أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - من ذاكرة الجزيرة السورية 2















المزيد.....

من ذاكرة الجزيرة السورية 2


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 5541 - 2017 / 6 / 4 - 16:35
المحور: الادب والفن
    


رأس العين قصيدة من السماء، لعبة الريح. أرض الينابيع الصافية، معزوفة الطبيعة البكر، ماءه زلال، وصفاء وجمال ورقة.
وأرض متجذرة في التراب بنعومة البصر. وأشجارها باقة أحلام ممزجة بالضفاف.
كانت المدينة أمتداد للتاريخ واليقين، كرفيقة للطبيعة الخلاقة التي تحملنا من حلم إلى آخر.
كان والدي مسكونًا بحب الطبيعة والأرض، يحملنا في الصباحات الصيفية المنعشة إلى هناك، إلى مصب الأحلام. يوقظنا من النوم عندما تكون أجنحة السماء غافية. نضع كل مستلزمات الصباح في السيارة، طاولة، جبس، بطيخ، جبن بلدي، خبز تنور تحضره والدتي قبل الرحلة بيوم، وزيتون، مربى مشمش، مربى وورد، تين وقرع.
ننطلق قبل الساعة الخامسة، عندما يكون الناس نيامًا، أثناء العطلة، يوم الجمعة.
يتحاشى والدي الذهاب من وسط المدينة. من الشارع الوحيد الذي يمر فيها جميع الناس ويقسم المدينة إلى قسمين، ويوزع السكان على بقية الأحياء، حتى لا يستفز المخبرين، عيون النظام على الشاردة والواردة. حتى لا يقولوا أن هناك سيارة للدولة فيها أطفال وامرأة. ويستخدمها الموظف للأمور الخاصة. بالرغم من أن والدي كان يأخذ أذنًا من رئيس المصلحة قبل الذهاب بهذا المشوار بيوم واحد لمسافة تقدر بأقل من ثلاثة كيلومترات.
ننطلق من البيت مسافة مائتي متر باتجاه الغرب، ثم ندور نحو اليسار، نمر عبر الثكنة الفرنسية القديمة، المتموضعة فوق تلة، أو مرتفع عن الأرض، مسافة بضعة مئات من الأمتار. ندخل فج، طريق بين تلين إلى أن نصل إلى الملعب البلدي المكشوف. نعبر المطحنة إلى أن نصل إلى الينابيع.
كانت الحياة بسيطة في ذلك الزمن، معجونة بالشهقة الجميلة. وتمر كدعابة، أو حلم ملون يناجي طيف السماء.
في هذا المكان، منطقة الينابيع، ترقص بحار المياه العذبة فوق طبقة التراب النائمة كفاكهة على غصن أخضر. هذا الماء البللوري يمتد كجذور للأرض وأشجارها. وفوقه تسطع غمائم السحر وشبابيك الشمس وغابة الحياة.
المكان عذب، ساحر. ولا سحر أجمل من ينابيع رأس العين في العالم كله. كانت إلى الأمس القريب تتموضع على أكثر من ثلاثمائة نبع ونبع.
مع الأسف كنا نملك أجمل بقعة في هذا العالم. زينة من الطبيعة البكر وهبتها لنا على طبق من صفصاف. وضيعناها إلى الأبد.
عندما نصل إلى نبع عين رياض يوقف والدي السيارة في مكان مظلل بالشجر، بعيدًا عن العيون.
ننزل، وندخل غابة صغيرة، عبر ممر ترابي مملوء بالأشجار، مسافة بضعة أمتار. على امتداد البصر، ماء وينابيع. أخذنا أقرب مكان لنا. عين حمزة. نبع دائري، قطره أقل أو أكثر من أربعة أمتار. وينساب منه الماء كشعر صبية جميلة في مقتبل العمر. على الضفة الظليلة نفرش الطاولة ونجلس. تقشر أختي وأمي البطيخ. ويحضران الفطور. أنزل إلى الماء برفقة والدي ونسبح. العمق لا يتجاوز المتر. عندما أقف أحس بالرمال تدغدع رجلي وأصابعي. ترقص الرمال الصغيرة المذببة تحت تأثير أندفاع الماء من جوف الأرض كطفل ولد للتو. ينسحب الماء من جسد الأرض، ويسير فوقها كغطاء من الورد، ويستمر إلى ما نهاية كنبض وعطاء.
كنت أرى قدماي. والأسماك الصغيرة يلعبون بأصابعي. أرى الماء الصافي، العذب يلعب في مسامات الصباح الباكر، ويضخ الحياة في شرايين الحياة.
ويحتمي هذا العري الكوني بالضوء ولعبة الحياة.
لم أكتف بهذا النبع، أقول لوالدي:
ـ أريد أن أذهب إلى نبع رياض، أنه على بعد ستة أمتار. هناك النبع أوسع، مفتوح على نبع أخر، وتيار ماء قادم من أماكن أخرى. نحتاج إلى خرائط لتحديد مواقع كل نبع ومجرى ماء. أريد أن أسبح في فضاء أكبر.
ينهرني بكلام قاس:
ـ أنت طفل عجول. تحب التنقل من مكان لآخر. لا تستطيع البقاء في مكان واحد. ما الفرق بين هذا النبع وذاك؟ نريدك أن تبقى معنا، مع أمك وأخيك وأخواتك. لماذا تحب أن تميز نفسك عنا؟
ـ لقد سبحت سابقًا هناك مرات كثيرة. لا أحب هذا النبع، أنه صغير ولا يفي بامكاناتي كسباح ماهر.
ـ هذا هراء. النبع هو نبع. وإذا أخذتك إلى نبع عين حصان ستطلب عين الزرقاء. وإذا أخذت إلى عين عروس ستطلب عين سيروب، وستطلب عين الكبريت، عين بانوس، وعين قطينة. المشكلة فيك وليس في النبع. لا اسمح لك أن تتركنا وتذهب وحدك. الا يكفي أنك تقضي معظم أوقاتك بين كرة القدم والسباحة في الينابيع.
نفطر هناك. ونتمتع بالصفاء والجمال. نسمع تغريد العصافير والبلابل والطيور طوال الوقت. الحياة هادئة، الناس بسطاء.
لم تتلوث الحياة في بلادنا بالطائفية أو الانتماءات المذهبية.
ركبنا السيارة ومررنا بجوار بقية الينابيع التي لا تعد ولا تحصى. ربما مئات أو أقل أو أكثر. الماء في كل مكان. والماء جار للماء. يغنون لبعضهم او يتزاوجون أو ينجبون أطفال.
وصلنا إلى نبع سيروب. كانت العمة سيران، عمة سيروب على علاقة قرابة مع والدي. لم تكن تعرف العربية. كانت تتحدث الأرمنية والكردية. استقبلتنا بابتسامة مشرقة. ورحبت بنا. جلسنا تحت الأشجار. كانت الشمس قد خرجت من حلمها ومخبئها وأخذت ترمي بسيول أوجاعها في أفراحنا.
أخذتنا إلى شجرة عالية قالت لوالدي:
ـ هل لديك المقدرة على هز هذه الشجرة. وأشارت إلى شجرة مشمش.
قال لها والدي:
ـ بالطبع أستطيع.
في هذه اللحظات اقترب الكثير من الأطفال يريدون جني بعض حبات المشمش أو الصعود إلى أعلى أغصان الأشجار المثمرة.
كانت سيران المرأة المسنة تركض وراءهم وتشتمهم بأقدح العبارات بلغة عربية مضحكة، يتخلل الشتم شتم لنفسها أكثر من شتمها للأطفال الذين كانوا يهربون منها ويضحكون عليها.
صعد والدي إلى أعلى الشجرة وصعدت وراءه بعد أن فرشت والدتي بطانية على الأرض. هززنا الشجرة. وانتقلنا إلى شجرة أخرى. امتلأ المكان بالمشمش ووضعنا في السيارة كميات كثيرة. قال لها والدي:
يجب أن نتوقف. من المؤسف أن ننتقل إلى بقية الأشجار ونترك هذا المحصول الوافر يعفن ويموت على الأرض.
ـ أريد أن اتخلص من المشمش النائم على الأشجار. الأطفال يسببون لي إزعاجًا. أرميهم، أرجوك. أريد أن تتعرى الأشجار من الثمار حتى لا يكسرها الأطفال أو يدخلون حقلي ونبع الماء الذي بحوزتي.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لبنان والبحر وهمسات الريح
- رواية يريفان
- من ذاكرة الجزيرة السورية 1
- مقالة في العبودية المختارة
- طيور الشوك
- استراتيجيات الغرب وجاذبية الشرق الأوسط
- الخبز الحافي
- النظام الأمريكي بعد الحرب الباردة
- هل الظلم وحده يصنع ثورة..؟!
- ما تخلفه الحروب الدامية على المرأة
- التنظيم في رواية قبلة يهوذا
- الصين في رواية
- الثورة والنهج الأمريكي الجديد
- قراءة ثانية في رواية ألف شمس مشرقة
- الثورة حدث فاصل في التاريخ
- رقص رقص رقص
- المظلومية والمجتمع الرعوي
- عوالم تركية لقيطة استانبول
- العولمة وإدارة الفوضى..!
- ألف شمس مشرقة


المزيد.....




- قصة علم النَّحو.. نشأته وأعلامه ومدارسه وتطوّره
- قريبه يكشف.. كيف دخل صلاح السعدني عالم التمثيل؟
- بالأرقام.. 4 أفلام مصرية تنافس من حيث الإيرادات في موسم عيد ...
- الموسيقى الحزينة قد تفيد صحتك.. ألبوم تايلور سويفت الجديد مث ...
- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - من ذاكرة الجزيرة السورية 2