أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - جواد كاظم غلوم - الحياةُ حينما تأنسُ الموتَ















المزيد.....

الحياةُ حينما تأنسُ الموتَ


جواد كاظم غلوم

الحوار المتمدن-العدد: 5598 - 2017 / 8 / 1 - 02:06
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


الحياة حينما تأنسُ الموتَ


عادةً ما يكون المرء في أجمل طلّته وأحلى هندامه حينما يترقب شخصيةً يحبّها أو صديقا زائرا مؤنسا غاب طويلا سيلوح له بعد أمَد قصير ليستقبله بالترحاب والسعة والحفاوة والاحتضان ، ثم يجلسان معا تتخللهما الأحاديث والذكر عما مضى في محطات علاقتهما بدءا من الفتوة وصولا الى الكبر ، ترافقهما ابتسامات وضحكات وفكاهات حتى في أحاديثهما الجادة ؛ فكيف سيكون الانسان بشكله وهيأته الخارجية وحالته في أعماقه ومدى استعداده للوقوف أمامه لو كان على موعد مع زائر مرعب يسمى الموت ؟؟
كلنا شيباً وشبّانا -- دون ان نستثني احدا -- يرقب هذه الزيارة التي لانعلم متى تحين ولكنها آتية حتما لكننا نغفل عنها وتأتي على حين غرّة وأنت مرغم على استقباله ومطاوعته والانصياع لأوامره ليأخذك الى مكان لاتألفه وزمان لاتعرفه ومصير لاتفهمه ولو امتلأ عقلك علما وفلسفة وإدراكا .
هذا هو الزائر الغامض الذي يجمعنا ويلمّنا في مساحة صغيرة من الارض نسميها رمساً وربما في فسحة سماوية من فسحات الغيب والميثولوجيا غير العقلانية وقد تكون مساحة موهومة اكثر غموضا من الموت نفسه ؛ لكن هذا الموت الصارم يوّحدنا ولم يفلت احد من طرق أبوابنا ودخوله عنوة او ترحابا فهناك من يهلل لقدومه خلاصا من أوجاع وأسقام لاتنتهي وآخر يُجرّ عنوةً بيده التي لاتذعن مطلقا للتوسلات والبكاء والترجّي وعيناه تتعلقان بالحياة ؛ وآخر يرضى قانعا بمصير لايدري كنهَه ولكنه يذعن إذعان الماشية الضعيفة لشراسة ذئب جائع .
كلنا لانملك عشبة جلجامش الصانعة للخلود فهذا افتراض صنعه الانسان شهوةً للبقاء اطول مدة ممكنة وتَمني كما يتمنى الواهنون الضعفاء ممن لاحول لهم ولا قوة امام مصير محتم لا رجعة عنه ؛ فما ينفع المرء لو امتدت حياته اياما وسنوات معدودات وفي النهاية يستوي الجميع ويقعون في تلك الهوة ويترجلون من اديم الحياة التي سحقتها اقدامهم طيلة وجودهم بهذه الارض .
فمن كان يعمل في الأجواء العالية واتخذ من ريادة الفضاء مهنةً وطموحا ومن يشيّد الابراج العالية وينير فنارات السفن في البحار ومن سما قبطانا يطير في الجو ملاحا ماهرا يركل الغيوم بطائرته ويعلو ظهرها ليرى الشمس ساطعة له وحده سينزل حتما الى قاع موحش مظلم في نهاره وليله وينسى الصباح والضحى ومشهد الغروب حين يتعانق الليل مع النهار ليشكل لوحة من الغزل السماوي القليل الحمرة تتوسل النهار ان يغلق اشراقته بضع ساعات ليهدأ الانام في نوم عميق لعله يذكرهم بما سيأتي لاحقا من نوم من نوع اخر سميناه أبديا لا لقاء بعده حيث يسدل اللقاء أستاره ويرحل نهائيا فلا ترى من تحبهم ولا تتلمس اجسادهم وتغيب عنك ضحكتهم ولا تتمازج انفاسك مع انفاسهم مع اننا في كل يوم نموت موتا صغيرا كما سمّاه اسلافنا وحالما تنتهي ساعات هذا الموت المؤقت نوقظ انفسنا ونلتقي بالأهل والعابرين والسابلة وكلما رأته عيوننا التي نامت أمدا معينا .
اسائل نفسي مرارا ما الذي يجعل هذا البستاني الشيخ يحني ظهره ليزرع ورودا على حافتي الشارع ويُنبت أشجارا في جانبيه الأيمن والأيسر وذلك العامل الذي يرصف الطريق وتلك الماكنة التي يقودها السائق الماهر وهو يفرش الاسفلت ليعبّد الشارع ويزيل المطبات والحفر ويسوّي ارضاً سالكة ناعمة ؟ !
هل هم يمهدون لنعوشهم ان تسير بتوئدة وهم يُحملون على توابيت تسير الهوينا بين الناس المودعين المشيعين ؟؟ وقد ترافقهم هدأة جليلة وخشوع المحزونين ؛ واذا كان الموتى ممن يحمل نياشين القادة وأوسمة العساكر ترافقهم تلك الموسيقى الجنائزية ليسمعوا اخر أنغام الارض في مزاميرها وطبولها وأبواقها التي لا تحيي الأموات حتى وان علت أصواتها وارتفعت طبولها إيذانا بوداع يسحق اللقاء سحقا ليخفيه تماما .
