أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - إيلين















المزيد.....



إيلين


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 5587 - 2017 / 7 / 21 - 09:28
المحور: الادب والفن
    


اسم الرواية إيلين

الكاتب السويدي هانس بيترسون
كتبت الرواية في العام 1973

المترجم: آرام كرابيت

نهاية القرن الثامن عشر.
فصل الشتاء السويدي البارد.
حمل أحد الفلاحين الفقراء كمية كبيرة من الأخشاب, قاطعاً الغابة سيراً على الأقدام. ساربها إلى قرب الزلاجة التي تسيرعلى الجليد. وضع الحمولة عليها, ثم دفع الحصان كي يجرها. ساربالحمولة على الجدول المتجمد القريب من البحيرة. كان في عجلة من أمره, يريد أن يسبق غيره. لم يكن الجليد بالكثافة والثخن التي يمكنه من حمل العربة وإتمام الرحلة, لهذا انهار الجليد بمن عليه, غرق الفلاح مع حصانه!
مات الجد هوكوس, مخلفاً وراءه أسرة كبيرة, امرأة, وعدد كبيرمن الأطفال.
الفقروالعوز دفع الأطفال وأمهم للجلوس على نواصي الشوارع من أجل التسول والشحاذة, وطلب الصدقة من المارة.
الرياح العاتية, أخذتهم في ذراريها, نقلتهم من مكان إلى أخر, من قرية إلى قرية, ممتهنين مد الأيدي للناس. يمشون سيراً على الأقدام من مزرعة إلى أخرى, ومن مدينة إلى أخرى, يبحثون عن موطأ قدم, أمان, مكان ما يباتوا فيه ليلتهم الباردة, ولقمة صغيرة تسد نداء الجوع في معدهم الخاوية.
أحياناً كثيرة يعملون في مهن شاقة, ويبقون أغلب الأوقات جياعاً حتى أن أحد الصغارمات من البرد في ذلك الشتاء القارس.
ما ذنبهم هؤلاء الأطفال أن يبقوا جياعاً أويمدوا أيديهم البيضاء الطاهرة للتسول أويموت أحدهم تحت غل البرد وقسوته.
لكنهم لم ييأسوا أواستسلموا لقدرهم البأس, بل عملوا جاهدين على تحسين شروط حياتهم. راحوا ينقلون الأحمال المتنوعة, خشب أوغيره من مكان إلى آخر, على زلاجة تسير على الجليد, فوق البحيرات أوعلى جداول الأنهار. في الغالب نجحوا في تأمين الطعام للأسرة ورعاية شؤون البيت والاحتياجات الأساسية اللازمة. بهذا العمل, لم يعد يحتاجوا إلى الشحادة أوالبقاء جياعاً, أويموت أحدهم من البرد.
هكذا كانت البداية, هكذا كانت الحياة للناس, دائماً, عبرالتأريخ.
تسير من سيئ إلى أسوأ لأحدى العائلات, بينما تمضي على نحو جميل ورائع لعائلة أخرى.
الأطفال في العائلة الثانية, ينمون, يترعرعون في محيط نظيف, دافئ. يتزوجون, ينجبون الأطفال بشكل سلس وهادئ, بدون مشاكل أو تعقيد.
يدخل الأحفاد المدارس, يلبسون أجمل الثياب وأفخرها, على ظهورهم حقائبهم الجلدية, وفي داخلها كتبهم ودفاترهم وسندويتشاتهم. من هؤلاء, فالتير, وخواته كايسا وبريتا وإيلين. هذه الأخيرة كانت أصغرهم.
كان والدهم قائد جوقة المرتلين في الكنيسة, يغني ويعزف على الأرغن فيها. يتمتع بصوت رخيم, بالإضافة إلى ذلك كان معلماً.
كانت العائلة تعيش في منزل كبيروجميل, لونه أحمر, يقع بالقرب من الكنيسة. لديهم الكثيرمن الغرف, تقع في الطابق الأعلى, بينما المطبخ وبقية الغرف في الطابق الأرضي.
الشرفة مطلة على الشارع.
يقع البيت في الجزء الجنوبي الشرقي من السويد, في منطقة كوتلاند الشرقية. لم يكن يبعد عن الغابة كثيراً, كما لم تكن الغابة بعيدة عن بحيرة سومين.
البيت الذي يعيش فيه فالتيرمع أخوته, يتمتع بجو ثقافي رفيع, يمكن للمرء أن يرى الكثير من الكتب على الرفوف, أدب, تأريخ, موسيقا, سياسة وفن. كما أن أفراد العائلة يعرفون كيف يستمتعون بوقتهم ويستتثمره في أشياء مفيدة, كقراءة الشعروإجادة إلقاءه بصوت عال في جو احتفالي بحضور بقية أفراد الأسرة.
كان أبوهم, يغني لهم, يصدح بصوته, يرنم الكثير من الأغاني الجميلة. أما الأم, فأنها تقرأ الروايات لأولادها بصوتها الحلو والمسموع, فتحفزهم على القراءة والتثقف والاطلاع.
إن النشاطات الثقافية الكثيرة التي كانت تقوم بها العائلة لم تخطرعلى بال الكثيرمن الناس في القرية. أشياء حلوة وجميلة, لم يسبق لغيرهم أن فعلوا مثل هذا من قبل.
في كل عيد من أعياد الميلاد, تدورالأم على منازل الفقراء, توزع عليهم الخبز مع السجق ورقائق الشوفان, وبعض الثياب القديمة. جميع الناس في القرية ساورهم الظن أنها امرأة طيبة متفانية مثل زوجهاً.
هناك, على الضفة القريبة منهم, أطفال فقراء لا حول لهم ولا قوة. أحد هؤلاء أسمه هوكو, كبرونما, في بيئة معوزة, عمل منذ نعومة أظفاره على تأمين لقمة خبزه.
هوكو طفل فقيرمنذ ولد, يعمل طوال الوقت, وصديق فالتيرلكنهم توقفوا عن اللعب مع بعضهم, لاختلاف ظروف كل واحد منهم.
فالتيريدرس, يتابع تحصيله العلمي, وتفوقه, وتدرجه الدراسي في المدينة. أما كايسا, تعمل جاهدة, تدرس وتجتهد كي ترتقي سلالم المجد, أن تصبح ممثلة مشهورة. حلمت ليال طويلة أن تصل إلى مبتغاها. رغبت أن تكون متفوقة, متميزة ومتمايزة عن أي فتاة في مثل سنها, لديها إحساس يشدها إلى ذلك, على أنها موهوبة وذكية ولديها صفات تمكنها من مواصلة مشوارها الفني. أما بريتا فلديها الطموح ذاته, أن تكون امرأة لها مكانتها وموقعها في المجتمع والحياة. لقد وهبتها الطبيعة صوتاُ رخيماً مثل والدها, تأمل في قرارة نفسها أن تغني في دورالأوبرا العالمية, تجول العالم, تصعد على أرقى المسارح, أن تصبح امرأة مشهورة يشارإليها بالبنان في كل مكان. لم يكن يساورالعائلة أي شك أن بيرتا لديها موهبة عظيمة, خاصة واستثنائية, ستجعل منها أعجوبة, ستجعل كل صحف العالم الغربي تكتب عنها.
أما إيلين, فهي شيئ مختلف تماماً, لم تمنحها الطبيعة أي شيئ صفة مميزة. أنها لا تستطيع أن تكون ممثلة أومغنية, أوأي شيئ. أنها إنسانة بسيطة بكل المقاييس. ليس لديها صوتاً رخيماً أوحنوناً, كما أن جسدها لم يكن يتمتع بالرشاقة والجمال الذي يسمح لها أن ترقص أو تمثل أوتغني. كانت سمينة وشكلها لم يكن جميلاً على الأطلاق. في مجمل الاحوال كانت إيلين بليدة, لم تستطع أن تكمل تعليمها في المدرسة. في الواقع لم تكن تشبه أخوتها على الأطلاق. كان شكلها ريفياً مثل بقية بنات الضيعة. لم تكن تمتازبغيرصفاتهم, في طريقة الأكل أوالشرب أوعند التحدث بالصوت العالي, كما أن تصرفاتها يغلب عليه الحركات النافرة, كالضحك العالي مع القيام بالشوبرة بيديها.
أما في البيت, فمكانها المفضل هو المطبخ, تجيد غسل الصحون, الجلي, الطبخ وغسل الثياب وجلب الحليب, وأشياء أخرى تتعلق بالأعمال الخدمية اليومية المباشرة.
فالتيريقرأ كتبه, واجباته اليومية ويتابع دراسته باجتهاد, بينما كايسا المغرمة بنفسها, تقف أغلب الأوقات أمام المرآة, تمثل بعض الأدوارالتي قراءتها في المسرحية التي بين يديها. بينما بريتا تغني, تأخذ زاوية من أحدى الغرف, تصدح, تجود بصوتها الدافئ الحنون, تسمع الناس على الامتداد الواسع للضيعة والفلاة.
مرات كثيرة ترى إيلين في حديقة المنزل, تكنس أوتنشر الغسيل.
السماء صافية والشمس مشرقة. إنه الربيع بجماله وبهائه. الحرارة, حالة استثنائية في هذا الجزء من العالم. عندما تصعد في السماء, تنشر الفرح والسروروالإنشراح في النفوس.
الربيع ينثرعطره الفواح, روائحه الطيبة تلف الحياة ويزنرالطبيعة. الروائح الزكية, تنبعث من أكثرمن مكان, من التربة الحنونة, من الورود البرية, من الطبيعة البكر. الطيور خرجن من خدرهن الشتائي البارد, ورحن يغردن بأصواتهن العذبة.
إيلين سعيدة ومبتهجة بهذه الأماسي والأيام الجميلة.
لم تكن الضيعة كبيرة, لتقف حاجزاً أمام تعارف الناس, أوتبعدهم عن بعضهم.
إيلين وهوكو كانا يعرفان بعضهم كما هو حال الناس في الضيع الصغيرة في كل أنحاء العالم.
لكن في هذا الربيع جرت مياه أخرى في مجاري الأرض. في هذا الفصل, كان تعارف إيلين وهوكو له طعم آخر, طعم مختلف, فيه شهوة الحياة ونداء البقاء. وقفا أمام بعضهما, ينظرأحدهما إلى الأخربتمعن وغرابة, كأنهما يعرفان بعضهما لأول مرة.
كان هوكو في الثالثة والعشرين من العمر, عامل في المنجرة الواقعة على مقربة من البحيرة. يعمل ويكدح لتأمين لقمة عيشه. يخرج من بيته إلى العمل في السعة السابعة من الصباح الباكرويعود في الساعة السابعة مساءً. يقطع الألواح الخشبية, إلى أشكال متعددة سواء كانت خام أومصنعة.
في يوم السبت يعود إلى بيته في الساعة الخامسة مساءً ويعطل يوم الأحد.
في هذا الربيع دخلت إيلين عامها التاسعة عشرة. في هذا اليوم بالذات وقفت في حديقة المنزل, تنشر الغسيل, وفي المساء وضعت الأواني المعدنية على العربة الصغيرة وجرتها إلى أن وصلت إلى المزرعة التي اسمها ستورهولت. في هذا المكان تتواجد الأبقاروالخيول والخنازير والدجاج, بالإضافة إلى العمال الأجراء والعاملات.
كانت إيلين معتادة على القيام بهذه الأعمال كل يوم.
في طريق العودة إلى البيت, وقفت في الغابة, وضعت العربة الصغيرة, وأواني الحليب على حافة الطريق. وقفت قليلاً لتأخذ قسطاً من الراحة وتستنشق الهواء العليل, النقي القادم من أعماق الغابة. كان أريج الزهوروالنباتات دافقاً, منعشاً ولذيذاً, فيه نسمات خضراء دافئة.
كان الليل بلون السماء والنسيم يهب بلطف جم.
كان هناك بقايا ثلج منحسر, في طريقه إلى الذوبان. تستعد الطبيعة لاستقبال القبرات العائدات إلى موطنها, والورد زهر تحت وقع حوافر الخيول.
في هذه اللحظات تسلل إلى سمعها وقع خطوات بطيئة, خطوات خجولة قادمة إليها. التفت قليلاً فرأت هوكو!
في السابق لم تكن إيلين تعره أي اهتمام, تتعامل معه مثلما تعمل بقية الناس, واحد من هؤلاء الموجودين في الضيعة. لكن في هذه اللحظات, أحست بشيء غريب يسري في أوصالها, شيئ دافئ وحنون, شيئ مختلف عن السابق, شيئ جديد. أشياء كثيرة أثارها في هوكو, شعره, شواربه, وجهه, عيناه, فمه. كل شيء فيه, حركها, حرك المياه الغافية في وهادها, حرك روح الأنثى النائم في جسدها!
ــ ماذا تفعلين يا إيلين؟
ــ لا شيء. وماذا ستقول؟ هل تقول له, أنها واقفة في هذا المكان لإحساسها الجميل بالربيع, أم لروعة المكان وبهاء الطبيعة, أم تقول إنها وقفت لتستريح قليلاً أو لهذا أو ذاك!
ـ أريد أن أساعدك في حمل الحليب وتوصيله إلى البيت.
ـ لا. الأمرلا يحتاج إلى كل هذا العناء.
ـ لكن أتمنى أن أقوم بذلك بمنتهى السرور.
ـ لم يسبق لأحدهم أن ساعدني, أوحمل عني هذه الأواني!
ـ لكن بقية أخوتك, بريتا, كايسا أوفالتير؟ ألم يسبق لهم أن حملوا الحليب بالنيابة عنك؟
ابتسمت ابتسامة ساخرة وقالت, يحملوا الحليب؟ بالتأكيد إنك أحمق. لايمكن أن يذهبوا إلى المزرعة ويجلبوا الحليب.. لا يمكن!
أومأ هوكو برأسه.
طوال الوقت لم تغب عيناه عن وجه إيلين. ربما, كان ينظرإلى وجهها, إلى شكلها وملامحها, إلى قبح وجهها أو إلى جسدها السمين الغير متناسق.
لكن, إيلين, المرأة, كانت واقفة أمامه, مقابله, تتأمل الربيع, وتتحسس جماله ورقته وعذوبته.
ـ لكن بعض الخدم يستطيعون القيام بذلك. يستطيعون جلب الحليب! يجب أن تعرفي, أن الكثير من الخادمات الفقيرات يمكنهن القيام بالتنظيف والغسيل والجلي وجميع الأعمال المنزلية مقابل المأكل والمأوى, دون أن تتكفلوا بدفع أي نقود!
ـ أنا معتادة على الذهاب إلى المزرعة. قالتها إيلين بخجل, وبصوت منخفض.
ـ ربما تحبين الذهاب إلى المزرعة, من أجل جلب الحليب!
أومأت إيلين برأسها وصمتت.
هذه هي المرة الأولى التي تقف إيلين وحدها في الطريق وتتكلم مع شاب في عمرالورد, في الثالثة والعشرين.
أغلب الفتيات في الضيعة كنا جميلات, رشيقات, ناعمات, خصورهن ضيقة وعيونهن ساحرة. يرقصن برشاقة, بدلع ورقة وجمال. أما إيلين, فلم تكن تعرف الرقص أوإيقاع الجسد, لأن جسمها السمين لم يكن ليساعدها على الحركات المرنة.
عندما كان يعزف أحدهم على الأكورديون في الحفلات أوالأماكن العامة, تقف عند السياج, بين الناس الكبارفي السن, تتفرج وتسمع! علاوة على ذلك, لم يكن والديها يسمحان لها بالذهاب إلى الرقص. كانوا يقولون لها,هذا غير مناسب لك! مكانك في البيت, في المطبخ.
أما أخوتها, فالتير وبريتا وكايسا, كانوا يذهبون بشكل عادي واعتيادي إلى القرى الأخرى, القرى الكبيرة من أجل الاستمتاع بأوقاتهم. عندما يتواجدون في الصالات الكبيرة, يرقصون, يغنون ويفرحون, لكنهم لا يدعون إيلين للذهاب معهم. كانوا يخجلون منها, أوالوقوف إلى جانبها, يتبرئون من شكلها وملامحها كأنها عارعليهم. كما لم يكن يناسبهم وجودها بينهم عندما يكونون في مناسبة أو يتحدثون في موضوع ما, لأنها لم تكن تجيد التحدث مثلهم بصوت ناعم ومنخفض, أولديهما ثقافتهم, أوتتصرف بلباقة ولطف, كما لم تحسن إجادة طريقتهم في المشي والضحك والحركة.
لم تستطع في يوم من الأيام أن تقف مع أحد الشباب على ناصية الشارع أوالدرج او في زاوية مهملة كي تقبله أويقبلها. طوال حياتها لم تقرأ رواية أو قصة قصيرة أو طويلة, أوأجادت إلقاء قصيدة شعر. لم تكن تملك القدرة على الغناء أوفكرت أن تصبح شخصية لها مستقبلها سواء على خشبة المسرح أو في غيرمكان من الحياة. باختصار, كانت شخصية هشة, خالية من الطموح.
مرات كثيرة تسمع, كيف يردد والدها, أمام مسمع أمها في أمسيات الليل السويدي الطويل:
ـ إنها غبية, غبية كالبقرة تماماً. إيلين تشبه البقرة.
لم تكن الأم تجيب على كلمات الأب النابية.
على الأرجح, كانت إيلين معتادة على سماع مثل هذه الكلمات القاسية الصادرة من والدها. لم تكن تنسى ذلك على الأطلاق. تبقى تلك الكلمات محفورة في ذاكرتها كالمسمار على مر الزمن.
عندما تقف مع هوكو في الشارع, تتذكر تلك الكلمات النابية, الجارحة الصادرة من فم والدها. تشعربالألم والقهروالذل, والاحساس بأنها أقل من غيرها.
ــ لا. يجب أن أذهب.
ـ ما الذي يدعوك لهذه العجلة؟ يرد عليها هوكو.
ــ إنهم في البيت ينتظرون الحليب. قالت إيلين ذلك بحماس, مثلما يخرج المرء من ورطة.
أومأ هوكو برأسه, وراح يدفع عربة الحليب بدلاً عنها إلى الأمام.
ـ لا..لا. أريد أن أدفع العربة لوحدي.
ـ نستطيع أن نتعاون, نساعد بعضنا. أو, أريد أن أقول لك, أركبي على العربة, وسأدفعكم معاً.
وقتها, ضحكت إيلين من كل قلبها. بقيت واقفة مع هوكو بين الأحراش.
ـ لكني لا أريدهم أن يروني معك في هذا المكان البعيد عن البيت!
ـ ماذا, ماذا. لماذا تقولين هذا الكلام؟
ـ لا أريدهم أن يعرفوا إنك معي, تساعدني, إننا مع بعض!
أومأ هوكو برأسه. فهم المسألة, لأنه كان ذكياً ولطيفاً ويتفهم سبب قلقلها.
ـ تعالي إلي فيما بعد. أذهبي الأن مع الحليب, وضعيه في البيت, ثم عودي إلي فيما بعد. أنا بأنتظارك بجانب الكنيسة.
هزت رأسها عدة مرات علامة على النفي. لم يكن بمقدورها أن تترك البيت, وتعود إليه, في مثل هذا الوقت.
لكن, مجرد أن وصلت إلى البيت, وضعت الحليب جانباً, سمعت نداء مرمري اللون, صوت هوكو يخرج من أعماقها, يلتف حول عنقها ورأسها, يلاحق أنفاسها, يهتف لها, لقلبها وروحها, يقول لها, تعالي.
تسللت خلسة من الجانب الخلفي للمنزل وولت خارجة منه. سارت وحدها باتجاه الكنيسة.
خرجت خائفة, التفت يميناً وشمالاً, مشت ملتفة حول البيت عبر طريق لا يشك فيه أحد أفراد العائلة. مضت عبر طريق الغابة في مسار ضيق. راحت تقطف بعض أزهارشقائق النعمان, والورود البرية, وبعض أزاهيرالربيع الطافحة فوق صدرالأرض الخضراء. جمعتهم على شكل باقات متناسقة التوزيع. ظلت تمشي إلى أن أخذ الليل يطفي على الكون وهجه الأزرق الداكن.
لم يرها أي إنسان عندما كانت تسير وراء مبنى المدرسة, وتتابع خطواتها الحذرة إلى أعلى الشارع الذي يقبع خلف الكنيسة, إلى المكان الذي حدده هوكو.
كان هوكو واقفاً تحت ظلال الليل, ينتظرها, في الجهة الأخرى من الكنيسة.
ـ ناداها بصوت هامس, بتحبب, إيلين. ثم اقترب منها وقبلها.
بالتأكيد هناك من قبلها فيما مضى من الزمن, ربما أمها أو أحد أقربائها!
ما أقسى الربيع إن لم يجد الإنسان له حبيباً, يضمه أو يشمه أو يقبل وجنتيه أوفمه. أن يجلس معه فوق هذه الحشائش المنبسطة تحت قبة السماء الزرقاء الجميلة الصافية.
تلك القبل لم تكن تعني لإيلين شيئاً فيما مضى من الأيام, أما هذه القبلة فشيء مختلف, له طعم آخر! بعد ذلك ضمها إلى صدره وقبل كل مكان منها. ثم أخذ يدها في يده, وسارا في الجادة الضيقة من الغابة.
حينها أحست إيلين بشيء جديد في الطريق إلى حياتها. لاحظت أن شيئاً جميلاً يسري فيها, بدأت ملامحه تنمو وتنهض في سريرة نفسها, يضفي على روحها تغيرلم تعلم كنهه, ولا تعرف إلى أين يأخذها. اكتشفت أن هناك صفحات جديدة, تكتب وتخط اسطرها على ورق القادم من الأيام.
راحت ذاكرتها, تعيد ترتيب الكلمات, التي كان يقرأها فالتيرفي كتب الأدب والروايات. ويركب الصوروالأشكال الحلوة, عن أختها كايسا, عندما كانت تمثل دوراً ما في مسرحية ما, في صالة البيت. ويتناهى إلى سمعها, الصوت العذب, لحنجرة أختها بيرتا, وغناءها الجميل عندما تتقدم بوصلة أوبرالية عالية النغمات, في الوقت الذي كانت إيلين, تجلي أو تغسل او تطبخ في غرفة المطبخ.
في الغالب, كل احتفاليات الحياة تتناول المواضيع المتعلقة بالحب وبالعشق.
الإنسان الجميل يعشق الجمال.
الجمال والشباب سيذوب يوماً ويتلاشى.
كل الناس ستذوق طعم الحزن العميق, كما ذاقت طعم الفرح والجمال والعشق.
وسيأكل الحزن قلبه يوماً, كما اعطاه الفرح والسعادة طاقة الأمل ليحلق في فضاء الحياة في يوم من الأيام.
في هذا الربيع, وقعت إيلين بالحب, من رأسها حتى أخمص قدميها, بالرغم من أنها لم تكن جميلة. كما أن هوكو, هوالأخرلم يكن جميلاً.
كانت تفوح من هوكو رائحة جميلة, رائحة الخشب المغموس بالصمغ, رائحة العامل في المعمل, في المنشرة. لهذا كان خشناً وضخماً. مثله مثل جميع الفقراء على سطح الأرض, يبدأون العمل منذ نعومة أظفارهم, في مرحلة الطفولة إلى نهاية حياتهم. لكن جسد هوكو, لم يتلف بفعل قسوة السنين, مثل بقية أقرانه, بل كانت لديه بنية قوية متماسة, وقواماً صلباً ورشيقاً.
رفع إيلين في الهواء كالفراشة, ووضعها على السورالحجري في الغابة, بالرغم من أنها كانت سمينة, على غيرالعادة التي كانت تتمتع به فتيات الضيعة من حيث الرشاقة والجمال.
ـ لكن, هناك شيئ لا أفهمه؟
ـ ما هو الشيئ الذي لا تفهميه؟ قالها هوكومع ابتسامة عذبة.
ـ هناك أشياء كثيرة لا يمكن أن أفهمها.
ـ دعينا نسمع ما تريدين قوله.
ـ هوكو..
ـ نعم يا روح هوكو, يا قلب هوكو.
ـ لماذا أنت دائم السعادة. أمك مريضة, والدك موجوع ومرهق ومنهك من الألم, أخيك إنسان تافه ومهمل وغيرمبال. في كل سبت ينغمس مع الفتيات في اللهو واللعب مثل أي طفل صغيرلا يتحمل المسؤولية. كما لا أعلم السبب الذي يجعلك تكون سعيداً بوجودي معك. وجهك دائم الابتسامة والضحك يا هوكو. الحقيقة, لا أجد سبباً مقنعاً يجعلك سعيداً وفرحاً, وضاحكاً طوال الوقت.
ـ أمي مريضة.. نعم هذا صحيح. لكن أمي لن تتحسن إذا جلست معها في البيت, وبكيت عند ذيل ثوبها طوال الوقت. والدي كعامل في الارض, سيبقى يكافح ويكدح طوال حياته. أمل أن تذهب الزراعة إلى الجحيم. لكن لا يمكن أن أقدم له شيئاً يمكن أن يفيده أو يفيد أخي المهمل التافه. يجب أن تعلمي أن عمره, لا يتجاوز التاسعة عشرة من العمر. قريب إلى حد ما من عمرك. أنت تعرفين أن الفتيات, لا يمكن أن يكونوا بخفة الأولاد.
ـ يبد أنك غيرمبالي بأحد. قالت إيلين هذه الجملة بصرامة.
ـ بلى, أنتِ.
لم تجب إيلين على أسئلته.
ـ انا مهتم بك فقط. ثم مد ذراعيه على كتفيها. ومضى يقول, لا أحد غيرك يشغل بالي. أنتِ, وبس. لهذا, يمتلئ قلبي بالسعادة عندما أكون معك.. عندما تتحكل عيني برؤيتك, يغرد قلبي من السعادة. بحضرتك, تصدح طيورالفرح في غابات روحي.
ـ عسى أن لا ترى هذا الذي بيننا شيئاً سيئاً. كانت تتكلم دون تملق أوتنميق.
كانت إيلين غير معتادة على لقاء حبيب, تبادله مشاعرالعشق والهيام. كما لم تكن متعودة أن تكون مع هوكو, وفي مثل هذا المكان, والوقت.
ـ لا. أرى الأشياء بشكل جيد. أراها أفضل من أي شيء آخر, هكذا أراكِ.
لم تجب إيلين, مالت بجسدها صوب هوكو ووضعت رأسها على صدره وتنهدت تنهيدة خفيفة من السعادة.
ـ نحن فقراء يا إيلين.
أومأت إيلين برأسها, لأن كلام هوكو كان صحيحاً تماماً. إنه يكسب مبلغاً قليلاً من المال, لهذا عليه أن يسافر, يغادر البلاد من أجل تحصيل المال للزواج. كما لم يكن لإيلين القدرة على العمل الذي يدرالمال.
