أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - تيار (التحدي) التحرر الديمقراطي المغرب - حراك الريف إلى أين ؟















المزيد.....



حراك الريف إلى أين ؟


تيار (التحدي) التحرر الديمقراطي المغرب

الحوار المتمدن-العدد: 5598 - 2017 / 8 / 1 - 09:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في أي سياق يندرج الحراك الشعبي في الريف؟
نحن في سياق تاريخي جديد ومن المتوقع أن تعرف دول شمال إفريقيا تحولات كبرى تعيد صياغة الخريطة السياسية في المنطقة. ومن المحتمل أن يكون المغرب على أبواب هذه التحولات. في هذه الحالة قد يكون لحراك الريف مكانة تاريخية في كونه شكل مقدمة لتحولات كبرى تغير معالم مغرب ما بعد الاستقلال.
باستقلال عن هذه التوقعات، نحن نعتبر حراك الريف حدثا كبيرا في هذه المرحلة من تاريخ الريف. وككل الأحداث الكبرى لا يكفي الوقوف عند العوامل المفجرة للحراك الشعبي(طحن الشاب محسن فكري) أو مطالبه المباشرة (المطالب الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية)، بل لابد من رؤية تذهب إلى ما وراء الحدث في حد ذاته، لاستقراء ديناميته وآفاقه المباشرة والبعيدة. وبما أن لحراك الريف ما قبله فسيكون له ما بعده. هذا هو الخيط الذي يجب الإمساك به لوضع الحراك في سياقه التاريخي والسياسي.
يندرج حراك الريف ضمن مسار تاريخي طويل ومتعدد الأبعاد. وهو مسار، إن كان يتقاطع مع السياق السياسي العام وطنيا ويتفاعل مع ما يجري في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط ، فان جذوره ممتدة في الأرض والهوية و التاريخ المشترك لسكان الريف. وهو يتغذى من الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الحالي ويعكس تجربة الجيل الجديد السياسية ومستوى وعيه التاريخي بقضيته. ويشكل الحراك حلقة جديدة في المسار التاريخي لكفاح شعب الريف من اجل التحرير والتحرر.
هذا باختصار وتكثيف شديدين، هو السياق الذي يندرج فيه حراك الريف، والذي يصعب اختزاله في مرحلة دون ربطها بالمرحلة السابقة لها.
هناك من يعتبر حراك الريف استمرارا لحركة 20 فبراير، وهناك من يعتبره حركة احتجاجية. ضمن أي مسار سياسي اذن يندرج حراك الريف ؟
صحيح أن الريف ليس منطقة معزولة عن محيطها الوطني والجهوي، وصحيح أيضا أن كفاح سكان الريف يتغذى هو الأخر من الصراع الاجتماعي والسياسي لشعوب المنطقة، لكن الاعتقاد بان حراك الريف هو مجرد استمرار لحركة 20 فبراير أو مجرد حركة احتجاجية عابرة هو نابع إما عن جهل بتاريخ الريف السياسي أو نابع من إرادة واعية تسعى إلى اختزال تاريخ الريف في المرحلة الراهنة دون ربطها بما سبقها من مراحل. ودون العودة إلى كل مراحل المسار التاريخي لكفاح شعب الريف، الذي هو جزء من كفاح شعوب شمال إفريقيا، يكفي الانطلاق من عهد الاستعمار الأوربي للوقوف على الجذور التاريخية لقضية الريف وتسليط الضوء على الكفاح التاريخي لشعب الريف الذي يشكل الحراك الحالي احد حلقاته.
فالريف ليس مجرد منطقة جغرافية، بل هو ارض وهوية تاريخية وثقافية ضاربة في القدم.
الريف في عهد الاستعمار الأوربي لشمال إفريقيا، هو المنطقة الشمالية من المغرب التي كانت خاضعة للاحتلال الاسباني بين 1912 -1956 بموجب مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906) واتفاقية الحماية التي قسمت المغرب إلى ثلاثة مناطق استعمارية : المنطقة الشمالية (الريف الكبير) والمنطقة الجنوبية (من افني إلى وادي الذهب) اللتان خضعتا للاحتلال الاسباني والمنطقة الوسطى (من جنوب الريف الكبير إلى سوس) والتي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي. بينما كانت طنجة آنذاك منطقة تحت إدارة دولية (فرنسا،اسبانيا،ايطاليا،أبريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية).
عرفت هذه المناطق الثلاث مع بداية الاحتلال مقاومة شعبية، أهمها حركة موحى حمو الزياني بالأطلس المتوسط وحركة ماء العينين بسوس والصحراء الجنوبية وحركة عبد الكريم الخطابي بالريف. ويتضح من الوهلة الأولى، ارتباط هذه الحركات الثلاث بمناطق ذات خصوصيات تاريخية وثقافية وسياسية مختلفة (الريف ،الأطلس،الصحراء ) والمشترك بين هذه المناطق هو عدم خضوعها كلية للنفوذ المخزني (بلاد السيبة). بالمقابل شكلت المنطقة السلطانية (جنوب الريف وشمال الأطلس المتوسط) والمنطقة الخليفية (تطوان) محميات استعمارية، لكونها كانت تشكل مناطق نفوذ السلطان (بلاد المخزن).
وبما أن موضوعنا هو الريف فسنحاول تسليط الضوء على مسار حركة التحرير بالريف بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم الخطابي.
بعد موافقة السلطان عبد الحفيظ على احتلال المغرب وتقسيمه في 1912 . أعلن عبد الكريم الخطابي، الذي كان آنذاك قاضيا بمليلية الخاضعة للاحتلال الاسباني، عن معارضته لهذه الاتفاقية ، فتمت إقالته والحكم عليه بالسجن في سنة 1914. نظم عبد الكريم الخطابي عملية فرار كللت بالنجاح، فدخل إلى الريف واستقر بين قبائل بني ورياغل . وفور عودته شرع في تعبئة السكان وتدريب المقاتلين، مستفيدا من خبرته بالأسلحة ( خريج كلية المعادن والتكنولوجيا الحربية باسبانيا) وعلاقته بمناهضي الاستعمار في اسبانيا (الجمهوريين). شكل عبد الكريم ألوية مقاتلة وأطلق شرارة حرب تحرير شعبية في الريف، كللت أول معاركها بالانتصار على الجيش الاسباني (معركة أنوال الشهيرة في1921 ).
