أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - جاسم ألصفار - الانفصاليون وخدعة الاستقواء بالفكر الاشتراكي















المزيد.....


الانفصاليون وخدعة الاستقواء بالفكر الاشتراكي


جاسم ألصفار
كاتب ومحلل سياسي

(Jassim Al-saffar)


الحوار المتمدن-العدد: 5565 - 2017 / 6 / 28 - 23:18
المحور: القضية الكردية
    


1

لا اخفي اني من دعاة الحفاظ على العراق كدولة موحدة، بموزاييكها الشعبي المميز الذي هو نتيجة حضارات عملاقة ساهمت في صناعة التاريخ الانساني. وان كان لابد من انفصال اقليم كردستان عن الوطن الام- العراق، فإننا، كعرب واكراد واقليات، يجب ان نسعى معا ليكون الانفصال سلميا ووفق اتفاقيات تعالج كل الاشكالات الجغرافية والسكانية وان لا تكون على حساب سكان العراق الاخرين بقومياتهم وطوائفهم واديانهم ولا على حساب السلم في المنطقة.
وتجدر الاشارة بدايةً، الى أن ما دام البعض يعود الى تاريخ الفكر الاشتراكي ليفصله على مقاس رغباته، فان هذه المقالة ستهتم تحديدا بالرؤيا والتطبيق الاشتراكيين لموضوع حق تقرير المصير في جزئه الخاص بحق الانفصال وتكوين "الدولة القومية" المستقلة.
لابد من الاشارة، أولا، الى إن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، هو مبدأ قديم سبق ولادة الفكر ألاشتراكي ألعلمي، وقد كان واحدا من أركان الفكر ألسياسي ألبرجوازي ألناهض بوجه قواعد وأسس الدولة الإقطاعية. لذا فان أغلب حركات ألتمرد على التاج ألملكي في الحقبة الإقطاعية في أوربا كانت حركات تحرر قومي أو حركات تسعى للانفصال وتشكيل الدولة ألمستقلة. وقد تضمن إعلان استقلال الولايات ألمتحدة ألأمريكية عام 1776 وإعلان حقوق الإنسان والمواطن فيها عام 1789 بندا واضحا يقر بحق تقرير المصير.
إلا أن بداية تجليات هذا المبدأ في رؤية نظرية " للدولة ألقومية" لم تتشكل إلا بعيد ذلك في كتاب فيخته " أحاديث إلى ألأمه ألألمانية " عام 1808، أي قبل ولادة كارل ماركس بعشرة أعوام. ثم وفي ألنصف ألأول من القرن التاسع عشر ظهرت في الكتابات ألاشتراكية نقاشات لموضوعة الدولة ألقومية. كان أهمها دراسات مفكري ألاشتراكية ألطوباوية التي اعرضت عن تبني نظرية "الدولة القومية" كونها من افرازات الفكر البرجوازي. فمع تنوع، وأحيانا اختلاف، أفكار مؤسسي ألاشتراكية ألطوباوية، سان سيمون وفورييه وأوين، وأنصارهم في تصورهم للدولة والنظام ألسياسي إلا أنهم كانوا يلتقون عند موقف أساسي واحد، وهو رفضهم لمفهوم "الدولة القومية". وقد حذا مؤسسا ألاشتراكية ألعلمية، كارل ماركس وفريدريك إنجلز حذو من سبقوهم من مفكري الاشتراكية في فهمهم لموضوع "الدولة القومية".اعتماد فكرة اضمحلال الدولة في ألمجتمع ألاشتراكي اللاطبقي. ولم تكن الدولة في فكرهم سوى أداة للقمع ألطبقي، عدا عن انهم افترضوا في ظروف معينة إمكانية استقلال الدولة عن الطبقة ألمهيمنة وتحولها الى مؤسسة رقابية وتنظيمية للمجتمع الطبقي. إلا أنها حتى في صورتها ألأخيرة أو عند إقامة سلطة " دكتاتورية البروليتاريا" التي كتب عنها جميع مفكري الاشتراكية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فهي في جميع الأحوال ظاهرة تاريخية مؤقتة ملازمة للمجتمعات ألطبقية، تزول بزوال دواعيها، أي بزوال ألمجتمع ألطبقي.
وللحق، فان الفكر ألاشتراكي لم يولي الدولة اهتماما كبيرا يرفعها إلى مستوى ألدراسة ألمنهجية في إطار ديالكتيك ألتطور ألاقتصادي ألاجتماعي، فالدولة، كما كانوا يرونها، هي في جميع الأحوال ظاهرة تاريخية مؤقتة ملازمة للمجتمعات ألطبقية، تزول بزوال دواعيها، أي بزوال ألمجتمع ألطبقي.
