أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم الريح العوض - المثقف والديمقراطية في السودان مابعد الكولنيالي من المثقف المصلحي إلى المثقف الراعي















المزيد.....



المثقف والديمقراطية في السودان مابعد الكولنيالي من المثقف المصلحي إلى المثقف الراعي


إبراهيم الريح العوض

الحوار المتمدن-العدد: 5522 - 2017 / 5 / 16 - 19:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المثقف والديمقراطية في السودان مابعد الكولنيالي
من المثقف المصلحي إلى المثقف الراعي

ابراهيم الريح العوض
باحث سوداني


ملخص الورقة:
تحاول هذه الورقة ان تُعرَّف و تُحدَّد مهمة المثقف ودوره تجاه الديمقراطية ورسم المهام التي يقوم بها بحكم مكانته التي اطلقها عليه الجمهور وافراد شريحته " المثقفون" من خلال ما يقوم به من اعمال ويميزه عن العموم وقبل هو بهذه الصفة وارتضاها لنفسه.
ثم تنتقل الورقة للقوص في مفهوم الديمقراطية وكيف تشكل في بيئته الأولى (اثينا)وانتقاله إلى البيئات الأخرى ، لتؤكد أن الثقافة هي التي تنتج الديمقراطية بمعناها الحقيقي والفلسفي سواء كان ذلك في بدايتها في اثينا أو انتقالها إلى الأماكن الأخرى . وتؤكد أن الديمقراطية منهج حياة ، وأن العملية الإجرائية للديمقراطية لن تنجح بدون زراعتها اولا في المجتمع ، وإن نجحت هذه العملية الإجرائية لن تكن متينة وستكون في حالة توتر باستمرار . وتؤكد الورقة أن الديمقراطية اولاً ثقافة ونظام اجتماعي ثم عملية إجرائية تنظم النقاش والصراع وتعقلنه .
ثم تنتقل الورقة إلى حالة الدولة السودانية متناولة المثقف السوداني في محاولة لقراءة فكره وفعله ، كي تتعرف على مدى فهمه لمفهوم الديمقراطية ،متناولة نماذج من المثقفون ، سواء الذين تشكلت ثقافتهم في فترة الحكم الكولنيالي أو ما بعد الكولنيالي ، وكيف كانوا أي(المثقفون السودانيين) يختزلون مفهوم الديموقراطية في العملية البراغماتية الإجرائية ، لتؤكد الورقة أن المثقف السوداني كان دائما في حالة انفصام وازدواج خلقي .
ومن اجل الديموقراطية والعيش المشترك وتحقيق المجتمع الجيد الذي ننتظره ، تؤكد الورقة أن هذا لم ولن يعمل له المثقف المصلحي أي الذي يهتم بالمصلحة الشخصية أو الطائفية أو الايدولوجية،وتذهب الورقة إلى أن هذا هو دور المثقف الراعي المسؤول ، أي المثقف الذي لا يقبل المساومة والإغراءات في قول الحقيقة والجهر بها والا يهاب اية جهة كانت وألا ينحاز إلى جهة أو طبقة أو أيدولوجية أو غير ذلك على حساب الحقيقة، أن يكون هو السلطة التي تقف في وجهة جميع السلطات الظالمة ، وأن يعمل جاهدا في تغيير الانماط التقليدية الموروثة التي اعاقت تقدم الدولة .
الكلمات المفتاحية: المثقف، الديمقراطية، مابعد كولونيالي، المثقف المصلحي الوارث،المثقف الراعي





توطئة :
الديموقراطية كفكرة خرجت من افواه المثقفين ، وطبقت على نظم الحكم ، ويعالج عوراتها وعيوبها وعللها المثقفين وفي ظلها تتوسع الثقافة والايمان بالحرية والعدالة والمساواة .صحيح أن منذ ولادتها صاحبها النقد وإلى الأن يصاحبها النقد وتصطحبه معها لأنه أحد شرايينها! وهذا النقد الذي يوجه إليها أي(إلى الديموقراطية) فهو ليس بالنقد المتجاوز لها أي لقيمها و مضمونها ، لأنه من المستحيل أن تتجاوز تلك القيم الديمقراطية ، بل هو نقد من اجلها حتى تتدارك عللها ومواطن خللها . ففي أكثر البلدان ديموقراطية في الغرب تظل أمراضها قائمة ويظل تشخيصها وتشريحها قائم.
ولقد انتقلت الكلمة أي(الديمقراطية)إلى العالم العربي من الغرب سواء عن طريق المثقفين أو الحملات الكولنيالية في القرن التاسع عشر. واول من اثار المصطلح في العالم العربي هو رفاعة رافع الطهطاوي (1801_1873) بعد عودته من فرنسا متأثرا بالتجربة الديمقراطية الفرنسية واتاحتها وتوسعتها للحقوق والحريات التي القت في نفسه (الطهطاوي) الدهشة والاعجاب مما جعله يدعوا لها في مجتمعه مصر . ومنذ دخول المصطلح إلى العالم العربي ومحاولات تطبيق الديموقراطية ، لم تكن ناجحة بل فشلت في اغلب الدول إن لم تكن كلها ، وحتى التي كتب لها تحقق قدر من النجاح، فكانت الديموقراطية في هذه الدول أداتية أي اجرائية محصورة في تبادل السلطة ولم تتحقق فيها الديموقراطية بمعناها الواسع أي كنظام اجتماعي أي الديمقراطية الفلسفية .
والسودان من ضمن اوائل الدول العربية التي نالت استقلالها بعد مصر ، لقد فشلت فيه جميع محاولات الديمقراطية منذ أن نال استقلاله وراحت القراءات والتحليلات للواقع السوداني واسباب تعثر الديموقراطية في هذا البلد (السودان) تختلف لدى البعض , فمنهم من يرجعها إلى الأحزاب السياسية وتكويناتها الطائفية وغياب الديموقراطية داخل هذه الاحزاب مما ساعدت في الازمه واستعصائها (لان فاقد الشيء لا يعطيه), ومن يرجعها الي النزاعات المسلحةالمبكرة التي عطلت عملية الديموقراطية من وجهة نظره,وغير ذلك من القراءات المختلفة للواقع السوداني .
والناظر للدولة السودانية سيجد انه لازالت اشكاليات الدولة التقليدية قائمة ,وقد عجزت كل الحكومات سواء اطلقنا عليها ديموقراطية او عسكريه او شموليه عن ادارة البلاد وتحقق الديموقراطية الحقيقية.
إن القضايا التي طرحت بالأمس أي ( منذ الاستقلال) هي نفس القضايا التي تطرح اليوم (الهوية _الدين والسياسة _ التنمية _نظام الحكم) وكأن الازمة السودانية سيزيفية * بالأساس أي )ابدية غير قابلة للحل ) .
كل هذا ما يجعل الورقة تتساءل هل فشل الديموقراطية في السودان ذو علاقة بالمثقف وما علاقه المثقف السوداني بالديموقراطية هل هي علاقه إيمان تتجسد في خطابه وفعله ؟ أم انها حالة انفصامية تظهر في خطابه ويظهر تضادها في فعله ؟ وإن كانت علاقة ايمان ماذا فعل هذا المثقف من أجل ايمانه بها حتي ينشرها في مجتمعه ؟ لماذا كل ما يفتح الشعب ممر لولوج الديموقراطية يغلقه العسكر بعد فتره وجيزة؟ هل لصحه المقولةالشائعة أن هذا البلد لا يصح فيه إلا الحكم العسكري أم أنَّ القيادات السياسية غير جادة في قضية الديموقراطية وتستخدم الكلمة (ديموقراطية)في خطابها كتخدير للوصول إلى السلطة وتحقيق مصالح شخصية وايديولوجية؟ كل هذه الأسئلة تحاول الورقة تتبعها وتكشف عن ملامحها .
تعريف مفهوم المثقف:
ليس هنالك تعريف واحد ومحدد للمثقف فتعددت تعريفاته من لغة إلي اخرى ، وهذا التعدد في حد ذاته مهم جداً ، لأن اي تعريف ثابت ومحدد للمفهوم يشل فاعليته ومن يدعي صياغة تعريف محدد ونهائي قد يكون هذا نوع من الكسل والجمود الفكري . يمكن لنا أن نتابع الكلمة (مثقف) بمبناها ودلالتها في اللغات المختلفة وانتقالها من لغة لأخرى ، واختلافها و تناصها من مكان إلى مكان أخر.
ان مفهوم المثقف (intllecaals) هو مفهوم حديث نسبيا وقبل أن نحدد نسبيته علينا أن نبحث عن الكلمة (مثقف) وعلى ما تدل في القواميس اللغوية ومن ثم تعريفاتها وتحديداتها الاصطلاحية .