لم يكن الانتصار العسكري هو وحده مصدر التعاطف والالتحام الشعبيين بحركة عبد الكريم الخطابي، بل أيضا وأساسا بالنظر إلى الإستراتيجية الثورية التي اعتمدتها الحركة والقائمة على التمفصل العضوي بين الطليعة الثورية (النشطاء) والقاعدة الشعبية وربط التحرير الترابي بالحكم الذاتي والتنظيم الذاتي بالمشاركة الشعبية في حرب التحرير . فبالموازاة مع تقدم المقاتلين في جبهات القتال، كان نشطاء الحركة ينظمون السكان في لجان محلية لتسيير شؤون القرية أو المدينة . وبينما كان مركز القيادة السياسية في أجدير يسهر على إدارة شؤون الوزارة (الحكومة) والمجلس الوطني (البرلمان) والجيش(جيش التحرير الوطني) كانت كونفدرالية اللجان المحلية تتشكل تدريجيا كسلطة شعبية .
على قاعدة هذه الإستراتيجية، شكلت الحركة الخطابية جمهورية شعبية مستقلة (جمهورية كونفدرالية قبائل الريف المستقلة) ولم تعلن عن قيام دولة ريفية مستقلة، لان الدولة الوطنية المنشودة كانت تدخل ضمن أفق استراتيجي يدمج بين الاستقلال ، الحكم الذاتي والتوحيد الكونفدرالي لشعوب المنطقة (اتحاد شعوب شمال إفريقيا) أي تحقيق المهام الوطنية الديمقراطية.
وهذا ما جعل جمهورية الريف المستقلة وحركة عبد الكريم الخطابي يحظيان بالالتفاف الشعبي وبتعاطف حركات التحرير الوطني بالمستعمرات وبدعم الحركة الشيوعية العالمية. فقد كانت أجدير، عاصمة الجمهورية، قبلة للعديد من ثوار العالم وزعماء حركات التحرر الوطني. كما حظيت جمهورية الريف المستقلة بالاعتراف من قبل حكومة اتحاد الجمهوريات السوفيتية آنذاك. وقد شكل هذا الاعتراف حافزا سياسيا ومعنويا لتقدم الجيش الجمهوري جنوبا لمواصلة معركة التحرير. وقد وصل مقاتلوه إلى مشارف فاس، عاصمة السلطان عبد الحفيظ حليف الاستعمار، بعد الانتصار في عدة معارك على قوات المخزن المدعومة من قبل جيش الاحتلال الفرنسي.
لكن بقدر التعاطف الشعبي والتأييد الدولي من قبل أحرار العالم وثواره، بقدر ذعر القوى الاستعمارية والقوى الرجعية المعادية للتحرر الوطني. فتحت ذريعة "حماية العرش" وفي سياق مضاد لحركات التحرير الوطني، ولإجهاض الدينامية الثورية التي أطلقتها جمهورية الريف المستقلة، تشكل تحالف دولي (أوربي وأمريكي) للتدخل في الريف لإسقاط الجمهورية و القضاء على حركة التحرير. وتم حشد جيش فاق عدده 450 ألف جندي (فرنسا250 واسبانيا 200 ألف جندي ) معززا بخبراء عسكريين من أمريكيا وايطاليا وألمانيا التي مدت جيوش التحالف الدولي بالسلاح الكيماوي. ولتوفير غطاء شرعي للتدخل في الريف، انضم المخزن (في شخص السلطان عبد الحفيظ) إلى التحالف الدولي بجيش قوامه حوالي 7 الاف من الخيالة، للقتال ضد حركة التحرير الوطني بالريف. وقد شكلت مشاركة المخزن في العدوان على جمهورية الريف المستقلة محطة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث. حيث أصبح الموقف من السلطان ونظامه المخزني حدا فاصلا بين من مع الريف ومن ضد الريف. وهو ما يعكسه شعار "عاش الريف و لاعاش من خانه " الذي تتوارثه الأجيال ولازال يتردد في مسيرات الحراك الشعبي بعد حوالي قرن.
انتهت الحرب بسقوط الجمهورية وتصفية نشطائها ونفي زعيمها إلى لارينيون (احدى المستعمرات الفرنسية) فنال عبد الكريم الخطابي شرف تتويجه زعيما وطنيا لحركة التحرير المغربية، وتم توشيح سلطان المخزن بوسام خيانة شعبيه فنال حقد الريف وشعبه.
إن كل ما سيأتي بعد ذلك من أحداث في المغرب وفي الريف على وجه الخصوص، بما في ذلك الحراك الشعبي الحالي، يجد جذوره في هذه المرحلة من تاريخ المغرب.
لكن الم يشكل سقوط الجمهورية في 1926 وتشكل الحركة الوطنية في الشمال مع بداية الثلاتينات نهاية الريف كتاريخ سياسي خاص وذوبانه في تاريخ الحركة الوطنية ؟
بعد سقوط الجمهورية أصبح الريف منطقة عسكرية (عسكرة الريف تعود إلى هذا التاريخ) تحت قيادة الجنرال فرانكو الذي تولى مهمة إخضاع الريف وسحق حركته الوطنية بتجفيف كل منابع المقاومة، خاصة في الريف الأوسط. ولعزل شرق الريف عن غربه، سمح الاحتلال الاسباني بهامش سياسي للنخبة العربية من أصل أندلسي في تطوان ، للقيام ببعض الأنشطة الثقافية والتربوية والإعلامية، بعد فشله في تشكيل أحزاب ريفية موالية للاحتلال . و هي نفس السياسة التي نهجها الجنيرال ليوطي في مدن فاس وسلا والرباط......وقد كان هدف هذه السياسة هو تشجيع النخب من أصول عربية وأندلسية للقيام بدور الوساطة بين إدارة الحماية والأهالي، بعد أن تبين انهيار شرعية القياد والأعيان الموالين للمخزن. وقد تزامنت هذه السياسة مع بداية بروز تناقضات بين البرجوازية الاستعمارية والبرجوازية المحلية الصاعدة نتيجة سياسة التمييز التي كانت تنهجها إدارة الحماية. لكن الهدف غير المعلن، كان هو سد الباب كل المنافذ على المقاومة الشعبية وحركة التحرير الوطني.
