أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السيد عبد الله سالم - هلال ...........هلال - رواية - الفصل السادس















المزيد.....


هلال ...........هلال - رواية - الفصل السادس


السيد عبد الله سالم

الحوار المتمدن-العدد: 5624 - 2017 / 8 / 29 - 01:33
المحور: الادب والفن
    


(6)

مرَّت الأيام سريعةً، وحان وقت رحيل القافلة الجديدة إلى العراق وبلاد فارس، وفي السوق الذي امتلأ بالناس من المسافرين والتجار، يودع بعضهم بعضًا، ويوصي بعضهم بعضًا، وهلال الحمال وصديقاه في مجلس التجار والأعيان؛ يُتمون اللمسات الأخيرة للأموال والبضائع التي ستحملها القافلة، وكل تاجر يتأكد من الصك الذي يحمل خاتم هلال الحمال، والذي يفيد بحجم أموال التاجر وبضائعه التي قد تسلمها هلال منه، ونسبة هلال في الربح الذي ستجلبه الأموال والبضائع.
وعند انتصاف الليل، كان كل شيءٍ معدًّا لبدء الرحلةِ، فوقف هلال على رأس القافلة، وراح ينادي:
- على بركة الله نسير.
وردد الحرس والخدم في كل أنحاء القافلة:
- على بركة الله نسير.
وبدأت القافلة رحلتها ناحية العراق وفارس، وبدا سوق المدينة خاويًا على عرشهِ بعد أن غادرته القافلة.
في شرفة القصر، وقف الوالي ينظر بإعجاب شديدٍ للقافلة، وما تحمله من أموالٍ وبضائع، وساوره شعورٌ بالخوف على هذه القافلة التي تحمل جمَّ أموال المدينة وبضائعها، وهو الذي أوصى الناس بالمشاركة في هذه القافلة، لتكون أكبر قافلة تخرج من المدينة وهي تحت ولايته، وراح القلق يتسرب إلى نفسه، فالخراب يمكن أن يعمَّ المدينة، إذا ما تعرضت هذه القافلة لأي مكروهٍ، ولكنه عاد فطمأن نفسه، وراح يقول:
- خير إنشاء الله، أعوذ بالله من وسوسة الشيطان.
قالها والقافلة قد اختفت عن ناظريهِ، إلى قلب الصحراء الشرقية المتاخمة للمدينة، ودخل إلى قصره، يدعو الله ويسبح بحمده.
سارت القافلة في بحرٍ من الرمال لا آخر له، وكثبان الرمل قد طالت قامتها، فأخفت عن العيون كلَّ ما عداها، فلا أثر لزرع ولا حيوان، وبدا السراب من بعيد يُمنِّي الألسن الظامئةَ بجرعة ماء، والكون من حول القافلة فسيحٌ، بلا هدف ولا معنى، والسماءُ قد فتحت أبواب جهنم على الأرض، لتكوي الرمالَ؛ فتلتهبُ، وتتحول الأرض إلى جمراتٍ، لا يطيقها أقدام المترجلين، فلفوا أرجلهم بالجلد، وخفَّت حركتهم فوق الأرض، فكانوا على الأرض كالطير؛ وصوت الحادي قد خفت لجفاف الحلق، ورتابة الخطو، فكلُّ شيءٍ هاهنا يُشبهُ بعضه بعضًا، فلا تعرف حبَّةَ رملٍ من أخرى، ولا رجل من آخر، فالجميع تقنعوا، والهواء الساخن يلفحُ العيونَ، فلا تبصر إلا الصفرةَ، والخوف من المختفي وراء الكثبان في كل مكان.
في تلك الصحراء الممتدة بين المدينة، وأرض العراق؛ تشعر كأنك حبةَ رملٍ في عاصفةٍ هوجاء، ويتمكن منك شعورٌ بالرهبة والخوف من مجاهل تلك الصحراء ومخاطرها، ورمالها المتحركةِ، كل هذا يجعل من أمهر دليلٍ من الأعراب يشعر بالخوف من دروبها، ومسالكها التي تتغير بين الفينة والأخرى.