ولكن هذا لا يعني بالتأكيد أن ألاشتراكيين الأوائل أغفلوا تماما موضوع الدولة وحق تقرير المصير. خاصة وأن أحداث ألتمرد ألقومي في أوربا والمشاكل ألمتعلقة بالتوسع ألاستعماري ألأوربي في آسيا وأفريقيا كان لها أثرها ألواضح في مسار تطور النظام ألرأسمالي والحركة العمالية في أوربا ألغربية آنذاك. الفرق يكمن في مدى خضوع ألحدث ألتاريخي لآليات النظام ألمعرفي للاشتراكية ألعلمية ومدى تأثيره في عملية التطور الاقتصادي الاجتماعي، عند اتخاذ موقف محدد منه. لذا فقد لجأ مؤسسا ألاشتراكية ألعلمية إلى استخدام مصطلحات تشخص ألحدث في مدى تأثيره ألسلبي أو الإيجابي على حركة ألتطور ألتاريخي للمجتمعات في محاورها ألاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وعليه فقد وصفت ألحركات ألانفصالية ألمطالبة بحق تقرير المصير بأنها تارة "رجعية" وتارة أخرى "تقدمية".
وهذا ما يفسر مواقف ماركس وأنجلز من أحداث عام 1848 في النمسا والمجر وكذلك موقفهما ألمعروف من ألمشكلة ألايرلندية. ولا يخفى عن المتابع والدارس لتاريخ الفكر السياسي الاشتراكي، موقف ماركس وإنجلز من الحرب ألتي شنتها الولايات ألمتحدة ألأمريكية على المكسيك واستولت بنتيجتها على مقاطعات غنية وضمتها إلى أراضيها وغير ذلك، ألموقف من الاحتلال الإنكليزي للهند. ثم موقفهما من استعمار ألجزائر ومصر.
لست هنا بصدد عرض تاريخي للأحداث ألمذكورة، كما أني لست في سبيل محاكمة نصوص بعينها وردت في هذا الشأن. ولكن ألدراسة ألمتأنية لها تفرض علينا الاستنتاج بأن معلمي ألاشتراكية الأوائل كانوا مع الدولة الواحدة ألموحدة مع إقرارهم ضمن توصيفات واشتراطات معينة، بحق الأمم في تقرير مصيرها بالانفصال وتكوين دول مستقلة.
ولا ينفي هذا ألواقع ما ورد في البيان ألصادر عن ألكونفرنس ألعالمي للأحزاب والنقابات ألاشتراكية العمالية ألمنعقد في لندن عام 1896 من إقرار صريح وغير مشروط بالحق ألكامل لجميع الأمم في تقرير مصيرها. فعدا النص ألمقتضب ألذي تضمنه البيان ألختامي للمؤتمر، لم يكن هناك أي تفصيل أو تفسير لموقف الأحزاب والنقابات ألموقعة عليه، كما أن هذه الأحزاب ذاتها، كانت قد أهملت أو تناست فيما بعد ما أقرته في مؤتمرها بهذا الخصوص.
إن حق تقرير المصير في رأي ماركس وأنجلز، يجب أن يكون منسجما مع حركة ألتطور ألتاريخية، أي أن يكون متوافقا مع مصالح الطبقات ألاجتماعية ألطليعية، ليس فقط عند الأمم ألتي تسعى لتقرير مصيرها بل وتلك الأمم ألتي سيجري فيها التغيير نتيجة استخدام هذا ألحق. وعلى العموم، فان مصالح الطبقات ألاجتماعية ألطليعية عند جميع الأمم تتجسد في وحدتها وكفاحها ألمشترك وليس في تفككها وانضوائها تحت رايات قومية متنافرة. هذا أولا وثانيا، يجب أن لا يفضي الانفصال إلى إقامة دولة قومية مستقلة ترتد فيها التشكيلة ألاقتصادية ألاجتماعية إلى الوراء مقارنة بالدولة ألأم. أي أن لا تولد دول إقطاعية مثلا من رحم دولة تسود فيها علاقات الإنتاج ألرأسمالية.
وأخيرا فان حق تقرير المصير، يجب أن يبرره اضطهاد منهجي واضح تتعرض له أمة صغيرة يعيق تطورها ألاقتصادي ألاجتماعي ويجعل من غير ألممكن مواصلة العيش ألمشترك في إطار دولة واحدة. وعدا هذه الاشتراطات ألتي أفرزتها وقائع القرن التاسع عشر فان ألتطور ألاقتصادي ألاجتماعي والسياسي منذ ذلك ألحين يفرض على ألاشتراكيين ألتعامل مع وقائع جديدة ومفاهيم عصرية تغني وتمنهج ألموقف ألاشتراكي من موضوعة حق الأمم في تقرير مصيرها.