ضمن هذا السياق تشكلت "الرابطة المغربية" في 1926 تم كتلة العمل الوطني في 1934 من قبل شخصيات من العائلات البرجوازية (علال الفاسي، احمد بلافريج، محمد بلحسن الوازاني)على قاعدة مطلب "إصلاح نظام الحماية" (وليس إسقاطه كما هو الحال مع حركة التحرير الوطني). وقد كانت "الكتلة الوطنية" تراهن آنذاك، على التغيير السياسي الذي حدث في فرنسا واسبانيا (صعود الجبهة الشعبية وانطلاق الثورة في اسبانيا) للدخول في مفاوضات مباشرة مع الحكومات الاستعمارية حول "تطبيق" نظام الحماية بعد سعي الدول الاستعمارية إلى ضم المغرب تحت السيادة الفرنسية والاسبانية. وبالفعل فقد تقدمت كتلة العمل الوطني في 1936 ببرنامج "مطالب إصلاحات استعجالية " إلى حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا. لكن انشقاق الكتلة (بفعل الصراع بين جناح الشمال بقيادة محمد حسن الوازاني وجناح الوسط بقيادة علال الفاسي) وانقلاب الوضع في فرنسا (عودة اليمين الفرنسي إلى الحكومة) واسبانيا (الانقلاب الفاشي على الجمهوريين) سيضع حدا للكتلة الوطنية.
بعد ذلك، ستقدم النخب البرجوازية من أصول عربية على تأسيس أحزاب جهوية . ففي المنطقة الشمالية (المستعمرة الاسبانية) سيؤسس كل من حسن الوازاني الجبهة القومية وعبد الخالق الطريس حزب الإصلاح الوطني والمكي الناصري حزب الوحدة المغربية قبل أن تتوحد مع الجبهة القومية في حزب الجبهة القومية الوطنية التي ستتقدم بوثيقة " الاستقلال ووحدة المغرب الترابية وإسقاط نظام الحماية". وفي المنطقة الجنوبية(المستعمرة الفرنسية)أسس علال الفاسي الحزب الوطني الذي سيصبح في سنة 1943 حزب الاستقلال.
ورغم العديد من أوجه الخلاف والتناقضات بين هذه الأحزاب الوطنية، فإنها كانت تعكس نفس الحركة السياسية: قيادات من أصول برجوازية مرتبطة سياسيا بالمخزن (فغالبية مؤسسيها ينحدرون من اسر مرتبطة بالمخزن قبل الاستعمار وخلال فترة الحماية وبعدها). وهي تتشكل من قاعدة اجتماعية ذات غلبة عربية وأندلسية. وهوية إيديولوجية سلفية أو قومية إصلاحية. وهي كلها خصائص تختلف عن خصوصيات حركة التحرير الوطني الاجتماعية والثقافية والتاريخية.
هل تعني بذلك أن المسار التاريخي لحركة التحرير الوطني ليس هو مسار الحركة الوطنية؟
يجب التمييز بين الحركة الاستقلالية (حركة المطالبة بالاستقلال) وحركة التحرر الوطني المغربية ( حركة التحرير بالريف والأطلس والصحراء وحركة المقاومة المسلحة بالمدن). ويعود الاختلاف بين هاتين الحركتين إلى عوامل تاريخية سابقة للاستعمار الأوربي (تاريخ شعوب المنطقة ) وعوامل سياسية ( اختلاف الأهداف الإستراتيجية بين الحركتين). فحركة التحرير الوطني بالمغرب (وشمال إفريقيا بشكل عام) هي امتداد لمقاومة شعوب المنطقة ضد الغزو الأجنبي والاضطهاد الديني والثقافي والقومي (مقاومة محو الهوية الوطنية والثقافية والتاريخية) بينما ارتبط وجود حركة المطالبة بالاستقلال بإلغاء اتفاقية الحماية، دون المساس بتوابث الهيمنة الدينية والثقافية والقومية للطبقة الحاكمة.
هناك ادن اختلاف على أكثر من مستوى، بين حركة التحرير الوطني في الأطلس والريف والصحراء والحركة الاستقلالية في شمال المغرب وجنوبه . فالأولى كانت حركات مسلحة تستهدف تحرير البلاد والقضاء على المخزن، أما الثانية فهي حركة سياسية إصلاحية تستهدف إصلاح نظام الحماية، قبل أن تتحول فيما بعد إلى حركة سياسية تستهدف الاستقلال وإصلاح النظام السياسي المخزني .
وإذا كانت الحركتان تلتقيان حول مفهوم الوطن (le territoire) فإنهما تختلفان حول مفهوم الوطنية (Le nationalisme) فمضمون وطنية الحركة الاستقلالية هو العروبة والإسلام كهوية والملكية كضامن للوحدة والسيادة الوطنية (وطنية البرجوازية العربية والارستقراطية المخزنية) بينما تقوم وطنية حركة التحريرالوطني على الهوية الثقافية والخصوصيات القومية والتاريخ المشترك لمكونات الشعب المغربي وعلى النظام الكونفدرالي كضامن للوحدة والسيادة الوطنية .
هذا الاختلاف بين الحركتين سيطبع علاقتهما بالتوتر والصراع خلال الحماية وفي الكفاح من اجل الاستقلال، وسينفجر في صراع مسلح في الريف والأطلس والصحراء، مباشرة بعد التوقيع على اتفاقية ايكس ليبان بين المخزن والاحتلال.
وإذا كانت الحركتان قد تحالفتا لفترة حول هدف "الاستقلال " فان هذا لا يعني انصهار الحركتين في حركة سياسية واحدة . فالحركتان تختلفان حول إستراتيجية التحرير وشكل الاستقلال ومضمون التحرر الوطني. وهذا ما يفسر فك الحركة الاستقلالية لتحالفها التكتيكي مع حركة التحرير مباشرة بعد"الاستقلال" لصالح تحالفها الاستراتيجي مع المخزن.
ألا يمكن اعتبار استقلال المغرب في 56 قد شكل نهاية هذا المسار السياسي الخاص بالريف وبداية مسار سياسي جديد ؟.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أنهت أبريطانيا معاهدة الانتداب على المنطقة فحصلت بعض الدول العربية على الاستقلال ( مصر ، السودان،العراق ،لبنان ،سوريا، السعودية، اليمن الشمالية). بالمقابل رفضت فرنسا إنهاء الحماية وشرعت في الإعداد لضم منطقة شمال إفريقيا ضمن ما سمي آنذاك "الاتحاد الفرنسي". وقد كانت فرنسا تهدف إلى استبدال نظام الحماية بنظام حكم مباشر.
