أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد بشارة - الإسلام الحركي من السياسة إلى الجهاد الإرهابي: من الإخوان المسلمين إلى داعش















المزيد.....



الإسلام الحركي من السياسة إلى الجهاد الإرهابي: من الإخوان المسلمين إلى داعش


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 5548 - 2017 / 6 / 11 - 02:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



أين تكمن المشكلة، هل هي في الإسلام ونصوصه أم في المسلمين وتعدد اجتهاداتهم وتأويلاتهم لتلك النصوص؟ عندما ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية لم يكن هناك سنة وشيعة ومذاهب وطوائف ومدارس فقهية بل مجرد خلافات سياسية ومنهجية حول الطريقة الأنجع في نشر الإسلام والمحافظة عليه وعلى نقاوته، وهذه الخلافات نشأت حتى في زمن صاحب الرسالة الدينية محمد بن عبد الله، وتفاقمت و تجذرت في زمن الخلفاء الأربعة الذين أعقبوه في الحكم، واستقرت في أيامنا هذه على خمس مدارس فقهية رئيسية، أربعة منها سنية وهي الحنبلية والشافعية والمالكية والحنبلية ، وواحدة شيعية وهي المدرسة الجعفرية نسبة للإمام جعفر الصادق، وكلها ظهرت إبان الخلافتين الأموية والعباسية. أخطر المدارس الفقهية السنية وأكثرها تشدداً وتعصباً وخطورة هي المدرسة الحنبلية التي أفرزت لنا التيار السلفي والأصولي المتقيد بحرفية النصوص الدينية ويرفض ما خلاها بتهمة الهرطقة والزندقة والبدعة والظلال حتى وصل بها الأمر إلى تكفيرها لباقي المدارس والاتجاهات. ومن التيار السلفي ظهرت النزعة الوهابية ودبلوماسيتها التبشيرية وسعيها للهيمنة على الإسلام بالقوة والسلاح والمال. وعلى مدى عقود طويلة جهدت المملكة العربية السعودية إلى نشر هذه العقيدة الدينية المتطرفة التي اتسمت بقراءة صارمة وحرفية للنصوص الإسلامية ، قرآن وحديث وسنة نبوية، ومحاولة فرض قراءتها فقط على العالم الإسلامي بشتى الطرق.
في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي، تحالف أمير نجد محمد إبن سعود مع داعية ديني حنبلي هو محمد إبن عبد الوهاب الذي استمدت منه هذه العقيدة أي المدرسة الوهابية إسمها. الأول كان يطمع في مد نفوذه وهيمنته على كامل أراضي شبه الجزيرة العربية والثاني كان يطمح لإعادة بناء الإسلام السني كما يراه هو وفقاً لرؤيته واجتهاداته، بالعودة إلى الأصول الأولى وسيرة السلف الصالح ورفض المسلمين الآخرين غير السنة وإلصاق تهمة البدعة والخروج على الدين والارتداد بهم بل وحتى وتكفيرهم لأنهم سمحوا بالاجتهاد في تفسير وتأويل القرآن. إن هذا التحالف هو الذي أوجد لنا الاتجاه الوهابي في الإسلام والذي ترعاه وتموله دولة غنية هي المملكة العربية السعودية التي تأسست سنة 1932، لأنه يشكل دستورها وعليه تبنى أسسها المجتمعية والسياسية والدينية من خلال تطبيق الشريعة والحدود الدينية الإسلامية كما وردت في النصوص التأسيسية للإسلام. واجه هذا الاتجاه في البداية مقاومة كبيرة من قبل المجتمعات الإسلامية المعتدلة واتهم بالغلو والانحراف العقائدي وهو يشكل اليوم أحد أهم التحديات أما الإسلام المعاصر يعد انتشاره كما قلنا بالمال ونشر المدارس الدينية التي تدرسه في جميع أنحاء العالم الإسلامي بل وحتى في العالم الخارجي.
لقد وصف مؤسس المملكة هذا الاتجاه العقائدي ، أي الوهابية، بأنه سلفي يتبع خطى السلف الصالح من أصحاب النبي والتابعين . ولقد صرح الأمير فيصل إبن عبد العزيز قبل أن يصبح ملكاً سنة 1964، "بإن نشر الإسلام الوهابي يجب أن يتبوأ مركز السياسة الخارجية للمملكة"، وهو معادي للشيوعية وضد التيار القومي العربي الذي تبناه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وأحزاب قومية مثل حزب البعث وحركة القوميين العرب. وفي هذا السياق طورت مملكة آل سعود سياسة أو بالأحرى صناعة سياسية ثيولوجية – آيديولجية استمدت أسلوبها في القوة الناعمة من الولايات المتحدة الأمريكية وأسلوب دعايتها من التجربة السوفياتية ولقد كشفت وثائق ويكيليس المسربة عن 60000 وثيقة دبلوماسية سعودية بهذا الصدد وأماطت اللثام عن هذا النظام الضبابي. ومن امتداداته تأسيس الرابطة الإسلامية العالمية سنة 1962 كمقابل للجامعة العربية المتشبعة بالأفكار الناصرية حيث اعتبرت الرابطة الإسلامية العالمية بمثابة الذراع الضاربة بيد الرياض، حيث تكفلت هذه الرابطة بفتح المدارس القرآنية المجانية بتمويل سعودي سخي في كل مكان في العالم وكذلك تأسيس المكتبات ونشر الكتب التي تروج للمنهج الوهابي.إلى جانب بناء المساجد في كل مكان في العالم قدر المستطاع والتي تجاوز عددها الخمسة آلاف مسجد خارج المملكة والعالم الإسلامي خلال النصف القرن الثاني من القرن العشرين المنصرم ، مع تزويد تلك المساجد بالأئمة الذين تدفع رواتبهم وتكاليف معيشتهم المملكة العربية السعودية بغية الحفاظ على الهوية الإسلامية لدى الأقليات الإسلامية التي تعيش داخل المجتمعات الغربية وتوفر لها المدارس القرآنية والمحاكم الدينية لمواجهة المؤسسات العلمانية التي تدير شؤون المجتمعات الغربية .وهناك مؤسسات شبابية ونوادي شبابية إسلامية تعمل تحت إشراف رابطة العالم الإسلامي في الدول الغربية بينما تقوم جامعة المدينة المنورة بتخريج أكثر من 25000 طالب أجنبي من 160 جنسية مختلفة، تمتعوا بمنح دراسية سعودية، إلى جانب العديد من الجمعيات الخيرية غير الحكومية التي تقدم المساعدات للأقليات الإسلامية في الخارج، وهناك مراكز ثقافية دينية كمركز الملك عبد الله للحوار الثقافي والديني في فينا في النمسا. ولقد أضفى الملك السعودي على نفسه لقباً دينياً شبه مقدس هو " خادم الحرمين الشريفين ، أي مكة والمدينة" لإضفاء الشرعية على نفسه ودوره ونشاطه وأنفق بسخاء على سياسته التبشرية بمعدل 7 مليار دولار سنوياً وهو مبلغ يتفوق على مبلغ الدعاية السوفياتية الذي لم يتجاوز المليارين دولار في السنة. ولقد حاربت المملكة العربية السعودية الأفكار الناصرية والقومية والاشتراكية الشيوعية والعلمانية وعملت من خلال مشتريات السلاح المهولة أن تضع نفسها في مصاف القوى الإقليمية الكبرى كإيران وتركيا. ولقد تعرض النظام السعودي إلى هزة قوية وصدمة عميقة عام 1979 جراء انتصار الثورة الخمينية في إيران وخوفها من انتشار مباديء الثورة الإسلامية الإيرانية مما سيتيح للشيعة المطالبة بقيادة العالم الإسلامي السياسية المناهضة للإمبريالية كما ادعت في بداياتها وأعلنت عن عزمها تصدير الثورة إلى بلدان العالم الإسلامي كافة، والاعتراض على شرعية آل سعود في إدارة الأماكن المقدسة في الإسلام .