إن كلمة المثقف من الأصل (الثقافة) وهذه الأخيرة ليس لها تعريف واحد بل لها اكثر من(200) تعريف . فمفهوم الثقافة نشأ في اللغات اللاتينية ثم أخذ طريقه إلى اللغات الأخرى فيما بعد . وإذا أخذنا الكلمة في اللغة الإنجليزية culture من : كلتورcultura اللاتينية بمعنى الفلاحة والتهذيب ، ويستخدمها البعض بمعنى الحضارة وإن كانت الحضارة من التحضر تفيد التمدن ، اما كلمة كلتور (kultur) الألمانية ومرادفاتها باللغات الاوربية الحديثة هو (الذرع والتنمية وهو المعنى الشائع عند الكثير من الكتاب الاوربيين ، إذا هي الاهتمام بالأرض وزراعتها وتنميتها . واول من استعمل كلمة ثقافة في العالم العربي سلامة موسى إذ يؤكد هو ذلك في مقال له إذ يقول :{... كنت اول من افشى كلمة ثقافة في الادب العربي الحديث ولم اكن انا الذي سكها بنفسه فإني انتحلتها من ابن خلدون ، وإذ وجدته يستعملها في معنى شبيه بالفظة (كلتور) الشائعة في الادب الاوربي } إذن أن مصطلح الثقافة لم تعرفه اللغة العربية في القِدم وانما ظهر حديثاً ويمكن أن نجد لها العديد من المعاني و التعاريف في قواميس اللغة العربية الحديثة وكلها في حالة تناص مع بعضها البعض وهذا لا يعني انها وليدة بيئتنا العربية .
إذ نجدها عند الفيروز ابادي في قاموسه المحيط ، ذات معنيان : في معناها الأول : تعني الظفر بالشيء وأخذه ثقفه أي صادفه وأخذه او ظفر به وادركه .
والمعنى الثاني : يعني الفطنة وسرعة الفهم : (ثقف يثقف ، ثقفا وثقفاوثقافة : صار حاذقا خفيفا فطنا) .
و جميل صليبيا يعرفها : {الثقافة : ثقف الرجل ثقافة ، صار حاذقاً ، وثقفتُ الشيء حذقته ، والرجل المثقف : الحاذق الفهم ، وغلام ثقف أي ذو فطنة وذكاء ، والمراد انه ثابت المعرفة بما يحتاج إليه.} من هذا المنطلق يفهم أن الثقافة غير معممة ، أي )الجميع ( وإنما تختص بها فئة من الناس . ويؤكد جميل صليبيا أن الثقافة لها معنيان : فالمعنى الأول خاص هي تنمية بعض الملكات العقلية أو تسوية بعض الوظائف البدنية ، منها تثقيف العقل أو تسوية بعض الوظائف البدنية ومنها تثقيف العقل ، وتثقيف ابدن ، ومنها الثقافة الرياضية والثقافة الادبية أو الفلسفية .
والمعنى الثاني :الثقافة بالمعنى العام هي ما يتصف به الرجل الحاذق المتعلم من ذوقٍ ، وحس انتقادي ، وحكم صحيح أو هي التربية التي ادت إلى إكساب هذه الصفات وبذا يتأكد من التعريفات المعجمية انها تعني الاهتمام بالأرض والتنمية ، هذا في اللغات ذات الاصول اللاتينية ، واستخدم في اللغة العربية مجازا ليشير إلى العناية بالإنسان وإشارة إلى الصفات التي يمتلكها ، كالذكاء والفطنة وسرعة الفهم ، لذا نجد كلمة (cultura) تترجم في اللغة العربية بكلمة ثقافة ، ومن هذه الكلمة ومعناها اشتق مفهوم المثقف أي الذي يمتاز بالفطنة والذكاء وسرعة الفهم .
وفي الاصطلاح :
وقبل الخوض في التعريفات لا بد من الإشارة إلى أن المثقف بمدلوله الراهن مصطلح حديث ، مر بتغيرات عدة ، ارتقى وأخذ مكانة اكثر تحديدا بعد حادثة قضية (الفريد دريفوس)* لدوره الريادي والطليعي في المجتمع ، كصاحب رأي وقضية ، ذلك عندما كتب المفكر الفرنسي اميل زولا مقاله الشهير (إنه اتهم ) من هذا المقال ظهر بيان حمل توقيع المثقفين في فرنسا ، يطالب بإعادة محاكمة المتهم (الفريد دريفوس ) بعد ظهور أدلة تشهد ببراءته. من هذه القضية يمكن أن نقول تحدد موقف المثقفين وظهرت السمات التي تميزهم عن الشرائح الأخرى ، من هذا الموقف (موقف المثقفين تجاه قضية دريفوس) تحدد أن المثقف مهمته كشف الحقيقة مهما كانت وكيفما كانت وأن يكون شجاعاً وناقداً ومتتبعاً ومحللاً ، ورافضاً للخنوع والخضوع لأي سلطة كانت ، وهذا ما يؤكد أن المثقفين لقد قاموا بدور تلقائي لم يكلفهم به احد . وأن تاريخيا فقد استخدم لفظ المثقف:intllcuatl و intelligentsia في وصف مثقفين معارضين نقديين وظل هذا التداعي (بين المثقف والموقف النقدي) قائما حتى عصرنا . ثمة تمييز بين الانتلجنسيا والمثقفين كما يقول عزمي بشارة :{ يستخدم مصطلح (انتلجنسيا) في وصف فئة المتعلمين والخبراء العاملين في مجال (الفكر) كمهنة ، [.....] من دون أن يكونوا من (المفكرين) المبدعين (أي الذين يقدمون انتاجاً ابداعيا فكرياً كان أو ادبيا) الذين يرون أن من واجبهم اتخاذ مواقف من المجتمع والدولة وغيرها ، هذا التمييز بين الخبراء والمثقفين هو تمييز راهن} . إذ أن المثقف صاحب موقف نقدي وهو الذي يبدي اهتمامه بالمجتمع والدولة.
فالمفكر وإن اختلف الكتاب في تعريفه إذ يقصره بعضهم على كبار الكتاب والفلاسفة ويوسع غيرهم من دلالة الكلمة حتى تشمل كل من حصل على قدر من التعليم يؤهله بإطلاق تعبيرنا الشائع عليه أي (المثقفين) أو (المتعلمين)حتى وإن لم يبلغ علمة درجة التخصص الدقيق ، واخرين يرونه انه كل من يتمتع بقدر ما من (الوعي الاجتماعي) أو (الوعي السياسي) ، والمثقف عند بارسونز، هو المفكر المتخصص في امور الثقافة والفكر المجرد البعيد عن امور الحياة وبمفهوم الافغاني هو المتعلم ، وعند عزمي بشارة نجد تمييز بين المفكر والمثقف فالمفكر هو كل من اشتغل بالفكر الكوني والمثقف هو الذي يؤدي دوراً في الشأن العام انطلاقاً من كونه مثقفاً ؛ أي مستخدماً معارفه الشاملة والعابرة للتخصصات . إذا تختلف التحديدات والتصنيفات والتقسيمات حول المثقف وهي اكثر ارباكاً واصعب تحديداً. ولكن هذا الاختلاف لا يمنع من ايراد التعريفات الانسب للمثقف ، فيعرف جوليان بندا المثقفين (باعتبارهم عصبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة الذين يشكلون ضمير البشرية) ويحصرهم بندا في فئة العلماء أو المتعلمين البالغي الندرة حقا لأن ما ينادون به هي المعايير الخالدة للحق والعدل ، وحسب بندا إذا هي فئة قليلة تقف اعلى او في رأس القمة ناظرة إلى البشرية ومهمتها كونية، وليس كل متعلم تتحقق فيه. اما انطوني غرامشي فهو يميز بين نوعين من المثقفين وهما: المثقف العضوي هو المثقف الذي يعمل على انجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المشكلة من الفلاحين (الجنوب الإيطالي) والعمال (الشمال الإيطالي) ،ويقصد بالمثقف التقليدي هو المثقف الذي يوظف ادواته الثقافية للعمل على استمرار هيمنة الكتلة التاريخية السائدة المشكلة من الاقطاع والبرجوازية والفئة العليا الاكليروس .ويضيف غرامشي موضحا بتساؤل هل شكل المثقفون فئة اجتماعية متجانسة ومستقلة ؟ ويجيب عليه أنَّ المثقف لا يشكل انعكاسا للطبقة الاجتماعية وإنما هو يؤدي وظيفة إيجابية في تحقيق رؤيتها (تصورها) للعالم بشكل متجانس ويقول غرامشي ان جميع الناس مفكرون ، ومن ثم تستطع أن تقول: ولكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس أي بمعنى أن يجمع بين الفكرة والواقع ، حركة اجتماعية وتشكيل ثقافي ، أي كما عايشها غرامشي نفسه. ويقول ادوارد سعيد:أنَّ المثقف فرد يتمتع بموهبة خاصة يمكنه من حمل رسالة ما أو تمثيل وجهة نظر ما ، أو موقف ما ، أو فلسفة ما ، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما به وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع إذا المثقف له دور وهو متفاعل مباشرة في الفضاء العام أو بتعبير سعيد ليس مهني مجهول الهوية. هذا الدور لا يلعبه اي مثقف بل المثقف الذي يناقش الواقع والقضايا بأدوات عقلانية وتحركه المسؤولية والأمانة والضمير ومن يحركه هذا الثلاثي يصعب إسقاطه أو استقطابه .فهذا المثقف وبهذه التحديدات لم تشهده عصور الخلافة والسلطات والامارات التي سميت دولاً إسلامية وهذا الدور لم يطلع به عدد من العلماءوالفقهاء (كما يزعم عزمي بشارة) لكن ومع المامهم فكلمة حق في وجه سلطان جائر كانت موجودة ولكن لم يكن هنالك من يؤديها في تلك الفترة ، فكانت إلا ترى منه كفرا بواحا هي الحاضرة في افواه الفقهاء والعلماء ، وكانت تبريراتها من جنس خوف الفتنة وشق الأمة منهم من يجعلها من التابوهات الدينية حسب ماهو موجود في كتبهم ،أضف الى ذلك انهم كانو ينطلقون من قالب معين وسياج محدد أي انهم محكومين بعدم الخروج من النص ومخالفة السنة. ولكن مثقف العصر الحديث هو القادر على شرح وتحليل الأحداث اعتمادا على العقل وبأدوات عقلانية وليس تفسيرا ميتافيزيقا ،وليس من يفسر كل مشكلات المجتمع بإرادة إلهية أو كما يقول سعيد :{اما الوحي والإلهام، برغم كونهما معقولين تماما كأسلوبين للفهم في الحياة الخاصة ، فإنهما كارثتان إذ ما سعى المثقف إلى التنظير بموجبهما} .
