|
رسام الكاريكاتور بمواجهة الهمجية
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1453 - 2006 / 2 / 6 - 10:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تأتى لي ، منذ يومين ، أن أطلع على الرسوم الكاريكاتورية ، الدانمركية ، الموصومة بإساءتها لخير الأنام ، أجمعين . بحكم تجربتي ، المتواضعة فعلاً ، في مجال الكاريكاتور ، والممتدة إلى عقود ثلاثة أو يزيد قليلاً ، أعتقد أنه بإمكاني ، إلى هذا الحد أو ذاك ، إعطاء نظرة موضوعية تخصّ الرسوم المعنية ، فنياً ومعرفياً . الكاريكاتور ، بإختصار شديد ، هو فن صحفي قبل كل شيء ؛ فنّ شديد الحساسية ، يقاربُ المعنى مماهياً إياه بخطوط رشيقة ، مختزلة ، أقرب في عفويتها وصدقها لرسوم الأطفال . الرسام الأصيل ، عموماً ، يتجه إلى هذا النوع من الفن ، مدفوعاً بهواجس عدة ؛ أهمها غلبة وعيه بالقيم السياسية والإجتماعية والتاريخية على القيم الاخرى ، المشكلة لشخصية الفنان ، من جمالية وغيرها . الرسوم الكاريكاتورية ، والحالة هذه ، مكانها هو الجريدة اليومية ، المتيح لها إنتشاراً أوسع مما هو مقدّر للرسام التشكيلي أو للنحات ، مثلاً . فضلاً عن أن الكاريكاتور ، غالباً ، يظهر محملاً بالفكرة الخفية والمبسطة في آن ، مما يجعله بمتناول فهم قطاع كبير من القراء . لا غرو ، إذاً ، أن يكون الكاريكاريست هدفاً مباشراً لبطش السلطة وأدواتها ، كما في مثال عربيّ ، معروف لدينا ؛ وهو الفنان المبدع ، الشهيد ناجي العلي ، ضحية فساد المافيا الفلسطينية ، المتنفذة في منظمة التحرير ، وفي السلطة الوطنية ، لاحقاً .
واليوم ، ها هو فنان الكاريكاتور ، في دائرة الأضواء ، الأشد سطوعاً ؛ الدائرة المنارة أيضاً بحرائق الرعاع والمتزمتين والجهلة ، الآتية على كل شيء في طريقها ؛ مؤجَجة بالتحريض السافر ، إعلامياً بالدرجة الأولى ، من لدن الأنظمة العربية والإسلامية ؛ من اندونيسيا " المؤمنة " مروراً بسورية " العلمانية " وإلى لبنان " الديمقراطي " _ كذا . ولا ننسى ، في هذه المعمعة الجهادية ، خطبَ الجمعة المذاعة مباشرة على الأثير الرسمي ، إياه ؛ خطب التكفير والتشهير والتذكير بالمؤامرة الصهيونية وإفك حماتها الأمريكان والأوروبيين .. إلى بيانات وزارات الخارجية والداخلية والأوقاف والإعلام .. وإتحادات المحامين والمعلمين والنقابات والمخابرات .. الخ . أهوالُ القيامة ، هذه ، المقيمة رأساً على عقب عالمَ الإسلام ، من أقصاه اليميني إلى أقصاه اليساري ، كان منطلق نفيرها ، إذاً ، دزينة من رسوم الكاريكاتور . رسوم معلنة في صحيفة محلية ، شبه مغمورة ، وفي بلد اوروبي شماليّ ، غاية في الصغر ، يكاد لا يعرف بوجوده في عالم الإسلام ، ذاته ، سوى اولئك الحالمين بملجيء آمن لأنفسهم وأسرهم !