لابد من عودة قليلاً إلى الوراء ، إلى السنوات الأولى في عشرينات القرن الماضي عندما بادر معلم مصري هو حسن البنا بتأسيس حركة الإخوان المسلمين ذات البرنامج السياسي الطموح في تأسيس الدولة الإسلامية وإعادة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها وأسلمة المجتمع من جديد. ولقد عارضت تلك الحركة الاستعمار البريطاني على مصر كما عارضت سلطة جمال عبد الناصر في بداية خمسينات القرن المنصرم وحاولت اغتياله فرد عليها عبد الناصر بقوة وبطش بمؤسسي الحركة وبقياداتها وأعدم حسن البنا وسيد قطب فهرب أغلبهم إلى السعودية وأوروبا لمواصلة نشاطهم المعارض للنظام الناصري. وفي العراق استلهم بعض الشباب الإسلامي المتدين منهج الإخوان المسلمين وبرنامجهم السياسي الديني وأسسوا الطبعة الشيعية تحت إسم حزب الدعوة الإسلامية في نهاية خمسينات وبداية ستينات القرن العشرين، برعاية وإشراف المرجع الديني الشيعي محمد باقر الصدر الذي أعدمه صدام حسين في أوائل ثمانينات القرن الماضي بتهمة التآمر على النظام البعثي والتعاون مع النظام الإسلامي الخميني في إيران. واستمر حزب الدعوة في معارضته لنظام البعث في العراق واتبع أسلوب الكفاح المسلح لكنه فشل وهربت قياداته إلى الخارج لا سيما إلى إيران وسوريا وأوروبا. في سنة 1979 غزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان فاقتنصت السعودي ومعها أمريكا هذه الفرصة لتشكيل المقاومة الإسلامية المسلحة من الأفغان أنفسهم ومن المتطوعين المسلمين والعرب في تنظيم صار يعرف فيما بعد بتنظيم القاعدة بقيادة السعودي من أصل يمني هو أسامة بن لادن وتمويل سعودي وتسليح وتدريب أمريكي، حيث تدرب المقاتلون المسلمون على أساليب حرب العصابات وحرب المدن والإرهاب والعنف وكانوا يوصفون بالمجاهدين من قبل العربية السعودية ومقاتلين من أجل الحرية من قبل الغرب. وبعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان ونشوب حرب أهلية بين الجماعات الجهادية الأفغانية المسلحة للاستحواذ على السلطة تمكن الطالبان بمساعدة أمريكية ودعم وتدريب وتسليح من قبل المخابرات الباكستانية من السيطرة على الحكم في أفغانستان وبسط حمايتهم على تنظيم القاعدة الإرهابي الدولي الذي انقلب على السعودية وأمريكا وقام تنظيم اعتداءات وهجمات الحادي عشر من أيلول سنة 2001 على برجي التجارة العالمية في نيويورك. هاجمت الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان سنة 2002 وأطاحت حكم طالبان فهربت القاعدة إلى منطقة العشائر وزير ستان الواقعة على الحدود الأفغانية الباكستانية وصارت تعمل تحت الأرض وممارسة النشاط السري. ثم قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق سنة 2003. وأتاحت الفرصة للإرهابيين في القاعدة وأمثالها للتسلل إلى العراق بحجة مقارعة الاحتلال الأمريكي وقيادة نشاط المقاومة المسلحة بقيادة المجرم المتوحش سيء الصيت أبو مصعب الزرقاوي الذي قتل في غارة أمريكية في العراق وخلفه أبو حمزة المهاجر ومن ثم أبو عمر البغدادي وبعد مقتل الأميرين السابقين تبوأ مركز القيادة أبو بكر البغدادي الذي أعلن نفسه خليفة للمسلمين وتأسيس الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروفة باسم " داعش" بعد سيطرة تنظيمه الإرهابي على أجزاء كبير من الأراضي العراقية والسورية وعلى الأخص بعد احتلاله لمدينتي الموصل في شمال العراق والرقة في سوريا وإزالة الحدود بين البلدين ودخوله في صراع مكشوف وعلني على النفوذ والزعامة مع تنظيم القاعدة بزعامة المصري أيمن الظواهري الذي خلف بن لادن بعد اغتياله على يد قوات الكوماندوس الأمريكية في الباكستان، لكن وهج القاعدة قد خفت نسبياً وتعايشت الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية مع الدكتاتوريات الحاكمة وخضعت لسطوتها وقمعها فتحولت إلى العمل السري بين الناس في مجال تقديم الرعاية و الخدمات والمساعدات للمحتاجين وإلقاء المواعظ والدروس في المساجد والجوامع ومارست التقية مبتعدة ظاهرياً عن النشاط السياسي طيلة عقدي الثمانينات والتسعينات مع نشوء جماعات إسلاموية متطرفة في مصر والجزائر خاضت فيها مواجهات دامية فاغتالت الرئيس أنور السادات في مصر وأشعلت أتون حرب أهلية دموية في الجزائر، وسيطرت على الحكم في أفغانستان وبات لها حضور مؤثر وقوي في الباكستان وتفجرت حروب استنزافية مدمرة بين العراق وإيران وبين العراق وقوات التحالف الدولي لتحرير الكويت التي غزاها صدام حسين في بداية تسعينات القرن الماضي. على هذه الخلفية قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزو أفغانستان وبعده بقليل العراق وأتاحت الفرصة المواتية من جديد للقوى الإسلاموية المتطرفة والإرهابية أن تنشط بذريعة مقاومة الاحتلال الأمريكي إلى أن حدث ما يعرف بالربيع العربي وصار المواطن العربي والمسلم مخيراً بين الدكتاتوريات أو الفوضى أو هيمنة القوى الإسلاموية المتوحشة كالقاعدة والنصرة وداعش وبوكوحرام وأقمي وحركة الشباب الصومالي وباقي الجماعات الإسلامية المسلحة، وانتشر مفهوم الجهاد الحركي الإرهابي كالطاعون في العالمين العربية والإسلامي منذ عام 2010 ولغاية اليوم. وانتهت أغلب ثورات الربيع العربي السلمية العلمانية في بداياتها إلى صراعات مسلحة تخريبية مدمرة وحروب أهلية لا أول لها ولا آخر حصدت كل شيء وتمخضت عن عودة الدكتاتوريات الحاكمة بأشكال وأسماء أخرى.
