أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - رياض الأسدي - شعارات القطيع الاسمنتية - سياسات إفراغ المحتوى الإنساني- العراق إنموذجا















المزيد.....


شعارات القطيع الاسمنتية - سياسات إفراغ المحتوى الإنساني- العراق إنموذجا


رياض الأسدي

الحوار المتمدن-العدد: 1455 - 2006 / 2 / 8 - 09:41
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


عندما خرجت العراقية - الوردة البرية الصفراء - من منزلها في وثبة كانون، ولأول مرة, في بغداد عام 1948 كانت قد غادرت موقعها المنزلي العتيد في تاريخ نساء العراق، واخترقت الحواجز الاسمنتية التاريخية التي وضعت فيها قبل اكتشاف مادة الاسمنت نفسها! فأسهمت العراقية في صنع تاريخ العراق السياسي النسوي وفي صياغة شعاراته في الحرية، ومقارعة الجوع، وطرد المستعمر، وتحرير فلسطين، وردع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956, ونصرة الجزائر التي تعرفت من خلالها على (جميلة بو حريد) وهي تحمل القنابل إلى جوف باريس.. وضعت العراقية صور (جميلة) في صدر المنزل المصنوع من الطين غالبا. وهاهي تقف من جديد بعد سلسلة الاهوال الكبيرة وسني العصف الغريبة من جديد تتأمل .. وتتأمل.. وفي داخلها سيول من الشعارات القديمة والجديدة: شعارات احبتها واخرى اكتشفت زيفها في وقت مبكر.
لا شيء حتى الآن.
حتى الآن..!
وهي تقف قبالة القصر الاصفر وقد خطّ الشيب خارطته العنيدة ليمسح واحدة من أهم معالم الجمال والانوثة البغدادية. الكرخية التي تتكلم بلكنة محببة: ابويا كلّ شيء ماكو.. من ذاك اليوم لهذا اليوم.. كلها دعايات مسفطة وروحه لأبوك!
يخرج من بوابة القصر الجمهوري التي تحولت اخيرا إلى المنطقة الخضراء فرسان جدد مختلفون على خيول بيض يرتدون ملابس مدنية - هذه المرة - مختلفة كي يعلنوا قليلا عن نهاية عصر العسكر القاسي. شكرا لله ليس ثمة فرسان عسكر حقيقيين. ليس ثمة رئيس جمهورية للمقابر الجماعية. لكن المقابر مستمرة. كانت تحت الارض وهي الآن فوق الأرض. كلها مقابر. هل يمكن ان تكون العراقية وردة مقابر سوداء؟ كلّ شيء ماكو.. وتقف الناس بالانتظار دائما كما هي عادتها التاريخية منذ عصر وفاة النبي محمد(ص). صوت المنقذ. ثمّ يطلق بوق الحرس الوطني الجديد، ويظهر فرسان مصنوعون من مادة الاسمنت المستورد غالبا. والخيول هي الخيول: طربك طربك طربك! لكن ثمة على جانبي الطريق دائما وسط هياج "القطيع البشري" ورود برية على الجانبين تشارك الجمع المستقبل للفرسان الرماديين الجدد. لم يلحظها الفرسان الأسمنتيون القروسطيون شاكي السلاح الجدد.
كان اختراع مادة الاسمنت الحداثية في اوربا بمثابة ثورة كبرى في الزراعة والوقاية من الفيضانات وبناء السدود الكبرى وقنوات الري والابنية الشاهقة. فاكتشاف تلك المادة العظيمة لا يقل اهمية عن اكتشاف الكهرباء، او عصيات كوخ، او ماكنة الأحتراق الداخلي. بيد اننا في العالم العربي نستخدم هذه المادة على نحو آخر في حيواتنا.. ربما اخذنا من الاسمنت ظاهرة التماسك القوي والسريع فقط؛ ثمّ القينا جانبا بالفوائد المرجوة من ذلك. نفعل ذلك كثيرا بروح انتقائية شرقية محافظة. إن أستخدام الأسمنت في العالم العربي والإسلامي يعدّ لأغراض مغايرة تماما عما هو عليه الحال في اوربا أو العالم المتقدم. دائما نذكّر العالم بخصوصيتنا وقدراتنا في تركيب "محركات بنات آوى على كلاب المريضة!".. يعرف الشعب أصول اللعبة قبل الكتاب، لكنه يفصح عنها بأقتعة مختلفة. وعلى الكتاب ممن يعملةن خارج القطيع التنبه لذلك جيدا. ونحور قليلا في صاروخ سكود ليصبح الحسين أو العباس او الحجارة! تبديل عناوين. خبرة تاريخية منقطعة النظير. لكن الشعارات بقيت لا تحتاج إلى كثير من الخبرة ما دامت نهضت في العراق الخبرة الصاروخية من مثال صاروخ "العابد"!. شعوب اخرى شرق ورسطية تسقط في (الفخ الدولي) نفسه.