تلك الصحراء القاحلة بقسوتها، قد تصير في لحظةٍ عاصفةً من الرمال، لا تُبقي ولا تذرْ، وتقضي على كل مَا يُقابلها، فمضارب البدو قليلة، وعيون الماء فيها شحيحة.
- فاحذر كل الحذر يا هلال!!
هذا ما قاله هلال لنفسه، وهو تحت وطأة الهجير، يعيد على نفسه الخطة التي أعدها لمواجهة أية عواصف رملية قد تواجه القافلة، ومن حين لآخر يتوجه لدليله يسأله، ويتأكد من الطريق، وكيف يهتدي هذا الأعرابي إلى طريقه في وسط كل هذه الرمال، والأعرابي قليل الكلام، ضئيل الحجم، واسع المعرفة في علوم الفلك ومواقع الشمس والنجوم، يعرف الآبار والعيون، وكثبان الرمال الثابتة، والمتحركة، والقليل من الهضاب الصخرية التي ترسم أشكالاً حفظها الأعرابي جيدًا؛ ليظل في طريقه، لا يضل ولا يضيع.
وصادق الأعرج قد لزم مؤخرة القافلة، يتتبع مَنْ تأخر من ركابها، ومَنْ مرض، يعطي هذا الماء، ويرفع عن كاهل هذا الحمل الثقيل، ويرتب لهذا متاعه، ويأمر الحرس أن يتيقظوا ويتتبعوا كل ما يثير الريبة والخوف، وعينه لا تغفل عن الصعلوك الذي استأجروه كي يصبح من ضمن حراس القافلة.
كان الفتى همام، أحد صعاليك عصابة ميمون الأصفر، قوي الشكيمة، شجاعًا، لا يهاب الموت، وكأن قلبه قد قدَّ من صخر، عليه من قسوة الصحراء جفاف طبعها، وفيه من المدينة جمالها، إذ كان وسيمًا بهيَّ الطلعة، يحسن هندامه فيبدو للناس كأحد فرسان الأشراف، واثقًا من نفسهِ معتزًّا بها، وكان يرى في نفسهِ أنه الأولى بزعامة عصابة وادي الغيلان، لولا حداثة سنه، التي جعلته من المبعدين عن الزعامة كثيرًا، وكم من مرَّةٍ ساورته نفسه، أن يتخلص من ميمون الأصفر، و يقفز إلى زعامة العصابة، ولكنه سرعان ما يعود إلى ما كان فيه، حتى تحين الفرصة ويحقق ما يصبو إليهِ، ووجد في هذه المهمة التي كلفه بها ميمون فرصة لكي يصنع لنفسهِ تاريخًا بين أفراد العصابة، ومجدًا له يحاول من خلالهِ أن يستولي على العصابة، فبذل من الجهد مع صادق الأعرج ليثبت له أنه الأجدر بتولي المسائل الجسام في حراسة القافلة، وحاول أن يكون دومًا قريبًا منه، وصادق ولأن أُعجب بالفتى همام، فقد سرَّه أن يكون موجودًا بقربهِ، ليسهل عليه مراقبته.
مرَّت الأيام الأولى على القافلة صعبة، ولكن بلا خسائر ولا مشاكل ذات قيمة، وفي نهاية الأسبوع الثاني وكانت القافلة قد توغلت في الصحراء، وبدأ الماء ينفذ من بعض الركاب، وبدا الإعياء على بعضهم وخاصة النساء والأطفال وكبار السن، مما زاد من العبء على حرس القافلة، ورجالها، و سعدون الحطاب صار شعلةً من الحماسة والنشاط، وكان هلال قد كلفه بقلب القافلة، لا يفارقه أبدًا، ورعاية الخيل والجمال التي تحمل الزاد وماء، وتوزيعه بعدالة دون شحٍ أو إسراف، وعندما أحس بقرب نفاذ الماء، توجه إلى هلال وأخبره بذلك، وهلال بدوره توجه إلى الأعرابي يسأله عن عين الماء التي ينتظرونها، للراحة والتزود بالماء اللازم للقافلة، فطمأنه الأعرابي:
- مساء غد نصل للعين.