كانت شرارة التفجير للربيع العربي من تونس التي أدت إلى هروب الدكتاتور الحاكم زين العابدين بن علي من تونس إلى المملكة العربية السعودية وانتعاش حركة النهضة الإسلامية التونسية بزعامة راشد الغنوشي التي حلمت لبرهة في فرض النظام الإسلامي وتطبيق الشريعة لكن الشعب التونسي استطاع بإصرار وضراوة مقاومة هذا التوجه وتقليص نفوذ حركة النهضة وجعلها مجرد شريك عادي مع باقي الفعاليات السياسية بينما غادرت أغلب الكوادر الإسلاموية المقاتلة المتطرفة للمشاركة في حروب العراق وسوريا وليبيا ومصر. وتمكنت التظاهرات المليونية في الربيع العربي المصري من إطاحة الرئيس حسني مبارك الذي صار يسمى الرئيس المخلوع وتقديمه للمحاكمة، فيما أنهت قوات المعارضة الليبية ، على نحو دموي ووحشي حياة الدكتاتور الليبي معمر القذافي. قدم الغرب يد المعونة بدرجات متفاوتة للحراك العربي السلمي فيما قامت كل من العربية السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة بتقديم المساعدات المالية السخية والأسلحة للمتمردين ، بينما خاضت فرنسا وبريطانيا وإلى حد ما الولايات المتحدة الأمريكية، التي حركت أسطولها السادس لهذا الغرض مواجهات مسلحة وشنت حرباً حقيقية ضد نظام القذافي وقصفت قواته بالطائرات والصواريخ وشلت حركتها مما أدى إلى سقوطه المريع . ساد التفاؤل في الغرب لأول وهلة من هذا الحراك الجماهيري العربي وتخيلت السلطات الغربية أن الشرق الأوسط بات على أبواب حياة ديموقراطية حقيقية. واعتقدوا أن الإرهاب الإسلاموي الذي انتعش في العقدين الأخيرين من القرن الماضي لم يعد سوى قش على نار حيث ستكتسحه التوجهات العلمانية المدنية التي نظمت التظاهرات الاحتجاجية ، لكن الواقع الميداني أجهض هذه التمنيات الوردية وانزلق الشارع العربي بقيادة الإسلام المتشدد والمتطرف نحو العنف المنظم واليأس والفوضى العارمة حيث قادت هذه النزعة العدمية إلى طرق مسدودة ولم يعد هناك أي مخرج أمام الناس سوى القبول بالأمر الواقع أو الموت. فمصر عادت للدكتاتورية العسكرية بعد تجربة مرة قصيرة مع حكم الإخوان المسلمين برئاسة محمد مرسي كرئيس جمهورية منتخب بديل لحسني مبارك وغرقت ليبيا في الفوضى والتفكك وغياب الدولة وسيطرت الميليشيات الإسلاموية المتطرفة على مناطق ومدن كاملة بينما تعيش اليمن إرهاصات الربيع العربي وتعيش تحت نيران حرب أهلية بين الحوثيين وبقايا نظام عبد ربه وحرب خارجية يشنها عليها التحالف العربي بقيادة العربية السعودية. أما في العراق فقد أطاحت القوات الأمريكية بنظام صدام حسين الدموي وحلت محله دكتاتورية أسلاموية مقنعة يشترك فيها الشيعة والسنة رافعي لواء حكم الإسلام السياسي وعزل العلمانيين وفتح المجال كاملاً أمام الأكراد ليعيشوا تجربتهم في الحكم الذاتي الحقيقي كخطوة أولى نحو الاستقلال الناجز. أثبتت تجارب التاريخ أن الإسلام السياسي وكذلك أية قوى دينية سياسية أخرى تصل إلى الحكم ستحاول بكل الطرق فرض أسلوبها ونمطها حياتها الأخلاقي والتربوي ووالتعليمي ونموذجها في الحكم بالقوة كما شاهدنا ذلك في إيران ومصر وتركيا والعراق. ففي مصر قادت الانتخابات التشريعية الأولى في نهاية 2011 وبداية 2012 إلى نتائج مخيبة للآمال. فحركة الإخوان المسلمين الأصولية المتشددة فازت بتلك الانتخابات عن طريق الحزب السياسي الذي أسسته على عجل لهذه المناسبة وهو حزب الحرية والعدالة الذي حصل على 38% وحاز على 49% من مقاعد البرلمان على رأس دولة يصل تعداد سكانها إلى أكثر من 80 مليون نسمة وكان هذا الحدث بمثابة قنبلة مدوية في رأس الرأي العام العالمي والمسرح الدولي حيث وصل الربيع العربي في مصر إلى حكم إسلامي متشدد يريد تطبيق الشريعة . وكان أول إجراء تعسفي قام به محمد مرسي والإخوان المسلمون في مصر في 25 آذار مارس 2012 هو تعيين 100 شخص ، 50 من البرلمانيين الموالين للحزب الحاكم الحرية والعدالة و 50 شخصية من خارج البرلمان من المتعاطفين مع الحركة من أجل " الجمعية التأسيسية ، وكانت النتيجة هي أن أكثر من ثلاثة أرباعهم من الإسلاميين فمن بين الشخصيات الخارجية غير البرلمانية شيخ الأزهر ومفتي مصر الكبير ما أدى إلى انسحاب العلمانيين لأنهم لا يرغبون في لعب أدوار سياسية ثانوية كالكومبارس . وفي حزيران 2012 فاز مرشح الإخوان محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية بنسبة 51.73% ضد المنافس الخاسر الجنرال السابق في القوة الجوية وآخر رئيس وزراء لحسني مبارك وهو أحمد شفيق، وهكذا تركزت كل السلطات بين يدي الإسلاميين الذين تقودهم حركة الإخوان المسلمين أمام حالة من الذهول والإحباط والخيبة التي أصابت العلمانيين الذين فجروا الثورة الشعبية ضد مبارك. وما أن وصل محمد مرسي إلى سدة الحكم كرئيس لمصر وخرج من الظل وكان شبه نكرة غير معروف ومودع في السجن ليتبوأ أول وأخطر منصب في مصر وبدأ بأسلمة الحلقات المحيطة به وحلقات السلطة ومؤسساتها الواحدة تلو الأخرى، ومنح نفسه سلطات واسعة فقام بإقالة رئيس المجلس العسكري المارشال محمد حسين طنطاوي من منصبه كرئيس للمجلس العسكري الذي يحل محل رئيس الجمهورية في حالة غيابه أو وجوده خارج البلد وعين بدلاً منه المارشال عبد الفتاح السيسي لأنه تصور أنه من المتعاطفين مع التيار الإسلامي والمؤيد لقضية الإسلاميين في مصر. وعند حل البرلمان بذريعة عدم شرعيته، استغل مرسي الفرصة ليمنح لنفسه سلطات تشريعية ، واستمر بإصدار العديد من القرارات للحد من الحريات وأسلمة الدولة متحدياً مشاعر عدد كبير من المواطنين لا سيما المسيحيين الأقباط. وفي 22 نوفمبر 2012 تعدى مرسي الحمر وخطا خطوة كبيرة أخرى في سعيه للسلطة الشمولية فأصدر قراراً دستورياً يعطيه حق السلطة التشريعية ومنع المحاكم والقضاء من الاعتراض على قراراته وحل الجمعية التأسيسية وبعد أن حصن موقعه طالب في نهاية نوفمبر بالتصويت على الدستور الجديد الذي أعده هو وحزبه الإسلامي مفصلاً عليهم الأمر الذي استفز المجتمع المدني المصري وانطلقت ضده تظاهرات مليونية كبيرة تطالبه بالرحيل وتنادي بإطاحته ورحيله. ولقطع الطريق على التظاهرات المطالبة بإقالته من منصبه أخضع الدستور للاستفتاء وضمن التصويت عليه بالإيجاب في 15 ديسمبر. وبفضل هذا الدستور المفصل على قياسه بات بإمكان مرسي أن يحصر كافة السلطات بين يديه ويفرض تطبيق الشريعة الإسلامية والحدود الإسلامية جاراً خلفه المجتمع المصري برمته ، بمسيحييه وعلمانييه والمعارضين للحكم الإسلامي، نحو أسلمة المؤسسات وصادر الديموقراطية التي أوصلته للسلطة بطريقة شرعية لصالح دكتاتورية إسلامية مقيتة ولم يعد هناك من هو قادر على منعه أو إيقافه ولا حتى التظاهرات المليونية المنددة به وبحكمه ولا الأوساط السياسية المعارضة ولا المثقفين ولا التشكيلات السياسية المتبنية للنهج العلماني، ولم يبق سوى الجيش كآخر ملاذ للخلاص من مرسي وحكمه الإسلامي الدكتاتوري الجائر.
كان الجيش المصري دائماً حارساً للعلمانية كما كان الجيش التركي قبل هيمنة حزب رجب آردوغان الإسلامي ـــ النسخة التركية من الإخوان المسلمين ـــ على السلطة في البلاد وكسره لسطوة الجيش وسلطته السياسية عير التطهير والاعتقالات والإقالات القسرية بتواطؤ من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. لذلك لم يندهش أحد لقيام الجيش المصري بوضع حد لهذا الاستفراد بالسلطة من قبل التيار الإسلامي السياسي في مصر وكبح مساعي أسلمة المجتمع المصري بالقوة والترهيب التي بدأ فيها محمد مرسي وحزبه الحاكم وفي 3 تموز 2013 حسم المارشال السيسي الأمر وقام باعتقال رئيس الجمهورية الإسلامي محمد مرسي مصرحاً أنه قام بذلك ملبياً مطالب وإرادة الشعب المصري التي عبر عنها عبر تظاهراته المليونية التي تجاوزت الــ 30 مليون متظاهر. وقد سبق للجيش الجزائري أن قام بحركة مماثلة في تسعينات القرن الماضي عندما فاز الإسلاميون في جبهة الإنقاذ الإسلامية بالفوز في الانتخابات التشريعية فانقلب عليهم الجيش الجزائري وأوقف العلمية الدستورية وأعلن حالة الطوارئ في البلاد واستعاد السلطة من أيدي الإسلاميين مما قاد البلد إلى الغرق في حرب أهلية دموية دامت عشر سنوات قادتها الجماعة الإسلامية المسلحة GIA الموالية لتنظيم القاعدة الإرهابي الدولي. وفي 25 ديسمبر وضع تنظيم الإخوان المسلمين في مصر على لائحة القوى الخارجة على القانون والمحظورة كما دعا السيسي إلى انتخابات جديدة وإلى صياغة دستور جديدة لمصر أيدته خمسون شخصية مصرية من الوجهاء والشخصيات المعروفة والمحترمة وذات المكانة الرفيعة في المجتمع المصري وحصل السيسي على موافقة الشعب المصري عبر استفتاء أجراه على الدستور الجديد نال موافقة 98% من الأصوات وذلك في 14 و 15 ديسمبر 2014. أعطى الدستور الجديد سلطات واسعة للجيش كمؤسسة مستقلة بميزانية واسعة ومستقلة وأعاد للمؤسسة العسكرية هيبتها وسطوتها و سلطتها التي سلبها إياها محمد مرسي . كما أزيل من الدستور فقرة أن الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع وإن القانون الإسلامي وتطبيق الشريعة هو الدستور الوحيد الذي يجب اتباعه واستعاد تعبير أن الشعب هو مصدر السلطات وإن مصر جزء من العالم الإسلامي فحسب لكنه لم يستطع إلغاء جملة أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي. كما قلل من سلطة وصلاحيات الأزهر . وكذلك ألغى الفقرة 44 من دستور 2012 الإسلاموي الخاصة بمعاقبة من يمس الأنبياء والرسل ، وأعاد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة الذي ألغاه محمد مرسي والتحرر من سطوة الشريعة واتباع القوانين الوضعية العلمانية المطبقة في الدول المتحضرة وأهم فقرة هي منع تشكيل الأحزاب السياسية على أساس ديني أو طائفي .