ذهبت إيلين إلى بيتها مبكراً, لأنها ستستيقظ في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي من أجل تحضير الفطور, وتقديمه لوالدها في الساعة السابعة وحمله إلى غرفة والدتها لكي تتناوله وهي على سريرها.
كانت الخادمة أكبرسناً من إيلين, لديها أوجاع في رجليها. لم تكن تستطيع الذهاب إلى الجدول من أجل جلب الماء أوإلى الغابة لحمل الحطب. لهذا كانت إيلين تقوم بهذه الأعمال. لكن المراة العجوزكانت تستطيع أن تنظف الموقد, توقده, تطبخ الثريد وتسخن ماء القهوة.
ـ ماذا علينا أن نفعل الأن.
ـ علينا تنظيف كل شيئ, سواء داخل البيت أوخارجه. التقاط شرائط الأوراق الصغيرة, الألياف القطنية, الأوساخ العالقة هنا وهناك, ثم وضعها في سلة المهملات. لدينا في البيت, الكثير من النوافذ الكبيرة التي تحتاج إلى المسح من الجهتين. هذا في الصالة العادية, بينما في العلية, فيها ثلاثة عشرة نافذة ما بين مستطيلة ومربعة. أربعون نافذة ثقيلة الوزن, حملتها إيلين والمرأة العجوزإلى مكان الغسيل. بعد التنظيف أعادوهم. كما نظفوا كل اللوحات, الأرضيات, السجادات, متزامنة مع الاهتمام بالبستان والحديقة. بينما كانت الخادمة تكنس, أخذت إيلين تعمل على إعادة الستائرلتعلقها على النوافذ.
حفرت إيلين الأرض, نكشتها, أزالت الأعشاب الضارة, زرعت البطاطا, وقلمت الأشجار, فرشت الأرض بالتراب الجديد, عبدت ممرالحديقة, ثم قامت بتحضيرالقهوة قبل الظهرلوالدتها, ومشطت شعرها. راحت تكوي الثياب, وتحمل الماء والحطب إلى داخل المنزل, ثم تنظف دلو الماء من الأوساخ العالقة به.
الخادمة لديها أوجاع هائلة لذا يستلزم من إيلين أن تقوم بكل مهام البيت بالنيابة عنها. الطبيب قدرحالة المرأة الخادمة, أن شفاءها ميؤوس منه.
إيلين إنسانة بسيطة لا تدرك ما يدورحولها من أشياء وليس في مقدورها فهم أبعاد الظروف المحيطة بها ولا كيف يفكرالناس المقربون منها, كما أنها صامتة أغلب الأوقات لا تتكلم أوتتحدث للآخرين عن متاعبها. لكن بعد أن أحبت هوكوعرفت أشياء كثيرة, مع هذا, وبحكم العادة استمرت في عملها على ما هو عليه أوخضوعاً لقدرها المرسوم لها.
كانت الخادمة تكن احتراماً وتقديراً لأبوإيلين, كما لو أنه رب من السماء. وتوزع احترامها وتقديرها لأم إيلين وأخوتها فالتير وكايسا وبيرتا, لأنهم حلوين, متعلمين ولهم مستقبل مشرق. لكن نظرتها إلى إيلين مختلفة تماماً, تتعامل معها على أنها إنسانة تافهة, لا قيمة لها, مجرد فتاة غبية لديها صعوبة كبيرة في الاستيعاب.
لكن الخادمة لم تكن شريرة, لم تضربها كما يفعل أبوها, أو تجرشعرها كما تفعل أمها, لم تحتقرها كثيراً مثلما يفعلوا معها أخوتها, فلتيروكايسا وبريتا.
كانت الخادمة تتعامل معها كما تتعامل مع الحيوانات, أوتعتبرها مثل الكلب أوالبغل أوالبقرة ليس غير. كأنها ليست إنسانة مثل بقية البشر, أوشيئ لا قيمة له. بالنسبة لإيلين كانت الخادمة موجودة دائماً, امرأة كبيرة في السن, شعرها طويل, مقعوداً إلى الخلف, يغطي رقبتها. في أيام الآحاد تلبس الثياب السوداء, ترتل الآيات والمزاميروتتضرع إلى الله وتسبح باسمه, بعد أن تنتهي من كل ذلك تضع الكتاب في الخزانة وتغلقه بشكل محكم.
بالرغم من أن الأسم الحقيقي للخادمة هو آناـ ستينا, لكن لم يخطرعلى بال إيلين أن تناديها باسمها أوأن تتحدث معها في شؤون وشجون الحياة إلا بما يتعلق في قضايا الطبخ والنفخ والعمل الذي يخص الأسرة. كانت الأحداث التي تربطهما هو العمل.
إحدى المرات رمت إيلين سؤالها على الخادمة عندما كانت صغيرة.
ـ ماذا تفعلين في أوقاتك, عندما لا تكونين بيننا.
ـ أتعبد, أعيش مع الله. قالتها الخادمة بفخروسرور. نظرت إيلين إليها, نظرة فيها الكثيرمن الغموض. فهمت أن للخادمة نوعان من الحياة, حياتها في المطبخ والأخرى خارج المطبخ. لكنهم كانوا يعملون مع بعضهم, كخادمات.
كانت آنا ـ ستينا تتقاضى عشرة كرونات في الشهروزوج من الأحذية كل سنة. لكن إيلين لم تأخذ أجراً, لأنهم يعتبرونها أبنة البيت ومجرد مساعدة للخادمة.
لم تكن إيلين فقيرة ولكنها لم تكن تملك نقوداً, لهذا السبب قالت لهوكو, نحن فقراء. لكنه كررعلى مسمعها أن الأمورستسيرإلى الأمام على نحو أفضل.
فهمت إيلين ما يعنيه هوكو في كلامه, فهمت أنه يشيرإلى مسألة زواجهم. كما أشارإلى أنه سينتقل من هذا المكان بصحبتها كي يدبرا منزلأً خاصاً بهم. لكن قبل هذا وذاك عليه أن يطلب يدها من أبوها, ويأخذها ليعيشان معاً.
في هذه اللحظة وجدت إيلين ثقباً صغيراً على قميص هوكوالأزرق القديم, تحت القبة, وقتها, علمت أن هذا كل ما يملك من الثياب, وأنهما لا يمكن أن يرتبطا مع بعضهم على الأطلاق.
لزمت الصمت, ولم ترغب أن تتكلم أو تعلق على هذا الأمر, أو تفكر في المستقبل. لكن حزناً عميقاً, حزناً دفيناً تراكم كالجبال في داخلها, خرج من بين جوانحها واستقربينها وبين حبيبها. كانت تفكرما عليهم أن يفعلوه الأن.
ـ لماذا تبكين يا حبيبتي.
ـ أريد ذلك, نعم, أريد أن أبكي, أرغب فب البكاء بين الفينة والأخرى, أنا هكذا!
ـ دع عنك هذا, لا ينبغي أن تبكي. ثم مد هوكو ذراعيه على كتفيها وضمها إلى صدره, ومسح دموعها المنهمرة من مقلتيها وراح يلاطفها بكلامات رقيقة وناعمة. ستزول هذه الأوقات العصيبة من حياتنا يا إيلين. ستزول كل الصعوبات أمام طريق مستقبلنا في القادم من الأيام. كلهم سيبتعدون عن دربنا, أبوك وأمك وأخوتك, سنكون مع بعض, أنا وأنت وحدنا.
جاء فصل الصيف, وبعد فترة قصيرة حل عيد منتصف الصيف.
صدح الوقواق وصاح, وردُ الصيف زهر, انبسطت الأرض وفرشت ألوانها الزاهية في كل مكان. راحت الأعشاب تنمو وتنمو. فصل الصيف لهذا العام, كان حاراً. لكن, بين الحين والأخر, تتساقط قطرات المطر. تتساقط, ثم تنقطع بعد قليل. أغلب الأوقات, الشمس مشرقة تبعث دفئها في أرجاء الطبيعة. كل شيئ كان أخضراً في السويد. تتمايل أغصان أشجار البتولا ببطئ, والزيزفون ينتصب واقفاً بدون حركة, والغابات.
تنثر أريج رائحتها في الفضاء. لا يحس الإنسان إلا بالروائح العطرة تلفه من كل جانب, ونادراً ما يرى في الغابات أنواع مختلفة من الورود.
في الصيف يهل الضيوف على عائلة إيلين من المزارع الأخرى, يأتون من مناطق بعيدة, كمدينة /ميولبي/ و/لينشوبينك/ و/نورشوبينك/.
جاء الكثير من أقرباء الأم والأب.
جاءت سيسيليا, خطيبة فالتير, الشابة الصغيرة, الحلوة الناعمة, ذات الشعرالبني المتجعد. كانت إيلين تعتقد أنها تشبه اللعبة. ربما كانت لعبة, لكنها دائمة الابتسام, تبقى إلى جانب فالتيرطوال الوقت.
لسيسيليا يدان ناعمتان, تطرزبهما, اسمها واسم حبيبها, على الشراشف والمناشف والوسائد, تجهزكل شيئ ليوم عرسها. تعمل بهدوء, دون عجلة من أمرها, لأنها وفالتير, لن يتزوجا قبل مضي بضعة أعوام. خلال هذه المدة سيجلسان مع بعض, يتعرف أحدهم على الأخر, وسيكون هناك الكثير من المداعبة والقبل. لأن الشاب سيتابع دراسته ويكمل تعليمه.
أما بيريتا فقد جاءت مع خطيبها إيريك, الضابط في الجيش السويدي برتبة ملازم أول, في منطقة لينشوبينك. كانوا يتحدثون مع بعضهم بصوت منخفض لدرجة أن إيلين لم يكن بمقدورها ان تسمعهم, لأن جل وقتها في المطبخ.
كان إيريك, شاباً نحيفاً, طويل القامة, ينتعل حذاءً طويلاً, أسود اللون, يلمعه كل صباح من أجل امتطاء حصانه قبل الفجر, يسيربه متجولاً في محيط منطقة لينشوبينك, في مكان خدمته. كانت الضحكة, والابتسامة العذبة لم تفارق وجهه ومحياة. شاب دمث الأخلاق, لطيف المعشر. عندما شاهد إيلين, أسرع نحوها, راح يحمل الماء والحطب بدلاً عنها. مرات كثيرة طلب منها أن تجلس معهم وتشرب القهوة:
ـ تعالي يا إيلين, أجلسي معنا, هذا المكان فارغ. لم يعلق الأب, لم يبال بكلام إيريك عن أبنته التي يعتبرها شبه مجنونة. بقيت والدتها مبتسمة, معتقدة, أنها معتوهة, ولا تفهم شيئاً. ضحكت بيرتا, ساخرة من طلب إيريك, تعتبره كثير المزاح, دائماُ يبحث عن أشياء جديدة يسلي بها نفسه. كان الجميع يسخرأو يضحك أو يطلق بعض النكات عنها هنا وهناك. إلا, فالتير, فقد بدأ عليه الغضب:
ـ ماذا ستفعل إيلين بيننا.
ـ أنه الصيف, الله بارك, زرع الفرح والبهجة في نفوس الناس في الصيف. هل تشم الروائح المنعشة القادمة من أطراف الطبيعة.
جلسوا جميعاً, تحت قبة السماء الصافية, في فناء البيت. أخذ إيريك يد إيلين وراح يلاطفها. لكن المسكينة بقيت واقفة, تنتظر, لا تعرف ماذا تفعل. لقد تعلمت من عائلتها, أن تنفذ الأوامر, وتبقى واقفة, تخدمهم بهدوء وسكينة.
ـ لستَ جندياً حقيقياً يا إيريك. قالها فالتير, وضحك. يجب أن تكون متجهم الوجه, تصرخ بصوت جهوري. أنت لا تميزالروائح الطيبة من الكريهة.
ـ أحب كل شيئ في وطني, لهذا أنا جندي. قالها إيريك بجدية. أحب الروائح العبقة القادمة من الصيف السويدي. أحب إيلين لأنها بيننا, على أرض وطني السويد. ثم راح إيريك يبتسم لإيلين فاسحاً المجال لها لكي تتحرك براحتها.
ضحك الجميع مما فرض على إيريك أن يضحك هو أيضاً. في الحقيقة, كان المكان, مفعماً بالدفئ والمزح والجد.
طقوس الفرح دفع بيرتا أن تأخذ وصلة غنائية, صدحت بصوتها العذب, وبعثت أشجانها وحبها وعشقها لحبيبها إيريك.
ولد إيريك من أسرة ثرية, لكنه لم يكن يتباهى بذلك, ولم يكن يعنيه هذا الأمر. كان هذا السلوك الرفيع فيه شيئ من الغرابة بالنسبة للآخرين مما دفع, بيريتا وكايسا وفالتير أن يقولوا, أنهم مثله, المال لا يعنيهم, ولايدخل في طريقة تفكيرهم.
ـ الشيئ المهم أن نعيش. أن نعيش أطول مدة ممكنة, لحظة بلحظة.
لم يعلق البقية على كلام إيريك, إلا أن إيلين دارت على أعقابها, وراحت تجري نحو المطبخ من أجل تحضيرالقهوة. التفتت قليلاً, رأت إيريك ينظرإليها. تملكها إحساس أن الإنسان الوحيد بين الحضورمن فهم ما يعنيه كانت هي.
في هذا الصيف, زهرالحب وورد في قلب إيلين وأينع.
لهذا عاشت الحياة في هذه الفترة لحظة بلحظة.
وأصبحت ذاكرتها وعقلها معلقاً بأفق الليل.
عندما تستيقظ صباحاً, تبقى منتظرة مجيئ الليل. طوال الوقت تفكرفيه, تعد الساعات, ساعة وراء ساعة, ودقيقة بعد دقيقة. عندما يحل الليل, تصبح إيلين حرة طليقة.
لقد جلت الصحون, وضعت كل قطعة في مكانها, نظفت المطبخ, مسحت الأرض ورتبت كل شيئ. الخادمة أخذت الكتاب المقدس ووضعته تحت أبطها وخرجت من البوابة الرئيسية للمنزل.
في حديقة الدار, يجلس أهل إيلين, وزوارهم. يتحدثون, يتحاورون, يضحكون, ويتبادلون أنخاب الإعجاب مع بعضهم.
لبست إيلين بلوزتها النظيفة, وانتعلت حذائها الجديد. خرجت خلسة عبرالبوابة الرئيسية للمنزل. لم ينادي عليها أحد أفراد الأسرة أو يهتم بها سواء خرجت أم لم تخرج. مشت بهدوء باتجاه الكنيسة, دخلت الغابة, راحت تمشي إلى المكان الذي ينتظرها, حبيبها هوكو.
ـ حبيبتي إيلين أمام عيني, يا جمال الدنيا وروعتها, يا بهجة الحياة وأنت معي.
جلست إيلين بجانبه.
في هذه اللحظات تلاشى كل شيئ. أختفى الجميع, لم يبق معها إلا حبيبها هوكو, والغابة والصيف وروائح الطبيعة العذراء القادمة من الأرض المفروشة بخضرة الحياة والحب الذي يضم الحبيبين. كانوا يحبون بعضهم بكل صدق.
لقد اعتاد هوكو وإيلين أن يلتقيا في هذا المكان.
كان الصيف منعشاً, دافئاً, والليل هادئا مسترخياً, فارشاً على صفحة الأرض, الرقة والرونق البديع
عندما يحل الليل, ويفرش جناحيه على الكون, تخرج إيلين من بيتها لتتذوق مع حبيبها لذة اللقاء والحب.
تستمتع بجمال الوصال, وتستطيب اللهو مع الحبيب.
مرات كثيرة تمنوا أن يطول الليل, أن لا يرحل, أن يبقى معلقاً ما بين السماء والأرض, ليبقوا مع بعضهم أطول فترة ممكنة, أن يعيشوا هذه اللحظات الجميلة.
عندما تمطر السماء, تذهب إيلين مع حبيبها إلى مزرعته, تسترخي أوتنام قليلاً, تروح عن نفسها من عناء العمل.
كانوا مثل أغصان الصفصاف النائمة فوق المروج الواسعة أومثل خيول المراعي في الهواء الطلق.
في حضيرة الأبقار, تلال من التبن التي تم حصده وجمعه للتو. رائحة القش الطري منعش ولذيذ. لقد حصده هوكوفي الليل بمساعده إيلين, تركوه حتى جف. حمله هوكو ووضعه في الحظيرة, كعلف للحيوانات.
في تلك المزرعة, يقطن هوكو لوحده في الغابة, في الجزء البعيد من القرية.
لم يخطرفي بالي أي إنسان, أو حاول أن يرى ماذا يفعل الحبيبان, هوكو وإيلين في تلك العزلة البعيدة عن الناس في هذه الأقات المختلسة من الوقت.
في حظيرة الأبقارمارس العاشقان الحب بكل أبعاده, بكل جوانحهم. وحدهما في هذا القضاء البعيد عن أعين الفضوليين, دون رقيب أو حسيب, فوق أكوام القش, ورائحته العطرة. في هذه الأثناء, في لحظة التوحد, في لحظة التصاق الجسد بالجسد, كانوا يسمعون صوت المطر ينقرعلى السقف, على دقات قلوبهم, مصدراً صوتاً مبهجاً للخاطر. في كل مرة, باحتراس ورقة وعذوبة, ينزع هوكوتنورة إيلين, سروالها الداخلي الأبيض. برقة ونعومة يقربها من قلبه ويضمها إلى حضنه. ينحني على جسدها, إلى أن يتوحد بها. يمارسا الحب معاً بشهوة العاشق المتيم. يعيشا تلك اللحظات الجميلة, لحظة بلحظة, بهدوء وتأن, يلامس كل واحد الأماكن اللذيذة في الآخر, بحنية, كما يلامس الورد أطراف الورد.
كان صيفهم مملوءً بالروائح اللذيذة والعشق الجامح.
الليل, عالم إيلين, فرجتها على الكون. الليل يعني لها الهوى, العشق والمبتغى ولا شيئ آخر.
لم يدر في خلدها, ضياء الصباح. لم يشغل بالها أي شيئ, لا المزرعة, ولا الأهل ولا الصباحات الجميلة الباكرة.
ذهنها دائماً يتجه نحوالفراشات المعلقة في مئزرالليل, نحوالعتمة المزنرة بالسواد. عندما يحل ذلك الأسود الجميل, تذهب إيلين لتقطف تلك الثماراللذيذة, ثمارالوصال مع حبيبها هوكو, تبقى معه, ليلة بعد أخرى, وأسبوع بعد أسبوع, يذهب شهر حزيران, ويأتي تموز وهي تحلق وتطيرفي محافل الفرح.
أكتشف أنها تغيرت كثيراً, صارت إنسانة أخرى, أصبحت إنسانة في هذا الصيف.
في السابق, كان والدها ووالدتها يقرران كل شيئ نيابة عنها. حدود البيت والمطبخ عالمها, وعلى المدارالدائري له تأتي المزرعة التي تلف البيت وتحيط به. لكن خارج هذه الأماكن لم يكن في حسبانها معرفته.
سافرفالتيرإلى نورشوبينك, وبيريتا إلى لينشوبينك, وكايسا إلى الطرف الآخرمن العاصمة استوكهولم.
لديها الكثيرالكثير من الساعات التي ستقطعها في السفر بالقطارحتى تصل.
أما إيلين فحدود عالمها هو الضيعة. لم تغادرها على الأطلاق. ولماذا تذهب, وإلى أين تتجه ما دام ليس لديها أي عمل أو مهمة تنجزها في مكان ما. أطول مسافة لها, كانت حدود الضيعة, إلى ستورهولت, لجلب الحليب كل ليلة. لهذا لم تغادرالمكان على الأطلاق, ولم يخطرعلى بالها, أنها تستطيع أن تفعل شيئاً كهذا.
لكن هوكو غير كل شيئ في حياتها.
أبوها وأمها وأخوتها لهم عالمهم الخاص بهم. دخولها إلى حجراتهم, يكون بقصد خدمتهم, من تنظيف وتكنس وتعزيل أوتقديم القهوة أوحمل الفناجين إلى المطبخ. لكنها لا تلفت انتباههم, ولا تثيراهتمام أي واحد منهم.
الأن لديها عالم جديد, عالم يضج بالفرح والأمل مع حبيب اسمه هوكو. معه تصبح إيلين, إيلين أخرى. إيلين المرأة, الأنثى التي وجدت من يعتني فيها ويهتم بها. إيلين العاشقة والمعشوقة, الحبيبة المحبوبة. هناك شيئ يملأ حياتها بالأمل والسعادة, هناك إنسانا يحبها.
لكم تمنت أن يتوقف الزمن عند هذه اللحظات الجميلة.
ـ لكنك لم تتجاوزالتاسعة عشرة من العمر, بينما أنا في الثالثة والعشرين. قالها هوكومبتسماً. الزمن, لا, ولن يتوقف. سنتزوج, سيكون لنا بيتنا, سننجب الأطفال بعد أن ننتقل لنعيش معاً. لأننا نحب بعضنا, نعشق بعضنا, لهذا يجب أن نبقى مع بعض.
ـ لا يمكن أن يتم ذلك, هل تفهم, لا يمكن أن يتم.
ـ سأتكلم مع والدك ووالدتك. سأتي إلى منزلكم هذا المساء ونتكلم أنا وأنت معهم.
ـ والدتي مريضة ومرمية في الفراش, لا أدري ماذا بها. ربما صدرها ملتهب, وفيه مشكلة كبيرة.
ـ تحسنت صحتها إحدى المرات أليس كذلك.
هزت إيلين رأسها علامة على الموافقة:
ـ والدتي نحيفة منذ أمد بعيد, والخادمة, آنا ـ ستينا لديها أوجاع في رجليها.
ـ إذا كان لديها أوجاع في رجليها يجب أن تهتم بنفسها.
ـ نعم ما تقوله صحيحاً, لكن هناك أشياء تستدعي القيام بها, كنقل الحطب والماء, تنظيف البيت والفناء, مسح زجاج النوافذ, أرضيات المنزل, غسيل الثياب.
ـ نعم يا إيلين. ضحك, ضحكة خفيفة.
ـ سأمحني يا حبيبي لنبرة الغضب التي صدرت مني. لكن المسألة صعبة للغاية.
ـ هذا يعني إننا لن نتزوج الأن. أتمنى أن يسمح لي أبوك وأمك أن أجلس معهم وأتحدث حول هذا الموضوع, أن أشرح لهم أنني أرغب في الزواج منك. قريباً سيحل الخريف ببرده وثلجه وضبابه. بعده الشتاء, وقتها لن تستطيعين المجيئ إلى الغابة العارية أونستطيع أن نلتقي ونتمدد على القش والتبن. هذه اللقاءات الجميلة ستتوقف. يجب أن نرى بعضنا يا إيلين, يجب أن نلتقي في بيتكم.
ـ لا.. لا يا حبيبي. لا يمكن أن يتم ذلك.
ـ فكري معي قليلاً. لن نستطيع أن نلتقي في بيتي. الشتاء سيكون حاجزاً للقاءاتنا, سيصل ارتفاع الثلج إلى أكثر من متر, كيف ستمشين عليه كل يوم, وهو الفاضح لآهات العشاق. المكان الوحيد المناسب للقاءاتنا هو مطبخكم.
ـ لا أستطيع.. لا أستطيع يا هوكو.
ـ لكني أستطيع أن انتظرك. أستطيع أن أقول لوالدك إنني سأبقى انتظرأبنتك إلى أن توافق. سانتظرإلى أن تشفى والدتك, خادمتكم المريضة.
ـ الخادمة لن تشفى على الأطلاق, ووضع أمي من سيئ إلى أسوأ. عندما نطقت الكلامات الأخيرة خرجت من حنجرتها وصدرها تنهيدة عميقة.
ـ أبوك وأمك سيدبروا حياتهم, لا تخافي عليهم.
ـ لكنهم معتادون على وجودي في البيت والقيام بخدمتهم.
ـ سيجلبوا خادمة جديدة.
ـ لا.. لا. هذا لن يحدث. الخدم في هذه الأيام يطلبون الكثير من النقود. ليس لدينا القدرة المالية على الدفع. أنت تعرف أن فالتيريحتاج إلى المزيد من النقود, ليتابع دراسته حتى يصبح معلم مدرسة, وهذا ينطبق على أختي بيريتا وأختي كايسا. كلهم يحتاجون إلى المزيد من المال, ليؤمنوا مستقبلهم. ليس لدينا المال لنجلب خادمة جديدة.
ـ يستحسن أن تأخذي مبلغاً من المال لقاء أتعابك.
التفت إليها فرآها تضحك.
ـ أنت لا تعرف شيئاً عن وضعنا, أنت مجنون, هذه حقيقة. سأبقى مع أهلي في البيت.
ـ لكنك تعملين كالخادمة.
ـ أنا أساعدهم فقط.
ـ أنت تعملين كالخادمة.
ـ أنت لا تعرف شيئاً, لا تفهم ظروفنا, لا تقدرها حق قدرها.
ـ على أي حال, سنتزوج, وقريباً. سنتزوج قبل أن تموتي من الجهد والعمل الشاق لدى والديك. لكن إيلين لم تجب لأنها على حق وتعرف كيف يفكرأهلها وما يدورفي عقولهم. والدتها لم تشف من مرضها, مضطجعة على سريرها طوال الوقت, تزداد شحوباً يوم بعد يوم. طبيب يأتي, وطبيب يذهب. يشترون الدواء من مكان بعيد, من مدينة ميولبي.
طوال شهرآب كان الطقس حاراً لهذا كان وضع أم إيلين أقل سوءاً.
ـ وضع أمك الأن أفضل. نستطيع في هذه الأوقات أن نتكلم معها, ومع والدك.
ـ لا.. لا. قلت لك لا! قالتها بهمس أقرب إلى التضرع. لا يصح هذا الأمرفي هذه الأوقات. ستخرب كل ما بنيناه إذا ما أقدمت على هذا الفعل, يجب أن ندرس المسألة حتى لا يحدث شيئ لا تحمد عقباه.
ـ لكنهم يعرفون إنني موجود في حياتك.
ظلت إيلين تفكر.
ـ لا أعرف.
ـ بالتأكيد تسألوا إلى أين كنت تذهبين في تلك الليالي. بقيت إيلين مطأطأ الرأس, تفكر ولا تجيب.
ـ لا أعتقد أنهم أكتشفوا أمرنا. لم يخطرفي بال أي إنسان إلى أين كنت أذهب. على الأقل إلى الأن, لأنه فصل الصيف!
ـ يجب ان أتحدث مع والديك قبل أن يهل الخريف. هزت إيلين رأسها, وهذا أعطى لهوكو مؤشرإيجابي على تطورجديد في المسألة. ثم تابع, من الأفضل أن نتزوج, لا أحب أن انتظرمدة أطول.
