أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خالد شاكر حسين - أصل اللغة















المزيد.....



أصل اللغة


خالد شاكر حسين
باحث

(Khalid Shakir Hussein)


الحوار المتمدن-العدد: 5537 - 2017 / 5 / 31 - 04:33
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


أصل اللغة


1. خلاصة الأسطورة
لا زلت أتذكر جيداً أن أول كتاب قرأته عن اللسانيات حذر القارئ بشده من الخوض في مسألتين : أصل اللغة و المفاضلة بين اللغات. وورد هذا التحذير مرارا وتكراراً في العديد من المحاضرات اللسانية في أروقة الدراسات العليا والبحث العلمي في مختلف الميادين التي تتناول اللغة بشكل مباشر أو غير مباشر. ولكن لِمَ؟ لِمَ لا يستطيع الباحث تناول أصل اللغة الإنسانية ولمَ ليس بوسعه التعاطي مع هذا الموضوع على نحوٍ جاد وصارم؟ كان التبرير السائد لهذا المنع والتحذير هو الطبيعة التأملية لهذه المشكلة, إذ أن اللسانيات ما فتأت ترزح تحت وطأة هم ثقيل يحدوها إلى نبذ كل ما من شأنه أن يُخرِجها من دائرة البحث العلمي الصارم والقائم على المنهجية المتقدمة للعلوم الطبيعية.
لذا أصبح من أبجديات الولوج إلى عالم اللسانيات استبعاد "أصل اللغة" من دائرة الاهتمام العلمي للباحث. إذ إن الخوض فيه يقود الباحث إلى الخروج من والابتعاد عن سياق الاستقصاء العلمي والاقتراب من الفلسفة والأسئلة المفتوحة على جميع أنواع الأجوبة المحتملة دون توفر أي دليل ذو قطعية علمية يُرجِح أحد الأجوبة المطروحة على غيره منها.
فاللغوي البريطاني (جورج يوول) يعلنها صريحةً "أننا ببساطة لا نعلم شيئاً عن الكيفية التي نشأت بها اللغة". ويعلل ذلك بغياب أي دليل مادي مباشر بوسع الباحثين الارتكاز عليه في تقصي الأصل اللغوي المزعوم. وكل ما يسع الباحثون عمله هو أطلاق باقة متنوعة ومتضاربة من التأملات والتخمينات العريضة والفضفاضة.
إذ ترى الباحثة اللسانية (جوانا نيكولاس), من جامعة كاليفورنيا, أن هذا التنوع اللغوي الموجود اليوم يعود في تخمينها الإحصائي إلى ظهور نوعٍ ما من اللغة المنطوقة لا بد أن تكون قد تطورت منذ ما يقارب50,000 إلى 100,000 سنة وذلك قبل أن تظهر اللغة بشكلها المدون (منذ ما يقارب 5,000 عام).
ويُصدِر اللغوي الألماني (ماكس مولر) قائمةً غريبةً ضمت خمسة نظريات تأملية حاولت التعاطي مع الأصل المحتمل للغة المنطوقة. ومجرد أن نلقي نظرة خاطفة على هذه التأملات (لا النظريات) يتضح لنا حجم الفضاء التأملي الذي تتحرك فيه طروحات اللسانين حول قضية الأصل اللغوي. فيتناول (ماكس مولر) نظرية ( الباو – واو), ويعزوها إلى الفيلسوف الألماني (هيردير), وتظهر بموجبها الكلمات الأولى للإنسان ضمن سياق محاكاتي لصرخات وأصوات الحيوانات والطيور فتصدر بصفتها مجرد صدى يحاكي الجوهر الصوتي الصادر عن الموجودات الصائتة (ولكن ماذا عن تلك الموجودات الصامتة والمفاهيم المجردة!). أما نظريته التأملية الثانية, ويدعوها (بوو- بوو), فيرى فيها أن الكلمات الأولى صرخات أهتياج وأصوات نداء نشأت عن الألم, والبهجة, والاندهاش . . . الخ.
أن تراكم هذا النوع من الطروحات وتفشي الطابع التأملي في محاولات استقصاء الأصل الغامض للغة البشرية أثار حنق الجمعية اللغويه في باريس, لا سيما أن النظرية الدارونية قد أطبقت على خِناق الأجواء العلمية آنذاك بعد صدور كتاب دارون (أصل الأجناس), وأصبحت هذه النظرية أنموذجاً علمياً تهافتت عليه مختلف الجمعيات البحثية وهي تحاول تأسيس أرضية منهجية تطورية تلتزم التزاما صارما بمبادئ الانتخاب الطبيعي, والبقاء للأصلح, وأنتخاب الأقارب, وغيرها. لذا أصدرت هذه الجمعية في عام 1866حظراً قاطعاً لجميع أنواع المقالات الأكاديمية التي تتعاطى مع موضوع الأصول المزعومة للغة. وتبنت جمعية لندن لفقه اللغة هي الأخرى الرأي نفسه في عام 1872. وبذلك دشنت هذه السياسة الأكاديمية قرناً كاملا من القطيعة البحثية للأصل اللغوي حتى كاد أن يتحول إلى تابو يتجنبه كل باحث رصين يحاول أن يصون سمعته العلمية ورصانتها إذا ما أراد لنفسه أن يكون معدوداً ضمن دائرة البحث العلمي الجاد.
ولكن الطريف في الأمر أن دارون نفسه قد خصص عدة صفحات في كتابه ( سلالة الإنسان) لمناقشة هذه القضية علماً أن كتابه هذا قد صدر عام 1871, أي قبل عام واحدٍ فقط من إصدار أمر الحظر الرسمي الذي منع الخوض في هذه القضية ضمن دوائر البحث العلمي والأكاديمي.
ليس هذا وحسب بل خاض دارون في كتابه هذا عميقا في أشهر أطروحتين استقطبتا أراء الباحثين حول الأصل المحتمل للغة الإنسانية, وهما نظرية الأصل الصوتي ونظرية الأصل الإيمائي. وقد أثار كتاب دارون المذكور الكثير من اللغط حينما أصر دارون إصرارا سبب الكثير من الضرر العلمي والعملي للموضوع على حتمية الأصل الصوتي للغة ودون منازع إزاء انحسار غير مبرر للأسس النظرية للأصل الإيمائي. إذ يعتقد دارون أن الذكور الذين يكون صوتهم الغنائي أجمل هم من تنجذب أليهم الإناث جنسياً, وهذا ما أدى إلى تكامل الجهاز الصوتي لدى الإنسان المعاصر كما هي عليه الحال في ذيل الطاووس الذي أكتسب ثراءه اللوني نتيجة لعملية طويلة من التكيف كان دافعها الأوحد اجتذاب الإناث عبر الألوان الساحرة لذيل الذكر. أقتضى هذا التطور في السلوك الصوتي زيادة ملحوظة في حجم الدماغ أدى بدوره إلى ظهور اللغة بصفتها أداةً تستعمل في التفكير الذهني الباطني على حد تعبيره. ومن الأضرار الفادحة التي نجمت عن أطروحة دارون للأصل الصوتي تبني مؤتمر ميلان المنعقد لمناقشة أستراتيجيات تعليم الصُم والبُكم في عام 1880 توصيةً تدعو إلى الكف الفوري عن ممارسة تعليم الصم والبكم عبر الإرشادات الخاصة بلغة الإشارة ( sign language) والشروع بوضع إرشادات شفاهية فقط.
لم يكن هذا الأمر مجرد نقطة تحول في تعليم الأطفال الصم والبكم, الأمر الذي نجم عنه قرناً كاملا من التخلي الصارم والعنيد عن ممارسة لغة الإشارة في المدارس الأوربية والأمريكية, بل جاء أيضاً بصفته علامةً فارقة على اضمحلال وتدني الحالة الأكاديمية والبحثية لمباحث التأريخ اللغوي عموماً فضلاً عن أنه وضع نهاية مؤسفة للدراسة الأكاديمية للسِمات اللغوية المتشعبة والتي اقترنت عادةً مع الأصول المرجحة للغة الإنسانية.
الغريب في الأمر هو أن الدرس اللساني في الجامعات العربية ( وخاصة الدرس اللساني في أقسام اللغة العربية) قد تلبث طويلا ولا يزال قابعاً عند حدود هذه الانطباعات التي ربما كان لها ما يبررها آنذاك. إذ أن الندرة الملحوظة للبيانات المادية والاكتشافات التشريحية والأحفورية آنذاك دمغ أي طرح يتعلق بالأصل اللغوي بطابع تأملي ربما يكون بعيداً جداً عن سياقات البحث الأكاديمي المُدَعم بكل ما من شأنه أن يُضفي مصداقية أكاديمية جادة على مدعياته. وما عاد أحد من اللغويين العرب يكترث للفتوحات العلمية التي تحققت في مجال الكشف عن مقتربات أكثر رصانة للأصل اللغوي. فمنذ سبعينيات القرن العشرين, وتحديداً بعد انعقاد مؤتمرين رائدين هما مؤتمر الرابطة الأنثروبولوجية الأمريكية عام 1972 والمؤتمر اللاحق الذي استضافته أكاديمية نيويورك للعلوم في عام 1975, تراكمت الأدلة والبيانات حول الأصل اللغوي على نحو مثير وصدرت من مجالات بحثية متشعبة يؤازر بعضها ما ذهب إليه البعض الأخر. ومن أبرز هذه العلوم التي كان لها السهم الأكبر والوافر في استعادة موضوع الأصل اللغوي لمكانته العلمية والأكاديمية في الأروقة البحثية للجامعات علم الأصول البشرية ((paleoanthropology, وعلم الرئيسيات (primatology ), وعلم الآثار والأحفوريات ( Archaeology) وعلم الأعصاب, فضلاً عن اللغويات العصبية (neurolinguistics) وغيرها كثير.