كانت دويلة قطر وما زالت هي الداعم الرئيسي والممول لتنظيم الإخوان المسلمين المصري والتنظيم الدولي أيضاً بينما كانت دولة الإمارات العربية المتحدة تخشى هذا التنظيم وتعتبره تنظيماً إرهابياً يشكل خطراً عليها وعلى النظام في المملكة العربية السعودية، وهذا ما يفسر الدعم غير المحدود الذي قدمته قطر لتنظيم الإخوان المسلمين في مصر بتأثير من أحد قادته المقيم في قطر وهو الشيخ يوسف القرضاوي، و في سورية عند تمرده على السلطة الحاكمة لبشار الأسد ومدته بالمال والسلاح . من هناك يمكن تفسير توجه كل من الإمارات والعربية السعودية إلى دعم وتمويل المارشال السيسي والاعتراف بحركته التصحيحية ضد تنظيم الإخوان المسلمين و ما قدمته للاقتصاد المصري والميزانية المصرية من أموال وصلت إلى أكثر من 20 مليار دولار لتعويض النقص الخطير في إيرادات السياحة التي تعتمد عليها مصر كلياً بسبب أحداث الربيع العربي. وهاهي مصر تلعب اليوم دوراً كبيراً في مجال محاربة الإرهاب الإسلاموي وتتعرض في صحراء سيناء وفي شوارع ومدن مصر والعاصمة القاهرة إلى هجمات إرهابية وتفجيرات تتصدى لها قوى الأمن والجيش بقوة وصرامة .
التجربة الليبية المرة:
تصرف الغرب بغباء وعدم مسؤولية في المسألة الليبية ولم يستفيدوا من دروس التجربة العراقية المرة التي أعقبت غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003 وما آلت إليه الأمور من فوضى وتفشي العنف والصراعات والاستقطابات الطائفية والمذهبية والدينية والإثنية وتفاقم النشاطات الإرهابية وسيطرة الإسلام السياسي الشيعي والسني على مفاصل السلطتين التشريعية والتنفيذية.
ففي 13 شباط من عام 2011 بدأت شرارة الربيع الليبي في بنغازي ثاني مدن ليبيا بعد طرابلس العاصمة وهي المهد التاريخي للمعارضة الإسلامية لنظام العقيد معمر القذافي. ثم انتشرت التمردات ضد نظام القذافي ووصلت إلى طرابلس في 20 شباط من نفس العام. وفي 26 شباط أعلن مصطفى عبد الجليل وزير العدل الليبي السابق ، الذي التحق بالمتمردين ، عن تشكيل المجلس الوطني الانتقالي الليبي الذي اعترفت به فرنسا فوراً باعتباره الممثل الشرعي للشعب الليبي بديلاً عن نظام القذافي. في حين كان القذافي مايزال يمسك بالسلطة ولديه جيش مدجج بالسلاح وموالي له لذلك سرعان ما شن هجوماً مضاداً على قوافل المتمردين المسلحين في سياراتهم رباعية الدفع ودمرها بطيرانه ودباباته ومدفعيته الثقيلة وصار يصرخ ويهد كالمجنون متوعداً بسحق وحرق المعارضين ومدينة بنغازي التي يتحصنون بها بيتاً بيتاً وزقاقاً زقاقاً – زنقة زنقة كما كان يقول- وكان على وشك ارتكاب مجزرة بشرية ضد شعبه وسكان بنغازي حسب إدعاء فرنسا. وكان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي قد أعرب عن موقفه لحماية المدنيين الليبيين في بنغازي بتاثير من الفيلسوف الفرنسي اليهودي برنارد هنري ليفي الذي طالبه بالتدخل السريع قبل فوات الأوان وكان ليفي مجتمعاً بأعضاء المجلس الودطني الانتقالي الليبي في بنغازي فسارع الرئيس الفرنسي في 17 آذار بتقديم طلب لمجلس الأمن في الأمم المتحدة لإصدار قرار بهذا الشأن تحت البند السابع يسمح له بالتدخل العسكري في ليبيا لإنقاذ المدنيين من مذبحة مؤكدة وفرض منطقة حظر ضد الطيران الليبي وهكذا حصل القرار رقم 1973 على 10 أصوات مؤيدة وامتناع 5 عن التصويت لا معه ولا ضده ولم تستخدم روسيا و لا الصين حق الفيتو ضد هذا القرار. وفي 19 آذار شنت القوات الجوية الفرنسية والبريطانية هجمات على القوات الليبية ومقر القيادة العسكرية الليبية فيما أمن الأسطول السادس الأمريكي عملية تشويش الكترونية على الاتصالات الليبية وجعلها عمياء صماء مما حرم وسائل الدفاع الجوي الليبية من الرد وتعطلت رداراتها كما وضعت إيطاليا مطاراتها وقواعدها تحت تصرف الحلفاء الغربيين الذي سيطروا على السماء الليبية تماماً وشلوا تحركات القطعات العسكرية البرية الليبية واستمر القتال لثمانية أشهر تتوج في إسقاط نظام العقيد معمر القذافي في 20 آب 2011 وحرق طرابلس العاصمة ومقرات السلطة والقصور الرئاسية ، وفي 20 أكتوبر 2011 وقع القذافي في قبضة الثوار الإسلامويين الذين مزقوه إرباً وقتلوه بطريقة بشعة ومتوحشة أمام كاميرات الهواة والمهاجمين مما يعكس حالة من الانتقام العنيف والدموي ضد شخص القذافي وعائلته الذين قتل بعضهم تحت القصف وألقي القبض على البعض الآخر بينما تمكنت ابنته وأحد أبنائه من الهرب إلى خارج ليبيا، ويكمن تفسير هذا التحامل الفرنسي على القذافي بمحاولة طمس الأسرار التي يعرفها القذافي وحاشيته المقربة ومنها تمويله للحملة الانتاخابية لساركوزي بخمسين مليون يورو وهذا مخالف للقوانين الفرنسية . وفي 23 أكتوبر 2011 أعلن عبد الجليل من بنغازي رسمياً تحرير ليبيا بعد حرب أهلية استمرت ثمانية أشهر تلقى المتمردون خلالها كل الدعم والتأييد السياسي والعسكري والمالي من جانب فرنسا وقطر. وفي نفس اليوم تبين للعالم بجلاء الوجه الحقيقي للتمرد العسكري المسلح حيث أعلن المتمردون أن البلد سوف يدار وفقاً لمبادئ الإسلام والشريعة الإسلامية وأن تكون الشريعة هي القانون الذي يشكل أساس ومصدر التشريعات القانونية في البلاد مما أثار بعض القلق في أوساط الاتحاد الأوربي القيادية وأعيد اختيار عبد الجليل على رأس المجلس الوطني الانتقالي في 5 آذار 2012. ومن هناك بدأت الانقسامات والتشققات تحدث وأعلنت مدينة سيرت استقلالها الذاتي واختارت أحمد السنوسي ، وهو أحد القيادات المعتقلة في سجون القذافي لمدة 31 سنة، على رأس الإقليم رغم احتجاجات واعتراضات المجلس الوطني الانتقالي. كما تم تنظيم أول انتخابات في ليبيا المحررة من حكم القذافي في 7 تموز 2012لاختيار 200 برلماني في المؤتمر الوطني العام الذي من المفترض أن يحل محل المجلس الوطني الانتقالي. 80 منهم أعلنوا أنهم أعضاء في أحزاب تأسست على عجل جراء الربيع الليبي و 120 تم اختيارهم بصفة مستقلين وكان على رأس الفائزين تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل وحصد 39 مقعدا من أصل 80 حجزت للأحزاب السياسية وبعده حزب العدالة والبناء الإسلامي الذي حصل على 17 مقعد وفي الموقع الثالث حزب الجبهة الوطنية الليبرالي الذي حصل على 3 مقاعد بينما حصل حزب الوطن الإسلامي على مقعدين وحزب الوسط الوطني حصل على مقعدين وحزب وادي الحياه للديموقراطية والتنمية حصل على مقعدين ومقعد واحد لكل من الخمسة عشر حزباً الباقية . تفاءل الغربيون بهذه النتائج بأغلبية الليبراليين لكنهم كانوا ضحايا لوهم بصري وجهل بالواقع الليبي لأن مجموع ما حصل عليه هؤلاء هو 46 من مجموع 80 بينما ذهبت المقاعد الــ 120 الباقية للإسلاميين والذين نضم إليهم عدد من الانتهازيين من النواب الليبراليين وأعلنوا أسلاميتهم وتأييدهم للمنهج الإسلامي.