من بين تلك الرسوم الكاريكاتورية ، المسيئة جدلاً ، تمّ التركيز إعلامياً على إثنين منها ؛ الأولى تظهر نبيّ الإسلام ، وهو ملفوف الرأس بعمامة كبيرة ، سوداء ، برز منها قنبلة مشتعلة الفتيل . الثانية ، تناولت رسولنا وهو بوضعية مفترس الصغيرات ؛ وضعية مشابهة لإحدى الرسوم الغرافيكية للفنان الإسباني " غويا " ، من اواخر القرن الثامن عشر . كلا الرسمان ، وبغض الطرف عن خلفياتهما التاريخية والدينية والأخلاقية ، مرفوضان إسلامياً ، لسبب بسيط ؛ أنّ تمثيل شخص محمد بن عبد الله تصويراً أو تشخيصاً أو تخييلاً ، محرّم بتاتاً على رأي الفقهاء والمشرعين ، وفي المذاهب الإسلامية جميعها . هذا التعارض ، المؤكد ، بين الفن والشريعة ، وجدَ تعبيراً له في التصوير الإسلامي ، بشكل خاص . فقد إنسحب هذا التابو ( الحرم ) ، طوال عصور مظلمة ، إلى البشر العاديين وكذلك الكائنات الاخرى من حيوان وهوام ؛ بحجة أكثر طرافة : أن للخالق وحده ، جل وعلا ، الحق في تصوير مخلوقاته . هذا ما كانه حالُ الفن الإسلامي ، المقتصر طوال تلك العصور ، على الإشتغال بالنقوش والزخرفة والخط ، مقارباً رموزاً نباتية وطبيعية ، بحتة . هذا التحريم ، نعاينه حتى في زمننا الحاضر ؛ وبالرغم من الحداثة الغربية ، المستهجنة قولاً ، والمقتحمة ، فعلاً ، كل مكان من مجتمعاتنا الإسلامية ، من خدور الحريم إلى دور وقصور الرجال ، القوّامون بفحولتهم ورجاحة عقولهم . ولا حاجة لأمثلة كثيرة ، في هذا الشأن ؛ إذ يكفي تذكر مصير فيلم " الرسالة " للمخرج الراحل مصطفى العقاد ، ومنع عرضه في معظم الدول العربية ، بحجة تشخيصه للصحابة . وعلى صعيد الأدب ، لدينا مثال رواية " آيات شيطانية " للمبدع الهنديّ الأصل ، سلمان رشدي ؛ الرواية اللعنة ، التي أثارت ، قبل حوالي السبعة عشر عاماً ، ما أثارته من زوبعة مشابهة لهذه المعتصفة ، الآن ، بالعالم الإسلامي . تلك الرواية ، المختلط بها فنتازيا الواقع بالماضي المتمثل ، أيضاً ، ب " وقائع " ، هي بمعظمها محض خيال مدوني كتب السيرة النبوية ، غالباً ؛ إلى أحداث تاريخية ، مثبتة على الأقل ، متحرية جوانب من حياة قريش عشية الدعوة المحمدية . هنا وهناك ، إعتبرت الوقائع محرّمة ، لجهة تجسيدها أدبياً ، وبالتالي تمّ تكفير كاتبها ، الروائي المسلم ، بتهمة الإرتداد عن الدين القويم ، بحسب فتوى دينية للإمام الخميني ، ملحقة بمكافأة دولارية مليونية . تلك الفتوى ، المعتبرة من كثيرمن المحللين ، في حينه ، ذات خلفية سياسية ، محضة ، على خلفية الحرب العراقية الإيرانية ، والصراع مع السعودية للإستئثار بالهيمنة سواءً بسواء ، على النفوذ في الدول الإسلامية أو جالياتها في الدول الغربية . على هذا ، فنحن أمام ذهنية تحريم ( حسب تعبير الباحث السوري ، المعروف ، جلال صادق العظم ) ؛ ذهنية إسلامية رافضة لأي إعتبارات فنية ، أدبية أو تشكيلية أو موسيقية . المنتهك لهذا التحريم ، إذا كان مسلماً ، فهو مرتد وجبَ عليه الحدّ ؛ كما شهدنا من أمثلة سلمان رشدي ونجيب محفوظ وفرج فودة ومهدي عامل وحسين مروة .. وغيرهم . أما إذا كان منتهك الأعراف اوروبياً غربياً ؛ فإنه صليبيّ ، ربيب للصهيونيّة والإستكبار العالمي ، ما علينا إلا التداعي لحرق مقر صحيفته ومباني سفارات بلده ومقاطعة منتوجاتها .. إلى آخره من هذا الهراء.