الديمقراطية لمحة في التاريخ وتعريف المفهوم:
تعود الجذور التاريخية لفكرة الديمقراطية إلى اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، واثينا هي اول بيئة ولدت فيها كلمة الديمقراطية وتطبيق الحكم الديمقراطي. فكلمة الديمقراطية مشتقة من الكلمة اليونانية Demos وتعني عامة الناس و Kratia وتعني حكم Democratia أي حكم عامة الناس. وقبل أن نلج إلى تعريفاتها الكلاسيكية والحديثة علينا أن نفهم البيئة التي تشكل فيها المفهوم وعلاقة الديمقراطية بهذه البيئة .
ان البيئة الاثينية كانت بيئة لمناقشة الافكار والآراء في الفضاء العام. ثم انتشار الكتاب والتمثيلات الدرامية والمسرحية واشعار هوميروس* أو كما يقول كارل بوبر {وجد باثينا ابتداء من سنة 530ق.م ، سوق ليس لها مثيل في مكان أخر: لقد كانت سوق حرة للكتب ، ومكان تباع فيه الكتب المخطوطة ، معروضة على شكل لفائف من البردي ، اول الكتب التي طرحت للبيع كانت الملحمتين الشعريتين العظيمتين لهوميروس:الإلياذة والأوديسا } . وحتى يحصل للكتاب والثقافة الانتشار والتوسع ، قام الطاغية المستنير (طاغية اثينا بيزيسترات) بعمل هام وهو الذي أدخل المادة الضرورية للكتابة – البردي المصري _ واشترى العديد من العبيد المتعلمين القادرين على استنساخ (اشعار هوميروس) .إذن لقد لعب هذا الطاغية المستنير الغني ومن بعده اثينيون اخرون دور الناشرين اضف إلى ذلك أن المواطنون كانوا ينجذبون نحو القراءة .فهذه البيئة الاثينية هي التي ساعدت في انبثاق مفهوم الديمقراطية ، لقد كان هناك طبعا شعراء من قبل وكتابات لكن لم تتطور إلا في اثينا (لأن هذا يفترض وجود مؤسسة نشر) وانه ازداد عدد الكتاب والمؤرخين وعلماء السياسة والعلماء والرياضيون .إذ في هذه البيئة المليئة بالمناقشات العامة في الشؤون العامة والمجال الثقافي والحرية المتاحة نشأت الفلسفة ، فعلاقة الثقافة والديمقراطية علاقة جدلية. ومن هذا يمكن أن نلحظ انتقال الديمقراطية بنفس النمط التوسعي الاثيني للثقافة بانتشار الكتاب بعد ثورة غوتنبرغ ، من اول كتاب منشور في اوربا إلى ثورة غوتنبيرغGutenberg :الاعجوبة التي كانت عليها اثينا في القرن الخامس قبل الميلاد على الصعيد الثقافي ، تفسر في جزء اكبر فيما اعتقد في خلق سوق الكتاب ، ويفسر ايضا الديمقراطية الاثينية من اختراع غوتنبيرغ والتوسع الكبير لسوق الكتب الذي تبعه ولقد قاد هذا إلى ثورة ثقافية مماثلة: المذهب الإنساني مع إحياء الآداب القديمة ، كل الفنون ازدهرت ومولد علم طبيعي جديد بإنجلترا ، قاد الاصلاح إلى ثورتين: ثورة 1648_1649 الدموية وثورة 1688 السلمية ، التي سجلت بداية التطور العادي للبرلمان الإنجليزي نحو الديمقراطية في هذه الحالة فإن الصلة ظاهرة للعيان بوضوح ، إذن البيئة الاجتماعية التي تتواجد فيها هذه الثقافة لدى مواطنيها من مناقشة لأمور الشأن العام والنقاش والتعبير عن اراءهم هي بيئة ميلاد الديمقراطية ونموها . فثمة ارتباط لا ينفك بين الأدب والعلم والديمقراطية . وبدون تنوير أي بدون الثورة الفكرية والثقافية لا يمكن أن توجد الديمقراطية وتتجسد قيمها وتترسخ في مواطنيها ؛ أو كما يقول جورج طرابيشي{فالديمقراطية هي بالأساس ظاهرة مجتمعية ، والمجتمع هو في الأول نسيج من العقليات} بمعنى انه لاوجود لديمقراطية سياسية بحتة مالم تنبثق من المجتمع وثقافته وتتمثل فيه ؛.
وعند الانتقال لتعريف الديمقراطية وتعريفها الكلاسيكي بأنها حكم الشعب للشعب بالشعب . ففي هذا التعريف يكمن النقد التاريخي الموجه نحو الديمقراطية أي من ناحية الحكم وليس من ناحية القيم ، ومن ناحية الحكم يقول بوبر{لم تكن الديمقراطية ابدا هي حكم الشعب ،لا يمكنها ،و لا يجب أن تكون كذلك} ، فالغرب حين يناقش الديمقراطية لا يناقشها من ناحية القيم كثيرا ، لأنها تجسدت وترسخت إنما يناقش إجرائيتها ونتائج هذه الإجرائية. فالسؤال الذي كان مطروحا منذ بدايتها هو من يجب أن يحكم؟ إذن سؤال تعلق بالحكم ، لذا نجد كارل بوبر يناقشها ايضا من ناحية الحكم ولكن استبدل السؤال بكيفية ادارة الدولة أي لا يناقشها من ناحية حكم الشعب بل من ناحية قانونية تمكننا من التخلص من الحكومة من دون اراقة دماء عندما تتخلى هذه الأخيرة (أي الحكومة) عن حقوقها وواجباتها . فالنقد للديمقراطية هو موجه في التقسيم ورسم المهام والأدوار أي نحو العملية الإجرائية وما يصاحبها من خلل ومشاكل إذ لم ترسم بصورة مضبوطة وغير قابلة للانحراف من قبل الحكام. وهذا النقاش يأتي بعد وضع الأساس أنه نقاش بعد الفراغ من الأساس حول سقف المنزل؛ و كما يقول جون ديوي{...فليست الديمقراطية مجرد شكل للحكومة ، وإنما هي في أساسها أسلوب من الحياة المجتمعية المشتركة المتبادلة} إن ما يؤكد عليه ديوي هو ثقافة الديمقراطية وممارستها في الحياة اليومية. إنها اعتقاد متبصر في قدرة كل كائن بشري على الحكم والمداولة والفعل الزكي في الوقت الذي تتناسب فيه الشروط المناسبة .
