أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - المؤسسة الوظيفية - فصل من رواية - 4/1















المزيد.....


المؤسسة الوظيفية - فصل من رواية - 4/1


أحمد عبد العظيم طه

الحوار المتمدن-العدد: 5572 - 2017 / 7 / 5 - 08:34
المحور: الادب والفن
    


في التاريخ أنت لا تستطيع سوى أن تلعب دورك



من الطبيعي أن تكون مؤسسة كبيرة – كالتي أفخر بالعمل من خلالها، حريصة بدرجة قصوى على ما يخص صلاحياتها التطبيقية، ودرء أي محاولة اختزال أو إنقاص لما تمتلكه من هذه الصلاحيات، الأمر الذي ينبني عليه نشوء نوع من الضمان الاستمراري لكيان مؤسسي لا يكتفي بالنمو وحسب، إنما طي ذلك يسعى أيضًا للتفوق. وبصفتي مسئولاً لقسم "الأرشيف الوظيفي" بالمؤسسة منذ ما يناهز أحد عشر سنة، فإنني أكون – من وجهة نظر شخصية – أجدر الذين يمكنهم الحديث عن التاريخ التطبيقي للمؤسسة، وإن جاء هذا عمليًا، وبصورة عامة، ومتخلصًا من الشكل "البروتوكولي" الخاضع لمعايير الجودة ومعدلات الأمان وما إلى هنالك من هاتيك المظان المعمول بها في ذات الشؤون(*).

في البداية نشأت المؤسسة عشوائيًا، من العدم تقريبًا، فلم تكن ثمة إرهاصات نظامية معتبرة تتقدم هذا الوجود المؤسِّس(**). واجتمع المؤسِّسون على ما أقروه: من مبادئ عامة معلنة للجميع (أو أنها مسلمات للتواجد بهكذا أمكنة!)، فمبادئ خاصة قاصرة عليهم كتشكيل إداري محدد (بداهة). كذا فقد مُنحوا صلاحيات تطبيقية استثنائية (أي لا قاعدة لها) وذلك تبعًا لأحكام القانون التأسيسي المنظم للنشوء والتطور المؤسسي.
وكان بفضل السياسة الانتقائية الدقيقة والمنضبطة التي تم اتباعها أثناء مرحلة التأسيس، أن أسهم هذا بدور كبير في ترسيخ اللوائح والقوانين المعمول بها على كافة الأصعدة. حتى أن أحدًا لم يعد به حاجة لمراجعة تلك النصوص الخالدة حال وجود ما يستدعي ذلك – وعندما لا تتوفر نسخة منها بخزانة مكتبه كذلك.
منذ تسعة عشر سنة عُينت ههنا بواسطة والدي، وهو أحد الذين خدموا المؤسسة بنمط صقيل من التفاني آن التحاقه بها وإلى أن تقاعد من الخدمة – إثر أن رحمه الإله. في أول عملي كان الرؤساء وكُثُر من الموظفين يعاملونني كشخص آخر من أبناء العاملين، أولئك الذين يوجدون كمثال حي لاحترام تعاليم المؤسسة بشأن موظفيها السابقين.

"صباح الخير يا سيد لطفي"
"صباح الخير يا دولة الرئيسة ألفت"
"هل وصلك التصميم العشوائي الفائز لهذه السنة؟"
"وصلت النسخة الأرشيفية مساء أمس.. شيء مدهش في الحقيقة!"
"يرحم الإله والدك يا لطفي.. صراحة كان منفذ تصاميم عشوائية هائل"
"يرحم الإله الجميع يا دولة الرئيسة ألفت.. حُسن أخلاقك أن تذكريه بالخير"