عودة إلى هاتيك الرسمتين ، المجسدتيْن رسول الإسلام ، كاريكاتورياً ، لنجدَ أن رعاع المسلمين وحكوماتهم الموقرة ، بردة فعلهم المشينة في همجيتها ، هي التي جسدت للحقيقة ، واقعاً وفعلاً ، " إرهابية " تلك الشخصية النبوية ، المقدسة من لدن مئات ملايين البشر في عالمنا كله . ناهيك عن الخلفيات المأساوية ، والتي نعايشها جميعاً ، يوماً بيوم وساعة بساعة ، وكانت على الأرجح ، في ذهن الرسام الدانمركي : الشرّ المنفلت في كل مكان من المعمورة ، قتلاً ونسفاً وتفجيراً وتهديداً ؛ الشرّ الموسوم ، دائماً ، بإسم الإرهاب الإسلامي . فمنذ مستهل عقد الثمانينات ، وأيامنا في الشرق المسلم كلها مجازر ومقابر جماعية وغازات كيماوية وأنفالات وفتاوى تكفير وذبح مذهبية ووو. وبالمقابل ، فكل مواطن غربيّ ، في ظل هذا الإرهاب المقيم ، عليه أن يحسب حساباً لأجله ، المحتوم أو المؤجل ، في طائرة أو منتجع سياحيّ أو داخل نفق مترو او في سفارة ، أوغيرها من الأمكنة . أما بالنسبة للرسم الكاريكاتوري الآخر ، المتناول محمداً وهو " يتسلى " بحريمه ، مركزاً على السيدة عائشة ، بسنواتها القصّر ؛ فإنه موضوع غير ذي جدة ، لا في تراثنا ولا في دراسات باحثينا ، المعاصرة . ثمة عشرات من الكتب الإسلامية ، الأصلية ، في السيرة والتفسير والحديث ، لها باعٌ طويل في هذه المواضيع ؛ . لقد سبق لكتاب عديدين ، في شرقنا ومغربنا المسلميْن ، أن نوهوا بتلك الحقيقة ، على صفحات الجرائد والإنترنيت ، في الآونة الأخيرة . على هذا ، فإن حجة " الإساءة للرسول " ، يجب أن تنال تلك الكتب التراثية ، بشكل حصري : أيْ أن المطلوب ، بهذه الحالة ، شروع هيئات إسلامية ، شرعية ، كالأزهر الشريف ، مثلاً ، بدحض جوانب من السيرة النبوية ؛ أو ببساطة أكثر ، الإيعاز لتعديل كتب السيرة وغيرها من مدونات التفسير والحديث ، وحرق تلك الصفحات " غير المتلائمة " مع مفاهيم عالمنا المعاصر . بهكذا إجراءات ، ربما لن تقوم من بعد ، قائمة لتلك الحجة المثارة ، إسلامياً ، هنا وهناك ، بين الحين والآخر ؟
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعتذار صليبي من قلعة الإسلام
-
التحوّلات الكردية : أقلية وأكثرية
-
الإجتماعيات الكرديّة : تقاليدٌ وتجديد
-
الإجتماعيات الكردية : طِباعٌ وأعراف
-
الإجتماعيات الكردية : فقهٌ وتصوّف
-
القصبات الكردية (2 / 2)
-
الإجتماعيات الكردية : عامّة وأعيان
-
رؤيا رامبو
-
الميلاد والموت
-
القصبات الكردية
-
المهاجر الكردية الأولى
-
كي لا ينام الدم
-
سنوات النهضة الكردية: مدرسة الشام
-
المصادر الاسطورية لملحمة ياشار کمال ..جبل آ?ري
المزيد.....
-
“خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم
...
-
فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
-
“ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة
...
-
بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا
...
-
ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
-
بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي
...
-
مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي
...
-
مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة
...
-
بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري
...
-
أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل
...
المزيد.....
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
-
جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب
/ جدو جبريل
-
سورة الكهف كلب أم ملاك
/ جدو دبريل
-
تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل
...
/ عبد المجيد حمدان
-
جيوسياسة الانقسامات الدينية
/ مرزوق الحلالي
-
خطة الله
/ ضو ابو السعود
المزيد.....
|