقافة الوطنية" كانت باسم حسن فخر. جريدة "الى الامام" كانت باسم نسيب نمر. فقط الجريدة الاخيرة كانت ملكية خاصة لنسيب نمر، فاستردها. اما الصحف الاخرى فكانت ملكية حزبية. ولو كانت "المعارضة" معادية للحزب فعلا، لاوقعته في ورطة كبيرة ولما ردت له الصحف، ولما "نزل" اسم الرفيق كريم على جريدة "النداء").
لا ادري اذا كان الرفيق العزيز كريم مروة "يتذكر" تلك المرحلة. او انها ستبقى ضمن "المساحة البيضاء" في الذاكرة التاريخية للحزب، على الطريقة الستالينية المعهودة، مما هو ليس في مصلحة مستقبل الحركة الشيوعية اللبنانية والعربية كلها، لان ذلك بمثابة برهان على ان الستالينية لا تزال تفعل فعلها فيها.
ان الرفيق كريم مروة قد تصرف حينذاك كنفر مخلص من "الشرطة الفكرية" الجدانوفية للحزب. وجاء ليحل اسمه على جريدة "النداء"، بدلا من نسيب نمر ونخله مطران. ان التفسير الوحيد لذلك هو المزيج من الوصولية والقناعة الجزويتية والطاعة العمياء، الصفات الاصيلة للستالينية.
ومن التهم التي لفقوها ضدنا حينذاك اننا "صينيون". وأن بعضنا عملاء للانكليز (تحديدا وجهت هذه التهمة الى حسن فخر، لأن اصله درزي، والدروز تحت الحماية الانكليزية كما تعلم!!). وأننا نريد شق الحزب ونعمل لتشكيل لجنة مركزية جديدة. وجاؤوا بـ"شاهد" على التهمة الاخيرة هو الرفيق خالد ش.، الذي شهد ضدنا بذلك وبأننا طلبنا منه ان يكون عضوا في هذه اللجنة المركزية المختلقة. ولكن لسوء حظهم ان الاستاذ خالد ش. نفسه عاد الى ضميره الشيوعي واتخذ موقفا منهم وفضحهم، وقال انهم اقنعوه بأن هناك مؤامرة على الحزب، وشهادته الكاذبة تخدم مصلحة الحزب. كما وصل الامر الى حد التهديد بالقتل. من ذلك قول المحامي "جدا!" كميل م. ان الحزب لديه الرفاق الارمن الذين قتلوا مائة طاشناقيا وهم سيؤدبوننا. وانا شخصيا (عدا الحملات السياسية) حاولوا الضغط على عائلة خطيبتي (زوجتي لاحقا) وهي عائلة شيوعية، لعدم الزواج مني. وبعد ان طردت، وذهبت للعمل كعامل مطبعة لدى المرحوم فؤاد ناصرالدين (وهو من الوجوه الحزبية والنقابية التاريخية)، تدخلوا لديه لفصلي، ولكن الرجل رفض ذلك لانه "يعرفني" تماما، ولانني كنت في السابق ممن "سلفه" موقفا معينا دافعت فيه عنه من موقف ظالم سبق واتخذه منه الحزب في نقابة عمال المطابع التي كان رئيسها. كما اتهموني بأنني عندما كنت مدير ادارة جريدة "النداء" سرقت صندوق الجريدة. وقد ابلغني بذلك مشككا في التهمة الرفيق عيسى ش.، الذي يعرفني تماما من انا وماذا اكون منذ 1952. وبالرغم من انني كنت مطرودا ومهددا، ذهبت حينذاك الى ادارة الجريدة وقلت لمدير الادارة المناضل المرحوم حنا صعيب، الذي سبق واستلم مني الصندوق: اذا كانوا يريدون تشويه سمعتي بهذه الطريقة، فهذا عيب يرتد عليهم. واذا كان هناك سرقة او تلاعب في الجريدة، فأنت عليك ان تكشف الحقيقة. وإلا تفقد احترامك عندي كمناضل قديم ضحى بحياته في الحزب. وبالرغم من التزام الرجل بالديسبلين، الا انه حسم هذا الامر. وهو، ايضا، من الذين حضرت جنازتهم بدون دعوة، لانني اضع الاعتبارات الرئيسية فوق الاختلاف.
ان الرفاق "الشباب" حينذاك، جورج حاوي وكريم مروة الخ، وقفوا موقفا انتهازيا من عملية سحق واخراس "المعارضة" بمثل هذه الاساليب الستالينية التقليدية الرخيصة. وأنا متأكد انهم فعلوا ذلك عن غير قناعة ذاتية، تحت الحجة الواهية والبالية من كثرة الاستعمال، حجة "وحدة الحزب" التي، على كل حال، لم يكن احد يهددها غير الاساليب الستالينية والقيادة الخشبية السوفياتية والسائرين في اذيالها. اما السبب الرئيسي الفعلي فهو الرضوخ لمنطق الذيلية للقيادة السوفياتية. وأعطي مثالا على "عدم قناعتهم" انه بعد "طردي" من الحزب، كنت على موعد مع رفيق نقابي يدعى يوسف ح.، وكنت مزمعا ان اناقش معه الموضوعات الخلافية. ويبدو ان الرفيق يوسف كان قد ابلغ القيادة، فجاءني بدلا منه الرفيق جورج حاوي. وسرنا في الشوارع مدة ساعتين تقريبا نتناقش. وكان كل همه اقناعي بأن "اسكت"، فأعود الى الحزب وكأن شيئا لم يكن. وطبعا اننا لم نتفق.
الآن والرفيق كريم على مشارف السبعين، اطال "الله" عمره، كيف يقيّم مسلكه حينذاك؟ انهم يصمتون صمت القبور عن تلك الحقبة، ويطمسونها ويحاولون محوها من ذاكرتهم ما استطاعوا. وهذا يدل على نوع من "اللاجدية"، ومن ثم الهامشية التاريخية التي حشروا انفسهم وحشروا الحزب فيها.
ولكن بالرغم من كل الاجواء الموتورة، فقد بقيت احترم الكوادر القيادية واعتبرهم مناضلين كرسوا حياتهم لقضية الاشتراكية (بدون التغاضي عن امتيازاتهم لدى القيادة السوفياتية، مقابل "تلزيمهم" الحزب الشيوعي، وتقيدهم بشروط هذا "التلزيم"). وبالرغم من طردي، ورمي الاوساخ الستالينية المعهودة علي، فقد ذهبت للسير في جنازة المرحومين نقولا الشاوي وحسن قريطم وارتين مادويان، لانني اعتبرهم الى هذه الساعة جزءا لا يتجزأ ليس فقط من تاريخ الحزب الشيوعي، بل ومن تاريخ النضال الوطني العربي عموما واللبناني والسوري خصوصا. وهم عاشوا وماتوا وهم يعتقدون انهم يفعلون الصواب. تماما كما كان ستالين يعتقد انه يفعل الصواب، حينما كان يشرف على بناء السكك الحديدية والمصانع والمزارع التعاونية والمعاهد بيد، وباليد الاخرى يرسل ملايين الشيوعيين الى خشبة الاعدام او معسكرات الاشغال الشاقة والموت، ويرسل الوحوش البشرية لاغتصاب زوجات قادة الحزب الشيوعي البولوني الذين رفضوا الخضوع لسياسته المهادنة لهتلر، امام ازواجهن. ويرسل "ابو بلطة" ليفج رأس تروتسكي الخ.
وفي تلك الحقبة كانت قد طرحت موضوعات خروشوف حول "التعايش السلمي"، وطريق التطور "اللاراسمالي"، و"الطريق السلمي للاشتراكية"، التي كانت تخفي وراءها الردة الرأسمالية، التي توجت منطقيا فيما بعد بالبريسترويكا المشؤومة. وتركبت قناعاتي حينذاك، وبالتدريج، على المعادلة التالية: ان الستالينية هي انحراف دكتاتوري في الحركة الشيوعية، ينبغي النضال ضده واصلاحه. اما الخروشوفية فهي ردة رأسمالية معادية للاشتراكية، ينبغي النضال للتخلص منها. اي: النضال لاصلاح الدكتاتورية الحزبية والدولوية. والنضال لاسقاط الردة الرأسمالية والخيانة الطبقية. وهذا هو الذي جعلني لا اساوم، و"اطأطئ الرأس" قليلا و"اسكت" كي أبقى "داخل الحزب"، لانني رأيت ان الردة الخروشوفية اخذت تسيطر اكثر، بدءا من سيطرتها السوفياتية، وأن "السكوت" سيكون مشاركة خرساء في الجريمة.
ومن اهم القضايا المحورية التي طرحتها "المعارضة" الحزبية حينذاك: مسألة الكفاح المسلح. مسألة الذيلية للقيادة السوفياتية. مسألة الدمقراطية الداخلية في الحزب.
ولا بأس ان اروي لك بعض "النوادر"، في سياق هذه المسائل:
1ـ من ضمن "المناقشة" المفتوحة قسرا من قبل "المعارضة"، كنت اتساءل "كيف يمكن الحديث عن التطور اللارأسمالي، والكمبيالة دخلت كل بيت في لبنان؟". واذكر انه في احدى المناقشات مع احد الرفاق كنت اتحدث عن ضرورة انتهاج خط الكفاح المسلح دون التخلي عن النضال السلمي والبرلماني الخ، خصوصا واننا دولة محاذية للعدو الاسرائيلي. فكان رأيه، تبعا للخط القيادي "السوفياتي" حينذاك، حول التعايش السلمي والانتقال السلمي الى الاشتراكية، انه لو لزم الامر 66 سنة (عدد اعضاء المجلس النيابي حينذاك) للحصول على اكثرية نيابية، فسنفعل. فقلت لـه بالحرف تقريبا: "وما رأيك ـ اذا حصلنا على الـ 66 مقعدا كلها ـ بعد سنة او 66 سنة، ان تأتي 66 دبابة اسرائيلية، لتحل هذا المجلس "الهدام" (بتعابير ذلك الزمن) او لتهدمه على من فيه؟". ان هذا الحديث، وأمثاله، كان بالضبط في صيف وخريف وشتاء 63ـ1964، اي قبل اكثر من سنة من انطلاقة "فتح" في 1 كانون الثاني 1965. فتصور فداحة الفرصة التاريخية التي فوتها الحزب الشيوعي (ليس اللبناني فقط) في الامساك بقضية الكفاح المسلح ضد اسرائيل قبل، او جنب، ولكن ليس بعد وخلف القوى الوطنية الاخرى. ولكن حتى بعد كارثة 5 حزيران 1967 ظل الرفاق ينادون بـ"ازالة اثار العدوان" و"الحل السلمي" للصراع، ويلقبون الملك الراحل حسين "سيهانوك العرب". اما البطل الاممي تشي غيفارا فقد سموه "الثائر المغامر الجوال" (راجع جريدتي "النداء" و"الاخبار" لتلك الفترة). نفس الخطأ التاريخي للحزب الشيوعي الجزائري الذي ظل حتى 1956، اي بعد سنتين من انطلاقة الثورة الجزائرية يسميها اعمالا ارهابية (حتى الرفيق المناضل والمثقف منير شفيق، الفلسطيني المقدسي احد كوادر الحزب الشيوعي الاردني، الذي قضى السنوات في السجن وخرج منه بعد 5 حزيران 1967، وفي لقاء معه في مجلة "دراسات عربية" التي كان يرأس تحريرها صهره المناضل والمفكر البارز ناجي علوش، سمعته يقول عن "الفدائيين" انهم "مرتزقة يقبضون وينزلون". ذلك كان تقييم "الرفاق" للحركة الفدائية. ولكن فيما بعد التحق الرفيق منير وشقيقه الشهيد البطل جورج عسل بفتح، ولكن بعد ان تخلى عن حزبيته الشيوعية، للاسف. ومنير الان هو مفكر "اسلامي" قومي. وانا لا انتقص ابدا من "تحولاته". بل انني اكن احتراما عميقا جدا لهذه العائلة العربية المناضلة النموذجية، الشيوعية الاصل. ولا انسى ابدا الشهيد "ابو خالد" (جورج عسل) والسرية الطلابية، والمرحومة "ام ابرهيم" في المواقع الامامية اثناء حصار بيروت، والفتى ابرهيم علوش وهو على المتاريس الامامية في مقابر رأس النبع. وتاريخ "الشيوعي" منير شفيق و"تحولاته" هي صورة نموذجية عن دراما الحركة الشيوعية العربية). هذه المواقف هي ما عزل الشيوعيين، واضعف دورهم اللاحق، كأحزاب، في الثورة. وقد فات "وقت تاريخي" لا يعوض، منذ 1963 حتى 1969، حينما ذهب الرفاق جورج حاوي ونديم عبدالصمد، وربما كريم مروة كان معهم ايضا، ليطلبوا السلاح من ابو عمار، فأعطاهم حوالي عشرين بندقية، كانت هي بداية مشاركة الحزب الشيوعي اللبناني في الكفاح المسلح، في ظل قيادة الامر الواقع لفتح. وذلك بدلا من ان يكونوا هم من يعطي السلاح لابو عمار. فتصور يا طويل العمر: الاولون اخيرون، والاخيرون اولون!! ذلك هو تاريخنا الذي يسير ورأسه الى اسفل، وساقاه مرفوعتان الى اعلى، بـ"علامة تشرشل" طبعا.