فالننتقل الأن من محاولة التعريف الفلسفي الاجتماعي إلى التعريف السياسي الاجرائي أي تعريف نهاية متتالية الديمقراطية أي عندما تصل الحكم. فنجد بول ريكور يعرف الديمقراطية من منظور مزدوج وهذا التعريف من وجهة نظر غائية.فالمنظور الأول بالقياس إلى موضعة الصراع والثاني بالقياس إلى السلطة. فبالنسبة إلى موضعة الصراع يقول بول ريكور { تكون ديمقراطية الدولة التي لا تنيط بنفسها أن تلغي الصراعات وإنما تبتكر الإجراءات التي تتيح لها أن تعبر عن نفسها وان تبقى قابلة للمفاوضات } .لأن دولة الحق (القانون) كما يقول ريكور هي دولة النقاش المنظم.اما المنظور الثاني أو من ناحية قياسا إلى السلطة يقول بول ريكور { الديمقراطية هي النظام الذي تكون فيه المساهمة في القرار مضمونة لعدد من المواطنين دائما في تزايد.هو، إذن، نظام تقل داخله المسافة بين الرعية والسيد } .

في كيفيات ولادة الديمقراطية في السودان:
إذا نظرنا إلى تاريخ السودان منذ بداية الاستقلال ، نجده مرة بثلاثة فترات أو مراحل من الحكم الديمقراطي* ، الأولى من(1954_1958)والثانية من(1965_1969)والثالثة من(1986_1989)وأجهضت جميع هذه الفترات الديمقراطية بانقلابات عسكرية. وقبل أن نوضح ملامحها علينا أن نعرف متى ظهرت فكرة الديمقراطية في السودان؟.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى نشأت الحركات الوطنية السودانية متأثرة بالمناخ القادم من الشمال ( مصر) و ظهرت الدعوة من الصحفي حسين شريف في جريدة السودان ومن ثم حضارة السودان لجميع الخريجين للنقاشات و الحوارات بغرض توسيع مداركهم وخلق مجتمع معافى لان في ذلك الوقت كان الخريجين وقتهم غير مستثمر بعد ساعات العمل فأراد ان يستثمره في الوعي والثقافة لمصلحة المواطن والوطن وتكون نادي الخريجين يوم 18مايو 1918 ( هذا يوم افتتاح النادي وانما الدعوة سبقت ذلك) وتكونت الجمعيات الثقافية والأدبية وكانت هذه الجمعيات عادة ما تضم أبناء الحي الواحد تقريبا ومنها جمعية أبوروف وجمعية الهاشماب بأم درمان ومنزل يحيى الفضلي الذي كان مكان للنقاشات الثقافية والأدبية وتأسست جمعية الاتحادالسوداني عام 1920 وهذه الجمعية كانت نتيجة لتأثير ثورة 1919 المصرية وجمعية اللواء الأبيض عام 1924 . وفي أجواء نادي الخريجين والجمعيات الأدبية التي كانت تعنى بالمناقشات وتلخيص الكتب وإعداد البحوث وتعلم الخطابة الارتجالية تصارعت هذه المجموعات فكريا مما أثرى الحياة العامة و أنقذها من الركود والموات وظهرت الصحف من ضمنها صحيفة حضارة السودان ومن خلال هذه الأخيرة كان ظهور كلمة الديمقراطية من المثقف الصحفي حسين شريف رئيس تحرير جريدة الحضارة في بدايات العقد الرابع من القرن القرن العشرين. كل هذا النقاش الثقافي و من خلال جمعية الاتحاد السوداني كانت الحكومة الكولنيالية تتابعه بحذر وتتخوف من هذا الامتداد وتفرض احيانا القيود ، تفككت جمعية الاتحاد لسوداني بسبب الاختلاف بينهم – هل نستمرفي النقاش الفكري و الثقافي أم السياسي والدخول في صدام مع الحكم الكلولنيالي ؟والرأي الثالث يقول أنها تم تفكيكها من قبل الحكم الكولنيالي بزرع أحد الاعضاء داخلها و تسريب هيكلتها السرية مما أدى إلى تفككها. وسرعان ما تحول اعضاؤها إلى تأسيس جمعية اللواء الأبيض و قيام ثورة 1924 بدوافع أهداف سياسية أي مستهدفة انجاز أهداف سياسية معينة و قد لعب فيها الجيش و طلاب الحربية وأعضاء جمعية الاتحاد السوداني دورا رئيسيا ، و تزامنت مع اغتيال السيرلي استاك في شوارع القاهرة واتهمت الحكومة الإنجليزية الحكومة المصرية بذلك ونتيجة لذلك تمت محاولة إجلاء القوات المصرية من السودان و تضامن الضباط السودانيين مع الضباط المصريين ولكن هزمت هذه الثورة . و نتيجة لهزيمة ثورة 1924 قامت جفوة في العلاقة بين مصر مما يعني ضعف التأثيرات الثقافية القادمة من الشمال .وكان للطلاب دورهم الطليعي في الصراع ضد الحكم الكولنيالي نتيجة للمعرفة التي حصلوا عليها بسبب تلك البيئة المنتعشة بجمعياتها ونقاشاتها.ونتيجة لثورة 1924 إذ أغلقت المدارس من قِبل الحكومة الكولنيالية وتم اهمال المتعلمين وسوء معاملتهم .إن هزيمة 1924 كانت فرصة للإدارة البريطانية كي تحكم قبضتها على البلاد إذ بعد المحاكمات ، إذ بدأت سياسة بعيدة المدى تهدف إلى وقف هذا التطور بالذات من خلال وقف التقدم في التعليم إذ أغلقت مدرسة الوفاء التي كانت تخرج معلمي الأوليات وأغلقت عدد من المدارس الأولية ولم تفتح مدرسة واحدة خلال عشرة سنوات .إن الحكومة الكولنيالية كانت دائما متخوفة من التعليم وكان دائما المتعلمين هم من يخيفونها ولقد حزرت الحكومة تبعا لهذا الوضع حتى لا يكثر عدد المتعلمين، هذا البعبع المخيف[...] والذي أبتلعهم فيما بعد رغم الحذر . بعد هزيمة 1924 ونتيجة لجمعية الفجر انشأ عرفات محمد عبد الله مجلة الفجر عام 1934 التي لعبت دوراً كبيراً في بلورة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكانت منطلق للتطورات والأحداث اللاحقة، كان عرفات ورفقاؤه في مجموعة(الفجر) يعملون على تأسيس عصر نهضة سوداني ولكن القدرات والظروف أقل من العين البصيرة التي كانت ترى الحاجة الحقيقية لنهضة تسبق الاستقلال السياسي وجلاء المستعمر . إذن ما كان يرموا له هؤلاء الفجريين هو الوعي والثقافة الفكرية أي تشكل وعي بدوره يحرك لجلاء الحكم الكولنيالي وفي نفس الوقت تأسيس لما بعد الحكم الكولنيالي وملء الفراغ الذي سيتركه الحكم الكولنيالي بعد رحيله ، ولكنه كان وعي غير ناضج ، وعي في طفولته يعبر عنها مجرد خواطر لا يصيغها نظريات وافكار متماسكة . ونتيجة لهذا الوعي ونتاجا له ظهر مؤتمر الخريجين وكان لحظة الانبثاق الأخيرة والمهد للاستقلال الذي تحقق . نشأ مؤتمر الخريجين بدعوى من خضر حمد في مقال نشره في جريدة السودان عام 1935 ، وضمنه مرة أخرى احمد خير في محاضرة بنادي الخريجين بود مدني 1936، ونشأ المؤتمر عام 1938. إلا أن جو نادي الخريجين حتى لحظة مؤتمر الخريجين كان يشوبه جو من الخلاف بين أعضاؤه، بدأ منذ الثلاثينات وظل يستفحل شيئا فشيئا فقد ظهرت في أول امرها في صورة خلاف حول رئاسة النادي لمن تكون هذا الصراع بين جيل متعلم ايضا جيل لم تعجبهم فكرة أن تظل أسماء معينة قابضة ومسيطرة للجنة النادي ، كان هؤلاء الشباب بحسب قول احمد خير يمثلون الصراع الفكري بين القديم والحديث. ولقد ظهرت هذه الصراعات والعداءات فيما بعد في السياسة السودانية وتكوين الأحزاب ، فكان فهم سطحي للديمقراطية نتيجة لوعي لم يتجذر ولم يصحبه تنظير حقيقي وكان ظهورها سريع نتيجة لغياب روح الوفاق الديمقراطي بينهم .إذن كانت هذه البدايات الحقيقية لبدايات الكيد في السياسة السودانية بين أحزابها السياسية وانعدام الوفاق والاتفاق فيما بينها في المسائل الوطنية.