كهذا كانت العلاقة تسير في مُتوفرِ الأحيان مع أعضاء التشكيل الرئاسي المؤسس، نادرو الظهور، والذين لم يحالفني حظي في رؤية أغلبهم إلى الآن. أيضًا كانت لي علاقات وطيدة جيدة بالموظفين القدامى – فيما يشمل حتى طبقة السعاة والسائقين والحرفيين، إذ كنت أرى أن القِدم المؤسسي المتحقق لآحادهم، يُمثل في مجموعه ملحمة مؤسسية ثقيلة وخالدة.
لذلك فقد أرى اليوم، وبعد كل هذه الأعوام التي حييتها في كنف المؤسسة، أنني أفدتُ الكثير جدًا من الخبرة الوظيفية بسبب هؤلاء الناس ذوي الأوجه العميقة، والأيدي المعروقة، والعقول المؤسسية النابهة.
أيضًا سيكون من واجب القول: أن طبيعة علاقتي بدولة الرئيسة ألفت كانت تمتاز بالمختلف من الفهم النسبي عن الباقين جميعًا، أو يجوز أنها مثلتْ ضربًا من تعقيدات الأمومة والبنوة بطور متأخر من الأحاسيس الإنسانية. كانت تحب والدي كما صرحت لي في غير مناسبة، وكانت تقول لي في سخرية حلوة، متكررة: "مما يفترض فيه أنك ابني"، وتستدرك في بعض الأحيان بضحك أسيان: "إنها فقط الأقدار التي أبت الاكتمال!".

/

في صباح أحد الأيام "المصيرية"، أحسستُ بكوني قد صرتُ كائنًا مؤسسيًا قديمًا إلى درجة معقولة، بل بالأقل إلى درجة القِدم المتحققة لواحدٍ كسعادة المدير رفيق لقسم "السلامة الوظيفية"، والذي بدا قديمًا تمامًا بينما يستخرج لي نسخة جديدة منقحة من ملف التقييم الكلي لأربعة أعوام خلت. وقد صرتُ أفكر فيما إن كان هذا الإحساس بالقدم قد سبب لي السعادة أم الحزن؟!، غير أنني لم أستطع اتخاذ موقفًا كليًا حيال الأمر، كذلك لم أدر عما: إذا كان هناك من سبق وأحس إحساسي هذا أم لا؟!..
عدتُ إلى مكتبي ومر وقت من هذا، فكنتُ أعمل ما أعمل والفكرة معي، متمسكة برأسي، بل وتتشعب علائقها في هذا الاتجاه الشعوري المائد (الوجدان). ولما تأثر أدائي الوظيفي وبان ذلك في عدة أخطاء، قررتُ أن أُخرج اللوحة الزرقاء من دُرجِها لأنفصل بها لبرهة عن التفكير بهذه الطريقة – برهة زرقاء أتمكن بعدها من معاودة تأديتي لعملي بالتركيز والانتباه المطلوبين. لكن جرس الهاتف الأرضي أعاد يدي من مقبض الدُرج إلى سماعته. كانت الطالبة هي الرئيسة ألفت. وقد تحدثتْ بعد سلامها عليَّ بلهجةٍ بدت إخبارية ومتعجلة: أمرتني أن أسجل خروجًا مبكرًا بدفتر الدوام لأن القعدة عندها قد تطول (فكرت أن اليوم "مصيريًا"(***) بما سيؤثر على راتبي بالخصم، وأنني قد أُحرج إن قلتُ لها أن تؤشر لي إذنًا رسميًا، لذا لم أقل هذا ولم ألم نفسي كثيرًا!).

في مكانها وجدت دولة الرئيسة فلة قيد دولة الرئيسة نجاة، جالستان، تتكلمان، وهي تعطي بعض التعليمات لعاملة الاختزال نرجس، ثم ترحب بي وتمدحني أمام دولتي الرئيستين بعبارة مقتضبة، وتقول: "إجلس".

"بالطبع أنت تعلم بحكم قِدمك، وشغلك لموقعك، أن المؤسسة ما هي إلا وقفًا جماعيًا للتطور والذيوع المؤسسي في مجالها المنظور، كذلك الخفي – وهذا طبعًا إن فُهِمَ الخفاء على وجهه الصحيح، ووجد الكيان الوظيفي الذي يستحق أن ننسخ أنفسنا من أجله. لكن الآن هذا ليس موضوعنا، فقط أنا أردت أن أمهد الأرض لحديث هام.."

