أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد شودان - رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء. كاملة















المزيد.....



رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء. كاملة


محمد شودان

الحوار المتمدن-العدد: 5517 - 2017 / 5 / 11 - 03:48
المحور: الادب والفن
    


تيتريت
نبت السماء
تقديم:
اسمحوا لي أن أعرفكم على نفسي رجاء، اسمي كما هو مدون في الوثائق الإدارية، زهرة، وهذا هو الاسم الذي اختاره لي أهلي وتعبوا لأجله كما غنت فيروز، أما أنا فلم يرقني يوما هذا الاسم المبهم الأجوف؛ فهو لا يمثل شخصيتي ولا غير ذلك، بل ولا أرى فيه قيمة يستحق بها ذلك الكبش الذي ذبحوه لأجله، ولم آكل منه طبعا؛ لأنه نكرة أولا، وعامٌّ أجوف ثانيا وأخيرا، وهذا وحده كفيل لأنفر منه؛ وأشمئز منه، بل وأتشاءم كل ما سمعته.
زهرة، هو اسم عام يشمل كل وردة، مهما كانت فصيلتها أو رائحتها؛ من الورود العطرية إلى زهور الأشجار، وإن كانت زهرة شجرة مرة، كشجرة دفلى ضائعة على أطراف واد عميق، وأرى أن أي اسم آخر أفضل منه، خاصة إن كان اسما لزهرة ما بعينها، دون غيرها، كنرجس وسوسن وغيرهما، وقد استحييت من ذكر اسمي لما التقيت يوما فتاة قدمت لي نفسها باسم جلنار، فأين هذا من ذاك؟.
ولذلك غالبا ما ينتابني إحساس بالدونية والقهر إن التقيت بفتاة اسمها مخصص لزهرة بذاتها، وغالبا ما كنت أحتج على هذا الاسم فيقابلني كبار العائلة بغبائهم المعتاد، فأضطر لالتزام الصمت أمام هرطقتهم التي تطرق طبلة أذني فتكاد تفجرها:
ــ يجب أن تفتخري باسمك يا بنية، فقد سماك جدك رحمه الله لإحياء ذكرى أمه، رحمهما الله والمسلمين جميعا، يا لضياع الأيام! كانت منارة للبؤساء، رقيقة المشاعر، أم الجميع، أما أنت! يا الله، لا تخلف النار إلا الرماد!
وهذا هو الذي يجعلني أقدم نفسي للجميع باسمي العائلي فقط، وأفضل أن يدعوني أهلي باسم الصلة الدموية التي تربطني بهم؛ كبنتي وأختي وبنت عمي وهلم جرا، على أن أختي وأخي هو اللفظ الطاغي والأكثر شيوعا بين أفراد عائلة مولاي يعقوب(جدي لأبي)، حتى بين أبناء العمومة؛ فنحن جميعا إخوة، هكذا تربينا، ومن عادات العائلة ألا تزوج أبناءها وبناتها إلا من خارج دائرة العائلة، وحتى وإن لم يكن زواج أبناء العم ممنوعا بنص أو دعوة شر، إلا أنه جار مجرى العادة من الجذور العميقة للعائلة.
قلت دعوة شر؛ لأنها من بين الوسائل التي تسن بها القواعد في البيت الكبير، ومن ذلك ما حصل في زواجي الأول؛ إذ رغم تحفظ أبي على العريس وسلوكياته المعروفة للعادي والبادي، ورغم رفض أمي التي بكت ليلة الزفاف ولم تعرف معنى البسمة بعدها أبدا، رغم ذلك كله، جاء كلام المرحوم جدي فاصلا وحاسما وغير قابل للنقاش:
"ها دعوة الشر وها دعوة الخير"
وحسم الأمر.
ولزواج الأجانب ــ وخاصة عائلة زوجي ــ حجيته المختصرة في توطيد العلاقات مع العوائل الأخرى من داخل القبيلة، وكذا تحسين دم الخلف.
أما عموم الناس فأفضل لهم وأريح لي أن يدعوني بكنيتي"الفاطمي"، وهو الاسم الافتراضي الذي اخترته لصفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي كلها، بعدما فصلته ووزعه بين الاسم والنسب؛ فال التعريف لِلّقب، وفاطم بدون ياء النسب لاسم العلم، ولأني كتبته باللاتينية فإن البعض يدعوني فاتيم أو فاتي، ولا أجد في ذلك حرجا، أما الصورة فأضع زهرة ذابلة للدلالة على نفسيتي المحبطة، وكإحالة على اسمي الإداري، مع أن كلمة إداري تثير في النفس ما يشبه الرغبة في الضحك والبكاء معا.
أنحدر من عائلة محافظة، محافظة جدا إلى درجة أنهم لا يزالون مجتمعين في بيت واحد كبير؛ يضم الجدة، وهي امرأة طاعنة في السن، لا تفارق سجادتها المصنوعة من جلد خروف أحد الأعياد الذي لم يكن لي فيه وجود، وبيدها سبحة، وقربها إبريق من الأعشاب.
لا يمكن أن تميز ما إن كانت تسبح أو تخاطب الأموات، في صغري غالبا ما كنت أجلس قربها مساء، في زمرة إخوتي، لتحكي لنا حكايات الغول واليتامى السبع، أو لونجة ذات السالف الحريري.
ثم الآباء الذكور؛ أبي وأعمامي؛ أبناء مولاي يعقوب، أما العمات فيغادرن البيت لاحتضان أسرهن الجديدة، فلا يزرن الدار إلا في الأعياد والمناسبات.
وفي آخر الترتيب يأتي الأحفاد، وأنا واحدة من سبعة عشر سبطا، ولو تم ترتيبنا حسب العمر لكنت واسطة العقد.