ومن يناير 1954_1958 شهد السودان تشكل خمسة حكومات ثلاثة حكومات بقيادة الأزهري اسقط أخرها من قبل السيدين (محمد الميرغني زعيم الختمية،عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار) وتشكلت حكومتان برئاسة عبد الله خليل. في هذه الفترة احتلت الطائفية والعداءات بين الجيل الوارث للحكم الكولنيالي موقع الصدارة وتكايدوا في وقت مبكر أي( وقت البناء والتوافق من أجل الوطن) حول من يحكم .والذين كان عليهم الأمل في بناء مستقبل الوطن أي(المثقفين) لا يختلفوا كثيرا عن الشيوخ ، فلقد تجاذبتهم فكرة الديمقراطية بهشاشتها وسطحيتها (في عقولهم) والخضوع للطائفية، ولكن هذه الأخيرة هي التي نجحت في استيعابهم تحت عباءتها، فكانت ديمقراطية طائفية أو كما يسميها محمد ابوالقاسم حاج حمد النيابة الطائفية لأنها لم تتوفر فيها المعايير الديمقراطية ، وكان المرشح يفوز بالدائرة مقفولة(أي نظام الدوائر المغلقة) من غير عرض برنامج انتخابي ، وكان النظام البرلماني يتميز بالفوضى والتآمر وانعدام الهدف فنسوا البناء وانشغلوا بالولاء وكيف نقبض على الحكم واهمال لقضية جنوب السودان. وفي 17 نوفمبر 1958 سلم سكرتير حزب الأمة ورئيس الحكومة عبد الله خليل الحكم للعسكر، بقيادة الفريق ابراهيم عبود ، مكيدة منه للأحزابا لتي ائتلفت ضده وأرادت اسقاط حكومته والداعي الثاني لهذا التسليم بحسب عبدالله خليل هو عدم استقرار الأوضاع في البلاد ، وكان الهدف أن يسلم الحكم للعسكر ومن ثم يرجع له الحكم بعد سنتين وان يولوا عبد الرحمن المهدي رئاسة الدولة . ولكن أستولى الفريق عبود ولم ينفذ لهم رغبة أو طلب وأحكم قبضته على البلاد بحكم شمولي دكتاتوري، مما ادى لاشعال وتصاعد الحرب الأهلية في جنوب السودان . وفيما بعد استغلت الأحزاب قضية الجنوب ضد حكم عبود، وفي ندوة بجامعة الخرطوم 21 أكتوبر 1964 أطلقت الشرطة النار واقتيل الطالب أحمد القرشي، وانتشرت المظاهرات مطالبة برحيل الحكم العسكري الذي يقوده الفريق عبود .أستقال الفريق عبود وحل المجلس العسكري وتشكلت حكومة برئاسة سر الختم خليفة وتسلمت من بعد ذلك الأحزاب السياسية الحكم وفي هذه الفترة الديمقراطية أي (الديمقراطية الثانية) سنجد ايضا أن الصراع والكيد وعدم التوافق قائم بين الأحزاب السياسية وأصبحت كأنها عرف في السياسة السودانية ، بل الصراع والتناحر دار داخل الحزب الواحد حول رئاسة الحكومة انا أم أنت ؛ وفي هذه المرحلة أي مرحلة (الانتقال الديمقراطي وحكم الأحزاب) تم حل الحزب الشيوعي ، نتيجة لتعبير عن رأي ! وتم طرده من البرلمان، على الرغم أن المحكمة القضائية قضت بعدم دستورية حل الحزب وطرده واستقال بموجبها وزير القضاء (بابكر عوض الله) لعدم قبول البرلمان بحكم المحكمة القضائية. وعلى العموم لم تختلف كثيرا الفترة الديمقراطية الثانية عن الأولى إذ صاحبتها أمراض الأولى وظهرت فيها أمراض أخرى. ونتيجة لإقصاء الشيوعيين تحركوا أي(الشيوعيين) بانقلاب عام 1969 بقيادة جعفر نميري أي(كانوا من خلف نميري داعمين له). استولى نميري على الحكم 1969 ونصب بعض القيادات المحسوبة على الحزب الشيوعي من ضمن الحكومة التي شكلها،(ونرى بابكر عوض الله الذي استقال من القضاء بسبب عدم قانونية وديمقراطية حل الحزب يتولى منصب رئيس الوزراء في حكومة الانقلاب). ولكن سرعان ما انقلب جعفر نميري على الشيوعيين(خصلة العسكر) مما قادهم بمحاولة انقلاب مرة أخرى بقيادة هاشم العطاء19 يوليو 1971. وبعد فشل الانقلاب قامت المجازر والاعدامات ضد قادة الانقلاب والشيوعيين فأعدم بموجبها سكرتير عام الحزب الشيوعي بالسودان(عبد الخالق محجوب).استمر الكم العسكري 16عام حاولت الأحزاب السياسية إسقاطه عن طريق السلاح ثم فشلت ومن ثم دخلت معه في مصالحة ومن بعد طبقت الشريعة وأعدم رئيس الجمهوريين أي(الحزب الجمهوري) محمود محمد طه ، وأسقط حكم نميري بثورة شعبية عام 1985 أستقال بموجبها نميري وأستلم الفريق سوار الذهب الفترة الانتقالية في6/ابريل 1985 لمدة عام وتشكلت حكومة مدنية برئاسة الجزولي دفع الله ، وألتزم الفريق سوار الذهب بوعده وقامت انتخابات في الموعد المحدد فاز فيها حزب الأمة برئاسة الصادق المهدي. تولى الصادق المهدي رئاسة مجلس الوزراء، في هذه الفترة أي(الفترة الانتقالية الثالثة)شهدت عدم استقرار في الحكومات وواجة الجيش هزائم متعددة في الجنوب مما جعل الجيش يتذمر من حكومة الصادق المهدي ، مما دفع الجيش بتقديم مذكرة للمهدي يطالب فيها بدعم الجيش بالعتاد والاهتمام بشؤون المواطن؛ وكانت النتيجة انقلاب أخر من الجبهة الإسلامية 30/يونيو/1989 وإلى الأن ، في هذه الفترة أي (فترة حكم الجبهة الإسلامية وهي أخطر مراحل السودان) تم فيها أدلجة كافة المؤسسات وتسييسها حتى القوات النظامية(الجيش،الشرطة،جهاز الأمن)وأعدم في هذه الفترة الكثير من المعارضين ومضايقة بعضهم وأنفصل فيها ثلث الوطن أي(شعب الجنوب).
وفي كل الفترات الديمقراطية السابقة لم يشهد السودان ديمقراطية حقيقية وإنما كانت صراعات حول المقاعد البرلمانية والوزارية ومن يجلس على هذه المقاعد وأهملت النواحي الأخرى في المجتمع والدولة ، حيث أحتلت الطائفية موقع الصدارة وفي مواجهة مشكلات مجتمع مفكك في بنيته الاقليمية والقبلية وغائص في وحل المنازعات وتجدد الحرب المأساوية في الجنوب وانهيار الوضع الاقتصادي تركزت النقاشات حول الدستور إسلامي أم علماني والجمهورية رئاسية أم برلمانية!.
فإن جميع الفترات الديمقراطية التي مرت على السودان لم تستوفي المعايير المطلوبة التي يمكن أن نحدد من خلالها ديمقراطيتها أو كما يقول حيدر ابراهيم الديمقراطية السودانية قد خلت من المعايير المطلوبة والمرغوبة عدا حق التصويت وطقوسية الانتخابات أي كما يسميها حيدر ابراهيم نفسه البرلمانية السودانية.اذن فلا يصح القول الشائع أن السودانيين ميالين للحكم العسكري أو القول الأخر أنهم ديمقراطيون بالفطرة ، بل هنالك رومانسية ديمقراطية تتضامن مع الحاجات الاقتصادية ويقود هذا التضامن إلى انتفاضة وتولد هذه الانتفاضة حكم جديد لإصلاح الحالة الاقتصادية وأن الحالة العسكرية تغيب عنها الحلول الأخرى وتعرف حلها فقط أي(السلاح في وجه كل مطالب) ما يولد جماعات كثيرة متمردة وغاضبة تواجهها بحلها العسكري المسلح ، مما يولد لدى العامة أن هذه الطبيعة (الكثيرة التمرد) لا يجدي معها إلا الحكم العسكري.
ومن خلل الديمقراطية في السودان أنه أهتم السياسيين بالديمقراطية العملية ، فهم دخلوا مباشرة في مستوى الوعود الانتخابية ولم يهتموا بالكتابات والتنظير في الديمقراطية نفسها كمفهوم ونظرية متكاملة .والاختراع وحده لا يكفي لتعريف الديمقراطية حتى نطلق عليها ديمقراطية. فالديمقراطية في السودان تُجهض قبل أن تتشكل ملامحها، فكما كان اعدام سقراط من قبل رئيس حزب فكذلك الأحزاب السودانية أعدمت الديمقراطية في داخلها وفي فترات الانتقال والحكم الديمقراطي .