في هذا السياق تأسست جامعة الدول العربية (مارس 1945) التي أعلنت في مؤتمرها الثاني بالقاهرة (فبراير 1947 ) عدم الاعتراف بالانتداب الفرنسي وشكلت لجنة دائمة لمتابعة الوضع في "المغرب العربي" وتنسيق عمل الحركات الوطنية الاستقلالية على الصعيدين القومي والدولي. وفي هذا الإطار شكلت الجامعة "مكتب المغربي العربي" الذي ضم ممثلين عن تونس (حزب الدستور) والجزائر(حزب الشعب) والمغرب (حزب الاستقلال). وقد كان نشاط هذا المكتب يتمحور حول الإعلام وتنظيم الندوات واللقاءات للتعريف بقضية "المغرب العربي" وهو نشاط مكمل لنشاط أحزاب الحركة الوطنية الاستقلالية المتمحور حول العمل السياسي والدبلوماسي لإقناع دول التحالف (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطاني) بالوفاء بما وعدت به قبل الحرب : "حق المستعمرات في تقرير مصيرها".
ثلاثة أشهر بعد مؤتمر القاهرة ( ماي 1947) دخل عبد الكريم الخطابي إلى مصر بعد عملية فرار ثانية (الأولى في 1914 ). وفور نزوله بمصر، صرح عبد الكريم الخطابي بأنه " مصمم على محاربة فرنسا" وانه يرفض كل " حوار في الظروف الحالية فإما أن يخرج الفرنسيون وإما أن يفصل بيننا السيف ".
التحق عبد الكريم الخطابي بمكتب المغرب العربي وبعد 6 أشهر من التحضير أعلن في يناير 1948 عن تأسيس لجنة تحرير شمال إفريقيا (لجنة تحرير المغرب العربي) التي سيتولى هو نفسه رئاستها.ومن بين النقط الواردة في الميثاق التأسيسي لهذه اللجنة، رفض كل أشكال المفاوضات مع المستعمر ومواصلة الكفاح إلى حين حصول كل أقطار شمال إفريقيا على الاستقلال.وبذلك يكون عبد الكريم الخطابي قد وضع الاستقلال وإستراتيجية تحقيقه وهدفه النهائي ضمن إطار عام مختلف عن إطار الحركة الوطنية الاستقلالية بالمغرب. فالإطار العام للاستقلال بالنسبة للحركة الاستقلالية كان هو إلغاء نظام الحماية عن طريق المفاوضات (المباشرة أو غير المباشرة ) والعودة إلى نظام الحكم السابق لعهد الحماية لإصلاحه بتحالف مع الملك (كما تنص وثيقة المطالبة بالاستقلال) أما الإطار العام لحركة التحرير الوطني فكان هو تحرير المغرب الكبير عبر ثورة مسلحة لتحرر شعوب شمال إفريقيا من الاستعمار ووكلاء الاستعمار.
وخلافا للحركات الوطنية الاستقلالية التي وضعت كهدف لها "الاستقلال في بلد واحد" لإقامة "دولة وطنية" على خريطة التقسيم الاستعماري للمنطقة، لم يكن هدف حركة التحرير"الاستقلال في بلد واحد" ولم تطرح حدودا ترابية أو هوية قومية أو دينية لطبيعة الدولة المغربية المستقلة . هل كان ذلك فراغا في إستراتيجية حركة التحرير أم يعود إلى منظور مختلف لمسالة الدولة المغربية المستقلة ؟
للتذكير فان حركة التحرير في الريف، حينما أعلنت عن قيام جمهورية الريف المستقلة، لم تعلن عن قيام دولة مستقلة ترابيا وذات هوية ريفية ، بل طرحت النظام الكونفدرالي كإطار سياسي للدولة المغربية المنشودة. وهذا ما يفسر غياب مفهوم "الدولة الوطنية" سواء في إعلان الجمهورية أو في الميثاق التأسيسي للجنة تحرير شمال إفريقيا. كما أن الحركة، خلافا للحركة الوطنية الاستقلالية، لم تطرح نفسها كقيادة سياسية لحركة التحرر الوطني المغربية. ويعود السبب في ذلك إلى مفهوم القيادة السياسية عند حركة التحرير الوطني. فعند الإعلان عن جمهورية الريف المستقلة، لم تنصب حركة عبد الكريم الخطابي نفسها قيادة سياسية لحركة التحرر المغربية، ولم تنصب عبد الكريم الخطابي رئيسا للجمهورية،بل زعيما وطنيا و شكلت حكومة ثورية من أعضاء الحركة (كحكومة ثورية) ومجلس شعبي "مجلس وطني " كنواة لسلطة وطنية شعبية ممثلة للمناطق والجهات بما في ذلك المناطق والجهات الأخرى خارج الريف.
فور الإعلان عن تأسيس لجنة حركة التحرير، شكل عبد الكريم الخطابي أول كتيبة لجيش التحريرالمغاربي من متطوعين من تونس والجزائر والمغرب وكان من بينهم الأمير رشيد الخطابي. وبعد مشاركة كتيبة المتطوعين في جبهة القتال بفلسطين، التحقت بعد النكبة بالجيش السوري لتكوين كتيبة المغاربة. وفي نفس السنة (1948) أرسل عبد الكريم الخطابي على نفقته الخاصة، مجموعة من الطلبة المغاربة للدراسة في المعاهد العسكرية بالعراق.
في 1949 كلف عبد الكريم الخطابي احد ضباط الكتيبة المغربية (عزالدين عزوز من تونس) بمهمة تكوين قاعدة خلفية لجيش التحرير المغاربي في ليبيا، لكن فشل المفاوضات مع الحركة الاستقلالية التونسية، حال دون ذلك، فعاد للعمل في مكتب عبد الكريم الخطابي . وفي 1951 شرع عبد الكريم الخطابي في تشكيل جيش التحرير المغاربي. فبعث بالكتيبة المغربية إلى ليبيا تحت إشراف عبد السلام الطود (احد خريجي البعثة العراقية) لتشكيل قاعدة متقدمة للربط بين مركز القيادة بالقاهرة ومراكز قيادة العمليات بكل من تونس والجزائر والمغرب.
ضمن هذا السياق تم تأسيس مركز قيادة جيش التحرير بالمغرب بمدينة الناضور الذي كان عباس المسعدي منسقه العام وعبد الله الصنهاجي منسقه الميداني وسعيد بونعيلات مكلفا بالتنسيق مع المقاومة في منطقة الحماية الفرنسية وعبد الكبير الخطيب منسقا مع الخارج . وشرع مركز القيادة بدوره في تشكيل لجان المناطق، خاصة على الحدود الفاصلة بين الريف ومنطقة الحماية الفرنسية. وشرعت لجان المناطق في تشكيل خلايا جيش التحرير المكلفة بالاستقطاب والتكوين السياسي والتدريب العسكري, كما شكلت قيادة جيش التحرير خلايا خاصة، في الداخل والخارج، لامداد قيادة جيش التحرير بالأسلحة. وتمت تعبئة الدواوير وتنظيمها لاحتضان المقاتلين ومدهم بالتموين الغذائي.