2


كما ذكرت في مقدمة الجزء الاول من المقالة، أني لست بصدد الدخول في سجالات لا طائل منها مع المسوقين لفكرة انفصال اقليم كردستان عن الوطن الام - العراق، والمبررين لها. وهدفي من الكتابة يبقى هو الكشف عن هشاشة وزيف ما يدعونه من مرجعية فكرية وسياسية اشتراكية لطروحاتهم. وان ما يستندون اليه من افكار انسانية ما هي الا قناع لمغامرة قومية ستكون نتائجها كارثية على الشعبين العربي والكردي في ظل ظروف اقليمية معقدة من شأنها ان تدفع لتبني خيار القوة المسلحة التي ستجد من ينغمس فيها من قوى قومية وطائفية.
انها مقالة لا تسعى للانتقاص من حقوق شعبنا الكردي القومية ومكاسبه التي حصل عليها نتيجة نضال طويل ومعاناة تاريخية. وما الفيدرالية الا ثمرة لكفاح الشعب الكردي يتعين على الشعبين العربي والكردي التمسك بها وتطوير مضامينها. كان املنا ان تعزز الفيدرالية اخوة شعبنا بعربه وكرده واقلياته، لا ان تكون قاعدة لازدهار الفكر القومي المتآمر على وحدة العراق ومصدرا لانتشار مشاعر الكراهية والفرقة بين مكونات شعبنا العراقي.
كتب لينين بعد وفاة المفكر الماركسي بليخانوف "لا يصبح المرء ماركسيا ما لم يدرس كل ما كتبه بليخانوف". ولم يكن لينين صادقا في كلماته حينها، بل كان يحسب حسابا سياسيا يستفيد منه في كسب ود انصار بليخانوف المفجوعين بفقده. وبنفس الدهاء والخبث السياسي يتصرف بعض من المحسوبين على اليسار، عند تسويقهم افكار الانفصال مغلفة بصياغات ماركسية ولينينية، ومتعكزين على تجربة البلاشفة ودولتهم السوفيتية. لذا فاني في هذا الجزء من المقال سأناقش بالذات هذه التجربة مستندا الى وثائقها واحداثها التاريخية.
فعلى ألرغم من أن البلاشفة كانوا قد أدخلوا في برنامجهم ألحزبي منذ عام 1903 اعترافا صريحا بحق الأمم في تقرير مصيرها، من منطلقات قائمة على حسابات سياسية تفرضها خصوصيات التركيبة القومية لروسيا القيصرية وحاجة البلاشفة الى مساندة القوميات المضطهدة في روسيا آنذاك لهم، إلا أنهم لم يبتعدوا كثيرا عن أفكار ماركس وإنجلز في هذا الشأن. ففي كتابه ألمعروف (عن حق الأمم في تقرير مصيرها) ألصادر عام 1914، ذكر لينين " إن إقرارنا بهذا ألحق لا يعني التشجيع على الانفصال وإنما لتعزيز انتصارنا في مسار نضالي ضد التوجهات ألقومية عند هذه الأمم....وفي سبيل وحدتها ألأممية ألمتراصة بالضد من محاولات ألبرجوازية لجرها إلى الانكفاء على قضاياها ألقومية"، وفي تذييله لملاحظاته في نفس الكتاب أوضح لينين "...الاعتراف بحق الأمم في الانفصال لا يعفي ألماركسيين من دعوة الأمم ألمضطهدة إلى ألتخلي عن فكرة الانفصال، إنه كحق الطلاق ألذي لا يمنع من الدعوة إلى نبذ الطلاق" .