ما عاد بوسع الباحثين تجاهل هذا الكم الهائل من الأدلة العلمية والاكتشافات الأحفورية فكان لزاماً عليهم أعادة طرح موضوع الأصل اللغوي في ضوء هذه الفتوحات والتنقيبات التي أستحضرت سياقات بحثية للموضوع أكثر صرامة وأختلافاً عن تلك السياقات التي كانت تدور مدار التخمين والتأمل الفلسفيين.
إذ ساهمت مكتشفات علم الآثار الأحفورية كثيراً في تقييد الطروحات الداروينية حول التطور البشري. كما اقتصرت كشوفات علم الأصول البشرية, حينما حظرت الجمعية الباريسية تناول الأصل اللغوي أكاديمياً, على مجرد العثور على القشرة العليا لجمجمة إنسان النياتردال في ألمانيا فضلا عن بعض الأجزاء العظمية الصغيرة في أوربا والتي تعود إلى فصيلة بشرية منقرضة تدعى ( Hominid ) وقد وُجِدَ حديثاً أن هذه الفصيلة لا تمت بأي صلة لأسلاف الإنسان المعاصر. ولم يُعثر على أي بقايا عظمية لفصيلة الإنسان المنتصب ( Homo erectus ) حتى عام 1890 في جافا. كما لم يُعثر على بقايا الإنسان القرد أو الأسترالوبيثيكوس (australopithecines ) في أفريقيا الجنوبية حتى عام 1920 وهو أكثر قدماً من الإنسان المنتصب بكثير.
ومما زاد الأمر سوءا بكثير ظهور خدعة بلتداون ( Piltdown) سيئة الصيت والتي أدعى فيها ألآثاري الشاب (تشارلز داوسن) أنه عثر على "الحلقة المفقودة" بين القرد والأنسان وذلك بعثوره على بقايا جمجمة شبيهة بجمجمة الأنسان في مقبرة مدينة بليستوسين بالقرب من بلتداون في شرق مدينة سيسكس. ساهم هذا الاكتشاف المخادع كثيرا في تقديم صورة مغايرة تماماً للأصل البشري عن تلك التي أستنتجها الباحثون من بقايا الإنسان المنتصب أو بقايا الأسترالوبيثيكوس. وفاقمت هذه الخدعة من انحراف التفسيرات المتداولة حول الأصل البشري طوال النصف الأول من القرن العشرين. ولم يُكشف عن الزيف الذي انطوت عليه خدعة بلتدون حتى العام 1953.
وأستمر تراكم اللُقى والأحفوريات البشرية في أفريقيا وأوربا وآسيا وأندونيسيا مما ساهم كثيراً في تكون صورة واضحة المعالم عن المسلك التشريحي لتطور الإنسان المعاصر ويشتمل هذا المسلك بالطبع على رؤية تشريحية جديدة وأكثر تطوراً عن بُنية الأعضاء الصوتية لدى الإنسان وعلاقتها الفسلجية بالدماغ البشري.
2. الأصل الايمائي للغة
ربما يبدو الطرح الداروني طرحاً مألوفاً ويداعب الحس العام حول أرجحية أن يكون الأصل التطوري لأصوات اللغة البشرية كامناً في الأصوات التي تصدر عن الثدييات الرئيسية. ومما لا ريب فيه أن الإنسان الأول كان قادراً أيضاً على إنتاج هذه التصويتات المنسوبة للثدييات الرئيسية, وبالتالي لم لا تكون هذه التصويتات البدائية قد تطورت عبر آلاف السنين إلى ما ندعوه اليوم اللغة؟ ما المانع؟
المانع هو النتائج التي تمخضت عنها الدراسات الحديثة للدماغ البشري والتي غيرت من قواعد اللعبة تماماً: إذ مما لا شك فيه أن دماغ الثدييات, ومن بينها دماغ الإنسان, يرفد حاسة البصر ببنية عصبية غاية في التعقيد مما يجعل منها حاسة متقدمة تماماً وتفوق في تطورها بقية الحواس ولا سيما حاسة السمع, وربما يعود ذلك إلى التكيف المشترك الذي خضعت له تلك الثدييات في تطوير آليات للافتراس تعتمد على حاسة البصر كثيراً.
كما أن القشرة الدماغية لهذه الثدييات, باستثناء الإنسان, أظهرت تخصصاً متميزاً للسيطرة على حركة اليدين أكثر مما هو عليه للسيطرة على أعضاء النطق و تنحصر مناطق السيطرة على الحركات الأيمائية في المنطقة تحت القشرية من الدماغ. إذ لاحظ فريق بحثي يترأسه عالم الأعصاب الإيطالي (ريزولاتي) في جامعة بارما الايطالية نشاطا فاعلا في خلايا عصبية أو ما يدعونه بالنيوترونات كلما قامت القردة بحركة إيمائية تسعى للوصول إلى شيء ما. كما تنشط هذه الخلايا كلما شاهدت القردة قرداً أخر يقوم بنفس هذه الإيماءة. وتتواجد هذه الخلايا (المرآتية كما دعاها ريزولاتي وزملائه) في منطقة من القشرة الدماغية للقردة توازي منطقة (بروكا) في القشرة الدماغية للإنسان وهي منطقة مسؤولة إلى حدٍ كبير عن معالجة أصوات اللغة البشرية.
كما أظهرت صور التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي زيادة ملحوظة في تدفق الدم في منطقتي (بروكا) و (فيرنيك) لدى الصُم كلما شاهدو جملاً تتركب من الرموز الإيمائية للغة الإشارة الأمريكية وجدير بالذكر أن منطقتي (بروكا) و (فيرنيك) تقعان في النصف الأيسر من الدماغ وتقومان بمهام لغوية غاية في الأهمية. تتعلق الوظيفة الأساسية للخلايا المرآتية بأخذ وإعطاء قطع الطعام أكثر منها بأداء وظائف لغوية صوتية. غير أن (ريزولاتي) يعتقد أن هذه الخلايا جاءت بصفتها تكيفاً تمهيدياً يُعِد لمرحلة متقدمة من التطور اللغوي. ناهيك عن تعلم الأطفال للإشارة إلى الأشياء بأيديهم بوقت أبكر كثيراً من نطقهم لأصوات ترافق تلك الإشارات اليدوية في نوع من التوكيد الإيمائي.
بل لا زالت أثار هذا المستوى من التواصل الإيمائي تلعب دوراً ايقونياً وبصرياً في إسناد التواصل الصوتي لنا, إذ يتكفل الصوت عادةً بتفعيل التخاطب النحوي وتوفير مستوى محدد من التمثيل الرمزي لتلك الأصوات مما يقلل من خسائر المعلومات المفقودة حينما نصغي إلى محاضرة أو نستمع إلى المذياع. وذلك يعني بالنتيجة أن الإنسان الأول حتماً قد تكيف مع آلية في التواصل تعتمد حركة اليدين. وربما يفسر ذلك النجاح الهائل الذي حققه الباحثون في تعليم القردة لغة الإشارة مقارنة بالنجاح المتواضع والمحدود للغاية الذي شهدته محاولات تعليم تلك القردة نظاماً تواصليا يقترب إلى حد ما من اللغة البشرية المنطوقة.
3. ما الذي يجري؟
في الوقت الذي أدى فيه تراكم الأدلة الأحفورية والتشريحية إلى إعادة النظر بالشرعية العلمية لقضية الأصل اللغوي انطلقت مقاربة أخرى ومن نوعٍ معاكس تماما في الجهة البحثية أدت إلى تغير بوصلة الشروع مائة وثمانين درجة: فبدلا من الشروع بالبحث عن مسار الأصل البيولوجي للسلوك اللغوي شرع بعض اللغويون الحاذقين من أمثال نوم جومسكي بولوج مسلك بحثي معاكس تماما وذلك بالعكوف على دراسة السمات الشكلية للغة بصفتها مرآة للعقل الذي يحيلنا إلى طبيعة الآليات الدماغية التي تشكل الدعامة لهذا السلوك اللغوي المعقد. فاللغة رغم كل شيء ما هي إلا تجسيد مادي (منطوق أو مدون) لما يجري في العقل! وبالتالي تعكس السمات البنيوية للغة السمات البنيوية للعقل. فاللغة هي النافذة المشرعة على العقل الذي سيحيلنا بدوره إلى معرفة الطبيعة الاستثنائية للدماغ البشري بصفته عضوا غاية في التعقيد الفسلجي لا بل وبصفته واحداً من أهم الأعضاء التي ترضي غرورَ الإنسان وتضفي على وجوده البيولوجي فرادة تميزه عن جميع المخلوقات الأخرى في هذا العالم.
وفقاً لهذه الرؤية تكمن معرفة الأصل اللغوي في البحث عن إجابة لسؤالٍ أخر : هل هنالك سمات تميز اللغة البشرية عن غيرها من أنظمة التواصل في مملكة الحيوان؟ إذا كانت الإجابة (كلا) فيجدر بنا عندئذ أن نبحث في الأصل البايولوجي للأنظمة التواصلية لدى أي صنف ينتمي إلى المملكة الحيوانية ونلقي نظرة عن كثب على مساره التطوري ونسحب نفس ذلك المسار على اللغة البشرية وينتهي كل شيء! أما إذا كانت الإجابة (نعم) فحريٌ بنا عندئذ أن نحدد بدقة طبيعة هذه السمات الاستثنائية للغة البشرية بل ويقتضي ذلك انخراط الباحثين في دراسات طويلة وهائلة لجمع بيانات مقارنة عن مختلف أنظمة التواصل لدى بقية الأصناف الحيوانية لاسيما تلك القريبة بايولوجيا من الجنس البشري.