"معلوم.. أنا مصغٍ بكامل ذهنيتي دولة الرئيسة"

"قبل أن تجيء نحن كنا نتكلم كرئيسات تأسيسيات، وكما تعلم مكلفات لهذا العام بتدوير الشأن المؤسسي من قِبل "المجمع الرئاسي".. كنا نتكلم بصدد إحداث النقلة السنوية" للمؤسسة والتي يحين موعد تنفيذها بعد ستة أيام. وقد واصلنا نقاشنا بناءً على نقاشات سابقة؛ بشأن أن يكون صلبها هو إجراء تحديث تقني بالممرات الإدارية. في البدء كان هدفنا هو ضغط المُدد الزمنية المستهلكة في مسألة "التداول الإجرائي"، الداخلي بالأخص، وهو هدف جيد وواقعي ويصلح لتمرير بيان "النقلة السنوية" باجتماع "عمومية المؤسسة" المقبل؛ فمن ثم التحصل على قدر مرضٍ من إشادة "المجمع الرئاسي" باجتماعه غير المُعلَن.. لكن دولة الرئيسة نجاة سامحها الإله قالت طرحًا آخر.. قالت أننا هكذا لن نحدث "نقلة سنوية" بالمعنى الحقيقي للكلمة، وذكرتْ أنه قد جمحتْ المقارنة بعيدًا بمرور الأعوام باتجاه "نقلات سنوية" فارقة، كسنتيِّ "الحريق" و"السريان" – كمثالين بازغين لا حصرًا طبعًا. بل وظهر لنا أثناء النقاش مثال ثان أكثر قربًا، وهو شجاعة أعضاء "المجمع الرئاسي" في اختيارنا كفريق رئاسي نسائي للمرة الأولى مؤسسيًا، مما سيجعلنا عُرضة لنظرٍ إضافي وتقييم نوعي بمجمل النتائج التي ستتحقق لهذا العام، تحديدًا نتائج الأعمال المحورية.. نهاية أقول لك، أن ما طرحته الرئيسة نجاة أقنعني منتهى الاقتناع.. كما أقنع الرئيسة فلة!.. والآن أنتَ هنا من أجل ذلك."

"أنا! نعم.. بالطبع.. أنا مقتنع بالطبع.. شيء عظيم أن تكون "النقلة السنوية" فارقة.. إنه هدف عظيم من دون شك."

كلهن ضحكَن، ورأيت عاملة الاختزال نرجس تضحك كذلك (وكانت تبتسم خفية منذ البداية بينما تقوم بالاختزال). ثم جرت نظرة تفاهمية متبادلة بين دولة الرئيسة ألفت ودولتي الرئيستين، قالت إثرها دولة الرئيسة نجاة: "نريد صناعة الفارق عن طريق المدير وليس عن طريق نمط الإدارة.. تغليب الإنساني على المادي.. هذا توجُهنا.. والحقيقة أن من أودت بنا إليه بهذا الشكل الصريح هي الرئيسة ألفت.. وهو ما نطمح أن تكون مصيبة به!"

"أعدكن دولاتكن عن نفسي بتنفيذ كل ما يطلب مني لعمل "نقلة سنوية" فارقة.. فهذا سيكون داعيًا للفخر.. بكل تأكيد.. بكل تأكيد."

قالت دولة الرئيسة فلة وهي أول مرة تتكلم: "الشيء الأبدع في العالم هو هذا الجنون.. أن تتحول مخصصات "النقلة السنوية" كلها.. إلى شخص.. شخص واحد.. يا آلهة السماء على هذا!.."