لقد شكل تأسيس جيش التحرير خطوة هامة في تاريخ المقاومة المسلحة بالمغرب التي كانت قد انطلقت في المدن وشرعت في تنفيذ عمليات فدائية ضد الفرنسيين والخونة المتعاونين مع الاحتلال.
وفي 1953 انطلقت حرب التحرير من الريف نحو الجنوب في تلاحم مع المقاومة المسلحة بالمدن وسط المغرب، لترغم الاحتلال الفرنسي على الاختيار بين الاندحار أو التفاوض حول الاستقلال. فكان التوقيع على اتفاقية ايكس ليبان مع السلطان محمد بن يوسف (محمد 5) أهون الشرين.
ولا بد من التذكير بان المعاهدة (اتفاقية ايكس ليبان) التي وافقت عليها الحركة الاستقلالية ممثلة في حزب الاستقلال (حزب البرجوازية الوطنية في الجنوب) وحزب الشورى والاستقلال (حزب البرجوازية الوطنية في الشمال) لم تكن تحظى بموافقة جيش التحرير وقسم كبير من المقاومة . هذا الخلاف السياسي سيكتسي طابعا مسلحا في الريف والصحراء التي كانت خاضعة للاستعمار الاسباني. وقد عارض عبد الكريم الخطابي من منفاه آنذاك هذه الاتفاقية معتبرا كل ما سيترتب عنها باطلا(ما بني على باطل هو باطل على حد تعبيره) متهما الحكومة الائتلافية بسرقة الاستقلال (انتم حكومة آم عصابة). كما رفض نشطاء جيش التحرير إلقاء سلاحهم والاندماج في الجيش الملكي. وما حصل في المنطقة الشمالية هو نفسه ما حصل في المنطقة الجنوبية.
هل معنى هذا أن انتفاضة 57 -59 هي امتداد لحركة التحرير الوطني ؟
هناك عوامل ذات بعد تاريخي وسياسي وثقافي تفسر انتفاضة سكان الريف (المستعمرة الاسبانية في الشمال) وانتفاضة سكان وادي الذهب والساقية الحمراء (المستعمرة الاسبانية بالجنوب). وهذا ما تجاهلته الحركة الوطنية الاستقلالية بتيارها السلفي الإصلاحي (حزب الاستقلال) وتيارها القومي التقدمي (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) الذي كان خاضعا آنذاك للتأثير السياسي والإيديولوجي للتيار القومي العربي التقدمي الصاعد آنذاك (حزب البعث العربي والحزب الاشتراكي الناصري).
لقد كانت الحركة الوطنية الاستقلالية تراهن على العامل الديني ( بالنسبة لحزب الاستقلال) وعلى العامل الاقتصادي ( النسبة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) لتذويب عوامل الهوية الثقافية والتاريخية واستيعابها في "الهوية العربية الإسلامية " (حزب الاستقلال) أو الهوية القومية العربية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) وتدجين حركة التحرير الوطني في المشروع السياسي للحركة الوطنية الاستقلالية .
أما الحزب الشيوعي المغربي سليل الحركة الشيوعية الأوربية، التي لم تكن تعترف بالهوية القومية والثقافية والخصوصيات التاريخية لشعوب المستعمرات، بمبرر وحدة الهوية الطبقية ، فقد كلفه ذلك عزلته السياسية عن حركة التحرير الوطني وتبعيته السياسية للحركة الوطنية الاستقلالية، قبل إقدام هذه الأخيرة على حظره سياسيا وتجريم هويته الطبقية كمكون من مكونات الهوية الوطنية لدولة الاستقلال.
بعد استقلال المخزن عن إدارة الاحتلال في 1956 ،كانت أولوية الحركة الوطنية الاستقلالية هي مباشرة الإصلاحات السياسية (إصلاح المخزن) لبناء دولة برجوازية مستقلة، في حين كانت الأولوية بالنسبة لجيش التحرير والمقاومة هي استكمال التحرير الوطني والقضاء على النظام المخزني لبناء سيادة وطنية وتحرر وطني فعليين. وعلى قاعدة هذا الخلاف رفضت حركة التحرير الوطني الإلقاء بسلاحها والاندماج في مؤسسات الدولة المخزنية (الجيش والإدارة والمجالس) فردت حكومة الائتلاف الوطني ( بقيادة حزب الاستقلال) بإعلان جيش التحرير منظمة غير قانونية (إرهابية بلغة اليوم) ودعت مقاتليه إلى الاندماج في الجيش الملكي وشرعت في احتواء نشطاء المقاومة عبر منح الامتيازات والوظائف لدمجهم في الدولة الجديدة .
ضمن هذا السياق انفجرت انتفاضة الكرامة في الريف 57 -59 (وانتفاضة ايت باعمران في الجنوب) وهو سياق يمكن تلخيصه في الصراع بين الحركتين حول شروط الاستقلال وطبيعة الدولة الوطنية المستقلة التي ستحل محل إدارة الاحتلال (اي مشروع التحرر الوطني ككل). لهذا فرغم انفجار انتفاضة الكرامة على قاعدة مطالب اقتصادية واجتماعية، فان مطلب عودة الزعيم الوطني عبد الكريم الخطابي واستعادة قبر جثمان عباس المسعدي أحد أبرز قادة جيش التحرير(الذي قتل في عهد حكومة الاستقلال) لإعادة دفنه في أجدير مسقط رأسه، كان يعكس بشكل غير مباشر عدم الاعتراف بشروط وقيود اتفاقية ايكس ليبان التي وافقت عليها وتقيدت بها الحركة الوطنية الاستقلالية. فقد كان السماح بعودة الزعيم الوطني عبد الكريم الخطابي من منفاه إلى وطنه، بمثابة خرق لاتفاق ايكس ليبان واعتراف ضمني بشرعية مواصلة حركة التحرير الوطني لنشاطها السياسي والعسكري، وهو ما كان يرفضه الاستعمار والمخزن حليف الحركة الوطنية الاستقلالية.
وبدل الاستجابة لمطالب حركة التحرير الوطني، رضخت الحركة الوطنية الاستقلالية لشروط القوى الاستعمارية والمخزنية مفضلة فك تحالفها التكتيكي مع حركة التحرير الوطني على مواصلة الكفاح الوطني لتحقيق مهام التحرر الوطني.