4. فرادة اللغة البشرية
أصر الكثير من اللغويين على فرادةٍ من نوعٍ ما تتمتع بها اللغة البشرية وتضفي عليها طابعاً ساحراً من المرونة والإبداعية يصعب, إذا لم يكن من المستحيل, إيجاد نظير لهما في أي أنموذج تواصلي تستعمله بقية الأجناس. ولكي يثبتوا ذلك, أنهمك هؤلاء اللغويون بوضع قائمة تَجرِد أهم تلك السِمات التي تُكسِب اللغة البشرية فرادتها المزعومة.
إذ وضع اللغوي الأمريكي (تشارلز هوكيت) في ستينيات القرن المنصرم أول قائمة لمجموعة من السِمات, أسماها (السِمات التصميمية), بلغ عددها (ثلاثة عشر), أعتقد (هوكيت) جازما أن السِمات (التسعة) الأولى منها ربما تكون مشتركة, مع فارق كمي هائل طبعا, بين اللغة البشرية (بصورتها المنطوقة لا المدونة) وأنظمة التواصل لدى بقية الأجناس الحيوانية في حين انفردت لغة الإنسان استثنائيا بأربعة سِمات هي الأخيرة في قائمة (هوكيت). وهذه السِمات هي كالأتي:

1. أن اللغة قناة صوتية - سمعية
2. أن اللغة ذات بث منقول وتلقي اتجاهي
3. أن اللغة ذات كيان سريع الزوال
4. التبادلية
5. التغذية الارتدادية التامة
6. التخصصية
7. الدلالية
8. الاعتباطية
9. التمايز/ الانفصالية
10. الانزياح
11. الإنتاجية/ (أو الإبداعية كما يدعوها جومسكي)
12. الانتقال الثقافي
13. ثنائية التنميط

ثم لم يكتفي (هوكيت) بهذا العدد من (السِمات التصميمية) للغة البشرية فأضافَ ثلاثة سِمات أخرى ,ليصبح عددها أجمالاً (ستة عشر), وألحقها ب ( الانزياح, والإنتاجية, والانتقال الثقافي, وثنائية التنميط) في اقتصار وجودها على اللغة البشرية فحسب. وهذه السِمات المُضافة هي:

14. المواربة
15. الانعكاسية
16. التَعَلُمِيَة.

كما أضاف بعض اللغويون المعاصرون ثلاثة سمات أخرى ليصبح العدد (تسعة عشر):

17. السيطرة
18. التبعية البنيوية
19. الدَورْ.