ولم يأت مساء الغد إلا وكانت القافلة قد حطت رحالها بجوار عين الماء وحولها من النخيل ما يكفي ليستظل به الركب، فحطوا رحالهم، وقضوا ليلتهم بجوار العين، يشربون وتشرب الحيوانات التي معهم، و يخزنون الماء، وفي الصباح عندما أحس هلال بوجود الكثيرين من المرضى في القافلة، أمر الخدم أن يقدموا لهم يد المساعدة، وأمر أن تستريح القافلة يومًا آخر بجوار عين الماء.
وهلال رغم كل تلك المصاعب، لا يألو جهدًا في التسرية عن الركب، بمجالس السمر والشواء، وحكاياته عن مصارعة قافلة الذئاب والأسد في وادي الغيلان، وكلما سكت استزاده الناس، فحكى وأفرط في الشرح والتفسير، وبالغ في الوصف والتقدير، ولم ينس هلال أن يجهز بساطًا للمصارعة، يتصارع فيه الرجال من الركاب ومن حرس القافلة، وفي أخر الليل يطلبه الناس ليصارع، فلا يتردد في المشاركة، حتى يسعد جميع مَن بالقافلة، ويحظى هو بهتافات الناس:
- هلال مصارع الأسود.
بعدها سارت القافلة في الصحراء على بركة الله، واستطاعوا أن يعبروا الكثير من الدروب الصعبة، والخطيرة، مرت عدة أسابيع والقافلة تتهادى بخفة تحت الشمس الحارقة، بفضل حكمة هلال، وسرعة بديهة صادق الأعرج، وخفة سعدون الحطاب، وأصبحت في قلب بحر الرمال الكبير، الذي يأخذ ولا يعطي، فيجهز على الأخضر واليابس، وعندما أخبر الدليل هلال بذلك، أمر هلال بعض الرجال أن يرافقوا الأعرابي ويسبقوا القافلة، ليستكشفوا كثبان الرمال المتحركة، ويضعون عليها من العلامات، ما يحذر باقي أفراد القافلة، ويحميهم، وأدى الرجال مهمتهم ببراعة، و الأعرابي دليلهم تفوق على نفسه، وشحذ ذاكرته، فلا يتوه بين الكثبان، ولا يعرض حياة من معه للخطر.
عند الظهيرة بدت علامات العاصفة في الأفق، غمت الشمس واحتجبت، وتغيَّر وجهُ السماءِ فاسودَّتْ، وعربدت الريح فاشتدَّ أزيزها، ورائحة العاصفة قد زكمت أنف الخيول والجمالِ، فرفعت حوافرها عن الأرض، وأشاحت بذيولها، وارتفعت أصواتها واختلطت.
على الفور وصلت الأخبار من الأعرابي من مقدمة القافلة إلى هلال، فدعا المنادي أن ينادي في القافلة بالمبيت، توقفت القافلة في الحال، وجمع هلال الحرس والخدم المرافقين للقافلة، وإلى جواره صديقاه سعدون وصادق، وبدأ هلال يوزع المهام على الرجال لمواجهة العاصفة الرملية، فأمر أن تدق الأعمدة إلى عمق كبير خلف أحد الكثبان الرملية العالية، وتشد منها الحبال للأوتاد، وتوضع الخيام عليها متفرقةً، وأن تدفن أطرافها في الرمال، ومن الأعمدة تخرج الحبال إلى وسط الخيمة، ويشد إليه المتاع والأشخاص، وشدد على الخيام التي تحوي المؤن من ماءٍ وطعام، ووكل حراستها إلى صادق الأعرج ومن معه من الرجال وعلى رأسهم الفتى همام، وأمر بأن تجمع الخيل وحدها والجمال وحدها، وأن تكون الجمال هي أول من يواجه العاصفة، والخيل في مؤخرة القافلة، ووكل حراستها إلى سعدون الحطاب.