المثقف المخضرم والديمقراطية:*
أسماعيل الأزهري:*
كان أسماعيل الأزهري ولاءه للبيئة الحاضنة له (الطائفية) أكثر من ولاءه للديمقراطية، لقد كانت توقيعاته حاضرة دوماً مع الزعماء الدينيين في التمجيد وولاءهم للحكم الإنجليزي ، هذا الولاء للطائفية وحضوره الدائم لمصلحته ومصلحتها سنلاحظه في أول ديمقراطية كان رئيس وزراءها الأزهري وكيف كانت الطائفية تضغط على الأزهري لتحديد وتعيين الوزراء وهو يلين ويستجيب لأوامرها .بل الأزهري كان أحياناً أداة الطائفية ، فهي تستعمل الأزهري وتضغط به من داخل الحزب والوزارة أي أن الأزهري كان في حالة رومانسية تجاه الديمقراطية وحالة تماهي مع الطائفية ؛ فمن مهمة المثقف أن يخرج عن عباءتها أي(الطائفية)ويخرج على عقليتها وليس أن يسائرها. ولكن في وقتها كانت الطائفية توجه المثقف وهي تقف فوق إرادته. وحتى إذا أردنا أن نحدد مدى فهم الأزهري لمفهوم الديمقراطية وانتقلنا من الأزهري في الواقع العملي السياسي إلى الأزهري في الأثر وما تركه لجيله والجيل اللاحق في كتابه الموسوم (الطريق إلى البرلمان)نجده يختزل مفهوم الديمقراطية كغيره من رواد جيله في إجرائيتها وقواعدها ، وهو يوصي بها إذ يقول{من رأيي أن يُعد صغار هذا الجيل والأجيال القادمة في الدراسة في سن الطفولة ، وبعد المدرسة، في سن الرجولة، اعداد يتمشى مع النظم البرلمانية حتى تختلط بالدم وتمتزج بالروح وتصبح جزءاً من النفس لا يتجزأ ، فتنشا مجبولة على تقديس القوانين مفطورة على حب النظام} ، فالأزهري كان ما يهمه هو البرلمان وليس الديمقراطية التي تنبثق من الشعب ، فهو كان يعايش حالة الصراع والمكايدة الدائرة في البرلمان بين الطائفية ، لذا نجده يحاول معالجتها من الصغر باحترام القوانين وتدريب الأجيال عليها ، كان ما يهمه هو احترام القوانين والنتائج وليس احترام الأفراد وقبوله لبعضهم البعض. فالبرلمان شيء أخر ومن السهل ضبطه بالقوانين ولكن ما يدور في المجتمع شيء أخر ومن الصعب ضبطه بالقوانين . فالكتاب بجملته يحدثنا عن قواعد و إجراءات اللعبة البرلمانية .



محمد أحمد المحجوب :
فالمحجوب إذا نظرنا له من خلال فكره ، نجده يتحدث بلغة شاعرية في كتاباته إذا استثنينا كتابه (الديمقراطية في الميزان) فهو شاعر أكثر من أنه مفكر ومنظر سياسي . وفي كتابه (الديمقراطية في الميزان) وهو عبارة عن سيرة وذكريات ، يوحي إليك الكتاب كأنه بينه وبين الجيش عداء ، ليس لأن الجيش ينقلب على الحكم الديمقراطي ولكن يمكن أن يرجع سبب هذا العداء لأن الجيش كان يستبعد المحجوب كثيراً من الحكومات التي تشكل في الفترات الانتقالية ، وهذا ما يشير إليه المحجوب في كتابه . فشخص يقبل لمدنيين أن يجتمعوا في مكتبه لتدبير انقلاب كيف له أن يرفض انقلاب ؛؟ ثم ثانيا وفي جميع صفحات الكتاب نجد المحجوب يتحدث عن الانقلاب الأول بأنه قامت به المؤسسة العسكرية ، ولا يذكر دور حزب الأمة وعبد الله خليل في الانقلاب وتسليمهم السلطة للعسكر ، وكل الكتب وأقوال عبود عند التحقيق معه تؤكد ذلك إذ يقول{أن السيد عبد الله خليل طلب نه أن ينقلب عليه قبل شهرين من وقوع الانقلاب ويعين الامام عبد الرحمن المهدي رئيساً للجهورية} وهذا يؤكد أنه موقف عداء من المحجوب وليس حقيقة. ثم أن المحجوب لم يعي معنى الديمقراطية الحقيقية كغيره أختصرها في تبادل السلطة ، ولم يكن له موقف واضح في حل قضية الجنوب في الفترات التي تسلم فيها رئاسة الحكومة .أضف إلى ذلك أنه كان نافيا للديمقراطية في بعض الأحيان ، فالديمقراطية دوماً تعبر بالسلم ورفع المطالب والمذكرات وليست بالمحاربين فالمحجوب يقول{فكان هناك حوالي سبعمائة من الأنصار في أم درمان في ذلك الوقت وهم جيدوا التدريب وشجعان ومستعدون للموت من أجل قضيتهم ، وكان رأيي أنه إذا جرت أي اعتقالات فعلينا ان نقاوم بالقوة ، فعارضني السيد الصديق قائلا: لا أريد أن أواجه الله ويداي ملتخطان بدماء المسلمين} فمن خلال هذا القول يؤكد المحجوب عدم وعيه بالديمقراطية التي لا تعرف العنف في نظامها. ثم لا نرى للمحجوب موقف من حل الحزب الشيوعي . ذلك المحجوب الذي وصفته صحيفة التايمز البريطانية بأنه يؤمن بالديمقراطية ايمان العجائز ، وايضا نرى كذلك لكنه ايمان العجائز الذي يقوم على الطقوس ولا يعرف فلسفتها؛ والمحجوب نفسه استوعبته الطائفية وهو القائل{يجب أن يبلى المصلحون بأمثال هؤلاء الرجعيون المصلحيين} . وفي كتابه الموسوم(نحو الغد) فهو كتاب لما هو ات أي الغد المنشود(حسب ما ذكره المحجوب) ففي الكتاب لغة شعرية وتوصيات لجيل من جيل يمدح نفسه ويذكر فشله؛.
المثقف المصلحي الوارث والديمقراطية:*
حسن الترابي:
عندما نتابع أفكار حسن الترابي نجدها أحيانا متناقضة وإن سلمت من ذلك تناقض فكره مع فعله في الواقع السياسي. فالمتن الترابي متن ذئبقي يصعب الإمساك به احياناً. فالديمقراطية عند الترابي نجده احياناً يتحفظ عن الكلمة ، إذ حسب وجهة نظره { فالمتحدث عن الكلمة لا يجردها لتقتصر علي معناها في معجم اللغة بل يصطحب كل بيئة ثقافية ومادية ، وهي مقارنة لبيئة اخري ، يمكن ان تعني شيئاً مباينا للمعهود فيها} لأنه حسب وجهة نظره أن الكلمات من وراءها ابعاد اجتماعية ولابد ان نستبدلها بكلمة تعني في مجالنا التداولي الاسلامي حتي توصل الي الله {...ولفها بأطر التصورات الاسلامية حتي تسلم الي الله وتكون اداة تعبير عن المعني المقصود بكل أبعاده وملازمته الاسلامية.... } .
فهو يحاول ان يثبت ديمقراطية الشوري وفي نفس الوقت تفوق الشوري علي الديمقراطية وفي هذا السياق يقول { وعلي صعيد القيادة السياسية في سياق الجماعة تصبح المشاركة أو الشوري أو(الديمقراطية ) من مقتضيات الدين اللازمة } .ولنا أن نتساءل هل الشوري متفق عليها بين المسلمين أي من حيث الإلزام والاعلام ؟ فهي في ذاتها تحتاج ديمقراطية لكي نوفق بين من يقولون بأنها ملزمة ومن يقولون بانها معلمة ، وهذا احد أسباب المفاصلة بين الإسلاميين عام 1999م كما يقول أنصار المؤتمر الشعبي . وايضا نجد الترابي يقول عن الديمقراطية { فالخروج بالديمقراطية من الإطار الديني الي إطار سياسي بحت ردة وضرب من الإشراك ، لأنه يشرك إرادة الشعب مع خالقه} . ولكل حدث أو فعل في الممارسة السياسية للترابي والحركة الإسلامية عموماً(وهو عرابها) نتلمس له جذور في افكار الترابي . فالترابي منذ تأسيس الحركة الإسلامية ظل هو القائد والأمين العام إلي ان رحل إلي ربه .انه فعل غير ديمقراطي ولكن سنتلمس في فكره ما يدعم ذلك حين يقول { فقد يكون مرد الوحدة مثلا إلي وجود قائد مؤسس يقوم لفترة طويلة فيتركز حوله الولاء ويحسم الخيارات الفكرية ويسن السنن التنظيمية الحاكمة } وبرغم توضحيه لهذا القائد ودوره يوضح ان بعد فراغه قد يحدث خلل وان لا يكون الولاء للجماعة ثابتا . فغالبا نتلمس للفعل جذور في افكاره واحيانا الفعل مفارق لا فكاره ، فمن المفارقات ان تقول هذا نظام طغيان وفساد وسيء السمعة وبعد حين تشارك معه ثم تأتي بالمبررات وهذا ما حدث لدخول الحركة الاسلامية مع نظام مايو ( حكم النميري) .