بعد شهادة الباكلوريا أو كما نفضل اختصارها في أحرفها الأولى "باك"، والتي يدعوها إخواننا المشارقة بكالوريوس، حصلت على شهادة الإجازة في الآداب فالدراسات المعمقة في الإشهار ودلالة الصورة بعد ست سنوات من الدراسة الجامعية، وأشغل الآن منصب وكيلة إعلامية في صحيفة إلكترونية بأجر مقبول، وآمل أن تتاح لي الفرصة للارتقاء بوضعيتي المادية فيما بعد، خاصة بعد التقرير الذي نشرته مؤخرا في عمودي الخاص فأوقد شعلة الصحيفة وضاعف عدد قرائها، والذي يضم عصارات الحكاية التي سأسرد عليكم أحداثها.
وكبشارة أولية زادت من آمالي، فقد حصلت على وعد من أحد الدكاترة الجامعيين بأن يدعم ملفي إن تقدمت بطلب التسجيل في سلك الدكتوراه بالجامعة نفسها التي درست بها، وقد أبدى ــ مشكورا ــ إعجابه بالتقرير وبأسلوبي الخاص فيه. ذلك ما أنا عازمة على فعله، وقد بدأت بإعداد تقرير حول بحث الماجستير الخاص بي.
والحكاية التي سأسرد عليكم تفاصيلها في هذه الأوراق قد بدأت أحداثها فعليا قبل ست سنوات بالنسبة لي، وربما أكثر بالنسبة لتيتريت.











لم تكن فرحتي ناجمة عن نجاحي في الباكلوريا فقط، ولا حتى بمجرد قبول طلبي للحصول على المنحة الجامعية التي ستكفل لي قسطا ماديا يغنيني عن مد اليد للعائلة كل مرة، بل غمرتني السعادة التي نسيت بابي قبل عامين، لأني أخيرا كنت على أتم الاستعداد لمغادرة زنزانتي الصغيرة والكبيرة، فلأول مرة في حياتي سيطلق سراحي من معتقل البلدة والحراسة المشددة التي ضربت علي بالأعين والألسن.
دخلت الغرفة الصغيرة في الدور الثاني من الدار الكبيرة، فأنرت المصباح وتأملتها، تلك الغرفة الضيقة التي اقتسمت مع أختي الصغرى حسناء، بعدما تركت غرفتي الفسيحة للأشباح التي طالما حاصرتني فيها وقضت مضجعي مرارا.
ولأني كنت وحيدة في الغرفة تلك الليلة، فقد اجتاحتني المخاوف من كل مكان وصوب، في الحقيقة، لم أرتجف، لا، ولم يرتعد كياني من الداخل، ولكن، امتلكني شعور كذلك الذي قد ينتابك لما ترقد في قبر وحدك، حتى وإن كان مفتوحا. أو أقلها كنت خائفة من عواقب السعادة التي غمرتني ذلك الصيف؛ لم أشعر بالطمأنينة رغم أن الضوضاء الصاعدة من الدار السفلى العاجة بالأنفس والحركة كانت كافية لتبعث في قلبي السكينة وبواعث الإحساس بالأمن، جلت ببصري بين أركان البيت لأحدد ما في زوايا السقف، وما قد يختبئ في الظلال. ولما اطمأن خاطري إلى خلوها، اقتربت من خزانة الملابس أكثر، وهي عكس كل الخزانات في الدار كاملة؛ مركونة كالثكلى في قاع الغرفة الصغيرة إلى اليمين، ففرض علي كيانها وموقعها تحديا بعيدا عن الصواب والعدالة؛ إذ لوصولها، وجب علي تجاوز السرير، العقبة الأولى، والوشم المشؤوم في الذاكرة، السرير الذي احتضن لياليّ الدامعات.
فحين يجن الليل، وتغيب أختي سابحة في نومها الهادئ، أتكوم كالجنين وأسمح لعيني بري الوسادة إلى أن تجف مقلتاي، فأغفو، ليسلمني الظلام إلى الكوابيس المزعجة والمرهقة، وكم ليلة أفقت من كابوس خانق بمشاهد الدماء والدمار، فأصيح مرتجفة وعرقي يتصبب.
جلست على طرف السرير المقابل للخزانة بتوجس، تاركة ظهري للباب الذي تركته مشرعا تحسبا لأي طارئ غير متوقع، وخوفا فظيعا دائما ما يجتاحني من الأماكن المغلقة، ودون أن أنحني لأتحسس ما تحته، شرعت أولا بتفريغ ملابسي الشتوية من رفوف الخزانة ووضعها إلى جانبي.
بدأت بطي الملابس الصوفية ولمها، تحسبا واستعدادا للموسم المقبل الذي ستستقبلنا به المدينة بعد الخريف الذي أوشك على الانسحاب من ساحة السنة لبرد الشتاء، الذي يأتي ممتطيا صهوة رياحه المولولة وجارا خلفه صقيعه المجمد للقلوب والمشاعر، فكل ما كان قد وصلني عن المدينة من أخبار يفيد أن لقرها زمهريرا لا يحتمل. ثم فتحت الحقيبة الوردية التي سحبتها من تحت السرير ببطء ورهبة. ظلت عيناي مثبتة فوق، في ركن السقف الشمالي، فقد لاح لعيني طيف ما هناك، فبدأ قلبي في الخفق فوق عاتقي توجسا ورهبة من المجهول.
بعد مدة من التنفس بعمق اطمأنت روحي وتنفست الصعداء، ثم بدأت التكيف والاندماج مع الفضاء، فوضعت المعطف أولا، ثم تذكرت أن حزامه مخزون في الدرج السفلي للخزانة مع المناشف وأدوات الحمام، ففتحته على مهل. تبع المقبض يدي بسلاسة على غير العادة فانزلق الدرج نحوي، ثم اندفع ألبوم الصور وانزلق فوقع بين قدمي كأنه كان بانتظاري.