ـ لكن لا أستطيع أن أتركهم الأن.
ـ يجب على المرأة أن تترك أباها وأمها وتلتحق بزوجها, هكذا يعلمنا الكتاب المقدس, وأبوك يعرف الله.
ـ لا أفهم ماذا تعني بهذا الكلام.
ـ أنت تعرفين, لكنك تتظاهرين على عكس ذلك.
ـ لكني لا أستطيع أن أخط مسارحياتي لوحدي, لا تطلب مني هكذا طلب.
ـ نعم, من حقي أن أطلب منك هذا الطلب حتى نتزوج, أنا وأنت.
ـ أنت تغذبني, أنت لا تدرك مجريات الأمورفي بيتنا, لا تعرف ما يدورحولي من مشاكل وكيف يفكر أهلي. هذا الأمرصعب علي, أنه يؤرقني ويتعبني كثير جداً.
ـ هذا لأنك لا ترغبين بذلك, أتفهمين علي.
ـ يمكننا الانتظار, ننتظرمدة أخرى, ربما يكون الانتظارأفضل لكلينا.
ـ لن يكون أفضل.
عند ذلك بكت إيلين من الحرقة والحزن والعذاب, راح هوكويواسيها ويخفف من حزنها.
ـ أنتَ مجنون.
ـ لماذا؟
ـ إذا رآكَ أحدهم معي ماذا سنقول له.
ـ لم نفعل شيئاً يغضب الآخرين.
ـ ستحدث مشاكل في البيت, فكرفي وضعي يا حبيبي.
ـ أفكربك دائماً, أريد أن أحررك من هذا الوضع الذي أنتِ عليه.
ـ أنا حرة تماماً, سأبقى في البيت.
ـ في بيتنا, سيكون لنا بيتنا الخاص بنا, أنا وأنتِ.
ـ نعم.. نعم. قريباً سنكون مع بعض, لكن ليس الأن.
ـ لا أريد المزيد من الانتظار.
بقيت إيلين واقفة في مكانها لم تجب. كما لم تستطع أن توضح موقفها. من الصعوبة بمكان الأقدام على الزواج في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها إيلين وأسرتها.
أخيها فالتيرسيتزوج من فتاة غنية جداً, اسمها سيسيليا مقيمة في نورشوبينك. أختها مخطوبة للضابط إيريك المنحدرمن عائلة ثرية, تملك مزارع كثيرة في لينشوبينك. كتبت كايسا رسالة مطولة من استوكهولم تخبرهم إنها تقطن في بيت خالتها, وتعرفت على شاب اسمه كنوت, يملك مصنعاً كبيراً في مدينة مولبي. في رسالتها, أشارت فيها إلى عمق الحب والعشق الذي تكنه لحبيبها.
لهذه الأشياء مجتمعة, كانت الأمورصعبة للغاية بالنسبة لإيلين. لم يكن في وسعها أن تأتي إلى البيت وتقدم لهم حبيبها هوكو. لم تكن تستطيع أن تطلب منهم الموافقة على الزواج منه, لأن منشأه من عائلة فلاحية فقيرة.
إنهم فلاحين, كادحين لدى أحد المزارعين في القرية المجاورة. كيف سيكون عرسهما, هي وهوكو. لا, لا يمكن أن يتم هذا الأمر. تناولت إيلين كل صعوبة على حدة, جبال من الصعوبات تقف في وجهها وتحول دون أرتباطها بحبيبها الذي تحبه كثيرجداً.
لم يطاوعها قلبها على كشف ملابسات ما تفكربه, وما يعتريها من مشاكل كبيرة. لم تستطع أن تقول له أنه ساذج. هو ليس ساذجاً بالنسبة لها, لكنه في نظروالديها هو كذلك.
ـ لكنكِ الإنسانة الوحيدة لي في هذه الحياة. أنتِ الوحيدة, الوحيدة, حبيبتي إيلين, أنت الوحيدة لي.
لم يكن لديها القدرة على فعل أي شيئ, سوى البكاء. غالباً ما كانت تبقى باكية.
ـ وأنتَ وحيدي في هذه الحياة. لم أكن عايشة قبل أن أراك, لم تكن لحياتي أي معنى أو قيمة. لم أكن موجودة من قبل. أنت كل شيئ لي في هذه الدنيا. إذا لا أكون لكَ, وأنتَ لي, وقتها الموت أرحم وأسهل لي.
ـ لكن هناك أشياء أسهل من الموت, أن نتكلم مع والديك.
لا.. لا. هذا ليس أسهل من الموت كما تظن.
وهكذا بقيت المسألة معلقة بينهم. بعد ليلة من هذه الأحاديث لاحظ هوكوعلى إيلين
ـ هل تخجلين مني, تخجلين أن تقولي لأهلك أنني أريدك زوجة لي؟
ـ لا.. لا. لا على الأطلاق. قالتها إيلين بهدوء, وأطرقت تفكر, تابعت, سيخجلون من كونك زوج أبنتهم. سيخجل والدي ووالدتي وأخوتي. لن يوافقوا على هذا الزواج مهما كلف الأمر.
ـ حسناً أنت تدركينِ ذلك. عندما لا يوافقون على طلبنا, نلجأ إلى طريقة أخرى. سأتي إليك على العربة التي يجرها الحصان وأخذك. سأخذك مع أشياءك الخاصة, ونرحل معاً, وقتها ستنتقلين للعيش معي.
نظرت إيلين إليه. أرادت أن تضحك, لكنها أبتسمت قليلاً, راحت تنظرحولها, تفكركيف يخطر على باله, أن يأتي بالعربة والحصان من أجل أن يأخذها. يجب أن تسخرمن هذا الكلام, لأنها كانت فكرة مجنونة للجميع.
ـ لا تضحكِ, أنا قادم.
ـ سيضعوني في القبو, ويغلقوا الباب علي.
ـ حينها سأحطم الباب وأكسر القفل.
ـ ماذا تعتقد سيحدث إذا ذهبت معك. سيرسل والدي في طلب الشرطة, ويضعوك في السجن. هناك, في ذلك المكان المغلق ستمكث سنتان على الأقل.
ـ سأتكلم مع والدك.
في بداية فصل الصيف, كانت إيلين في غاية الفرح. السعادة غمرت قلبها وروحها, وأصبحت في قمة البهجة وفي أحلى مراحل عمرها. لم يخطرعلى بالها أنها ستكون كذلك. لكن بعد أن طوى الصيف قناديله, وبدأ هذا الفصل يلملم ثيابه استعداداً للرحيل, حتى بدأت المتاعب تزداد عليها.
لم تعرف هذا الحزن من قبل. صارالبكاء صديق أيامها ولياليها. عشقها لهوكو يزداد توهجاً يوماً بعد يوم, وساعة بعد أخرى. كما أن هوكوهو الآخرلم يكن إلا في حالة حزن وقهر. لم يعد يرى إيلين مبتسمة مثل تلك الأيام الماضية. لم يرالضحكة على وجنتيها على الأطلاق. طوال الوقت كان يحثها على الهروب معه, وهجر والديها, لكي يتزوجا. بالرغم من أن هذا الأمركان مستحيلاً, إلا أن هوكو لم يكن يرغب أن يفهم المسألة.
ـ يجب أن نصغي لبعضنا, أن نسمع بعضنا.
لقد اعتاد الحبيبان على بعضهما. لم تعد إيلين تستطيع العيش بعيدة عن هوكو, ومتأكدة أن حبيبها لا يستطيع أن يعيش بدونها. أحياناً كثيرة تتمنى الموت, لأنه الحل الوحيد أمامها. تريد أن تموت لتتخلص من هذا الثقل الرازح على قلبها. أحياناً كثيرة, تتمنى لوأنها لم تلتقِ بهوكو.
ـ كانت حياتي هادئة قبل أن نلتقي, قبل أن نحب بعضنا, قالتها, والتنهيدة لا تفارق ضربات قلبها.
ـ لكننا, على قيد الحياة يا إيلين, ولد الإنسان حتى يحيا ويعيش.
ـ نعم.. نعم. قالت هذه الكلمة وهي تتنهد بقوة.
في اليوم التالي بكت إيلين كثيراً.
بقاء والدتها في الفراش, اشتداد المرض عليها أخذ ينذربحدوث شيئ ما, مما دفع إيلين أن تتكلم مع والدها.
في اليوم التالي تكلم والدها مع هوكو.
ـ والدك أعطاني مئة كرونة يا إيلين. لقد أعطاني هذا المبلغ الكبير, مئة كرونة, من أجل اتركك, أن نفترق.
هكذا جرت الأمور, لكن وقعها صار أخف, هكذا ظنت إيلين, أخف من أي شيئ ممكن أن يحدث.
ـ سأسافرإلى أمريكا بالمبلغ الذي أعطاني أياه والدك إلى الولايات المتحدة الأمريكية كي أعمل وأكون ثروة وأعود إلى البيت كي نتزوج.
ـ يجب ان تعود إلى البيت.
ـ سأعود من أجل أن أخذكِ ونتزوج.
ـ في هذه الحالة سأرافقك, أنا متأكدة من هذا, سنتدبرأموربيتنا على كل حال.
ـ عندما أعود من السفرسأتي وأخذك مباشرة ولن أتكلم مع والدك. وقتها سنسمح له أن يقول ما يريد قوله.
خفضت إيلين رأسها. كانت فترة قصيرة كأنها دهراً.
ـ سنتزوج, قال هوكو. سأسافرخلال فترة قريبة, من أجلك, من أجل انقادك, كي تكون حرة. بدلاً من الفراق علي الرحيل الأن كي ندبرأمورنا.
ـ لكنكَ عائد.
ـ ستموتي من الكد والتعب في بيت والدك إلى حين عودتي.
ـ لا, لا أنا قوية كما تعرفني, سأبقى قوية ومنتظرة مجيئك.
ـ تعالي نتزوج الأن يا إيلين, سيكون لنا بيتنا الخاص بنا, وقريباً جداً سيكون لنا أطفالنا. ثم أجهش هوكو بالبكاء الحاد. وتلك كانت أول مرة وأخرمرة تراه إيلين يبكي أمامها.
إن هوكو في الحالات العادية والعامة شخص رائع, قوي وذكي وشجاع, لكن في هذا الوضع, هو أشبه بالعاجز. لهذا ترقرقت الدموع من مقلتيه. كان هذا الأمرمفهوماً لإيلين.
ـ في الحقيقة إن تصرفكِ هذا, يدل على أنك تركتيني, تخليتي عني, وهجرتيني. هذه هي النتيجة النهاية.
ـ ماذا علي أن أفعله يا حبيبي, بماذا قصرت معك. لقد كافحت على مسارين, أن أكون لك, وأن لا أترك بيت أهلي. أنني أمشي على حبل رفيع, كل جهة تشدني بقوة إلى طرفها, ولا أدري ماذا أفعل.
ـ أنت لا تريدينْ. ثم راح يحضنها ويضمها إلى صدره. ستعيشين, وتبقين تنتظرين مجيئي.
ـ سانتظرك يا حبيب عمري. عندما تعود سيكون كل شيئ سهلاً وقتها, أنا متأكدة من ذلك.
عندها بدأ سفرهوكو.
في شهرأيلول, سبتمبربدأت رحلته.
كان الخريف على الأبواب, يعوي, والمطريهطل بغزارة. ركب هوكوعربة يجرها حصان وفي مقدمتها حوذي يقودها بحذرعبرمسارب مملوءة بالأشجار. كان إيلين وقفة على النافذة, تنتظرمرورحبيبها بالقرب من بيتها. ركضت عبرالبوابة كي تصل إليه, لكنها لم تستطع أن توقفه. ركضت خارج البوابة عندما رأت هوكو قافزاً من العربة ويركض باتجاهها, فتح يديه وراح يضمها إلى صدره بقوة.
ـ آه.. آه يا حبي الأبدي, يا حبي الوفي.
ـ بشهقة قوي صرخت.. هوكويا حبيبي, يا روح قلبي.
ثم خطا خطواته البطيئة ومشى باتجاه العربة مرة ثانية.
مضت العربة تخط سيرها بين الأشجار, المطر يهطل بغزارة, أيلول الأصفر, ينفض عن أغصان الأشجارأوراقها الصفراء والحمراء. كان في طريقه إلى محطة القطارعلى بعد عشرون كيلومترمن حدود بيته.
هكذا سارت رحلته. ركب القطارمن تلك البلدة إلى ميناء مدينة يوتوبوري المطلة على المحيط الأطلسي, من على رصيفها ركب الباخرة البخارية التي ستقوده رحلته إلى الولايات المتحدة الامريكية.
ساوره إحساس عميق إنه سيجمع مبلغاً كبيراً من المال, عندها سيقفل عائداً إلى وطنه السويد, ويتزوج حبيبته.
كانت إيلين في فترة سفرهوكو تبقى واقفة عند بوابة البيت, تلتفت نحو اليمين واليساروعيناها مسمرتان على الطريق, منتظرة عودته. تبقى ما بين الدائخة والمجنونة في مكانها إلى أن تذهب الخادمة إليها وتدخلها البيت.
ـ أنها تلحق العاربنفسها. قالتها الخادمة
ـ أنك تلحقين العاربنا, بالعائلة وأخوتك وأبيك وأنا, قالتها أم إيلين بحسرة وتنهيدة عميقة.
ـ هل أنتم سعداء الأن لأنه سافر. لقد كان الشخص الوحيد في هذه الدنيا الذي أحبني واهتم بي. هوالوحيد الذي جعل لوجوي وبقاءي معنى وقيمة. الأن سافر, يا حسرتي عليه, بالتأكيد أنكم سعداء الأن.
أنها المرة الأولى التي ترفع إيلين صوتها في وجه عائلتها وكانت آخر مرة. مرات كثيرة فكرت أن تسافرإليه, أن تلحق بهوكو. مرات كثيرة تنزع مريولتها عن صدرها لكي تغادرالبيت وترحل ثم تعود وتلبسها مرة ثانية. فكرت أن تذهب إليه, أن تلحق به, أن يهربوا معاً ويعيشوا في الولايات المتحدة الامريكية. يعيشان هناك معاً في بيت واحد, يجمعهما الحب والسعادة. لكنها لم تستسلم أنما فضلت الانتظار. ما عملته كان عين الصواب, لأنه بعد شهرمن رحيل هوكو ماتت والدتها بمرض السل. وهكذا مضت الأيام سريعة.
بعد عيد الميلاد جاءت رسالة من هوكو, قال فيها أنه وصل إلى الولايات المتحدة الامريكية, وأنه في طريقه لشراء مزرعة صغيرة بالمئة كرونة التي بحوزته وسيبعث في طلب إيلين كي يتزوجها, وبطريقة ما سيحاول أن يرتب الوضع لهذه المناسبة. وأنه مشتاق لها بشكل لا يصدق, إنه مشتاق لها طوال الوقت, كل ثانية ودقيقة وساعة ويوم, ويكاد قلبه يحترق من الشوق لها.
قرأت إيلين الرسالة مرة بعد أخرى, لكنها لم تجب على المكتوب لأن والدتها توفيت منذ فترة قصيرة, لهذا عليها أن تبقى في البيت إلى حين أن تنجلي الكثيرمن الأمور.
الأحداث التي جرت كانت في شهرأيلول من العام/ 1909/, العام الذي سافرفيه هوكوإلى الولايات المتحدة الامريكية.
بعد ثلاثون عاماً من ذلك التأريخ, أي في العام /1939/ جرت مياه كثيرة تحت سقف الحياة.
نحن الأن في العام / 1939/
الصيف حاراً هذا العام, الشمس ترسل أشعتها الذهبية على الكون, السماء زرقاء صافية. ما زال الكثيرمن الورد مزهراً, زنابق الوديان, لونت الأرض بالأحمر والأصفر, فرشتهم على ضفاف الوديان. الزهورالملساء الناعمة تتمايل مع نسيم الهواء العليل على الجانبين والأطراف. أشجارالفواكه رمت براعمها الصغيرة المتفتحة جانباً منذ بضعة لحظات لتفسح المجال للثمارالناضجة بالبقاء. أرض الفريزصارت بيضاء اللون, تفتحت على طول المدى, أزهاراً حلوة, تستعد لتصبح ثماراً.
المروج على أطراف المزارع امتلأت بالورود من كل لون. خرجت إيلين صباحاً لتجمع زهور
اللوزوالبقلة, زهرة الربيع, الأقحوان, وباقة من الزهورالزرقاء اللون. في كل غرفة من غرف البيت, وضعت أصيصاً من مختلف أنواع الورد.
كان الزمن يشيرإلى الخامسة عشرة من حزيران. أثناء قطفها للورد والزهوركانت إيلين تسمع صوت الوقواق يصدح ويغرد, وما عدا ذلك كان الصمت سيد الفلاة والغابة والبراري العذبة.
الجميع نيام.
الوقواق يُسمع بشكل جلي وواضح من الطرف الأخرمن المكان القريب من الكنيسة. وعلى أشجار البساتين تقف أعداد متنوعة من الطيور, تغرد وتصدح. منذ الصباح الباكربدأت إيلين تلم الورد. تسمع أصوات العصافيروالبلابل من على الشجرة القريبة منها. تقول في نفسها, يوم أخربدأ, وفي طريقه إلى الدوران على أعقابه.
الصيف بدأ, صارالليل أكثردفئاً. أغلب الناس يتكلمون عن الحرب العالمية الثانية. يقولون, قريباً ستبدأ, احتمال وقوعها بات شبه مؤكد. ليس في السويد, أنما في جنوب أوروبا.
تلكلموا عن الكتب الجديدة التي ستصدر, عن الفن والمسرح والموسيقا والأدب. كانوا جالسين في فناء البيت يتحدثون, فالتيروكايسه وبيرتا.
فالتيرتزوج سيسيليا, وكايسا تزوجت كنوت, الذي كان يملك مصنعاً في ميولبي, بينما زوج بيرتا هو الضابط إيريك في الجيش السويدي. لم يكن إيريك سعيداً كما كان في السابق, لأنه فقد حيويته ونشاطه. أغلب الأوقات يميل إلى الصمت, ويبدو عليه التعب. الجميع كبروا ثلاثون عاماً, صارت أعمارهم ما بين الخمسين والستين.
أننا في الصيف العام /1939/.
لقد طرأت على العائلة تغيرات كبيرة, صارشعرفالتيرأبيضاً, كما أن جسده مال للبدانة والأمتلاء. وكايسا أبيض شعرها, وشحب لون وجهها, كما بدأت التجاعيد تغزو محيط عينيها ورقبتها. أما بيرتا فقد بقي وجهها وجسدها يتمتع بالنضارة والشباب, وتقاسيم شكلها ما زال على حاله. ربما تصبغ شعرها بين الفينية والأخرى. نقول ربما, لأن مرحها ورشاقة حركتها أبعد عنها الكهولة وتعب السنين الطويلة. كما أنها ما زالت مستمرة بالغناء, لكن ليس في دورالأوبرا أوعلى خشبة المسارح أوشيئاً من هذا القبيل. لقد أصبحت قائد فرقة الإنشاد الدينية, تعلم الأخرين العزف على الأرغن وتغني أيام الآحاد في كنيسة لينشونينك. ما زال لديها ذلك الصوت الجميل والرخيم والعذب. كايسا لم تصبح ممثلة وأنما حركاتها ما زالت مملوءة بروح وحيوية المسرح والتمثيل, متزوجة من الضابط كونت. كانت روحها في المسرح, لهذا توجب عليها أن تعود إليه, أن تضع كل اهتماماتها فيه. لكن الوضع ليس بالصورة التي يرسمها المرء وفق رغباته, لأن الواقع فرض شروطه عليها وجعلها غير سعيدة في حياتها. الوحيد الذي حقق أمانيه هو فالتيرالذي صار مديراً لمدرسة ثانوية في نورشوبينك.
جميهم كانوا جالسين في ساحة المزرعة يسمعون القصائد الشعرية التي يلقيها فالتيربصوته الهادئ المفخم والبطيئ والواضح.
بقي البيت على حاله مثل المزرعة, قوياً وجميلاً بألوانه, الأحمروالأبيض, وعلى طرف المبنى تنتصب سارية عالية يقبع فوقها العلم السويدي, مرفرفاً في الأعالي, بلونه الأزرق والأصفر. مساحة الغرف.
واسعة وجميلة, مفروشة بالأثاث الحديث. إحدى الغرف تدعى غرفة الرجال, أرائكها من الجلد الحقيقي, وعلى امتداد الجدران, مرصوفة الكتب على الرفوف. في الوسط, طاولة مصنوعة من الجوز. كان الأب نائماً على الأريكة الجلدية. في المطبخ كانت إيلين تحضر القهوة. قبل لحظات حملت ركوة القهوة على الصينية إلى الجوقة الجالسة في فناء المزرعة, وهاهي تجهزركوة أخرى. وفي اليد الأخرى تحمل العصيرللأحفاد وتقفل عائدة لتأخذ طبق من الفطائر السويدية, هي عبارة عن كعكة محلاة, وخبزمدور.
كانت الساعة تشيرإلى الثالثة بعد الظهر, في هذه الأوقات يجلسون ويشربون القهوة. في الشتاء, لا يبق أحد منهم إلا إيلين ووالدها. أما الخادمة, فقد توفيت.
في الصيف يلتقون مع بعضهم, يتسامرون, يتجولون في الغابة, يجمعون الورود. يأتون إلى الضيعة من أجل الترويح عن النفس, لأخذ قسط من الراحة, يسترخون من عناء الشتاء السويدي الطويل. يتنزهون في جوارومحيط المزرعة, والقيام بزيارة المزارع الأخرى القريبة منهم لألقاء التحية عليهم أوبوضع الورد على قبورالأحبة الذين ماتوا. لقد أعتادوا على العيش في المزرعة بالقرب من والدهم طوال الصيف.
عندما يحل الصباح, تنزل إيلين وتقطف الورد, تحضير الطعام للجميع, تنظف البيت والغرف والساحة. وعندما يحل الليل تذهب إلى ستورهولت لتجلب الحليب كما كانت تفعل قبل ثلاثون سنة خلت.
كان فالتير يصغي السمع لصوت قادم من بعيد, من المزرعة. كانت إيلين تنتظرركوة القهوة لكي تنضج. في هذه اللحظات شاهدت من خلال النافذة بعض السنونوات تطيرمثل السهم على مستو سطح الأرض ذهاباً وأياباً, تطارد الذباب والبعوض.
وضعوا على الطاولة, مريولة وكتاب وزجاجة عطر. ثلاثة هدايا لعيد ميلادها. في ذلك اليوم أتممت الخمسين سنة من عمرها.
ذهبت إيلين إلى غرفة الرجال لأيقاظ والدها, حتى تساعده في الجلوس على النونية, ثم تلبسه ثيابه. بعد ذلك تأخذه إلى فناء الدار. ثم تسرع عائدة لتخدم الأخرين. مثلما كانت تفعل ذلك من قبل, يوماً بعد يوم, وصيفاً بعد آخر. يصعب عليها تذكرتلك الفترات الطويلة.
وضعت دلة القهوة على الصينية وهمت في الخروج, في هذه الأثناء فتح باب المطبخ على حين غرة ودخل رجل.
كان الرجل يلبس ثياباً بسيطة, في يديه باقة من الورد. نظرت إيلين إليه من خلال الظلال المعتمة المخيمة على المطبخ. لكن سقوط أشعة الشمس القوية من وراء النافذة أشاع شيئاً آخر. وقفت إيلين مذهولة, لم تكن تتوقع أن ترى شيئاً, لأن الجميع مشغولين, يتحدثون مع بعضهم خارج المطبخ. بينما هي, كانت معتادة على الصمت. أمام باب المطبخ كان الرجل واقفاً ينتظر.
ـ لي الشرف أن أهنئك يا إيلين.
وقفت إيلين صامتة أمام المجلى ولم تجب.
ـ هل سبق لكِ أن عرفتني من قبل! قالها والبسمة الحزينة ترتسم بحياء على كل تقسيمة من تقاسيم وجهه.
في ذلك الحين, فيما مضى من الزمن, قبل ثلاثين سنة, كانت تعرف رجلاً, تعرف ملامحه بدقة, شعره, صوته, عينيه وقسمات وجهه. أما الأن, فأنها ليست متأكدة من ذلك, لا تعرف من هذا, ومن يشبه من الناس.
ـ أنا هوكو.
وقتها عرفته. شيئ ما في داخلها تحرك, لهب من المشاعر والإحاسيس دلها عليه, بالرغم من أن الحدث لا يصدق. ولا تريد أن تصدقه.
ـ هوكو؟ قالتها بحزن ومرارة. هوكو؟ يجب أن تضع ركوة القهوة جانباً وتقترب منه لتتأكد أنها في الحقيقة وليست في الحلم.
ـ إذا أنت هو هوكو.
ـ نعم, نعم, بالضبط أنا هوهوكو. بقيت البسمة الحزينة والخجولة على محياه.
بعد حين مد خطوة باتجاه إيلين. نظرت إليه عن قرب وتأكدت حقيقة إنه هو. لم تتغير ملامحه كثيراً, بقي لون شعره على حاله, نفس العينين الهادئتين. عندما ابتسم, بان هوكو, ذلك الرجل نفسه, وكأنه لم يغب ثلاثون عاماً عنها وعن السويد.
ـ لا يبدو عليك الكبريا هوكو.
ـ ولا أنت أيضاً.
ـ أوه, بلى.
العجلة والتأثرأخذها من نفسها. ابقت يداها على وجهها بضعة لحظات. بعد أن استعادت انفاسها قليلاً راحت تنظرإليه مرة ثانية.
ـ لا. هل أنا في الحلم أم الواقع, لكنك هوكو, هذه حقيقة لا مراء فيها.
ـ أنا هوهوكو يا إيلين. هذا باقة من الورد لك, تقديري واحترامي لك يا إيلين.
ـ متى جئت إلى الوطن يا هوكو. عندها مدت يدها إلى الأمام وأخذت الورد منه.
مسك هوكو يدها مدة قصيرة, ضغط عليها قليلاً ثم تركها.
ـ لقد جئت إلى السويد من أربعة عشرة يوماً, لكني كنت متعباً من رحلة السفر, بعد ذلك اشتغلت حول المزرعة وذهبت إلى المقبرة, زرت قبروالدي ووالدتي. لكن إيلين بالكاد استطاعت أن تسمع ما يقوله. ظلت شاردة الذهن, واقفة في مكانها, تنظرإليه وتقول لنفسها, الصوت ذاته, النبرات ذاتها, حديثه لها يعود إليها مرة ثانية, يرتد عليها بعد ثلاثون عاماً. أخذت مزهرية من المطبخ مملوءة بالماء ووضعت الورد فيه. طوال الوقت كانت تسمع صوته, يعود ثانية ليقترب منها.