حاولت الانظمة الدكتاتورية على العموم تحويل "الحالة والشعور الوطنيين والقوميين" كمادتين ذات روابط قوية "أسمنتية" إلى مادتين مضافتين في أجندة العمل التماثلي لتصبّ في اطار تثبيت النظام والبقاء في الحكم لأطول مدة ممكنة. ودأبت على تحقيق نوع من التطابقية الساذجة بين شكل النظام السياسي والوطنيةوالقومية على نحو دائم. وقد وصلت الحالة في العراق إلى اقصاها حينما أصبح الحاكم الفرد - وحده - يعني الوطن، وعني خلاص الامة أيضا. وان الدفاع عنه هو دفاع عن الوطن والامة والعكس صحيح. ظهر ذلك واضحا في وسائل الإعلام المختلفة وكتب التربية الوطنية للطلبة والثقاقة القومية في الجامعات، والعمل في القوات المسلحة أيضا كأسمنت غير قابل للخرق.. لا بدذ من رشّ نوع من البهارات على طبخات "القطيع".
رهان دائم على سياسات "القطيع": ماذا يريد "القطيع" ؟ وكيف يمكننا جلبه إلى صفوفنا بأقل الخسائر؟ وما الشعارات التي تستهويه وتدفع به إلى الحظيرة..؟ اما ماذا ياكل القطيع وماذا يشرب وماذا يركب وتحت أي سقف ينام، فهذا امر لا يعني السادة الاسمنتين طبعا مادام قطيعا مطيعا.
كانت المرارة التي لحقت بانظمة القطيع الدكتاتورية في حرب حزيران عام 1967 قاسية جدا. فضيحة. من الصعب تلافيها بالوسائل التقليدية القديمة. وخاصة وهي تحمل تلك الشعارات الرنانة الأسمنتية الأشد حماسا وتحشيدا كالثأر والنار والدم والوحدة والحرية والاشتراكية! أي كلّ ما يفرغ العواطف الجياشة من اداة العمل والتأمل والتخطيط. شعارات عامة وكبيرة - ومترابطة جدليا!- لكنها لم تستطع الوقوف امام سقوطها الكارتوني المروع في ستة ايام من حرب خاطفة شنتها أسرائيل على تلك الانظمة الاسمنتية الشعاراتية.
ولذلك فإن الشعارات المناسبة في تلك المدة - بعد حرب حزيران بالذات- كانت "أزالة آثار العدوان" و"الاستعداد للثأر القومي" و"حرب الأستنزاف" و" طالعلك ياعدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع!" وليس محاسبة الانظمة على اخطاءها الستراتيجية، أبدا، وكذلك ذلك الشعار" القومتي" المخادع الكبير "كلّ شيء من أجل المعركة". ولم تحدث في الواقع أية معركة مهمة. وكانت المحصلة النهائية هي: حشد جميع الطاقات الإعلامية بأتجاه إنجاح معارك النظمة الاسمنتية في قيادة "القطعان العربية" مرة اخرى بعد ان منيت بأكبر هزيمة تاريخية. وهو لا يعدو ان يكون غير امتداد لشعارات أسمنتية اخر- ما قبل الحرب- أشد حماسا وتحشيدا: النار ولا العار! والثأر والنار والدم، والوحدة العربية من المحيط الاطلسي الهادر إلى الخليج العربي الثائر! أي كلّ ما يفرغ العواطف الجياشة من اداة العمل والتأمل والتخطيط. كانت المرأة الكرخية البغدادية التي اكلت "حبة بغداد" جانبا من انفها في منأى عن كلّ ذلك التحليق الذكوري المستعرب في وقت كانت فيه هي وحدها حمالة العبء الاكبر بعد غياب الرجال.