وبعيد ثورة أكتوبر(19-21 أكتوبر عام 1917)، أي بعد أن لاح في الافق زوال اسباب الاضطهاد والتمييز القوميين، عاد لينين مرة أخرى إلى مسألة حق الأمم في تقرير مصيرها وإمكانية انفصال أجزاء من الإمبراطورية ألروسية ألسابقة عن روسيا السوفيتية، ليؤكد هذه ألمرة بوضوح " نحن لا نريد الانفصال. إننا نسعى لدولة كبرى بالقدر ألممكن، إلى اتحاد متماسك، فيه أكثر ما يمكن من ألتنوع ألقومي ألمتجاور مع ألقومية ألروسية ألعظيمة. إننا نسعى إلى ذلك لمصلحة ألديمقراطية والاشتراكية ".
وفي ألعام 1920 أعلن ألمسئول السوفيتي ألمكلف بشؤون ألقوميات يوسف ستالين، بصورة حازمة أن الانفصال عن روسيا ألجديدة غير مقبول على الأطلاق. وجرى توصيف ألعمليات ألحربية ألتي كانت تدور رحاها على الأراضي ألأوكرانية والقوقاز وآسيا ألوسطى، على أنها حرب أهلية وليست حرب ضد انفصاليين مع أن التوجهات ألانفصالية كانت حاضرة عند بعض القوى المعادية للنظام السوفيتي ألجديد في تلك المناطق آنذاك. ثم أجرى ستالين وبعد أن أصبح الشخص ألأول في الحزب والدولة تغييرا مبدئيا في الدستور السوفيتي ليكون فيه تقرير المصير من حق ألجمهوريات ألمتحدة في إطار دولة الاتحاد السوفيتي وليس من حق ألقوميات أو الشعوب ألمتعايشة في إطار الدولة السوفيتية، ولهذا التغيير دلالات عميقة تخص اشتراطات ومبررات الانفصال.
وتبعا لذلك فان ألاشتراكيين، بما فيهم البلاشفة، كانوا يدركون ما ينطوي عليه مبدأ حق تقرير المصير بالانفصال عن الدولة ألتاريخية وإنشاء دول قومية مستقلة من مخاطر ومحاذير قد تهدد مسيرة ألتطور ألاقتصادي والاجتماعي والتاريخي، وان من آثاره ألسلبية نشر الفرقة وروح ألعداء ألقومي وتمزيق ألنسيج ألاجتماعي. وقد ذكر لينين بأن ألتنوع ألثقافي والاجتماعي في الدول ألمتعددة ألقوميات يساهم بفعالية في تطورها ويجعلها أكثر قدرة على الأبداع مقارنة بدولة ألقومية الواحدة.
هذه الرؤيا ألمتعددة الأبعاد لمبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها، جعلت ألاشتراكيين ومنهم البلاشفة أكثر حذرا وروية في تعاملهم مع مشروع بناء الدولة ألاشتراكية ألجديدة. ففي ألوقت ألذي كانوا فيه يؤمنون ويأملون بأن النظام ألفيدرالي هو البديل ألأفضل لحل مشاكل ألقوميات على امتداد المساحة ألجغرافية لروسيا القيصرية، إلا أنهم في نفس ألوقت كانوا حذرين من أن يستغل الانفصاليون القوميون تباين ألنضج في مفاصل هذا النظام وضعف الخبرة في إدارته، لتحويله إلى منصة انطلاق نحو الانفصال. فالبلاشفة كانوا يرون في ألفيدرالية نظام توحيدي لدولة متنوعة الأجناس والقوميات، وليس لتفكيك الدولة ألروسية وتمزيق أوصالها. وفي هذا السياق كتب لينين في موضوعات إلى ألمؤتمر ألثاني للكومنتيرن عام 1920 " من ألضروري أن نسعى لنظام اتحادي فيدرالي أكثر تماسكا".

