أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ابو الفوز - صورة الدم














المزيد.....

صورة الدم


يوسف ابو الفوز

الحوار المتمدن-العدد: 1456 - 2006 / 2 / 9 - 10:48
المحور: الادب والفن
    


سنوات طويلة من طفولتي ، قضيتها في بيت جدي ، في محلة شعبية ، في واحد من الازقة المعروفة والمشهورة في مدينة السماوة ، التي تغنى الشعراء بنخيلها ، وانجبت الكثير من الكتاب والفنانين والمربين والقادة السياسيين ، ومن بين صفوف فلاحيها ظهر ابطال ثورة العشرين ، ومن بين صرائف فقراءها ظهر البطل الاسطورة حسن سريع . الزقاق المذكور معروف باسم "عكد اليهود " ، ولمن تصعب عليه كلمة "عكد " ـ بالكاف المعجمة ـ فهي تعني زقاق . وعكد اليهود زقاق في مركز مدينة السماوة القديمة ، وقريب الى نهر الفرات ، ويطل على السوق المسقوف ، من عند سوق الحدادين ، وهو ذو مدخل واحد ، فلم يكن يشهد مرور غرباء ، والعوائل المقيمة فيه ومع مرور الزمن صارت مثل عائلة كبيرة واحدة . كان الطفل اذا تعثر وهو يلعب ، تمتد اليه عدة ايدي في ان واحد لتنهضه ، ومن يكون عنده فرح فهو فرح لكل ساكني الزقاق ، ومن تكون عنده مصيبة ، فالحزن يعم بيوت كل ساكني الزقاق .
ذات يوم اضطرب كل شئ في الزقاق . كنت لا ازال طفلا ، في اول سنوات المدرسة الابتدائية . ما بقي في ذاكرتي ، وتعزز فيما بعد بروايات الكبار هو مشهد الدم . صورة الدم ولا غيرها .
كان نهارا مضطربا ، لا يمكن ابدا نسيانه . من الصباح وفي كل الزقاق ثمة فوضى ، وقلق ، وبكاء ، والجميع يتحركون من بيت الى اخر ، والرجال يتصايحون ويدخنون بشراهة ، والجميع الى جانب المذياع يستمعون الى اخر البيانات ، وكلمة "انقلاب" تطوف فوق الشفاه مثل غول طالما خوفنا اهلنا بحكاياته . في بيت جدي كانت هناك ظلال من الخوف يكبر مع تقدم النهار . لم اكن ادرك سبب كل هذا الاضطراب والخوف . لم تسعفني سنوات عمري حينها لفهم ما يجري . وحتى ساعة ان تدفق العسكر الغرباء الى زقاقنا واغلقوا مداخله ، وتوقفوا عند باب بيت جدي ليقتادوا خالي وهو يشتم . وكان هناك اكثر من معتقل ، وتعالى الصياح من اكثر من بيت . في اخر الزقاق يقيم مدرس الرياضيات ، الذي على يديه درس غالبية ابناء السماوة ، وصار استاذي فيما بعد في المدرسة المتوسطة ، وعلى يديه فككنا اسرار وطلاسم المعادلات الرياضية ، ومنه تعلمنا ايضا اسرار معادلات الظلم والفقر والغربة داخل الوطن . المربي الرائع " حسين الغرة ". ذلك اليوم ، تعالى الصياح ايضا من اخر الزقاق . الرجال المسلحين ببنادق ، قيل انها قصيرة واسمها " بور سعيد " ، رجال غرباء عن زقاقنا ، يقودهم بعض الوجوه المعروفة لنا ، بينهم وجوه مكروهة ، فيما بعد حين كبرنا عرفنا انها ايضا وجوه مشبوهة بسلوكها الاجتماعي ايضا . كانوا يقتحمون البيوت عنوة ، ووقف بعضهم عند باب بيت جدي ، حتى بعد اعتقال خالي . فجأة ظهر مجموعة منهم من اخر الزقاق يقتادون شخصا . هالني رؤية الاستاذ حسين الغرة بين الرجال المسلحين بالبنادق القصيرة ، يقاد عنوة حافي القدمين ، والدم يسيح من جبينه ويغطي وجهه ، وكان احدهم يواصل ركله بينما كان هو يواصل الاحتجاج .
وسمعت يومها ربما لاول مرة بكلمة " البعث " !
وهكذا ارتبطت الكلمة بذاكرتي ، وذلك اليوم بصورة الدم .
صورة الاستاذ حسين الغرة ، مدمى الوجه ، بين رجال مسلحين ، بقت ساطعة في ذاكرتي من بين كل صور ذلك اليوم البغيض الاسود . مع نفسي ، حين احادثها ، واناقش ما علق بذاكرتي من صور ، أجد ان العديد من الصور ، تشكلت بتأثير من حكايات اهلي ، ومن خلال احاديث الاخرين ، لكن صورة العسكر والدم ، هي صورة اصيلة ، صورة خاصة بي ، هي صورة حفرتها اللحظة عميقا على سطح ذاكرة طفولتي ، وحتى بعد ان كبرت كانت وفي فترات معينة تتكرر في كوابيسي . صار كلما يرد امامي اسم 8 شباط ، تسطع تلك الصورة في بالي ، ويوما بعد اخر تتعزز بالكثير من التفاصيل .
كتب الكثير ، وقيل الكثير ، عن انقلاب 8 شباط 1963 ، ووصف بما يستحقه من النعوت من ضحاياه ورجال التأريخ المنصفين . واذ اعتبر قادة العفالقة ما حدث يوم 8 شباط هو "عروس الثورات " ، فهذه "العروس" صارمعروفا لابناء الشعب العراقي انها جاءت من احضان المخابرات الامريكية وبزفة في قطار امريكي . وكتب التاريخ بجرأة كلمته بمن وأدوا حلم العراقيين بجمهورية ديمقراطية ، وبمن سرقوا فرح تموز . وسيكتب رجال التاريخ والباحثين المزيد من الدراسات وستكشف المزيد من الاسرار . وعلى قلوب العراقيين طرزت وبحروف من نار تلك الاسماء الخالدة ، التي حاول انقلابيوا 8 شباط حجب نورها من خلال الموت ، فسستبقى اسماء سلام عادل وعبد الكريم قاسم ووصفي طاهر ورفاقهم شعلة نور في سفر المجد الخالد ، وستبقى اسماء شهداء انقلاب 8 شباط الاسود اجراس ترن في ذاكرة الزمن لتشير دائما الى دائرة الدم التي بدأت في ذلك اليوم ، ونحجت في ان تكبر ، وتكبر ، لتعم العراق والمنطقة لسنوات طويلة .
سيبقى ليوم 8 شباط ورجاله معنى واحد ، وصورة واحدة ، في ذاكرتي هو : الدم .
بعد سقوط نظام البعث العفلقي المجرم ، صاحب حقوق ولادة ذلك العرس ـ الفضيحة ، هل سيتجرأ احد لاعادة انتاج ذلك اليوم وصوره من جديد ؟
وبأي زي ، وبأي قطار ستصل العروس المصون ؟