هل ان هؤلاء الرفاق هم جبناء؟ كلا!
هل هم "سلميون" سذج بقناعتهم الذاتية الخاصة؟ كلا!
فلو كانوا هذا او ذاك لما شاركوا، وإن متأخرين، في الكفاح المسلح وقدموا التضحيات الجسيمة والشهداء الابرار، مما لا يجوز ولا يمكن لأي طرف التآمر على طمسه. ولكنهم ـ وليسامحوني على التعبير ـ "قصّـر"، "معاقون" فكريا ووطنيا و"شيوعيا"، ولكن عن "قناعة" (مع شيء من المصلحة) بأنهم كانوا هم "الفاهمين"، و"المصيبين"، في ذيليتهم للقيادة السوفياتية، وفي الحساب الاخير للمخابرات السوفياتية التي كان يعود لها التقرير في السياسة الخارجية السوفياتية، والتي كانت العلاقات مع الحركة الشيوعية العالمية ترتبط بها اولا.(واقول ذلك وانا ليست لدي اي عقدة من المخابرات السوفياتية، التي كانت تضم، الى جانب الموظفين الانتهازيين، صفوة من الشيوعيين والمثقفين الكبار والمستعربين الخ. فالمصيبة ليست في ضرورة الجهاز، وفي الاشخاص، بل في آلية تقرير مصائر الشعوب بالاساليب التسلطية، في الحلقات الضيقة، والغرف المغلقة، بعيدا عن رأي الحزب ذاته والشعوب ذاتها. لا تفكروا! نحن نفكر عنكم! وما عليكم الا الطاعة والتنفيذ، والا فأنتم اعداء، او تخدمون الاعداء!).
الرفاق في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، ومنهم الرفيق كريم مروة، كانوا ينفذون باخلاص الخطة السوفياتية. وبدون اي انتقاص من القيمة التاريخية المادية والمعنوية للمساعدات السوفياتية، فينبغي الاعتراف بأن القيادة السوفياتية كانت تراهن على الدول والجيوش العربية المتحالفة معها. ولم تكن تؤيد شعارات الكفاح الشعبي المسلح وتحرير فلسطين الخ. وحينما فرض الكفاح الشعبي المسلح نفسه، كانت القيادة السوفياتية تريد لـه، في الحد الاقصى، ان يكون "رديفا" لستراتيجية المراهنة على الانظمة "الوطنية" و"التقدمية" وجيوشها النظامية، من ضمن لعبة "التوازن الدولي" لا اكثر. ولم تكن القيادة السوفياتية بأية حال من الاحوال تؤيد ان يكون الشيوعيون على رأس هذا الكفاح، او حتى ان يكون لهم دور رئيسي مقرر فيه، لانها، من جهة، لا تريد التصادم مع اميركا والغرب في هذه المنطقة الحساسة من العالم، لأن الشيوعيين "محسوبين عليها" (تماما كما كان الحال في الموقف المتذبذب من الوحدة السورية ـ المصرية، ولنفس الاسباب)، ولانها، من جهة ثانية، لها حساباتها "الشيوعية السوفياتية" الضيقة، التي كانت تجعلها تخشى تماما ان "تتكرر" تجربة يوغوسلافيا والبانيا والصين وفيتنام وكوبا (مع كل الفوارق بينها)، اي ان تقوم ثورات تحرر وطني بقيادة الشيوعيين، وتقوم بالتالي انظمة "شيوعية" مستقلة تتعامل مع السوفيات معاملة ندية لا ذيلية. اي ان القيادة السوفياتية كانت تفضل قيام انظمة "وطنية" و"تقدمية" برجوازية، على قيام انظمة وطنية "شيوعية". وتفضل عدم قيام اي نظام شيوعي "مستقل" (ولنتذكر هنا حمامات الدم التي دبرتها المخابرات السوفياتية في افغانستان بعد قلب الملكية، وفي اليمن الجنوبية، من اجل التخلص من الشيوعيين والدمقراطيين "الاستقلاليين" والاتيان بالذيليين. مما كان لـه الدور الرئيسي في انهيار التجربة الدمقراطية الشعبية في افغانستان واليمن الجنوبية معا، وهو الانهيار الذي دفع السوفيات انفسهم ثمنا غاليا لـه، انتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه، "بفضل" القيادة السوفياتية وسياستها الاستتباعية). وفي ظروف المواجهة مع اسرائيل، و"الازمة المفتوحة" في لبنان الخ، فهذا يعني ان القيادة السوفياتية كانت تفضل التعامل مع قيادات برجوازية للمقاومة الشعبية المسلحة، وان يكون الشيوعيون عنصرا مساعدا فيها، لا اكثر.
2ـ في ليلة 13 اذار 1964، دعيت الى لقاء حزبي خاص لبحث وضعي "جذريا". حضر الاجتماع صاحب البيت الرفيق جورج ن. (شيوعي قديم من الاشرفية في بيروت) والمرحوم الرفيق جورج ابي نادر (صهر المطران خليل ابي نادر) وكان وجها بارزا ومحترما في الحزب. والقائدان التاريخيان نقولا الشاوي وحسن قريطم. وكانا هما طبعا قطبي النقاش معي. ودام الاجتماع حوالي سبع ساعات، قرر القائدان في نهايته طردي من الحزب عمليا (التبليغ الشكلي بالطرد تم بعد عدة اشهر)، بعد ان رفضت المساومة على ان "اسكت"، مقابل وعد ببداية الاصلاح. فكان جوابي: اذا كنتم تريدون فعلا الاصلاح، فهذا يعني ان يتكلم الجميع، وانتم في المقدمة، لا ان اسكت انا. واذا سكت انا، فما هو الضمان ان غيري سيتكلم، وانكم انتم ستتكلمون. وفي هذا الاجتماع حدثت نادرتان: الاولى ـ حول الذيلية للقيادة السوفياتية. وكانت احد مواضيع النقاش الحامي في الاجتماع (كنت حينذاك، ولبضعة شهور المدير الاداري لجريدة "النداء" كما سبق وذكرت. وحدث ان اوقفت وكالة الانباء والاذاعة التشيكية اشتراكين في الجريدة. فقلت من باب المزاح، ان الرفاق التشيك يدفعون اجرة ترجمة الجريدة يوميا، ويكتشفون فيما بعد انها نسخة عربية مترجمة عن وكالة تاس السوفياتية، التي تصلهم باللغة الاصلية الروسية. فرأوا توفير وقت واجار الترجمة. وكنت اطالب بلبننة وتعريب الجريدة، دون الانتقاص من مكانة الاتحاد السوفياتي، بل لتعزيز هذه المكانة. وكنت مثلا لا اجد مصلحة لبنانية وعربية في العداء للصين الشعبية، واعتبار الخلافات مسألة حزبية وعقائدية داخلية، لا يجب ان ترقى الى مستوى المقاطعة الاقتصادية، او الحصار الاقتصادي، للصين الفقيرة الجائعة، كما فعل المرتد خروشوف وقيادته الخشبية، والذي يقيم ابنه سيرغيي الآن في اميركا، ويدير فيها مكتب دراسات، اي انه اصبح جاسوسا اميركيا بامتياز، مثله مثل المرتد الاخر فيما بعد غورباتشوف). وخلال هذا النقاش، ولاقناعي بصوابية الذيلية للقيادة السوفياتية كلية الحكمة، سألني المرحوم الرفيق حسن قريطم: ما لون البنطلون الذي تلبسه؟ فقلت لـه اللون (ولا اذكره الآن). فأجابني بكل وقار ابوي: اذا قال لك الاتحاد السوفياتي ان لون بنطلونك ليس كما تقول، بل هو احمر، فيجب ان تصدق بأنه احمر. فقلت لـه: كيف؟ سيهزأ بي الناس اذا قلت ان بنطلوني احمر. فقال: ان هذا يعني ان الاتحاد السوفياتي يرى ما لا تراه، وهو يعرف ان في بنطلونك مادة ستجعله احمر. ولذلك فهو احمر. طبعا انني لم اقتنع بمثل الرفيق حسن عن البنطلون. وطبعا انه هو لم يقتنع بعدم اقتناعي.
وفيما بعد، اجرى "الشباب" (الرفاق جورج حاوي، نديم عبدالصمد، كريم مروة، جورج بطل الخ) "حركتهم التصحيحية"، ولكن بعد ان "فهموا سر اللعبة"، خلافا لمعارضتنا، فوضعوا انفسهم ايضا في "تصرف" القيادة السوفياتية، التي رأت من الحكمة استيعاب الحالة واجراء "توازن" بين "الشباب" و"الشيوخ"، طالما ان الجميع "تحت جناحها". ولكن فيما بعد، فإن الرفيقين حسن قريطم وصوايا صوايا ظلا متمسكين بمواقف "سوفياتية سابقة"، فنبذا. وحينما توفي الرفيق حسن قريطم، حضرت دفنه بدون دعوة كما سبق وقلت لك، لانني اعتبره مناضلا حقيقيا ورمزا حزبيا، وان كنت مختلفا معه. وللاسف، لم يكن في جنازته سوى بضعة ومائة شخص على الاكثر نتيجة المقاطعة الحزبية.