وهكذا بدأ الإسلاميون يرهبون ويهددون المعتدلين بفضل كونهم يحملون السلاح ويملكون ميليشيات مسلحة مقاتلة على الأرض. انسحب الكثير من السياسيين المدنيين المعتدلين أو الليبراليين من الحياة السياسية أو هاجروا خوفاً على حياتهم ، وفي 25 حزيران 2014 أجريت انتخابات تشريعية لم يشارك في التصويت عليها سوى أقل من 20% مما حرمها من الشرعية ودمغها بالضعف ولذلك انتقلت الحكومة إلى مدينة طبرق التي تبعد 1600 كلم إلى الغرب من طرابلس بالقرب من الحدود المصرية الليبية وواجهت الكثير من الاعتراضات وبالتالي انقسمت ليبيا وصار لديها برلمانيين وحكومتين ولا يوجد في ليبيا دستور ولا جيش وطني عدا جماعة الجنرال خليفة حفتر الذي استعاد جزء من القوات الجوية القذافية ولديه بضعة طائرات مقاتلة وبعض الأسلحة الثقيلة التي استعادها من القوات النظامية المفتتة فهو جنرال سابق متقاعد في جيش القذافي وقد التحق به بعض الضباط السابقين في الجيش النظامي. فموت القذافي ترك فراغاً سياسياً خطيراً في البلاد فهو لم يسن دستوراً ولم يسمح بتأسيس الأحزاب السياسية بل ولا حتى حزب وحيد للسلطة تابع له و لا نقابات و لا مؤسسات مدنية موالية، وفي ظل هذه الفوضى احتلت الميليشيات الإسلامية الأرض وصارت هي السلطة الحقيقية ميدانياً في ظل صراعات واضطرابات عشائرية ومواجهات مسلحة بين القبائل وبالتالي فإن ليبيا مرشحة للتقسيم والتفتت. فهناك تنظيم فجر ليبيا وكتائب مصراطة وألوية زنتان وكتائب بنغازي وأنصار الشريعة وهناك بالطبع القاعدة وداعش في درنة التي انتعشت في ظل ضعف وغياب الدولة المركزية الشرعية . وكلها تتصارع ميدانياً بقوة السلاح من أجل النفوذ والمصالح. الذي أوصل داعش هو المجلس الاستشاري للشباب الإسلامي الذي تحول إلى مجلس شورى شباب الإسلام الذي تأسس سنة 2014 واحتل درنة وأعقب الإمارة الإسلامية التابعة للقاعدة التي تعرضت لما يشبه الإبادة . وأعلنت مبايعتها لدولة الخلافة بقيادة أبو بكر البغدادي وصارت تعيش على نفس نمط الحياة الذي فرضته الدولة الإسلامية داعش في الرقة والموصل. وهناك مليشيات إثنية تمثل أقليات أهملها القذافي وقمعها مثل البربر والطوارق والتوبوس الزنوج الرحل في المنطقة الصحراوية الخ..
فإطاحة القذافي كانت شبه مستحيلة بدون الدعم والمشاركة الغربية الفعالة والتمويل القطري وقد خلف سقوط نظام القذافي الخراب والفوضى والحرب الأهلية وهيمنة الميليشيات الإسلاموية العنيفة والمتشددة وغدت مصدراً لتفريخ وشحن الإرهابيين الإسلامويين الذي يسميهم البعض بالجهاديين الذين تسللوا إلى أفريقيا في مالي والنيجر ونيجيريا والساحل والصحراء الجنوبية الأفريقية ومصر وتونس والجزائر. كما انتعشت في هذه الأجواء تجارة تهريب المهاجرين غير الشرعيين من السواحل الليبية نحو أوروبا باتجاه السواحل الإيطالية القريبة كمدخل للأراضي الأوروبية .
الاستثناء التونسي:
في 23 نوفمبر 2014 تم اختيار مرشح حزب نداء تونس بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية قايد السبسي البالغ من العمر 87 عاماً، وهو وزير سابق في حكومات بورقيبة وبن علي، رئيساً للجمهورية التونسية خلفاً للرئيس المؤقت محمد منصف المرزوقي الذي كان يحظى بتأييد ودعم التيار الإسلامي المعتدل في تونس وكذلك حزب النهضة بقيادة راشد الغنوشي وهو القرين لتنظيم الإخوان المسلمين، لأن هذا الأخير قرر عدم تقديم مرشح من بين صفوفه للانتخابات الرئاسية. وأمام الرئيس الجديد تحديات كثيرة فمعدل البطالة بلغ 15% من مجموع السكان وتفشي الجريمة وانعدام الأمن وانهيار السياحة المصدر الأول لميزانية البلاد فالبلد فقير و لا يمتلك غاز أو بترول واقتصاده مهزوز جراء ثورة الياسمين في عام 2011 التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، وكانت الشرارة التي أطلقت ما يعرف بالربيع العربي. تتعرض تونس لهجمات من جانب التيار الجهادي الإرهابي العنيف ، وهناك الآلاف من التونسيين الشباب المتطوعين في المنظمات الإرهابية كالقاعدة وداعش، يقاتلون الآن خارج تونس في العراق وسوريا وليبيا ومصر، وقد يعود من يتبقى منهم على قيد الحياة ليعيث في البلاد العنف والإرهاب، و لا ننسى أن حزب النهضة الإسلامي التونسي هو الذي فاز بأغلبية مقاعد البرلمان الــ 217 في انتخابات الجمعية التأسيسية في 23 أكتوبر 2011 مما أثار الرعب في نفوس العلمانيين التونسيين حيث أصبح سكرتير عام حزب النهضة حمادي جبالي رئيساً للوزراء وشكل حكومة وفاق وطني أشرك فيها حزبين علمانيين هما، المؤتمر من أجل الجمهورية برئاسة المنصف المرزوقي الذي أصبح رئيساً مؤقتاً أو إنتقالياً لتونس وقد تحالف مرشحوا حزب النهضة الإسلامي مع السلفيين بغية صياغة وفرض دستور ينص على تطبيق الشريعة الإسلامية حرفياً وكان السلفيون يرهبون ويهددون المثقفين والفنانين وأساتذة الجامعات العلمانيين لأنهم كفار وتجار ومستهلكي الكحول ومسؤولين عن كازيناوات القمار والملاهي والخلاعة والعلب الليلية والبارات والنوادي الخليعة ودور العرض الفنية ، حسب مفردات هذا التيار المتشدد في الإسلام بمرأى ومسمع من حكومة حزب النهضة الإسلامي الذي يوصف بالمعتدل والذي أطلق سراح كافة المعتقلين الإسلاميين الذي سجنهم نظام بن علي، ووصف المتطرفين بــ" أنهم أولادنا " على حد تعبير راشد الغنوشي. ولم تتدخل الدولة لمنع هجوم نفذه الجهاديون الإرهابيون ضد السفارة الأمريكية في تونس في حين كان وزير الداخلية على علم قبل يوم من تنفيذ هذه العملية وكان التواطؤ بين النهضة والسلفيين