3


بعد اعلان تحديد موعد للاستفتاء الخاص بانفصال اقليم كردستان عن العراق وتشكيل دولة قومية مستقلة للأكراد. لاقى هذا الاعلان ردود فعل مختلفة، بينها من يدين ويهدد بمعاقبة الاكراد الساكنين في بغداد والمحافظات الجنوبية الاخرى ان اقدمت كردستان على الانفصال وبعضها يخاتل ويموه ويدعي ان الاستفتاء ليس سوى استطلاع رأي من حق حكومة كردستان تنظيمه دون ان يكشفوا حقيقة ان الاستفتاء ليس سوى منصة انطلاق نحو الانفصال.
ويؤسفني ان من بين من برر او تغافل عن الاهداف الحقيقية للاستفتاء قوى وشخصيات محسوبة على اليسار العراقي، مغلفة طروحاتها بصياغات مجتزأة من الفكر الاشتراكي والانساني اضافة الى معايير القانون الدولي. والمقالة المتواضعة التي بين ايديكم تطمح لمعالجة المحور الاخير للمسوغات التي يستند عليها الانفصال، أي القانون الدولي.
ان واقع وجود أكثر من 2000 قومية ومكون أثني يسكنون في 191 دولة من دول ألعالم اليوم، يفرض على ألاشتراكيين وألديمقراطيين عموما، والعراقيين منهم بصورة خاصة، ألتأني عند ألتعامل المبدئي وألسياسي مع مبدأ حق تقرير المصير بالانفصال كخيار لحل مشاكل ألقوميات. فالمكونات ألسكانية ألمتنوعة لأغلب دول ألعالم، وألتي تعايشت مع بعضها منذ زمن مديد على أرض تاريخية واحدة وتمازجت في نسيج اجتماعي وثقافي واحد، ستكون مهددة على الدوام لأن تكون عرضة لتأثير ألمغامرين والمتعصبين ألقوميين أو ألدينيين أو ألطائفيين، ألذين تدفعهم رغبتهم الجامحة للسلطة إلى تمزيق ألنسيج ألاجتماعي والثقافي في أي من هذه البلدان متذرعين بحق تقرير المصير!
دخل مبدأ حق تقرير المصير في صلب اتفاقية فرساي التي وُقعت بعد الحرب العالمية الأولى، والتي وفقها نشأت دول اوربية جديدة على انقاض الامبراطوريتين النمساوية-الهنغارية والالمانية. الا ان هذا المبدأ، كالعديد من المبادئ الاخرى التي استندت اليها القوانين الدولية التي تقرر مصير المجتمعات، لم يكن له ان يحقق اغراضه التي من اجلها انبثق الا ضمن ظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية محددة، كما كان يردد انجلز عن حق.
فهذا المبدأ الذي كان صالحا لتنظيم شؤون اوربا بعد الحرب العالمية الاولى، لم يكن كذلك قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية. فاوربا لم تكن لتحتمل انقسامات جديدة في دولها على اساس قومي، كما ان التطور الرأسمالي المتسارع ومن ثم العولمة انشأت ظروف جديدة تتجاوز مسوغات التقسيم والتفتت الى دول صغيرة.
ولكن هذا، لم يكن ليمنع اعتماد مبدأ حق تقرير المصير بالانفصال، كواحد من المبادئ ألأساسية ألتي يقوم عليها القانون الدولي بعد ظهور منظمة الامم المتحدة، في اطار ووفق ضوابط اكدتها المبادئ الاخرى للقانون الدولي كمبدأ عدم المساس بوحدة أراضي الدول في إطار حدودها ألمعترف بها دوليا، وان لا يكون حق الانفصال وتكوين الدولة القومية المستقلة بإملاءات او بتأثيرات خارجية. كما ان هذا الحق لن يكون مشروعا الا في حال عدم مساسه، او تأثيره سلبا على حقوق الشعوب والمكونات الاخرى التي تقطن نفس المنطقة. وعلى العموم فان القانون الدولي بكل منظومته التي لها علاقة بمبدأ تقرير المصير لم يكن ليرقى الى وضع توصيف واحد واضح في صياغاته لحق الامم في تقرير مصيرها، وابقى الباب مفتوحا للتفسيرات والتأويلات المختلفة.
وتجدر الاشارة الى ان تطبيق مبدأ حق تقرير المصير جابه مشاكل عدة ولم يؤخذ به في فترة إلغاء الحكم الاستعماري، منذ اواسط القرن العشرين، كأساس لنشوء الدول الجديدة. حيث جرى تعريف الحدود السياسية في أفريقيا وآسيا بموجب مصالح الدول الأوروبية العظمى، وليس وفق مبادئ حق تقرير المصير للمجموعات الاثنية في تلك المناطق.
ومن الاشكالات الاخرى هي أن القانون ألدولي لم يحدد مواصفات ألأمه أو ألتكوين الاثني ألذي ينطبق عليه مبدأ تقرير المصير بالانفصال وإنشاء الدولة ألمستقلة. فهناك في واحدة من ألجمهوريات ألروسية، قومية لا يزيد عدد أفرادها عن الألفين شخص، يتميزون بتاريخهم وعاداتهم المشتركة اضافة الى لغتهم القومية المميزة، فهل يحق لهذه المجموعة الاثنية وفقآ للقانون ألدولي الانفصال عن روسيا الاتحادية وتشكيل دولتها ألمستقلة ان صوت المنتمين اليها لصالح الانفصال؟ والاهم ان هل سيكون الانفصال هو الحل الوحيد او الامثل لها في حسابات حاضرها ومستقبلها؟
