أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - بر الأمان















المزيد.....

بر الأمان


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 5615 - 2017 / 8 / 20 - 03:05
المحور: الادب والفن
    


رأيته للمرة الأولى قبل أشهر وعرضت خدماتي لمساعدته بأن أترجم له لدى المكاتب التي يراجعها من العربية إلى الإنكليزية وبالعكس لكنه شكرني واعتذر موضحاً أنه يتكلم الإنكليزية التي تعلمها في المدرسة والجامعة حيث درس الأدب الإنكليزي وكان متابعاً لبرامج البي بي سي التعليمية. كان مليئاً بالتفاؤل ويستعد لبدء حياة أخرى غير تلك التي خبرها منذ ولادته في الشرق الأوسط وتركها وراءه. حينها كلمني وهو يريد أن يدفن الماضي ويرعرع الحاضر والمستقبل:
"طالت رحلتي لكنني وصلت، نعم وصلت البلاد التي حلمت بها! وصلتها أخيراً، وصلتها بعد مشي أرهقني وأكل من قدمي ومن عمري؛ آلامي الجسدية أصبحت متعددة ولست صغيراً فقد تجاوزت الأربعين في يوم ما أثناء رحلتي التي استمرت ما يقرب من العام، نعم طالت وأنا أتنقل مشياً مرة وركضاُ مرة أخرى، تارة نهاراً وطوراً ليلاً، أركب قارب الموت يوماً وأمشي مع مهرّب البر يوماً آخر، أطعم ذلك الجائع علبة البازلاء الأخيرة مما أعطته لي سيدة في البلقان كانت تبكي وتصرخ لرؤية جموعنا نتعرض للإهانات والعنف ثم أتوسل لمن يطعمني ولو كسرة خبز، أدفع آخر ما بقي معي من الدولارات التي خبأتها بلباسي الداخلي لتاجر البشر العربي الذي كلمني قبل بدء رحلة الهرب معه وبواسطته عن الأخلاق والفضيلة وعن الدين ومخافة الله ومن ثم أمد يدي إلى تلك الكافرة لأحصل منها على ما يسكت جوعي وأنا أعبر من مكان لآخر....لكنني والحمد لله أخيراً وصلت. إنني هنا في مدينة الأحلام، مدينة الضباب، مدينة التبضع، إنني في عاصمة الإمبراطورية التي قرأت أنها كانت يوماً لا تغيب الشمس عن أراضيها...إنني في بلد شكسبير، بلد من قال "نبكي عندما نولد لأننا نأتي إلى بلاد الحمقى هذه"، إنني في العاصمة التي كنت أدير المذياع كل صباح على إذاعتها لأسمع دقات ساعات بيج بن متبوعة بصوت "هنا لندن القسم العرب بهيئة الإذاعة البريطانية" ومن ثم الأخبار. لقد انتهت رحلة العذاب وبدأت رحلة الراحة والطمأنينة، انتهت رحلة الموت وبدأت رحلة الحياة. سأنسى ما ضاع من عمري وسأتذكر فقط أن العمر قد بدأ هنا ومن هذه الساعة...."
بعدها بعدة أشهر قابلته في حديقة الهايدبارك وكان شخصاً مختلفاً، كان كثير الشكوى معبراً عن قلقه ومفصحاً أنه لم يكن يعرف أن لندن التي يراها عن قرب ستكون مختلفة عن تلك التي سمع عنها وهو على بعد. كان يحكي تلك المرة بخيبة أمل عن كل ما يمر به ويقول:
"اليوم على سبيل المثال جئت هذه الحديقة التي سمعت باسمها في كتاب الصف الثاني الإعدادي وقرأت بأن الإنسان يستطيع فيها التعبير عن رأيه بحرية تامة ويقول كل ما يريد دون أن يتعرض له أحد أو يهدده أحد بالاعتقال...في زاوية منها رأيت مجموعة من الأشكال المريضة الملتحية ترفع علم داعش وتقيم الصلاة في الحديقة وتكبر بالصوت العالي...أكرههم ولو أردت أن أراهم في وجهي لبقيت بينهم، لقد تركت بلدي هرباُ من الحرب ومن منغصات أخرى ولكن واحدة منها تصدمني هنا... تأففت وانتقلت لجانب آخر من الحديقة لكنني لم أكن موفقاً فقد رأيت جماعة من الشاذين جنسياً..." قاطعته موضحاً أن هذه التسمية غير صحيحة بمعايير اليوم ومعايير البلد الذي جاء إليه من تلقاء نفسه ليعيش به والمناسب هو أن يسميهم "المثليين أو أحاديي الجنس" ثم خاطبته قائلاً: "يمكنك في مثل هذه الحالة الانتقال إلى جانب آخر من الحديقة لا تراهم به إن لم تستطع تحمل وجودهم! " لكنه لم يحتمل كلامي فصرخ بصوت عال متسائلاً: "وتريدني أن أعطيهم تسميات غير ما أعرفها عنهم..!؟ في البلد يطلقون عليهم اسم الشاذين..إنهم من قوم لوط... بفعلتهم النكراء يهتز عرش السماء، يستحقون القتل والإعدام... لعنهم الله ولعن من لا يلعنهم" هنا لم أشأ أن أتجادل معه أكثر وعرفت أنه لن يتأقلم مع الحياة في بريطانيا بسهولة...فهو مليء بالعقد و يعيش تناقضات غريبة جداً إذ يكره داعش ولكنه يحمل بداخله داعشيته، يعيش بجسده في بلد هرب إليه طواعية وبعقله في بلد هرب منه اضطراراً وقد دفع كل ما امتلك ليتخلص من العيش به؛ إنه يريد لندن على مقاسه ويريدها خاصة به وله حكماً وحصراً... تركته ومشيت.
بعد مضي أشهر قليلة على لقائي الثاني به كنت أراه يومياً في أحد أشهر ساحات لندن دون أن يراني أو يميزني! فأنا أساعد، وبمقابل مالي، سيدة عجوز بدفع كرسيها ذو العجلات إلى هذا المكان الذي تريد أن تتنزه به يومياً قبل جولة أجوب بها الشوارع القريبة والمؤدية من، وإلى، هذه الساحة. أراه وألحظ تخبطات نفسية غريبة. في اليوم الأول شاهدته يأتي مرتدياً بدلة وقميص أبيض وربطة عنق خضراء لامعة ويحمل جواله ويصور الحمام الذي يحط على الأرض ليلتقط ما يرميه زوار الساحة والسياح الذين يرتادونها كان يصور في كل الاتجاهات. في اليوم الذي تلاه رأيته يأتي مرتديا الجينز وقد حمل علبة بيرة بيده كان يقربها من فمه ويأخذ منها رشفة ثم ينظر إلى وجوه البشر من حوله. كان وحيداً. في اليوم الثالث جئت دافعا عربة السيدة العجوز وكان ذلك العربي موجوداً في الساحة من قبل ويتضح أنه لم يغسل وجهه ولم يحلق لحيته وكانت ملابسه قديمة. كان صامتاً يتطلع نحو الأرض مرة ونحو السماء مرة أخرى ثم أخرج من روك ساك بجانبه نسخة من العهد الجديد وراح يمزق صفحاتها وكمن يستفز البشر وينتظر الرد على استفزازاته لكن أحداُ لم ينتبه أو يتوقف عند ما كان يفعله. أعاد العهد الجديد والصفحات الممزقة إلى الروك ساك، وهدأ. بعد دقائق وقف وراح يفك زر بنطاله ويشد سحابه نحو الأسفل وبعدها أنزل البنطال لفوق الركبة بقليل مبيناً منه ما كان مستوراً ثم تحرك بشكل دائري ولكن أحداً لم يدقق فيما كان يفعله. رفع بنطاله وأعاد سحابه نحو الأعلى وزرره من جديد، وهدأ. كنت أتساءل في نفسي أتراه يريد أن يقول شيئاُ؟ أيريد أن يثبت أنه موجود ويعيش؟ أتراه يعاني من الوحدة ويقوم بهذه الحركات ليلفت النظر إليه علّ أحدهم يسأله؟ أتراه يريد أن يستفزهم أم أنه يريد أن يؤكد وجوده؟ أيفعل ذلك وهو متيقن أنه أصغر من أن يراه أحداً أم أنه يفعل ذلك وهو يعتقد أنه أكبر من الجميع؟ أو لأنه يعتقد أن الغريب يمكن أن يفعل أي شيء؟ لماذا...؟
وبينما كانت تتناقلني الأفكار والتساؤلات بحزن طلبت مني العجوز أن أدفع عربتها لنمشي. تحركت ومضينا. وبعدها لم يصدف أن رأيته مرة أخرى.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتبه فجوة (Mind the gap!)
- أما كفانا موتاً ودماراً؟
- طال التفكير
- هروب معنون بالأخلاق العامة
- من يستحق المساعدة!؟
- وجاء الفارس
- دنيا ودين!
- هلوسات وحدة ووحشة
- هل تغلبت العاطفة في نظرة سعيد !؟
- الرجل المناسب
- لو كان له جنّته!
- لقد فاتني أنه وقت دفن الموتى!
- لعله يأتي من المجهول!
- رحلة في البحث عن الدفء والحنان
- عروس وعريس
- عالمه الكبير
- رماد
- ليتها كانت حبيبة شاكر!
- بقع سوداء على القميص الأبيض
- لعب في العالم الافتراضي


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - بر الأمان