ونحن لسنا بصدد كتابة مقدمة أكاديمية تتناول هذه السِمات بالدرس والتفصيل بل يرتكز اهتمامنا على دور هذه السِمات في خلق عائق عسير أمام طروحات الأصل البيولوجي التطوري للغة البشرية. ونخشى إذا ما أسهبنا في تناول أبجديات هذه السِمات أن تكتسي لغة الكتاب بتفاصيل تقنية نرى أن القارئ في غنىً عنها.
ويرى (هوكيت) أن اللغة تختلف عن التواصل, إذ تقتضي اللغة توافر جميع هذه السمات (الستة عشر) في بنيتها دون استثناء, في حين تفتقر جميع الأنظمة التواصلية لدى الحيوانات, وان بدا بعضها غاية في التعقيد والتطور, إلى بعض هذه السمات وتشتمل على البعض الأخر.
وانطلقت جيوش من الباحثين من لغويين وايثولوجين لدراسة مختلف أنظمة التواصل لدى الحيوانات للتحقق من مزاعم الفرادة المنسوبة للغة البشرية. فنظروا عن كثب إلى قنوات التواصل المفتوحة لدى النمل فوجدوه يعتمد نظاماً تواصلياً يقوم على إطلاق عشرين مادة كيميائية ذات رائحة مختلفة تدعى (الفيرمونات), ويحمل كل منها مضموناً دلالياً محددا يتعلق بمكان الطعام, ومصادر الخطر, بل وحتى الدفاع عن المستعمرة ووضع خطط هذا الدفاع. هذا السلوك التواصلي المعقد يقتضي بالطبع نظاماً تواصليا دقيقاً. كما شكلت آليات التواصل بين الطيور تحدياً جادا لقائمة (هوكيت). إذ أظهرت هذه الآليات أنها صوتية-سمعية, ذات بث منقول وتلقي اتجاهي, كما أنها سريعة الزوال, فضلاً عن دلاليتها, واعتباطيتها الواضحتين. وتشكل الأغاني والصرخات عنصرين أساسيين في بنية النظام التواصلي لدى الطيور: إذ تُستخدم الأغاني أساساً لجذب الشريك بينما تنحصر وظيفة الصرخات في إصدار نداءات الخطر الوشيك, أو الكشف عن مصدر ما للطعام وأيضا لتنسيق الحركة الجماعية ضمن إطار السرب. وتعد الصرخات بسيطةً من ناحية الفيزياء السمعية, أما الأغاني فتكون عادةً أطول وأكثر تعقيداً. فالطيور توظف نوعاً ما من النحو لتركيب أغانيها حيث تقوم النوتات الموسيقية مقام الفونيمات (phonemes). كما يكتسب ترتيب النوتات أهمية بالغة في تحديد المعنى المراد للأغنية وهذا مؤشر واضح على وجود ظاهرة التمايز أو الانفصالية القائمة بين نوتات البناء الموسيقي لتلك الأغاني. ومع ذلك لا تمتلك الطيور القدرة على خلق تشكيلات لانهائية من تلك النوتات المحدودة العدد, فمحدودية النوتات تنعكس إجمالا على محدودية الرسائل الغنائية التي بوسع تلك الطيور أنتاجها. فبعض الطيور لا تمتلك سوى أغنية واحدة فحسب, والبعض الأخر قد يصل عدد الأغاني التي في متناوله إلى 2000 أغنية ذات دلالات متعددة ومتنوعة لكنها لا زالت محدودة العدد.
ولم تلبث تلك الدراسات طويلاً حتى أظهرت مؤخرا حالة استثنائية لقرد من نوع البونوبو يدعى (كانزي). ففي عام 2006 أظهر هذا القرد العجيب, في مختبر اللغة لجامعة جورج ستيت الأمريكية, قدرة هائلة على تعلم نوع من اللغات المصطنعة تدعى (يركش/ Yerkish) وتتضمن مجموعة من الرموز الموضوعة على لوحة من ألأزرار مرتبطة بحاسوب. وأظهر القرد كانزي قدرة استثنائية على تعلم تلك الرموز فضلا عن ضغطه الأزرار على التوالي لينظم جملاً كاملةً ذات محتوى دلالي واضح. وبلغ معجم المفردات التي تعلمها (كانزي) 400 رمزاً. وفي سن الثامنة سجل الباحثون في جامعة جورج ستيت قدرة واضحة لكانزي على فهم اللغة الانكليزية المنطوقة فأخذ يقرن رموز لغة يركش بالكلمات المنطوقة ضمن مستوى يوازي مهارات طفل بشري في سن السنتين ونصف فكان يستجيب لبعض الأوامر المنطوقة مثل (ضع الصابون على التفاح). بل وسجل الباحثون ظاهرة غاية في الغرابة لدى كانزي حينما رصدوا تنسيقاً دقيقاً لمجموعة من الأصوات الناعمة يُصدِرُها هذا القرد ويناور في درجة ارتفاعها وانخفاضها ليشير إلى أشياء مثل الموز, والعنب, والعصير ويعد ذلك دليلا لا يستهان به على بلوغ كانزي مستويات هائلة من السيطرة على جهازه النطقي مما جعل بوسعه انتاج ما يوازي السِمات الفونولوجية المميزة للأصوات عن غيرها وذلك أمر لم يكن في حسبان الباحثين ملاحظته لدى أجناس أخرى مغايرة لجنس الإنسان . ووصل الأمر بكانزي إلى مستويات غير مسبوقة من السلوك اللغوي حينما أخذ يستخدم نظامه الرمزي مطالباً بمشاهدة أفلامه المفضلة: طلب النار (يعني رغبته بمشاهدة فلم عن الإنسان البدائي), وغريوستوك/ Greystoke (لمشاهدة فلم طرزان)!
السؤال الذي لا يمكن تجنبه في هذا السياق هو :إذا ما كانت اللغة البشرية تمتلك من الخصائص ما يجعلها نظاماُ تواصلياً فريداً من نوعه وعصيا أو مستحيلاً على بقية الأجناس فكيف يكون بوسع البعض من هذه الأجناس فهم هذه اللغة ناهيك عن استخدامها؟" والأمثلة كثيرة وشائعة حول تنفيذ الحيوانات لما يبدو أنه أوامر لغوية صادرة عن الإنسان ضمن سياق يبدو أنه يشتمل على تواصل حقيقي بين الطرفين, من منا لم تصبه الدهشة أمام الطريقة الحرفية التي يتواصل بها راعي الأغنام مثلا مع قطيع أغنامه وهو يطلق أصواتً دقيقة ومتمايزة يستجيب لها القطيع استجابة محيرة في دقتها. كيف يمكن لنا وضع تفسير لتلك الظواهر في ضوء الفرادة المزعومة للغة البشرية والتي لا تعني ,إن كانت هذه الفرادة حقيقية ,سوى استحالة تَعَلُم أي أجناس أخرى غير الإنسان لهذه اللغة فضلا عن إنتاجها.
يسخر عالم اللغويات الأمريكي ( نوم جومسكي ) من جميع محاولات الباحثين الرامية إلى إثبات قدرة الأجناس الأخرى من غير الإنسان, وخاصة القردة, على اكتساب اللغة البشرية ويرى أن المحاولات العبثية التي تحاول إثبات امتلاك القردة لقدرات لغوية توازي تلك التي يمتلكها البشر تشابه في لا جدواها محاولات الإنسان تعليم الطيران لطيور لا تطير أصلا مثل البطاريق. فعلى الرغم من التشابه الجيني بين البطريق مثلا والنورس لا يمكن للبطريق أن يطير مهما حاولنا تعليمه ذلك ونفس الأمر ينسحب على محاولات الإنسان تعليم القرد مفردات السلوك اللغوي البشري بالرغم من التشابه الجيني الهائل بينهما إذ يبلغ (98.5%). فهو (إلى جانب باحثِين آخرين) يرى أن اللغة مَلَكة بشرية بامتياز ناجمة عن وجود برمجة جينية مُسبقة لجنسنا تجعل عملية اكتساب اللغة من المحيط عملية ممكنة ويسيرة, بل ويمضي إلى ما هو أبعد من ذلك حينما يتحدث عن قطعية وجود عضو متخصص باللغة في الدماغ البشري منفصل عن جميع الأعضاء الأخرى وظيفياً.
ترى النظرية المعاصرة والسائدة حول أصل اللغة أن تغيراً جينياً أنتجَ تعليمات جينية لبناء وحدة خاصة للغة في الدماغ البشري. ولم يكن لدى البشر, قبل حدوث هذا التخصص الجيني للغة , آنذاك أي نحو مثلا: لا حديث نحوي, لا أعراب للنحو, لا مفهوم للنحو. ومما لا ريب فيه أنهم تواصلوا مع بعضهم (فالطيور والنحل يتواصلون), إلا أن تواصلهم هذا لم يكن تواصلاً نحوياً على الإطلاق. بل لم يكن لغةً أصلا. وتعد وحدة اللغة هذه وحدة مكتفية بذاتها: فهي لا تستعين بأي بُنية أو عمليات مأخوذة من أي قدرات أخرى مثل النظر. ويختلف المناصرون لهذه النظرية – وهم يشكلون مجموعة كبيرة من الباحثين المتميزين حيث تضم إلى جانب (نوم جومسكي), كل من (ستيفن بنكر), و (بول بلووم) – فقط فيما يتعلق بالميكانزمات التطورية المسؤولة عن التخصص الجيني للنحو.
وبالطبع, يعد من نافلة القول في هذه النظرية الاعتقاد بأن تطور اللغة لدى أي طفل بشري معاصر ينجم كلياً عن الوحدة النحوية المستقلة في دماغ الطفل, والتي نشأت كلياً من التعليمات الخاصة المبثوثة في جيناته. إذ تحث اللغة المسموعة الطفل على غلق تلك الأجزاء من الوحدة اللغوية التي ما عاد بحاجةٍ أليها.
وتفسر هذه النظرية المعاصرة ظواهر ما يبدو أنه تواصلا بين الإنسان وغيره من الأجناس في ضوء معطيات علم النفس السلوكي: فالحيوان يُنتج على الدوام سلوكاً معينا بصفته (استجابة) لمثير صوتي من نوعٍ ما, لكنها لا تُدرِك على الإطلاق ما تعنيه حقاً هذه الكلمات الواردة في سياق المثير الصوتي الذي يُصدِره الإنسان. أما ادعاءات إنتاج السلوك اللغوي لدى الحيوانات فهو أنتاج, في أحسن أحواله, مشوه أجمالاً ولا يقترب إلا قليلا جداً من فيزياء الأصوات المسموعة في اللغة البشرية. وذلك يتضافر أيضا مع الفرادة والخصوصية التشريحية لجهاز النطق البشري. فأسنان الإنسان عمودية, وليست مائلة بانحراف كما هي عليه الحال لدى القردة عموما, كما أن أسنان الإنسان متساوية إلى حد ما في الارتفاع. أما الشفتان فتكونان لدى الإنسان أكثر مرونة عضلياً مما هي عليه لدى بقية الأجناس. والفم لدى الإنسان أصغر بكثير منه لدى بقية الحيوانات ويساعد ذلك على فتحه وغلقه بسرعة كما انه يشتمل على لسان أصغر وذو نسيج عضلي أكثف مما يجعله مرناً للغاية في تشكيل مجموعة متنوعة تماماً من الأصوات داخل التجويف الفموي. ناهيك عن موقع الحنجرة البشرية الأكثر انخفاضا في البلعوم في حين أنها أكثر ارتفاعا لدى القردة على سبيل المثال, وينجم عن ذلك تمدد أكثر لفضاء البلعوم, أعلى الحبال الصوتية, مما يجعله أكثر قابلية على إرجاع وتنويع الصدى الصوتي المتولد عبر الحنجرة. رغم أن هذا الموقع المنخفض للحنجرة في بلعوم الإنسان يجعله أكثر قابلية على الاختناق ببقايا الطعام.