ـ ذهبتُ إلى الغابة ومكثت هناك يومين, شدني الحنين إلى مكان لقاءاتنا. شدني الحنين إلى غابات السويد التي لا شبيهاً لها. هناك, في الولايات المتحدة القليل من المروج, لكنها مسيجة بالحجر, الكثيرمن الحجر, والكثيرمن الأحراج.
ـ على أية حال, كان يمكنك أن تتحدث السويدية هناك.
أومأ هوكو رأسه مطرقاً الصمت, ووقف بالقرب الباب. كان هو ذاك الرجل الذي تتذكره, صوته لم يتغير, حركة يديه وهو يحمل قبعته السوداء.
ـ كنت أتحدث السويدية هناك أيضاً. كنا مجموعة من السويديين نقطن إلى جانب بعضنا البعض. هل تعرفين, إنني كنت أقطف الورد هناك أيضاً.
بقيت إيلين تهز رأسها.
ـ على طرف الطريق المؤدي إلى الغابة كنا معتادون على اللقاء, هل تذكرين؟
أومئت برأسها علامة على الموافقة. رفعت الفازة إلى الأعلى وراحت تشم الورد. روائحها قادمة من الغابة, مثل تلك الروائح التي كانت تنبعث من الأرض المحملة بالأزهار قبل أن يسافر.
خلال هذه السنوات الطويلة لم تحس أو تلمس مثل تلك الروائح القديمة قبل ثلاثين سنة خلت. اليوم الذاكرة تنتعش, تتشتعل, تخرج من الرماد, من دائرة الظلال المختبئة. في الحقيقة, لم ترغب أن تتذكرتلك المدة الطويلة التي مرت, ذلك الزمن الذي مضى, لن يكون في مقدورهم أن يعيدوه أو يحيوه مرة أخرى.
ـ لهذا عدت.
ـ نعم, نهائياً.
انتظرت إيلين قليلاً. رغبت أن تطرح المزيد من الأسئلة عليه, لكنها لم تجرؤ على ذلك. خيم الصمت عليهما في المطبخ مرة ثانية إلا أن صوتاً قوياً جاء كالصاعقة من المزرعة يطلب القهوة. كان الجميع في انتظارإيلين لتقدم لهم قهوتهم.
ـ هل جئت إلى البلاد وحدك.
الأن يتوجب عليها أن تذهب مع القهوة, لتقدمها للجميع مثلما تفعل من قبل, كما هي معتادة عليه دائماً.
لكن في الجانب الأخربدأت إيلين توعى وتفهم ما يدورحولها. الجزء الذي طوته في ذاكرتها مدة ثلاثين سنة. كان لديها رغبة في مواصلة الطريق الذي خطته في حياتها, مثلما بدأته. ليس لديها الإرداة والرغبة في أن تتخلص من وضعها.
لكن هوكو وقف لها بالمرصاد أمام الباب, منعها من الذهاب. لم تستطع أن ترفع عينيها في عينيه, كما لم تستطع أن تتظاهربأنه غير موجود أمامها.
يجب أن تصحو وترى أن هوكو, حبيبها قد عاد وهو أمامها حي يرزق, موجود بالقرب منها, في الضيعة والمزرعة والمطبخ وعلى بعد ثلاثة أمتار.
ـ لم أتزوج إلى الأن, كنت أعيش وحيداً هناك أيضاً. طوال الوقت كنت وحدي, منذ اللحظة التي غادرتكم.
ـ هل عشت كل هذه المدة في الغربة, بمئة كرونة, تلك التي أعطاك إياها والدي.
ـ هل هناك أهمية لمجيئ مبكراً, فيما لو قررت ذلك, قالها هوكو وتابع, لوجئت بعد خمسة أعوام من ذهابي, هل كان سيتغير شيئاً ما, هل كنت ستأتين معي كي نتزوج. لم تجب إيلين, بقيت تهز رأسها بصمت. لوأني قررت المجيئ بعد خمسة أعوام من ذهابي, هل كان باستطاعتك الذهاب من هذا المكان؟ هل هذا بيتك؟ هل تستطيعين, أن تتركي عائلئك, أهلك وتخرجي من هنا؟. لم تجب إيلين وبقيت مطرقة الرأس تهزه بين الفينة والأخرى دون أن تجيب.
ـ لا.. لا. أعرف ذلك.
ـ لقد دمروا حياتك قبل أن نلتقي وبعد أن التقينا. لقد سرقوا منك أثمن شيئ في الحياة, شبابك, في الوقت الذي لم يكن عمرك يتجاوز التاسعة عشرة في ذلك الحين. لم تفيق من غفوتك حتى نفعل شيئاً يا إيلين.
ـ لا.. لم أفق. كان ذلك خطئاً جسيماً. نعم, لم يهتموا بوضعي على الأطلاق. كانت طلباتهم كثيرة, أبي وأمي والآخرين. لكن ليس لهذا السبب بقيت عندهم, ويجب أن أبقى ملازمة لهم, سأبقى لأجلهم لأنه لا يوجد حل آخر.
ـ لم يعطني والدك مبلغ المئة كرونة لله, أولزرقة عيني, لم يكن لذلك السبب. لقد أعطاني المبلغ لأنني لم أكن الشخص المناسب له ولكِ ولعائلتكم. قالها هوكوبهدوء وسكينة تامة.
ـ إلا أنهم دفعوا لك المئة كرونة من أجل أن تأخذني. أبتسمت قليلاً وتابعت, المئة كرونة مبلغ كبيرلمدة ثلاثين سنة. في الحقيقة مبلغ كبير جداً.
ـ لا. لم يدفعوا لي مبلغ المئة كرونة لأتزوجك, لقد دفعوا المبلغ ليتخلصوا مني..
بقيت إيلين مطرقة تفكر. قالت:
ـ الفارق بيننا كبيراً, سافرت أنت على أية حال وبقيت أنا في مكاني.
ـ بالنسبة لك الفارق كبيراً, أنتِ التي وضعت الحواجز بيننا. أما بالنسبة لوالدك أو الآخرين, فهم, لا يفكروا إلا بأنفسهم. أنهم لم يفكروا يوماً واحداً بك, بمشاعرك وأحاسيسك. بإنسانيتك, بحياتك كإنسانة وامرأة. الحقيقة, كل واحد من عائلتك لا يفكر إلا بنفسه. كان من الأفضل أن يفكروا بك, ولو قليلاً.
بقيت إيلين مطأطئة رأسها, لكنها لم تفهم حقيقة ما يعنيه هوكو. كانت مرتبكة كثيراً وما تزال تحت الصدمة. مرة بعد أخرى, تنظر إليه غير مصدقة, تحدق لكي تتأكد أن الذي أمام عينيها هو حبيبها هوكو. عاد بعد هذا الفراق الطويل, زمن طويل امتد إلى ثلاثين سنة. وخلال هذه المدة تغيركل شيئ.
لقد عاد الحبيب ليحرك الماء الراكد, ليربك هدوءها الهش والرتابة التي اعتادت عليه. ربما قريباً سيسافرمرة أخرى, عائداً من المكان الذي جاء منه.
على أي حال, أصبحت إيلين في حالة قلق, لأنها لم توقظ أباها. ذهبت مباشرة إلى فناء البيت, قدمت القهوة للجميع. تبعها هوكو إلى الخارج. نظرفالتير والآخرين إلى هوكوبذهول أقرب إلى الغرابة.
ـ كنت أسأل نفسي عن سبب تأخيرالقهوة.
ـ أليس هذا هوكو؟ تسألت كايسا بسخرية وتعالي, وضحكة ساخرة, كأن الذي أمامها شيئ تافه لا قيمة له. هل عاد إلى البلاد بعد طول غياب من أمريكا؟
لم يقف هوكوفي مكانه بل ذهب إليهم ومد يده إليهم وراح يسلم عليهم جميعاً. خلال هذه الفترة كانت إيلين مشغولة بصب القهوة في فناجينهم. كايسا وبيرتا همسوا بضعة كلمات في أذن كنوت.
ـ كيف رأيت/USA/ يا هوكو, قالها فالتير. إلى تلك اللحظة لم تكن تسمى الولايات المتحدة الأمريكية إلا باسم /USA/ . كان فالتيريعرف ذلك بحكم كونه مديراً للمدرسة. أما هوكو وإيلين وغيرهم من الذين لم يتلقوا تعليمهم الكافي يعرفونها بأسم أمريكا.
ـ كانت الظروف صعبة للغاية في أمريكا أيضاً, رد هوكو عليهم بهدوء. لكنها الأن أحسن بكثير. بقي هوكوواقفاً بجانب الطاولة, لم يطلبوا منه أن يجلس على الكرسي. كانوا يرغبون في قراراة أنفسهم أن يذهب في أسرع وقت ممكن, لم يكونوا يريدونه بينهم.
ـ ويتحدثون عن الحرب هناك أيضاً. سأل فالتيربتهذيب واستعلاء, معبراً عن عدم اهتمامه بهوكووحديثه.
ـ ليس كثيراً, الحرب تتعلق بالوضع الأوربي, أمريكا بلد بعيد عن أحداث الحرب, أنهم لا يفكرون بالحرب هناك.
ـ أنت قلت أمريكا., قالها فالتيربوقاحة ظاهرة.
ـ تحت تأثيرالعادة نقول أمريكا, رد عليه هوكو. يصبح المرء مسيراً تحت تأثيرالعادة. كانت مثلما نقولها في بلادنا, قبل أن أن أسافرإليها قبل ثلاثين سنة. نفس الشيئ, بعد أن عدت إلى وطني مرة ثانية. لكن/USA/ تختصر بكلمة /US/. وهي تلفظ بهذا الشكل عندما كنت هناك طوال الوقت. ذهبت إلى المنطقة الوسطى منها, لم أزرمكسيكوأو كندا. تابع هوكوحديثه مبتسماً بوجه فالتير. لكن هذا الأخيرلم يبادله هذا الشعور, وبقي يشرب قهوته.
ـ لكن الظروف التي مررت بها لم تكن صعبة جداً يا هوكو, قالت كايسا. ثم مررت غمزة ساخرة إلى بناتها الثلاثة. فهمت البنات هذه الحركة, ورحن يضحكن في سرهن. فهموا أن أمهم أرادت أن تسخر من هوكو. وقد أنتبهوا أن هوكو, تظاهر كأنه لم يفهم أنها تضحك عليه.
ـ لماذا تعتقدين أن الوضع لم يكن كذلك, تكلم هوكوبجدية. عندما كانت الظروف عسيرة وصعبة, لم يكن هناك فرق بين إنسان وإنسان, كانت المصاعب تعم على الجميع وأنا منهم. وراح يصب نظره عليها طوال الوقت. فهمت كايسا إنه فهم عليها. أحمر وجهها من الخجل والحياء وقلة الأدب التي تصرفت فيها معه, لكنه بقي مبتسماً بلطف وراح يقول, في البدء عملت في المزرعة, بعدها في معمل. لم يكن العمل سهلاً هناك, حتى لو كانت أفضل من هنا في تلك الفترة.
لم تجب كايسا وفالتيروبقوا صامتن, ينظرون إليه شزراً ملامحهم تشيرإلى رغبتهم في رحيله بأسرع وقت ممكن.
ـ متى ستسافرعائداً يا هوكو؟ سألت بيريتا.
لم تقل كايسا أوبيرتيا لهوكوكلمة أو لفظة, أنتَ. كانوا يكررون هذه الكلمة قبل أن يسافر. قالوها عندما كانوا صغاراً, عندما كانوا يلعبون مع بعضهم. عندما كانوا يذهبون إلى نفس المدرسة. فالتيروهوكو كانا في نفس الصف ويذهبان إلى نفس الدرس عند القسيس. لكن اليوم, نسوه ورموا كل الماضي جانباً.
ـ سأبقى في البيت في هذه الفترة, رد عليها هوكو. لكنه لم لم يلتف إلى إيلين, أوحاول أن ينظرإلى عينيها. قال ذلك لمجرد لفت نظرها. فهمت إيلين أن هذا موجه لها.
ـ سأبقى في البيت الأن. الوضع في السويد جيد هذه الأيام. في الحقيقة أشتقت للبقاء في وطني, وسأبقى فيه فيما تبقى لي من العمر.
انحنت كايسا إلى الأمام عندما جلبت إيلين الكعك السويدي المصنوع في بيتهم.
ـ يسرنا أن يمرهوكوعلى بيتنا, يقوم بزيارة خاطفة وسريعة, قالتها بيرتا. إيلين, يا حبيبتي الصغيرة, هل بقي في ركوتك القليل من القهوة, أو كأس من البيرة, يمكن أن نقدمها لهوكو قبل أن يمشي.
ثم صرفت وجهها عنه والتفتت إلى أختها كايسا, ثم مضوا يتكلمون مع بعضهم عن الكونشيرتو, الحفلة الموسيقية الجميلة التي أقيمت في نورشوبينك.
ـ يسعدني أن أحضرهذه الحفلة قريباً, قالها فالتير.
بهذه الحركة الخبيثة أرادوا أن يلفتوا نظره, بأنه شخص غيرمرغوب فيه بينهم, وفي بيتهم. يرغبون أن يذهب حالاً, كما لم يبالوا به, ولا أن ينهي فنجان قهوته معهم.
نظرهوكو إلى إيلين, ثم طأطأ رأسه. بعدها تركوه ومضوا إلى المطبخ.
ـ لا. لا أرغب في المزيد من القهوة, قالها هوكو موجهاً كلامه لإيلين.
ـ لكن الدلة مملوءة بالقهوة.
ـ مازلت الخادمة, خادمة في هذه البيت يا إيلين.
ـ لا أستطيع أن أفعل شيئاً أخريا هوكو. من المفرح أنهم جاؤوا ليسلموا على والدي, فالتير وكايسا وبيريتا والآخرين. وقتها تذكرت الرجل المسن النائم في غرفة الرجال:
ـ أه, يجب أن أن أوقظ والدي.
ـ نعم, يجب أن أذهب أنا أيضاً, إلى اللقاء قريباً.
ـ نحن الأن في فصل الصيف, لدينا الكثيرالذي يمكننا أن نفعله, يمكن أن نفعل أشياء كثيرة من الصباح إلى المساء.
ـ نعم, أنت تعرفين المكان الذي يمكنك أن تجديني فيه يا إيلين. في هذه الفترة أقيم في مزرعة أخي المتزوج, الذي استلم مسؤوليتها منذ فترة قصيرة
ـ نعم, أعرف ذلك.
عند ذلك ذهب هوكو.
لكن إيلين لم يكن لديها الوقت الكافي لكي تلتفت إليه أثناء مغادرته لها, عليها الإسراع للذهاب إلى عند والدها والاعتناء به, تجهزه وترتب وضعه كي يخرج إلى فناء البيت.
حمل الصيف جماله وبهائه, شمسه ودفئه ورحل طاوياً جناحيه بين دفتي الوجود.
لم يكن لإيلين الوقت لتحك رأسها, فهي في حركة دائمة وعمل متواصل, تستيقظ كل يوم قبل الساعة السادسة صباحاً وتبقى تخدم الأسرة والبيت إلى التاسعة مساءً. ما أن تصل إلى الفراش, حتى يهدها التعب, وتذهب في نوم عميق. تجهزالكثيرمن الطعام, تضع الخطط والاحتمالات الكثيرة لما ستعمله في حال جاءت بريتا أوكايسا مع أولادهما. ما يرغبونه من الطعام, من خدمة, ما هي طلباتهم وحاجاتهم. يجب أن تجهزكل أنواع الطعام, تقشرالبطاطا, تعتني بالمزرعة, تقطف الثمار, تطبخ العصائر, تصنع الشراب, المربيات بأنواعها المختلفة تحضيراً للشتاء. يجب أن يبقى البيت نظيفاً, تكنس وتمسح وتجلي, ليكون كل شيئ جاهزاً على أفضل وجه وصورة. دائماً هناك أشياء يجب أن تجهزه. الصحون النظيفة, كل شيئ في مكانه, مرتب وأنيق, وإلا ستزعل بيريتا أو كايسا. عليها أن تعطي انطباعاً جيداً عن نفسها والبيت والمزرعة, ان تقدم صورة حلوة عن خدمتها لأبيها, أن لا يشكوا أو يتذمروا من عملها. لا تحب أن تسمع منهم أي كلمة تشير بشكل مباشرأوغير مباشرأنها لم تكن ودية أو لم تقم بالواجب أولم ترحب بهم أويلفت انتباههم شيئاً سيئاً في حال مكوثهم في الضيعة.
كانت إيلين مدركة أنها تتحمل الخطأ الكبيرلكل ما جرى لحياتها.
يجب أن تكون جاهزة لأستقبالهم بالتهليل والترحيب, أن تستعد نفسياً وعملياً لمجيئ أولئك القادمون من المدينة لأخذ قصد واسع من الاستجمام والراحة في عطلة الصيف.
هطل المطر بعد انتهاء شهرتموز, تساقط بين الفينة والأخرى. هلّ الليل والظلام, أضحت كل الألوان تميل إلى القتامة, الأشجار, الأوراقها والأغصان.
عندما جاؤوا في شهر آب كان شيئ قاتماً.
عندما يحل الليل تأخذ إيلين العربة وتضع الواني عليها ثم تجرها لتذهب إلى ستورهولت كي تجلب الحليب للأسرة وسط ضحك وسخرية بقية أفراد عائلتها.
ـ يمكنك أن تبقي مع الوالد في البيت, تساعديه بدلاً من الذهاب إلى هناك لجلب الحليب, قال فالتير.
ـ لدينا أشياء كثيرة يمكن أن نعملها, أليس كذلك, تحدثت كايسا. دعي الأولاد يجلبو الحليب, أوعلى الأقل أن توافقي على ذلك. أنظري كيف يركض الأولاد وراءك طوال الوقت.
ـ هل تذهبين إلى ستورهولت لتتنصتي على الإشاعات, تحدثت بيريتا. وإلا لماذا أنت عنيدة يا إيلين, يجب عليك أن لا تكوني عنيدة.
لكن إيلين عنيدة في هذه النقطة, هم محقون. تحب الذهاب إلى المكان الذي اسمه ستورهولت لتجلب الحليب. إما لأن الطقس الجميل يغريها أو لأنها تحب المشي تحت المطر. أنها تحب أن تقوم بهذه الأشياء بمفردها. إيلين تعرف أن كايسا وبيريتا ينظرن إليها باحتقار, على إنها إنسانة غريبة الأطوار. هي تعرف ذلك, سمعت أحداثيهم عنها مرات كثيرة. لقد سمعت بيرتا تتحدث إلى فالتيرعن غرابة أطوارها وتصرفاتها الغيرمعقولة ومفهومة, بأن هناك لوثة ما في دماغها. يمكن للمرء أن يرى ذلك, من خلال تصرفاتها التي تدعو للشك, رغبتها الشديدة في جلب الحليب, الذهاب إلى الغابة. على الأرجح لدى إيلين شيئاً غريباً في حياتها, حبها في الذهاب إلى غرفة الوالد لوحدها؟
لكن إيلين لم تبال لكلامهم.
عليها أن تأتي مرة واحدة إلى البيت خلال اليوم, ومرة أخرى تغادره, تختفي, تتنفس, ترفه عن نفسها, أن تتجنب سماع ما يقوله أخوتها عنها. تتجنب سماع أصواتهم, تتجنب طلبات والدها التي لا تنتهي, مرة تلو المرة. مرات كثيرة تتمنى أن تبقى لوحدها, مع نفسها, أن تكون حرة.
في طريق ذهابها إلى الغابة لجلب الحليب تختلي مع نفسها مدة ساعة, تسمع لصوت تغريد البلابل والعصافير, تداعب أوراق الأشجاروتأكل الثمارالبرية الناهضة من بين أحضان الطبيعة.. المكان الذي اسمه ستورهولت يقع في الجانب الأخرمن الضيعة, يمرعبرالغابة, يمتد عبرالمروج, يتخلل المكان بضعة شجرات معمرات كبيرات الحجم. تقريباً لا تلتقي إيلين بأي إنسان. تبقى طوال الوقت لوحدها, صامتة ويلف مكانها الهدوء والسكينة. تجلس بين جنائن الحرية والفرح والعزلة في هذه اللحظات. تقريباً, كل يوم تأخذ قيلولة تمتد إلى ساعة كاملة.
لم تتكلم أوتقل لبيرتا أولكايسا أي شيئ عن حياتها, حبها للعزلة, أحلامها وأملاها أوتصرفاتها. لم تقل لهم إلى أين تذهب, وأين تقضي الوقت الممتد إلى أكثرمن ساعة. قالت لهم مرات كثيرة, سأجلب الحليب وحدي, واعتاد الجميع على هذا الكلام.
لكن إيلين لم تكن بتلك القوة والمناعة لتجلس لوحدها طوال الساعة لتبدد الفارغ فقط, أنما لتأخذ قسطاً من الوقت كي تفكر على ما عليه حياتها. فكرت في وضع أبيها, الطعام, كل الأشياء اللازم للقيام به. فكرت بقرب مجيئ الخريف, وبعده الشتاء, ثم الربيع, في العمرالذي يدورويجري إلى الأمام دون توقف.
إحدى ليالي آب راحت تفكربالفطر, عليها أن تصنع عجة الفطرعندما تعود إلى البيت.
كايسا وبيرتا وبعض الأحفاد كانوا خارج الغابة. تذكرت أن الفطر ينموويكبربشكل تلقائي, عليها أن تقطف بعضاً منه, تجهزوجبة غذاء طيبة, مادمت لا تستطيع اللحاق بالأطفال.
بينما كانت واقفة بجانب الطاولة تنظف الفطر, تذكرت الجبل, بيوت النحل والطيورالصادحة فوق الأشجار. الفطر, نموه أيام زمان. راحت تتذكرعندما ذهبت إحدى المرات مع هوكو إلى الغابة, عندما كانت شابة, كيف كانا يقطفان الفطرمع بعضهم. أما هذا الصيف فلديها الكثير من الأعمال الخدمية لأخوتها وأولادهم وأحفادهم. لكن لم يسبق لها أن التقت بهوكوهذا الفصل.
في هذا الصيف تغير كل شيئ. تعرف أن هوكوموجود على بعد خطوة منها, إنه في الضيعة, لم يعد المحيط الأطلسي حاجزاً بينهم. لكنها مشغولة جداً, تحتاج إلى المزيد من الوقت, لتعتاد على وجوده. لأن المسافة الزمنية بينهم لم تكن قليلة. ثلاثون عاماً من الغربة الروحية والنفسية والجسدية, بالإضافة إلى الحسرة والحزن.
الأن حبيبها موجوداً, بعد غياب طويل. راحت الذكريات تستحوذ على ذاكرتها, تغزمضجعها. هنا قطفنا الفطر, في ذلك المكان شربنا الحليب الطازج, هناك وقفنا عند حضيرة الأبقار, في تلك الجهة انتظرنا مجيئهم من المرعى.
عندما خرجت إيلين, تساقط المطرمرة أخرى. الساعة تشير إلى الخامسة والنصف, لكن ضوء النهارمازال صادحاً, يضفي على الدنيا الجمال والبهجة. من خلف اللون الرمادي للسماء, كان يزخ المطرحبات, حبات, ببطئ. هبت عليها روائح الأزهاروأريج الورد المختلطة برائحة المطروالغابة والحشائش والأشجار. هناك بقايا صيف ينسل من الطبيعة ليعود إلى بيته. هناك بقايا روائح صيفٍ يمضي إلى الراحيل, بقايا أشياء, بقايا باقات ورد أهداها هوكولها قبل ثلاثون سنة. كلمات العشق التي دارت بينهم, اللحظات الجميلة التي قضوها مع بعضهم. كل شيئ يعود إلى ذاكرتها, تعن على بالها بقوة, تعود إلى عقلها وقلبها بقوة. تذكرت كل ما قاله لها من كلمات عشق وفرح في يوم من الأيام. تذكرت كيف كانا يقطفان الورد من على حافة الطريق, من أطراف الغابة, عبر الغابة. مكان لقاءهم الحميم, عند ذاك العطر, عند ذاك النداء, قبل ثلاثون عاماً.
بدلاً من أن تذهب إلى الضيعة مباشرة, انعطفت بأتجاه الغابة عبرطريق الغابة. لم تفكرإلى أين تذهب, ولم تسأل نفسها, أقدامها خطت مسارطريقها إلى ذلك المكان. سارت إلى الجدول, المكان الذي نسيته تقريباً, لم تأتِ إليه قبل اليوم, إلى المرج المنبسط على ضفاف الجدول. راح المطريهطل طوال الوقت, بهدوء, ناثراً حباته الناعمة على مياه الجدول والأعشاب والمروج. وقفت إيلين لوحدها وسط الصمت والفراغ والمطر, تذكرت أن فالتيروكايسا, بيرتا وأبيها وعجة الفطرفي انتظارها. عليها واجبات كثيرة عليها أن تنجزها بأسرع ما يمكن. وقفت إيلين مع نفسها هادئة تتأمل الحياة والمكان. هنا, على هذا الطرف تفرش المروج جمالها وأخضرارها على الضيعة, وهناك شيئ آخر. الأن لديها هدف جديد. مدت بصرها إلى الأمام, رأت من خلال المطر, ما بين الظلمة والضياء, جدران حمراء ونوافذ بيضاء تناديها. هناك, حبيبها يقطن, يعيش ويتنفس.
وقفت إيلين صامتة, تتأمل الصمت والنوراليقظ القادم من خلف النوافذ. جاءها صوت ضربات فأس, صوت تقطيع حطب, حركة أنفاس رجل قوي. إنه حبيب الأمس واليوم والغد, إنه هوكو. إنه هوكو في غرفة الحطب, يقطع الخشب لموقد النارللشتاء السويدي البارد.
وقفت بين حدين, بين هوكووزمنها العجول, وقتها المضروب للضياع. هناك من ينتظرها, أخوتها, الوقت الداهم, روحها ونداء الحب في كيانها. هل تعود إلى البيت أم تبقى. أنهم في انتظارها, بينما قبلها يدق في صدرها لهفة للقاء الحبيب. سارت فوق المروج, تاركة العربة على جانب الطريق في الغابة. مضت تمشي على المرج الناعم المبلل بماء المطرعلى غيرهدى. عندما اقتربت, وقفت على بعد خطوة, رأت رجلاً وقفاً, رافعاً رأسه, معدل من قامته وينظرإليها. تابعت إيلين خطواتها باتجاه هوكو. تذكرت في هذه اللحظات جماله ورقته عندما كان شاباً في مقتبل العمر, بينما الأن يقترب من عامه الرابعة والخمسين.
ـ هل جئت لتسلمي علي, رافق هذه الكلمات بأبتسامة عذبة.