وفي العراق، وبعد سقوط النظام الأسمنتي الصدامي القديم ما زالت تلك السياسات تمارس على نطاق اوسع أيضا في الوقت الحاضر، من خلال اللعب على عواطف الجماهير البسيطة، مرة اخرى، بأوراق أخر كالطائفية والعرقية والتكفير وتوزيع الثروات الطبيعية(محاولات تجزئة الأسمنت من جديد) وغيرها من الوسائل المتعلقة بالافكار العامة والبعيدة عن البرنامج السياسي الواضح.
في وقت يغيب فيه برنامج العمل السياسي من اجل الوطن كوحدة كبرى وحالة إنسانية- جغرافية من اجل وحدته وسبل انقاذه لتحلّ محله برامج هشه- الدين باجزائه ومكوناته والتاريخ المحلي - وهي تتعلق بمطالب طائفية او قومية او دينية او عرقية أو جهوية.. أما الرهان الرئيس فيكمن في تحويل جميع المأساة او سلسلة المآسي المتواصلة إلى غيمة تاريخية كبرى لا يمكن السير إلا تحتها؛ تلك في أبسط صورة: نقل الصراع من التناقض المركزي إلى التناقضات الثانوية، مما يغيّب على العموم الفكر الوطني وينحدر بالعوامل الإنسانية أيضا.
بقي الأتجاه السائد لعموم الحكام الأسمنتيين القدماء والجدد على حدّ سواء: بان "الشعب" هو الرصيد الدائم و "الأحتياطي المضموم" حسب التعبير الصدامي. ويعتقد الحكام الدكتاتوريون بان الشعب هو المضحي لهم دائما حتى وإن كان يرزح تحت المأساة اليومية المستمرة وسط آلاف الضحايا، لأن المآسي والالام - من مسؤولية الأعداء دائما! - هي التي تصنع الشعوب وتجعل منها قادرة على الوقوف بوجه اعداءها الذين لا يعرفهم ولا يشخصهم جيدا إلا اولئك الحكام فقط او الطليعة من وجهة النظر العفلقية؛ وهم باختصار اسمنتي شديد: الامبريالية العالمية (الولايات المتحدة) والصهيونية والرجعية المحلية والرجعية العربية والأنظمة التقليدية والاقطاع والراسمالية.
لكن أستقراء سريعا لعموم تلك الانظمة الاسمنتية يظهر على نحو واضح ان طريقة إدارة الصراع مع تلك القوى لم تكن على مستوى برنامج عمل محدد، وبقيت على العموم محصورة في الصراعات اللفظية وحسب. يمكننا ان نلحظ هذا الوضع في تغليب النظام الصدامي لقضية البقاء في الحكم مقابل هدف الوحدة المركزي! ثمّ بيع القطاع العام العراقي إلى "الطفيليين" من أتباع النظام في العراق منذ منتصف الثمانينات مقابل شعار الأشتراكية.. وكذلك الصلح مع أسرائيل- كما في مصر- مقابل "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر" وشعار" يا جمال ياحبيب كلنا حنصلي في تل أبيب!" أو الشعار سيء الصيت بالقاء اليهود في البحر، وهكذا..
كانت المرأة ترقب عن كثب جميع تلك الشعارات التي صاغها "الذكرالعربي" وهي تقف بعيدا عن تلك الضجة الكبرى.