5. ما كل هذه الضجة؟
ظهرت مؤخرا, مع التقدم الملحوظ في بيولوجيا اللغويات (Biolinguistics ), نظريات أكثر تحديداً لنطاق الخصائص أو السِمات التي تضع اللغة البشرية في سياق منقطع تماماً مع سِمات أنظمة التواصل الشائعة لدى بقية الأجناس. إذ شرع (نوم جومسكي ) و (روبرت بيروك ) مثلاً في كتابهما الأخير (لمَ نحن فحسب: اللغة والتطور) 2016, باحتواء فوضى تلك السِمات المميزة للغة البشرية, وتحديداً للبُنية النحوية لتلك اللغة, واختزالها في ثلاثة سِمات يدعونها "المبادئ" وهي:

1. إن نحو اللغة البشرية يعد نحواً هرمياً لا يأبه البتة بالتسلسل الرقمي أو الخطي للمفردات المعجمية إلا في حالة الإخراج النطقي أو المدون
2. تفسير الجملة في اللغة البشرية يتأثر إلى درجة كبيرة ببنائها الهرمي
3. عدم وجود سقف محدد لعمق مستويات البُنية الهرمية للجملة.
بوسعنا تناول بعض الأمثلة البسيطة التي ستجعل القارئ على عتبة الجدل المنطقي الكامن خلف التركيز على هذه السِمات الثلاث تحديداً.
ففيما يتعلق بالسِمة الأولى الخاصة بهرمية البناء النحوي للغة البشرية وإسقاطه للبُنية الخطية للجمل من الاعتبار بوسع القارئ تأمل الجملة التالية:

الرجل الذي يزدري الضعيف أحمق

خطيا تتركب هذه الجملة البسيطة من خمسة كلمات:


الرجل الذي يزدري الضعيف أحمق
1 2 3 4 5



مجرد قراءة أولى فحسب كفيلة بإحالة القارئ إلى معرفة مباشرة بمُتعلَق كلمة (أحمق), فهي نعتٌ لكلمة (الرجل) تحديداً, وليست نعتاً لكلمة (الضعيف). هذا غريب نوعاً ما! إذ أن كلمة (الضعيف) أقرب رقمياً وخطيا إلى كلمة (أحمق), فالمسافة الخطية بينهما = (صفر) كلمة. أما المسافة الخطية بين كلمة (الرجل) و كلمة (أحمق) فهي = (3) كلمات. كان الأولى بكلمة (الأحمق), ضمن السياق الخطي للبُنية الجملية, أن تكون نعتاً لكلمة (الضعيف) المجاورة لها تماماً لا لكلمة (الرجل) التي تفصلها عنها ثلاث كلماتٍ كاملة. وبرغم ذلك لا يمكن لكلمة (أحمق) أن تكون نعتاً إلا لكلمة (الرجل) حصراً. ولكن لمَ؟ السبب في ذلك أن كلمة (الرجل) قد تكون هي الأبعد عن كلمة (أحمق) خطيا لكنها هي الأقرب إليها ضمن مستويات البناء الهرمي للجملة:








الرجل
أحمق
الذي
يزدري

الضعيف

التركيب الهرمي للجملة يشير بوضوح إلى أن المسافة الهرمية بين كلمة (الرجل) و (الأحمق) = مستوى هرمي واحد إلى الأسفل. كما أن هذه المسافة الهرمية بين كلمة (الضعيف) و كلمة (أحمق) = مستويين هرميين إلى الأسفل. وذلك مؤشر حاسم على أن (الرجل) أقرب إلى (أحمق) هرمياً منها خطياً, في حين أن (الضعيف) أبعد عن (أحمق) هرمياً منها خطياً. يبدو أن نحو اللغة البشرية لا يحفل البتة بالمسافة الخطية الرقمية للمفردات المعجمية المنتظمة في تركيب الجملة ولا يوجد محك حقيقي تنتظم بموجبه أبنية الجمل سوى المسافة الفاصلة بين مستويات البناء الهرمي لعناصر تلك الجمل.
أما قضية تأثير هذا البناء الهرمي على دلالات الجملة فهو أمرٌ حافلٌ بالكثير من الاستنتاجات التي ليس بوسع القارئ أو المستمع الوصول أليها ما لم يعتمد البناء الهرمي للجملة بَوصَلةً توجهه نحو الدلالة المناسبة لعناصر الجملة ضمن حدودها البنيوية. وكمثال على ذلك, بوسعنا قراءة الجملتين التاليتين:

قالَ أحمدٌ أنَ زيدٌ ضربَ نفسه.
قالَ أحمدٌ أنَ زيدٌ ضربَه.

سيُجزِم القارئ بما لا يقبل الشك بدلالاتٍ محددة للضمير المتصل (ـه) في كلتا الجملتين الآنفتين. إذ أن ألـ (ـه) في الجملة الأولى تعود إلى (زيد), أما في الجملة الثانية فتعود إلى (أحمد).


قالَ أحمدٌ أنَ زيدٌ ضربَ نفسـ (ـه).
1 2 3 4 5 6 7



قالَ أحمدٌ أنَ زيدٌ ضربَـ ( ـه).
1 2 3 4 5 6


ولكن لمَ تعود دلالة ألـ (ـه) في (نفسه) إلى (زيد) في حين أنها تعود إلى (أحمد), وهو الأبعد خطياً عنها, في الفعل (ضربه) ولا تعود إلى (زيد) إطلاقا؟ أن المعرفة اللغوية التي ينطوي عليها عقل القارئ معقدةٌ بمكان يجعل من تبسيطه أمراً عسيراً في هذا السياق. ولكن, ومع مساعدة المخططات الهرمية المبسطة لبناء الجملتين, بوسعنا القول ببساطة أن ما يجعل القارئ يميز بين دلالات الضمير المتصل (ـه) في الجملتين معرفته بحدود البُنية الهرمية لعناصر الجملتين. إذ انه يدرك تماما أن الضمير المتصل (ـه) في (نفسه) لا بد لدلالته أن لا تغادر عنصر (أسم العلم) الواقع ضمن حدود الجملة التي ورد فيها هذا الضمير تحديداً على اعتبار أن الضمير المتصل (ـه) في (نفسه) يصبح ضميراً انعكاسيا يقوم فيه الفاعل نفسه بتنفيذ الفعل على نفسه ومن هنا جاء (زيد) بصفته أشارة مرجعية لدلالة أل (ـه). أما دلالة الضمير (ـه) في الفعل (ضربَ) فلابد لها (أي الدلالة) من مغادرة حدود الجملة المباشرة (أو الأصغر) التي وردَ فيها هذا الضمير متصلاً بالفعل (ضربَ) وعائديتها إلى (أسم علم) أخر يقع خارج حدود الجملة المباشرة التي ورد فيها هذا الضمير المتصل وهذا الاسم هو (أحمد). أو قد تعود دلالة الضمير المتصل إلى شخص أخر لا تتوافر عليه عناصر الجملة وربما يكون بوسعنا تحديده من مؤشرات معينه في سياق الجملة. وربما يساعد التحليل الهرمي المبسط لبنية الجملتين في رسم صورة أكثر وضوحاً للقارئ عن حدود الدلالات التي ينتمي اليها الضمير المتصل في كلتا الجملتين:









قال أحمدٌ أنَ زيدٌ ضربَ نفسـ ـه











قال أحمدٌ أنَ زيدٌ ضربـ َ ـهُ






ومرةً أخرى نجد أن المعيار الحقيقي في الوصول إلى دلالة عناصر الجملة لا يأبه بالتسلسل الرقمي لتلك العناصر ضمن حدود الجملة الرئيسة ولكنه يرتكز إلى إدراك حدود البناء الهرمي الذي يحكم عناصر الجملة عموماً.
أما فيما يتعلق بالسِمة أو المبدأ الثالث وانعدام وجود سقف يُحَجِم مستويات العمق في البنية الهرمية للجملة في اللغة, فهو يعد واحداً من أكثر السِمات أصالة في خارطة الفرادة المنسوبة للغة البشرية ويُطلق على هذا المبدأ عادة (التكرار / Recursion).
ربما يكون غاليلو من أوائل العلماء في القرن السابع عشر الذين أدهشتهم الآلية اللغوية, أو "الأختراع المدهش" على حد تعبيره, والتي تجعل الإنسان قادراً على تشكيل مجموعة لا نهائية من العبارات مستخدماً مجموعة محددة من 25 أو 30 صوتاً مختلفاً فحسب. وأول من أعادَ رصد ظاهرة التكرار في بنية اللغة البشرية هو نوم جومسكي, في القرن العشرين, في التفاتة عبقرية جعلته يستعير مفهوم التكرار, ضمن سياق رياضي معاصر, من عالم الرياضيات البريطاني آلن تورينغ ويستخدمه في استنطاق قابلية البُنية الهرمية للغة على تكرار مستوياتها العميقة إلى ما لانهاية.
ويعتقد جومسكي, في بحث نشره عام (2002) بالاشتراك مع عالمي النفس في جامعة هارفرد هوسير وفيتش, أن المَلَكة اللغوية بمعناها الضيق والأكثر تحديدا لا تمتاز بأي فرادة قطعية عن أنظمة التواصل الأخرى ما خلا فرادة التكرار. إذ أن سِمة التكرار ترفد اللغة البشرية بالميكانزمات اللازمة لثرائها و لتوليد عدد لانهائي من العبارات المركبة من مجموعة محدده من العناصر وينجم عن ذلك الإبداعية المدهشة والكامنة في بُنية اللغة البشرية والتي لا يضاهيها في ذلك أي نظام تواصلي تناوله الباحثون بالدرس والتحليل حتى الوقت الراهن.
ويكمن جوهر التمايز في سِمة التكرار (مقرونةً بعملية الدمج/ Merge التي تمخض عنها مشروع جومسكي الأخير الأدنوية أو Minimalism) في ميكانيكية بسيطة لكنها ذات نتائج مدهشة على مستوى القدرة التعبيرية والتركيبية الكامنتين في نحو اللغة البشرية: فلنفترض وجود عنصر نحوي أساسي ندعوه (س), قد يكون مجرد كلمة أو جزء من كلمة, وأخر ندعوه (ص), دمج العنصرين معاً يُنتِج عنصراً نحوياً جديدا ذو بُنية هرمية ندعوه المجموعة {س, ص}. وينجم عن عملية الدمج هذه مجموعة جديدة ندعوها (ع):
ع = {س, ص}
عملية الدمج هذه تجري في اللغة البشرية على اعتبار أن الأخيرة عبارة عن نظام حاسوبي يقوم بالحد الأدنى من الحوسبة ( Minimal Computation) وفقاً لخوارزمية تقوم أولا بدمج عنصري (س) و(ص) بصفتهما أصغر عنصرين نحويين في اللغة منتجةً بذلك عنصراً جديداً أسمه (ع) والذي سيُدمج بدوره مع عنصر نحوي أخر, ليكن (ح), ناتج عن عملية دمج أخرى وهكذا دواليك إلى ما لانهاية:

ع = {س, ص}
ح = {م, ر}
هـ = {ع, ح}
هـ = {{س, ص}, {م, ر}} . . . .الخ

وبعبارة أخرى, يمكننا إدراك لا نهائية هذا النوع من العلاقات النحوية حينما نتناول الاحتمالات التوليدية لعلاقتين محددتين فقط على سبيل المثال لا الحصر:

س ص
س س + ع
تشير هاتان العلاقتان إلى الإمكانية التركيبية لـ (س), إذ أنها قد تتركب من عنصر واحد هو (ص) أو من عنصرين هما (س) نفسها مكررة ولكن بإضافة (ع) إلى جانبها. ترسم هاتان العلاقتان الأساس التركيبي للتسلسلات الآتية:
ص
ص + ع
ص + ع + ع
ص + ع + ع + ع
ص + ع + ع + ع + ع . . . .ع ن

والملاحظ فعلياً هو أن العلاقتين المحددتين بوسعهما التعاطي مع أي سلسلة تتركب من العنصر (ص) متبوعاً بأي عددٍ كان من (ع) ابتداءً من الصفر والى ما لانهاية (ع ن). أي أن مجرد علاقتين محدودتين تملكان القابلية على تشخيص البنية التركيبية لمجموعة لانهائية من التسلسلات. هذا مدهش . . مدهشٌ حقاً!
ولا ريب أن التكرار في البنية اللغوية أكثر شموليةً من ذلك بكثير, وليس بوسعنا الاستفاضة أكثر خشية التوسع في استخدام المصفوفات والخوارزميات التي تتطلب احتسابا تكرارياً دقيقاً للاحتمالات التركيبية للعناصر النحوية. لكن جوهر ما نريد الإشارة إليه في هذا السياق أن مجمل التراكيب النحوية في اللغة البشرية تبدو وكأنها ناجمة عن تكرار لبعض الأبنية الهرمية مما ينتج عنه تراكيب متداخلة مع بعضها البعض, من عبارات أو جمل متراكبة أو متشابكة الأجزاء. لا يمكن لهذه التراكيب المعقدة أن تكون متيسرة إلا في ظل تطبيق تكراري للعلاقات الهرمية بين العناصر اللغوية سواء على نطاق العبارات أو الجمل.
ويجعل هذا التكرار من الإبداعية علامةً فارقةً للغة ومتأصلة في بنيتها القادرة على استنساخ هياكلها النحوية الى ما لانهاية. فمثلا, أحدى العمليات التكرارية ناجمة عن حشر عدة سلاسل متداخلة في بنية جُمَلِية لا نهاية لها وذلك بمجرد ألاستخدام المتكرر لأفعال مثل قال أو فكر أو أعتقد مشفوعةً ببعض جمل الوصل:

أحمد قال أن زيد أعتقد أن هذا هو الكتاب الذي أثار حنق اللغوي الذي أدهشَ عالم النفس حينما قال أن التكرار إحدى أهم السِمات المُحَدِدة للغة البشرية.

وبوسعنا إضافة عبارة أخرى إلى مقدمة هذه الجملة لتصبح:
اعتقدت ليلى أن: أحمد قال أن زيد أعتقد أن هذا هو الكتاب الذي أثار حنق اللغوي الذي أدهشَ عالم النفس حينما قال أن التكرار إحدى أهم السِمات المُحَدِدة للغة البشرية.

أو حشر مركبات أخرى متنوعة من أسماء وحروف جر:

اعتقدت ليلى أن أحمد قال أن زيد أعتقد أن هذا هو الفصل الرابع في الكتاب الذي أثار حنق اللغوي الذي أدهشَ عالم النفس حينما قال أن التكرار إحدى أهم السِمات المُحَدِدة للغة البشرية.
وهكذا دواليك.

وبلا ريب, لا يوجد حد يتوقف عنده زحف البُنية المتغولة لهذه الجملة وكل ما يتطلبه الأمر مجرد إضافة بسيطة ومتكررة إلى مقدمتها. وهذا بالتحديد ما أشارَ إليه نوم جومسكي حينما أكد على الفرادة القطعية للغة البشرية لكونها النظام التواصلي الوحيد بين جميع أنظمة التواصل الأخرى لبقية الأجناس بوسعها توظيف أدوات محدودة لإنتاج مركبات لا محدودة ولانهائية لعناصرها الأساسية. إن الأمر أشبه ما يكون بالجدول الدوري للعناصر الكيميائية في الطبيعة, اذ يحتوي هذا الجدول على 172 عنصرا كيميائيا وبأوزان ذرية دقيقة تختلف لكل عنصر من هذه العناصر المجدولة بحذر. جميع الأجسام الحيوانية والنباتية والصخرية في عالمنا تتركب من تشكيلات مختلفة لهذه العناصر. لكن هذا الجدول يختزن امكانيات أخرى غير مُفَعَّلة حتى الآن وما أن تُكتَشف مركبات أو أجسام أخرى في الطبيعة حتى تجد أنها مجرد تشكيل كيميائي أخر لبعض عناصر الجدول المذكور. اللغة تنطوي على آليات تركيبية محددة بوسعها إنتاج تشكيلات لغوية لانهائية. ولا يمكن لماكنة محدودة أن تكون مصدرا لانهائياً لمصنوعات مختلفة إلا إذا اعتمدت هذه الماكنة خطاً إنتاجيا يقوم على تكرار لانهائي لتلك الآليات التصنيعية.
يعد اكتشاف هذه القابلية التكرارية الكامنة في جسد اللغة البشرية منجزاً حصرياً لنوم جومسكي رغم أنه شخصيا يُصرِح مراراً أن أول من ألتفت إلى البعد الإبداعي في مخرجات اللغة البشرية هو ديكارت وأعاد همبولدت صياغة هذا البعد على نحوٍ أكثر دقة حينما أشار إلى استثنائية "الاستخدام اللامحدود لأداة محدودة". لكن جومسكي هو أول من أنغمس في دراسة جادة لهذا البعد مستثمراً مفاهيم رياضية صارمة تعود للرياضي البريطاني آلن تورينغ.
وبالطبع نحن لا نوظف هذه القابلية في حياتنا اليومية على النحو الذي يُنتِج تلك الجمل الطويلة التي ذكرناها آنفا فهي تتجاوز حدود الذاكرة التي ليس بوسعها سوى ملاحقة تراكيب الجمل المعقدة ضمن النطاق المعقول للتعقيد النحوي. لكن تلك الجمل الطويلة والمتداخلة على نحو غريب تقوم مقام الشاهد على القابلية النظرية للغة البشرية على خلق مركبات نحوية جديدة ومختلفة إلى حدود يصعب, إذا لم يستحيل, تعقبها. تعد هذه القابلية على التعاطي مع التكرار اللغوي عبر آلية الدمج النحوي علامة فارقة ومؤكدة حتى الآن ليس على فرادة اللغة البشرية فحسب بل وعلى فرادة الإنسان أيضا ضمن الخارطة البيولوجية للأجناس. وذلك أمرٌ غاية في الأهمية حينما يتعلق الأمر بدراسة تطور أو أصل اللغة البشرية.