أخرجت دولة الرئيسة ألفت مخططًا ورقيًا، ودفعت به في يدي قائلة: أن دقق البصر ثم ابد رأيًا. وبينما يجري ذلك، فهي صارت ترمقني بنظرة عميقة، حالمة، نظرة تحمل من الدعم والثقة ما أرهقني تصوره.
كانت النواة المحورية للفكرة المخطَطة تمثل شخصًا بعينه، له حرية الحركة في كافة الاتجاهات الوظيفية، وعلى المستويين المحوريين الجامعين للمخطط.. فأفقيًا حيث يُمكِّنه ذلك من صلاحيات تنفيذية هائلة (مسلحة بالقوة الناجزة والسيولة اللازمة)، ورأسيًا بما يجعله في غير حاجة لمراجعة قراراته إلى الدرجة ما قبل الأخيرة (شخص له تقنية الضوء في غرفة مغلقة إلا من ثقب بابها(****))، وقد أحيطت علامة الصليب بدائرة تحصر حيز الكيان العام للمؤسسة عما عداه من فراغ الورقة، وكُتبتْ معادلة خطية مباشرة أسفل الدائرة بغرض نقل الأداء البياني إلى وسطٍ حسابي: "تحقيق الهدف الوظيفي = تحقق المستهدف وظيفيًا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مع العلم بأن: حرية الفكر والتعبير؛ هي بداهة لا تنتج إبداعًا غير مسئول؛ أو لا شأن له.
(**) وهو ما لا ينفي وجود بقاع طيفية تعملُ قدرًا من الأصل في نسيج المادة السوداء.
(***) يوم له خصوصية مؤسسية ما، ويأتي كل شهر ونصف الشهر.
(****) لا أمان مطلق في الواقع المؤسسي.

/

منذ بداية يوم العمل هذا ولمدة نصف شهر، سأكون الشخص الأشد حاجة إلى التفكير بين جنبات المؤسسة. كان لابد أن تسألني دولة الرئيسة ألفت قبل أن تضعني بموقف بالغ الصعوبة كهذا!، فلم يكن ليتاح لي أن أرفض (أو أفند) ما أنتجته قريحتها الإنمائية أمام اثنتين من دولات الرؤساء التأسيسيين، إذ قد يُتصور الأمر عندئذٍ كخوف من فكرتها (أو أبدو كدُبٍ يذب ذبابة عن رأس أمه). ولكن ماذا سيخيف الآن؟.. هه؟.. ماذا؟!.. هههه؟؟!!.. أهو هذا الكم من الحضور المؤسسي الممنوح مثلاً؟.. أم هو الشعور به كمثل آخر؟!.. هو لا شيء من وجهة نظري.. الأمر آمن كلية.. كلية(*).. وبدا أنه قد لقي انتشارًا مؤسسيًا صامتًا، واسعًا، ما لاح كتعابير إضافية على أوجه من قابلتهم في طريقي إلى "الأرشيف"، أو عبر جمل موالسة دلالاتها كهذه..

"نهارك سعيد حتى آخر السماء عناية السيد لطفي!"...
"تأمر بأية أشياء يا أستاذ لطفي؟"...
"ما أبدع الرؤساء طوال الوقت.. أليس كذلك يا مدير لطفي؟"...
"سعادة المدير لطفي! يا ألف أهلاً وسهلاً سعادتك......"
"لطفي لطفي يحيا لطفي..."
"........."

على الرغم من كوني أمسك قسم "الأرشيف الوظيفي"، وأحفظ ما به جيدًا، إلا أنني للمرة الأولى منذ إحدى عشرة سنة، وبقلبٍ جامدٍ، سوف أطلب مفتاح "الرواق التأسيسي" من عناية السيد حسن أمين المخاطر، وهو سيجلبه إلي بسرعة وبلا أية إجراءات معقدة لطالما سمعت عنها قبل ذلك. أريد معرفة كل شيء، قبل القيام بأي شيء.. خاصة وأن التحقق الوظيفي المُطالب به إداريًا، وقيد هذه الصلاحيات الكبيرة (شبه المطلقة)، هو ليس فعلاً سهلاً على الإطلاق.. على الإطلاق.. الإطلاق.. إطلاق.. طلاق.. لذلك سيأتي الاطلاع على ما خطته أقلام السادة المؤسسون بأنفسهم – ودونما تشويشات أو حواشٍ شارحة تكدر صفاء التأسيس، أقول سيأتي كخطوة بديهية في طريق عقلاني وعر.