وبدأ الجميع يعمل ليسابقوا الوقت، قبل أن تدهمهم العاصفة وتطيح بهم، وهلال يعمل بيديه كباقي الرجال، والأعرابي يروح ويجيءُ بين مقدمة القافلة والمؤخرة، يحث الرجال ويشجعهم على العمل، وقبل العاصفة كان كل شيءٍ في مكانهِ كما خطط لهُ هلال، واطمأن هلال على كل عامود خيمة بنفسه، ثم توجه إلى قلب معسكره، حيث أقام لنفسه عامودًا بلا خيمة، وشد الحبل حول خصره، وعيناه تجولان بين الخيام، حتى غطت الرمال كل ما حوله، فما عاد يستطيع أن يرى.
ضاقت الأنفاسُ، ووجبت القلوب، واهتزت الخيام، وصهلت الخيول، والجمال راحت ترفع رأسها عاليةً، تبحث عن منفذ بعيد عن الرمال، وماجت الرياح تحمل الرمال إلى لا مكان، ولا زمان.
في خيمته كان صادق الأعرج له عينان، عينٌ تراقب المؤنَ، وعينٌ تراقب همام، وعندما كانت العاصفة على أشدها، والرؤية أصبحت شبه مستحيلة، أحس صادق بحركة غير طبيعية في الخيمة، فراح ينصت وينصتُ، ويبعد الرمال عن عينيه علَّهُ يستطيع أن يرى شيئًا، فلمح خيال رجل، قد راح يزحف على بطنه ناحية مؤن الماء، وسمع صوتًا كأنه الماء ينسكبُ على الأرض، فجمع كل قواه، وأفلت الحبل قليلاً من حول خصرهِ، وراح يزحف جهة الخيال، فإذا بقدمه تعثر في أحد الحبال، فتبع الحبل حتى وجد الرجل الذي لف الحبل حول خصره، جذب الحبل ليبعد الرجل عن الماء، فأحس بهِ همام، وأفلت الحبل من حول خصره، فقذفت به الريح بعيدًا عن الخيمة، ورأى صادق الأعرج الخيال كأنهُ حبة رمل تدحرجها الرياح على الأرض، إلى حيث لا يدري.
حاول صادق أن يصل إلى مكان المؤن، ليطمئن عليها، ولكن طول الحبل لم يسعفه، فعاد أدراجه إلى خيمته، وأعاد الحبل إلى موضعهِ، وقلبه قد ملأه الخوف على الماء الذي قد فقدهُ، و القلق من الرجل الذي دحرجته العاصفة.
في هذه الأثناء كان سعدون قد شدَّ وثاق الخيل إلى الأعمدة والأوتاد؛ كي لا تهرب أثناء العاصفة أو تضيع مع الرياح، وشدَّ نفسه مع الخيل، فإن ضاعت ضاع معها، وكلما اشتدت العاصفة؛ طار صواب الخيل، وحاولت الفكاك من قيدها، و سعدون بين أرجل الخيل كواحد منها، يقفز من هنا إلى هناك، ومن فوق ظهر هذا الفرس إلى الفرس الآخر، لتهدأ وتثبت في العاصفة، يشد الحبل على خصره حينًا، وحينًا يطيل الحبل لتسهل حركتهُ، و بينما هو منهمك في الحفاظ على سلامة الخيل، إذا بهِ يجد جسدًا آدميًّا قد تكور تحت رجليه، وتحت أرجل الخيل، فجذبه لليمين ثم للأعلى، يفادي رفسة الفرس، وأخذه بين ذراعيه، وخلع عمامته ولفها حول خصره.