كان أسلوب الوضع الاسمنتي يفرض على السياسة الداخلية للانظمة الدكتاتورية بقوة في وقت هو قابل للتفاوض والتغيير في السياسة الخارجية - لنتذكر مقولة الرئيس السادات الشهيرة بعد حرب 1973: أنا ما اقدرش احارب امريكا!! - ولنلاحظ جيدا انه استخدم كلمة: انا!. مما يؤكّد على عدم وجود برنامج عمل بين الجماهير غير التحشيد الإعلامي في رصّ الصفوف أسمنتيا من خلال التذكير بتضحيات الشعب المصري وخوضه خمسة حروب خاسرة ضدّ أسرائيل وما تبع ذلك من عدم دعم العرب وخيانتهم لها! هاهو أسلوب التحشيد "للقطيع" من زاوية اخرى. رأت السيدة جيهان السادات في مذكراتها عن تلك المرحلة الشلئكة ثمة دورا كبيرا للنساء المصريات آنذاك من خلال عمل زوجها المقتحم الاول للحاجز النفسي مع اليهود.. لكنها كانت ترى المصريات من خلل شرفات القصر الجمهوري. تماما كما كانت ترى العراقيات السيدة ساجدة خير الله التي اهتمت كثيرا بمجوهرات فرح بهلوي.. ثمة حرب نسائية اخرى على مستوى مواريث سيدات المجتمع الشرقي أيضا. وربما هناك شعارات غير معلنة أيضا.
كانت المراة العراقية تقف منذهلة وهي ترقب التحولات السياسية وقد بدأت بحصد ال‘زة : الزوج الاب والأبن والحبيب..عندما تخوض الانظمة الدكتاتورية حربا تحضر جميع الشعارات الاسمنتية الكبرى لحشد "القطيع الرجولي" - تمتلك النساء حصة إعلامية فيه- وإرساله إلى معركة لا تعنيه ولا تصبّ في صالحه. لنلاحظ ذلك بسذاجة مفرطة في اصرار النظام الصدامي على أعتبار الحرب ضد إيران والكويت هي بأتجاه تحرير فلسطين.. ربما لأن فلسطين تقع قرب بحر قزوين!
وهاهو من جديد أسلوب الضحك على الذقون؛ فقد طالب النظام الصدامي من اجل الانسحاب من الكويت أنسحاب اسرائيل من هضبة الجولان، وكأن الكويتيين هم الذين قاموا بأحتلال الجولان عام 1967؟؟! كما ان إيران لم تتوان عن الاستجابة إلى الطلب الأسمنتي نفسه: في وضع حالة أستمرار الحرب ضد العراق بانها "الطريق المؤدية إلى القدس" أيضا.. ولكن في كلا الحالتين كان الخطأ باهضا للجميع فقد مارس الأسمنت الشرق اوسطي أبشع ادواره وامثلته الحية على الاطلاق.
يتسرب الأسمنت من قمة الهرم السياسي ليطال الحياة اليومية البسيطة على نحو دائم. فمن خلال اسمنت الشارع المهدم الخارج من آتون نظام قمعي لا مثيل له في العالم يمكن رؤية وردة برية يصعب فهمها.. هي ليست كباقي الورود الاخرى التي لا يمكن ملاحظتها - ربما تكون ثمة رؤية شعرية ما هنا- في ان نرى عن بعد وعلى الرصيف الاسمنتي وردة برية صفراء تشقّ لها مكانا وسط شقوق أسمنتية قوية. هكذا تفعل الروح الحيوية فعلها الغريب. لا يلاحظ المارة غالبا هذه الوردة، وهم يسيرون بسرعة بحثا عن لقمة العيش اليومية، او يسيرون بتسكع كالعاطلين عن العمل. قد يسحقون باقدامهم المتلاحقة تلك الوردة دون ان يتنبّهوا لذلك طبعا، فتحاول الوردة الأنطلاق إلى العالم بلا جدوى. لا يمكن ان تكون الديمقراطية مجرد وردة برية وسط اكداس من الاسمنت المحلي؛ لكنه اقرب ما يكون إلى الرؤيا أيضا من خلال عالم رمادي جديد.