في الشارع التونسي ملحوظاً وجلياً ، وقد عارض الاتحاد العام للشغيلة التونسية ، أي نقابة العمال التونسية القوية هذا التوجه الإسلامي للحكومة الإسلامية التونسية وحدثت صدامات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة التونسية وتوالت الإضرابات والاعتصامات، لكن التجربة المصرية المرة تجاه الإخوان المسلمين وسيطرت الجيش المصري على مقدرات البلاد واستلامه السلطة بالقوة من الإخوان المسلمين، أخاف حزب النهضة التونسي الذي اعتبر ذلك بمثابة درس يجب أن يتعلم منه خوفاً من انقلاب المؤسسة العسكرية التونسية العلمانية ضده. فاستبدل حزب النهضة رئيس الوزراء الجبالي بعلي الرياض في حين اغتال السلفيون المتطرفون الزعيم السياسي العلماني محمد البراهيمي في 25 تموز 2013 وقبله الزعيم اليساري بلعيد، حيث تم الاتفاق أخيراً على دستور بتأييد 200 صوت، حيث لم ينص الدستور الجديد على كون الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع، وتمت إعادة تشكيل الوزارة حيث كلف مهدي جمعة وزير الداخلية في وزارة الرياض لتشكيل الحكومة وتم حل التجمع الدستوري الذي كان يقوده زين العابدين بن علي ، وظهرت على الساحة مئات الأحزاب السياسية الصغيرة. لقد انتصرت تونس العلمانية مؤقتاً على تونس الإسلامية وفاز حزب نداء تونس العلماني بــ 85 مقعد على حزب النهضة الإسلامي الذي حصل على 69 مقعد في الانتخابات التشريعية في 26 أكتوبر 2014 لكن الحزب الإسلامي النهضة ما يزال قوياً ويعد ثاني حزب في البلاد ، إلى حين عودة ذراعه المسلحة المنتشرة حالياً في مناطق القتال خارج تونس في العراق وسوريا وليبيا وغيرها بين صفوف الجهاديين الإرهابيين التكفيريين، بغية تغيير موازين القوى في تونس في المستقبل القريب لصالحه. فتونس تجنبت الانزلاق في حرب أهلية كما في سوريا وسيطرة الإخوان المسلمين كما في مصر والغرق في الفوضى وهيمنة المليشيات الإسلاموية المتطرفة على المجتمع كما في ليبيا ، ونجحت في امتحان المرحلة الانتقالية والتحول إلى الديموقراطية وبقاء العلمانيين في السلطة. لكن هناك تونس أخرى إسلامية سلفية وجهادية قتالية عنيفة وإرهابية تتمثل بحركة النهضة الإسلامية والسلفيين والجهاديين المنتمين لداعش والقاعدة وأنصار الشريعة من أمثال بوبكر الحكيم وأبو مقاتل الذي تحدى السلطة في شريط فيديو أرسله من سوريا حيث يقاتل اليوم هناك ونشر في 18 ديسمبر 2014، والذي اعترف فيه باغتيال العلمانيين بلعيد والبراهيمي وتوعد فيه بالعودة وقتل المزيد من العلمانيين الذي وسمهم بالطواغيت، وهؤلاء الإسلاميين يرغبون ويحلمون جميعاً بإقامة الدولة الإسلامية في تونس ودستورها الإسلام والشريعة الإسلامية بحذافيرها ولكن كل بطريقته وأساليبه.
فالتيار السلفي في تونس يريد أخذ السلطة بالقوة والعنف، وقد صرح أبو مقاتل في شريط الفيديو المذكور مهدداً السلطة التونسية المدنية:" لقد واجهناكم بالسلاح في تونس وشهدنا جبنكم في جبل شامبي والجبال الأخرى ، نعم أيها الطواغيت، نعم لقد اغتلنا الكفار بلعيد والبراهيمي وأقسم أننا سنعود لقتل المزيد والكثير منكم وأقسم كذلك أنكم سوف لن تعيشوا بسلام بعد الآن طالماً لا تحكم تونس بحكم الإسلام وتطبق فيها الشريعة الإسلامية كاملة"، وأعلن في هذا الشريط بيعته لأبو بكر البغدادي وانضمامه لدولة الخلافة الإسلامية ، وتتمركز جماعته اليوم في تلال شامبي التي تبعد بضعة كيلومترات عن الحدود الجزائرية حيث تدور مواجهات مسلحة مع الجيش التونسي وقد وضعت السلطات التونسية هذه الجماعة على لائحة التنظيمات الإرهابية الممنوعة والمطلوبة من العدالة لأنها أعلنت واعترفت أنها قريبة ومتحالفة مع تنظيم أقمي الإرهابي ، أي القاعدة في بلاد المغرب العربي، قبل أن تعلن انحيازها إلى الدولة الإسلامية داعش.
الإسلاميون السلفيون والمتطرفون المتشددون والتكفيريون يكرهون ويرفضون السيروة الانتخابية الديموقراطية التي أتت بالعلمانيين إلى الحكم مرة أخرى في تونس، لذلك هاجموا مكاتب التصويت في القيروان أثناء الانتخابات الرئاسية لكنه لم ينجحوا في منع حدوثها. ولقد أشاروا إلى ذلك في شريط الفيديو قائلين:" لا تفرحوا كثيراً بما حققتم عبر ظاهرة الانتخابات ولا تنخدعوا بفوزكم لأن هذه الانتخابات المزعومة سوف تدفعكم لتتواجدوا بين صفوف الكفار وغير المؤمنين". وهم ينوون أخذ السلطة بالقتال والعنف والقوة المسلحة والإرهاب المتصاعد الوتيرة وما يساعدهم على ذلك هو الوضع الاقتصادي المتردي وغلاء المعيشة المتفشي، الذي يساهم في تزايد حلقات الإسلام الراديكالي ومن الممكن أن يلتحق بهم السلفيون لنصرة الشريعة. وإذا قرر القايد السبسي مواجهة خطر الإرهاب الذي يجسده هؤلاء المتطرفون فعليه أن يحاربهم بأسلوبهم لذلك من المتوقع أن يلجأ إلى فرض نظام دكتاتوري يطبق قانون الطوارئ والأحكام العرفية ، ما يعني العودة إلى المربع الأول كما هو الحال مع تجربة مصر السيسي، بيد أن الجيش التونسي ليس بنفس قوة الجيش المصري ولن يكون بوسعه وحده مواجهة شراسة وحيوية المقاتلين الجهاديين الإرهابيين المتمرسين لذلك لن يشكل سداً منيعاً أم زحفهم القادم خاصة وإنهم يتمتعون بتواطؤ السلفيين من الداخل الذي يحلمون بكنس المؤسسات والفعاليات العلمانية ، كما لا يوجد مثيل تونسي للمارشال السيسي ، وهو الأمر الذي يعكس هشاشة وضعف الحكم الديموقراطي العلماني الحالي إلا إذا قرر الغرب التدخل بكل ثقله وقوته العسكرية لمنع تدفق الإرهاببين الجهاديين التوانسة من ساحات القتال الحالية باتجاه تونس.