ها هو ذا يلاحقني ثانية، حضورا وغيابا؛ باديا بتفاصيل وجهه المتصلبة، يتسع ليكتسح الفضاء كأنه مارد شهرزاد الذي خرج للصياد من القمقم، بحثت وأنا أرتجف عن أي شيء لأغطي به وجهه النابح علي من خلف البلاستيك الشفاف، لكن الدم تجمد في شراييني، فأحسست ببرودة تسير كالتيار الكهربائي الجارف، وتمتد إلى ناحية فؤادي، فلم أستطع مد يدي إلى المنشفة جواري، خفق قلبي بحدة، وزاد إلى أن فارق قفصي الصدري أو كاد.
احتل طيفه البيت كله، واكتسحني من الداخل أيضا، ثم امتدت الأيادي والألسن والآذان، من السقف والجدران، ومن تحت السرير، ومن أعماقي المتجمدة، فلم أستطع دفعها ولا الفرار منها؛ كانت كالأخطبوط المتشبث بفريسته، وكنت أنا هي تلك الفريسة الخانعة المستسلمة، طاوعتني يداي فأمسكت برقبتي ورأسي.
خشيت أن يختطفني فتشبثت بنفسي، رحماك يا إلهي في السماوات، تداركني ولا تتركني، املأني بك، وهبني قوة، سيأخذني هذا الشيطان إلى حيث لا أدري، أي جحيم ذاك الذي يطلبني؟ ربما إلى ذلك السرير المفجع ثانية، ما عساي أفعل؟ هل من منقذ؟ سأستسلم يا رب فتداركني؟
"لا"
اشتعلت كالجذوة من باطن قلبي وتمددت ناشرة حرَّها في كياني كله، لكنها لم تستطع مغادرة حلقي، كأن أحدهم خنق نفسي أو جفف حلقي، لكني حاربت فشلي وخوفي، فصحت بأعلى صوت ممتد "لا"، استنفدت فيها قواي كاملة، وقد طاوعتني يدي فاحتميت بهما إذ وضعت رأسي بينهما.
وسرعان ما سرت في أرجاء جسمي حميا الحرارة والدفء بعد ذاك البرود الفظيع؛ فاحتضنتني ملائكة الرحمان:
ــ لا بأس يا بنيتي، لا بأس ! ما بك؟ أوه، إنها الصور ثانية، لم فعلت هذا بنفسك؟ ألم يطلب منك الطبيب نسيان كل شيء؟
نعم إنها الصور، لهيب السعير ذاك الذي طالما لفحني بأنفاسه من كل الجهات، ولم أستطع التخلص منه إلا بمساعدة الدكتور أحمد، أستاذنا الذي غالبا ما قطع محاضرته وفتح أقواسا ليحدثنا عن أمور تخصه.
وحدث مرة أن كان منغرسا في كرسيه خلف المكتب، فلا يظهر منه إلا هامته وقليل من كتفيه. ونحن نطل عليه كالعادة من كراسي المدرج، ولأني أخشى الوحدة والانفراد بقدر خوفي من الزحام، فقد حرصت دوما على حشر نفسي في حشود المقدمة، ولذلك لم أجلس يوما إلا في الصفوف الأمامية. كان الأستاذ بصدد حديثه عن روايته التي كتبها بالفرنسية، فكانت محور المحاضرة، وشاءت خواطره المتداعية أن يحدثنا عن دوافع تأليفه لها، وسبب تسميتها بالخيول الجامحة.
وهو يتحدث بصوته الأجش الذي يكاد لا يصل مكبر الصوت أحيانا، فقد اضطرنا إلى الإصغاء بكل حواسنا، لمن أراد الاستفادة طبعا، وهذا نفسه ما ساعد بعض الطلبة في إحداث جلبة في الخلف بأحاديثهم الثنائية، الأمر الذي فوت علينا الكثير مما كان يقول، لكن صحوة انتابتني فجردتني من كل الأردية لما سمعته يقول بكل فخر وقد ألبس صوته جهورية مفرطة ربما أنهكته، والحق أنه بدا من طريقة نطقه للكلمات مثقلا بحمل ما، ولكنه ظل عازما على التخلص منه، ولذلك صرح ناصحا إيانا أنه لا يجدر بالإنسان أن يعيش على مخلفات الماضي مهما كانت، فإن الله وهو أعلم بكل شيء قد اقتضت حكمته أن خلق عيون الناس ناظرة إلى الأمام لا إلى أعقابهم، ما يخفي قصدا إلهيا وأمرا سماويا خفيا يحث الإنسان على السعي قدما، فانطلقت شفاهي وهي تتساءل بالجرأة التي لم يعهدها مني أحد،
ــ وإن كان الماضي ثقيلا جدا؟ ينوء بحمله البعير.
ــ دعيه للبعير.
حينها أدركت أن علي التخلص من ذلك الحيوان الذي يسكنني، وقد فُرِض عليه حمل الثقل، فهمت أن علي التخلص منه مهما كلفني ذلك، وقد كفاني الأستاذ همي وحيلتي لما أخبرنا أنه قد تخلص من كل ما كان يذكره بزوجته الخائنة؛ فلم يكتف بترك المدينة التي كان مستقرا بها، بل وقد أحرق كل شيء جمعهما، حتى الملابس التي كانت تغلف جسمه حينها.
دخل محلا لبيع الملابس، ومنه اشترى بدلته الأولى التي ابتدأ بها ما جد من حياته، ومن غرائب الصدف كما قال مبتسما أنه في ذلك المساء التقى بالتي ستصير رفيقة دربه وأم أولاده.
لم يفهم أي فرد من عائلتي ممن صادفت عودتي إلى الدار حضورهم ذلك المساء شيئا مما حصل، ولا أدركوا سبب عودتي من المدينة في ذلك الوقت بالضبط، ففي اليوم الذي أعقب تلك المحاضرة أخذت الحافلة المتوجهة إلى القرية صباحا، وبعد الظهر كنت في البيت، لم أتمهل ثانية واحدة، ودون أن أبادل أحدهم تحية أو نظرة بلهاء كتلك التي قابلني بها البعض، والحديث هنا عن زوجة عمي حليمة.