- معك الإله فيما تريد معرفته يا سيد لطفي!.
- أشكر تعاون عنايتك.
- كما ترى الرواق مُرتب ومنظم ونظيف وليس وحده بالطبع فكل أمكنة الأمانة إن فتحتها لك ستراها كذلك مع العلم أنني أعمل هنا وحدي وحدي تمامًا فأمانة المخاطر لا أعلم إن كنت تعلم أم لا تعد منطقة مؤسسية مستقلة عن القطاعات وهي قديمة قِدم أقدم المباني المؤسسية وهو هذا المبني الذي بني في..
- معذرة لمقاطعة عنايتك يا سيد حسن ولكن الوقت يضغطني جدًا لذا أريد البحث سريعًا عما أريد..
- لا ضير لا ضير أنت شخص مؤسسي جيد يا لطفي مباشر وجيد وهذه شيم الرجال المؤسسيون النابهون الذين يصيبون ويخطأون وهم يحاولون إنجاز منجز مؤسسي يجعلهم يتقدمون بعالم المؤسسة الرحب الفسيح الوسيع العالم غير الـ..
- أكرر شكري وتقديري لعنايتك.
- أنا خارج وسأغلق باب الرواق من الخارج وعندما تنتهي من بحثك أنت معك المفتاح اخرج وتعال إليَّ بمقصف المؤسسة سآخذ شايًا وأمكث هناك إلى حين تأتي لتسلمني المفتاح وعندما تتقدم بالمقام أو بالسن هههـ تذكرني قل في نفسك لابد أن أتذكر عم حسن أمين المخاطر الرجل الذي مثل أخي الكبير الذي أعطاني مفتاح الرواق التأسيسي وكان هو مفتاح بدايتي التي..
- قطعًا سأتذكر وأكثر يا عم حسن.. بالقطع يا أخي..

تقدمتُ سريعًا نحو الباب بغية حثه على المضي قدمًا إلى الخارج، و قد أحسستُ بأنه قد غلُب حماري في إيقافه عن الكلام، وأنه من الجائز أنني سأتفوه بعبارات أكثر مباشرة لتحقيق ذلك، غير أنه لم يُكثر عن ذلك وقال: "سلامًا يا لطفي يا بني" بينما يغلق الباب من الخارج، ولم أصدق نفسي أنه قد مضي..

عن المادة المؤسِسة الأولى: (بداءة ليس من المقبول – بدعوى التحقيق أو التحقق – ارتكاب مخالفة للائحة المؤسسة العامة بنسخ ما منع نسخه. ولكن في الوقت عينه سوف لن يضير التحويم حول فحوى هذا الممنوع إذا كان من الأهمية فيما لابد منه...) ثم يذهب المؤسِس مباشرة بهذه المادة: إلى ما يفي معناه بضرورة الكذب عندما يؤتى على ذكر أعمال المؤسسة، فلا يفترض بأحد من خارجها (مهما كان) معرفة الحقيقة، كما أن للأخيرة مستويات نسبية بداخل الإطار المؤسسي ذات نفسه.

عن المادة المؤسِسة الخامسة: المؤسسة لا تُسأل، بل هي تجيب دون سؤال. فإن كان من المفترض أنها تمثل الحقيقة المطلقة بالنسبة للسائل، فقانونها يكون منه بداهة كنفسه وكذلك يبقى. فما دام قد سأل؛ فهناك شيء ما خطأ؛ شيء ما خطأ كبير – والذي قد يكون عقابه هو تصفية نهائية من كونه كائنًا مؤسسيًا ناشئًا ناميًا.

عن جملة المواد الباقية: العامل والعميل معادن تحتاج إلى صقلها، وتضطلع المؤسسة بعملية الصقل، عبر حيثية المعاملات التي يتم إنفاذها كأنشطة مؤسسية، أصلية، وثابتة، وقابلة للانتفاع والتطور.