فالترابي لم يكن من ضمن الصامتين حين تم حل الحزب الشيوعي السوداني لأنه ( حسب الترابي ) حزب بلا ايمان بالله وهو الذي يتحدث عن حرية الافكار والراي والاعتقاد ويؤصل لها اذ يقول { ومهما تذهب الاحزاب وراء الحق إلا ما يحرمه الشرع او يكرهه فضلا عن ما يكره الأمير ، فإن سنة دولة المدينة اسوة بينة لترك من يحل كفرا كتابيا او منافقة مفضولة او تردد بين الكفر والايمان ليعمل سياسة بتعبير رآي ومولاه عليه كما يشاء } و لنا ان نتساءل هل كان وقت حل الحزب الشيوعي نتيجة لتعبير عن الرأي من قبل الأحزاب الدينية وهو من ضمنها خليفة الله في الارض ؟؛ ولكن يمكن ان نجد اسباب لحل الحزب الشيوعي عند الترابي ومحاولة استثمارها لصالح الحركة الإسلامية وتحقيق الكسب السياسي إذ يقول في هذا الشأن { وشان اخر كان محور تعبئة جليلة ولدت ضغطا حرك الاجراءات الرسمية ووعيا كيف الاتجاهات الشعبية هو حل الحزب الشيوعي ـ حين عبأت الحركة حملة جسدتها حجة المداولات السياسية وقوة التظاهرات الشعبية وتمخضت عن موقف سياسي غالب يدين الشيوعية واجراء قانوني يحرمها } إذن استثمر هذا الحدث سياسيا وتنازل عن الحق والمبادي للمصلحة .
وفي موضع اخر نجد الترابي يقول { والذي يمرق في السياسة من الدين في الإسلام مشرك وكافر لهذا المدى السياسي في حياته } إذ عند الترابي كل من يفصل الدين عن السياسة مشرك وكافر ومن الصعب مع الايدلوجية او الفكرانية (بلغة طه عبدالرحمن)الديانية تقبل الاختلاف وتحقق الوفاق . ففكر الترابي احيانا يتضارب ويتناقض ناهيك عن الافعال فهي في حالة تناقض مع الافكار وحين نتلمس موقف الترابي من اعدام محمود محمد طه يشير لنا الموقف بالتأييد والتأكيد حين سأله احد الصحفيين عن هل كان له راي في اعدام محمود { نعم .. لم اكن اكترث لمحمود[...] وقد كنت اقدر خطر دعوته وكنت اقول صراحة ان ردة محمود محمد طه اوسع من ردة أي شيوعي سوداني ؛....} . وهو الذي يتحدث عن حرية الفكر والاعتقاد ، إن مواقف الترابي مصلحية فإن اصطدمت المصلحة مع المبدأ والفكرة ضحي من اجل المصلحة سواء كانت ايديولوجية او شخصية . فيتأكد لنا عدم ايمانه بالديمقراطية بانقلاب 30 يونيو 1989م . ومهما كانت المبررات التي قدمها الترابي وانصاره في الحركة الاسلامية فهذا الحدث يكشف عن زيف شعاراتهم ويوضح ما هو مضمر في نفوسهم أي افعل ثم برر ، علي ان هذه الجراءة في التصرف هي ذاتها تشعر بأن وراءها اقتناعا نفسيا لمشروعية العمل ، والنجاح والأمر الواقع هما ابلغ المحامين . وبعبارة مختصرة ان الترابي بمصطلح طه عبدالرحمن صاحب ازدواج خلقي*
الصادق المهدي :
فالصادق المهدي من اكثر السياسيين والمثقفين نجده تتردد علي لسانه كلمة الديمقراطية والحكم الديمقراطي ولكنه ككل السياسيين السودانيين بالنسبة له كلمة لطيفة وساحرة موصلة إلى السلطة . فهو اول ما ظهرت دكتاتورية ونرجسيته حين خاض صراع مع محمد احمد المحجوب حول رئاسة الوزراء بعد عودته من الخارج وطلب من المحجوب ان يسلمه رئاسة الوزراء ؛ . ثم ابعاد مرشح من دائرته كي يدخل الصادق البرلمان اضف الي ذلك الحدث المهم والمقياس لديمقراطية الأحزاب هو حل الحزب الشيوعي وعن هذا الحدث يقول الصادق المهدي وهو رئيس الوزراء آنذاك { ان الحكومة غير ملزمة بان تأخذ بالحكم القضائي الخاص بالقضية الدستورية } . هذا الحدث كان بمثابة احراج للقضاء وهدم ونفي الديمقراطية من الاساس . والصادق هو الذي اختلف في يوم مع عمه في الجمع بين رئاسة الحزب وامامة الانصار وهو اليوم يجمع بينهم ؛ وهو من يمسك برئاسة الحزب منذ أن تولاها إلى الأن ، وهو لا يقبل النقد داخل الحزب وكل من ينتقد القيادة يحاسب إما بالإيقاف او تعليق العضوية . وهو من اتي وشارك في نظام مايو وادى قسم الولاء للنظام الاشتراكي . ولا توجد ديمقراطية حقيقية تخضع لأوامر المؤسسة العسكرية ولكن الديمقراطية الثالثة وكان رئيس وزراءها آنذاك الصادق المهدي تخضع لأوامر المؤسسة العسكرية في بعض الاحيان .
ان هذه نماذج من المثقفين والسياسيين السودانيين بل يدخل معهم ايضا محمود محمد طه ومنصور خالد وعبد الخالق محجوب وكلهم كانوا في حالة تماهي مع الدكتاتوريات التي مرت على البلاد وكانت تتحكم فيهم اذا استعملنا مصطلح كارل بوبر عقلية اللحظة سواء كانت شخصية او ايدلوجية .
انهم لم يعملوا من اجل الديمقراطية واختصروا الديمقراطية في صناديق الاختراع ، فالديمقراطية لا يمكن ان تكون نظاما فصاميا فهي لا يمكن ان تكون نظاما للحكم بدون ان تكون نظاما للمجتمع . فالديمقراطية عملية ارضية ثم ننتظر نتائجها في السماء أي بلغة اخري انها يؤمن بها القادة والمجتمع اولا ثم تنجح في العملية السياسية ولا يمكن ان نأتي بنتيجة المسألة ثم نزعم اننا صغناها بإحكام وهذه نتائجها وإلا تبقى عملية مزيفة سرعان ما ينكشف زيفها وبطلانها وعدم القبول بها وهذا هو ما حصل وكان لابد ان تتعثر التجارب الديمقراطية بسبب ممارستها العفوية والعشوائية . فالمثقف السوداني اختزل الديمقراطية في الياتها الاجرائية واهمل الجانب الفلسفي والاجتماعي للديمقراطية . ان المثقف المخضرم والمصلحي الوارث كانوا في حالة انفصام ينادون بأشياء ويعملون نقيضها . انها الدولة التي تسلموها من الحكم الكلونيالي لا زالت كما هي بأمراضها ولا زالت اشكالية الدولة التقليدية قائمة مجتمع مفكك وطائفية وقبلية وعدم قبول للأخر وغياب الحرية والتسامح والعدالة وهي ذاهبة في التردي والرجوع الي الخلف اكثر فاكثر .