الإسلام الحركي هو الخطر القادم:
يقول المنظرون المعادون للإسلام في الغرب أنه لو لم يكن هناك إسلام لما وجدت الحركات الإرهابية الجهادية الإسلامية ولولا وجود نصوص في الإسلام قابلة للتأويل لما شكل هؤلاء هذا الخطر المحدق باسم الدين، فالفرق بين الإسلام والإسلاموية ليس في الطبيعة بل في الدرجة. فالإسلام الحركي الجهادي الإرهابي يشكل خطراً ، ليس فقط على العالم الإسلامي ، بل على العالم برمته. وهذا الوحش الذي خلقته المملكة العربية السعودية وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية والمخابرات الباكستانية ، أي الإسلام الجهادي المقاتل ، لمحاربة السوفييت في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي وأولد للعالم طالبان والقاعدة واليوم داعش، ارتد على أسياده ومؤسسيه فضرب أمريكا في الحادي عشر من أيلول 2001 ويهدد العربية السعودية اليوم في وجودها. فالنظام الوهابي يتعرض لمنافسة شديدة من جانب تنظيم الإخوان المسلمين، لا سيما في صيغته الدولية وانتشاره في العديد من الدول الإسلامية كتركيا ومصر والباكستان وفلسطين من خلال منظمة حماس والعراق وسوريا والسعودية نفسها الخ.. من جهة ، ويواجه خطر منظمة الدولة الإسلامية داعش، التي تمارس جاذبية قوية في الوقت الحاضر تجاه الشباب المسلم في كل مكان في العالم إذ صارت داعش اليوم هي التي تمثل وترمز للأمة الإسلامية في نظر العديد من أتباعها والموالين لها. وهي تمتلك اليوم أكثر من 30000 مقاتل منتشرين في أصقاع الكرة الأرضية وتسيطر على أراضي شاسعة في العراق وسورية وتدير مدينتين كبيرتين هما الموصل والرقة أعلنت فوقهما دولة الخلافة . الرياض واعية لهذا التحدي القاتل لكنها لاتسعى لتدمير النزعة الجهادية الإرهابية تماماً المتمثلة بتنظيم القاعدة الإرهابية ودولة الخلافة الإسلامية داعش، بل تنافسهما وتزايد عليهما بتطبيق نفس القواعد القمعية والتعسفية الوحشية ولديها نفس الهدف الذي يجمعهم جميعاً ألا وهو استئصال الفكر الشيعي وتدمير من يحمله ويمثله، أي إيران وشيعة العالم الإسلامي والميليشيات الشيعية كحزب الله والحشد الشعبي وغيرهم، لأنها تعتبر الجهاديين الإرهابيين السنة بمثابة ذراعها المسلحة الضاربة فيما بعد فيما لو اشتدت المواجهة الطائفية بينها وبين إيران. لذلك تركت أمر مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية داعش على عاتق الغرب والقوات العراقية والسورية النظامية وقوات الحشد الشعبي وحزب الله لكي يستنزفوا في حين تركز جهودها على قصف الحوثيين الشيعة في اليمن والشيعة في المنطقة الشرقية في السعودية والشيعة في البحرين من خلال دعمها وحمايتها للأقلية السنية البحرينية الحاكمة وتسعى لتاسيس تحالف سني دولي لمحاربة الإرهاب والذي تعني به ضرب إيران باعتبارها الدولة رقم واحد الراعية للإرهاب الدولي كما وصفتها إدارة دونالد ترامب.
العنف في الإسلام قديم ومتجذر فيه منذ عهد مؤسس الرسالة محمد والتاريخ القديم وكتب التراث مليئة بذكر أحداث العنف والقتل وقطع الرؤوس فخليفة المسلمين عمر مات مقتولا بعملية اغتيال وعثمان قتل بيد المسلمين في الفتنة الكبرى وعلي اغتاله خارجي انشق عن جيشه مع الخوارج وابنه الحسن مات مسموماً بأمر من خليفة المسلمين معاوية ابن ابي سفيان ألد أعداء الإسلام قبل فتح مكة. والحسين بن علي قتله جيش الخليفة الأموي يزيد وقطع رأسه ورؤوس أصحابه وأبنائه وأشقائه وسبيت عائلته ، وتقاتل المسلمون بعنف وشراسة وقتل منهم الآلاف في حرب الجمل التي قادتها عائشة زوجة النبي وطلحة والزبير كما قتل آلاف المسلمين بحرب صفين بين علي ومعاوية وحرب النهروان ، وهوجمت مدينة النبي بالمنجنيق وقتل فيها الكثير من الأنصار والمهاجرين واغتصبت فيها النساء وجرائم الحجاج ابن يوسف الثقفي مشهورة في العراق كذلك جرائم الخلفاء العباسيين الوحشية ضد معارضيهم وصولاً إلى جرائم الخلفاء العثمانيين الذين حكموا العالم الإسلامي بالحديد والدم وكانت التصفيات الدموية تحدث حتى داخل بيوتهم. وكلهم قام بذلك باسم الخلافة الإسلامية وبالتالي فإن داعش لم تأت بجديد ولم تبتكر أمراً لم يكن معروفاً في الإسلام لكل من يبحث في تاريخه وكتب التراث الإسلامي .
إنه ذات الصراع السني الشيعي بصوره المختلفة يتكرر عبر التاريخ ويتجدد ويتفاقم عبر القرون منذ 1500 عام. يترجم اليوم بما يحدث على الساحات العراقية والسورية واليمنية والبحرينية والسعودية واللبنانية والباكستانية والأفغانية والإيرانية وغيرها. فداعش تجاوزت في عنفها ووحشيتها وبطشها ما كانت عليه القاعدة وتفوقت عليها بجرائمها.
عندما احتلت بريطانيا العراق في العقد الأول من القرن الماضي أسست في هذا البلد دولة مدنية حديثة ملكية نصبت على رأسها ملك سني من العائلة الهاشمية في نجد والحجاز هو فيصل الأول ومنحت السلطة للأقلية السنية وتجاهلت الأغلبية الشيعية خاصة بعد حدوث ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني التي قادها الشيعة وشارك فيها عدد من وجهاء السنة. ولكن في 30 حزيران 2004 ، وللمرة الأولى، استلم الشيعة العراقيون من الأمريكيين ، بعد احتلال دام 14 شهراً، السلطة الانتقالية التي كلفت بمهمة تنظيم الانتخابات الديموقراطية وفي 30 يناير كانون الثاني 2005 أجريت أول انتخابات حرة بعد أكثر من أربعة عقود من الحكم الدكتاتوري البعث ، إلا أن العشائر السنية قاطعت تلك الانتخابات التي تمخض عنها فوز كاسح للشيعة . وفي 26 آيار 2006 شكل نوري المالكي أول حكومة وفاق وطني ذات غالبية شيعية بديلاً لحكومة أياد علاوي المؤقتة . وفي أكتوبر 2006 تم التصويت لمشروع دستور فيدرالي للبلاد . وفي 18 ديسمبر 2011 غادرت أغلب القوات الأمريكية الأراضي العراقية وأطلق العنان للصراع المذهبي والطائفي الذي بدأ منذ العام 2005 واشتد في الأعوام 2007 – 2010 بسبب جرائم وهجمات الإرهابي السادي الحاقد أبو مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين ضد الشيعة قبل أن تكون ضد الأمريكيين، والذي خرج من رحم تنظيمه أبو بكر البغدادي زعيم داعش الحالي. فالتوزيع السكاني التقريبي بين مكونات العراق الديموغرافية هو 65% من الشيعة العرب و 15% من السنة العرب و 20% من الكرد بأغلبية سنية وأقلية شيعية هم الكرد الفيليين. ومن هذه الفوضى والفساد والمحاصصة انبثقت هذه الجرثومة القاتلة المسماة تنظيم داعش الإرهابي ودولته الإسلامية دولة الخلافة ، وهي بدورها بذرة من بذور تنظيم القاعدة الإرهابي التكفيري، والتي أعلنها الإرهابي أبو بكر البغدادي، الذي كان سجيناً لدى الأمريكيين في سجن بوكا بين 2004 و 2009 ولا يستبعد أن يكنوا قد جندوه لهذه المهمة القذرة. كان رئيس النظام السابق المقبور صدام حسن قد استقدم أبو مصعب الزرقاوي من أفغانستان ووفر له التسهيلات ومعسكرات التدريب وسهل التحاق المتطوعين العرب والمسلمين في تنظيمه استعداداً لمحاربة الأمريكيين في حرب عصابات وحرب مدن شرسة تحت ذريعة مقاومة الاحتلال الصليبي لبلد مسلم. وفي سنة 2004 أسس أبو مصعب الزرقاوي في المنطقة الغربية من العراق ذات الأغلبية السنية وكذلك داخل بغداد وديالى ومدن عراقية كثيرة حتى ذات الأغلبية الشيعية ولكن تتواجد فيها أقليات سنية كبابل والديوانية وغيرها، ما عرف باسم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الذي يحركه