طفقتُ أفكر أن اليوم تقريبًا قد عبر، وأنا لم أزل لم أحدد خطًا عريضًا واحدًا يشير إلى أي من اتجاهات "النقلة السنوية" المتوقعة. أخرجتُ اللوحة الزرقاء من درج مكتبي ورحت أتطلع بها. الخلفية الزرقاء لا تحوي شيئًا عدا اللون الأزرق، لكنني أيضًا الذي أرى بها تفاصيلاً زرقاء.. في كل مرة تفاصيل زرقاء جديدة.. باهرة الوضوح والجاذبية.. ولا أدري إن كان سيَمُتُّ للغرابة بشيء كوني قد أصبح لديَّ اعتقادًا مريحًا أنني مخصوص بهذه الرؤية.. إذ ما هذا؟.. وما تلك؟.. وما دون ذلك وما يتجاوز أمنيات الرؤى؟؟.. فيا للعجب والتعجب!!... لقد رأيت وحشًا يشبه كثيرًا وحش القديس جاورجيوس الكبادوكي (بالأيقونة الأشهر أكثر)، لكنه كان تفصيلاً وحيدًا باللوحة، فلا عين ماء وحيدة بالصحراء كيما ينفث اللهيب ويمنع عنها الواردين، وبالتالي فلا أحد ليتقدس على حسابه ويضربه برمح!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ليس كلية - إذ بدا الأمر بمرور الأوقات والدروب يمثل خطرًا (خياليًا، أو متخيلاً) جسيمًا، ما دعا الشخصية المحورية إلى الحيطة، والحذر، وتأجيل ما توجب تأجيله، وتسليم الأمور جميعًا إلى بارئها.

/

في اليوم التالي، أمرتُ بعاملة الاختزال نرجس أن تأتي قبل الباقين بقليل. وعندما سألتها مبتسمًا بعادية: عما كان الباعث على الضحك آن تكليف دولات الرئيسات لي بالتصرف في مخصصات النقلة السنوية؟؛ فقد تغير وجهها، وصمتت، بما يوحي أنها قد أساءت الظن بنواياي إلى ضربٍ بعيد. لذا عمدتُ إلى بلورة السؤال بطريقة أخرى، مؤسسية، سطحية، ولطيفة: ما الذي لم أسمعه قبل قدومي يا حضرة عاملة الاختزال؟.
"لا شيء تقريبًا.. المناقشة جرت.. وصيغت الفكرة الفائزة لدى حضور عنايتك."
"هلا تعاونيني.. أحتاج معاونتك بشكل شخصي يا نرجس."
"وظفيتي هي معاونة عنايتك يا سيد لطفي.. لن أتفضل بشيء!."
"قد يكون، قد يكون..."

ابتدأ توافد مدراء القطاعات الأساسية تباعًا إلى قاعة الاجتماعات الجزئية، وكنت بصفتي الداعي واقفًا لهم مُستقبِلاً وحيدًا (لدى نافورة القاعة، كعادة مؤسسية تليدة ترمي إلى الإخلاص والتفاني)، فكان أولهم هو سعادة المدير عوني لقطاع "البيانات والمعلومات"، وهو رجل نحيف وبالغ الطول بما يثير سخرية لدى البعض..
دار بيننا حديث قصير هنأني خلاله بتولي مهمة إحداث "النقلة السنوية"، وعبر عن مدى استعداده لإسداء خدمات استثنائية حال تحديد المستهدف وتنشيط الاستهداف، ثم أنهى كلامه بالقول "قدرك الإله على الجيد"، فأومأت له مبتسمًا، مقدرًا.. وبدأتُ الاجتماع، فرحبتُ بالمديرين، كلاً بصفتِه ونعتِه اللائقيْن، وأنا بالطبع استهللتُ بسعادة المدير إحسان لقطاع "التوثيق والحفظ" قائلاً فيه ما يقضي بتمييزه كمدير سابق لي... وكان بُعيد انتهائي من هذه الترويسة الأمامية للاجتماع، أن شعرت بفراغ دماغي من مركز النطق أو أنه لم يكن كلامًا يُرسل ليُلسن، فصرتُ أنظر في المساحة الواقعة فوق رؤوس الموجودين، وقد خبرت خلال تلك الثواني الفارغة كيف تبدو النحنحة بالنسبة إلى مُحدَث إدارة، فتنحنحتُ لمرتين واضعًا قبضتي أمام فمي.. واندفع القول:

"أمس الأول، طبعًا، جاءتكم موجزة رئاسية بما تم تكليفي به.. اليوم أضيف، أنني قد شرفتُ بذلك أيما شرف، وفوجئت به أيما مفاجئة... سأحاول الوصول إلى صلب الموضوع بتذكير سعاداتكم: أن مخصصات النقلة السنوية جميعها سوف تتحول إلى شخص. شخص مؤسسي واحد. ومن البديهي أنها لن تُحول إلى حسابه البنكي أو تُنقل إلى شقته بسيارة المؤسسة مثلاً، هههـ، بل ستُصرف كلها عليه.. لعله يُثمر فيه، ههـ..