و"المعادلة السحرية لبنطلون الرفيق حسن قريطم" هي بالضبط المعادلة السياسية والحزبية التي كانت تسير عليها قيادة الحزب، قبل "الحركة التصحيحية" وبعدها: "نفذ، ولا تعترض. واذا كان لك من رأي، فقله في الكواليس، وشوشة في آذان فرعونات وهامانات العصر السوفياتي، او على كاس فودكا ستوليتشنايا مع الكافيار الروسي الفاخر، روح وجسد "الاممية البروليتارية!" و"الثورة العالمية"!".
وهكذا، بسبب "بنطلون الرفيق حسن" رحمه "الله"، اتهمت انا وغيري من "المعارضة" بأننا "صينيون"، لمجرد اننا كنا مع الصداقة الحقيقية مع الاتحاد السوفياتي، ولكن ليس مع الذيلية (كان من عادتي ان اذهب الى "المركز الثقافي السوفياتي". وظليت اذهب بعد طردي. فجاءني يوما الرفيق كربيس، احد قدامى الموظفين في المركز، وقال لي: "قالولي شو عم يعمل هيدا هون؟" ففهمت الرسالة، ولم اعد اذهب الى المركز حتى بداية البيريسترويكا، حيث تسجلت لأخذ دورة في اللغة الروسية. وكانت مديرة المدرسة تدعى اولغا بيبيكوفا، وكانت تعرف البلغارية لانها خريجة بلغاريا. وهذا ما سهل بيني وبينها احاديث ونقاشات طويلة. وبعد نهاية الدورة في 1987 على ما اذكر، شملتني بدعوة الى موسكو خاصة بالمثقفين الدارسين للغة الروسية. واخذت مني جواز سفري لارساله الى موسكو لاجراءات لا اعرفها، تمهيدا لاعطائي الفيزا. وحسبما قالت لي فيما بعد ان الذي حمل جوازات السفر، ومنها جوازي، هو المهندس سميح كبريت. ولكن لم أعط الفيزا. فحينما واجهتها بالتساؤل: كيف توجهون لي دعوة، ثم تمتنعون عن اعطائي الفيزا؟ قالت لي: "لا شيء لدينا ضدك. ولكن الرفيق سميح هو الذي يتحمل المسؤولية، لانه قدم جميع الجوازات التي كانت بحوزته الى المراجع المختصة، فور وصوله الى موسكو، باستثناء جوازك، الذي قدمه قبل يوم واحد من مغادرته، فلم يكن هناك وقت للاجراءات المعينة". والرفيق سميح كبريت، سامحه "الله"، انا لا اعرفه شخصيا الا بالهيئة، ولم يكن بيني وبينه اي علاقة، لا سلبا ولا ايجابا. وهذا يعني انه حتما كان ينفذ قرارا حزبيا. فتصور: حتى بعد حوالي 25 سنة من طردي من الحزب، وبعد البيريسترويكا المشؤومة ذاتها، كانت الخلايا الستالينية لا تزال معششة في التلافيف الدماغية، وكان الرفاق لا يزالون مصرين على احتكار "وكالة" العلاقة مع الاتحاد السوفياتي. وعنوان وتلفون الاستاذة اولغا بيبيكوفا في موسكو هو معي. ويمكن لاي كان ان يسألها عما حصل، واجزم انها ستجيب بالحقيقة، لأن ذلك كان احراجا لها ولمسؤولها مخابراتيا، على ما اقدر، المستعرب المعروف وصديق العرب الكسندر سميرنوف، الذي قام معها في تلك الفترة بزيارتنا عائليا في البيت).
اما الرفيق كريم مروة (مثله مثل غيره) الذي اعود واؤكد احترامي لـه كمناضل وكمثقف "هذه هي قناعاته وممارساته" التي يجب ان نقبلها بموضوعية، فإن موقفه من الصين الشعبية العظيمة كان نسخة كوربونية من الموقف الخروشوفي (واسمح لي هنا ان ادخل جملة معترضة اخرى، بأن سببا رئيسيا لانهيار الاتحاد السوفياتي يبدأ من قطع صلته الاسيوية بالصين الشعبية، بصرف النظر عن اخطاء الماوية التي هي مسائل حزبية وايديولوجية ذاتية. فالقيادة الخروشوفية الخشبية المغرورة كانت تعتقد انها تضغط على الصين لاركاعها. وبالطبع ان الحصار آذى الصين مرحليا، الا ان النتيجة الاخطر هي ان الاتحاد السوفياتي فقد بذلك مدى حيويا لا يعوض، واصبح تحت رحمة السوق الرأسمالي العالمي بشكل خطير. وربما هذا كان بعض ما كان يريده خروشوف وكتلته. وان، ايضا، احد اهم اسباب ضعف الحركة الشيوعية العربية هي انها، بذيليتها للقيادية السوفياتية، اغلقت الباب بوجه الافق الستراتيجي الهائل الذي فتحته الثورة الصينية. وبدلا من اقامة علاقة عضوية مع الحزب الشيوعي الصيني البطل ومع الشعب الصيني الثائر، شاركوا الاميركيين والخروشوفيين في حصار وشتم الصين، كل من جهته). ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تيتم الرفاق الذيليين للقيادة السوفياتية. وحينذاك فقط اخذوا "يكتشفون" وجود الصين. وفي احد الايام طالعتني في احدى الصحف صورة الرفيق كريم مروة وهو في زيارة للصين. نحن الذين اتهمنا بالصينية لم نزر الصين، ولا حتى السفارة الصينية. بل اننا اتصلنا ببعض الرفاق الذين اقاموا فعلا علاقة مع السفارة الصينية في دمشق واستلموا منها مبلغا من المال اشتروا به امتياز جريدة "الطيار" وكانوا على وشك اصدارها (ومنهم شاتيلا، ورياض ك. والشهيد البطل ابرهيم حطيط)، وقلنا لهم: ذيلية واحدة للقيادية السوفياتية "تكفي وتزيد"، فلا نريد ذيلية ثانية للقيادة الصينية. فاقتنعوا معنا وعادوا وباعوا الامتياز، وذهبوا ووضعوا المبلغ في صندوق بريد السفارة على الباب، بعد ان رفضت السفارة استعادة المبلغ، حسبما ابلغني بذلك الرفيق رياض ك.. اما الرفيق كريم مروة فيذهب الى الصين. بعد ماذا؟ ومن اجل ماذا؟ هل ادركوا خطأهم؟ هل قاموا بنقد ذاتي صادق؟ ربما في "حلقات الذكر" الخاصة! ولكن في اعتقادي انهم كانوا يبحثون عن "فرعون" جديد، ليس اكثر. ولكن بعد فوات الاوان. فالصينيون لم يعودوا "يقبضونهم". كما انهم ـ اي الصينيين ـ تعلموا "الدرس السوفياتي"، وغيروا في سياساتهم الداخلية والخارجية معا، وبطريقة لم يعد فيها مكان لأي ذيلية حزبية "صينية" ثمينة او رخيصة. والرفاق الصينيون الان يبحثون عن بيل غييتس، ماكدونالدز، زئيفي الخ. و"ذنبهم" في ذلك يقع بالدرجة الاولى على السوفيات السابقين واذنابهم السابقين، الذين سبق ولقنوا الصين "الدرس" بوجهيه. و"حفظت" القيادة الصينية الدرس. وندعو الى "الله" ان لا يكون مصيرها "طبعة صينية" من البريسترويكا. والرفيق كريم مروة وغيره من المتمسحين السابقين بالعتبات المقدسة للباب العالي السوفياتي، وبعد ان تحرروا موضوعيا من هذه الضريبة التاريخية المشؤومة، ـ وهم في عشيات المغيب، ولم يبق لديهم ما يخسرونه، او هكذا يتراءى لي ـ عليهم ان "يعيدوا قراءة" هذا الماضي، ويقوموا بعملية نقد جدية، ذاتية وموضوعية، للذيلية السوفياتية، التي كانوا من "رجالها" (نعم الرجال!) والتي كانت هي القنبلة الداخلية التي فجرت وحدة الحركة الشيوعية العالمية، ومن ثم قوضت الحركة ذاتها، وفتحت الطريق على مصراعيه لخونة الاممية الثانية، المسماة الاممية الاشتراكية، من امثال "الاشتراكيين الامبرياليين" بلير وجوسبان وسولانا وغيرهم من زبالة التاريخ الاشتراكي، ان يحاولوا استعادة اعتبارهم مرحليا على حساب الكادحين والفقراء والمثقفين الشرفاء في الغرب، وعلى حساب كل شعوب الشرق.
3ـ في الليلة ذاتها، في 13 اذار 1964، كان قد مضى حوالي عشرين سنة على انعقاد آخر مؤتمر للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان. وكانت "المعارضة" تقول بضرورة عقد مؤتمر جديد للحزب، والا فإن القيادة تعتبر غير شرعية، لانها قيادة تعيين. والواقع انه باستثناء بعض الرموز التاريخية (مثل نقولا الشاوي، حسن قريطم، ارتين مادويان، يوسف خطار الحلو، اوهانس اغباشيان) لم يكن اي قائد حزبي يمتلك السلطة القيادية الضرورية الا لانه معين من قبل هذه الرموز. ودار نقاش طويل حول موضوع المؤتمر. حيث كان الرفيقان الشاوي وقريطم لا يريان ضرورة لذلك، لانه حسب رأيهما لدينا قيادة "جماعية" (من قاموس المرتد خروشوف لتبرير البيروقراطية في مكان عبادة الفرد) و"حكيمة" فيها "الشباب" الى جانب "الشيوخ". وخلال النقاش طرح الرفيق حسن قريطم "حكمتين" او "معادلتين"، ترتبطان ببعضهما، وتكمل احداهما الاخرى. الاولى، العبارة التهديدية التي وجهها لي "بسطرين منزتك بره" (حيث جرت العادة في بعض الحالات ان ينشر في جريدة الحزب: "ان فلان لا علاقة لـه بالحزب الشيوعي". او ما اشبه). والثانية، سؤاله لي: "شو موقفك اذا انعقد المؤتمر، وانت ما كنت فيه؟".
انا شخصيا رفضت اي مساومة مع الرفيقين، علما ان المرحوم الرفيق نقولا الشاوي (وكان يكن لي ما يمكن ان اسميه ميلا خاصا، اذا صح تقديري، وهو الذي كان قد قابلني وابلغني بارسالي للدراسة في بلغاريا. وهو الذي ارسلني بعد عودتي من بلغاريا الى طرابلس لاقود سرا اضرابا لعمال وموظفي الآي بي سي ثم لاكون مسؤولا عن القطاع العمالي في منطقية الشمال. وهو الذي قابلني بعد ذلك وابلغني بتعييني مدير ادارة جريدة "النداء". وصادفته مرتين في الشارع بعد طردي، مرة في 65 او 66 ومرة في 75 او 76 بعد اندلاع الحرب، وكان موقفه مني وديا جدا)، اقول ان الرفيق نقولا قال بالحرف في تلك الليلة: "اننا نوافق ضمنا على ما تقوله، ولكن "اسكت"، و"حط معنا كتف"، ونحن ارسلناك لتدرس لتكون معنا وليس ضدنا". وكان واضحا لي انهم غير موافقين حقا على الاصلاح، انما كان ذلك عرض صفقة شخصية مع كل اغراءات الامتيازات القيادية. وكان مصيري الحزبي معلقا على كلمة مني. ولكنني طبعا رفضت الصفقة، مع انني اكدت لهم انني لا اتكلم الا ضمن الاطر الحزبية. وانني لن اشهر بالحزب خارجه بأية حال من الاحوال، حتى لو طردت. وهذا ما نفذته فعليا حيث انني لم اكتب اي شيء في الصحافة البورجوازية ضد الحزب بعد طردي.