هذا النفخ في الصُّور بأزقّة الحياة سرعان مايخفت ويسكت مثل سكوت الموتى ولا علاقة له بنفخ صور القيامة الالهية حيث الهلع والزلزلة وميد الجبال وأصوات الحميم المتصاعدة مثل الذي نقرأها في مشاهد القيامة والساعة التي يكثر الريب فيها .
في هذه الارض يكون الموت صامتا يأتينا بهدوء ويدخل دون ان يطرق الباب ويستأذن السماح ولا يسبقها بحمحمة صوتية أو نقرة باب أو وقع أقدام أو قرقعة صوت ملفت تشعرك بوجود أحدٍ فترى نفسك محمولا في صندوق مغلق بإحكام لاتعرف وجهتك ومن سيرحب بك في قدومك المفاجئ وكيف سيكون حال هدأتك الجديدة ومن سيهلّ عليك ويعلّمك طرائق واساليب مكوثك ؟؟
انت كنت تعيش في الحياة عمرا طويلا وفي محيط تعرف وجوهه وتتعامل مع أناس فيهم الرائق والحاذق والمحبّ والكريه وتتعامل معهم وفق مشاربهم وأذواقهم وسيرتهم فهم خليط من العهر والطهر والجميل الرائع والشاتم القاذع وفيهم السويّ والغبيّ وتتصرف معهم على سوءاتهم وعواهنهم مثلما تنجذب الى الشخوص الناضجة السامية في تفكيرها ونمط حياتها لكنك في مثواك الاخير لست سوى هيكل أخرس أصمّ هامد حيث لا احد يجاورك ويمازحك ويشتمك او حتى يسرقك وتتآكل تدريجيا لتذوب تدريجيا وتتحول الى رميم تراب .
أهكذا أرواحنا الناعمة الحريرية الملمس كشغاف القلب وأبصارنا الثاقبة المُحبة لمشاهد الجمال وأسماعنا التي تطرب لحروف وأنغام الابداع وتومئ الى جلودنا كي تقشعرّ وأحاسيسنا كي تتدفق ، أهكذا تختفي بغمضة عين ؟؟
كل هذا الرعب والخيفة من مجيء الموت زائرا ثقيل الظل مهول الطباع مفترسا الحياة بكل شفافيتها ومخملها وحريرها الناعم ؛ والانفاس بكل شهيقها وزفيرها محطّما الرغبات والنزوات حماقتها ورونقها وجمالها وقبحها وحطّتها ورفعتها وسموّها ودناءتها لكنه يبقى ليس خسارتنا الكبرى ؛ انما الخسارة الكبرى هي في موتنا ونحن على قيد الحياة بحروف مرسومة بالدم والزيف والخوف والرعدة والترقبّ لمخاطر وسفالات المطامع والتدنِّي في كل شيء بدءا من الخلْق والخلُق وملوثات هذا العالم المائل الأعرج الساقين ؛ الواقف على قِرن ثور هائج .
هنا يصدق قول جدّنا المتنبي حين يرى الموت شافيا والمنايا أماني ، وهناك من الشعراء من عزم ان يعطي مالا ليشتري الموت كي يتخلص مما يعاني ويدفع الثمن غاليا
الا مـوتاً يُـباع فأشْـتَـريهِ --- فانّ العيش ما لا خير فيهِ
ولو أنّي مررتُ بأيّ قبرٍ--- وددتُ لو انني قد كنتُ فيهِ
اذ لم يعد الموت كريها ونتلقاه بالرحب والسعة والتهليل والامتنان كي ينقلنا من عالم أحمق مليء بالكراهية والسخف ، عالم غريب الأطوار بسفالته وعنجهيته وتطيّره من رغبات الانسان السوبرمان لا في قوته العضلية انما في قوة عافيته البدنية والعقلية وتساميه عن المباذل والحقارات ونزوع الافتراس والنهش والتمزيق الجسدي والنفسي والعقلاني وتتويج الجهل ليقود التنوير الى حضائر الحيوانات ويجعل من الخنازير البريّة والضباع الغادرة راعية قاسية القلب للأسُود والنمور وتكون مواشي مسخرة لهذا المنحطّ وذلك الرعديد الجبان التافه وكأننا نتلمس مشاهد رواية جورج أورويل " Animal Farm " ومافيها من مشاهد الديستوبيا القذرة والانحطاط الانساني .
هنا يكون الموت مخففا هيّنا وقد يصل الى درجة الرغبة في مصاحبته وشبك اصابعه بأصابع من يريده رفيقا منقذا مخلّصا لنغادر هذه الحياة الرخوة في معاييرها والبذيئة في مشاهدها المقرفة كما ابتذلها فيلسوف الشعراء ابو العلاء المعرّي في ابياته الخالدة ابد الدهر :
ولما رأيت الجهلَ في الناس فاشـيــا --- تجاهلتُ حتى ظُـنّ أنيَ جاهـلُ
فوا عجبا كم يَدّعي الفضلَ ناقصٌ -- ووا أسفي كم يُظهر النقصَ فاضل
وقالت " سها " للشمس : انتِ خفيّةٌ --- وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولتِ الارضُ السماءَ سفاهةً --- وفاخرت الشهبَ الحصى والجنادل
فيا موتُ زرْ ان الحياة ذمـيمـة ---- ويا نفسُ جــدّي ان دهْـرَك هـازل
مع تمنياتي للقرّاء الاعزاء حياة طويلة ماتعة هانئة مترعة بالعافية والهناء وصفو العيش والعمر المديد السعيد والرأي السديد وسعة الافق العقلي بعيدا عن منغّصاتها وكبواتها وسوداويتها