فشنت حكومة الاستقلال حملة اختطافات واعتقالات واغتيالات في صفوف نشطاء المقاومة وجيش التحرير.
وبدل الاعتراف بحركة التحرير الوطني بالريف الرافضة لاتفاقية ايكس ليبان، اعتقدت الحكومة الاستقلالية أن التصفية السياسية للحركة الوطنية الريفية، سيضع حدا لمطالب الريف ومطامحه التحررية. وبدل الاعتراف بهوية الشعب المغربي بمكوناتها التاريخية والثقافية والإقليمية ... استسلمت الحركة الوطنية الاستقلالية أمام الملكية فاسحة المجال أمام هذه الأخيرة للشروع فيما بعد في تصفية هوية الحركة الوطنية الاستقلالية (العروبة والإسلام) وفرض هويتها الخاصة (الله، الوطن،الملك) على مؤسسات الدولة (الجيش،الدرك....) والشركات الوطنية ومؤسسات المجتمع.
هل يشكل الحراك الشعبي في الريف استمرارية لانتفاضة 57 -59 وما هي عناصر هذه الاستمرارية؟
صحيح أن الحراك يشترك مع الحركة الوطنية الريفية نفس المنطلقات التاريخية والسياسية، لكن من السابق لأوانه الجواب على هذا السؤال. اذ يمكن للحراك الحالي أن يشكل استمرارية سياسية للحركة الوطنية الريفية التاريخية وإن بتمظهرات مختلفة، كما يمكن للحراك أن يشكل مقدمة لولادة حركة سياسية جديدة في الريف. إن المستقبل السياسي لحراك الريف ستحدده عوامل مرتبطة بالسياق التاريخي ( مكانة الهوية القومية والثقافية في المرحلة التاريخية الراهنة) والسياق السياسي المضطرب بالمنطقة ( دور الأقليات القومية و الاثنية والثقافية المضطهدة في خريطة التحولات السياسية المرتقبة في المنطقة) وموازين القوى بين مختلف التيارات الفكرية و السياسية والإيديولوجية الناشطة في المجتمع الريفي. هذه العوامل متضافرة ، هي التي ستجيب في النهاية عن المستقبل السياسي لحراك الريف.
كل ما نستطيع تأكيده الآن، هو أن الحراك قد نجح في تلقيح قطاعات واسعة من شعب الريف، خاصة الجيل الجديد ضد فيروس المصالحة وطي صفحة القضية الريفية. كما نجح الحراك في توفير المناخ السياسي والإيديولوجي الملائمين لإعادة تشكل الحركة السياسية الريفية. ومن المتوقع أن تثمر هذه التعبئة وهذا المناخ الجديد، ولادة حركة سياسية جديدة في الريف بعد إفلاس "الدكاكين السياسية" . فهل ستكون التنظيمات السياسية والاجتماعية الديمقراطية والتحررية في مستوى هذا التحدي ؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات القادمة. لكننا نستطيع القول بان مرحلة سياسية جديدة قد انفتحت في الريف وهي تمتد بتداعياتها إلى باقي المناطق، ومن المؤكد أن الريف يشكل الآن طليعة النضال من اجل التحرر الديمقراطي وطي صفحة النظام المخزني.
لكن مطالب الحراك اقتصادية واجتماعية و كثير من النشطاء يعتبرون أن سقف الحراك هو تلبية هذه المطالب ، بل إن النظام هو من يتهم نشطاء الحراك بتسييس المطالب الاقتصادية والاجتماعية.
نعم مطالب الحراك هي مطالب اقتصادية اجتماعية وثقافية، لكن هناك مستويين يجب التمييز بينهما: المستوى الأول هو الحراك، وعلى هذا المستوى فان نشطاء الحراك هم من يرسم الأهداف ويحدد تكتيكات النضال. والمستوى الثاني هو النظام وتكتيكه لعزل الحراك سياسيا والقضاء عليه. العلاقة بين هذين المستويين هي علاقة صراع وليست علاقة حوار. وكما هو الشأن بجميع الصراعات، فلكل طرف أهدافه التكتيكية والإستراتيجية.
بداية نحن نعتبر أن النظام المخزني، لايمثل فقط جزء من المشكلة، بل هو المشكلة بعينها، وبالتالي فحل مشكلة الريف هو من خارج النظام وليس من داخله وهذا يدركه نشطاء الحراك والقاعدة الشعبية الواسعة من سكان الريف. كما تدركه القوى الملتفة حول المخزن ويجب أن تدركه القوى الداعمة للحراك. فقد اكتسب نشطاء الحراك وغالبية القاعدة الشعبية بالريف وعيا تاريخيا يصعب اختراقه أو تدجينه أو احتواؤه ، والنظام يدرك ذلك جيدا. لهذا فقد وضع المخزن كهدف تكتيكي مباشر، شيطنة الحراك لتشكيل إجماع وطني ودولي حوله، يسمح له بعزل الحراك داخليا وخارجيا. أما الهدف الاستراتيجي فهو سحق الحراك قبل تطوره إلى حركة شعبية حاملة لمطالب ديمقراطية. لهذا يسعى المخزن بكل جهده إلى احتواء الحراك في "مطالب اجتماعية وتنموية" يسهل الالتفاف عليها. لأنه يدرك، أكثر من غيره، أن مطالب الريف مطالب ديمقراطية لا حل لها إلا بتقديم تنازلات سياسية فعلية وهو ما يرفضه. لان تقديم تنازلات سياسية سيغذي المطالب الديمقراطية في باقي المناطق والجهات. وهي مطالب مفتوحة على دينامية سياسية تضع النظام المخزني موضع تساؤل وتطرح جدوى استمراره في مرحلة لا مبرر فيها لوجوده. لهذا فان كل المناورات السياسية،السابقة والقادمة، هي مناورات تكتيكية لعزل الحراك كمقدمة لسحق الحراك كخيار وحيد أمام النظام.