ولكن بصرف النظر عن المناقشة في تلك الليلة، فإن ما قاله لي الرفيق حسن في "حكمتيه" قد نفذ فعلا: اي طرد المعارضة كلها من الحزب. ومن ثم عقد مؤتمر الحزب في 1966، بشكل "نظيف تماما" من اي صوت "معارض" مزعج. وهو تطبيق حرفي للاسلوب الستاليني في "التطهير" كمقدمة ضرورية لعقد المؤتمرات الحزبية وانتخاب القيادات الجديدة على طريقة قصة الاسد والذئب والثعلب "من وين تعلمت الذوق؟ ـ من الراس المعلق فوق!".
ولكن بعد هزيمة حزيران 1967 والصدمة التاريخية الكبرى لكل الحركات السياسية العربية، فان اطروحات "المعارضة"، ربطا بالاوضاع الموضوعية وتنامي المقاومة الخ، بدأت تفعل فعلها في قواعد الحزب وكوادر الصف الثاني، بمواجهة الخطر الاسرائيلي والتسلح الكتائبي والشمعوني الخ، فكان من المحتم، لعدم تهميش الحزب نهائيا، وتحت ضغط القواعد والكوادر الحزبية من "الداخل"، ولمنع انجذابها الى "المعارضة" في "الخارج"، ان يقوم "الشباب" (الرفاق حاوي، عبدالصمد، مروة الخ) بالسير مع الموجة، واجراء "الحركة التصحيحية" في الحزب. وكان من "الطبيعي" ان يقوموا بذلك، بمعزل تماما عن "المعارضة"، وبالحرص على اعتبارها "عدوة للحزب". وهذا تأكيد على ان حركتهم كانت تنطوي، موضوعيا على الاقل، على الانتهازية والوصولية، من حيث الوصول الى المراكز القيادية على حساب "الشيوخ"، وأخذ مكانهم في "التفويض" او "التلزيم" السوفياتي. ولكن الشيء الرئيسي هي ان هذه "الحركة التصحيحية" لم تكن بعيدة عن المراجع السوفياتية المعنية (علما ان بعض "الشباب" كانوا منذ ذلك الحين موظفين في المؤسسات السوفياتية، مثل الرفيق نديم عبدالصمد، مع تأكيدي التام على صداقتي ومحبتي الشخصية لـه ولشقيقه الرفيق عادل وللمرحوم والده الشيخ الفاضل ابو عادل، وانا اعرف نديم وعادل منذ 1952 حينما كانا تلميذين في مدرسة الحكمة، وكنا معا في الفصيل الشيوعي المسلح عند جنبلاط في 1958، وكان بيتهم "مقرا" رئيسيا للحزب في 1959 حينما كنت مسؤولا عن الجبل قبل سفري الى بلغاريا، ولا انسى ابدا شفافيتهم واخلاصهم. ولكن للاسف ان "التراث" الستاليني فعل فعله في تجميد وتخريب العلاقات النضالية والانسانية الصادقة، اساس الحركة الثورية). وطبعا ان "الشيوخ" دافعوا عن انفسهم دفاع المستميت، وصدرت "نشرة داخلية" من عدة صفحات فولسكاب (دعاني الرفيق جورج ع.، وكان لا يزال في الحزب، لقراءتها سرا لانه كان عليه ان يعيدها الزاميا في اليوم التالي). ومثلما اتهمنا سابقا بأننا عملاء للانكليز، فقد جاء في هذه النشرة ايضا على ما اذكر ان هناك في الحزب عملاء للحلف الاطلسي. وكان المقصود بشكل خاص الرفيق جورج حاوي. ربما لان اباه كان مقاولا، وكان لـه بعض الاعمال مع السفارة الانكليزية (حسبما اخبرني والد الشهيد انيس حاموش من منصورية المتن، وهو شيوعي قديم كان بطل ملاكمة في كوبا التي عاد منها في عشرينات القرن الماضي، وكان يشكك بوالد الرفيق جورج حاوي، ويقول انه عميل انكليزي. وقد سمعت منه هذا الكلام حينما كنت اذهب الى المتن، كمسؤول حزبي عن الجبل في 1959. واضيف الى ذلك انه حينما عينوني مدير ادارة "النداء" في 1963، طلب مني الرفيق ص.ص. ان اراقب الرفيق جورج حاوي ماذا يفعل وماذا يقول. وطبعا انني لم اوافق على هذه المهمة "المشرفة" بل زاد "اسفي" على الرفيق ص.ص. وهو الذي شنف اذني يوما بـ"الحكمة" المجنحة: "أكلونا الشيعة"، محتجا على اقدامي على تعيين رفيق شيعي كموزع في الجريدة). وبعد هذا الاتهام الخطير الموجه للرفيق جورج حاوي ذهب الى موسكو، ووضع نفسه في تصرف السوفيات، كي يثبت براءته من التهمة، وولاءه واستعداده للسير في الخط السوفياتي. ومثلما عاد الرفيق خالد بكداش في حينه من موسكو ونزل بالبراشوت امينا عاما للحزب في سوريا ولبنان، عاد الرفيق جورج حاوي من موسكو في حينه ونزل بالبراشوت امينا عاما للحزب الشيوعي اللبناني، مع اعطاء مركز رئاسة فخرية للرفيق نقولا الشاوي. وليس في هذا "الاستذكار" اي انتقاص من الصفات الشخصية للرفاق بكداش والشاوي وحاوي، التي لا شك فيها، بل مجرد التأكيد على ان الناخب الاكبر ـ الاوحد لمركز الامانة العامة للحزب، كان القيادة السوفياتية، والباقي "تفاصيل فنية". ولو لم يكن لدى الرفيق جورج حاوي تفويض سوفياتي لما كان من الممكن ان يصبح امينا عاما للحزب. فبالرغم من المواهب الخاصة لـه، التي لا شك ان المراجع السوفياتية المعنية تكون قد اخذتها بالاعتبار، الا ان المؤهـِّـل او الشرط الرئيسي لمثل هذا المركز "النوعي" هو "الامتثالية" للمرجعية السوفياتية.
وهنا يبرز سؤال مفصلي: لماذا تم تطهير "المعارضة" التي كنا فيها، والتي ثبت ليس فقط براءتها من كل التهم القذرة التي الصقت بها، بل وثبت صدق تحليلها ومواقفها الاساسية، التي كانت اطروحات "الحركة التصحيحية " لـ"الشباب" نسخة كربونية باهتة عنها؟ ولماذا يطبق الى اليوم "صمت القبور" حيال تلك "المعارضة" من قبل "الشباب" انفسهم الذين اصبحوا "شيوخا"، ومنهم الرفيق العزيز كريم مروة؟ ولماذا بالمقابل تمت التسوية، برعاية السوفيات، بين "الشيوخ" و"الحركة التصحيحية" التي قام بها "الشباب"، الذين اصبحوا من وقتها هم واجهة الحزب؟
ان الجواب على هذا السؤال لم يكن يوجد في لبنان، بل في موسكو، حيث ان الكلمة الفصل فيه هي: مسألة القبول او عدم القبول بالذيلية للسوفيات.
فـ"الشباب" الذين قبلوا الذيلية "وصلوا". وكانت "حركتهم التصحيحية" و"وصولهم" مخرجا حقيقيا للقيادة السوفياتية، لتجديد طاقم "الاحصنة العتيقة"، مع الاستمرار في نفس الخط الذيلي المطيع، في خطوطه العريضة، وفي الظروف المستجدة التي لم يستطع "الشيوخ" استيعابها في حينه.
و"الشباب" في "صمتهم القبوري" عن المعارضة حتى هذا التاريخ، انما يتسترون على "ذنبهم" الرئيسي هذا، وعلى الدور الرئيسي لهذه الذيلية بشكل عام، ومسؤوليتهم فيها بشكل خاص، عن تهميش الدور التاريخي للحركة الشيوعية اللبنانية، والعربية عامة.
فـ"الشيوخ"، بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي ونقد الستالينية (مثل البيريسترويكا فيما بعد) على طريقة "حق يراد به باطل"، لم يجرؤوا على عقد مؤتمر للحزب حتى بعد سنوات من المؤتمر العشرين في 1956، لانهم لم يكونوا واثقين من انفسهم، ومن فتح اصغر "كوة دمقراطية حزبية"، خوفا من ان تؤدي الى افلات الزمام من ايديهم، وربما الى كشف حقيقة ارتباطهم الذيلي بالقيادة السوفياتية. وكان هذا التقصير يمثل احراجا ونقطة ضعف وازعاج للقيادة السوفياتية ذاتها، التي كانت ترى في ذلك عدم قدرة "الشيوخ" على "السيطرة على الوضع" في الحزب.
فجاء "الشباب"، حياهم "الله"، وقاموا بالمهمة خير قيام، وان كانت النتيجة التاريخية لـ"ديالكتيك العلاقة الذيلية" انهيار الاتحاد السوفياتي وتهميش الحركة الشيوعية العالمية، ومنها الحركة الشيوعية العربية واللبنانية. واعود واكرر انني لا اقصد قطعا الاساءة الى اي منهم شخصيا بصورة ذاتية، بل انا اشخص الحالة التي كانوا هم ادواتها وضحاياها في آن معا، تماما كأي راهب بابوي او جزويتي مما قبل عهد محاكم التفتيش الى ما بعد "تحريم" جبران خليل جبران. فهؤلاء "الرهبان" كانوا ـ وربما لا زالوا ! ـ اما مقتنعين بما يقومون به ضد "الهراطقة"، واما غير مقتنعين ولكنهم يعتقدون ان "حرق جوردانو برونو" هو "شر اصغر يدفع به الشر الاكبر"، اي شر التفكير بحرية والتفلت من التبعية والذيلية للعزة "البابوية". لقد اضطلعت صدفة على كلمة تأبين للمرحوم د. ميشال سليمان من قبل الكاتب الجزويتي المتفاني في حب "يسوعه" و"صليبه" الاستاذ محمد دكروب، الذي لا يمكن لاحد التشكيك باخلاصه في قناعته وتفانيه في خدمته "المسيحية". الا يذكر ذلك بتبني الكنيسة لجبران خليل جبران بعد مماته، وجعل قبره "مزارا" دينيا، في حين انه كان "محروما" كنسيا في حياته. ان افضل "هرطوقي"، كأفضل "هندي"، هو "الهرطوقي" الميت. هكذا فعلوا مع سليم خياطة. ومع رئيف خوري. ومع فرج الله الحلو الخ.الخ.
