أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - عزلة الفنان في أرض الاحلام















المزيد.....

عزلة الفنان في أرض الاحلام


سعد محمد موسى

الحوار المتمدن-العدد: 5545 - 2017 / 6 / 8 - 17:34
المحور: الادب والفن
    


حين زرت لاول مرة.. منزل ومشغل النحات والشاعر "وليم ريكتس"
في غابة الامطار فوق سفح "جبل داندنوك" كانت أمنيتي حينها هو الالتقاء بالفنان العصامي الذي ترك بصمته وأرثه الفني والجمالي فوق صخور الجبل وبين أشجار الغابة.
لكن ريكتس غادر الى السماء قبل وصولي الى استراليا ببضعة أشهر
اتخذ الفنان قراره بمغادرةِ مدينة ملبورن والاستقرار نهائياً دون عودة نحو غاباتِ استراليا للبحث عن حلمه المفقود وروحه الضائعة في أقاصي الغابات اللامتناهية والتي لايدرك أسرارها غير "الابوريجنال"
وحيواناتهم من كلاب الدنكَو الوحشية والكناغر والكوالا الكسولة والساحر أونداجو عراب طلاسم حكايات أرض الاحلام.
اختار وليم ريكتس السكن فوق سفح جبل داندنوك بعد أن ودع الأهل والأصدقاء حين كان عمره في منتصف العقد الثالث.
فشيد داره ومشغله من الصخور والاخشاب ومن تلك المادتين جسد النحات ريكتس منحوتاته.
وقبل أن يبدأ النحات ببناء منزله توقف منذ الوهلة الأولى أمام رهبة الصخور فلم يتجرأ النبيل ابن الطبيعة أن يُزحف أي صخرة كبيرة أثناء البناء ايماناً بان الصخور هي أقدم من الدار
و تبقى لصخور الغابة الخالدة أحقية البقاء والابدية قبل تشييد المنازل
عاش الفنان الشاعر ونبيّ الصخور وعراف الغابة حياة العزلة قريبا من الحيوانات والطيور وقد حاول التقرب من سكان الابوريجينال بأجسادهم الداكنة السواد والعارية والذين كان يتمالكهم الحذر والارتياب من المستعمرين البيض ومن التقرب اليهم .. لاسيما بعد ان استولى الانكليز على اراضيهم وأبادوا الكثير منهم.
لكن ريكتس أراد أن يعطي عن نفسه انطباع مغاير لدى سكان غابة الجبل
وهم يراقبونه من خلف الاشجار أثناء عمله بنحت وجوههم وحيواناتهم وأساطيرهم ورقصات أرض الاحلام.
ولكن بعد عدة أسابيع أخذ يطمئن له بعض سكان غابة الجبل وباتوا يتقربون اليه أثناء إشتغاله على الصخور وعلى لحاء الاشجار وهم يحدقون باستغراب بازاميله وأدواته وباصابعه البيضاء الطويلة التي كان يعتقد الأبوريجينال ان هنالك سحر يحركها كي تبث في صلادة الاحجار أرواح الغابة.
وحين سمعت الفتاة أكارا بوجود نحات من اصول انكَلو ساكسونية في أطراف الجبل دفعها الفضول لمراقبته ولمشاهدة مسكنه ثم التعرف عليه لاسيما انها كانت الوحيدة في قبيلة الأبوريجينال التي تتحدث اللغة الانكليزية.
ذات صباح ربيعي كان النحات يبحث حول داره عن ثماره المفضلة من التوت البري وأيضا عن أغصان جافة لاشعال موقده.. فسمع هسهسة فوق أغصان كانت تطأها أقدام من وراءِ احدى أشجار الغابات المطيرة فترأى له شبح فتاة تتخفى خلف جذوع الاشجار وهي تراقبه!!
نادى وليم على الفتاة بكلماتِ ترحيب وأطمئنان بمفردات من لغة قبيلتهم المحلية التي بدأ يتعلم التكلم بها قليلاً.. لكن الفتاة ردت عليه باللغة الانكَليزية حينها أثارت لديه استغراب كبير لدى سماعها.
رجاءاً تقربي وأطمئني أنا أسمي وليم انا جئت الى جبلكم وغابتكم لاني أحب أن أتقرب اليكم: أجاب النحات بصوت يشوبه التوسل والوداعة.
وحين تقربت أكارا بحذر من وليم صُدم بملامحها الفاتنة والغريبة في الغابة والتي كانت مزيجاً ما بين ملامح الأبوريجينال ببشرتهم السوداء والملامح الانكَلو ساكسونية البيضاء.
كانت فتاة الغابة ذات العشرين عاماً مُذهلة بقوامها الممشوق ونهديها النافرين مثل نهديّ تمثال الآلهة أفردويت.. أما عيون أكارا الزرقاوين فأضفى لملامحها استثنائية نادرة ومغايرة لملامح سكان قبيلتها.
دعى وليم فتاة الغابة أن تشاهد منحوتاته وأن يقرأ لها بعض قصائده.
بعد أن سألها عن معنى أسمها؟؟
أكارا تعني في لغة قومي السماء: أجابت الفتاة