ـ لا, لا. رد إيلين على سؤاله.
لم تدرما تقول, لم يسعفها عقلها وقلبها بالرد عليه لأنها بالقرب من بيته في هذا الجوالماطر, استدركت:
ـ نعم, لقد رأيتك من خلال الأشجار والغابة أثناء مروري من هذا الطريق., قلت لنفسي علي أن القي التحية عليك.
ـ مثل ذلك الصيف قبل سفري إلى أمريكا. هزت إيلين رأسها مؤكدة كلامه, وقال, هل ستأتين معي؟ تعالي نذهب معاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لقد فكرت في هذا الأمرمنذ ذلك الوقت, قبل ثلاثين سنة خلت.
ـ لكني لم أستطع.
ـ كنت تستطيعين يا إيلين.
ـ كانت أمي مريضة, بينما فالتيروبيرتا يدرسان, وكايسا في استوكهولم, ووالدي يحتاج إلى الاهتمام به. لم أستطع أن أذهب معك في ذلك الوقت.
ـ لكنك لو إنك سافرت معي لكانوا رتبوا حياتهم بطريقة من الطرق.
ـ لكني لم أستطع, لم أستطع. لكنك لم تفهم وضعي, لم أستطع أن أشرح لك الأمر, وأنت لم تفهم, كما لم تتفهم المسألة.
جلس هوكو, مضى ينظر إلى إيلين.
إيلين.. إيلين, إنني أراك اليوم مثل أول يوم التقيت بك, إنك عنيدة.
ـ لكني لست كذلك.
توقف المطر عن الهطول, خرجت الشمس من مخبئها وراحت ترسل أشعتها الحنونة, وتضيئ الغابة وأشجارها.
ـ لقد انتظرتك طوال الصيف, فهمت إنه لديك الكثيرمن الأعمال. إنك تكدين وتتعبين طوال الوقت, وغيرك يسترخي ويستريح ويستمتع بوقته.
ـ إنهم جالسون طوال الوقت.
ـ إنهم يعرفون إنك إنسانة لطيفة يا إيلين. إنهم يفعلون ويتصرفون وفق مصالحهم, وفق ما يرونه مناسباً لهم. إنهم يستمتعون بوقتهم طوال الصيف, بينما أنت تقومي بخدمتهم.
ـ ليس لدي الكثيرأي شيئ لأعمله في الشتاء, بينما هم, أخوتي, لديهم القلق والتعب والعمل.
في الحقيقة لم يكن هناك مشكلة بين إيلين وهوكو. لقد تحدثوا في أشياء كثيرة كالحياة والسفروالزواج والطبيعة والأهل. كان لدى إيلين رغبة أن تكون بجانب حبيبها, تسمع صوته, دقات قلبه أن تقف أمامه, تحس بوجوده قربها على أرض الوطن. بعد ذلك لم يعنيها, شيئ أخر, ماذا قالوا, وماذا جرى لهم من أحداث, أين ستأخذ الحياة.
ـ يبدو أن الزمن فعل فعله بأخيك فالتير, يبدوعليه التعب والكبرفي العمر.
ـ إنه كبير في السن ومتعب. ردت إيلين. جاء فالتيروزوجته سيسيليا إلى هنا بشكل مفاجئ وعلى نحو سريع ودون سابق إنذار. لديهم فيلا في نورشوبينك, لكنهم يأتون إلى هنا عندما تتيح لهم الفرصة من أجل الخلود للراحة والإستجمام. يجب أن يستجموا كثيراً, هكذا يقولون, لديهم الكثي الكثير من التعب والكد والقلق والمشاكل الحياتية الضاغطة.
ـ وما هو وضع كايسا, ظروفها, حياتها, أحلامها؟
ـ أنها متزوجة من كنوت, لكنها مدمنة. أن ما يحزفي النفس أن كايسا وزوجها كنوت مدمنان على الخمر.
ـ يجب على كايسا أن تأتي إلى بيتك من أجل أن تسترخي وترتاح من متاعب العمل ومشاغل الحياة.
ـ ليس بيتي, إنه بيتهم, بيت الجميع, بيت والدينا, بيت أبي وأمي, أنا مقيمة فيه فقط.
ـ لهذا تشتغلين طوال الوقت في البيت والمزرعة دون مقابل أوسؤال أو استفسار
ـ دائماً هناك شيئ ما يجب أن أقوم فيه, أن أعمل.
ـ تعملين؟
ـ نعم, أنا أعمل في البيت!
نظرإليها مبتسماً, وقال:
ـ أحكي لي عن بيرتا, كيف هي أحوالها, أين أخذتها الحياة في دروبها؟
ـ على الأرجح وضعها جيد, ردت إيلين عليه. لم أسمع شيئاً عنها. إيريك رجل لطيف جداً وأولادهم أيضاً. بالرغم من أنها تنسجم في الضيعة والمزرعة أكثر من بيتها في لينشوبينك. إلا أنها قليلاً ما تأتي إلى هنا مع إيريك والأولاد, وذلك حسب ما تتوفرلها ولأسرتها الوقت والظروف.
ـ البعض منهم يكونون معكم أغلب أيام الآحاد وفي عطلة عيد الميلاد المجيد. وقتها, هل يأتون جميعهم إلى هنا.
ـ كل عام يجتمعون في هذا البيت, في مثل هذه المناسبات. هل يصح, أن لا يكونوا هنا في عيد الميلاد.
ـ وعيد الفصح, هل يأتون إلى هنا؟ هل تجتمع العائلة في مثل هذه المناسبة؟
هزت إيلين رأسها علامة على الموافقة.
ـ وهل يبقون هنا طوال عطلة الصيف؟
أرادت إيلين أن تضحك عليه, وعلى أسئلته الملحة.
ـ نعم, نعم. كالعادة, يأتون بشكل عادي, يبقون في المزرعة طوال عطلة الصيف وفي عيد الميلاد ورأس السنة وعندما يكونون متعبون ويريدون الراحة والاستجمام.
ـ وأنت تكدي وتكدحي, تكدي وتكدحي, أليس كذلك, تقدمين على خدمتهم وتلبية طلباتهم؟
ـ لكنه عملي, قالتها إيلين ومضت تتابع حديثها, فالتيريبقى الليل كله سهراً يقرأ كتاباً ما بين يديه بصوت عالي, وكايسا تقرض الشعرهي الأخرى بصوت عالي, أما بيرتا فأنها تغني. ما أن تبدأ وصلتها الغنائية حتى تمتلئ أرجاء البيت بصوتها العذب, يتلقى صداه الجدران, السقف, الغرف والنوافذ. صدى صوتها يسبح في الفضاء, يرفرف, يطير, يسمع على المدى البعيد على المحيط الواسع للضيعة كلها. بهذه الطريقة يقضون أوقتهم. طوال هذه فترة أسهرعلى راحتهم, أساعدهم على تأمين مستلزمات الراحة والاسترخاء.
هز هوكو رأسه, لكنه لم يعلق على كلامها ولم يقل أي شيئ.
نهض من مكانه, رافقها في طريق عودتها إلى البيت. يسرعون الخطا فوق المروج الخضراء الطرية.
ـ وماذا عن حياتك الخاصة, سألها هوكو. عندما يأتون إلى الغابة.
ـ ماذا تعني بذلك؟
ـ كيف توفقين ما بين حياتك الخاصة والعمل. أين تتواجدين من كل هذه الأماكن, تحضير الطعام, الجلي والتنظيف وغسل الثياب, تحضيرالفطور. أين أنت من كل ذلك, أين هي حياتك الخاصة.
لم تجب إيلين.
ـ الحياة تجري بسرعة, يوم وراء يوم, وسنة وراء سنة, بينما أنت تعملين مثل الخادمة, متى ستلتفتين إلى حياتك, كإنسان وامرأة.
لم تجب إيلين, لم تعرف ماذا تقول, بقيت صامتة مثل الخرساء.
في طريق عودتها إلى البيت حاملة الحليب, فكرت في هوكو, في كلامه, ماذا يبغي, إلى ماذا يشير. لكنها إلى تلك اللحظة لم تعرف ما يريد منها, ما هي مراميه من وراء هذا الكلام. لم تعرف بماذا تجيبه.
ثلاثون عاماً تلاشت, غابت في سرائر الزمن. تعرف أن هذا العمرضاع في خدمة الآخرين, تعرف ذلك. تعرف أنها قدمت مساعدات جلى على حساب حياتها وسعادتها وأحلامها, ليس والدها فحسب, بل الجميع.
أثناء ذهابها إلى عند هوكو, وسيرها على الأعشاب الندية, تداخل في ذهنها حاجات كثيرة, ورغبات مكبوتة, وصمت مغروزفي ثنايا روحها. كانت ذاهبة إليه لتتكلم, لتحكي. لم يكن في حسبانها, أن تروي شكل, وطرق مساعدتها للآخرين. أن يذكرها هذا الآخر, هوكو, أنها تعطي وتعطي, تمنح دون مقابل.
عندما كان هوكوموجوداً في حياتها, منحها كل شيئ, الحب والحنان. جعل منها إنسانة, امرأة لها كيانها ووجودها وحريتها.
لكن بعد مجيئ هوكومن الولايات المتحدة الأمريكية وفهم ماذا حدث, علم مقدار اشتياق إيلين له خلال هذه الثلاثين سنة. مثل الموجة الدافقة, الممتلئة بالشوق له, اندفعت نحوه.
الأن هو بالقرب منها مرة ثانية.
لهذا تركت الحليب جانباً, على الطريق, مشت فوق المروج المبللة لتصل إليه. أتجهت نحوه, لتقف بجانبه, لتسمع صوته, صوت الحب الجميل, الحنون والدافئ.
عندما تكلم فالتيرأو كايسا أوبيرتا, كانت إيلين ترد وتجيب على الاسئلة دون أن تفكر. كان ذهنها يسمع صوت هوكو فقط.
أحست كم هي مشتاق إليه خلال هذه المدة الطويلة التي تمتد إلى ثلاثين سنة.
أضحى الوضع الصحي لوالدها صعباً للغاية.
إيلين امرأة جلودة, قوية, معتادة على خدمة أهلها. إلا أنها تتعب مرات كثيرة.
عليها أن تعتني بأبيها مثلما يعتني المرء مع طفل صغير. يبول على نفسه, في بنطاله. غالباً ما يبلل الفراش, يبوله عليه دون إرادة منه. كما لا يستطيع أن يذهب إلى المرحاض ويقضي حاجته لوحده. عندما جاء الشتاء ساءت صحته أكثر ولم يعد يستطيع أن يمشي ليصل إلى المرحاض بالرغم من مساعدة إيلين له.
لقد اشترى له أبنه فالتير, سطل من نورشوبينك, من أجل قضاء حاجته. تعمل إيلين على تفريغ برازه في المرحاض, وتنظيف كل المخلفات التي يتركها وراءه, ثم تلبسه ثيابه. عند وجبات الطعام, عليها أن تطعمه, تبقى معه طوال الوقت, من أجل رعايته والاهتمام به. كما كان يريدها إلى جانبه طوال الوقت, لتسليه في وحدته, وعندما تغيب يصرخ:
ـ إيلين.. إيلين أين أنت, أين أنت, ماذا تفعلين, لماذا تغيبين عني كل هذه المدة. يصرخ ويصيح طوال الساعات والدقائق التي يكون مستيقظاً فيها.
عليها ان تقرأ له, أن ترتب فراشه ووسادته, أن تساعده لينزل من السرير, ثم إعادته إليه, أن تضعه على كرسيه. كما عليها أن تكون إلى جواره وبالقرب منه طوال الوقت, علاوة على أعمالها الأخرى, غير الاهتمام به. عليها الجلي, تحضير الطعام, خدمة كل القادمين إلى البيت الكبير, كايسا وبيرتا, طلبات الرجال, مثل جلب العطور, تسخين الماء, مسايرة فالتير وزوجته سيسيليا وأولادهم وأشياء أخرى.
علاوة على كل ذلك عليها أن ترد على صياح والدها الذي لا ينتهي.
ـ إيلين.. إيلين أين أنت.
في السماء يجلسون مع بعضهم ويسمعون للراديو.
في هذه الفترة راح هوكويزورإيلين بشكل اعتيادي. جاء إليها مرات كثيرة في فصل الخريف والشتاء, يسلم عليها ويطمئن. أما في الليل فإنه لا يستطيع أن يأتي خوفاً من وحشة الليل ومخاطره.
ـ من هو ذلك الرجل الذي يأتي ويذهب كل الوقت إلى هنا, سأل الأب. هو, الذي هناك, هل هوهوكو, ماذا يريد, إنه هنا دائماً.
ـ جاء بزيارة سريعة, قالت إيلين.
ـ هل لديه بيت يسكن فيه.
ـ إنه يسكن عند أخيه.
صار وضع إيلين مملاً ومقرفاً في هذه الأجواء المشحونة بالتعب. مجيئ هوكو يشحن روحها, بالفرح والأمل, يطرأ عليها الكثير من التغير والتبديل.
ـ لكن, هل لديك شيئاً آخرتقومين به؟ هل لديك شيئاً ما تعمليه في الليل؟ سأل الأب العجوز.
ـ نعم, أرقع الجوارب, أحضر طعامك, قالت إيلين. لكن, أبقى وحيدة بعد ذلك, وجود هوكو هنا, يبعد عني الملل وأشياء كثيرة. نتكلم, نسهر. أنا بحاجة إلى إنسان أتكلم معه.
ـ إنه ذاهب, قادم, إنه بجوارنا كل ليلة, قال والده. أنت بحاجة إلى إنسان لتتحدث إليه في الليل, بحاجة إلى ذلك؟
ـ هوكو يقوم بزيارة خاطفة إلينا, نتحدث للحظات لا أكثر. يأتي أثناء مروره من جوار بيتنا. قالت إيلين.
ـ حسناً. وأين يكون هوكوعندما يمر بجوار بيتنا, قال الأب. في أي طريق يمشي عندما يمرعلينا؟
لم تجب إيلين. شمت رائحة كريهة. كان والدها قد بال في ثيابه, راحت قطرات البول تنزل من أسفل البنطال.
ـ هل يعر ف طريق الرب, ذلك الهوكو, قال الأب.
ـ لا. طول بالك علي قليلاً, قالت إيلين.
ـ كيف عرفت ذلك؟ كيف عرفت حياته الشخصية؟ من أين لك معرفة الرجال؟.
لم تجب إيلين.
تكلم والدها مع كايسا وبيرتا وفالتير, لكنهم لم يبالوا بكلامه.
إيلين امرأة كبيرة وراشدة وتعرف ماذا تعمل, وهوكوكبير أيضاً.
لكن كنوت زوج كايسا مسك ذقها بين يديه وراح يحدق في عينيها بقسوة:
ـ هل لديك عشيق؟ قال كنوت. كالعادة, كانت تفوح من أنفاسه رائحة الكحول.
ـ دعها, لا أريد للأولاد أن يسمعوا هذا.
ـ هل صارلديك عشيق في الأيام الأخيرة الماضية. قال كنوت.
أخذت كايسا زوجها وراحوا إلى الغرفة الأخرى, قبل أن ترد إيلين عليه.
عيد الميلاد على الأبواب. إيلين متعبة هذا العام لأسباب كثيرة. الكثيرمن أفراد العائلة جاؤوا مع أولادهم وأحفادهم. الحرب العالمية الثانية مشتعلة في كل أوربا ولا يستطيع أي إنسان أن يسافرإلى خارج السويد, لهذا جاء الجميع إلى الضيعة والمزرعة بدلاً من السفر.
أحياناً كثيرة لا تعرف إيلين إن كانت نائمة أو مستيقظة, كما لم تعد تميز الليل من النهار. المطبخ مشغول دائماً, فيه أحد أفراد الأسرة, لديه طلبات متعددة وكثيرة, كعكة, ماء, سندويشة, بيرة, حليب, عود للأسنان أو يدخل أحدهم من الجهة الأخرى كي يسأل عن الطعام, ما هو, متى ينضج, متى غادرالباص, أويسألون عن الجريدة, أو أين هو الطريق إلى مدينة ميولبي أوإلى البحرة أوالغابة. الجميع يدخلون عن طريق بابي المطبخ ثم يختفون فيه. أحياناً تختلط عليها الأمور, لا تعرف الأولاد من الأحفاد وأين يكونون. طوال الوقت تفكرإيلين بهوكوبالرغم من أنه لم يكن بينهم, كما لم يأت ويسلم عليهم خلال أيام عيد الميلاد المجيد.
غير أنها تفكر به كثيراً, أحياناً كثيرة تحس كأنه بجانبها, جالس على طرف سريرها عندما يسرقها النوم من نفسها, من يقظتها
لقد لاحظ الجميع, فالتيروكايسا وبيرتا التغييرالكبير الذي طرأ على هوكو بعد مجيئه من الولايات المتحدة الأمريكية. لقد سمعت إيلين كلام من قبيل هذا الحديث, همساتهم في المطبخ:
ـ أتمنى أن لا تجعل إيلين من نفسها سخرية للآخرين. قالتها بيرتا بجدية.
ـ تعنين إنك تخافين أن تفضحنا, سألت كايسا.
ـ تقصدين من أجل والدنا. سأل فالتير.
ـ من أجلنا جميعاً, قالت بيرتا. ستلحق إيلين العاربنا كلنا.
ـ سينتهي هذا الشيئ, قال فالتير.
ـ قريباً ستدخل إيلين عامها الخمسين, ردت بيرتا.
نعم أنها في مرحلة تحول في العمر, قال فالتير. في هذه الفترة من العمر, تمرالمرأة في صعوبات بالغة, لكن مع الأيام ستعود وتستقروينتهي الأمر.
ـ نعم. لكن هوكو لن يسافرمرة ثانية, ويبتعد عن الديار ويتركنا وشأننا من أجل الحصول على المال. ردت كايسا.
ـ لا. وإيلين ليس لديها نقوداً, قال فالتير. وأنهم كبار في السن لأشياء أخرى.
ـ نعم. بالتأكيد لا يستطيعون أن يجلسوا الليالي الطويلة يداعبوا بعضهم فقط. قالت كايسا.
وراحت كايسا وبيرتا يضحكن, بينما إيلين تسمع كل ما يدور بينهم من حديث.
ـ لا أستطيع أن أتصور أن بأمكان إيلين ممارسة الجنس مع هوكو. قالت بيرتا.
ـ بالطبع, لا , قال فالتير. سينتهي هذا كله, لا يوجد شيئ يمكن أن نتحدث عنه.
ـ لا يمكن أن نسمح لهذا أن يحدث, أونتركه للظروف أو لتقلبات الزمن, قالت بيرتا. فكروا في مصيرأولادكم الشباب وأحفادكم, سمعة العائلة والآثار التي ستتركها علينا. لا يمكن أن اتخيل أن هذا حدث منذ زمن بعيد, قبل أن يسافرهوكو إلى الولايات المتحدة الأمريكية. هل يعقل أن إيلين وهوكوكانا يلتقيان في السرويمارسان الجنس بعيداً عن أعيننا, قبل ثلاثين سنة.
ـ لم أكن في البيت حينها, قال فالتير. كما تعلمون, كنت أدرس وقتها في نورشوبينك؟
ـ وأنا كنت في استوكهولم في ذلك الصيف, قبل ثلاثين سنة خلت, قالت كايسا. اعتقد أن إيلين وهوكوكانا يلتقيان بعض الأحيان.
ـ ربما كانا يعشقا بعضهما, حينها, قبل ثلاثين عاماً, ردت بيرتا.
ـ هراء, تكلم فالتير. كانت إيلين تبدو كالضفدعة في ذلك الوقت, في مرحلة شبابها. كانت كالضفدعة السمينة. الأن تبدو أفضل بما لا يقاس عما كانت عليه في الماضي. بعد أن كبرت في السن أصبحت أقل بشاعة.
ـ ربما كانا صديقين, تدخلت بيرتا. كلاهما وحيد, وفي عزلة, جمعتهما ظروف الوحدة والفراغ العاطفي, والبحث عن رفيق وشريك, لهذا تقاربا. ربما هذا التقارب أعطاهم الاحساس بالامتلاء, بملء الفراغ, بأنهم ليسا وحيدين. كانوا بحاجة أن يتحدثوا مع بعضهم.
ـ أنت ذكية وفطنة يا بيرتا, قالتها كايسا. أنت ذكية جداً, هذه حقيقة يا عزيزتي, وليس مديحاً.
ـ بيرتا لديها اهتمامات واسعة في القضايا الاجتماعية والإنسانية, قال فالتير.
ـ يا لها من حياة محزنة, قالت بيرتا. أعني حياة إيلين, وحياةهوكو أيضاً. يا للمسكينة إيلين. أي حياة بائسة تنتظرهذين الفردين معاً, إيلين وهوكو.
سمعت إيلين الحديث كله في فترة بقاءها في المطبخ لكنها لم تتكلم أوتعلق على ما قاله أخوتها عنها. ظلت صامتة كالعادة. كما لم يدرفي خلدها أن تفاتح هوكو في الموضوع أو تنقل له انطباعات أسرتها عنهم. لم تملك الجرأة أوالقدرة على شرح الموضوع لأخوتها أو فكرت أن توضح لهم ما حدث بينها وبين هوكو. لم يكن في مقدورها أن تقول كلمة واحدة في حضرتهم تعبر من خلاله عما يتعمرفي قبلها من خلجات نابضة بالحب نحو حبيبها هوكو.
بعد عيد الميلاد المجيد عاد هوكوإلى بيتهم, وقتها هلّ على منزلهم الهدوء والسكينة.
بسرعة راحت الليالي تمضي, ليلة وراء ليلة. رحل كانون الثاني, وبعده شباط, وآذار.
بعد الليالي الشتائية الطويلة والعتمة الداكنة, جاء الربيع بنهاره الجميل والطويل والمضيء. بدأت إيلين تذهب إلى الغابة كعادتها القديمة بينما هوكو يبقى مدة طويلة في انتظارها, يسير معها إلى حدود الزريبة إلى أن تجلب الحليب ثم يمشيان معاً إلى أن يصلوا إلى البيت.
مثلما كانا يفعلان قبل ثلاثين سنة.
إحدى الليالي قبّلّ هوكو حبيبته إيلين عندما كانا واقفين في الغابة تحت ثقل الثلج وبياضه وبرده. هواء الربيع كان نقياً. ها هو يعود ثانية بعد طول غياب, بعد أن طوى تحت جناحيه رحيق عمرمضى إلى غير رجعة. تلك القبلة حركت في خاطرإيلين ذكريات طويلة مطوية في قلبها وصدرها لا تزحزحها عاتيات الزمن وتقلباته.
قبلها مرة ثانية ثم ضمها إلى صدره بقوة, لكنها أبعدته بعيداً. قالت له:
ـ تمهل, انتبه, لا تفعل شيئاً نندم عليه. ثم تذكرت إنها قريبة من عامها الخمسين, أصبحت كبيرة في السن, ثقيلة وسمينة. لكنه راح يقبلها مرة تلوالمرة, بينما هي تصده, إلى أن أحست أن ضغظ العمروثقله راح ينزاح عن ذاكرتها. في هذه اللحظات أحست نفسها مثل فراشة خفيفة طائرة في الهواء أوفتاة صغيرة, مراهقة في مقتبل العمر.
العمر ليس له اهمية يا إيلين. تعالي إلي, اقتربي أكثر, لا تخافي! ضمها إلى صدره مرة بعد أخرى وراح يقبلها بشوق, بحب. عاد ذلك الإحساس الجارف, ذلك الشيئ الجميل, المشوق يطرق باب قلبها مرة ثانية. إنه شيئ ممتع ورائع لم يسبق لها أن تذوقت مثله من قبل, منذ أن رحل هوكو قبل ثلاثن سنة.
شعرت إيلين أنها إنسانة مع هوكو, إنسانة لها كيانها ووجودها الجميل, ليست المرأة التي تطبخ وتكنس وترتب وتجلي.
هوكو أيضاً بحاجة إلى إنسانة تملأ حياته بالدفئ والحرارة. إنسانة حنونة وطيبة, حبيبة, تمسك يده تضمه إلى صدرها, تشمه وتمسح الوجع عن جبينه وروحه. ارتخت إيلين, تركته يبوسها ويقبلها, راح الجليد يذوب في داخلها. كتل من اللهب تأججت, النارالكامنة في داخلها بدأت تخرج, أحست بالحرارة والدفئ واللذة. راح هوكويسرح في مراعيها, يداعب كل مكان منها.
لأول مرة لم تبق إيلين لوحدها. عادت لياليها تمتلئ بالمتعة والفرح والسعادة. أشياء لذيذة غابت عنها مدة طويلة.
أمضى هوكووإيلين أيامهم ولياليهم في بعض طوال فصل الربيع. ودعوا الوحدة والفراغ والعزلة التي كتمت على أنفاسهم. عاش أحدهما قرب الأخر.
ما أن ينام والد إيلين في الساعة الثامنة مساءً حتى تتحررمن ثقل المسؤولية والواجبات الملقاة على عاتقها وتصبح سيدة نفسها, امرأة, أنثى طائرة في الفضاء الجميل. أربعة ساعات تقضيها إيلين مع حبيبها في أجواء الحب والعشق والفرح إلى حيت استيقاظ والدها في الساعة الثانية عشرة ليلاً.
جمع الحب شملهما, قرب قلبيهما. ما أن تقترب الساعة من الثامنة حتى يصعدا إلى غرفة إيلين. في غرفة نومها يبدأ هوكوفي تعريتها, ينزع عنها ثيابها بالكامل, ثم ينزع هو الأخرثيابه بالكامل ثم يندس في فراشها بالقرب منها, إلى جانبها. شيئ لذيذ وحلو, شيئ مثل الحلم غزا إيلين, اصابها بالدوار, حلم طائرلم تكن ترغب أن تصحو منه.
ما أن يعريها هوكو حتى يبدأ في تقبيل ومداعبة كل مكان من جسدها, البطن, السرة, الصدروالعنق, الفم والحلمة. كانا يمارسان الحب, الجنس بالكامل, ليلة بعد ليلة, ليلة بعد أختها. يمارسان العشق بمنتهى اللذة والرغبة والحب.
شهرنيسان, إبريل. النافذة مفتوحة للمدى, الغابة مملوءة بالثلج, السماء والليل مضيئان والهواء عليل.
أنواع كثيرة من الطيورتغرد بدون انقطاع بالقرب من النافذة.
إيلين عارية في الفراش مع حبيبها, تضمه وتحضنه وتقبله. لم تعد تعرف أوتحس أو تشعرإن كانت في التاسعة عشرة أو في الخامسة عشرة أوفي الخمسين من العمر. في مطلق الاحوال لم يكن هذا الأمرفي يعنيها أو في حسبانها أومهماً لها في هذه الفترة. هي سعيدة ومستمتعة وتعيش في عالم جميل.