وهنا آتي الى طرح أساس المسألة: منذ تحنيط اللينينية ودفنها مع الجثمان المحنط للينين وهيمنة الستالينية على السلطة السوفياتية، قلبت الاخيرة رأسا على عقب، وبالعصا والجزرة، معادلة لينين "شعب، طبقة، حزب، قيادة"، لتصبح "قائد، ادوات سلطوية وحزبية، طبقة مغلولة وشعب مغلوب على امره".
ومنذ ذلك الحين اصبح موضوع "تتبيع"، "استزلام"، "تذييل"، "استعمال"، سمه ما شئت، الحركة الشيوعية العالمية هو محور علاقة القيادة الستالينية مع فصائل تلك الحركة بشكل عام، ومع كل كادر فيها بشكل خاص. وكان هناك بالطبع فرق جوهري بين صداقة شعوب الاتحاد السوفياتي، والعلاقة الاممية مع الحزب الشيوعي السوفياتي، وبين التبعية والذيلية. تماما كالفرق اليوم بين التلاحم الوطني والقومي العربي، وبين الذيلية لبعض الانظمة والقيادات العربية.
ومنذ سيطرة الستالينية فان "التاريخ الداخلي" للحركة الشيوعية عندنا كان بالضبط تاريخ صراع بين الاتجاه الوطني والاشتراكي "الاستقلالي"، بمفهومه الاممي الصادق والمخلص للعلاقة مع الثورة الروسية وحزب وبلاد السوفيات، وبين الجناح الذيلي الذي ارتبط بالستالينية عبر ـ اساسا ـ الارتباط الوظيفي بالاجهزة السرية، مع كل "بهارات" القناعة والطاعة العمياء الجزويتية والهالة القدسية ـ البوليسية حول "اب الشعوب" و"القائد الى الابد"، الخ.
وبحكم تسلسل منطق الاشياء، اصبح "الامتثال" للقائد المباشر وللقيادة الاعلى، بدءا من "مجاهل" عكار والجنوب اللبناني تسلسلا ووصولا حتى اسوار الكرملين، هو محك "الصدق" و"الاخلاص" للشيوعية. وكان كل من يبدي شيئا من الاستقلالية في الرأي و"الهرطقة" على الطقوس الذيلية، حتى فرديا وحيال اي "قائد" مباشر "يحرم" و"يصرم" بحزم.
وأعطيك مثلين فرديين صغيرين:
الاول: عم احد النواب الوطنيين، وكان اسمه الحزبي "نعمة" واعتذر عن ذكر اسمه الحقيقي بناء لطلبه، كان مدرسا للغة الانكليزية وكان مسؤولا حزبيا عنا في الاشرفية في مطلع الخمسينات. وهؤلاء المسيحيون التقدميون من البربارة (بلدة "الشاعر القروي") لديهم حس قومي عربي يعطيهم نفحة من الاستقلالية في التفكير. وكان هذا الرفيق لا يتحرج في ان ينتقد امامنا بعض الاخطاء الحزبية. فكانت النتيجة طرده من الحزب بحجة "بسيطة" هي انه "منحرف جنسيا". واذ كان من الصعب علينا نحن الاعضاء البسطاء حينذاك ان نصدق مثل هذا الاتهام، كان من الصعب علينا ايضا تكذيب القيادة. وانا الان لست في وارد الاتهام او الدفاع الشخصي عن احد. ولكن، من منطلق ان هذه المسألة لم تعد، بعد كل هذا الوقت، مسألة محض شخصية، ارجو منك ان تتصل بابن اخيه النائب الاستاذ (...)، وتحاول التأكد منه هل كان عمه "منحرفا جنسيا"، ام ان بعض قياديينا كانوا "منحرفين ستالينيا ولاقوميا"؟
والثاني: المرحوم الياس عبود، والد الشهيدين نقولا ولولا عبود، اصبح مسؤولا حزبيا عنا في الاشرفية بعد "استئصال" الرفيق "نعمة" "المنحرف". وكان الرفيق الياس "فلاحا همشريا" طيب السجية بكل معنى الكلمة، وبالتالي شيوعيا عفويا لا يعرف الكذب والتصنع. فأدى به ذلك الى الطرد والاتهام بالخيانة والعمالة لحلف بغداد الخ. والسبب الرئيسي المباشر ان الرجل، رحمه "الله"، ارسل الى احدى الدول الاشتراكية (المجر او رومانيا على ما اذكر) لمتابعة "كورس" في المدرسة النقابية. وطبعا انه اطلع على احوال الناس. وحينما عاد اخذ يتحدث بشكل تلقائي خال من اي نية معادية للاشتراكية، بأن البلدان الاشتراكية ليست "الجنة الموعودة"، وانه يوجد فقر، وان النضال من اجل بناء الاشتراكية هي مسألة صراع متواصل وكدح وبناء طويل الامد الخ الخ. وانا كانت تربطني بعائلته علاقة وثيقة جدا، حيث انني سبق وسجنت في 1952 مع انطوانيت بشارة (زوجته لاحقا) في قضية واحدة، كما سجنت معه في 1953 في قضية ثانية. ولم يكن لاحاديثه تلك اي طابع او تأثير سلبي علي وعلى غيري من الرفاق "البسطاء"، بل بالعكس كان فيها نظرة صادقة واقعية تزيدنا ايمانا حقيقيا بالاشتراكية. ومع ذلك طرد الرجل وزوجته من الحزب في 1957، وألقيت عليه كل الاوساخ الستالينية الممكنة. وانا انتهز هذه المناسبة لاعرب عن تقديري العميق لهذه العائلة البطلة التي قدمت الكثير من التضحيات والشهداء، ومنهم ولدا الياس والشهيد جهاد اسعد (ابن اخته) الذي استشهد مع الكادر "الغيفاري" البطل علي شعيب، في عملية بنك اوف اميركا في تشرين الثاني 1973.
وبكلمات اخرى، فان تطهير "المعارضة" عشية مؤتمر الحزب في 1966، كان احد وجوه عملية الصراع التاريخية، داخل الحركة الشيوعية، بين الاتجاه "الاستقلالي" والاتجاه "الذيلي" فيها.
وكان هذا الصراع مستمرا، لأن الناس في الاغلب تأتي الى الحركة الاشتراكية او الشيوعية او التقدمية الخ، من خلال الضرورة الموضوعية ذاتها، وليس افتتانا بهذا القائد او ذاك. ويأتي بالطبع الانتهازيون والوصوليون، خصوصا في المراحل "المريحة"، وبالاخص اذا كان الحزب في السلطة. وبالطبع يجري تشويه وافساد الكثير من الشرفاء داخل "فبركة" الديماغوجية والمصلحية والوصولية. ولكن الصراع كان ولا يزال مستمرا. وان الغلبة السطحية للانتهازية والتحريفية ادت الى انهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي الى الهزيمة الموضوعية للستالينية والانتهازية والتحريفية بوصفها هي "الشيوعية" او "الاشتراكية". وهذا يعني فتح الطريق لدورة تاريخية جديدة، استنادا الى عبر ودروس الدورة الماضية. على ما يشبه دورة التحريف البونابرتي للثورة الفرنسية، وردّة البوربونية، التي قادت بدورها الى دورة جديدة من الثورات في1848 وكومونة باريس وصولا الى الثورة الروسية الخ.
وفي تاريخ الحركة الشيوعية عندنا محطات رئيسية لهذا الصراع اتوقف، وحسب معلوماتي المتواضعة، عند اهمها:
ـ ان انتشار الافكار التنويرية والتقدمية والاشتراكية عندنا بدأ قبل الثورة الروسية، وقبل لينين وستالين. وذلك ـ بالاخص ـ من خلال الاتصال مع الاشتراكيين الانكليز والفرنسيين في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد سحق كومونة باريس، ولجوء العديد من كوادرها الى مصر، حيث كانت توجد "جالية" من المثقفين والاحرار اللبنانيين، الذين نقلوا الافكار الاشتراكية الجديدة الى لبنان وسوريا وفلسطين. وهذه "المدرسة" الاشتراكية الاولى عندنا لم تكن تابعة وذيلية لاي سلطة اشتراكية، هي لم تكن موجودة اصلا. ومن اعلامها في مصر مثلا، سلامة موسى. وان مفكرا حرا مثل امين الريحاني، الذي تلمس بشدة قضايا عصره، قام بالدعوة الى "بعث الامة العربية"، ولكنه في الوقت نفسه قال "لن تصلح الا بأن تتبلشف". وقد تعامل هؤلاء الوطنيون والتقدميون والاشتراكيون العرب الاوائل تعاملا صادقا، مستقلا وحرا، مع الثورة الروسية، التي اعتبروها تأكيدا تاريخيا لمصداقية الافكار التي حملوها. ولم يكن من الهين ابدا "تذييل" و"تتبيع" و"استعمال" هذه المدرسة الاشتراكية المستقلة ورجالها الاحرار، الذين لم تكن لهم من "قبلة" غير "قبلة" المبادئ الوطنية والقومية والتقدمية والاشتراكية . وغداة انتصار الثورة الروسية، تعامل لينين مع الحركات التحررية والاشتراكية في الشرق والغرب، بروح الصداقة الاممية الحقيقية والاحترام المتبادل، وسعى لوضع "السلطة السوفياتية" في خدمة هذه الحركات، وليس العكس. وقد دعي الى ما سمي "مؤتمر شعوب الشرق" مفكرون احرار من امثال شكيب ارسلان، اذا لم اكن مخطئا.
ولكن بعد "انتصار" الستالينية كان لديها همـّان: داخليا: همّ السيطرة على الحزب الشيوعي السوفياتي وضرب كل رأس مرتفع فيه. وخارجيا: هم السيطرة على الحركات الاشتراكية والشيوعية. ومن الامثلة البشعة على ذلك هو انه بعد فشل الانتفاضة المعادية للفاشية في بلغاريا سنة 1923، ثم سنة 1925، ولجوء ألوف الثوريين البلغار الى روسيا السوفياتية، جرى تصفية الغالبية الساحقة من هؤلاء الثوريين، في معسكرات الاعتقال الستالينية الرهيبة، لانهم كانوا مناضلين صلبين ذوي تفكير ماركسي حر ومستقل وشجاع، ولم يكن من الممكن تحويلهم الى "اتباع" وادوات طيعة. وطبعا انه كانت تتم تصفيتهم بتهم "العمالة" و"معاداة الحزب" الخ. ولعل اكبر "فضيحة" في "التاريخ الاممي" للستالينية هو التعاون مع حكم شان كاي شك في الصين، و"تخوين" وطرد جناح ماو تسي تونغ، الذي لم يمتثل للاوامر الستالينية، والذي لو فعل لما كانت الثورة الدمقراطية الشعبية الصينية.
وبطبيعة الحال كان اول هم للستالينية، في نطاق الحركة الاشتراكية والشيوعية العربية، هو التخلص من "المدرسة الاشتراكية القديمة" المستقلة. وكانت هذه هي المهمة الرئيسية للرفيق خالد بكداش، بعد ان عاد من دراسته في موسكو سنة 1931، ونزل بالباراشوت امينا عاما للحزب. فجرى، بمختلف الاشكال والاساليب "اللبقة" او البشعة، ابعاد او اضعاف اشخاص "مستقلي الشخصية والتفكير" مثل يوسف ابرهيم يزبك، ابرهيم حداد، فؤاد الشمالي، سليم خياطه وغيرهم (فؤاد الشمالي، على ما اذكر، كان مسؤول الحزب، وقد اتهم بالعمالة، وطرد).