لا أريد إدخال القارئ في متاهات القانون ألدولي، فهي متاهات سياسية مفصلة ليسهل استخدامها من قبل الدول والمحاور المتنفذة في مجلس ألأمن لتنفيذ وقائع على ألأرض تخدم مخططات ألأقوى والمنتصر وتشرعن أحيانا لسياسة العقاب وتصفية الحسابات، واحيانا اخرى لتنفيذ مشاريع تضمن مصالح جيوسياسية. هذا ما كان تماما بعد خروج ألمنظومة ألاشتراكية خاسرة في حربها ألباردة مع النظام ألرأسمالي ألغربي.
وما تطرقي لموضوع القانون الدولي هنا الا لتبيان ان سمائه، سواء في النص او التطبيق لم تكن صافية تماما، والا ما كانت هنالك قراءات وتأويلات مختلفة لمسألة انفصال كوسوفو اليوغسلافية او اسيتيا الجنوبية وابخازيا الجورجيتان او حتى تنفيذ حق تقرير المصير في شبه جزيرة القرم بانفصالها عن اوكرانيا وانضمامها الى روسيا.
اما من الناحية المبدئية فلا ريب في أن مجرد إنشاء دول على مقاس قومية واحدة أو دين أو مذهب واحد، سينهار معه لا محالة ركن أساسي من أركان ألديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة وهو (أن المواطنين جميعا سواسية أمام القانون). والتجربة ألتاريخية لانشاء الدول القومية، بصورة عامة، أدت إلى تكوين دول فيها مواطني الدرجة ألأولى ومواطني الدرجة ألثانية. واشتدت فيها ظاهرة الاضطهاد والتمييز كما في ارمينيا واذربيجان واسرائيل وغيرها.
اما اذا كان تأسيس هذه الدولة القومية عن طريق الانفصال، فإن التبعات السلبية والاثار الجتماعية المدمرة ستكون اكثر حدة واعقد تأثيرا. ولم أعثر في التاريخ سوى على حالتين للانفصال لم تؤدي إلى مآسي اجتماعية ودماء إنسانية غزيرة، وهما في تجربة انفصال النرويج عن السويد وكذلك الانفصال ألجيكي والسلوفاكي عن جيكوسلوفاكيا. إنها استثناءات تثبت ألقاعدة.
إننا إن وضعنا أمام خيارين، إما الإيمان الاعمى وألمطلق بحق الشعوب بالانفصال عن دولها ألتاريخية المتعددة القوميات وإنشاء دولها القومية ألمستقلة، وبالتالي إشاعة ألتمزق والتشتت والفوضى والمزيد من أنهار الدماء ومظاهر الانعزال والكراهية، أو أن نكافح معا من أجل دولة مدنية ديمقراطية لا يكون القانون فيها بيد ألسلطة بل أن يكون القانون، هو ألأساس ألمحدد لهذه ألسلطة في ألتكوين وفي ألممارسة، أي من أجل قانون واحد للجميع، للسلطة وللمواطن، فيتعين علينا كتيار تقدمي ان نفضل الخيار الثاني.
الاشتراكيون الأوائل، كانوا يؤكدون على ضرورة إيجاد صيغ للعلاقة بين ألقوميات والتجمعات ألسكانية ألمختلفة بحيث تضمن حريتها في ممارسة عاداتها وتقاليدها وحقها في تطوير ثقافتها وخصوصياتها ألأخرى مع الحفاظ على وحدة الدولة ألتاريخية. من هؤلاء من دخل في سجال عنيف مع لينين في هذا الشأن مثل أ. دافيد و ك. كونوف و و.باير و ك. رينر والاشتراكية أليسارية ألمعروفة روزا لوكسمبورغ وغيرهم من ألاشتراكيين ألديمقراطيين الروس.
أكد الاشتراكيون في كل حواراتهم واطاريحهم على أنه من غير ألممكن، في عالم اليوم، التفكير بإنشاء دول "نقية" أحادية ألقومية، تخلو من الأقليات، فالدول ألتي يتنوع فيها ألنسيج ألاجتماعي وتتمازج فيها الثقافات وتتفاعل فيها ألمشتركات تملك بالتأكيد آليات تطور أكثر كفاءة وحيوية من تلك ألتي تنغلق على حضارة وثقافة من لون واحد. الأولى هي دول "تقدمية"، حسب توصيف ماركس وأنجلز، اما ألثانية فدول " رجعية ".
واخيرا، فان أساس كل دولة هو الإنسان - المواطن، فما ألذي يحتاجه هذا الإنسان في أي بقعة من بقاع ألعالم؟ إنه بالتأكيد يريد أن تحترم إنسانيته وأن يعامل على قدم المساواة مع الأخرين بغض النظر عن انحداره القومي. وأن يملك ألحق في أن ينتمي لأية ديانة أو مذهب يؤمن بهما أو أن لا ينتمي لأية ديانة كانت. أن يتحدث أو يقرأ أو أن يكتب باللغة ألتي يجيدها.
ونحن ندعو اخوتنا الاكراد الى التكاتف معنا من اجل بناء دولة المواطنة في عراق موحد. فان لم يشاؤوا ذلك وقرروا الانفصال فان السبيل الاوحد للانفصال واقامة الدولة المستقلة هو الاتفاق بين القيادتين الشرعيتين في اربيل وبغداد على صيغة محددة لاتفاقية تراعى فيها مصالح وطموحات جميع المكونات، سواء في الدولة الجديدة او في الدولة الام. هذا هو السبيل الوحيد الذي يمكن ان يسد الطريق على أي تدخلات اقليمية لاشعال نار الفتنة بين ابناء العراق من عرب واكراد واقليات.