قصدت الغرفة القديمة التعيسة بعدما أخذت من غرفة أختي ألبوم الصور المشؤوم القابع أسفل خزنتها، اختطفته من الدرج دون توجس ولا خوف، فتحت الباب مقتحمة غرفتي القديمة، ورغم أن رائحة الرطوبة كانت قوية، إلا أنها ظلت أضعف من عزيمتي، جلت في أرجائها كالمجنونة، قاسية النظرات والقسمات، ثم أوقدت الولاعة وتركت نارها تلتهم الألبوم وفراش السرير، وفوق النار الملتهبة في الصور وقفت مفرجة بين رجلي، معلنة انتصاري.
أعلنت الانتصار على نفسي رغم أنهم أجلوني من المكان وحاولوا إنقاذ السرير دون جدوى، أخيرا ما عاد في حياتي شخص يدعى أحمد، ولا ذكراه، لا يوم الزفة ولا جحيم الدخلة، كل شيء احترق، كل شيء، تأملت تفاصيل وجهه في الصورة وهي تنكمش مع اقتراب اللهب المحاصر لمحيط الإطار، بدا كأنه يستنجد ولا منجد.
لم أرحمه، فعلت ذلك لأنه هو أيضا أحرقني وأطفأ شمعتي متجردا من الإنسانية، ضغط على فمي براحة كفه فخنقني وهو يقاتل ليلجني مفرجا بين فخذي بعنف، لكنني ما كنت ضعيفة لأستسلم، بل قاتلت، وكنت مستعدة لذلك منذ أن تركتني أمي في فراغ الغرفة الباردة المزينة بمدامعي، بعد أن جَرَّدَتْني من ملابسي الداخلية، وتركتني بقلب بارد على سريري الأشد برودة، راقبته وهو داخل من باب الغرفة.
ما إن أقفل الباب دونه حتى سمح لتبانه أن يسقط متكوما فوق قدميه، فشكل ما يشبه القيد من كتان، ثم سحب جلبابه أعلى وقد انحنى كأنه راكع نحوي، ولما استقام كان عاريا تماما، فأثار في نفسي رغبة بالتقيؤ من ذلك الزغب المكبب في صدره ورجليه كأنها حبوب شاي أسود، اقترب مني مبتسما كالأهبل، فصحت:
ــ "لا".
ما جعله يقفز نحوي، فخنقني بكفه وهو يلهث
ــ يا فضيحتي مع أهلي
ثم جرني من ساقي فاستويت على السرير مفحمة ومرتعبة؛ تملكني الخوف والرجاء، خوف من القادم، بعدما رأيته عاريا كالوحش المستعد للانقضاض على فريسته، ورجاء أن تنتهي المهمة بسلام، وبينما أنا كذلك، اقترب مني ليقبلني، ولأن رائحة الخمر كانت طافحة منه، فما كان من معدتي إلا أن تصب عليه مما حشوتها به صبا، فصفعني صفعة تردد صداها في الأرجاء، ولأن الزفاف كان في بيتنا الكبير، فقد دلفت أمي أولا، ولما ولولت لحقها أبناء العائلة جميعا.
دامت بصمة أصابعه على خدي أياما، وكانت كافية لزجه في السجن، وبإعلان طلاقي. وبعد ذلك، رفضت الحديث في أمر الزواج وما جاوره مطلقا، فرددت خطابا عدة دون أن أناقش أحدا في أمر، كلما شاوروني في أحدهم لا أرد إلا باكية، فتدوم عبراتي أسبوعا أو يزيد إلى أن يتدخل أحدهم فيعلن رفضي، وآنذاك ترجع لي أنفاسي.
ومن ثمة، فإن أول ما ذهبت إليه جدتي العجوز المتهالكة في فراشها هو أن افترضت جازمة أني لا بد قد تعرفت على أحدهم، وأننا قد تحدثنا في أمر الزواج... ما فتح باب الأحاديث والتأويلات على وسع مصراعيه، فأفاض الجميع في التوقعات وكثرت الوشاوش والمجامع.
أما ملائكة الرحمان، أمي، فإنها قد امتنعت عن أي عمل أو شغل بالبيت، وظلت مرافقة لي حيثما جلست أو تحركت، لا باحثة عن السبب، ولا نابشة في جذور الحكاية، بل فقط لآكل قليلا أو لأرتاح:
ـ يا نور عيني، ذوقي حلوة من يد أمك، بللي فمك بكأس شاي، افتحي فمك لهذه الحلوة، بحق اللبن الذي أرضعتك.
وفعلا فتحت فمي:
ــ لقد تخلصت منه، الماضي كله.
عانقتني، ثم انهارت باكية من فوق كتفي وقد تركت كل شيء على طرف السرير القديم في غرفة أختي، والذي بيع في المتلاشيات نزولا عند رغبتي، وأنا الآن أرجو من عصفورتي الصغيرة العفو.
فعلت هذا كله ثم عدت إلى المدينة الواسعة الفسيحة، فالتهمتني كأنها بطن غول، وسرعان ما وجدت نفسي في حضن الجامعة بصخبها وهدوئها؛ تنقلني المدرجات بين أيدي الأساتذة، ثم تلقي بي إلى المكتبة لأتيه بين ضفاف الكتب والمصنفات، فأصررت على النهل من كل مشرب وورد كل مورد، لا أسمح لنفسي بالقناعة من بحر العلم مترامي الأطراف، أو الضجر من ضياع الوقت بين الكراسي والرفوف، فتتيه بي في شواطئ الأهوال وظلمات البر الساخب بالعلاقات العابرة بين الطلبة، والنضالات الجوفاء من أجل لقمة الخبز، أو الصراع من أجل السيطرة على الفضاءات بين الفصائل المتناحرة في أرجاء الحرم الجامعي.
بقيت على هذه الحال مدة طويلة إلى أن ضقت درعا بالسكن في الحي الجامعي الذي اشتعل مؤخرا بالإضرابات والاحتجاجات التي قضت مضاجعنا، وظلمت مجاثمنا؛ فيحدث أحيانا أن نسمع صفيرا منتصف الليل، فنهب خوفا وجزعا لننحشر في ساحة الحي، ولنكتشف في الأخير أن الأمر لا يتعلق إلا بهرطقات هذا الفصيل أو ذاك من الفصائل الطلابية المتصارعة.