ـ وانا لا ادعي الالمام الكافي بهذا التاريخ غير المشرف للستالينية والستالينيين العرب. ولكن في ذهني خطوطا عريضة وحسب. من ذلك انه قبل الحرب العالمية الثانية جرى تشكيل "حزب اشتراكي" غير ستاليني، من التيار الاشتراكي "السابق على الستالينية"، ومن شخصياته ابرهيم حداد على ما اذكر. وقد قوطع هذا الحزب وحوصر حتى اجهز عليه بـ"الموت الطبيعي". وهناك دراسة جامعية اعدتها السيدة هدى شهاب الدين (ربما اكون مخطئا في اسمها، ولكنها بالتأكيد زوجة الرفيق حافظ الشمعة، من عين قنية الشوف، وسكان بيروت. وكان حافظ اصغر حامل بارودة معنا في 1958. ويمكن ان تسأل عنه اي شيوعي او تقدمي اشتراكي او اي عضو في نقابة المعلمين). وكتاب هدى موثـّق بطريقة اكاديمية. وقد قابلت العديد من الشخصيات المعنية لدى تحضيره. ومما اخبرتني به، انه لدى التقائها مع المرحوم الرفيق نقولا الشاوي لاجراء مقابلة معه تتعلق بموضوعها، التفت الى الحائط خلفه وضرب بقبضة يده عليه وقال لها ما معناه: اذا كان هذا الحائط سيتكلم، فأنا سأتكلم معك حول هذا الموضوع.
ولا ادري اذا كانت الاخت هدى قد استطاعت نشر كتابها، وهو امر ضروري جدا. وانا ارجو منك كباحث ان تجد الوسيلة والوقت لمتابعة هذا الموضوع، لاهميته الكبرى، بعد انهيار الستالينية والنيوستالينية، ولتفتيح اعين كل وطني وتقدمي، وكل اشتراكي وشيوعي حقيقي.
اما ابرهيم حداد، فأذكر ان كتبه المنشورة ومخطوطاته غير المنشورة الخ هي موجودة لدى عائلة من اقربائه، احد افرادها هو الصديق جورج حداد (شيوعي قديم، من اهالي الاشرفية، واظن انه يقطن الان في فرصوفيا، ولكن لهم بيت في الاشرفية، ويمكن السؤال عنه وعن شقيقه (لا اذكر اسمه) بسهولة). فمن الضروري ايضا مراجعة ونشر المهم من كتابات ابرهيم حداد، مع دراسة تقييم تاريخي لها.
ـ حينما كنت في طرابلس في 1963، تعرفت عن قرب الى الرفيق رياض ك. (من المينا)، وكان لـه موقف انتقادي، وجنح في فترة مع المجموعة الصينية، ثم عاد فتخلى عنها بتأثير منا. وفي يوم (للاسف لا اذكر حتى السنة) قال لي رياض "اتعرف من مات؟ سليم خياطة!". وكان سليم خياطة من ألمع المثقفين الماركسيين ومن ابرز قادة الحزب قبل الحرب العالمية الثانية، وانا كان سبق لي ان قرأت بعض اعداد مجلة "الطليعة" التي كانت تصدر (قبل "الطريق") قبل الحرب العالمية الثانية، وكان سليم خياطة محررا رئيسيا فيها. ولكنني لم اكن اعلم ان سليم خياطة كان لا يزال حيا. وكنت اعتقد انه مات قبل مدة طويلة. ولكن رياض اخبرني ان المرحوم سليم خياطة كان يعيش معزولا ومنكمشا على نفسه في المينا، ويعمل "نجارا" ليعيش "من قلة الموت". وانه حين مات منفردا في غرفته، اكتشف الجيران موته بعد يوم او يومين. وجمع لـه بعض الجيران "لميـّة" حتى دفنوه. وحضر دفنه ما لا يزيد عن عشرة اشخاص. هذه هي رواية رياض ك.، الذي اثق بصدقه، انقلها بأمانة. وفيما بعد قرأت، لا اذكر متى وأين، مقالة للرفيق يوسف خطار الحلو، فيها تقييم كبير لدور سليم خياطة. وأنا لا اشكك ابدا بصدق نوايا المرحوم "ابو وضاح" (يوسف خطار). فهو كان من الشيوعيين الانقياء. وحينما كان بعض اصحاب كريم مروة (في ظروف الحرب اللبنانية) يستخدم السيارات الفخمة والمصفحة وحرس الشرف كأي امير حرب، كان ابو وضاح يسير على قدميه، ويقعد على الرصيف امام مقر الحزب، وحارسه "الله". ولكن ـ موضوعيا ـ مرة اخرى نحن امام معادلة: افضل "هندي" هو "الهندي" الميت. فقد علمت، من اين وكيف ـ لا اذكر، وهذا موضوع للتحقيق الضروري، ان سليم خياطة الذي كان احد ابرز ممثلي الفكر الاشتراكي قبل الحرب العالمية الثانية، كان في السجن خلال الحرب. وفصل او طرد من الحزب وهو في السجن. وحينما خرج، عاش معزولا، ومات مقهورا. وبالطبع لم يكن بامكان الرجل الخيانة والانضواء تحت لواء الصحافة البورجوازية وحل مسألة معيشته ومكانته الشخصيتين عن هذا الطريق "السهل"، كما لم يكن بامكانه وحده مواجهة مطحنة الستالينية في ظروف القتال ضد الهتلرية. ومعلوم تماما ان الستالينية استغلت الحرب ضد الهتلرية ومن ثم الانتصار عليها، لاجراء المزيد والمزيد من حملات التطهير ضد الشيوعيين غير مضموني الولاء الذيلي لها. (في بولونيا مثلا، جرى تصفية 90 بالمائة من اعضاء الحزب الشيوعي نفسه، وواحدة من الجرائم فقط هي اعدام حوالي 20 الف ضابط من الجيش الوطني البولوني ومن المقاومة الشعبية، الذين كانوا اسرى احتفظ بهم هتلر للمبادلة، فبعد دخول الجيش الاحمر الى بولونيا، قامت الكا جي بي باعدامهم جماعيا، واتهم هتلر بالجريمة للتغطية). وطبعا انه ما كان امام مناضلين شرفاء، لا يجدون لانفسهم قيمة خارج الحزب، مثل المرحوم يوسف خطار الحلو سوى السكوت، بانتظار "فرج" التاريخ. وهم لا يفعلون سوى ان يبرروا، دون ان يبرئوا، ضميرهم حينما يكتبون كلمة طيبة عن امثال سليم خياطة... بعد موته!. وإنه لشيء ضروري، للتاريخ، وللعبرة، وللدرس المستقبلي، لهذه الامة المطعونة، ان تقوم انت او اي باحث جدي وصادق مثلك، باجراء دراسة عن سليم خياطة، المثقف والمناضل، الشهيد الحي على يد الستالينية وابنائها واحفادها وايتامها. وأن يجري اعادة نشر ما هو ضروري، للتاريخ وللمرحلة الحالية، من كتاباته.
ـ من ضمن حملات التطهير التي اجرتها الستالينية بعد الحرب العالمية الثانية، بعد ان فشلت في اخضاع تيتو، ووقع اول شرخ في المعسكر الاشتراكي الجديد، هو عملية التطهير ضد كوكبة من مثقفي الحزب عندنا، واذكر منهم: رئيف خوري، اميلي فارس ابرهيم، قدري قلعجي، هاشم الامين، ماير مسعد. وألقيت على هؤلاء كل القاذورات المعهودة. وكانوا قد شكلوا، على ما اذكر، لجنة سموها "اخوان عمر" (المقصود الاديب عمر فاخوري، الذي كان محبوبا جدا، ويبدو انه كان مقربا من هذه المجموعة، وكان قد توفي حديثا حينذاك)، فأطلقت عليهم قيادتنا الستالينية تسمية "خوّان عمر". واخذ الحزب كل سنة ينظم مسيرة الى قبر عمر فاخوري في ذكرى وفاته، لقطع الطريق على المجموعة من ان "تستغل" عمر فاخوري. لقد اتهم هؤلاء بـ"التيتوية" والعمالة للامبريالية العالمية وغير ذلك من الصفات الحسنى! واذكر ان الاديب الكبير المرحوم رئيف خوري كان قد نشر رواية بعنوان "الحب اقوى". فنشرت لـه مجلة "الطريق" مقالا "نقديا!" بعنوان "الدولار اقوى". ان المرحوم قدري قلعجي هو الوحيد الذي، برأيي، انحرف عن جادة الصواب تحت تأثير ردة الفعل، وعمل مستشارا صحفيا لدى الدكتاتور اديب الشيشكلي. وللتاريخ ان يحاكمه ويحاكم الشيشكلي معا. ولكن الاخرين جميعا عضوا على الجرح، وانطووا. ولا يجب ان يغيب عن البال هنا نقطة جوهرية جدا وهي، بالاضافة الى موضوع الصراع بين "الاستقلالية" و"الذيلية"، ان تطهير هذه المجموعة كان ايضا على صلة بالمسألة القومية، حيث كانت مسألة فلسطين قد طرحت بشدة في ذلك الحين. وهذه المجموعة من المثقفين كانت ذات طرح قومي، وكان اعضاؤها ـ كلهم او بعضهم ـ يعملون في اطار "عصبة مكافحة الفاشية والصهيونية"، في وقت كانت فيه الستالينية لا تزال تعارض الهجرة اليهودية الى فلسطين، قبل الحرب العالمية الثانية . وهذا ايضا موضوع مهم للبحث والمراجعة. وطبعا ان الرفيق العزيز كريم مروة وغيره من مثقفي الحزب الرسميين لا يعتبرون انفسهم معنيين بذلك. ولكن هذا يزيد بشكل خاص من اهمية مثل هذه المراجعة. (ويقال ان القائد التاريخي الشهيد فرج الله الحلو كان يتعاطف مع هذه المجموعة. وهو احد اسباب النقمة الستالينية ـ البكداشية عليه، التي ادت في النهاية الى "تسهيل" رميه في براثن مخابرات عبدالحميد السراج).