حقد مرضي ودموي ضد الشيعة، وبعد العديد من الجرائم البشعة التي يندى لها الجبين تمردت عليه العشائر السنية العراقية المتحالفة معه ضد الدولة المركزية الشيعية بتشجيع وتمويل وتسليح من قبل الأمريكيين لتشكيل فصائل مسلحة سنية عرفت باسم الصحوات لمحاربة تنظيم الزرقاوي الذي تبرأت منه حتى القاعدة الأم بقيادة أيمن الظواهري خليفة أسامة بن لادن. وقد تمت تصفية الزرقاوي بغارة أمريكية على أحد معسكراته الذي كان متواجداً فيه سنة 2006. وفي سنة 2007 ظهر تنظيم القاعدة الإرهابي في العراق من جديد ولكن تحت تسمية الدولة الإسلامية في العراق بتحالف عدد من التنظيمات المسلحة الإسلامية الإرهابية الأخرى تحت قيادة أبو عمر البغدادي وانتشر هذا التنظيم بين 2008 و 2009 وتغلغل حتى داخل العاصمة بغداد ونفذ العديد من الهجمات والتفجيرات الإرهابية ضد الشيعة والمناطق الشيعية والسنية على السواء، ثم تعرض هذا التنظيم لهجمات الجيش الأمريكي والصحوات والجيش العراقي وأرغموه على الانسحاب إلى المناطق الصحراوية المتاخمة للأنبار والموصل بالقرب من الحدود السورية حيث نجحت القوات الأمريكية في قتل أبو عمر البغدادي سنة 2010. وحل مكانه أبو بكر البغدادي، الذي وسع التنظيم وغير إسمه إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام مستغلاً الحرب الأهلية الدامية في سورية التي اندلعت منذ العام 2011 ضد النظام البعثي بقيادة بشار الأسد خليفة والده حافظ الأسد وهو من الأقلية العلوية الشيعية، وكان البغدادي قد أرسل أحد القياديين في تنظيمه إلى سورية لتشكيل تنظيم مسلح تحت إسم جبهة النصرة وهو أبو محمد الجولاني، إلا أن هذا الأخير تمرد على البغدادي وانشق عليه ولم يدمج تنظيمه بتنظيم داعش بل فضل إعطاء البيعة لأمير القاعد الأم أيمن الظواهري. وتميز تنظيم داعش في سورية عن بقية التنظيمات المسلحة الأخرى بعنفه ووحشيته وشراسة مقاتليه خاصة ضد جنود النظام السوري الأسرى وضد المسيحيين بل وحتى ضد التنظيمات المسلحة الأخرى كجبهة النصرة والجبهة الإسلامية وجيش الإسلام والجيش السوري الحر المنشق عن الجيش النظامي واحتل تنظيم داعش مدينة الرقة التي جعلها عاصمة له وكان يتلقى المساعدات والأسلحة من دول الخليج وعلى رأسها قطر والعربية السعودي والكويت والإمارات العربية المتحدة عبر تركيا. يذكر أن أغلب كوادر داعش العسكرية هم من ضباط صدام حسين في الجيش والمخابرات وفدائيي صدام المتمرسين في الفنون العسكرية، وإن أغلب مقاتليه جاءوا من أخوية النقشبندية وهو تجمع إسلامي صوفي كان يحظى بدعم ورعاية عزت الدوري في عهد النظام الصدامي البائد، وكتائب ثورة العشرين التابعة لتنظيم البعث المنهار، والمليشيات العشائرية السنية والمتطوعين الأجانب والعرب.
ففي عام 2013 لم تف الحكومة العراقية المركزية بوعودها للصحوات فامتعضت العشائر السنية وتمردت على العاصمة بغداد ونظمت الاعتصامات في الأنبار واستغل تنظيم داعش هذا الوضع وتغلغل بينهم ومن ثم سيطر عليهم بتواطؤ مع عناصر من الجيش الصدامي التي عادت للخدمة داخل الجيش العراقي وبقايا البعث العراقي بقيادة عزت الدوري وهيئة علماء المسلمين بقيادة حارث الضاري وابنه ورغد ابنة صدام حسين اللاجئة في عمان للتخطيط لاحتلال مدينة الموصل العراقية ومهاجمة السجون العراقية خاصة سجن أبو غريب لإطلاق سراح الإرهابيين المعتقلين فأحتل تنظيم داعش في 2 يناير كانون الثاني 2014 جزء كبير من مدينة الرمادي التي تبعد 101 كلم غرب بغداد ومدينة الفلوجة بالكامل ذات المليوني نسمة والتي تبعد عن بغداد 60 كلم. وفي 10 حزيران 2014 احتل مدينة الموصل وهي ثاني مدن العراق بعد بغداد وتقدم بجحافله الإرهابية حتى صار على أبواب العاصمة بغداد بعد أن احتل تكريت في 11 حزيران ومدينة بيجي ومصفاها الشهير وديالى وصلاح الدين وكركوك وكل الأنبار أي مايزيد عن ثلث مساحة العراق، ما دفع المرجعية الدينية الشيعية في النجف إلى إعلان فتوى الجهاد الكفائي لصد الزحف الداعشي.
وفي 29 حزيران 2014 نصب أبو بكر البغدادي نفسه بنفسه خليفة للمسلمين تحت عنوان الخليفة إبراهيم ، وهذا هو إسمه الحقيقي إبراهيم عواد، محققاً حلم كافة المسلمين السنة في العالم بعودة الخلافة الإسلامية على الأراضي التي تحتلها داعش وصارت تطبق فيها الشريعة الإسلامية ، ودعت المسلمين إلى تقديم فروض الطاعة والبيعة للخليفة الجديد وأعذر من أنذر فلا يوجد عذر شرعي للمسلمين للتخلف عن إعطاء البيعة وهي دعوة مبطنة بالتهديد لكافة الفصائل والجماعات الإسلامية الجهادية المسلحة والإرهابية لكي تلتحق في صفوف دولة الخلافة بما فيها القاعدة المنافس الحقيقي الأكبر التي يقودها أيمن الظواهري لكن هذا الأخير مختفي بينما البغدادي حاضر ميدانياً على أرض المعركة والمواجهة من الكفار والمرتدين مما جلب له طاعة واحترام وشغف الشباب التواق للقتال في صفوف داعش واتخذ إسم الخليفة الإسلامي الأول أبو بكر تيمناً به وسمى نفسه أبو بكر البغدادي ويبلغ من العمر 43 سنة، ويلبس الزي الإسلامي واللحية السوداء والعمامة والعباءة السوداء وذلك عند أول ظهور علني له أمام عدسات الكاميرات . لقد طمس هالة أسامة بن لادن وغطى على بريق أيمن الظواهري وكرس مفهوم عبادة الشخصية عند المسلمين الذين يقدسون قادتهم لأنه أدعى أنه يحمل مهمة سماوية " أطيعوني ما أطعت الله فيكم وقوموني إن أخطأت " وبظهوره هذا أخذ مخاطرة أن يقتل بطائرة مسيرة درون يمكن أن ترسلها له قوات التحالف وبذلك يتحول إلى شهيد أسطوري لو حصل ذلك بالفعل.
كان خليفة داعش يعتقد أن الغرب لن يغامر في مواجهته عسكرياً لأنه جنوده لا يهابون الموت ويطلبون الشهادة بينما يخاف جنود المعسكر الغربي الموت مجاناً من أجل قضية لا تخصهم فهي مسألة إسلامية داخلية. وبالتالي كان يخطط لإطاحة الأنظمة القائمة في الدول الإسلامية الواحدة تلو الأخرى وإعادة أمجاد الإمبرطورية الإسلامية في عصرها الذهبي وهي إمبراطورية قوية وغنية ومترامية الأطراف .
يتبع



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النقلات القادمة على رقعة الشطرنج في الشرق الأوسط
- وهم الوجود بين الواقع والخيال عند الإنسان: نحو مستقبل كوني ل ...
- خارطة الصراعات في عراق ما بعد داعش
- دونالد ترامب ومستقبل عراق ما بعد داعش
- هل ما يزال هناك من يراهن على ترامب بعد؟
- الكون المرئي ومحيطه رحلة خارج الزمكان أرقام وحقائق
- الإسلام بين خلافتين
- علم الميتافيزياء 2
- علم الميتافيزياء 1
- الإسلام السياسي : القاعدة وداعش وجهان لعملة واحدة 1
- الإسلام السياسي متعدد الأشكال وواجهاته هي الأزهروالإخوان وال ...
- بعض من ألغاز الكون الغامضة
- تكملة لموضوع الثقوب السوداء حقيقة فيزيائية أم وهم افتراضي - ...
- لعبة الأمم في الحرب الأهلية السورية
- الإنعطافة الخطيرة في بنية الإسلام
- الوجود المادي ومعضلة الزمن في الكون المرئي
- المتاهة العراقية ما قبل وما بعد الموصل
- فصل من المجلد الرابع عن الكون: الواقع الظاهر والواقع الخفي ف ...
- محاضرة عن الشيعة ومشكلات الدولة والسياسة والتشريع
- لغز مقتدى الصدر يربك العملية السياسية في العراق بشدة


المزيد.....




- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد بشارة - الإسلام الحركي من السياسة إلى الجهاد الإرهابي: من الإخوان المسلمين إلى داعش