أيتها السماء أتوسل اليك أن تحدثيني عن أستثنائيتك .. سكان قبيلتك يعتقدون ان السحرة جلبوني الى الغابة كي أجعل الصخور تنطق .. أما أنا في حضرتك الان تشدنيّ الرهبة والفضول لمعرفتك أخبريني عن أكارا: سأل النحات مترجياً الفتاة!!
قهقهت الفتاة بصوت عالي .. وأثناء صدى ضحكتها في فضاء الغابة.. تردد صوت الطائر الضحاك " كوكوبارا" وهو يقلد ضحكتها الجميلة
ازداد استغراب وليم لما يحصل!!؟؟
أطمئن أيها الفنان أنا لست بساحرةٍ .. أنا ابنة هذا الجبل: أجابت أكارا
ثم أردفت بسرد قصتها لدى تعرض أمها الى اغتصاب من قبل احد الجنود الانكليز أثناء مرورهم بالجبل ..ثم اختطافها من أحضان أمها ومن أحضان الغابة كي تتبناها عائلة ايرلندية في مدينة ملبورن حين كانت بعمر خمسة سنوات وبعد عشرة سنوات أرجعتها العائلة الى قبيلتها والى أمها والى جذورها حيث الجبل والغابات المطيرة.
...
بعد أن تعاقب حضور أكارا عدة مرات الى مشغل النحات الغريب والقادم من المدينة الى جبل داندنوك .. أخذت أقاويل نساء غابة الجبل تنتشر بين القبيلة وتُؤول الحكايات مما أغضب الفتى أدونا الذي كان معجباً وعاشقاً للفتاة وقد حاول كثيرا أن يظهر تودده وحبه لها.. وعادة ما كان يستعرض رقصاته حول النار وهو يصبغ جسده بخطوط لونية من مساحيق التراب وطحين الصخور المكونة من الابيض والاحمر والاسود والاصفر وينفخ مواجعه وعشقه في آلة "الديدجريدو" المصنوعة من قصب البامبو وهو يتعقب أكارا حين تذهب للبحث عن ثمار الفاكهة أو قطف الزهور البرية من الغابة لكنها لم تكترث باهتمامه ومشاعره .. وكانت أيضا قبيلة الجبل تتهمها بالغرورلاسيما انها كانت تتمتع بجمال ودلال بعد أن عاشت مدة عشرة سنوات في المدينة مع العائلة الارستقراطية الايرلندية وكذلك كان يربطها انتماء للعرق الابيض من أصول الأب الانكَليزي.
طلب النحات من أكارا أن تكون له موديل كي ينحتها ويجسمها فوق احدى صخور الجبل وأخشاب الغابة .
وكلما كان يتأمل النحات جسد فتاة الغابة وهي عارية تستلقي فوق جذع شجرة الجوز بجسدها الخُلاسي كان يشعر بالحمى وبالهام ورغبة بملامسة تفاصيل المنحوتة.
الحجر موسيقى الجسد يفقد صلادته حين يتحول الى روح وجمال وكأن الصخر رسول مشاعر مابين اصابع النحات وجسد أكارا .. الجاذبية لاتحتاج الى لغة لتجسيد وهج العشق .. لقد أدركت أعواد الثقاب اتقادها والغابة حرائقها منذ لقاءهم الاول في المشغل.
شعر أدونا بالغيرة والغيظ من الرجلِ الابيض القادم من المدينة للغابة لاسيما بعد أن استحوذ على مشاعر أكارا التي باتت تتحدث عنه باعجاب.
ذات مساء استوقف أدونا فتاة القبيلة لدى رجوعها من بيت الغريب و كان يتمالكه الغضب
أكارا ماذا تفعلين في بيت الرجل الابيض: صرخ أدونا بوجه الفتاة الخائفة؟؟
ليس لك الحق أن تعاقبني يا أدونا أنا لست بزوجتك: أجابت أكارا باكية
تذكري يا أكارا أن الرجال البيض أغتصبوا أمك وصادروا أراضينا وأبادوا قبائلنا وجاؤا من وراء البحار بأعتى مجرميهم وسفاحيهم من سجون بريطانيا العظمى كي يقتلونا ويدمروا وجودنا وغاباتنا وحياتنا وانت الان تذهبين كل يوم لمقابلة هذا الرجل الدخيل