ـ وجود إنسان بجانبك, بالقرب من أنفاسك يعطي للحياة معنى.
ـ تقصد المشاركة, عقبت إيلين متأملة. أن يكون لديك إنسان في حياتك, شريك خاص بك, هذا ما تعنيه؟
ـ نعم. الإحساس اتجاه أخوتك وأبوك مسؤولية. المسؤولية شيئ مختلف تماماً عن المشاركة. هل فهمت علي؟
ـ نعم.. نعم. لكن, الأن هو الأن, دعنا من الآخرين, نحن شركاء.
أبتسم هوكووراح يقبلها
ـ أفهم ذلك, أفهم ذلك, قال هوكو. في هذه المرة لن أتركك على الأطلاق, حتى لوجاء والدك حاملاً معه مئة كرونة, لن أسافرمن هنا مرة أخرى.
ابتسمت إيلين. بعدها لم تعلق, لأنها متعودة على الصمت.
في خريف العام /1940/ تزوج هوكو وإيلين.
في هذا العام حدثت أشياء كثيرة, الحرب العالمية الثانية طالت كل أوربا, القوات الألمانية غزت النرويج والدانمارك, مرت عبر الأراضي السويدية. حدث نقص هائل في الطعام, راح الناس يحصلون عليه من خلال القسائم الصغيرة. قسيمة للحليب وأخرى للسكر وغيرها للقهوة والثياب. تقريباً لم يعد بمقدورالمرء شراء أي شيئ دون قسيمة.
السويد لم تدخل الحرب.
لكن أغلب الرجال كانوا يسهرون على الحدود, يتابعون التطورات الجارية في جنوب البلاد, يراقبون وضع الدول الداخلة في الحرب والتي ستدخلها في الأيام القريبة القادمة.
جاء الأن دورإيريك زوج بيرتا للقيام بأعمال كثيرة, لأنه كان ضابطاً في الجيش السويدي. كما أن أبن فالتيرسافرإلى مقاطعة نورّلاند, الجزء الشمالي من السويد.
خلال بضعة شهورحدث تغيركبيرعلى الناس, كل يوم حدث جديد لدرجة لم يبق أي شيئ على حاله, لم يبق شيئاً على حاله مثلما كانت قبل الحرب. جميع الكبار في السن اختفوا.
على الأرجح, كان لدى هوكو وإيلين التحضيرات اللأزمة للزواج. لكن كايسا أو بيرتا وفالتير لم يكن لديهم الوقت والرغبة ليردوا على طلب هوكو من أجل الزواج من إيلين. كان لديهم أشياء كثيرة وأكثر اهمية من هذا الموضوع ليفكروا به. كما أن الجميع كان خائفاً من الحرب.
في هذه الظروف الصعبة التي تمربها البلاد لم يكن هناك مشكلة كبيرة بالنسبة لهوكوالذي تجاوزالرابعة والخمسين من العمروإيلين الخمسين. ليس مهماً إذا ثرثرالناس عليهم أوتردد القال والقيل من هذا الطرف او ذاك لأن الناس مشغولة جداً ولديها الكثيرمن الهموم والمشاكل التي يمكن أن يتحدثوا عنها.
لكن هوكووإيلين لم يتزوجا أو تمما عرسهما في الكنيسة. بدلاً عن ذلك جاء الكاهن أوالقسيس إلى بيت والدها, الأسرة بحضور هوكو.
فقدّ البنزين من السوق السويدية واستعاد بدلاً عنه من مخلفات المواد النباتية المتحللة, والحطب لقيادة السيارات. لهذا جاء القس متأخراً جداً, ولكن في النهاية جرت مراسم الزواج بالكامل. حفلة زواج بسيطة في الصالة.
حضرالحفلة فالتيروبيرتا وكايسا وأزواجهن وأولادهن. لبس هوكوبذلة رجالية سوداء, ولبست إيلين ثوباً يشبه المعطف. وقف هوكو بعيداً قليلاً عن الحضوروراح ينظرإلى الجميع. كلهم كانوا في الصالة التي تخص العائلة.
أثناء الحفلة راحت بيرتا تصدح بصوتها الجميل, تغني. غنت بصوت عذب أغنيتين جعلت دموع أختها كايسا تنساب على وجنتيها. بعد الغناء مدح كل من كان في الصالة صوتها المخملي الحلووغنائها الرائع.
لم تقترب الناس الموجودة في صالة الفرح من هوكوأوإيلين أو حاولوا أن يباركوا زواجهما أوأن يتحدثوا معهما. هذا العرس أو الحفل البسيط كان جزءاً صغيراً من الأحداث التي لفت العام 1940.
انتاب إيلين قبل العرس شيئ من الحزن والقلق على ما تؤول عليه الأمور. بكت بحرقة ومرارة على أثر ذلك. ساورها قلق من العرس, دعوة المعزيم, شكل الحفلة, الطعام الذي يقدم في مثل هكذا مناسبة كبيرة.
لم يكن سهلاً الحصول على الطعام في هذه الفترة العصيبة, فترة الحرب. راحت المشاعر المتناقضة تلعب في داخلها وتهزها. طرحت على نفسها سؤلاً:
لماذا هم غاضبون, فالتيروكايسا وبيرتا وغيرهم. ربما ظنوا أنها افتعلت الزعل من أجل أن لا تقدم لهم شيئاً عندما جاؤوا إلى العرس. سيختلقون الأعذارالمتعددة لتصرفاتها, فإذا كان الطعام قليلاً سيتذمرون من ذلك, أما إذا كانت كميته جيدةً سيقولون إنه غير طيب. وإذا قدم طعاماً طيباً لذيذاً, عنذئذ سيعتقدون أنها فعلت ذلك لتلفت الإنظار. فعلت ذلك لتجعل لنفسها ولعرسها طنة ورنة. إنه لشيئ محزن وقاسي وصعب.
بكت إيلين كثيراً لموقف أخوتها الصعب منها.
ـ أنهم يكرهوني, كل شيئ خطأ في نظرهم, أي تصرف أوموقف أو حركة, لا أعرف كيف أحصل على رضاهم.
ـ دعك منهم فأنهم لا يستحقون منا كل هذا الاهتمام يا إيلين. لقد جلبت قطعة لحم أيل. أنها قطعة كبيرة ولذيذة. صحيح أن هذا النوع والكمية ليس هو الغرض المطلوب لكنها أحسن من لا شيئ. كما تعرفين يصعب علينا الحصول على المواد الأولية في هذه الظروف التي تمر بها البلاد والعباد. كما أن الاختلاف بين هذا اللحم وغيره ليس كبيراً لمثل هذه المناسبة. يمكن للمرء أن يأكل لحم الأيل في فصل الخريف لأننا نستطيع الحصول عليه بسهولة ويسردون بطاقة تموين أو قسيمة موقعة. سأجلب لهنا كي نحضرها.
هذا هو هوكو, ببساطته وطبعه السهل الذي يستسهل الأمورويفرغها من معناها مما سبب لها مشكلة, لكن بطريقة أخرى حماها من الكثير من المشاكل والصعوبات, المرة بعد المرة. بالإضافة إلى ذلك, فإن لحم الأيل طيب ولذيذ, بالرغم من أن الكاهن جاء متأخراً.
أحست إيلين بعد العرس بالأحراج من هوكو لأنها لم تساعده. هوكوعلى حق, لأنهما تحولا إلى شريكين.
كان هوكوهو الوحيد الذي يعتني بها.
ـ صغيرتي الحلوة, حبيبة قلبي, إيلين. قبّلها من عينيها وأنفها, ثم ضمها إلى صدره إلى أن استرخت.
لقد غيرهوكوحياة إيلين راساً على عقب, بدد وحدتها وفراغها النفسي والروحي وملأها بالسعادة.
أصبح هوكو الشغل الشاغل لإيلين. لقد ملأ حياتها وجعلها تبدأ حياتها الحقيقية عندما تزوجته, عندما بدأت تتجاوزالخمسن من العمر. الأن هناك إنسانة لطيف ومحب تتحدث معه طوال الوقت وتتكلم معه دون أنت تتعب أو تمل.
عندما يحل الليل يتكلمان عن حديث الليلة السابقة, دائماً لديهم شيئ جديد يتكلمان عنه, يتكلمان طوال النهار, عندما يعملان معاً.
علم هوكو أن قلب إيلين مسكون عند والدها العجوز, وأنها لا تستطيع أن تترك البيت أوتغادرالمكان خوفاً وشفقة عليه. لم تستطع أن تهجرمنزل أسرتها وأخواتها وتنتقل إلى بيت هوكو.
تحس إيلين أنه لِزاماً عليها العناية بوالدها والاهتمام به وبحياتها الجديدة مع زوجها. بقاءها في البيت كانت رغبة مشتركة من الجميع, فالتيروكايسا وبيرتا, بالرغم من زواجها من هوكو.
في السابق كانت إيلين ووالدها يعيشان على تقاعد والدها, كما أن أخوتها كانوا يقدمون لهم بضعة كرونات بين الحين والأخر تتراوح ما بين العشرة والمئة لتساعدهم على تحضيرالطعام في مناسبات كثيرة, كعيد الميلاد وعيد الفصح وعطلة الصيف الطويلةً وأثناء امتلاء البيت بالكثيرمن الناس. أما الأن, فإن هذه النقود لا تفي بالحاجة بوجود شخص ثالث.
لقد ناقشت العائلة بحضورهوكو بعد الزواج والعرس هذه المسألة. لكن بقي إحساس العائلة أن هوكو شخص خارج العائلة, لم يسبق لهم أن قالوا له أنت, كناية, بأنه من خارج وسطهم. كانوا ينادونه باسمه, هوكو حاف, دون زيادة أو نقصان, حتى بعد زواجه من إيلين.
ـ كم كانوا لطفاء. صرحت إيلين.
بعد الزواج وقف هوكووإيلين بجانب المجلى وراحوا يجلون الصحون, هو يغسل وهي تجفف.
ـ عن أي لطف تتلكمين يا إيلين, قالها هوكو مع أبتسامة عريضة على وجهه.
ـ أن أبقى في البيت. أنهم سمحوا لي ولكَ أن نسكن هنا.
ـ كيف كانوا سيرتبون الوضع, قال هوكو.
نظرت إيلين إليه وعلامات الاستفهام بادية على محياها.
ـ ماذا تعني بكلامك يا هوكو.
ـ إذا انتقلتِ من هنا, من سيسهرعلى صحة والدك ويهتم به؟ لا أحد منهم يستطيع أن يبقى بجانب والدك في الضيعة, ويهتم به. إن وضع والدك, صعب للغاية, لا يريدون تحمل مسؤوليته أبداً.
هزت إيلين رأسها علامة على الموافقة. هوكوعلى حق, وضع والدها في غاية الصعوبة, ويرثا له.
ـ إلى أين يمكنهم أن يسافروا, إذا لم تكون هنا؟ أي اتجاه سيختارون إذا حل عيد الميلاد المجيد, عيد الفصح. أين سيقضون عطلة الصيف؟ حتى لوبقوا في البيت, من سيخدمهم, يطبخ, يجلي, ينظف, ويكنس, ويهتم بشؤونهم, وشؤون أولادهم.
لا.. لا. لا يا إيلين, أنهم ليسوا لطفاء كما تظنين. أنهم أذكياء ويعرفون ماذا يفعلون, هل فهمت يا حبيبتي إيلين؟ أنهم أذكياء. يعرفون أنهم لا يستطيعون البقاء هنا من دونك, لهذا يرغبون أن نبقى هنا.
هوكو على حق, فهمت إيلين ذلك في وقت متأخر. تقريباً, هوكو ينظربشكل دائم إلى الأمور بطريقة صحيحة.
ـ هل تكره فالتيروكايسا وبيرتا؟ قالت إيلين
كان الانزعاج بادياً عليه, انحنى قليلاً إلى الأمام وراح يقبل خد إيلين.
ـ لا. لا أكرههم على الأطلاق. هم كما هم. لا نستطيع أن نفعل شيئا لهم. هم كما هم. لا نستطيع أن نغيرسلوكهم.
هزت إيلين رأسها
ـ هل سمعت ما قالته كايسا, سألت إيلين.
ـ تكلمت كثيراً, عن أي حديث تعنين؟
ـ قالت, المطريعني الدموع. في ذلك اليوم هطل المطرمدراراً طوال الوقت. كانت تعني إنه علي أن أبكي.
هزهوكورأسه.
ـ كايسا هكذا, أنها هكذا, أنها امرأة شريرة. لكن لا تبالي بها, وأنا لن أبال بها. هناك شيئ وحيد عليك أن تضعيه في حسبانك, أنا وأنت, أن نكون, أن نبقى مع بعض, هذا هو الشيئ الذي يجب أن تضعيه أمامك.
ابتسمت إيلين
ـ أنتَ إنسان رائع. قالت إيلين.
ـ لا, أنتِ الإنسانة الرائعة, قالها ضاحكاً. أنا أحبك, أحبك أنت فقط. الآخرين لا يعنوني بشيئ.
بعد أن غسلوا الأواني, حضروا القهوة ووضعوها على الطاولة لأنهم كانوا وحدهم, والدها نائم. أخذ هوكو زجاجة كونياك من على الرف وشرب منها قليلاً, ثم جلسا في المطبخ واحتفلا ببعضهما.
المطريهطل طوال الوقت.
إنه فصل الخريف.
بعدها, هلّ الشتاء ببرده القارس وثلجه الأبيض الكثيف وعواصفه الجليلة.
على الأرجح أن إيلين لا تعرف الكثير عن أباها, لا تعرف كيف يفكرأو يقيم الأشياء أو يعتقد.
الأب بالنسبة لها مجرد رجل يقطن في المسكن, رجل يقرر, قاس وصارم وجدي. شخص تخاف منه.
كان الأب يتحدث إلى جميع أولاده, فالتير, كايسا وبيرتا, لكنه لم يسبق له أن تحدث إلى إيلين في أي موضوع, ولم يقل لها ما ستفعله في حياتها ومستقبلها. دائماً يلقي عليها الأوامروالطلبات والحاجات.
كما لم يسبق لوالد إيلين أن حاول الإصغاء إليها, ما تعانيه, ما تحتاجه, ماذا لديها من مشاكل أوهموم أوأوجاع. الأن, أبوإيلين رجل طاعن في السن, مريض ومصاب بالإعياء. لقد عجّز قبل الأوان, في جسده وعقله. لم يعد جسده قادراً على حمله, لهذا حملت إيلين عبئه, تنظفه وتساعده في كل شيئ. كما أن عقله أصابه خرف مبكر, يتكلم ويتكلم ولكن بدون تسلسل منطقي. يخلط ما بين القضايا القديمة, التي فات أوانها, وبين الأحداث الجديدة, كالحرب ودفن والدتها. من الصعوبة أن يعرف المرء ماذا يريد أوماذا يرغب وما يمكن أن يقدم له من حاجات حتى يرتاح.
ـ نعم يا والدي, تقول إيلين. نعم.. نعم, كما تريد يا والدي. على الأرجح سيكون الذي تريده أفضل. بمعنى آخر, لم تستطع أن تتكلم. لم تفهم ما يعنيه, لأنه لم يكن في كامل قواه العقلية.
طوال الوقت يريد طعاماً, يجب أن يستحم, أن يسترخي, أن تواسيه مثل طفل صغير.
أنها إيلين, المرأة الطيبة التي تقوم بكل هذه الأشياء دون تذمرأو شكوى. لم يعد والدها يعرف هوكو, بالرغم من أن هذا الأخير مقيم في نفس المنزل الذي يقطن فيه.
الشرشف يحتاج إلى غسيل, غطاء الوسادة, غطاء اللحاف. أحياناً كثيرة يحتاجون إلى تبديل سريره مرتين في اليوم الواحد. يتراكم الغسيل كل يوم, يساعدها هوكوفي حمله إلى مكان الغسيل تحت قسوة البرد الشتائي القارس. يقف هناك في العراء, ويبدأ في غسل الشراشف والوسائد واللحف والحرامات تحت وقع البرد الشتائي الذي يجمد الطيور والأشجارإلى درجة الموت, تحت درجة حرارة منخفضة جداً. ثم ينشرالغسيل مع إيلين على حبل مربوط بين شجرتين.
هكذا مرت الأيام, سنة وراء سنة.
تجري سنوات الحرب مملوءة بالبؤس والمعاناة, القلق والخوف من المستقبل, كل شيئ محدود, الأكل والمواد الضرورية للحياة.
الحرب طالت أغلب دول العالم. لكن السويد لم تشارك.
وضع هوكو سريره في الصالة بالقرب من الباب الذي ينام فيه العجوزأبو إيلين, لكي يساعدوه ويبقوا بالقرب منه إذا احتاج إلى شيئ.
كانوا ينامون بالنيابة, ينام هوكو ليلتين, تنام إيلين ليلة واحدة. لكنهم لم يستطيعوا أن يناموا بشكل مريح, لكون العجوز مضطرب, وحركاته غير مستقرة. يستيقظ أكثر من مرة في الليلة الواحدة, ما أن يمشي حتى يقع على الأرض رأساً على عقب. يخافون عليه فيما إذا وقع أن تكسر يده, أورجله أو جزء من جسده الهرم والهزيل. لهذا صاروا يحرسونه, يبقون على بابه طوال الوقت في الصالة المجاورة لغرفته, ليكونوا مستعدين لتلبية المساعدة له.
تحدث هوكو مع دار العجزة. لكن وضعه الصحي السيئ لم يسمح لهم في أخذه إلى هناك. لأن دار العجزة يتعذرعليه استقبال أورعاية هذا النوع من المرضى, الجسدي والعقلي. كما أن المشفى العام لا يستطيع هو الىخر أن يعالج مثل هذه المشكلة الصعبة. أنهم يستقبلون حالات طارئة, مثل الكسور والجروح أو الحوادث القريبة من العلاج. أنهم لا يستطيعون استقبال حالة صعبة, مثل حالة والد إيلين. لهذا استمرهوكو وإيلين في رعاية والدها المريض والعاجز.
إحدى الليالي, أخذ العجوزيد هوكووراح يمشي متكئاً عليه, وجسده الهزيل يتهادى على الطرفين.
ـ لاينبغي أن تهتم بها أو تقلق بشأنها, قال العجوزموجهاً كلامه لهوكو. لا تقلق بشأن إيلين, هي لا شيئ, هي امرأة تافهة. عندما كانت صغيرة, كنت أضربها دائماً, أضربها ضرباً مبرحاً إلى أن تتخذر يدي من الضرب والوجع. كل ذلك لم ينفع لها. أنها لا شيئ, غبية, لا تفهم. بالرغم من إنه, لم يسبق لي أن ضربت إنساناً, كما ضربتها. لكن لم ينفع معها, إنها حمقاء, هبلة مثل أمها. لم يسبق لي أن قلت هذا الكلام لأولادي. كانت أمهم غبية, حمقاء, وأبنتها إيلين مثلها أيضاً. شيئ رائع, ومفضل لدي أنها ماتت. واتمنى أن تموت إيلين أيضاً. إحدى المرات عشقت صبياً, وهذا الصبي اسمه هوكو.
وضع هوكو العجوز في سريره, ومضى وحده.
لم ينم هوكو تلك الليلة, كان حزيناً وغاضباً, لم يسبق لإيلين أن رأته في مثل هكذا وضع.
ـ أتمنى أن يبقى دائماً موجوعاً, قال هوكوهذا الكلام عن العجوز العاجز. أتمنى أن يبقى متألماً, معذباً مدة طويلة من الزمن. إن هذا الإنسان الشرير, هذا العجوز الزنخ, الحقير, ينبغي أن يتعذب ويذهب إلى الجحيم.
بدأت إيلين تبكي.
ـ لم أقل هذا يا إيلين. الأن فهمت من أين لكايسا كل هذا الشر. لقد أخذته من والدها. من الأفضل أن يبقى مضجعاً في الداخل ويتحمل كل هذه الآلام.
ـ لكن يا هوكو, لا يجوز أن تتكلم عن والدي وأختي مثل هذا الكلام, ربما تصبح مثلهم, تتحول إلى شرير.
ـ أنا أكرهه, ليس لأنه أصبح وضيعاً وحقيراً في هذه الفترة. أكرهه لأنها كان كذلك من قبل, أكرهه لأنه رجل خبيث وخسيس منذ أن كان شاباً وفي كامل صحته ووعيه. كانت الخساسة والوضاعة والخبث والشرجزء من تكوينه النفسي والروحي, منذ بدأ تفتحه على الحياة.
ـ لا تشغل بالك بهذا الموضوع, لا تهتم به يا حبيبي.
كانت إيلين واقفة عند الطاولة تكوي القمصان. بين الحين والأخرتحمل المكواة الباردة, وتضعها على نار الحطب ثم تأخذ غيرها وتكوي, إلى أن تسخن الأخرى.
ـ لا تنسى إنك أخذت منه مئة كرونة.
حينها, ضحك هوكو من كل قلبه.
ـ لا أعرف لماذا أنت لطيفة إلى هذا الحد. في الحقيقة إنه رجل فظ وقاسي وشرير. على كل حال, إن ذهابي إلى أمريكا, ثم العودة إلى ديار الوطن هوالأهم.
ثم أطبق فمه, ولم يعد يأتي على سيرة والدها بكلمة واحدة, ولم يعد ينزعج منه ومن سيرته مرة ثانية.
لكن ليلة بعد أخرى يبقى العجوز العاجز في سريره متضجعاً, يصرخ.
ـ إيلين, أين أنتِ. ألا تسمعي صوتي؟
لكنه لم يلاحظ أو يميزمن القادم إليه, هوكوأم إيلين.
لليوم الثالث لم ينم هوكو, لم يذهب إلى البيت. كان هوكو يعمل أعمالاً صغيرة وبسيطة. لم يكن يحب العمل في معملٍ أو في ورشة نجارة. يعتقد أن عمره صاركبيراً ولم يعد يتحمل الأعمال الصعبة, تجاوز السابعة والخمسين من العمر.
لكنه شخص بارع في الأعمال اليدوية. يساعد الناس في الضيعة والقرى المجاورة. يدهن منزل هذا الرجل, وشرفة أوبلكون ذاك. يلصق أوراق الجدران لهذا المكان, ويجهزه للآخر. يتم إحضارورق الجدران من مدينة ميولبي. يساعد الناس في تجهيزأسطح البيوت بالقرميد الأحمر, العليات كي تحمى البيوت من الثلج في فترة الشتاء القاسي. كما يجهزالجدران والأرضيات, يضع عليهم طبقات عازلة من الخشب الرقيق, للحماية. يرمم الأشياء كالكراسي أوالطاولات ومغازل الخيطان. لقد افتتح ورشة بجانب البيت حتى يستقبل طلبات الزبائن, وفي أوقات الفراغ يقضيها مع إيلين في المطبخ.
لم يتوفرله العمل في الغابة كما يريد ويرغب بالرغم من إنه يتمتع ببنية قوية وضخمة. لم يكن هوكوقد بلغ الستين من العمر بعد, لكنه لم يكن يعمل بشكل ثابت في الغابة. يعمل بعض الأحيان لساعات معدودة في اليوم الواحد, يقطع الأغصان, ينشرويقلم الأخشاب وأحياناً تأخذ منه هذه الأعمال مدة أسبوع أوأكثر.
هذه الأعمال تدرعليه بعض النقود.
كان لدى إيلين محفضتان للنقود, محفظة تضع فيها راتب والدها التقاعدي, تشتري له الدواء, تدفع إجرة عيادات الأطباء, وحفاضات لوالدها حتى لا يتبول في ثيابه.
بعثورهوكو على فكرة الحفاضات, سهل عليهم الكثير من الجهد والوقت والتعب. عندما كانوا يحفضوا العجوزتتحسن أحوالهم النفسية, يتحسن كل شيئ لديهم ويبقى كل شيئ نظيفاً, السريروالحرامات والشراشف والمكان, وتبقى رائحة البيت مقبولة. في المحفظة الثانية تضع النقود التي يحصل عليها هوكو من عمله. تشتري الطعام والثياب والحاجات الاساسية للبيت أوتسافر إلى مدينة ميولبي لتأمين المستلزمات الأخرى الغيرمتوفرة في منطقتها.
كانت إيلين بخيلة إلى حد ما, تحسب لتقلبات الزمن والظروف, لهذا كانت توفربعض النقود, تحتفظ بهم, تضعهم جانباً سواء تلك العائدة لوالدها أوزوجها. تأخذ هذه النقود وتضعهم في المصرف. كما أن هوكو أعطاها حرية التصرف فيما تعمل, لسخائه وكرم أخلاقه وطيبة قلبه. قلق إيلين على المستقبل جعلها تقدم على هذا التصرف...
ـ لا نعرف ما يخبئه لنا القدريا حبيبي, علينا الاحتراس, قالت إيلين.
قبل عيد الميلاد المجيد لم يستطع هوكوالقيام بأي عمل. لقد لزم البيت إلى جانب إيلين. الكثير من الأعمال كانت تنتظرهم. لأن بيرتا وكايسا وفالتير وعائلاتهم وأولادهم وأحفادهم, سيأتون إلى القرية من أجل قضاء عطلة العيد ورأس السنة للعام /1942/.
خلال هذه الفترة, عيد الميلاد وراس السنة يمتلئ البيت بالناس لهذا يحتاج إلى التكنيس والتنظيف, قطع الحطب, تحضيره ثم جلبه إلى البيت من أجل التدفئة طوال شهركانون الثاني. يجب على هوكو أن يوقد النار في كل غرفة حتى يدفئه, كما عليه أن يدفئ الفراش.
هناك الكثير من الأشياء التي يجب عليهما القيام بها في هذا الشهرمثل تحضيرأطعمة العيد, فخذ الخزيرالمملح, السمك المقدد الذي يجب أن ينقع في الماء, عجن الطحين وخبزه.
في الحقيقة, هوكورجل دقيق جداً في عمله. مرات كثيرة يساعد إيلين على رتق السجق, يجهزمحلول الماء المملح, يسخنه من أجل السمك المقدد لينقع فيه. كما يحضرلحم العجل المقطع الموضوع بالمرق الجامد.
طوال النهار يعمل هوكوإلى جانب إيلين. عندما تخبزيعتني بالرجل العاجز, عندما تعجن يجلب الماء والملح.
كأن الرجل العجوز يحس أن أحدهم على وشك الأعتناء به, لهذا يبدأ بالصراخ كثيراً, عندما يكون لدى إيلين أوهوكو أعمال كثيرة. دائماً يريدهم أن يبقوا إلى جانبه, أن يهتموا به.