#جاسم_ألصفار (هاشتاغ)       Jassim_Al-saffar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خاطرتان قصيرتان في موضوع وحدة اليسار العراقي
- تركيا، الى اين؟
- كوريا الشمالية أمام خيارات التصعيد ام التهدئة؟
- الرؤيا العدمية والرؤيا الواقعية في الحدث السوري
- لمسار التغيير روافد
- رأي في شعار -مقاطعة الانتخابات-
- وقائع احداث جامعة واسط
- حكومة وعشائر ومافيات
- عواقب التغيير
- كوبا بعد فيديل كاسترو
- اشتراطات نجاح التغيير في السياسة الامريكية
- بداية معركة الحسم في حلب
- تكهنات في متغيرات العلاقة الامريكية الاوربية
- الديمقراطية بين جدلية المضمون والاليات
- انتصار للديمقراطية ام الانعطاف نحو الاستبداد
- موضوعتان وافتراض واحد
- الوعي والثورة
- الوعي والثورة (الجزء الثاني)
- دواعي الانسحاب الروسي الجزئي من سوريا
- دروس ثورة منتصرة


المزيد.....




- واشنطن ناشدت كندا خلف الكواليس لمواصلة دعم الأونروا
- الهلال الأحمر: إسرائيل تفرج عن 7 معتقلين من طواقمنا
- حركة فتح: قضية الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين تحتل أولوي ...
- نادي الأسير يعلن ارتفاع حصيلة الاعتقالات منذ 7 أكتوبر إلى 78 ...
- الاحتلال يفرج عن 7 معتقلين من الهلال الأحمر ومصير 8 ما زال ...
- الأمم المتحدة: الوقت ينفد ولا بديل عن إغاثة غزة برا
- تعذيب وتنكيل وحرق حتى الموت.. فيديو صادم يظهر ميليشيا موالية ...
- الأمم المتحدة: أكثر من مليون شخص في غزة يواجهون انعدام الأمن ...
- الأمم المتحدة: أكثر من مليون غزي يواجهون انعدام الأمن الغذائ ...
- زاخاروفا تضيف سؤالا خامسا على أسئلة أربعة وضعتها برلين شرطا ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - جاسم ألصفار - الانفصاليون وخدعة الاستقواء بالفكر الاشتراكي