6. تباً ! ما هو أصل اللغة البشرية؟
كتب مولر عام 1866 قائلاً: "اللغة هي حدنا المتاخم, ولن يجرؤ أي حيوان على تجاوزه. . . . لن تفلح أي عملية انتقاء طبيعي أبداً في استخلاص كلمات ذات مغزى من إيقاعات الطيور أو صراخ الحيوانات."
هل للغة أصل؟ نعم, وأن كانت ألـ (نعم) هذه مشوبة بالضباب والجدل إلى حدٍ ما. كما أن ألـ (نعم) هذه تُشكل موقفاً معرفياً يعود إلى ثلاثة فرق متنازعة في سياق الأصل اللغوي, و(نعم) كل منها تعني شيئاً مختلفاً تماماً عن ألـ (نعم) الأخرى للفريقين الآخرين. يعتقد الباحثون في هذه الفرق الثلاث ( وهم مجموعة موزائيكية من الباحثين من شتى الميادين المعرفية) بوجود قطيعةٍ ما بين أصل اللغة البشرية وأصل ميكانزمات التواصل لدى بقية الأجناس من الفقريات. كما يعد نوع هذه القطيعة التي يؤمن بها كل فريق عاملاً حاسماً في تحديد المقاربة التي ينتهجونها في تبرير أجابتهم عن سؤال الأصل اللغوي.
يؤمن الفريق الأول بحتمية وجود قطيعة ما بين اللغة البشرية وأنظمة التواصل لدى بقية الحيوانات وخاصة الفقريات منها. لكن نوع هذه القطيعة لا يجعل من لغتنا ظاهرةً فريدةً من نوعها ذات جذور تطورية تختلف عن الجذور التطورية لأنظمة التواصل الحيواني. فهذه القطيعة تندرج ضمن خانة الكم لا النوع. فللغتنا أصل, (نعم), يندرج ذلك ضمن الصورة التطورية الأكبر والأكثر شمولية حيث يرتبط الإنسان تصنيفياً مع غيره من الفقريات ضمن حلقة طيفية متدرجة من التطور البيولوجي. فكل ما في الأمر أن لغتنا تتشابه مع أنظمة التواصل لبقية الفقريات إلا أن الأخيرة تعد أقل تطوراً من الأولى أو أنها تعد نسخاً معدّلة عن اللغة البشرية. وتعد هذه الفرضية من أكثر الفرضيات شيوعاً وانتشارا خارج المجال المعرفي للسانيات. فاللغة البشرية تتركب من الأجزاء الوظيفية ذاتها (نوعاً) والتي تشكل البنية التحتية ودعامة التواصل بين بقية الأجناس. وبالتالي يكمن مفتاح معرفتنا لأصل اللغة البشرية في تتبع ميكانزمات التواصل لدى الأجناس القريبة من الإنسان. إذ سنعثر وفقاً لهذه الفرضية على نفس السِمات التي تتوافر في اللغة ولكن على مستوى كمي أقل تطوراً وأكثر بدائيةً. وأفضت هذه المقاربة مؤخراً إلى تبني إجابة واضحة المعالم حول الأصل اللغوي تكمن في التأكيد على الأصل الإيمائي بدلا عن الأصل الصوتي, كما أوضحنا ذلك سلفاً.
أما الفريق الأخر فيؤكد على وجود قطيعة نوعية لا كمية بين الحلقات التطورية للغة وتلك الخاصة بالتواصل الحيواني. تشخص اللغة لدى هذا الفريق بصفتها أخر مؤشرات الفرادة للجنس البشري, فاللغة قفزة نوعية وفريدة من نوعها لا تنسجم مع السياق الطيفي والمتدرج لنظرية التطور البيولوجي. وكما هو معروف ترتكز نظرية التطور الداروني على مبدأ أساسي هو : " الطبيعة لا تقوم بقفزة أو Natura non saltum facit ". وتنتهك اللغة, بصفتها قفزة بيولوجية هائلة, هذا المبدأ الأرتكازي للرؤية التطورية لطبيعة الأجناس البيولوجية.
ومن المفارقات المثيرة أن (الفريد رسل والاس), رغم اشتراكه الفاعل مع دارون في اكتشاف نظرية التطور عبر الانتقاء الطبيعي, يتسأل عن جدوى اللغة لأجدادنا الأوائل. فهو ينطلق في تساؤله هذا من مبدأ تكيفي صارم لا يرتاب فيه البتة يدعوه (الجدوى الضرورية أو necessary utility ), إذ لا بد لكل جزء في أي كائن حي من جدوى. غير أنه لم يستطع أدراك جدوى القدرات العليا للعقل البشري لأجدادنا الأُول مثل اللغة, الموسيقى, والفنون عموماً . إذ كيف يكون بوسع سونيتات شكسبير, أو سمفونيات موزارت الإسهام في انجاز الغايات التكاثرية لهم. ويَخلُص والاس إلى قناعة مثيرة للجدل ترى في الانتقاء الطبيعي آلية أساسية, لكنها ليست حصرية, في إحداث التكيف. لا بل ويَخلُص في أحدى قفزاته الميتافيزيقية عام (1869), والتي أصابت دارون نفسه بالذعر حينها, إلى احتمالية وجود عقل أسمى قام أثناء تطور الجنس البشري بتوجيه قوانين التغيير, والتكاثر, والبقاء نحو غايات أسمى وأكثر نبلاً. بالتأكيد أن هذه الاستنتاجات والتخمينات التي أثارها (والاس) تنجم عن إدراكه العميق لمنطق الداروينية الذي يقتضي نوعاً ما من الاستمرارية الصارمة والتدريجية مع الماضي, تكيفات كثيرة لكنها طفيفة ومتعاقبة تقع بيننا وبين أجدادنا. ولكن ماذا عن هذه الفجوة الهائلة بين ما بوسعنا فعله وما ليس بوسع بقية الأجناس فعله: اللغة. هنا يكمن اللغز.
ويأتي أسما عالم اللغويات (نووم جومسكي) وعالم البيولوجيا ( ستيفن جي غولد) في مقدمة الباحثين المتعاطين مع أطروحات هذا الفريق. يرجح هذا الفريق كثيراً الأستثنائية النوعية للأسس البيولوجية التي تدعم هذه "الفجوة الهائلة" للسلوك اللغوي لدى الإنسان. ويبدو هذا الإنسان فريداً من نوعه هنا, ومنقطعاً تماماً عن أي حلقات تطورية وضعها دارون وأتباعه في البيولوجيا التطورية. فالهوة هائلة بين لغة بشرية غاية في الإبداع والتعقيد وأنظمة تواصلية تعتمد نوعاً أستاتيكياً من العلامات المغلقة.
ويتخذ هذا الانقطاع النوعي لا الكمي بين اللغة البشرية وأنظمة التواصل الحيواني شكلين صارمين: الأول لغوي تصميمي, والأخر بيولوجي جيني. فاللغة البشرية ذات بُنية تصميمية فريدة من نوعها وتشتمل على عدة خصائص أو سِمات لا تتوافر أطلاقاً في البُنية التصميمية لبقية الفقريات. وبالرغم من الجدل الذي أكتنف كمية أو نوعية هذه السِمات الفارقة للغة البشرية, لا زالت السِمة التكرارية تقع في قلب التمايز التصميمي للغتنا وفقاً لتأكيدات نووم جومسكي وأتباعه من لغويين وبيولوجيين على حدٍ سواء. إذ يؤكد جومسكي (1988) على جدارة النظرية التطورية في تفسير المسارات التطورية للكثير من الكائنات الحية, لكن ليس لديها الكثير لتقدمه عندما يتعلق الأمر بقضية الأصل اللغوي, فهو يرى أنه من العسير جداً علينا أن نتخيل وجود مسار أنتخابي وتطوري دقيق ومحسوب أنتج لنا هذا النظام اللغوي المعقد.
أما الانقطاع البيولوجي النوعي جينياً فيؤكده وجود الجين اللغوي FOXP2 وهو جين يقع في الكروموسوم السابع من الـ DNA أكتشفه عام 2001 مجموعة من العلماء في جامعة أكسفورد أثناء تفحص حالة خاصة من الاضطراب اللغوي أصابت عائلة بريطانية لثلاثة أجيال.