لكن ذاكرة الريف لا زالت تحفظ شريط انتفاضة الكرامة في 57-1959. وهذه هي نقطة ضعف النظام، فهو لا يستطيع، مهما بلغ جبروت آلته العسكرية ومهما بلغ عنف أجهزته الأمنية، احتلال ذاكرة الريف. فقد يستطيع عسكرة الريف بأكمله، لكنه لن يستطيع عسكرة ذاكرة الريف. فأبناء الريف، حفدة الخطابي والمسعدي وامزيان، يتذكرون مناورات النظام عشية انطلاق الحراك الشعبي في 1957. فبعد رفض الحكومة الاستقلالية التفاوض مع نشطاء حركة التحرير، فتح القصر الملكي مفاوضات سرية مع الحركة السياسية الريفية، بوساطة من عرابيه الخطيب واحرضان، لامتصاص الغضب الشعبي في الريف وتحويل اتجاهه من صراع ضد نظام الحكم المخزني إلى صراع ضد الحكومة الاستقلالية مستهدفا بذلك إشعال "الفتنة" بين حركة التحرر الوطني بالريف والحركة الوطنية الاستقلالية وفصل شمال المغرب عن جنوبه. لكن نباهة نشطاء الريف أفشلت هذه المناورة، بالإقدام على أسر الوفد الملكي المفاوض و تنظيم عملية زحف شعبي على أجدير لتتحول مراسيم دفن جثمان القائد عباس المسعدي إلى انتفاضة شعبية عمت الريف بأكمله. ورغم عمليات الإبادة والقتل والتهجير والقصف الجوي والبري، فان ذلك لم يمنع من انبعاث حركة التحرر الريفية من جديد بعد ثلاثة عقود على انتفاضة الكرامة.
هناك إجماع حول شرعية المطالب الاجتماعية لحراك الريف باعتبارها نفس المطالب في باقي المناطق و الجهات. لكن بماذا تفسر الحذر أو الرفض الغير معلن للتطلعات والمطالب الديمقراطية لمنطقة الريف خاصة في صفوف بعض القوى الديمقراطية؟
أن تكون الازمة الاجتماعية هي نفسها ، في الريف وفي باقي المناطق والجهات، فهذا أمر طبيعي. وشرعية هذه المطالب الاجتماعية لا تحتاج الى اعتراف. فالمغرب ككل، خاضع لنفس النظام الاقتصادي وتطبق عليه نفس السياسات اللاشعبية، مما يجعل المطالب الاجتماعية بشكل عام هي نفسها (بتفاوت طبعا) في الريف وفي باقي المناطق والأقاليم . لكن وحدة المطالب الاجتماعية، لا تعني وحدة المطالب الاقتصادية، خاصة بين الطبقات الشعبية والبرجوازية المخزنية، سواء داخل الريف أو في عموم المغرب. كما أن وحدة المطالب الاجتماعية لا يمكنها محو الخصوصيات المرتبطة بالهوية التاريخية والثقافية سواء في الريف أو الأطلس أو سوس أو الصحراء.
صحيح أن الخصوصيات التاريخية والثقافية لا تتحرك خارج العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، لكن عوامل الاقتصاد والسياسة و الايدولوجيا، مهما بلغ تـأثيرها في التركيبة الاجتماعية لهذه المناطق، فهي لا يمكنها لوحدها القضاء على الشعور بوحدة الانتماء والإحساس بالمصير المشترك. وهذا ما لم يكن بمقدور الحركة الوطنية الاستقلالية بتيارها السلفي (حزب الاستقلال) و التقدمي (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) إدراكه في الخمسينيات من القرن الماضي. وهذا ما لا تريد القوى السياسية والاجتماعية، سليلة الحركة الوطنية، الاعتراف به في الوقت الراهن . لهذا فهي تفضل الاعتراف بشرعية المطالب الاجتماعية ( الوطنية الوحدة) على الاعتراف بشرعية الهوية الثقافية والتاريخية (الوحدة الوطنية) لان الحل الديمقراطي لمسالة الهوية غير ممكن من داخل توابث النظام السياسي المخزني (الدين،اللغة، الثقافة والدولة).
فبدل رد الاعتبار لحركة التحرير الريفية، والاعتراف بتاريخ الريف وهويته،كمكون من مكونات الهوية الوطنية للدولة المغربية ، شنت حكومة الاستقلال حملة اختطافات واعتقالات واغتيالات في صفوف نشطاء المقاومة الريفية، معتقدة أن التصفية السياسية للحركة الوطنية الريفية، سيقضي على الهوية الثقافية والتاريخية لسكان الريف. وبدل الاقرار بهوية الشعب المغربي، بكل مكوناتها التاريخية والثقافية ، استبدلت الحركة الوطنية الهوية الوطنية للشعب المغربي بهوية الدولة العلوية (العروبة،الإسلام،المذهب المالكي) وشعار نظامها السياسي (الله، الوطن،الملك). هذا هو المنتوج المغشوش الذي تعيد تسويقه الدكاكين السياسية والوكالات الاجتماعية الناشطة في السوق السياسية المخزنية.
ما نخلص إليه هو أن الحراك الشعبي في الريف له جذور في وحدة التاريخ والهوية والمصير، و خاطئ من يختزل حراك الريف في حركة اجتماعية عابرة ستنتهي بتصفية نشطائها أو احتواء حركة الريف في مطالب اجتماعية. فحراك الريف ليس نقابة أو جمعية تنموية يمكن حصر نشاطها في تدبير الأزمة الاجتماعية. ما نريد قوله والتاريخ حكم على ما نقول: لا يكفي الاعتراف بشرعية المطالب الاجتماعية لسكان الريف، بل المطلوب هو الاعتراف بالريف كهوية تاريخية وثقافية وكمصير مشترك بين سكانه. فالريف ليس "مشكلة اجتماعية" حتى يكون الحل اقتصاديا،الريف مسالة ديمقراطية ولا يمكن أن يكون الحل الحقيقي إلا حلا سياسيا،والحال ان اي حل سياسي فعلي لا يمكن تصوره من داخل النظام السياسي المخزني.
كيف تعكس المطالب الاجتماعية لحراك الريف التطلعات الديمقراطية لسكان الريف؟
تعكس مطالب الحراك، الواقع الاقتصادي والاجتماعي للطبقات الشعبية في الريف ( تردي الخدمات العمومية و غياب حماية اجتماعية، هشاشة البنيات التحتية ، البطالة الجماهيرية، استنزاف الموارد الطبيعية والسيطرة على مصادرها، الأرض والبحر و الغابة ). و تعبر شعاراته عن مطامح ديمقراطية وشعبية عميقة ومتعددة الأبعاد (الحرية،الكرامة، العدالة الاجتماعية). صحيح أن مطالب الحراك لا تشمل بعد مطالب خاصة بنصف سكان الريف (مطالب نسائه) لكن الحضور النسوي الملفت والوازن في الحراك، يمكن أن يشكل مقدمة لحراك نسوي في المستقبل يعطي للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مضمونها الشامل .