ـ وأخيرا لا آخرا، من الضروري ان آتي الى مأساة فرج الله الحلو. انا شخصيا تعرفت بشكل سطحي على الرفيق فرج الله في 1953، حيث كان محاضرنا في ما كنا نسميه "حلقة ثقافية" من بضعة رفاق شباب كنت واحدا منهم. وكان في هذه الاثناء معاقـَبا ومجمدا من اي نشاط قيادي. وفي الوقت نفسه كنت شخصيا اقوم بايصال الصحف والمطبوعات الحزبية الى بيت عائلته في الجعيتاوي قرب اللعازارية، وكان بيتا متواضعا جدا "لا يليق البتة" ببيت قائد، بمقاييس قادة "آخر زمان". ومن ثم عاد لممارسة نشاطه القيادي. ورأيته لآخر مرة في 1959 في جريدة "النداء"، حيث كنت محررا للشؤون النقابية والحياتية. وكانت مخابرات السراج قد نسفت سيارة المحامي الشيوعي فاروق المعصراني، وكان هو الذي دافع عنا حينما كنت معتقلا مع عدد من الرفاق في طرابلس في 1952. فدعاني الرفيق فرج الله وطلب مني الذهاب لطرابلس لكتابة تحقيق عن الحادث. ولكن بعد اقل من نصف ساعة، جاء الى الجريدة الرفيق كريم مروة، فقام الرفيق فرج الله بتكليفه هو بالمهمة بدلا مني. ولم يمض بعد ذلك سوى وقت قصير حتى سمعنا باعتقال الرفيق فرج الله في سوريا. شخصيا، نزل علي هذا النبأ كالصاعقة. وقلت: كيف يمكن للحزب ان يحمي الياس شمعون، وان يغامر بفرج الله الحلو؟ (في 1959 كانت قد بدأت حملة اعتقالات واسعة جدا ضد الحزب في سوريا. وفر الوف الشيوعيين السوريين ولا سيما الكوادرالى لبنان، حيث خبأهم الحزب. ووقع علي تخبئة العديد من الرفاق. ومن بين الذين خبأتهم طالب يدعى الياس شمعون. شاب وسيم ذو جسم رياضي ويظهر عليه انه "ابن نعمة". ولما كان الحزب غير قادر على الانفاق على الجميع، كنا نحاول ان ندبر عملا لمن يسمح وضعه الامني بذلك. ودبرنا للياس عملا مع معلم بناء. وبعد ايام اخذ الياس يشكو من سوء حالته، وانه لا يستطيع ان يعمل، ويداه تؤلماه الخ. وفجأة اختفى الياس، ليطل من اذاعة السراج يهاجم الحزب الشيوعي). خلاصة القول ان الحزب كان في حالة انسحاب امام هجوم شرس. فكيف يجوز المغامرة بمصير قائد تاريخي معروف مثل الرفيق فرج الله؟ كان هذا السؤال يقلقني جدا. ولم اجد لـه جوابا. وحينما وصلنا الى بلغاريا، في ايلول 1959، كان الحزب الشيوعي البلغاري قد عقد قبل ذلك بفترة وجيزة جدا مؤتمرا لـه. وكان الرفيق خالد بكداش قد حضر المؤتمر، والتقى خلال وجوده هناك مع الطلبة السوريين في المدرسة الحزبية. وكان المسؤول البارز فيهم الرفيق مشهور غ.، من المشرفة بسوريا. وقد طرح موضوع اعتقال فرج الله الحلو. واذكر ان الرفيق مشهور كرر امامنا بالحرف ما سمعه من خالد بكداش: "اذا فلت فرج الله الحلو من إيد عبدالناصر، ما رح يفلت من إيدنا". وكان تفسيرنا لهذا القول هو: اما ان فرج الله الحلو ذهب الى سوريا "من رأسه"، والقيادة ستحاسبه على ذلك. واما ان فرج الله سبق وارتكب اخطاء جسيمة ستحاسبه عليها القيادة بعد ان "يفلت من إيد عبدالناصر".
لقد مضى الان اكثر من اربعين سنة على الجريمة الوحشية التي اودت بحياة الشهيد فرج الله الحلو. فماذا يقول الرفيق كريم مروة والرفاق الاخرون في الحزب غير التأبين والتكريم الذي يشكرون عليه، ولكنه لا يكفي لجلاء الحقيقة، بل يسهم في طمسها، من حيث يريدون او لا يريدون؟
لقد طرحت سالفا سؤالا: كيف يحمي الحزب الياس شمعون، ويغامر بفرج الله الحلو؟
ولننطلق من هذا السؤال.
بدءا، انا شخصيا لا يمكن ان اصدق ان الرفيق فرج الله ذهب الى سوريا في تلك الفترة العصيبة "من رأسه". فقد كان قائدا مثقفا ناضجا مجربا ومحنكا، بعيدا كل البعد عن اي تصرف غير محسوب. ولذلك يستبعد تماما انه ذهب "من رأسه". وحتى ولو كان حينذاك هو المسؤول عن الساحة السورية، وقرر الذهاب، فهذا القرار، المتعلق بشخص مثله، ينبغي اولا ان يبحث في الهيئة المعنية المسؤولة معه عن الساحة السورية، وبالاخص مع الامين العام، اي الرفيق المرحوم خالد بكداش، الذي لم تكن "تسقط شعرة" من رأس انسان (حزبيا) في الساحة السورية بالاخص، بدون رأيه. اذا كان هناك قرار، من قبل عدة اشخاص على الاقل، بالطلب من فرج الله الحلو، او بالموافقة لـه على رغبته الخاصة، بالذهاب الى سوريا، فما هو هذا القرار؟ وما هي حيثياته؟ ومن هم هؤلاء الاشخاص؟
ثانيا ـ من خلال اتصالي بالرفيق رياض ك. الذي سبق وذكرته، اخبرني، في 63 او 64 لم اعد اذكر، بـ"قصة طريفة" عن شخص يدعى صبحي الحبل، وهو ـ حسب قول رياض ـ حزبي سابق اتهمه الحزب بتسليم فرج الله الحلو. فصبحي الحبل، حسب الرواية، كان هو المسؤول عن البيت الحزبي السري، الذي اعتقل فيه الرفيق فرج ألله فور طرقه على الباب، بالاشارة المتعارف عليها، حيث كانت المخابرات بانتظاره و"رحبوا" به قائلين: "اهلا ابو فياض" (لقبه الحزبي حينذاك). وقد خرج صبحي من السجن في سوريا، حسب روايته للرفيق رياض، بعد انهيار الوحدة، وجاء وسكن في المينا في طرابلس، لا اذكر لماذا. وحسب القول انه كان مهددا من قبل الحزب. ويقول رياض ان صبحي هذا ابلغه انه بريء من تهمة تسليم الرفيق فرج الله، لانه كان قد تم اعتقاله قبل شهرين من اعتقال فرج الله، وانه علم باعتقال فرج الله وهو في السجن، وفوجئ بأنه اعتقل في البيت السري ذاته الذي كان هو مسؤولا عنه، الذي لم يعد بالطبع سريا، بعد اعتقاله (اي صبحي). ويتساءل صبحي ـ ايضا حسب رواية رياض ـ كيف يمكن ان يأتي الرفيق فرج الله الى بيت حزبي سري صاحبه معتقل منذ شهرين؟ وهل كان الرفيق فرج الله يعلم باعتقاله (اي صبحي)؟ وهل كان يعلم ان البيت اصبح مكشوفا؟ وقال انه جاهز لتقديم نفسه لمحاكمة حزبية حول اتهامه بتسليم فرج الله الحلو، وتحمل النتائج. وسلم رسالة بهذا كله الى الرفيق رياض، وطلب منه ان يوصلها الى القيادة. وقد اوصلها رياض الى الرفيق نقولا الشاوي، على ما اذكر من حديث رياض. وقد طلبت القيادة منه قطع اي اتصال مع صبحي الحبل، على اعتبار انه عدو للحزب، والحزب "رح يدبرو". ماذا حدث بعد ذلك؟ ما هو مصير صبحي الحبل؟ ليس لدي اي علم عن "بقية الحكاية".
هذا من الجانب "الفني" اذا صح التعبير. وآتي الى الجانب السياسي:
ـ ان فرج الله الحلو كان متهما بالتعاطف الضمني مع مجموعة "خـوّان عمر" كما اسلفت. وفي سنة 1947 كان فرج الله الحلو هو سكرتير الحزب في لبنان، في حين كان خالد بكداش السكرتير العام لسوريا ولبنان. وقد ترشح فرج الله الحلو للانتخابات في ايار 1947 في الجبل وحصل، حسب اعتراف الدولة، على اكثر من 14 الف صوت ( اذا لم تخني الذاكرة)، وكاد ينجح لولا التزوير المشهور في تلك الانتخابات. وفي رأيي ان القيادة الفردية البكداشية الستالينية كانت تنظر الى فرج الله الحلو كـ"لغم موقوت" في الحزب، وان نجاحه الجماهيري كان مصدر غيظ لدى تلك القيادة المرتبطة بالمراجع الروسية، خصوصا اذا اخذنا بالاعتبار الشخصية المثقفة والدمقراطية ومستقلة التفكير وواسعة العلاقات السياسية الداخلية والدولية والمحبوبة شعبيا، كما كان فرج الله الحلو. (والشيء بالشيء يذكر، فحينما اشترك المناضل الشيوعي والنقابي التاريخي المحبوب جماهيريا مصطفى العريس بانتخابات 1953، في ظل عهد شمعون الاسود، ونال كمية كبيرة من الاصوات، اكثر بكثير مما يمكن ان يناله الحزب، جرت "قصقصة جوانح" مصطفى العريس نقابيا وحزبيا. وقد سمعت بنفسي الرفيق "الكلي الاحترام" ص.ص. يقول حرفيا، لتبرير "المعاقبة" الحزبية لمصطفى العريس: "لا يجوز لرفيق فرد ان تكون شعبيته اكثر من شعبية الحزب").
ـ سنة 1947 كانت ايضا محطة تاريخية في القضية الفلسطينية، حيث في هذه السنة صدر قرار تقسيم فلسطين. على ما اذكر، بالسماع، انه قبل شهر من صدور القرار، وكان موضوع التقسيم قيد البحث المحموم اقليميا ودوليا، اصدرت القيادة الحزبية في لبنان، اي بمسؤولية فرج الله الحلو، بيانا تعارض فيه التقسيم. وبعد شهر، او اكثر او اقل، صدر قرار التقسيم، بموافقة ستالين العظيم (الذي كان، من جهة، يطبق اتفاقات يالطا، ومن جهة ثانية يحاول ان "يلغم" فلسطين بالشيوعيين اليهود من اوربا الشرقية، الذين جاؤوا كلهم الى فلسطين بقرارات حزبية وحكومية، وحتى بالسلاح التشيكي وغيره، من اجل اقامة "اسرائيل دمقراطية" (متعاطفة مع الاتحاد السوفياتي او حتى اشتراكية) بوجه الانظمة الرجعية العربية وضد عدوه اللدود العجوز تشرشل. ولكن الدجاجة الصهيونية احتضنت الصيصان الستالينية، واكلت قمحها، وباضت في مكانها الطبيعي مع الغرب الامبريالي). وكانت هذه المخالفة لـ"الارادة السنية" بمثابة "نقطة سوداء" لا تمحى في "الاضبارة السوفياتية" لفرج الله الحلو، وضربة قاضية بالنسبة لمستقبله الحزبي. فابعد من قيادة الحزب، وانزل الى مستوى عضو عادي. وصدر بيان حزبي جديد بتأييد التقسيم. وللاسف، وهذا رأيي الشخصي، ان فرج الله الحلو لم يخرج حينذاك من تحت الوصاية القسرية لبكداش على الحزب، ويقف علنا مدافعا عن صحة موقفه بمعارضة تقسيم فلسطين على اساس عنصري. ولو فعل ذلك لشكل نقطة تحول في تاريخ القضية الفلسطينية، والحركة الشيوعية العربية. والان، بعد كل هذه الحروب والدماء و"تخوين الشيوعيين" حينذاك، يتأكد صواب موقف معارضة التقسيم العنصري، ويبدو بوضوح ان مشروع الكيان الاسرائيلي (بالرغم من كل خصوصياته) لا يحمل اي امل حقيقي بالخلاص الانساني المشرف لليهود المضللين انفسهم، وان هذا المشروع، كما كان المشروع الطائفي للكتائب في لبنان، والمشروع العنصري للبيض في افريقيا الجنوبية، يحمل مقومات موته في ذاته. ولا مستقبل لليهود المضللين افضل من مستقبل الجماهير المضللة للكتائب في لبنان، والعنصريين البيض في افريقيا الجنوبية، اي الانضواء تحت سقف حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، بعد هزيمة المشروع الطائفي ـ العنصري للصهيونية. واعتقد ان فرج الله الحلو كان يأمل بتصحيح مواقف الحزب "من الداخل"، ويراهن على عامل الوقت.