ومن فضائل الصدف، أن شاركتني في عزيمتي طالبة بكلية الطب، قاطنة في الغرفة جواري، وغالبا ما عبرت عن تذمرها من أجواء الحي الجامعي صراحة، ضاربة عرض الحائط كل الآذان المتلصصة، وغير ذلك مما قد تهابه أي طالبة أفاقة. وما كان لأهلي أن يرفضوا لي مثل إيجار بيت والابتعاد عن الحي الجامعي طلبا، خاصة وأني ضمنت دعم ملائكة الرحمان الدائم واللامشروط.
أدعو أمي باسمها لأني كبرت في بيت كبير، لا تدعى فيه الأمهات إلا بأسمائهن، ولا تحظى بشرف لقب الأم إلا جدتي التي يدعوها الجميع "مَّا خْدِيجَة" مع حذف التاء الأخيرة.
في المساء، كل الأمسيات التي أعقبت عزيمتنا في الرحيل، كنا نتعجل في تناول وجبة العشاء، ونقصد الحي المحاذي لإقامة الطلبة بحثا عن بيت للإيجار. قصدنا السماسرة جميعا، وجاءت أجوبتهم متقاربة جدا، ومملة جدا، ومحبطة أكثر؛ فإما أن يتعللوا برفض أصحاب المنازل إيجار بيوتهم للبنات دفعا للشبهات، ولاسيما من قبل النساء، ربات البيوت، الخائفات على أزواجهن من فكوك الطالبات والعاملات الشابات وشراكهن، أو يدفعونا بغلاء سعر الإيجار المقترح، وكنا دائما نسبح بحمد الله وقدرته عند سماع الثمن المطلوب لبعض القبور المسماة بيوتا.
ــ سبحان الله، هذا ليس غلاء يا سيدي، بل إجحاف حق، وسرقة موصوفة.
ولكم كان مضحكا ومسليا لنا أن نسمع اقتراحات بعض السماسرة؛ فبعضهم يحاول دفعنا إلى جلب الكثير من البنات حتى يقل قسط كل واحدة من سومة الكراء، فترد عليهم بهية وهي تنزع نظارتها عريضة الإطار، وتنفخ من مناخرها أن ذلك لن يمكنها من الدراسة بارتياح؛ فكلما اجتمعت البنات عم الهرج والمرج، وذلك ما هي هاربة منه.
ولما تدخل ذلك الشاب منزوع القواطع هازلا أو لا أدري، وعلق بكل وقاحة أن تلك الفرصة هي المحبوبة لديه، وإن توفرت فما علينا إلا دعوته ليشاركنا هرجنا ذاك، تكلفت بتعليمه ما لم يتعلمه في بيت والديه، ما دفعه ليختبئ بأذنيه من الفضيحة التي غمرته فيها، ثم تركناهما ــ السمسار وصاحبه ــ وقد تضخمت جوقة المتفرجين أمام محل سمسرته. وما هو هذا المحل الذي يشتغل فيه؟: دكان ضيق، وخال تماما إلا من بعض الكراسي المتهالكة ومجموعة غامضة من الأشياء المتراكمة في آخر ركن منه، وإلى جانب الباب يقبع مكتب بُنِّي قديم، موضوع عليه دفتر منزوع الغلاف، يبدو أنها قد سجلت فيه بعض أرقام الهواتف، وهي غالبا لأصحاب المحلات، أو الباحثين عن فرصة ثانية للحصول على كراء أفضل، أو رهن، أو حتى شراء.
ونحن عائدتان في الطريق إلى الحي الجامعي خائبتين، نجر ذيول الهزيمة ودمار الآمال، لحق بنا رجل قصير القامة، وهو بنادي علينا بصوت خفيض:
ــ يا بنتي، يا بنت.
استدرت فإذا بي أمام رجل ملتح مكفن في جلبابه يلحقنا وهو يلهث، تأملته على ضوء مصباح الشارع بعد أن توقفت، وقد علمت أن إحدانا معنية بالنداء، فإذا هو رجل كبير، مقوس الظهر، وخط الشيب لحيته وفوديه، توقف بتوقفنا فصار مقابلا لنا على بعد أقدام قليلة، ثم أخبرنا وهو يلهث أنه قادر على تدبير بيت صالح لنا، وبثمن زهيد.
وبين كان ويكون، كنا معه أمام باب بيت من طابق أرضي وآخر فوقه، يبدو أنه أقصر بناية في ذلك الحي، ينفتح بابه على فسحة تبدو كأنها بقعة في يد ورثة، فلم تجد من يرفع سقفها أعلى.
وقبل الدخول من الشارع إلى حيث الباب، تقف عربة لبيع السجائر والحلويات على عجلتين لا يبدو من إطارهما أنها قد تحركت من زمان.
لصاحبها كلب أسود كبير، ولطالما عانيت معه دخولا وخروجا، وغالبا ما تعمد صاحبه أن يفزعني به لما علم بأمر رهابي الحاد من الحيوانات ذوات الأنياب البارزة، وتلك كانت طريقته في معاكسة الفتيات، ولم يكف عن ذلك التحرش الأرعن إلا بتدخل صاحب المنزل الذي نهره بشدة.
دخلنا البيت من باب حديدي، دفعه فانفتح على باب خشبي أمامه مباشرة، وباب آخر حديدي إلى اليمين، ولكنه يقود إلى الأعلى، كان الليل قد توغل فبسط سلطة الظلام على الكون بتفاصيله المنكسرة بين الأرض والسماء، ولاحظت بتوجس أنه قد واجه صعوبة في فتح الباب الخشبي، وهو ينفخ من منخريه كثور خارت قواه في ساحة مصارعة الثيران، شرع يدير المفتاح في القفل وهو يزفر ويلهث في محاولات متتالية، وما إن طاوعه الباب حتى دفعه وهو يتعوذ بالله من الشيطان ويبسمل.