من الثقف المصلحي الي المثقف الراعي :*
نقصد بالمثقف الراعي الحزبي وغير الحزبي صاحب الحس النقدي المتصل بالقضايا الاجتماعية أو الدولتية .المنحاز للحق و الحقيقة وضد الباطل ولو كان على جميع ما ينتمي إليه ومن ضمنهم افراد شريحته أو طبقته أو ايدولوجيته أوغير ذلك. لا يحركه شيء سوا الضمير الأخلاقي وهو المسؤول الأول عن المجتمع والساعي لتغييره نحو الأفضل لمكانته التي ارتضاها من خلال عمله الذي يقوم به وهو الذي يتنزع الحقيقة من بطن التمساح ولا يوجد تمساح اكثر من المجتمع الذي تتفشي فيه العصبية والقبلية والظلم وعدم قبول الاخر وغياب التسامح والحرية والعدالة والفساد والعيش تحت العمد والزعامات ......الخ . فهو المسؤول الاول عن هذه المساوي ويقع عليه الدور لمعالجتها وكما ان السلطة هي غالبا الظالمة فان المثقف هو دائما السلطة في وجه الظلم أيِّ كان نوعه اقتصادي اجتماعي سياسي . ان المثقف يمثل غيره ممن لا يمثله احد في دوائر السلطة او كما يقول ادوارد سعيد {.... من صورة صاحب العمل الذي يمارس مهنته لديه الي صورة الشركات التي تسعي للربح دون غيره ولا يعنيها في سبيل ذلك ضحايا الربح من الفقراء والمحرومين الي صورة الحكومة التي تسخر جهازا بل اجهزة كاملة للحفاظ علي موقعها الي صورة الايدلوجية الجذابة الخادعة التي قد لا يدري العامة لما وراءاها او يقع علي المثقف عبء { تمثيل العامة في مقامة اشكال هذه السلطة جميعا ، لا يدفعه الا ما يؤمن به من قيم ومبادي انسانية عامة ، لا حزبية ضيقة او تئوية متعصبة او مذهبية متجمدة} . مثقف تحركه مبادئ وقيم لا تحركه عقلية اللحظة وكم يفتقد الواقع السوداني لقيم الديمقراطية نتيجة لغياب التعليم والثقافة والمناقشات الفكرية في الفضاء العمومي . فليس الفقر او التدني الاقتصادي هو العائق امام الديمقراطية كما تذهب نظريات التحديث أو كلما ازدهر المجتمع اقتصاديا ازدادت امكانية تحول المجتمع إلى ديمقراطية ، هذا النموذج ليس مقياسا كافيا ولا اساسيا بل هامشيا واذا صلح في المجتمعات الاوربية ليس نتيجة للازدهار الاقتصادي بل سبقته نتيجة التعليم والثقافة أي عملية تنوير فتلك المجتمعات تحولت ثقافيا ومن ثم ديمقراطيا . بل قد يحصل العكس في مجتمعاتنا العربية ويزيد من الطغيان والدكتاتورية لأن أي مجتمع ليس لديه وعي وثقافة متجذرة قد لا يولي اهتماما بالقيم الديمقراطية ويكتفي بالحاجات المادية ولطالما الحكومات الديكتاتورية تعمل جاهدة كل شيء من اجل الحفاظ علي بقاؤها علي السلطة بأي شكل كان ،فإنها ستسعي لتحقيق ما يلجم هذا المجتمع البسيط وتحقق الازدهار الاقتصادي ، فالدول النفطية ما هي مكانة الديمقراطية بداخلها ؟ هي أكثر ديكتاتورية من دول فقيرة , هذا الاقتصاد ليس شرطا اوليا او اساسيا بل تابع للشرط الاول الثقافة والتعليم أي التنوير وبدونه قد يظل عائق في مجتمعاتنا العربية .
ولو قمنا ببحث في مجتمعنا السوداني لنعرف ما مدى تعلق الشعب بالقيم الديمقراطية وما مدى فهمه للديمقراطية سنجده ضعيف جدا ويجب ان يقوم المثقفين بثورة في التعليم بالشكل الذي يغير رتابته ، فإن الموضوع الاول للديمقراطية ليس في صناديق الاقتراع وحدها بل كذلك وربما اولا في الرؤوس فالديمقراطية لا يمكن ان تكون نظاما فصاميا ! فهي لا يمكن ان تكون نظاما للحكم بدون ان تكون نظاما للمجتمع .واننا لا نرى الخلاص من الديكتاتوريات ومعانقة الديمقراطية والوقوع في احضانها إلا عن طريق التنوير أي الثورة الثقافية والفكرية التي تحطم كل القوالب التقليدية البالية والموروثة لأن المجتمع هو الحاضن لها وحتي احزابنا وإن كانت فيها نفس الامراض فهي وليدة المجتمع ومجتمعنا غارق في الفوضى الاجتماعية والسلوكية . وعلي المثقف أن يقوم بدوره الكامل والحقيقي بعدته المعرفية لتكثير كل انواع الجمود والركود والتخلف وازالة الظلم ودفع الفساد واظهار الحقيقة أيَّ ما كان نوعها وإن تصادمت مع أيَّ ما كان أو أيَّ جهة كانت وعليه ان يعبر عنها في كل المواقف والاماكن وبكل الوسائل المتاحة ، وصناعة غير المتاحة ليعبر من خلالها . وهو سيواجه صعوبات فان الاغراءات التي يواجهها المرء لإخماد حسه الاخلاقي او لإجباره علي التفكير مليا من داخل حقل اختصاصه او لكبح الشك داخله لمصلحة الخضوع للأعراف هي فعلا كثيرة ، ولذلك ينبغي الحذر الدائم . ومن ما ينتظر المثقف الانفكاك عن التفكير من منطلق أيديولوجي ضيق ، وان يحدث تغيير علي المستوي الفكري في المجتمع وان تتجسد الحرية في فعلنا ومحاولة توسيع المد الثقافي والفكري في الفضاء العام بتعبير (حنة أرندت ) واعادة النظر في النظام التربوي لأنه أساسي ومهم جدا . و ولا يشوه اداء المثقف أو المفكر في الحياة العامة شيء قدر ما يشوهه ((التشذيب والتهذيب)) او اللجوء الي الصمت حين يقتضيه الحرص ، او الانفعالات الوطنية ، او الردة والنكوس بعد حين مع تضخم صورة الذات . ان المثقف منشار موجه ناحية السلطة والمجتمع ! كي يحدث التغيير في كافة مناحي الحياة لأننا في امس الحاجة لتحديثها واهمها العملية الديمقراطية . ديمقراطية لا تعود فيها الحرية والمساواة ممثلين في مؤسسات القانون والدولة بل متجسدتين في ذات اشكال الحياة المادية والخبرة المحسوسة . من اجل هذا لابد من حدوث ثورة فكرية تنتج تغيير اجتماعي سياسي وان علي المثقف وذي الاختصاص ان لا ينتظر من يدعوهما الي المساهمة في العمل الجماعي بل عليهما ترك كل شي وممارسة معتقدهما مهما تكن النتائج . ومن مهام المثقف ان يعلم الرعية كيف تؤمن بحقوق بعضها البعض ولما تؤمن بها ، لان بدونها ليس هناك حياة سعيدة للإنسانية انما عملية صراع وعدم قبول دائم ، انها عملية توتر باستمرار وهذا هو الاخير الذي يخرج من حالة الهدوء الموصل للطمأنينة والسلام . فمسؤولية المثقف هي المجتمع والسلطة وهما الهاجس الدائم الذي يحركه وبالانخراط في علاج عللهما تتحقق المسؤولية .
ان المثقف هو السلطة المناهضة لكل السلطات دوما وباستمرار لان المثقف لا هو عنصر تهدئة ولا هو خالق جماع وانما انسان يراهن بكينونته علي حس نقدي ، علي الاحساس بانه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة ، او الافكار المبتذلة الجاهزة ، او التأكيدات المتملقة والدائمة المجاملة ، كما يريد الاقوياء والتقليديون قوله ، وكما يفعلون، ويجب ان لا يكون رغبة تلقائية نشطة في الافصاح عن ذلك علنا . وان يلعب دور الهاوي لا المحترف ويستخدم كل عدته العقلية ويعمل علي اعادة قراءة معطيات الماضي والحاضر قراءة استقباليه من اجل الوصول إلى مجتمع جيد ، المجتمع الذي يسمح لأفراده من خلال توفير الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بتحقيق ذواتهم واستقلاليتهم كما انه المجتمع الذي يسمح لأفراده بتحقيق احلامهم بدون المرور من تجربة الاحتقار او الاقصاء أو بعبارة جامعة فالمجتمع الجيد هو الذي يضمن لأفراده شروط حياة جيدة .



#إبراهيم_الريح_العوض (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خاتمة الحداثات وحداثة الأخر المخالف:الإعتراف المعلن والنفي ا ...


المزيد.....




- روسيا تعلن احتجاز نائب وزير الدفاع تيمور ايفانوف وتكشف السبب ...
- مظهر أبو عبيدة وما قاله عن ضربة إيران لإسرائيل بآخر فيديو يث ...
- -نوفوستي-: عميلة الأمن الأوكراني زارت بريطانيا قبيل تفجير سي ...
- إصابة 9 أوكرانيين بينهم 4 أطفال في قصف روسي على مدينة أوديسا ...
- ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟
- هدية أردنية -رفيعة- لأمير الكويت
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بالحرس الث ...
- شقيقة الزعيم الكوري الشمالي تنتقد التدريبات المشتركة بين كور ...
- الصين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف تسليح تايوان
- هل يؤثر الفيتو الأميركي على مساعي إسبانيا للاعتراف بفلسطين؟ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم الريح العوض - المثقف والديمقراطية في السودان مابعد الكولنيالي من المثقف المصلحي إلى المثقف الراعي