فكرتُ أثناء الكلام بأنه لابد من إقلال الثرثرة، وتكثيف الخطاب، وعدم التخفف بالضحك وارتقاب آثاره بوجوه الآخرين. غير أنه لم يكن متسَعٌ كهذا، لكي أفهم بالضبط ما الذي يعنيه كل هذا. لذا فقد تابعت الكلام هكذا، وبلا تحفظٍ خطابي:

.. وتأسيسًا على كل هذا أيها الجمع الكريم، فمن ثم على اختيار دولات الرئيسات المسؤلات عن إخراج العام المؤسسي لهذا العام، لي أنا، الموظف لطفي، مسئول قسم الأرشيف الوظيفي بقطاع التوثيق والحفظ بالمؤسسة، غرض القيام بإنفاذ التكليف من الفعل – وهذا من حظي الجميل.. ههـ.. أقول أنه سيكون من المنطق السليم، المكتمل، أن أكون أنا هو ذلك الشخص المطلوب!.. لكنني عندما أدرتُ الفكرة مرارًا في رأسي؛ وجدتُ شيئًا ما.. شيئًا ما هامًا ونافعًا برأيي.. لقد وجدت أن التكليف لا ينص صراحة على هذا التوحيد بين الاختيار والإنفاذ. فالأمر بشكل مجرد لا يتعلق سوى بإنجاز مهمة إدارية، دورية، محددة – إحداث "النقلة السنوية" على وجه معين ومخططٌ له. لهذا السبب الوجيه، فقد اتخذت قرارًا لا يقل وجاهة عن سببيته، وهو قرار مدروسٌ ومبنيٌ على قناعة فردية صرفة – بعد أن أضحى التقرير متاحًا هههـ.. ربما سيأتي قرارًا صادمًا للبعض.. وربما مُفرحًا للبعض الآخر.. لا أعلم الآن طبعًا!.. المهم أيها السادة أنه لن أكون أنا هذا الشخص "النقلة السنوية".. فأنا فقط سأكتفي بالشق الثاني من المهمة. وهو إدارتها بصلاحيات كاملة، ناجزة. كذلك أرى أنه لابد من التنويه بقطعية احتفاظي بالحق الأصيل في اختيار الشخصية المنفذَة بشكل نهائي..."

ختمتُ الكلام بتوجيه الشكر للجميع على حسن الاستماع، وأطريتُ الحس المؤسسي في الحرص على النجاح، فقلت: أنني استشعرته طاغيًا بهذا الاجتماع، ثم قلت: أن باب النقاش صار مفتوحًا، وأن من لديه رأيًا يقوله فليقُله.
سَرتْ أحاديث جانبية خافتة لبرهة.. قطعها سعادة المدير حفني لقطاع "التوسع شرقًا" بقوله: أنني لزومًا عليّ أن أحظى بفرصة أخرى لإعادة التفكير، ومن ثم مراجعة القرار، وأنه لا يقول هذا الكلام إلا لوجه الإخوة المؤسسية، وأنه رجل لطالما غرَّبَتْهُ أعمال المؤسسة بالمدن والمحافظات، فسبكته الغربة خبيرًا في معالجة تلك الحيرة المصاحبة للتقرير. وقلت له بطريقة بها ظرف: أنني لا أحتاج إلى إعادة شيء، شاكرًا له محاولته في جعلي قابلاً للنصح والاتعاظ والإرشاد (وقلت في نفسي: من أين واتتني كل هذه الرعونة؟!).
وسألتْ سعادة المديرة قِسمت لقطاع "الإنفاق" بوجه متشكك: هل سيُفتح بابًا للترشح والدعاية وما شابه؟. وأجبتها مقتضِبًا بـ: لا. ثم جرت عدة أحاديث وتعليقات بغية إثبات الوجود – كعُرفٍ بشريٍ غائر في القدم – قبل أن يأتلف الجميع على الشعور بنشوة الجهل، بالفضول، تجاه معرفة من ذا الذي قد يقع عليه اختيار مجيد إلى درجة هيولية كهذه...