الوردة البرية مختلفة كثيرا، هذه المرة، وغير أسمنتية غالبا، وليست على الطريق مباشرة, لا يلاحظها المارة؛ تقف شامخة، بعيدا، عن خطوط السير وعلى جانب الطريق.. يتأملها الجميع.. عن بعد.. ليس ثمة شعارات كبيرة تنضد من اجل وردة شارعية على أية حال. وهي هنا أنثى عراقية: الشاهدة الوحيدة على اكداس الأسمنت، بعد ان غادر الحياة كثيرون بسبب الحرب أو الجوع او الفقدان في المعتقلات أوالمقابر الجماعية. وردة خاصة من الصعب قطفها لأن ثمة اشواك كثيرة تحيط بها، ولا يعرف قيمتها إلا من عاش طويلا لتأملها. دعوة لتأمل وردة برية صفراء كبيرة بالقرب من سياج منزل بين اكداس من الاسمنت المهشم بفعل قذائف السادة الاميركان او المفخخين الإسلاميين.
المكعبات الاسمنتية الضخمة تحول دون أنسياب السير كما كان سابقا وتغطي الشوارع ولا يكاد يخلو منها شارع واحد. يمكنك ان تراها قبالة دار أي ضابط شرطة، او موظف كبير، أو زعيم ميليشيا محلية أيضا. وضع احد زعماء المليشيات المحلية عربة قطار حديدية امام منزله لكي يقلل من صدمة ضربة داره بالأربجي إذا ما تعرض لها من ميليشيا مناوئة. إنها لغة أخرى اقوى من شعارات "القطيع" الأسمنتية آنفة الذكر. لكن الاسمنت - رغم ذلك- بقي هو السائد بعد ان زحفت طلائعه من القصر الجمهوري السابق لتتسرب إلى عموم المدينة؛ بل إلى جميع مدن العراق وسط ذهول مطبق من "القطيع". ثمّ حضرت بالطبع شعارات اخر أشدّ صرامة وأثر وقعا وحدة. ومن خالفها فإن الله له بالمرصاد من خلال زخه بعدة طلقات على الرصيف وبلا مقدمات.
المراة العراقية كوردة برية معذبة وذابلة على جانب الطريق تعاني من الوضع الاسمنتي اكثر من غيرها بعد ان دشنت حجاب الاسمنت الاسود.. يتأملها الجميع.. عبارة عن سوادة متحركة.. ومن الصعب قطفها لأن ثمة اشواك كثيرة تحيط بها. اسمنت من الثياب القروسطية أيضا. وها هي تلحظ الغياب اليومي للأحبة لأسباب امنية هذه المرة. السواد الغيمة لغة الورود العراقية دائما. دائما.
زحف الاسمنت إلى جميع مدن العراق بسرعة خيالية - كشعار غير لغوي هذه المرة- وتوسط موائد الفطور الشحيحة. العاطلون عن العمل- بعد النساء العراقيات- اكثر مراقبة للسيد الاسمنت وهو لا يتعملق في البناء بل في الروح.. بعضهم أمتلك حلا بالالتحاق بميليشيات أحزاب دينية. يمكنه ان يحرس الآن اسمنت الجامع او مقرّ الحزب مقابل راتب شهري. من يمول هذه الجماعات التي تشبه دوائر امن في دكتاتوريات الاسمنت؟ ووسط سيل من الشعارات العاطفية الجديدة. أسمنت في كلّ شارع تقريبا.
وحينما حاول بعض العاطلين عن العمل كسر طوق أسمنت الرتابة بالعمل في فدرالية الشمال وجد ثمة أسمنت آخر.. تقسيم جديد.. كانت شعارات الانظمة الدكتاتورية السابقة لا تمتلك هذه الخاصيات على أية حال. هل هي بداية لمشروعات العزل التقسيمية على أساس قومي؟ ام هي البداية ايضا لمشروعات "العزل الطائفي" الاسمنتية المقترحة أيضا؟ وقبل أيام ظهر على أحدى الفضائيات عمال عراقيون من بغداد، ومن لهجتهم هم من " أهل الثورة " أو جنوب العراق، تحدثوا بسهولة إلى ذهابهم إلى دائرة (الاسايش= الامن الكردي) حيث اخذت (معلومات) عنهم، وعن المدة التي سيبقون فيها في السليمانية أو أربيل او دهوك أربعة عشر يوما او عشرين يوما او اسبوعا واحدا فقط ؟، لا يحدث ذلك طبعا في دول الاتحاد الاوربي - تقول العراقية: نحن وين وانت وين؟ عرب وين طمبورة وين؟ - ثمّ منحوا لوزلئك العمال بطاقات "أقامة مؤقتة" كلاجئين في وطنهم لأسباب امنية اسمنتية طبعا.. فتذكرت اولئك العمال الكرد الذين كانوا يأتون إلى ميناء البصرة أو بغداد للعمل وهم لا يحملون حتى جنسياتهم ايام العهد الملكي البائد الرجعي العميل!! شكرا لحل مشكلة البطالة من الشمال هذه المرة.