ظلت العاصفة عدة ساعات، وبدت في الأفق الغربي الشمس واهنةً وحزينة، وهبَّت على الوجوه نسمةٌ باردةٌ، وتساقطت قطرات المطر، تغسل الوجوه من الرمل، وتمسح الخوف من القلوب، وعلى استحياء ووجل بدأ الرجال من حرس القافلة وخدمها يتخلصون من الحبال، وينتشرون بين الخيام يساعدون الركاب على التخلص من الحبال التي تقيدهم، ويراجعون سلامة الركاب، وأموالهم وبضائعهم.
وهلال أول الذين تحرروا من حبالهم، وراح كالغزال يقفز من خيمة لأخرى، يطمئن، ويسأل عن كل فرد من الركاب، يحمل قربة ماءٍ يسقي مَنْ هده العطش، كل هذا وهو يعطي أوامره للمنادي أن تضرب النار، وتقام الخيام، وينادي طبيب القافلة كي يعود المرضى والمصابين، وكبار السن، والجميع في رضٍا ينفذُ الأوامرَ.
بعد أن رتب كل شيءٍ للمبيت، ترك الخدم يعدون الطعام، وتوجه ناحية صادق الأعرج، فوجده واقفًا على رأس الخيمة التي بها المؤن والماء، وعلى وجهه علامات الحزن والضيق، فتسرب القلق إلى فؤاده، وجالت عينه في الخيمة، فوجد بعض الماء على الأرض، والكثير من قرب الماء قد شقت وتمزق جلدها، فنظر ناحية صديقه يسأله، فزفر زفرة طويلة:
- فقدنا بعض الماء، أحد الرجال حاول الفتك بنا.
كست علامات الغضب وجه هلال:
- مَنْ يا صادق؟
جذب هلال الأعرابي من يده بعيدًا عن عيون الناس، وسأله:
- كم نبعد عن أقرب عين ماء؟
فأجابه الأعرابي والقلق قد غطى ملامحه:
- مسيرة أربعة أيام. لماذا!
- فقدنا بعض الماء في العاصفة. عندنا ما يكفي ثلاثة أيام.
قال هلال ذلك وعلى الفور راح يعيد تقسيم الماء على الأيام، وعلى الموجودين بالقافلة، فالمرضى والنساء والأطفال تظل حصصهم كما هي، وتحرم الجمال من الماء يومًا كاملاً، والخيل تحصل على نصف ما كان لها من الماء، وكذلك الرجال والحرس والخدم، ويمنع استخدام الماء إلا للشرب فقط، وعلى الفور أعلن ذلك لصادق الأعرج الذي أجرى حسابا سريعًا لحصص الماء، وأومأ برأسه لهلال:
- إنشاء الله سيكفينا الماء.
وجمع صادق ما بقي من جلد القرب الممزقة وراح يخيطها بسرعة ويصنع منها ما يشبه القراطيس، وراح يضعها على مسارب ماء المطر، عند قاعدة التل الرملي، الذي خيموا بجواره، ووضع على فوَّهة كل قرطاس قطعة من القماش الحريري، ليحجب دخول الرمل في القرطاس، وجلس إلى جوارها يفكرُ، ويستعيد الأحداث التي جرت له أثناء العاصفة، ويحاول أن يتذكر شكل الرجل، أو هيئته، لعله يستطيع أن يهتدي إلى الفاعل المجرم.
لم يطل المقام بصادق وهو على هذه الحالة، إذ جاءه مَنْ يستدعيهِ من قبل هلال، وجنب حلقة الشواء وجد هلال جالسًا وبجواره سعدون الحطاب، وأحد الحرس ، والأعرابي دليلهم في الصحراء، و سعدون يحكي عما حدث له أثناء العاصفة، والرجل الذي سلمه فور العاصفة للخدم للعناية به بعد أن أنقذه، وهبَّ صادق واقفًا:
- إنه المجرم الذي أراد الفتك بالماء، أين هو؟
وعلى الفور توجه الجميع إلى خيمة المرضى يسألون عن المصاب فلم يجدوه، وأخبرهم أحد المرضى، أن الرجل المقنع قد غادر الخيمة منذ قليل، والقناع الذي على وجهه يخفي شخصيته.