أمرنا أن نقتفي أثره فحاكيناه حركة وقولا، فانتابتني رعشة الداخل إلى المقبرة عند العتبة، ووددت لو تلتفت بهية نحوي فأغمزها علها تراني رغم العتمة، أو تقترب مني فألكزها لنغادر، لكن ذلك كله قد تعذر، خاصة وأن الرجل كان قائما كالحد الفاصل بيننا، ونحن كالجناحين منه، ولو حصل ذلك لعدنا أدراجنا هاربتين حين كان يتحسس الحائط باحثا عن مفتاح الكهرباء.
"طق" وأنار المصباح في السقف، فتنهدت وخف توتري قليلا، لاحقت بعيني ضوء المصباح الخافت فلاحظت أن العناكب قد غطته بما نسجت حوله، ثم نط ضفدع من المرحاض على بلغته فقفز كأنه مايسترو في رقصة من رقصات الركادة الفولكلورية المنتشرة شرق المغرب، ومثل ذلك ما حصل لبهية لولا أن قفزتها كانت أدعى للضحك، أما أنا فقد أحرقت غدة الخوف مع ألبوم الصور، وما عاد في الدنيا ما يثير فزعي الشديد، ولو كان الموت نفسه. خاصة بعدما تأثرت بالفلسفة الأبيقورية التي تشبع بها نموذجي الحي؛ الدكتور أحمد، ولذلك فقد انفجرت ضحكة من ملء شدقي على ذلك الحادث.
لم يجد الرجل من خوفه حرجا، بل تفل في صدره كأن به مسا وهو يستعيذ بالله، ثم، وليطمئننا أخبرنا أنه سيتكلف بتنظيفها كاملة مع أول شعاع من شمس الغد، موضحا لنا أن ما حل بالدار إنما سببه الإهمال، وأن مستأجرا لم يلجها منذ ما يناهز العشرة أعوام، ومعللا ذلك بعدم حاجته للمال، وضعف جهده وقدرته على مواجهة المكترين السيئين، أولائك الذين تكثر معهم ومنهم المشاكل، وأنه لولا أن تلمس فينا روحا طيبة لما استأجرها لنا.
جلنا في أرجاء البيت، فراقنا قليلا؛ وهو منزل متوسط المساحة، مؤلف من مرحاض في المدخل، وإلى جانبه مطبخ ضيق، أما البهو فممر طويل كالزقاق، يمر بين غرفتين، ويؤدي إلى فسحة ترابية في آخر البيت، تطل عليها النافذة ذات الشباك الحديدي وعازل الحشرات لإحدى الغرف، وهي الواسعة على اليسار وقد خصصناها للنوم، أما الغرفة الأخرى فضيقة وليس لها نوافذ، لذلك تركنا فيها حاجياتنا وملابسنا وطاولة، والطاولة البلاستيكية هذه قد اشتريناها من تاجر متلاشيات وهي مكتبنا، رتبنا فوقها الكتب المهمة فقط، أما الثانوية التي لن نحتاجها في الدراسة فراكمناها في صناديق ورقية.
وفي تلك الفسحة الترابية مكعب إسمنتي تزيد مساحته عن المتر طولا وعرضا وأقل منه ارتفاعا، وهو بئر قديمة مغطاة بصفيحة من حديد مثقلة بمشاتل جافة تقريبا، وهي عبارة عن علب أسطوانية للحليب المجفف، وفي الوسط تقبع جلاميد صخرية مسطحة بكل ثقلها، كتلك التي يضعها أهل قبيلتي فوق سدة القبر وعليها يهيلون التراب، ويوقفون واحدة كالشاهد فوق رأس الميت.
عددتها في اليوم التالي فوجدت أنها ثلاثة مشاتل للريحان وواحدة لنبتة الصبار، وكانت جافة من العروش، ولكن جذورها لا تزال محافظة على رطوبتها بشكل غريب ومغري، فخمنت إما أنها استمرت بالحياة معاندة، مستفيدة من رذاذ الماء النازل من شرفة البيت في الدور الفوقي، حيث ترتاح مشاتل أخرى على أرائكها البلاستيكية المزخرفة، وحالها هذا سيكون أقرب إلى كل الفقراء الذين لا يزالون على قيد الحياة، متعيشين من فتاة الأغنياء.
سقيتها في اليوم الأول من سكنانا، ولاحظت أن النضارة قد علت الفروع سريعا، ومع الأيام تشعشعت العروش والوريقات وانتعشت، كما أن الرائحة الطيبة الفواحة فكان عبيرها يترجم شكرها لي كل ليلة، عندما تحركها نسائم الريح.
في الصباح التالي والأخير لنا في الحي الجامعي، وكنا قد اتفقنا أمسه على تخصيصه لزيارة البيت، أطلت علي بهية من فراشها، ودون مقدمات سألتني:
ــ متى نرحل؟
ولأن صاحب البيت قد كلف نفسه بتنظيف البيت، ولأن متاعنا قليل لا يتجاوز الفراش واللباس إلا بإبريق وطنجرة، فإن العملية لم تستغرق صبيحة يوم الأحد كاملا؛ ففي ذلك المساء كنا عائدتين من مسيرنا ونزهتنا إلى البيت الداني إلى الوسط الحضاري، ولم يكن علينا قصد إقامة الطلبة تلك.
وحين جن الليل، لم أجد ما أملأ به وقتي، فضجرت من الفراغ، خاصة وأن بهية كانت منشغلة مع كتبها، فاحتضنت حاسوبي الشخصي وأنا في ملاءتي، ثم كتبت شذرات عما حصل ليلة الأمس، وأرسلتها إلى موقع إلكتروني غير منقحة. وفي الصباح كانت منشورة فأَطْلعت بهية عليها، وكم كانت فرحتي كبيرة لما نلت مقابلها مائة درهم، وهذا ما كتبت:
"خرج كالشبح من العدم، لينبئهما أن المستحيل في كون الله الواسع ممكن خالص، ولم تتوقف مفاجآته عند مباغثتهما في الزاوية المظلمة من الشارع، بل اختطفهما، وحملهما على بساط الأمل، ففتح لهما البيت على ما نسجته العناكب من ذكريات قديمة تأبى الاندثار، البيت المغري بثمنه البخس وشروطه المناسبة.