مع هذا فأن هوكو يعتني به, ويهتم بشؤونه بالرغم من الأعمال كثيرة الواقعة على عاقته. يقشط الثلج, يجرفه بعيداً عن ممرات ومداخل البيت. لقد ندف الثلج قبل العيد لمدة أسبوع كام, لدرجة أن تحول كل شيئ إلى لون أبيض, الأشجاروالبيوت, المساحات المفتوحة, وعلى مد البصرإلى أن سد كل المداخل والطرق والجادات.
يجرف هوكو الثلج المتراكم كل يوم, صباحاً ومساءً
إنه العيد ورأس السنة في النهاية, إنه الأحتفال الأجمل في السويد.
الخزانة مملوءة بكل أنواع الطعام.
ثلاثة أسابيع, وهوكو وإيلين يحضرون الطعام, من طهي وتجهيزوترتيب, والاستعداد لكل شيئ يتعلق بهذه المناسبة الكبيرة. ليس من السهل أن تقدم كل شيئ في زمن الحرب والتقنين, لكن إيلين وهوكو قدموا كل ما يمكن تقديمه.
في المرحلة التالية يعمل هوكو بعد جرف الثلج على كنس الممرالذي يودي من البيت إلى الطريق ومن درج المطبخ إلى خارج المبنى ليصل إلى الغرفة الصغيرة التي يجمع فيها الحطب ومنها إلى المرحاض.
بعد ذك جاؤوا, فالتيروعائلته, كايسا وعائلتها, بيرتا وعائلتها. خلال هذه المدة امتلأ البيت بالصياح والضحك والصراخ العالي والمزح.
كان هوكو وإيلين وحدهما معتادان في الرد على استغاثات الرجل العجوز وطلباته.
في الصالة وقفت كايسا وبيرتا جنب إلى جنب تتحدثان, بينما إيلين في المطبخ تعمل على طهي الطعام وتحضيره للضيوف.
ـ أنا قلقة جداً على وضع والدنا, قالت كايسا.
ـ نعم. إنه مريض, أجابت بيرتا.
ـ هل تعتقدين أنه يحصل على الرعاية الكافية من قبل هؤلاء, إيلين وهوك, سألت كايسا.
ـ لا أعرف. لا يمكن للمرء أن يعرف فيما إذا كان هوكو يهتم به أويهمله.
ـ لا اعتقد إنه يهتم به ويرعاه, يا مسكين يا أبي, قالت كايسا.
فجأة دخل أحدهم إلى المطبخ, لذا لم يتسنَ لإيلين متابعة بقية الحديث. لكنها لم تنقل الحوارالذي دار بين أختيها إلى هوكو.
على أي حال, كان هوكو مشغولاً.
ندف الثلج كثيراً, تساقط طوال الوقت, غمر الأرض وغطاها. خيم البرد القارس على أجواء المكان.
تبقى النارمشتعلة من الصباح إلى المساء. يجب أن يبقى اللهب متأججاً في الموقد. طوال الوقت يبقى هوكو حاملاً الحطب ويرميه في المرجل من الصباح إلى المساء. يجلب الماء النظيف من مكان بعيد, يملأه في الجرن, يأخذ الماء الوسخ ويرميه بعيداً ثم يعود ليقشط الثلج ويبعده عن المكان, يكنس كل الأوساخ العالقة في داخل البيت وجواره.
عشية عيد الميلاد جلس هوكووإيلين بجانب الطاولة, لأنه لم يبق أي مكان فارغ أو موطئ قدم لأي إنسان, امتلأت الصالة وغرفة الطعام بالجميع.
كانت الطاولة مملوءة بكل الاصناف, بجميع أنواع الأكل التي تقدم في مثل هذه المناسبة. لقد طهت إيلين الطعام, خبزت, سلقت اللحوم وقلته, جهزت كل شيئ منذ أسابيع طويلة مضت.
ـ هل تذكرون طعام العيد الذي كانت تطهوه الوالدة, قالت كايسا. أتمنى وأرغب ان أبكي على طعام أمي الرائع الذي كانت تقدمه في هذه المناسبة الكبيرة والعظيمة.
ـ وأذكرأن أمي هي أفضل من طبخ لحم الخنزير, لحم عيد الميلاد, رد فالتير. أنها سيدة مبدعة, أطيب من يطهي لحم فخذ الخنزيرالذي يقدم في عيد الميلاد المجيد.
ـ هل تذكرون الخبزالمنزلي الذي كانت تحضره الوالدة, قالت بيرتا. خبزها كان من أروع أنواع الخبزالذي يصنع في البيوت. كانت إنسانة رائعة بكل المقاييس, تقوم بإعداد كل أنواع الطعام. هزت كايسا وفالتيررؤوسهم علامة على ثناء كلامها.
لم تلفظ إيلين حرفاً واحداً, اكتفت بالصمت. بينما بقي هوكو مبتسماً ولم يلفظ هو الآخر كلمة واحدة.
طوال فترة عطلة الميلاد كان الثلج يتساقط.
طوال الوقت, لهب الناريتصاعد في الموقد.
في الصباح, بعد الظهر, في الليل يكون هوكوفي الخارج, يجرف الثلج من حول المداخل والممرات.
في الصالة التي يجلس فيها أهل زوجته, يلعبون ألعاب العيد أو يغنون أغاني العيد. بيرتا تعزف على البيانووتغني والباقي يرددون ورائها ويصدحون.
إلى وقت متأخر من المساء يبقى هوكويجلب الحطب, يشعل المصابيح. في النهاية يبدأ فالتير يقرأ في الكتاب المقدس بعضا من الآيات التي تتعلق بعيد الميلاد.. أثناء ذلك تبدأ إيلين بتحضيرالفرش والوسائد والبطانيات, العاصفة قوية في الخارج, البرد والزمهرير قوياً وقارساً, والليل في الشتاء السويدي لا يرحم.
هوكو في هذه الأجواء العاصفة يجرف الثلج, يجهز كل ما يمكن تجهيزه, وفي النهاية يدخل وينفض عن نفسه الثلج العالق على ثيابه ووجهه وشعره ويديه.
بعدها يأخذ بعضه ويسير, يحمل إيلين معه إلى غرفتهم الصغيرة في العلية. أنها متعبة جداً, تكاد تموت من التعب.
ما أن نزع هوكو ثيابها من على جسدها حتى التفت إليها كي يتكلم معها قليلاً. ما هي إلا بضعة لحظات حتى رأها غارقة في النوم العميق مباشرة.
منذ الصباح الباكر, منذ أن أستيقظت وهي تعمل إلى اللحظة التي وصلت إلى الفراش. نامت مباشرة قبل أن يضع هوكو اللحاف عليها. لكن بعد قليل أستيقظت وقالت:
ـ هوكو.
نامي الأن يا حبيبتي, أنا هنا, إلى جانبك.
ـ لكن لحم الخنزيركان مالحاً, قالت إيلين. علي أن أنقع السجق في الماء.
ـ أنا سأفعل ذلك. لا تأكلِ هم, نامي يا حبيبتي, نامي يا رفيقة عمري, يا أجمل مخلوقة في الدنيا.
ما أن نامت إيلين حتى قرع الباب. فتح هوكو فرأى بيرتا أمامه.
ـ لقد نسيت إيلين أن ترتب فراش الوالد وتجهزه للنوم.
ـ ترتب فراش الوالد, سأل هوكو.
ـ أين إيلين, لماذا أصبحت كسولة.
ـ إيلين نائمة.
ـ من الواضح أن إيلين بدأت تشيخ بشكل مبكرمثل الوالد, قالت بيرتا.
ـ ليست بالشكل الذي توصفيها, ليست كبيرة. ثم نزل هوكوالدرج مع بيرتا.
ـ يجب أن يتم ترتيب سريرالوالد قبل أن يوضع فيه.
ـ لكن مرتب يا بيرتا.
ـ لكن الوالد ليس في الفراش, شيئ يدعو للغثيان, قالت بيرتا.
ـ ساهتم به, قالها هوكو بهدوء وأدب جم. كان يوماً متعباً لهذا الرجل المسن, لم يسترخ في مكانه.
ـ لكن إيلين لم تهتم به بشكل جيد, قالت بيرتا.
ـ أنها لا تستطيع أن تعمل أكثرمن ذلك, رد عليها هوكو.
ـ شيئ يدعو للغرابة , قالت بيرتا ذلك وعلامات التعجب بادية عليها. في الحقيقة, إيلين بكامل صحتها, ليست مريضة, لماذا تقصر بواجبها اتجاه الوالد.
لم يجب هوكو. بعد ذلك بقليل خرج من المطبخ.
ـ الأن جميعنا في الصالة, قالت بيرتا. سيقرأ لنا فالتير بعض القصائد الشعرية بصوت عالي. الوالد يصرخ ويصيح بشكل دائم, إنه يعكرعلينا هذه الناسبة, لا يتركنا نسمع ونستمتع بهذه المقاطع الشعرية الجميلة التي في يد فالتير. إنه يصيح ويصيح. لقد شرحنا لإيلين وفهمناها لكنها لا تبالي به وبوضعه كما لا ترد عليه أو تسمع ما يقوله لها, لهذا جئت إليكم كي أخبركم.
لم يرد هوكوعليها بكلمة واحدة.
جهزهوكوسطل من الماء الساخن مع منشفة ولوح صابون وشرشف نظيف وذهب إلى غرفة الرجل المسن, إلى الأب.
ندفت السماء قطع كبيرة من الثلج, تساقط طوال الوقت. العاصفة تصرخ وتولول حول البيت وفي المحيط الدائرمنهم. صوتها يدوي عندما تصطدم بالغابات والأشجار العارية, تتمايل يميناً وشمالاً, لا تدري أين تضع نفسها, وأين تقف.
بعد أن أنتهى من تنظيف العجوز, ارتدى هوكو ثيابه وراح يجرف الثلج قبل أن يسد الممرات والمداخل, يفتح الطريق المودي إلى الطريق العام أو الكوخ الذي يوضع فيه الحطب أو المبنى الخارجي والمرحاض.
صراخ الرجل المسن كان عالياً عندما عاد هوكو من جرف الثلج. مسح الثلج العالق به, ومضى باتجاه العجوز. سقاه الماء, مسح عرقه وعدل من وسادته.
بعد بضعة ساعات أستيقظ هوكو مرة ثانية, راح يجرف الثلج المتراكم. ثم عاد إلى الرجل المسن ليلبي طلباته. كان الصمت مطبقاً في هذه اللحظات. الجميع نياماً باستثناء العجوزالذي يئن في وحدته. جلس هوكو إلى جانب سريره إلى اليوم التالي. بعد ذلك ذهب إلى المطبخ ليجهزالطعام ويضعه على الطاولات في صالة السفرة. الكثير منهم عليه تناول إفطاره قبل الذهاب إلى الكنيسة, إلى قداس يوم الأحد, يوم عيد الميلاد المجيد.
عاد ثانية إلى الرجل العجوز ووضب وضعه. قفل راجعاً يكمل تجهيزالإفطار. وضع الزبدة والخبزوكل مستلزمات الفطور على الطاولة
الصباح الشتوي البارد استيقظ من غفوته.
في خارج المنزل, الثلج يتساقط بكثرة.
دخل هوكو مرة أخرى إلى غرفة الأب العجوز. كان نهارآخر يبزغ على الدنيا. سارإلى غرفة إيلين وأيقظها من النوم. عاد إلى غرفة الرجل المسن ومعه الماء الدافئ الذي جلبه من المطبخ ثم عدل من وسادته.
مضى يمشي في الغرف ويشعل الشموع المنصوبة على الشمعدانات قرب النوافذ. قريباً سيستيقظ الجميع, سينزلون, ليتناولوا الفطور. يجب أن تشتعل الشموع ويرتفع لهبها عالياً, إنه عيد الميلاد.
هدأت العاصفة قليلاً, راحت تميل نحو الاسترخاء.
أخذ هوكو المجرفة ومضى يجرف الثلج المتراكم, بعدها مضى يكنس الصالة وغرفة الطعام, أزال الأوراق المتساقطة من حول شجرة الميلاد ثم سار إلى غرفة العجوز.
الأن بدأ البعض ينزل الدرج ليصل إلى الصالة.
في المطبخ جهزت إيلين القهوة وسخنت الأكل, ووضعت الطنجرة على الطاولة.
في هذا اليوم مات والدهم.
في صيف العام/ 1949/.
بقيت إيلين في البيت بعد وفاة والدها. بقي كل شيئ على حاله, الفرش والموبيليا وأدوات المنزل القديمة.
كايسا وبيرتا وفالتيرتحدثوا عن البيت ومستلزماته فيما بينهم. ذهبت كايسا وبيرتا إلى المطبخ وتحدثوا إلى إيلين.
ـ قررنا إنك ستبقين في هذا البيت, قالت كايسا. لأنك أصبحت كبيرة في السن.
ـ حسناً, ردت إيلين.
ـ أمل إنك فهمت ماذا يعني ذلك, قالت كايسا لإيلين. هذا يعني إننا, أنا وبيرتا وفالتيرلطفاء معك, كثير جداً.
هل فهمت؟
لم تعرف إيلين بماذا تجيب, بقيت في مكانها مكتفية بالصمت, محنية رأسها إلى الأسفل. بعد قليل جاءت بيرتا من المطبخ, قالت:
ـ بهذه الطريقة يمكننا جميعاً أن نقيم في هذا البيت القديم. لهذا يمكننا أن نأتي وقت ما نريد, أنه شيئ رائع.
لم تجب إيلين.
ـ اعتقد أن رائحته منتشرة في كل مكان, رائحة والدنا, قالت بيرتا.
ـ الرائحة الكريهة, النتن, قابعة في الجدران, على الأرضيات الخشبية, في السرير والفرش. قالت كايسا.
ـ يستطيع زوجك هوكو أن ينزع ورق الجدران القديم ويضع بدلاً عنها أوراق جديدة, قالت بيرتا. إنه رجل ذكي جداً.
تكلمت بيرتا وكايسا مع هوكو في الأمر.
لقد فكروا في كل الاحتمالات الممكنة لتحسين وضع البيت القديم, لكنهم لم يشاركوه بما هم عازمون عليه, لم يسألوه, قالوا له ما هي الإمكانات التي يستطيع أن يقدمها.
غادرت إيلين المكان وذهبت إلى البنك وسحبت كل مدخراتها.
فالتير وكايسا وبيرتا تحدثوا مجدداً مع بعضهم, لكنهم لم يشاركوا إيلين في ما هم عازمون عليه. قرروا أنها ستبقى في البيت.
لم يجب هوكو, ظل مبتسماً طوال الوقت. كأن إيلين وهوكولديهم شيئ ثمين في البيت ويخافون عليه.
بدأ هوكوالاصلاحات في البيت, كما خططت له كايسا وبيرتا. لصق ورق الجدران الجديدة على الجدران, تقريباً في كل الغرف. أكثر الغرف كانت بحاجة إلى اصلاح وتنظيف ولصق ورق الجدران عليها. تم تنظيف وإعادة ترتيب غرفة الرجل العجوز المسن الذي وافته المنية قبل فترة, وعاش فيها سنوات طويلة.
أجرى إصلاحات على الأدراج المطلة على باب المطبخ, الدرج المودي إلى الطابق الثاني. في الأعلى صنع هوكو خزانة ملابس كبيرة, وصار المطبخ جاهزاً بعد أن أدخل عيه الكثير من التحسينات.
وضع هوكو باباً آخر بين الغرفة والغرفة. بهذه الطريقة صارلديهم شقة سكنية كاملة في الطابق العلوي.
وجدت كايسا كل شيئ في الشقة أضحى جاهزاً. لهذا يمكننا أن نأجرها ونحصل على نقودها. بهذه النقود يمكننا أن نشتري بعض اللوحات الجميلة للشقة والمستلزمات الأخرى. لهذا تجنب فالتيروكايسا وبيرتا أن يدفعوا الكلفة التي قام بها هوكو.
لقد استأجرالشقة السكنية التي بناها هوكو معلم شاب للمدرسة. عندمل يحل فصل الصيف يسافرهذا الشاب إلى ذويه في فرنسا, إلى باريس. خلال هذه المدة تسكن بيرتا وكايسا وأخيهم فالتير وأولادهم في شقة المعلم. إلى ذلك الحين لم يكن في الشقة مرحاضاً. بنى هوكومرحاضاً في الصالة, دفع هوكولوحده التكاليف.
في هذه الأوقات لم يبدرمن كايسا أي شيئ جديد.
كانت إيلين سعيدة بوجود المرحاض في الشقة, وجوده يجنبها المشي تحت ندف الثلج والمطروبرد الشتاء القارس.
نقل الأثاث القديم. صارت غرفة الرجل العجوز المتوفي, غرفة إيلين وهوكو. تقع على الجانب الأخرمن القاعة, بالقرب من المطبخ. أصبحت أشبه بشقة سكنية صغيرة.
الأن خيم الهدوء والسكينة عليهم, في الليل والنهار, صار في وسعهم أن يناموا أو يسترخوا في أوقات الفراغ. لم يعد هناك من يصرخ أو يصيح. لم يعد هناك من يحتاج إلى الرعاية والمساعدة والاهتمام.
صار في مقدورهم أن يجلسوا مع بعض, يرقدوا في الأماسي الطويلة ويناموا في الليل.
كل ليلة تنام إيلين ويدها بيد هوكو, وتدريجياً صارت لديهم عادات جديدة. يستيقظوا صباحاً, يشربوا القهوة, يسمعوا إلى نشرة الأخبارويسمعوا إلى حالة الأحوال الجوية من الراديو. بعدها, يذهب هوكو إلى أعماله, وتنهمك إيلين بأعمالها.
كان عمل هوكو بجوار البيت. يذهب إليه في الساعة الثانية عشرة ظهراً, ويعود بعد أن يكون قد أكل طعامه. ينتهي بشكل نهائي من عمله في الساعة الخامسة بعد الظهر. في هذه الأوقات, تبقى إيلين لوحدها في المطبخ, تفكر, تفتح النوافذ أثناء الحرارة العالية, تجلس والقطة راقدة بالقرب من قدميها. لقد جلب هوكو هذه القطة بعد وفاة الوالد.
في الليل يضعون جهاز الراديو بالقرب منهما, يسمعون إلى مختلف البرامج. يشربون القهوة, ومرات كثيرة تصنع إيلين أقراص الخبزوالكعك المحلاة.
كانوا سعداء مع بعضهم. مرات كثيرة ينزل المعلم الفرنسي إليهم, يشاركهم الحديث في قضايا مختلفة, خاصة السياسة, والدين. أحيانا يتحدثون عن اللغات, لكون هوكو عاش في الولايات المتحدة الأمريكية ويعرف الأنكليزية التي تعلمها هناك. كانت إيلين تجلس بالقرب منهم, تسمع مع يدورمن حديث بينهم. لقد نسجت للمعلم زوجين من الجوارب لحاجته لهما.
في الغالب, كانت سعيدة في علاقتها مع زوجها وشريك عمرها هوكو, ببقاءهم مع بعض في هذا المكان الذي أحبوه وعاشوا فيه وألِفوه.
عندما كان ينزل المعلم الفرنسي إلى بيتهم, يتحدث مع هوكو في أشياء متعددة. ينتاب إيلين إحساس بالغربة لعدم قدرتها على المشاركة. كانوا يتحدثون في مواضيع جديدة, وكثيرة, الأحداث التي تتناول قضايا العالم والبلدان المحيطة بالسويد, واحتمالات ما سيحدث في المستقبل.
أغلب المواضيع التي كانوا يتحدثون عنها, كانت جديدة على إيلين. فيها الكثيرمن الغرابة, لأنها لم تسمع بها من قبل. كأنها كانت خارج هذا العالم مدة طويلة. هي تعرف الأعياد, كعيد الميلاد, عيد رأس السنة, عيد الفصح.
البيت يمتلأ بالناس, يجتمع الجميع, في الصيف في الضيعة والمزرعة.
في الصيف يأتون من كل الأطراف. الكثيرمن الأحفاد يدرس في المانيا, في انكلترا. منهم من يدرس التمثيل, المسرح, وغيره.
في كل صيف, هناك وجوه جديدة, وجوه من خارج العائلة, تأتي إلى المزرعة, نسباء جدد, زيجات جديدة. الجميع ينادي إيلين باسم/ إيما/. كما كانوا ينادوا على هوكوباسم صياد الغابة.
تبقى إيلين وهوكو في المطبخ, عندما يمتلئ البيت بالناس, يسمعونهم يتحدثون في شؤون كثيرة, كالموسيقا والفن والمسرح والسينما. سافروا إلى مناطق كثيرة من العالم كباريس وروما وبرلين ولندن. كما كانوا يتحدثون عن الكتب والإصدارات الجديدة, الكتاب وكتبهم, كالروائيين والفنانين والمغنين, عن دار الأوبرا واللوحات الفنية العالمية.
لكن هوكو وإيلين لم يتسن لهم متابعة الحديث كله, وقتهم مملوء, من أجل تحضير الطعام والترتيبات الأخرى.
كان البعض منهم يأتي لمرة واحدة, والبعض الآخر يأتي أكثرمن مرة.
مضى صيف العام /1950/
جاء صيف العام /1951/.
كانت السماء تمطر, يوم بعد يوم, البرد يملأ أوصال البيت.
طوال الصيف لم يعمل هوكو, لم يسعفه الوقت لأن البيت مملوء بالناس. وقته مملوء بإشعال النارفي المرجل. الماء الساخن والمياه المالحة أوالوسخة لم تعد تحتاج إلى العناية كما في الماضي, صارت تمر عبر المجاري داخل البيت.
كانت الأعشاب تنمو بسرعة حول البيت من كثرة الأمطارلذا على هوكو أن يشذبها مرتين في الأسبوع حتى لا يتعرض لانتقاد كايسا أو بيرتا.
تدريجياً راحت الناس تنسحب من المكان وتذهب إلى أعمالها, ويعود البيت إلى ماضيه, ليصبح فارغاً من جديد بانتظار صيف أخر.
ـ مر علينا هذا الصيف قاسياً, قالت كايسا.
ـ لم أفكر بهذا الأمر, ردت عليها إيلين.
احضرهوكو الحليب من الدورالأول, ووقف بجانبهم.
ـ ليس لدي الوقت الكافي كي التفت إلى ما يدور حولي من أشياء, لا أستطيع أن أمد نظري إلى الحياة من خلال النافذة, لكن لم أفكر بذلك. لا أعرف إلا الخدمة, أقدم القهوة للقادمين إلينا طوال الصيف, هذه هي الحقيقة. ربما مرهذا الصيف بشكل رهيب وقاس على البعض ولكن ليس علي.
نظرت كايسا إلى إيلين باستغراب, تركتها وذهبت إلى الغرفة الأخرى دون أن تبدي أي رد فعل أو تجيب على كلام إيلين.
راحت الأيام تمضي, يوماً بعد يوم, وأسبوع بعد أسبوع, وشهر بعد شهر.
جاء الخريف, ومضى, الشتاء يقرع الأبواب ويمضي, الربيع يرتعش بنبض الحياة, يدق عرش الوجود, ينذر ببدأ الأمل. السماء زرقاء, القلب مملوء بالإحاسيس المختلطة.
في الصيف نادراً ما يجلس هوكو وإيلين في المطبخ, ثم ينسحبان إلى غرفتهما عندما يهل الليل. لم يعد يأتي إليهم أحد الأقرباء, تركوهم وشأنهم, صاروا أحرارمن أي التزام اتجاه الأخرين.
عاد الخريف من جديد.
في بعض الليالي يكون هوكو وإيلين مدعوين إلى عند بعض الأصدقاء, يجلسان معهم, يتحدثون ويشربون القهوة. بعض الأحيان تكون اللقاءات مملة.
أحيانا تقدم معارض فنية, وبعض المحاضرات في صالة المدرسة في الضيعة.
تقريباً في كل يوم هناك شيئ جديد ومختلف. عندما يتطلع الإنسان إلى السنون كيف تجري, سنة وراء سنة يعتقد أنها متشابهة. ومع ذلك, لم يعتادوا على ثقل السنين. ما يزال هوكو وإيلين كأنهما زوجان جديدان. لا يزال كل واحد منهم يكتشف أشياء جديدة في الآخر, يدرسا, ويتعمقا, ويتعرفا على بعضهما.
في منتصف مايو, آيار من العام/1956/. أتم هوكوعامه السبعين.
ـ لا أريد أن احتفل, قال هوكومخاطباً إيلين. لا أريد ذلك على أي حال, لا أريد الاحتفال بعيد ميلادي السبعين.
ضحكت إيلين من حديث زوجها, ماذا ستفعل بهذا اليوم؟
ـ لا أعرف. يمكن للمرء أن يحتفل في عامه العشرين, في الأربعين. هل تذكرين عندما كنت في العشرين.
ـ لا. لا أتذكر, ردت عليه إيلين.
لكنك تذكرين عندما كنت في الثالثة والعشرين من العمر. كان الوقت صيفاً عندما كنت في التاسعة عشرة من العمر.
ـ نعم, كنت في التاسعة عشرة من العمر, قالتها بهدوء.
ربما لأنها تعلمت على الصمت, كما لم يكن لدى الأخرين الوقت الكافي لكي يسمعوا إلى ما تقوله. الإنسان الوحيد الذي كان يسمع لها هو هوكو.
ـ سنواصل مشوارنا هذا الصيف منذ الأن, مع بعض, قال هوكو.
هزت إيلين رأسها.
ـ لن تأخذ بعضك وترحل. لن تسافرمرة أخرى إلى الولايات المتحدة الامريكية.
كان هوكو واقفاً يحلق دقنه, مستخدماً الصابون والموس.
التفت هوكو إلى إيلين وراح ينظر إلى وجهها وعينيها.
ـ ماذا علي أن أفعله إلى ذلك الوقت, قال هوكو.
ـ تبقى, أن لا ترحل وتتركني, ردت إيلين عليه بحزن.
ـ وانتظرك.
ـ على أي حال, وهذا الأهم, إنك لم تهجرنِ.
كانت إيلين جالسة بجانب الطاولة. أخذت مريولتها من على خصرها ووضعتها على وجهها وراحت تبكي. كانت المرة الأولى التي تبكي فيها إيلين. التفت هوكو فرأها تبكي.
كان قد انتهى من الحلاقة, غسل وجهه من الصابون. اقترب من إيلين وجلس إلى جانبها قرب الطاولة, وراح يمسد بيديه على رأسها وصدرها وقلبها.
ـ يا فتاتي الصغيرة, يا حبيبتي عمري, إيلين. قال هذه الكلمات مرات عديدة ليخفف عنها ويواسيها ويحمل عنها الماسي التي عانته في غربتهما عن بعض. ثم قال
ـ ما حدث قد حدث. على الأقل إننا التقينا, إننا مع بعض. توقفي عن البكاء يا إيلين. هل تبكين لأننا مع بعض. أصبحت من الماضي تلك السنوات الثلاثين التي ضاعت.