حار الجميع في أمر هذا الرجل، وراحوا يضربون أخماسًا في أسداس، وصادق قد عزم على أن يكشف هوية هذا الشخص إن عاجلاً أم آجلاً.
قضى الجميع ليلتهم في هدوءٍ حذر، فأحداث العاصفة قد تركت أثرًا سيئًا في نفوس الجميع، وحاول هلال أن يخفف من أوجاع من حوله، فدعا لحلقة سمر على الشواء، وجلس في منتصف الحلقة، يسمع ويحكي، يسأل ويجيب، ولكن الحلقة قد فرغت سريعًا من أصحابها، فقد تسلل الجميع إلى خيامهم للنوم والراحة تاركين الأصدقاء الثلاثة، يدبرون أمر الغد واحتياجات القافلة من الماء، وسر الرجل الغامض المقنع الذي حاول أن يحرم كل القافلة من مخزون الماء، وبعد قليل تركهم صادق الأعرج قائلاً:
- سأذهب لأرى همام!.
ذهب همام إلى حيث كلف همام بالمناوبة في حراسة القافلة، فوجده واقفًا يتدلى سيفه من خصره، وإن بدت عليه علامات الإرهاق والتعب، سلم عليه صادق الأعرج، وسأله عن حاله، وحال القافلة، فأجابه بثقةٍ في كلماتٍ وجيزة، تركه صادق ومضى دون أن يشير إلى أحداث الليلة الماضية، عند خيمة المؤن والماء، مما جعل همام يشعر بالقلق، وعاهد نفسه بالحذر في الأيام القادمة.
ظل المطر طوال الليل، كان قليلاً ولكنه كان مستمرًا بلا توقف، وفي الصباح كانت الخيل والجمال قد استعادت نشاطها، وقليل المطر قد غسل أجسادها من الرمال التي غطتها أثناء العاصفة، هم الرجال يعدون القافلة لاستكمال الرحلة، وأول شيءٍ فعله صادق في الصباح أن ناظر القراطيس التي وضعها لجمع الماء، فوجد أكثرها قد امتلأ بالماء العذب النظيف، فحسب كميته وأمر بحفظه مع بقية الماء، وتوجه إلى هلال وأخبره عما فعله وأن مخزون الماء قد ارتفع مرَّةً أخرى، وبقليل من التدبير، نستطيع التغلب على مشكلة الماء، شكره هلال على ذلك، ونبهها بضرورة الكشف عن الخائن الذي فعل تلك الجريمة، أومأ صادق لهُ بالإيجاب، وقبل أن ينادي هلال ببدء الرحلة قفز صادق و سعدون إلى حيث يجب أن يكونوا:
- على بركة الله نسير.
مضت القافلة لا تلوي على شيءٍ، والجميع يحثُّ السير كي تدرك القافلة عين الماء قبل الأيام الأربعة، وحرم هلال نفسه ومَن يقدر من الرجال من الماء، إلا ما يقيم الأود ويحفظ الحياة، وانشغل صادق الأعرج بتدبير خطة محكمة كي يكشف الخائن بين رجال القافلة، وركز جلَّ اهتمامه على الحرس، وخاصةً الذين كانوا معهُ مكلَّفين بحراسة المؤن، وأصابع الشك كلها تشير إلى همام.
بعد الأيام الأربعة وصلت القافلة إلى عين الماء، ونزل الركاب وبدأ تنظيم المخيم للمبيت، وتوجه صادق إلى هلال يرجوه أن يطيل المبيت بجوار العين ليلةً أو ليلتين، حتى يكشف ستر الخائن، ورغم الوقت الذي أهدرته القافلة في مبيتها بجوار عين الماء الأولى، والوقت الذي ضاع بسبب العاصفة التي تعرضت لها القافلة.
اجتمع الأصدقاء الثلاثة، ليعرض صادق عليهم تفاصيل خطته، وناقشوه فيها، واستقر رأيهم على ما سيفعلون، وانصرفوا، كلُّ إلى وجهتهِ، والعزم بادٍ على وجوههم.