إنها تتذكر جيدا الهيأة التي وقف بها أمام البئر المهجورة وقد تصلبت قسمات وجهه، واكتست صوته نبرة صارمة وهو يتلو عليهما مما قسم الله من أوامر، كان كأي حاخام يتلو المزامير على جدار أوهامه بتبتل، فقال بنغمة حزينة وغنة فريدة:
ــ بنتاي، لقد بنى جدي هذا البيت حين لم يكن بالجوار إلا شوك الأراضي البائرة إلى الشرق، وحقول الزيتون المثمرة إلى الغرب، وقد ورثته عن أبي الذي دفع لإخوته مقابلا سمينا لتنازلهم عليه، وها أنا ذا وحيد أسرتي لا أزال وحيدا، ليس في البيت كله غيري أنا وزوجتي، هنا، في الدور الفوقي، بعد أن سافر ابناي إلى مونتريال، الأول لتعلم الهندسة والثاني لإتمام دروسه في الرقص الشرقي، ولهذا فإنه مرحب بكما ما دمتما ستملآن فراغ البيت بوجودكما. يوم شيد جدي البيت، لم يكن في الجوار شبكة توزيع ماء الشرب، أو تصريف المياه العادمة، ولذلك فقد حفر هذه البئر التي سقت أهل الدار، وكل من جاورهم، إلى أن دخلت المنطقة في الحيز الحضري وتم ربطها بشبكة توزيع المياه، فتحولت البئر إلى حفرة لمرحاض، ولذلك غطوها بالإسمنت المسلح، ولتبقى الذكرى ماثلة فقد بنيت هذا المكعب كالنصب التذكاري بعد أن حشوت الثقب بالإسمنت، وغطيته بالحديدة التي تظهر لكم، لذلك ـ اعتبراها رجاء أو شرطا أو نهيا ــ لا تقرباه أبدا، خذا راحتكما في كل أرجاء البيت، والسطح لكم خالصا كما شئتما.
إلا هذه البئر، وأرجو ألا يغرنكم الشيطان يا سليلات حواء.
وبعد أن أتم خطبته، مرر ظهر كفه على فمه ليجفف الزبد من زاويتي شفتيه، واستراح لما رنحت بهية رأسها موافقة، فأضاف بعد أن التقط أنفاسه:
لأنكما فتاتان، أرجو أن تأخذا حذركما، فلا تخرجا من الدار ليلا، ولا أقبل دعوتكما لأي كان، إلا أن تكون فتاة أو اثنتين، ومرحبا بأفراد عائلتكما طبعا، على أنه لا بد من إخطاري بذلك، أنا أو السيدة زوجتي فوق.
لا أريد مشاكل، مفهوم؟
فأجابت إحدى الصديقتين كأنها جندي تلقى أوامره من الضابط الأسمى، "أي نعم"، ثم أضافت:
ــ وهذا ما نرجوه نحن أيضا.
قد راقها موقع البيت الهادئ، الذي يحرسه كلب أسود مخيف، ووقع ذلك من الجميع موقعا حسنا، فهي من جهة تنشد الراحة والطمأنينة، والأجواء الهادئة المناسبة للدراسة، وهو لا يطلب إلا أرنبين خفيفتين ظريفتين، يقطعان المشوار دون أثر".
لم يشاركني الجميع فرحة المقابل الذي حصلت عليه مقابل ما كتبت، خاصة أهلي، إذ بمجرد ما أخبرتهم بالأمر حتى أصبح والداي عندي صباح اليوم التالي. جلس أبي على الكرسي البلاستيكي منكفئا على محجنه، ثم رفع رأسه وهو فارٌّ بعينيه بين زوايا البيت، كأنه يبحث لاهثا عما أخبئه، في حين انهارت الوالدة على طرف فراش مرقد صديقتي. وبينما استمهلتهما لإعداد كأس شاي لحقت بي ملائكة الرحمان إلى المطبخ الضيق، أما ما تلا ذلك فإن وقعه أثقل على قلبي من أن أصفه، لكني أقر الآن بأني كنت مستعدة حينها ـ أستغفر الله ـ لصفع أمي حتى تستعيد وعيها، وثقتها بي، لولا حبي الخالص لها.
ــ لا، ما كان عليكم الشك في هذا الأمر! أمن أجل هذا جئتم؟ ظننت وحشة قادتكم إلي وحاذي الشوق من ساقكم عندي، أهذا هو إذن حدود تفكيركم؟!.
ثم صحت باسم السيد صاحب الدار
" يا بّا ادريس"
وكررت النداء كثيرا، وقد تركت الإبريق يغلي فوق الموقد منتظرة نزوله بعد أن سمعت وقع أقدامه، وما إن دق الباب حتى فتحت له وأنا أسأله أسئلة لم يخطر لأغبى محقق أن يطرحها على أغبى المجرمين.
استحيى الجميع مما بَدَرَ، واستسلم أبي لصراخي، ثم خرج صاحب الدار وهو يحوقل، وما هي إلا لحظات حتى دخلت بهية فأخبرتها بسبب قدومهما. كنت كالمجنونة، فطلبت منها أن تقرأ على مسامعهم التوصيل الذي تسلمت به المال، والقصة المنشورة باسمي العائلي، فاحتضنتني الوالدة في لحظة وهي تقول أشياء غامضة مختلطة بدموعها، وقد فهمت منها أن تلك لم تكن فكرتهما، بل دفعهما إلى التأكد تلامز نساء أعمامي وتغامزهن، لما ذاع الخبر بين أفراد العائلة مساء.