علينا أن لانسامح القتلة الانكَليز: أردف أدونا عتابه الى أكارا!!
لكن هذا الرجل الابيض يختلف عن قومه الغزاة والمحتلين وهو يتالم من أجلنا يا أدونا انه طيب القلب: اجابت أكارا متهدجة
أنفجر أدونا غاضباً مرة أخرى وهو يدير بظهره: يبدو ان هذا الرجل أثار بك الحنين الى وهم انتمائك الابيض الى دماء ابيك المغتصب
-انك ساقطة وخائنة يا أكارا اللعنة عايك!!
رجعت أكارا وكأنها تحمل غابة من الحزن في قلبها وهي تبكي في أحضان أمها وتشتكي لها بما حصل.
لكن أدونا في مساء الانفعال قصد بيت النحات وأوقد على مقربة من منزله ناراً طاف حولها بعد أن عفر وجهه وصدره بمساحيق الصخور الملونة وقبض بيده اليمنى على آلة الصيد الخشبية الحادة "البوميرانج" وهو يلوح بها عاليا أثناء رقصته حول النار و يطلق صراخه المكبوت الذي يستشيط بالوعيد والتهديد والغضب.
راقب النحات أوجاع العاشق وهو يرقص حول النار وكأنه فراشة تنوي أن تحرق جناحيها انتحاراً.

توجع النحات حين سمع أخبار أكارا بعد أن تزوجت من أمادو ثم نزحا خلف الجبل وأنقطعت أخبارهما.
فعاش ريكتس متوجعاً مهموماً لفراق فتاة الغابة التي لم تبرح روحه ولا أحلامه .. فقرر بعد أيام أن يترك مشغله وداره والجبل وذكرياته مع معذبته أكارا ويرتحل بعيداً نحو الشمال وهو يتعقب قفزات الكناغر حيث الصخور الحمراء ( ألرو) التي تسكنها الارواح المقدسة.
كي يعيش مع قبائل البيتجان التي تقيم في صحراء وسط استراليا..
وبعد أن عاش الناسك بين قبيلة البيتجان استقبلوه كأبن لهم بالتبني رغم اختلاف دمه ولون بشرته.
وبعد أكثر من عشرة سنوات قضاها مع قبيلة البايتجان.. طرأت على بال الرحالة ريكتس الذهاب والحج الى الهند حين شعر ان روحه تتطلع للتحليق بعيداً والى كسب المزيد من التجربة المعرفية والروحية.
وبعد سنوات كثيرة قضاها الشاعر والصوفي والنحات في الترحال والبحث عن سراب الروح ضائعاً في هذا الوجود .. شعر في سنواته الاخيرة بوهن الشيخوخة فعاد مرة أخرى الى جبل داندنوك والى مشغله وداره التي لم يمسها أحد وبقيت في انتظاره .. عاد مثل الفيلة الهرمة التي تحن الى موطنها الاول كي تموت بهدوء وسلام هناك.



#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البومة وطلاسم الليل
- مابين المواجهة والنضال السري
- القنفذ وحجر عرق السواحل
- مساءات السيدة بولين
- يوميات مقهى ورصيف في ملبورن
- حارس معبد عشتار
- ليس للرب وطن
- مابين تعبان وترامب كانت هنالك عذابات بائع رصيف
- مشاهد من ذاكرة الانتفاضة
- اجنحة اليمام وغصن الزيتون
- حكايات أخرى من حانة هايد بارك
- الحذاء
- اصدقاء الليل والحانة
- تداعيات الذاكرة في صالة المستشفى
- حديث في مرسم
- رحلة في سوق الطفولة
- ذاكرة القلب
- حديث عابر في قطار
- تمرد ضد الاقفاص
- غزلان البراري واحلام الطفولة


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - عزلة الفنان في أرض الاحلام