منذ الصباح بدأ صادق و سعدون يعدون الحلقة للمصارعة، وينادون في القافلة أن اليوم ستبدأ مسابقة في المصارعة بين جميع رجال القافلة، ومن يفوز بها ستكون جائزته عقدًا من اللؤلؤ، غالي القيمة، وعلى مَنْ يرغب في المشاركة، فليتقدم ويسجل اسمه مع هلال الحمَّال، وعلى عامودٍ قريبٍ من حلقة المصارعة؛ تم وضع العقد الثمين ليراه الجميع، وكان على رأس المشاركين سعدون الحطاب، وهلال الحمَّال، والفتى همام.
بعد الظهيرة، ونسمات الهواء الباردة قد طالت أشجار النخيل حول العين، فرقصت غصونها، وجلست جاريةٌ تنشد من الأغاني ما يهزَّ الوجدان، ودبَّ النشاط بين الرجال، فتوافدوا إلى حلقة المصارعة، فمنهم المشارك في المسابقة، ومنهم مَنْ جاء للفرجة والتسلية، ورؤية مصارعة هلال مصارع الأسود، وفي الطرف الآخر من الحلقة، جلست النساء تحت العامود المعلَّق عليهِ العقد، الذي لمع تحت أشعةِ الشمس التي تسربت من بين غصون النخل، وألقت جمالها على العقد، فطمعت فيه النساء، والرجال.
وعلى البساط الأخضر في قلب حلقة المصارعة، وقف صادق الأعرج ليكون حكمًا ومناديًا بين المصارعين، وبدأت المصارعة، وعلا هتاف المتفرجين، وكلما طرح أحد المصارعين مصارعًا على الأرض، صرخ صادق الأعرج باسم الفائز، واحتضنهُ، ورفع المغلوب من على الأرض، وأجلسه إلى جوار الأعرابي دليل القافلة، وبينما هو يفعل ذلك يتأمل جسد المصارعين واحدًا واحدًا، وبعناية شديدة، وكذلك يفعل سعدون من مكانهِ، ومثلهما هلال يفتش في خصر المصارعين من حوله، الثلاثة يبحثون عن أثار الحبل، وجرجرة الجسد على الرمال أثناء العاصفة، وكان صادق يكرس جلَّ انتباهه ناحية همام، وجاءت اللحظة الحاسمة، وكانت المصارعة القادمة ما بين هلال والفتى همام، فتقدم منه هلال، وناوشه في وجهه، ثم قفز عليهِ بخفة فهدٍ، و خطف رقبتهُ، وثناها تحت إبطهِ، ودفع قدمه من الخلف بقدمهِ، فسقط همام على الأرض، وتقدم منه صادق وجذب الشال الملفوف على خصره، فبانت علامات الجرجرة وآثار الخدوش، فتأكد الثلاثة من فعلة همام، وكاد صادق أن يفتك بهِ لولا أن أشار له هلال أن يتركه الآن.



#السيد_عبد_الله_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هلال ...........هلال - رواية - الفصل الرابع
- هلال ...........هلال - رواية - الفصل الخامس
- هلال ...........هلال - رواية - الفصل الثالث
- هلال ...........هلال - رواية - الفصل الثاني
- هلال ...........هلال - رواية - الفصل الأول
- أوراق الظنون
- الجلباب الأزرق - قصة قصيرة
- رحلة تغريد على أطراف أصابعها - قصيدة نثر
- بلل الرمش بالدمع
- جادك الغيث
- فقد حدث
- دائرة الدوائر
- اللغة الحية أنت
- يوم الوصل
- ليلة أن جاءني القمر
- غابة ينسون
- التكعيبة
- فقه اللحظة
- فجر الحقيقة
- رجال على الممر - قصة قصيرة


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السيد عبد الله سالم - هلال ...........هلال - رواية - الفصل السادس