المسألة لا تتعلق بمادة الاسمنت وحدها. الاحاديث اصبحت مصنوعة منها أيضا. إنه أسمنت الروح المتغلغل بقوة أيضا. غابة الاسمنت: هذا التعبير للشاعر الروسي مايكوفسكي. أنتحر مايوكوفسكي اخيرا بسبب أسمنت البلاشفة.. ربما لم يخطر على باله ان يرى كلّ تلك الكميات من الاسمنت في قرية كبيرة ومحطمة مثل بغداد. من الصعب على اية حال ان تكون بغداد مدينة حديثة: لا ماء صالح للشرب ولا كهرباء مستمرة ولا مجار ولا شيء يشعر الساكنين فيها بمدينيتهم!. معظم سكان الطبقة الوسطى غادروا بغداد. قسم منهم باعوا دورهم وأستأجروا شققا او أشتروها في دمشق او عمان. قسم هاجر إلى بلدان شتى. بقي "القطيع" بلا مفكرين وهذا هو المطلوب. لو كان مايكوفسكي عراقيا لانتحر في وقت ابكر..
معظم العراقيين المتعلمين الذين اعيش معهم يفكرون في المغادرة: هذه أرض طاردة وموحشة. مشروع دائم للموت الشوارعي الأسمنتي؛ للقتل بورقة من فئة مائة دولار او أقل من ذلك.. ليس ثمة امل حقيقة. يتمسك بهذه الارض اولئك الذين تنضح لهم مالا فقط. وعندما يصبح لديهم ما يكفي من الورق الاخضر يشترون دورا في دول جوار جغرافي: إنهم جيل تهريب النفط من لصوص عراق البوابة الشرقية. مستثمرون جدد للاوضاع السياسية. بلد كان يسرقه رئيس جمهوريته، لم لا نسرقه نحن؟ خذ حصتك من البترول وأهرب.. اما الجيل القديم تجده عند البوابة الغربية.. هل حقيقة ليس ثمة جذور قوية تربط الإنسان العراقي بارضه, وان العولمة جاءته من الباب الخلفي فجاة؟!
هكذا هي سياسة الأسمنت وفلسفتها.
بالامس فقط فرحت- والله من كلّ قلبي، ولأول مرة، منذ أربعين عاما!- حينما رأيت الأصطفاف العراقي يقف أمام كاميرات الصحافة من الكرد بحزبيهم والشيعة بأحزابهم والسنة بأحزابهم : جميع ممثلي ملوك الطوائف وامراء الميليشيات وأصحاب الاعلام وسدنة الفيدراليات.. مرحى!؛ هل بدأو يفكرون بالمواطن العراقي البسيط وهمومه اليومية اكثر من تفكيرهم بالمغانم السياسية؟ ربما يتم التوافق على طرح شعارات أسمنتية مجزأة هذه المرة. لا احد يفكر بعيدا عن التماسك الموروث عن انظمة الدكتاتوريات القديمة الأسمنتية.
العراقية الوردة البرية التي لم تدرك الاسمنت السياسي، لكنها تراه في كلّ يوم وهي تقف بالطابور من اجل الحصول على الخدمات الأساسية - جميع الخدمات المنزلية تقريبا.العراقية التي مازالت ترى في ان احدا ما سيأتي على حصانه الابيض وينقذ العراق من جديد.. يئست من تلك الكذبة الكبيرة التي قام بها "الباطش" العظيم وهو يتبختر بحصان أبيض امام القصر الجمهوري يحيط به حرسه الخاص من راكبي الخيول بالاعلام الملونة وقرع الطبول والهلاهل.. أنتهت الحرب اخيرا شكرا لله.. لم تذهب الدعاء الدائم جزافا أخيرا. نستهلك كثيرا من الدعوات في العراق اكثر من أية أمة على الارض. ألتفت الله إلى العراقيين اخيرا!! الحمد لله. لكنها لم تكن بالطبع تتوقع ان ما سيأتي سيكون اشد هولا, وأكثر بشاعة، يئست العراقية. ماتت من اليأس. النساء غالبا اكثر الكائنات عذابا في هذا الآتون الاسمنتي الشعاراتي الرهيب.