ـ في 1959 حينما قررت القيادة الخروشوفية المساعدة على اسقاط الوحدة السورية ـ المصرية، مع الاستفادة من الانحرافات والاخطاء الفادحة خصوصا لاجهزة المخابرات، وبدأت المعركة "الناصرية!" ضد الشيوعيين، ظهر في الحزب اتجاهان: اتجاه يوجه الانتقادات للانحرافات والنواقص من موقع الحرص على الوحدة، وكان يمثله بشكل خاص فرج الله الحلو. وهو، حسبما اعلم، كاتب المقالة، بهذه الروح، التي صدرت في ذلك الوقت في جريدة "الاخبار" الاسبوعية بعنوان "من مواطن لبناني الى الرئيس عبدالناصر" (على ما اذكر). والاتجاه الثاني مثله خالد بكداش، الذي اتجه الى "كسر الجرة" نهائيا مع عبدالناصر، وعبر عنه بشكل خاص خطابه في مؤتمر حزب العمل في كوريا الشمالية، والذي سمى فيه عبدالناصر بأنه "عميل للامبريالية من نوع جديد". ومن الواضح ان اتجاه فرج الله الحلو، هو الذي كان يمثل الرأي الشيوعي الحصيف المستقل، الصديق الحقيقي للاتحاد السوفياتي، لانه ليس من مصلحة الشعوب السوفياتية اضعاف الحركة الوطنية والقومية العربية، عن طريق تسعير النزاعات داخلها، وتقويض دولة الوحدة، وضرب "القوميين" بالشيوعيين، بل على العكس تماما. اما الاتجاه الثاني فكان يمثل الاتجاه الذيلي، الضيق الافق، الذي يفكر بكل شيء من خلال "مصلحة الحزب" حسبما تراها القيادة البكداشية الفردية ومراجعها السوفياتية.
لقد كانت هذه هي المرة الثانية للتصادم بين اتجاه بكداش، المدعوم سوفياتيا، واتجاه فرج الله الحلو، و"النقطة السوداء" الثانية في الاضبارة السوفياتية لفرج الله الحلو. ومثلما ازيح من قيادة الحزب في 1947، كان من الحتمي ان "يزاح" فرج الله هذه المرة ايضا. وقد ازيح فعلا بطريقة مخابراتية ـ سياسية "ذكية" تضرب عصفورين بحجر:
الاول ـ التخلص من طرحه القومي، الشيوعي المستقل.
والثاني ـ استخدام التضحية به، كقميص عثمان، ضد عبدالناصر، لتأليب العالم الدمقراطي كله ضده، استنادا الى الشخصية المعروفة لفرج الله الحلو.
لا يستنتج من هذا الكلام الجزم بأنه كانت هناك مؤامرة من قبل الرفيق خالد بكداش لقتل فرج الله الحلو. ولكن يمكن الاستنتاج انه كانت توجد نية مبيتة لزج فرج الله الحلو في "الاتون السوري" حينذاك، مع "ادراك" مسبق بأنه سيعتقل. فيكون اعتقاله مناسبة لشن حملة دولية طويلة الامد ضد عبدالناصر، وهذا ما جرى فعلا.
وهنا لا بد من بعض الملاحظات المثيرة للتساؤل:
ـ ان الشهيد فرج الله الحلو، وكان يعاني مرضا في القلب، لم يحتمل التعذيب الوحشي الذي تعرض لـه، وتوفي (حسبما اذكر عما ذكر) بعد 16 ساعة من اعتقاله. ومن غير المعقول ان قيادة بكداش، والمخابرات السوفياتية، لم تعرف بموته في حينه، او بعد ايام على ابعد تقدير. ومع ذلك جرى خداع الحزب والعالم بأن فرج الله الحلو لا يزال معتقلا، وذلك من اجل كسب الوقت الكافي لتنظيم الحملة الدولية ضد عبدالناصر، تحت حجة المطالبة بالافراج عنه. ولو اعلنت وفاته، لقامت حملة احتجاج قصيرة الامد لن تفي بالغرض. كما ان الاعلان عن اعتقاله ووفاته فور وصوله الى سوريا، كان سيمثل صدمة اكبر والتساؤل لدى الكوادر والقواعد الحزبية عن سبب ارساله بهذا الشكل المتهور الى فخ منصوب سلفا.
وبعد الاعلان عن استشهاد فرج الله الحلو، استخدم موته ذريعة جديدة لتسعير الحملة على عبدالناصر ودولة الوحدة وتأييد الانفصال. وبالطبع جرت احتفالات التأبين في كل انحاء العالم، وطمست نهائيا مسألة المسؤولية الحزبية عن "تسهيل " تصفيته الاجرامية على ايدي جلادي عبدالحميد السراج، الذين تولوا خنق هذا الصوت القومي الصادق والشيوعي الحر، الذي كان يمثل ضمانة كبرى للقضية القومية ومبدأ الوحدة العربية.
ان الغالبية من اعضاء وكوادر الحزب الشيوعي في لبنان وسوريا قد تمسكوا بالتسمية الشيوعية للحزب. وهذه ليست مسألة شكلية ابدا، بل نقطة ايجابية تاريخية تسجل لهم، وتعبر عن عدم الخضوع لموجة الردة التي اطلقتها البيريسترويكا المشوهة المشؤومة. وهي تدل على اصالة الحزب، المعززة بالتضحيات الجسام، والمرتكزة الى عراقة الفكر الاشتراكي العلمي في لبنان والبلاد العربية، بالرغم من كل التشوهات التي تعرضت لها الحركة الشيوعية تاريخيا، على يد الستالينية والتحريفية والنسخية والذيلية.
وان المراجعة الصادقة والشاملة لتاريخ الحركة الشيوعية ليست ضرورة حزبية ووطنية وقومية وحسب، بل هي ضرورة مجتمعية انسانية شاملة، لأن المجتمع البشري لن يصلح، وحسب تعبير امين الريحاني، الا "بأن يتبلشف". ولكن كي "يتبلشف" ينبغي اصلاح الحركة الشيوعية ذاتها وتسديد مسيرتها، استنادا الى التجربة التاريخية الغنية. وعملية المراجعة الذاتية، والنقد الذاتي البناء، والاصلاح الذاتي، ليست ابدا مسألة تشهيرات، شخصية، او حلقية، او فيما بين حزبية، ضيقة، بل هي، اولا واخيرا، مسألة صراع طبقي ووطني وقومي وانساني، كي تعود الحركة الشيوعية والاشتراكية الحقيقية لأخذ دورها الحتمي، جنبا الى جنب جميع القوى الخيرة والشريفة الاخرى، بوصفها المنقذ التاريخي للمجتمع البشري من الرأسمالية المتوحشة والامبريالية المعولمة، التي تهدد الانسانية باسرها بالعبودية او الدمار.
وكوادر شيوعية مناضلة ومثقفة مثل جورج حاوي وكريم مروة ونديم عبدالصمد كانوا "في داخل المطبخ"، ويعرفون الكثير الكثير، تقع عليهم مسؤولية تاريخية لـ"نبش الملفات"، والحديث في القضايا الجوهرية المتعلقة بالحركة الشيوعية، وليس فقط الاكتفاء بالتحليلات شبه الجانبية التي يمكن ان يقوم بها اي "مفسـّر" للتاريخ واي مراقب دمقراطي "ضفافي" وجانبي. وهذا اذا كانوا يحرصون فعلا، لا بالنوايا الطيبة فقط، على شيوعيتهم، وعلى مصداقية الحركة الشيوعية ومستقبلها.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ* كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النظام الدولي المختل والدور التاريخي العتيد للمثلث الشرقي ال ...
- رد الى صديق كردي
- المحكمة الدولية ضرورة وطنية لبنانية وضمانة اولا لحزب الله
- المخاطر الحقيقية للوصاية على لبنان والمسؤولية الوطنية الاساس ...
- حزب الله: الهدف الاخير للخطة -الشيطانية- لتدمير لبنان
- ؛؛الوفاق الوطني؛؛ اللبناني ... الى أين؟؟
- ماذا يراد من لبنان الجديد في الشرق الاوسط الكبير الاميرك ...
- -الفأر الميت- للمعارضة السورية
- العالم العربي والاسلامي ودعوة ديميتروف لاقامة الجبهة الموحدة ...
- هل تنجح خطة فرض تركيا وصيا اميركيا على البلاد العربية انطلاق ...
- الحرب الباردة مستمرة بأشكال جديدة بين -الامبراطورية- الروسية ...
- حرب الافيون العالمية الاولى في القرن 21: محاولة السيطرة على ...
- هل يجري تحضير لبنان لحكم دكتاتوري -منقذ!-؟
- أسئلة عبثية في مسرح اللامعقول
- الجنبلاطية والحزب التقدمي الاشتراكي
- وليد جنبلاط: الرقم الاصعب في المعادلة اللبنانية الصعبة
- القيادة الوطنية الجنبلاطية والنظام الدكتاتوري السوري
- القضية الارمنية
- سوريا الى أين؟
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق2


المزيد.....




- الرد الإسرائيلي على إيران: غانتس وغالانت... من هم أعضاء مجلس ...
- بعد الأمطار الغزيرة في الإمارات.. وسيم يوسف يرد على -أهل الح ...
- لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا ...
- ما حجم الأضرار في قاعدة جوية بإيران استهدفها هجوم إسرائيلي م ...
- باحث إسرائيلي: تل أبيب حاولت شن هجوم كبير على إيران لكنها فش ...
- ستولتنبيرغ: دول الناتو وافقت على تزويد أوكرانيا بالمزيد من أ ...
- أوربان يحذر الاتحاد الأوروبي من لعب بالنار قد يقود أوروبا إل ...
- فضيحة صحية في بريطانيا: استخدام أطفال كـ-فئران تجارب- عبر تع ...
- ماذا نعرف عن منشأة نطنز النووية التي أكد مسؤولون إيرانيون سل ...
- المخابرات الأمريكية: أوكرانيا قد تخسر الحرب بحلول نهاية عام ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - من هم المرتدون الذين سيحاكمون لينين؟ كريم مروة واصحابه نموذجا!!