جواد غلوم
[email protected]



#جواد_كاظم_غلوم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاشجار وتعلّقها بالموسيقى الراقية
- حصّالة مدّخرات شاعر
- عندما تتسامى غبطة الابداع وتتهاوى حطة الحروب
- لقاءٌ مع صديق محزون
- متى نتحضّر ونرتقي بعيدا عن الوثنيات الجديدة ؟
- قصيدة - وحدةٌ وتوَحّد -
- أممٌ تبتكر وأخرى تنكسر
- موت شجرتَي بيتي ورحيل شجرة روحي الخضراء
- قصيدة / اللقاء الاخير يؤذن بالوداع
- التأرجح العقائدي بين العقل وبين النقل
- لو كان الجهلُ رجلاً لقتلتُه
- موعظة الى مدينة النساء
- مَن يحمي الدّين ومَن يفتك به ؟؟
- وطنٌ مفجعٌ ومنفى مُولعٌ
- تحت ظِلّ شجرة نيسان الكاذبة
- ألعاب أطفالٍ تُفسد التربية السليمة
- أحزانٌ حكيمة
- حلُم بناء الدولة المدنيّة في عالمنا العربيّ والإسلامي
- فساد الرعاة والرعيّة
- يا عيني على الصبر المخدّر


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - جواد كاظم غلوم - الحياةُ حينما تأنسُ الموتَ