أما على المستوى السياسي،فقد حدد حراك الريف منذ البداية عدوه الرئيسي خلال هذه المرحلة، ممثلا في "الدولة المخزنية" (ببعدها السياسي والاقتصادي) التي تقف عائقا أمام تحرر سكان الريف وتحقيق تطلعاتهم (الحرية لي بغينا والمخزن يقمع فينا). كما حدد الحراك ما لا يريد (ثالوث الفساد: سوء التنمية ،الإدارة المرتشية،المجالس الفاسدة) وماذا يريد(حق السكان في تحديد أولويات برامج التنمية المحلية وفي مراقبة الإدارات الوصية من خلال مجالس شعبية حقيقية). وهو يتقدم تدريجيا نحو بناء أدوات تنظيماته الذاتية المستقلة بعيدا عن وصاية "الدكاكين السياسية" و وساطة المجتمع المدني المرتشي.
ومع التطور التدريجي، سيصل الحراك لا محالة إلى بلورة الإطار السياسي والبرنامجي الكفيلين بتلبية مطالب السكان وتحقيق مطامحهم الديمقراطية.
لكن المطالب الاجتماعية والتطلعات الديمقراطية لمنطقة الريف هي نفس المطالب والتطلعات في مناطق وجهات أخرى، لمذا يكتسي اذن حراك الريف طابعا خاصا مختلفا عن باقي الحركات الاحتجاجية بالمغرب؟
صحيح هناك تقاطع بين مختلف المناطق والجهات حول نفس المطالب الاقتصادية والاجتماعية، لكن هناك اختلاف على مستوى الخصوصيات التاريخية والثقافية ومكانة هذه الخصوصيات في بنية المجتمع والدولة والنظام السياسي الموروث عن حقبة زمنية قديمة. وهذا ما يفسر اختلاف الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية في المناطق ذات الخصوصيات التاريخية والثقافية (الريف،الأطلس،سوس والصحراء) عن الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية في المركز(بلاد المخزن). ويمكن الرجوع إلى تاريخ المغرب السياسي للوقوف على مظاهر الاختلاف والصراع بين هذه الحركات خلال كل العصور.
أما فيما يتعلق بالحراك الشعبي الحالي بالريف و اختلافه عن الحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب خلال العقد الأخير، فهي تعود إلى هذه الخصوصيات غير المرئية والغير مادية. وقد عبرت هذه الخصوصيات عن نفسها في الحراك الحالي من خلال راية جمهورية الريف وصور الزعيم الوطني الريفي عبد الكريم الخطابي وأقواله والعديد من المشاهد الرمزية في الحراك (قسم الولاء، شارة النصر الثلاثية.....). هذه الرموز (التعبير الرمزي عن الاحساس والشعور) لا تعكس مطالب اقتصادية واجتماعية، بل تعبر عن هوية تاريخية وثقافية مشتركة بين سكان الريف (وحدة التاريخ والهوية والمصير). هذه الهوية المشتركة هي التي تعطي للحراك الشعبي في الريف طابعا خاصا ومختلفا عن باقي الحركات الاحتجاجية والاجتماعية بالمغرب.
ولعل هذا ما يفسر ظاهرة ناصر الزفزافي نفسه. فناصر الزفزافي هو تعبير عن حاجة الحراك إلى زعيم رمزي يعطي استمرارية تاريخية، لوحدة الهوية و المصير المشترك للريفيين، في الريف والشتات. وقد اجتمعت بعض الصفات في شخص ناصر ساعدت الحراك على خلق زعيمه.
لكن نفس الأسباب لا تقود بالضرورة إلى نفس النتائج. فالشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي نفسها في منطقة تافيلالت والجنوب الشرقي. لكن رغم بروز العديد من الحركات الاحتجاجية (اعتصام ايمضر على سبيل المثال) فإننا لم نشهد تشكل حراك شعبي شبيه بحراك الريف. كما لم تحفز العديد من الحركات الاجتماعية (الحملة ضد امانديس بمدن غرب الريف) حراكا شعبيا شبيها بحراك الريف. بالمقابل شكلت الحركة الاحتجاجية بمدينة افني في 2005 بداية تشكل حراك شعبي بايت باعمران شبيها بحراك الريف، بالنظر إلى وجود خصوصيات مشتركة بين سكان ايت باعمران، تتجاوز المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي انطلقت على قاعدتها الحركة الاحتجاجية بمدينة افني.
كيف تتداخل عوامل التاريخ والهوية والمصير المشترك مع العوامل الاقتصادية والاجتماعية ؟
إذا كانت هذه العوامل الثلاث (التاريخ، الهوية ،المصير) هي المغذي للحراك الشعبي، فان هذه المغذيات، تتغذى بدورها من الواقع الاجتماعي والمعيشي الملموس. وهي ليست شعورا و إحساسا فقط ، بل هي واقع معيش له جذور في الأرض والبشر و العلاقات الاجتماعية، وهي في تفاعل دائم مع الواقع مما يجعلها تتغذى يوميا، سلبا وإيجابا،من آثار السياسات الاقتصادية والاجتماعية. لكن مهما بلغ تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية، فهي لا يمكنها لوحدها القضاء على الشعور بوحدة الانتماء والإحساس بالمصير المشترك.
ففي مثل هذه الحركات الشعبية، لا تعير الجماهير، على الأقل في بدايات حراكها، كثيرا من الاهتمام للفروقات الاجتماعية والاختلافات السياسية، لكونها تعتقد، عن صواب إلى حد ما، أن المشترك ( التاريخ والهوية والمصير المشترك) هو ثابت ومستمر على مدى الزمن التاريخي، بينما الفروقات الاجتماعية والسياسية (الانتماء الطبقي والسياسي ) هي متحولة ومتغيرة على مدى الزمن السياسي المنظور أو المحتمل. وفق هذه المعايير تتم عملية كسب النشطاء وفرز الزعماء وانتقاء القيادة. وهذا ما لم يدركه العديد من أعضاء ومناضلي اليسار في الريف.



#تيار_(التحدي)_التحرر_الديمقراطي_المغرب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحراك الشعبي بالريف: رصد لملامح كفاح استثنائي
- من دروس حراك الريف: الوعي القومي عامل مساهم في معركة التحرر ...
- الريف الكبير: التنمية والتسيير الذاتي
- رسالة من رفاقنا في الحراك الشعبي بالريف


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - تيار (التحدي) التحرر الديمقراطي المغرب - حراك الريف إلى أين ؟