ـ نحن عجائزالأن يا حبيبي هوكو. ما فائدة الحياة بعد هذا العمر.
ـ لسنا عجائز, لسنا كبار في السن, كما تعتقدين. أنت مخطئة, لم نبلغ من العمر ذلك الشيئ الذي تتوهمين. أرمي تلك السنوات الثلاثين جانباً, أرميه يا إيلين. الثلاثين سنة الماضية, ليست من أعمارنا, لأننا لم نكن مع بعض. اليوم, أنت الأن في السابعة والثلاثين من العمر, وأنا في الأربعين.
ثم راح هوكو يمسد على وجهها وجبينها, يمسح الدموع المترقرقة من على عينيها بيديه المرتعشان, اليدان الهرمتان الممتلئتان بالعروق والأوردة النافرة.
لم يكن لدى إيلين في ذلك الحين الوقت لتلتفت, أوتبكي عندما بلغ هوكوعامه السبعين.
في الأسبوع التالي جاء أخوة إيلين.
بان على أخوتها أيضاً الكبر في السن, كانوا تقريباً في مثل عمرهوكو. إيريك زوج بيرتا اقترب من عامه الخامسة والسبعين.
جاءت كايسا وزوجها كنوت إلى المزرعة بسيارتهم الخاصة. واستقل فالتيرالقطار لوحده قادماً من نورشوبينك. التقى فالتيروكنوت في المحطة صدفة, بينما كان الأخيريقود سيارته.
جاءت بيرتا مع أبنها وزوجته.
تساءلت إيلين فيما إذا كان باستطاعة الشابان أن يبقوا إلى ما بعد الظهر, لكنهم لم يقبلوا, فضلوا السفر على البقاء في المزرعة حتى يحضروا عرضاً لفيلم سينمائي في إحدى دور السينما في ميولبي. وأنهم سيجلبون بيرتا معهم في اليوم التالي.
في البدء سيجري تقديم الشوربة, بعدها, سيقدمون سمك السلمون, بعدئذ سيكون على الطاولة الجبن والبسكويت والعنب.
لم تعد فترة بعد الظهرمثل السابق. الأن يجري تقديم الطعام البسيط, الخفيف للغاية. تعلمت إيلين هذا الشيئ في الأونة الأخيرة.
حضرأخوهوكو مع زوجته إلى المنزل في فترة وقت الظهيرة, لكن بعد أن تناولوا القهوة مضوا إلى شؤونهم.
حدثت أشياء رائعة في المزرعة, لكنها لم تناسب أو تلائم كايسا وبيرتا وفالتيروكنوت.
ـ في الغد سأذهب إلى القبور, قالت كايسا. أمل أن يلقوا الرعاية والاهتمام التام, ثم رفت نظرها وصوبتهم باتجاه إيلين.
أغلب الأوقات كانا, هوكو وإيلين يجلسان في صالة الطعام, نظراً لبلوغ هوكو عامه السبعين واحتفاله البسيط بهذه المناسبة, لم يذهبا إلى المطبخ كما كانا معتادان.
ـ سأقطف بعض الأغصان الصغيرة من حديقة المنزل, أجمعها في حزمة وأخذها معي, قالت بيرتا.
مضى فالتير يتكلم عن اللغة السويدية, والتغيرات الكبيرة التي طرأت عليها بعد الحرب العالمية الثانية. لقد دخلت مفردات كثيرة وجديدة على اللغة, وتلاشت الكثيرمن المفردات القديمة. ثم راح فالتير يتكلم عن التغيرات الكبيرة التي طرأت على اللغة مع الزمن والظروف والتطورات التي حدثت في السويد والبلدان المحيطة بها.
هزهوكو رأسه ولم يجب. مد يده إلى الأمام, أخذ زجاجة الكونياك الجميلة التي كانت موضوعة بالقرب منه. كان فالتير قد جلبها معه. تناول هوكوبضعة كأسات صغيرة وجميلة وراح يملأ بها المشروب اللذيذ ويقدمها لهم. ثم بدأ يتكلم بصوت خافت وهادئ. تحدث هوكوعن جمال اللغة السويدية في المهجر, في الولايات المتحدة الأمريكية. أنهم يتحدثون باللغة السويدية الأم, بجمالها ورقتها ودقة معانيها وألفاظها وكأنهم لم يغادروا الوطن, السويد. او كأنهم جاؤوا إلى المهجر للتو. كانوا يتحدثون اللغة السويدية القديمة, مثلما كانت. لغتهم السويدية لم تتغير بعفل الزمن والتغييرات التي حدثت في السويد وجيرانها.
لم يعتاد هوكو الجلوس مع عائلة إيلين في الصالة. ولم يعتاد التحدث مع فالتيرأوغيره.
ربما لهذا السبب صارفالتيرغاضباً. ربما يوجد إنسان ما, لديه فكرة أوشيئ ما يريد أن يقوله, لكن فالتير لم يسبق أن سمع بها أوعرفها, لكنه لا يريد أن يترك انطباعاً إنه لا يعرفها أو لم يسمع بها
ربما, أراد هوكو أن يقول شيئاً, لكن فالتيرترك بينه وبين هوكومسافة كبيرة من الحدود. لم يقل له أنت أو هوكو. طوال الوقت كان يتكلم معه بصيغة الجمع, أنتم. كما لو أن هوكو ليس من العائلة, أوإنسان غريب. كأنه عملياً, إنسان غير موجود في البيت, أوله صوت يمكن أن يسمع.
دائماً بيرتا وكايسا مع بعضهم, يتحدثان في المطبخ أوالحديقة. تشاهدهم إيلين واقفتان تتكلمان في موضوع ما. تحدث هوكوعن أحد الكتب التي وقعت بين يديه عندما كان في الولايات المتحدة الامريكية. كان كتاباً مشوقاً. تحدث عن الكتاب لبضعة دقائق, خلال هذه اللحظات نام فالتيرليوحي لهوكو بأنه غيرمهم وأن وجوده لا قيمة له, أوأنه غيرمكترث بحديثه.
كانت كايسا وبيرتا تلكز إحدهما قدم الأخرى من تحت الطاولة, وتتغامزان, وتضحان بلغة الإشارة وبصوت مبحوح ومتقطع مثل الأطفال الصغار.
نهضت إيلين من على الكراسي وبدأت تجمع فناجين القهوة الفارغة, تاركة كأسات الكونياك على الطاولة.
وبشكل تلقائي صمت هوكو.
مضت كايسا تتحدث عن بعض الناس الذين التقت بهم فيما سابق من الأيام, وجهت حديثها حصرياً نحو بيرتا. لم ترد أي واحدة منهم على ما قاله هوكو.
نهض هوكو من مكانه هو الآخرمثل زوجته. شاهد فالتير غاطاً في نوم عميق, كما أن بيرتا وكايسا أبدتا لامبالاة نحوهوكو وإيلين.
لكن هوكو لم يتكلم, ولم يقل شيئاً. مضى يساعد إيلين في ترتيب شؤون المطبخ, يجلي معها الصحون والفناجين ويرتب أوضاع البيت ويوضع كل شيئ في مكانه. فتح زجاجة ليمونادة وقدمها لفالتير, مثلما كانت تفعل إيلين في كل السنوات الماضية.
دخل إلى الغرفة مرة ثانية وراح يشعل النارويؤجج اللهب. رمى في المدفأة الحديدية المزيد من الحطب.
ـ تصبحوا على خير, قالها لهم هوكو. وشكراً لمجيئكم.
أبتسمت بيرتا بلطف.
ـ بالتاكيد أود المجيئ إلى هنا لأجمع بعض غصينات الأشجار, قالت بيرتا. سيكون شيئاً رائعاً أن يقوم هوكوفي صباح الغد بقطف بعض الغصينات وترتيبها بدلاً عني.
ـ حسناً, رد عليها هوكو.
دقت إيلين الباب بلطف جم ودخلت. ابتسمت بيرتا, لكنها لم تقل شيئاً. بعد قليل خرج الجميع من المطبخ, ومضى كل واحد باتجاه غرفته.
دخل هوكووإيلين غرفتهما. شلحوا ثيابهم ورقدوا في سريرهم.
ـ طبخك رائع وطيب, قال هوكو. لم أكل في حياتي طعاماً لذيذاً يضاهي طعامك.
أومأت إيلين برأسها خجلاً, ثم رمت نفسها عليه وراحت تقبله. مسدت يديها على وجهه ورأسه وربتت على صدره وخذه برقة ولطف جم.
ما أن استلقى هوكو على السريرحتى غط في نوم عميق. هكذا هي عادته, ما أن يرقد في السريرحتى ينام بشكل مباشروسريع, عكس إيلين, التي تلاقي صعوبات كثيرة حتى تغفو وتنام.
تناهى إلى سمعها صوت أخيها فالتيرمن الغرفة الأخرى, يبدو أنه استيقظ من نومه.
ـ أين, قال فالتير. هل ذهب هوكو؟ عن ماذا كان يتحدث؟
ـ اصمت, لقد ناموا قبل قليل, قالت بيرتا. كانت تضحك بصوت منخفض.
ـ لقد نمتَ في منتصف المحاضرة, قالت كايسا.
ـ إنك لا تتذكر شيئاً يا فالتير, قالت بيرتا.
ـ عن ماذا كان يتحدث هوكو, قال فالتير.
ـ لا علم لي بشيئ, ردت كايسا. لم أسمع قط ما دار بينكم.
ـ ما زالت زجاجة الكونياك على الطاولة, قالت بيرتا. تلك الزجاجة التي أعطيتها لهوكو. كان لطفاً منك أن تجلبها له.
ـ أم م م م. أفكر أن أشرب المزيد منها, قال فالتير. هكذا ضيعنا وقتنا, جلسنا صامتين, نسمع له؟
ـ هكذا يكون الإنسان المهذب يا فالتير, قالت كايسا.
ـ نحن هكذا دائماً, قالت بيرتا. نحن ننتمي إلى هذه الشريحة من البشر, المهذبة. هذا هو أسلوبنا في الحياة. نحن لطفاء, ونمتاز بالرقة والطيبة, حتى مع شخص مثل هوكو.
ـ أنتِ على حق يا بيرتا, ردت كايسا. نحن ننتمي إلى هذا الصنف من الناس, لها طريقتها وأسلوبها في الحياة. لقد نشئنا في البيئة الأخلاقية الفاضلة.
ـ وننتمي إلى ثقافتها, قال فالتير. يجب أن نكون سعداء على ما نحن عليه. يجب أن نكون ممتنين على ما نحن عليه.
كانت إيلين مستلقية في سريرها تسمع ما يدور من حديث بين أخوتها. سمعت كل شيئ بالتفصيل.
بعيداً, خارج حدود المزرعة, تتعالى سقسقة فراخ العصافيرفي أعشاشها. أنها في الطبيعة, مندمجة فيها, متناغمة معها. أنواع مختلفة من الطيورتحلق وتطير, تغرد وتصدح. على الجهة الأخرى من النوافذ, أسراب الطيور تبتعد وتبتعد. تختلط أصوات الطيورمع بعضها على المدى الواسع للكون.
على حافة النافذة المفتوحة, تستند امرإة باكية.
إيلين.
تسمع صدى إنسان راحل, يشق طريقه في الضباب, مبتعداً.
إنسان جميل اللون والصوت, يضحك لها على ناصية المدرسة.
إنه صوت الربيع الحلو.
شباب صغار, وقفت المخاطرفي طريقهم, لم يجدن في رحلة العمرالطويل سريراً يجمعهم ويحضن أنفاسهم.
ليالي الربيع كانت داكنة اللون.
فكرت إيلين في الخمسين السنة التي مضت هباءً منثورة. وقتها كان هوكو في الثالثة والعشرين من العمر. خمسون سنة ضاعت من عمرالربيع, من عمر الورد, ضاعت على الضفة الأخرى من النافذة.
أرادت إيلين أن تحلق وتطير, أن تتحول إلى حمامة فوق مسارب الطرق, أن تعود إلى الوراء, إلى ذلك الزمن, عندما كانت في التاسعة عشرة من العمر.
ترغب أن يتنظرها هوكو خارج حدود الغابة, أن يتعانقا, أن يبقيا مع بعضهما, حبيبان. تأخروا كثيراً, تأخروا خمسون سنة.
بقيت إيلين مستلقية في سريرها هادئة, تبكي بحرقة وألم.
شبكت يدها بيد هوكو طوال الوقت, قربتهم إلى قلبها, لم تكن تريد أن تزحزحم, كانت تبكي من الحسرة.
مضى العام.
ماتوا, الواحد أثرالآخر.
مات فالتيرفي العام / 1957/. مات كنوت في العام/ 1959/.
كانت إيلين وهوكوفي زيارة المقبرة.
بعد ذلك عادوا إلى المنزل في نفس اليوم.
جلب هوكو مواد الدهان ورا ح يدهن الداخل, الأبواب والسقف, وجميع الأماكن التي تحتاج إلى الدهان. بعد ذلك انتقل إلى الخارج ودهن الجدران باللون الأحمر المطفئ.
تزوج المعلم الفرنسي ورحل.
كانت المساحة المحتاج إلى الدهان كبيرة جداً, استعان هوكوبالسلم للوصول إلى السقف والأماكن المرتفعة. بالرغم من تجاوزه الخامسة والسبعين من العمر إلا أنه قام بهذا العمل الضخم لوحده.
بعد عامين مات إيريك.
في الخريف التالي ماتت إحدى بنات كايسا وحفيدتها الصغيرة, فتاة في مقتبل العمر. لم يعرف هوكو وإيلين كيف حدث هذا الأمر, والمفاجئ في هذه الحالة أنهم لم يكونوا متواجدين.
جميع الذين توفوا, دفنوا في مقبرة العائلة,على مسافة بعيدة نسبياً عن الضيعة.
هناك استراح الجميع.
عندما انتهى هوكو من دهان الجدران الخارجية, قررت كايسا وبيرتا أن يبعوا البيت., بعد أن رتبه هوكو ونظفه ودهنه وجعله جميلاً وجاهزاً للعيش فيه مع إيلين.
ـ أطفالنا الأن لديهم بيوتهم الخاصة, قالت بيرتا. لهذا, سأسافرإلى مكان آخر بدلاً من هنا.
ـ نعم, ليس لدي الرغبة في البقاء في السويد, عندما يقترب فصل الصيف, قالت كايسا. طوال الوقت, تمطر. أنا معتادة أن أسافرإلى اسبانيا, إلى جزيرة مايوركا الواقعة على البحر المتوسط.
أومأت إيلين برأسها ولم تجب.
كان عيد الميلاد ورأس السنة على الأبواب. لم يأت إلا القليل منهم.
جاءت كايسا وبيرتا بشكل عابر, كما لو أنهم جاؤوا في زيارة سريعة في فصل الصيف.
لكن هوكو كان حزيناً, لأنه دهن البيت وجهزه ليعيشوا فيه.
في العام / 1963/ باعوا البيت. البيت الذي عاشت فيه العائلة وأقربائهم, أكثر من مئة وخمسون سنة.
الأن ما الفائدة من البيت. إذ لم يبق من العائلة, والأقرباء من يرغب في البقاء فيه.
نعم.
إلا, إيلين وهوكو؟
لكن, ليس بمقدورهم شراء البيت.
لقد بيع البيت بسعر زهيد لا يتجاوز الخمسين ألف كرونة.
لقد تقاسمت كايسا وبيرتا المبلغ, كل واحدة منهما خمسة وعشرون ألفاً من الكرونات. اعتبروا أن إيلين أخذت حصتها, لأنها مكثت في المنزل طوال الوقت, دون أن تدفع أي مبلغ مقابل ذلك. لهذا لم تحصل على كرونة واحدة.
نعم. لقد عاشت إيلين مجاناً في هذا البيت, عندما كانت فتاة عازبة أوبعد زواجها.
لقد كانت سعيدة أنها نفدت بريشها, لم يأخذوا منها ثمن مكوثها في المنزل طوال هذا الوقت.
لكن إيلين وهوكو انتقلوا إلى شقق المتقاعدين. هناك اختلطت الأشياء عليهم, انتابهم إحساس مختلف, يجمع ما بين الغرابة والغربة, وتقلبات الحياة والزمن.
كانت شقق المتقاعدين بعيدة نسبياً عن الضيعة, لكنها مجهزة بالمفروشات الضرورية. ولديهم غرفة حمام حقيقية, فيها ماء ساخن وبارد. ويحصلون على الحليب كل مساء.
في النهاية
جاءت كايسا وبيرتا مرتين في سيارة كايسا. جاؤوا ليسلموا على إيلين ويطمئن على أحوالها مع هوكوفي هذه الأونة.
إحدى المرات جلبوا معهم سطل خشبي قديم فيه زبدة. على الأرحج ظنوا أن إيلين ليست بحاجة إلى هذا السطل من الزبدة, لكنهم ظنوا أنه من الجميل أن يحملوا في يديهم شيئاً ما أثناء زيارتهم إلى المكان الذي يقطنوه هي وزوجها في شقق المتقاعدين. في المرة الثانية جلبوا لها ساعة قديمة. في المرتين لاحظوا أن إيلين تتنهد وتتنفس بصعوبة كبيرة.
ـ هل تشكين من وجع ما, قالت بيرتا. على الأرجح أنت مريضة.
كانوا على صواب.
كانت إيلين مريضة, متعبة للغاية. أغلب الأوقات كانت مضطجعة على الأريكة, وهوكو جالس إلى جوارها كل الوقت.
ـ ماذا كان سيحدث لو إنك غيرت رأيك ولم تعد إلى الوطن, قالت إيلين.
ـ لن يحدث أي شيئ, قال هوكو. كنت ستتركين البيت, وستمضي الأيام, يوماً بعد يوم. لكن لم يكن ليحدث أي شيئ جديد.
أومأت إيلين برأسها.
ـ ماذا لو أنك لم تعد, كررتها إيلين مرة ثانية.
ـ لكني عدت, قال هوكو.
وراح هوكو يبتسم لها, ماداً يده ليد أيلين ثم ضمها وقبلها.
ـ عشنا مع بعضنا بضعة أعوام حلوة, قالت إيلين.
ـ أكثرمن خمسة وعشرين سنة.
ـ على الأرجح لن يكون هناك المزيد, أليس كذلك يا حبيبي.
ـ سنعيش ونرى يا إيلين.
صارت حالة إيلين أفضل قليلاً. مضت تنسج قطعة من النسيج وتضعه في الصالة التي تعيش فيها. سمع هوكو وإيلين صوت القسيس يعظ في صالة الطعام. كانوا جالسين مع بعض, يد هوكو في يد إيلين.
بينما كان هوكو يقرأ كتاباً بصوت عال. رأى إيلين تتناول أنواع مختلفة من حبوب الدواء. كانت مصابة بأمراض كثيرة.
أخو هوكو وزوجته ماتوا. لكن أولاد أخيه جاؤوا وسلموا عليه. كانت لديهم سيارة جديدة. أخذوا هوكو معهم في السيارة في مشوار, داروا في محيط المنطقة التي يسكنون فيها, لكن إيلين لم تستطع. تحدث هوكو لإيلين ما شاهد في جولته القصيرة.
ـ لقد أنشئوا الكثيرمن الطرق الدولية في منطقتنا, بنايات جديدة, بيوت كبيرة, شقق سكنية وفيلات على حدود ضيعتنا, وبعض المدارس للطلاب والتلاميذ.
ـ لقد تغيرت كثيراً, أليس كذلك.
ـ يجب أن تكون كذلك, يا إيلين. هناك الكثير من القادمين الجدد.
ـ نعم.. نعم. قالت إيلين هذه الكلمات وأبتسمت بصعوبة. ثم قالت, للشيخوخة جمالها ورونقها أيضاً.
في صيف العام /1909/ . كان صيفاً حلواً, رائعاً. كان أجمل صيف. هل تذكر أزهار ذلك الصيف, أزهار كثيرة منتشرة على طوال المسافات التي يصلها النظر. أتذكرأزهار ذلك الصيف كانت كثيرة التألق. بعض الناس قالوا: إنهم لم يروا على الأطلاق بمثل كثرة هذا الورد من قبل, هل تذكر ذلك يا هوكو؟
ـ نعم. أتذكر.
ابتسم لها, ثم غمر يديها في حضن يديه.
ـ رائحة المروج تفوح من كل مكان, قالت إيلين. والسنونوات تطيرهنا وهناك, تحلق وتدور, تعود على أعقابها, تماماً مثل ذلك اليوم الذي عدتَ فيه من السفر.
شكرا لك, للقدر. مجيئك جعل لحياتي معنى, مجئيك جعلني كما لوأني عشت مرتين. حياة قبل مجيئك, وحياة بعد مجيئك.
كان ذلك أكثر من حدث سعيد.
كانت إيلين تتكلم بصعوبة بالغة, وتفكر ملياً. ويد هوكو تحضن كلتا يديها بحميمية وحب.
ـ لقد كنت محظوظة بما فيه الكفاية, قالت إيلين. كنت محظوظة. عودتك, كانت أجمل شيئ في حياتي.
قبّل هوكو يديها مرة أخرى, قبل عينيها وأنفها.
انتكست إيلين مرة ثانية. الأن لم يكن لدى إيلين شيئاً تفعله أو تقوله. ماتت
ماتت في شهر آب من العام/1967/. كانت وقتها قد تجاوزت السابعة والسبعين من العمر.
جاءت كايسا وبيرتا قبل أن تدفن إيلين على جناح السرعة. استقلوا سيارة إجرة من مدينة ميولبي. كان لديهم مالاً وفيراً ليأتوا بهذه السرعة.
ـ حان الوقت الذي ترتاح فيه إيلين بيننا, ترقد بسلام في مقبرة العائلة, قالت كايسا. لم يفهم هوكوما تعنيه كايسا. تابعت:
ـ إيلين أختنا, يجب أن تدفن في مقبرة العائلة, بيننا.
ـ لا تقلقي يا كايسا, قالت بيرتا. عاجلاً أم أجلاً سيعلم هوكو إنه على خطأ. لم يطرأ أي تغييرعلى الوضع, لأن هوكو تزوج أختنا إيلين. بكل الأحوال, هي تنتمي إلى أسرتنا.
ـ أصبحت زوجتي, قالها هوكو بهدوء.
ـ هذا لا يعني لنا شيئاً على الأطلاق, قالت بيرتا. لم تكونا إلا فردين بائسين تعيشان لوحدكما. كانت أموركما تجري بشكل مقبول, لم نقل غيرهذا الكلام. لقد انتقلتم للعيش معاً, عندما رغبتما بذلك.
ـ كنا متزوجان, قال هوكو. عندها لم يبتسم لهما, لكنه كان محافظاً على توازنه وهدوئه.
ـ نعم نعم. وقتها كنتما متزوجان, قالت بيرتا. لكن زواجكما حلّ مفعوله بعد وفاة أختنا إيلين.
ـ وو, ولهذا عادت إيلين إلينا, إلى أسرتها, قالت كايسا.
ـ أن ينتقل رجل وامرأة إلى بيت واحد, ليعيشا معاً, لا يعني هذا شيئاً على الأطلاق, قالت بيرتا.
أومأ هوكو برأسه مستغرباً.
إذا انتقل رجل وامرأة للعيش معاً, وحدهما, لا تعني لكما شيئاً, هذا ممكن. لكن الحب العميق الذي يجمع ويوحد الرجل والمرأة, ألا يعني ذلك لكما شيئاً. الحب! ماذا يعني لكما الحب؟ عندما يحب الرجل والمرأة بعضهما, وقتها لا يبقى الرجل وحده, ولا تبقى المرأة وحدها. هذا هو الأمر.
ـ لكن الله في السماء, قالتها كايسا, وضحكت. لكنكم, تزوجتم في خريف العمر, عجائز.
ـ ماذا تعرفون عن هذا الأمر, قال هوكو. كايسا وبيرتا لم تجيبا. كانتا تنظران إلى بعضهما البعض باستغراب تام. كأنهما لم يفهموا ما قاله هوكو.
ـ ماذا تعرفون, ماذا يحدث بين الأثنين, رجل وامرأة, كررهوكو. ماذا تعرفون عن إنسان يحب إنسان آخر. ماذا تعرفون عن الحب الذي يربط الرجل بالمرأة التي يحبها.
كايسا وبيرتا لم تجيبا على تساؤلاته شيئاً.
في هذه الفترة جاءت المسؤولة عن دارالعجزة, المكان الذي كان هوكووإيلين يقيمان فيه. وراحت تساعد هوكو.
في الأول من سبتمبر/أيلول/ دفنت إيلين. لكن, ليس في مدفن العائلة. بل بعيداً عن المجتمع, بعيداً عن الضيعة.
دفنت بعيداً عن المدافن العامة. دفنت في الجهة الأخرى من الطريق الذي يودي إلى بيت أبويها, البيت ذي اللون الأحمرالداكن.
دفنت في منتصف المسافة ما بين الضيعة والمكان الذي عاشت فيه حياتها كلها. المكان القريب من الغابة. لقد دفنت بالقرب من طريق الغابة, المكان الذي التقت فيه مع هوكو. بالقرب من المروج التي كانت تسيرعليه تحت قطرات المطرالمنهمرة على رأسها وجسدها, في طريق سعيها في البحث عن هوكو.
لقد دفنت في المكان التي عاشت فيه حياتها الحقيقية.
على حجارة المدفن ترك مكاناً لأسم هوكو.
بعد الدفن انتقل هوكو من شقق المتقاعدين, أوالعجزة. لقد استأجرغرفة صغيرة في الضيعة, بالقرب من الكنيسة. غرفة حلوة ودافئة مع مطبخ وحمام.
كل يوم كان باستطاعة هوكو الذهاب إلى قبرإيلين كي يضع وردة عليها.
كل مساء, كان هوكو يذهب إلى ستورهولت كي يجلب ليتراً من الحليب, يذهب إلى المكان الذي كان يلتقي فيه مع إيلين.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السمكة الذهبية
- شيء من الحقيقة والسوريالية.
- العودة إلى الانقلاب الأول
- الانقلاب الأول في سوريا
- الرأسمالية واقع موضوعي
- النص والحياة
- الطريق إلى أصفهان، جيلبرت سينويه وابن سينا
- فصل من رواية في الأرض المسرة
- من ذاكرة الجزيرة السورية 2
- لبنان والبحر وهمسات الريح
- رواية يريفان
- من ذاكرة الجزيرة السورية 1
- مقالة في العبودية المختارة
- طيور الشوك
- استراتيجيات الغرب وجاذبية الشرق الأوسط
- الخبز الحافي
- النظام الأمريكي بعد الحرب الباردة
- هل الظلم وحده يصنع ثورة..؟!
- ما تخلفه الحروب الدامية على المرأة
- التنظيم في رواية قبلة يهوذا


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - إيلين