#يوسف_ابو_الفوز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من المستفيد من غلق فضائية الفيحاء ؟
- رحيل مناضلة فنلندية صديقة للشعب العراقي
- الانتخابات الرئاسية الفنلندية : فوز تاريا هالونين مرشحة اليس ...
- السينما الفنلندية تخطف الأضواء لفرط إنسانيتها
- اوراق عائلية 3 : أنا وزوجتي والكلاب
- هل يستحق الشعب العراقي هذا الجزاء ؟
- من هو المتهم الاول ؟
- على طريق الانتخابات : في الموقف من تحالفات الحزب الشيوعي الع ...
- هل سمعتم اخر نكتة بعثية ؟
- شماعة البعث هل ستنقذ السيد بيان جبر صولاغ ؟
- أخيرا يا ابناء شعبي ...!
- حنون مجيد ينسج شخصية روايته من ملامح صدام حسين
- - من يستفيد من ذلك ؟-
- الاتحاد الكوردستاني للاعلام الالكتروني خطوة انتظرناها طويلا
- حيث لا ينبت النّخيل جديد الشاعر العراقي عبد الكريم هدّاد
- رجل داهمه المطر !
- قصة ملف
- أيزيدية زهير كاظم عبود
- ماذا لو مات الشيخ ابو مصعب الزرقاوي ؟
- رحيل القائد الشيوعي اليوناني المخضرم هاريلوس فلوراكيس


المزيد.....




- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ابو الفوز - صورة الدم