لكن العراقية (الميتة) من العذاب والقهر والموت نفسه! رأت ثمة جمع" اصطفاف جديد" - هي تكره كلّ أنواع الاصطفاف التي نادى بها "الباطش" العنيد سابقا- لكنه ربما يكون أصطفافا آخر من اجلها، من أجل اولادها العاطلين عن العمل في الاقل، من اجل ان تذهب بناتها إلى المدرسة بثياب لم تشتريها من "اللنكات" حسنا اننا نسمع العمل من اجل العراق بملء الفم هذه المرة وثمة ابتسامات من جميع الاطراف الطائفية والقومية والعلمانية واوفاقية والتوافقيه والائتلافية والتحالفية والفستوقية! " كلمات اما معانيها فليست تفهم!" وتساءلت في خبرة قرون من الكذب: هل يخدعوننا من جديد؟!
شكرا مرة اخرى للقول وحده.. لكننا نريد تحويل ذلك على أرض الواقع. لنر حقيقة هذه الدعوات وقد نزعت الطائفية والعرقية والجهوية وبقية الامراض المعدية الأسمنتية الجديدة. هل هذا ممكن؟ لا احد يمكنه ان ينزع اليأس من النفوس.. كاذب من يحاول ذلك .. ولكن من اجل العراق الذي يلهج باسمه الجميع: الباطشون القدماء والسادة الجدد: هل يمكننا ان نكون عراقيين فقط؟ كنا عراقيين فقط قبل زمن قليل من هجوم السادة العسكر!
تلطم العراقية نادبة حظها العاثر وهي ترى من خرجتهم من أولادها وهم يذرعون الشوارع. يقولون لهم: هات كذا ورقة خضراء وانا أعينك في الدولة! سحقا للورق ومن صنعه وعلمنا تداوله. سحقا للدولة التي يركض الجميع للعمل فيها.. أليس ثمة طريقة للعيش في العراق بغير الدولة هذه؟!
كانت العراقية تقف قبالة المنطقة الخضراء وهي تفرك عينيها.. لم يكن حلما .. إنهم فرسان اسمنت حقيقة.. لا يتحركون.



#رياض_الأسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- توماس فريدمان: قناعاتنا الأميركية بازاء عالم متغيّر
- الأغلبية الصمتة في العراق دراسة سياية وميدانية
- قراءة في كتاب ( علي ومناوئوه) المنهجيتان العلمية والتقليدية
- الليبراليون العراقيون: طريق غير ممهّدة وسير متعثر
- تكرار فولتير،دراسة أولية في النظرية الأجتماعية الوردية


المزيد.....




- اتهام 4 إيرانيين بالتخطيط لاختراق وزارات وشركات أمريكية
- حزب الله يقصف موقعين إسرائيليين قرب عكا
- بالصلاة والخشوع والألعاب النارية.. البرازيليون في ريو يحتفلو ...
- بعد 200 يوم من الحرب.. الفلسطينيون في القطاع يرزحون تحت القص ...
- فرنسا.. مطار شارل ديغول يكشف عن نظام أمني جديد للأمتعة قبل ا ...
- السعودية تدين استمرار القوات الإسرائيلية في انتهاكات جسيمة د ...
- ضربة روسية غير مسبوقة.. تدمير قاذفة صواريخ أمريكية بأوكرانيا ...
- العاهل الأردني يستقبل أمير الكويت في عمان
- اقتحام الأقصى تزامنا مع 200 يوم من الحرب
- موقع أميركي: يجب فضح الأيديولوجيا الصهيونية وإسقاطها


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - رياض الأسدي - شعارات القطيع الاسمنتية - سياسات إفراغ المحتوى الإنساني- العراق إنموذجا