"عاملة الاختزال نرجس"

"أووه!"
"حقيقي!!"
"لا بأس.. لا بأس أبدًا."
"حقوق المرأة وكذا، هه؟!"
"يا رب إنها لحداثة إدارية يتحفنا بها المجمع الرئاسي بمعرفة الرئيسات!"
"غير متوقعة بالجملة!"
"ياللنساء! وحتمًا لا أقصد دولات الرئيسات فهن حبيباتي ههـ.."
"لست سهلاً يا لطفي.. لست سهلاً بالمرة."
"ثم؟ أما بعد؟ هوهو لطفي الغامض ولا جديد يا ناس!"
"الحامض أيضًا.. أي اللاذع.. لا تنسى هههـ"
"جعل العالم عالمًا وجعل ينحته هذا الذي ما كان نحاتًا!."
"مأثورة في محلها، ليت شعري.. أو لعمري.. هههـ أي شيء."
"المجد لدول الرؤساء والرئيسات.. المجمع بأكمله وخاصة دولة الرئيسة ألفت!."
"ما لنا لما علينا، كلٌ حرٌ في صلاحياته، ونهاية أقرب من بداية كما بالمثل!!"
"........."

المفاجئة بثقلها الحقيقي رأيتها تقع على عاملة الاختزال نرجس، عندما وقفتْ، وظلتْ واقفة، ممتقعة ببشرتها الخمرية، ومزرقة بشفتيها الورديتين، وأوابة بعينين صارتا الآن تحويان في طرفيهما حور، فبدتْ نرجس الإنسانة كمن رأت لتوها جنًا كثيرًا (وكانت تلك تعابير خوف نادرة بالنسبة لشخص يعمل بالمؤسسة الوظيفية).
قالت بعد أن تماسكت نوعًا، وقد سنحتْ فرصة للتكلم: أنا ممنونة إلى أبعد حد بهذا الاختيار الكريم من عنايتك.. لكنني لا أرى بنفسي كفاءة للقيام بـ...
قاطعتها بلهجة حازمة، قلتُ: الأمر ليس اختياريًا إلا في نطاق واحد يا نرجس.. القبول أو الفصل المؤسسي.. تعرفين أن صلاحياتي باتت تشمل ذلك.

لملمت عاملة الاختزال نرجس أوراقها بصمتٍ، واستعدت للانصراف قيد أول المتوجهين إلى باب القاعة. استبقيتها بإشارة من يدي، وقد أحسستُ بمشاعر متضاربة تجتاحني، ليس فقط تجاهها، إنما بالمثل تجاه هؤلاء الذين ينصرفون بإشارة من يدي الأخرى وهم يتمتمون لبعضهم البعض بأشياء أخمنها ولا أسمعها..
لقد أحسست بالقسوة، فالشفقة، فالفرح بما جرى ويجري، فالقلق من العاقبة (التي بهذا المنظر لا تشي بأنها ستكون في المسرات)، لكنني ميزتُ إحرازًا لنشوة السلطة وقد ثَبُتتْ وظهرتْ على ما عداها من الشعور، فجعلتني مزهوًا، فخورًا، وهو ما يبتعد كثيرًا عن طبيعتي العدمية التي أدريها!. وقلت في نفسي أنه: لربما يا لطفي أن أمرًا مؤسسيًا يجيء على هذا النحو، هو ما سوف يعد تقعيدًا مناسبًا لإعادة اكتشاف، أو تأويل، هذه الطبيعة العدمية.. ذلك أنه يا لطفي من يدري؟!...



#أحمد_عبد_العظيم_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منطقة عشوائية
- تُرب الإنجليز
- المصح النفسي -فصل من رواية- 4/4
- المصح النفسي -فصل من رواية- 4/3
- المصح النفسي -فصل من رواية- 4/2
- المصح النفسي -فصل من رواية- 4/1
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/7
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/6
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/5
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/4
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/3
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/2
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/1


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - المؤسسة الوظيفية - فصل من رواية - 4/1