ويتربع اللغوي وعالم النفس (ستيفن بنكر) على عرش الفريق الثالث وهو يختط درباً وسطاً بين الفريقين السابقين. ففي كتابه ذائع الصيت ( غريزة اللغة) يشرع في تبني رؤية نوم جومسكي حول وجود أساس جيني ومتأصل للنحو وحول غرائزية اللغة لدى الإنسان سواء في اكتسابها أو استعمالها على حدٍ سواء ويسوق العديد من الحجج حول ذلك أهمها ما يُعرف بـ (معضلة أفلاطون) أو حُجة الافتقار إلى المدخلات البيانية الكافية. إذ لا يمتلك الأطفال المقدار الكافي من المدخلات يكفل لهم تعلم أنظمة اللغة وأبنيتها المعقدة بمجرد التعرض لها في بيئتهم المحيطة بهم منذ الولادة. فهذه البيئة لا توفر للطفل الكمية المقنعة والكافية من المعطيات التي تؤهله لصياغة وأستقراء القواعد النحوية المجردة وتعميمها في أنتاجه لجمل جديدة لم يسمعها من فم شخص ما في محيطه الاجتماعي. والأغرب من ذلك أنه يمتلك هذا المقدار الهائل من المعرفة التعميمية المجردة حول لغته الأم قبل التحاقه بالمدرسة أصلا واطلاعه على كتب النحو التحليلية.
غير أن (بنكر) يلوي عنق المقاربة الجومسكية وينحرف بها قليلاً نحو رؤية الفريق الأول, فهو يؤكد على أن اللغة بصفتها مَلَكة لا بد لها من أن تكون قد تطورت نتيجة للانتقاء الطبيعي بصفتها تكيفاً فريدا ومدهشا غايته التواصل. فهو يعتقد أن اللغة غريزة بقدر غرائزية أنماط معينة من السلوك المتخصص والتكيفي لدى بقية الأصناف من الحيوانات, كما هي عليه الحال في غريزة نسج الشباك لدى العناكب, أو غريزة بناء السدود لدى القنادس. وربما يضع البعض طروحات (بنكر) في خانة الفريق الثاني, لكن ذلك سيكون ناجم عن سوء فهم للمساحة التي يشغلها بنكر ضمن مشروع اللسانيات المعرفية, وعلم الجينات السلوكي فضلا عن علم النفس التطوري. هذا المزيج البحثي لمعطيات هذه العلوم الثلاث هي ما جعلنا نعتقد أن بنكر يمثل خطاً أستقصائياً وسطاً بين الفريقين ولا سيما أيمانه القاطع بطروحات (دينيل دينيت وريتشارد دوكنز) فيما يتعلق بجميع القضايا ذات العلاقة بالتكيف.
وبوسعنا تفهم موقف الفريق الثالث إذا ما تناولنا بإيجاز واحداً من أهم المبادئ المعاصرة في دراسة الأصل اللغوي, وهو مبدأ (التكيف العَرَضي أو exaptation). إذ تشترك لغتنا وفقاً لهذا المبدأ تطورياً مع أنظمة التواصل الأخرى لدى بقية الأجناس غير أنها اتخذت في مرحلةٍ ما مساراً منحرفاً ومختلفاً جعلها تبدو فريدة إلى حدٍ ما. فالعديد من ألأعضاء في أجسامنا قد تكون اتخذت مساراً تطورياً في البدء مغايراً وظيفياً لما انتهت إليه الآن. فحلمة الثدي لدى الذكور, مثلاً, تعد مثالاً ممتازاً حول مبدأ التكيف العرضي. إذ تعد حلمة الثدي لدى الإناث تكيفاً تطورياً واضحاً من الناحية الوظيفية, ولكن ماذا عنها لدى الذكور؟ ما هي وظيفتها؟ وفقاً لسياقات التكيف العرضي, تعد حلمة الثدي لدى الذكور مجرد ناتج أو تكيف عَرَضي يحمل أحد الآثار المتبقية لدى الذكور والتي نجمت ببساطة شديدة عن وجود مسار تطوري مشترك للأجنة في مرحلةٍ ما قبل ظهور التمايز الجنسي الذكري والأنثوي, ثم ينحرف المسار التطوري لحلمة الثدي لدى الإناث فجاءةً وعلى نحو راديكالي ويتخذ شكلاً وظيفياً يضفي علامةً فارقة وفريدة على بيولوجيا الأنثى إزاء بيولوجيا الذكر بينما ينحسر هذا المسار التطوري ويضمحل في حالة الذكر ولا يترك سوى أثراً تركته مرحلة تطورية مشتركة للجنين قبل أن يتخذ مساراً تطورياً صارماً من الناحية الوظيفة بيولوجياً.
حينما نشرع بتطبيق مبدأ التكيف العَرَضي على طبيعة الأصل التطوري للغة البشرية, تتأسس لدينا مقاربة مثيرة ومدهشة في طروحاتها تَوافَقَ حولها معظم الباحثين ولا سيما نوم جومسكي. فعلى ما يبدو أن جميع الظواهر الصوتية والإشارية ناهيك عن بعض السمات اللغوية سالفة الذكر تظهر إلى حدٍ ما في أنظمة التواصل الحيوانية بصفتها آثاراً ومؤشرات دلالية (كما هي عليه الحال في حلمة الثدي لدى الذكر) على اشتراك هذه الأنظمة بنفس المسلك التطوري الذي أنتج لنا لغتنا البشرية بكل فرادتها وتعقيداتها المتشعبة. وهذا الاستنتاج يتوافق قطعا مع المنظور التطوري الداروني لأصل اللغة, ولكن في مرحلةٍ تطوريةٍ غامضة ولأسباب لا زلنا نجهل عنها الكثير ( وربما يعود ذلك في أحسن الأحوال إلى حدوث طفرة جينية غامضة هي الأخرى) أنعطف المسار التطوري للغتنا انعطافا راديكالياً مبتعداً كثيراً وبزاويةٍ حادةٍ جداً عن مسار التطور البيولوجي عموماً والفسلجي خصوصاً لأنظمة التواصل التي نلحظها لدى بقية الأجناس المغايرة للجنس البشري. وليس هذا وحسب, بل يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن حتى سمة التكرار, وهي قلب السمات المسؤولة عن فرادة لغتنا البشرية, ربما تكون قد انحرفت عن مسارها الوظيفي الأصلي ( كالملاحة لدى الطيور مثلا أن وجدت سمة التكرار لديها) نتيجةً لحالة تكيفيةٍ فريدةٍ من نوعها, جعل منها شاهداً استثنائيا على ظهور اللغة البشرية. فلغتنا قبل حدوث هذا التكيف الوظيفي الاستثنائي للتكرار لم تكن لغة بل مجرد نظام تواصلي محدود وأستاتيكي لا يختلف في شيء عن تنغيمات الطيور وهمهمات وإشارات الشمبانزي.
وختاماً ليس بوسعنا إلا أن نؤكد على ضرورة الكف عن الاعتقاد بأن المأزق الحقيقي خلف ضبابيات الأصل اللغوي يكمن في ذلك التماهي العميق بين تأريخ اللغة وتأريخ الإنسان. نعتقد أن هذا الاقتران المصيري والوجودي بين الإنسان واللغة, بين الوعي بالذات ونطق الكلمة لا يمكن له أن يشكل عائقاً أمام الجدل الدائر حول الأصل اللغوي بل على العكس بوسعه أن يُغني هذا الجدل لا بل ويوفر للباحثين مساحة أرحب وفضاء أكثر سعة للتحرك والمناورة ناهيك عن خلق مناخ بحثي أكثر جدوى تتضافر فيه الجهود البحثية والاستقصائية لنوعين من الباحثين: عالم البيولوجيا وعالم اللغويات. وهذا الأمر تحديداً, فضلا عن التراكم الغير مسبوق للبيانات والحقائق التي كشف عنها مؤخرا علم اللغة البيولوجي, هو ما ساهم مساهمةً فعالة في انتقال قضية الأصل اللغوي من سياقات الطرح الفلسفي التأملي إلى سياقات الجدل العلمي القائم على منهجية صارمة واستقصاء قابل للتتبع والتحقق من مصداقية مخرجاته مراراً وتكراراً.



#خالد_شاكر_حسين (هاشتاغ)       Khalid_Shakir_Hussein#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشوفينية الإيرانية وبصراوية الحسن بن الهيثم !
- هل ينبغي إحراق جويس؟!
- اللغويات المعرفية ومفهوم اللغة الأدبية
- -عازف البيانو- والتأسيس الهوليودي الراسخ لتابو الهولوكوست
- القص والصياغة المفاهيمية لوجود الأشياء
- كاتدرائيات التعليم العالي في العراق عن القيم الأكاديمية ودكا ...
- العقدة الدونية لدى أبناء الجنوب (الزيارة الأربعينية أنموذجا)


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خالد شاكر حسين - أصل اللغة