ومنها علمت أن بعضا من أهلي قد ظنوا سوءا وعدوانا وحبا في الغيبة أني قد تخلصت في المدينة من قيد العائلة وحراستها، فانزلقت في مهوى الخطيئة والبغاء.
عمَّق هذا الحادث من الهوة بيني وبين أهلي، ومع توالي الأيام والأحداث نُسِجت على الجرح جلدة الكراهية والنفور.
تعجبت من إصرار الأهل على إلحاق الأذى بي مهما كلفهم الأمر؛ لم يكفهم تزويجي كراهة؟ ذلك الزواج الذي أهدرت فيه عاما دراسيا، وما كنت لأعود إلى طاولة المدرسة لولا استعطافي إلى نيابة التعليم مرتين، وخاصة بعد أن زكى طلبي الأخير اثنين من أساتذتي اللذان شهدا لي بحسن الخلق والاجتهاد، وها هم يلاحقونني دون ادخار أي جهد بألسنتهم السليطة.
تعلمت كيف أستغني عنهم ماديا بما أجنيه مما أكتبه في صفحات الجرائد من مقالات وقصص، فقَلّتْ زياراتي إلى الدار الواسعة في العطل القصيرة، ضاربة عرض الحائط كل ما تفننت فيه النسوة من منسوجات الألسن الحادة والملتهبة، كما قوّمت تدبير مصروفي ليكفيني، فتخليت عن كل الثانويات؛ من أدوات الزينة والشكولاتة وغيرها.
ولما طبّقت شهرتي الآفاق نلت ــ بالإضافة إلى ما يشبه الراتب ــ مرتبة مقتدرة عند أساتذتي، وبِتُّ حديث الألسن بين الطلبة والطالبات، وكفاني أن اسمي ذاع بين أطر الكلية، وغالبا ما بادر بعض الأساتذة بالتحية إن التقينا في ممر أو قاعة، وهذا من دواعي غبطتي وسروري ومن بواعث اطمئناني.
إن أصعب ما في عالم العلاقات الإنسانية هو وضع الحدود واحترامها، لأن بعض خلق الله يأبى إلا أن يطمسها، ويتعامى فيتخطاها قدر ما استطاع، ولو تحدثنا عن بهية، بهية الطلعة التي وافق اسمها شخصها، فإنها من الناس الملتزمين بالحدود الصارمة للعلاقات؛ فلا تسمح لأحد بتجاوز العتبة الدنيا، وما أدراك أن يقتحم عليها شخص ما خصوصياتها، أو يتجاوز معها حدود اللباقة والمعقول، فما عليه حينها إلا أن يستعد لمواجهة العاصفة، وهذا ما أكسبها هيبة واحتراما أقرب إلى الخشية والتقية.
وهي الأخرى غالبا ما تراها في الغرفة الضيقة مع كتبها، فلا تقوم إلا لإعداد ما تأكل أو لقضاء حاجة، وإن التقينا صدفة فتكتفي بتحية أو ابتسامة باهتة، ولذلك ظلت علاقتنا سطحية إلى حد بعيد، أما من أقصده بالكلام فهو عُمَرُ.
منذ أسبوع مضى وهو يتقرب إلي بشكل ملحوظ، فعاملته معاملة الزميلة لزميلها، ولم أجد في نفسي دافعا إلى النفور منه، أو الإعراض عنه، أو التحفظ على دنوه مني، وكثرة إقباله على محادثتي، وفي كل الأمور، ولكن الذي ظل يثير تقززي منه، إنما هو تغزله بي، وتعيديه صفات جمالي كأنه مرآة كذابة. فكنت أقابله بضحكات خاملة دون أن أحرجه بأي كلام جارح، لكنه تمادى وأطال في التدني والاقتراب إلى الحد الذي دفعه إلى أن يطأ على أنفي، ما اضطرني إلى عطسه بعيدا، بالطريقة التي تليق بأي فيروس مصر على اقتحام العالم الذي لا يليق به.
كيف؟
كنا سائرين جنبا إلى جنب، من محيط الكلية في اتجاه المطعم الجامعي الذي يبعد بنحو الخمسمائة متر، مسافة تغطيها أشجار الزيتون المتناثرة على طولها وتكسر شوكة حر شمس الظهيرة القائظ. ولما كانت الشمس هي سيدة الموقف فقد تسللنا تحت الأشجار فرارا من سياطها الحارقة، نناقش مواضيع متنوعة بين الجد والهزل، وقد أصغيت بإمعان لما كان يتلوه علي من قشفات ويلقيه من نكت جعلتني بعضها أغرق مرحا وفرحة.
وفي غفلة من حراسة الشمس ومراقبة أشجار الزيتون اختطف مني قبلة، من شفتي مباشرة، كانت رائحة السجائر طافحة من فمه، كتلك التي تشممتها من زوجي ليلة الدخلة، فوجدت يدي تمتد بصفعة ضمت قوة الكون كاملا، إلى الدرجة التي جعلته يسقط متمرغا وأنا فوقه أرتجف واقفة ولا أحرك ساكنا، وكان لوقع الصفعة صدى ارتد في الأرجاء، ما جر إلينا مزيدا من جحافل الطلبة الذين تجمهروا حولنا أولا، ثم ساعدوه لينهض من الأرض، في حين تكلفت بعض الطالبات باحتضاني ومرافقتي في زمرتهن، وفي ذلك الزوال عُقِدت بساحة المطعم محاكمة جماهيرية.
استغرقتُ وقتا يسيرا في سرد هذه الأحداث على مسامع بهية، ونحن جالستان في غرفة النوم استعدادا لاستقبال يوم كامل من الراحة عقب أسبوع مفعم بالدراسة المكثفة، خاصة من قبلها هي؛ طالبة الطب التي تكاد أن تحترق أعصابها من الإجهاد لولا أن يوم الأحد المحبوب دوما ما يأتي ليختم الأسبوع حاملا معه باقة من زهور الراحة، وغالبا ما تقضي ساعات طويلة منه غاطة في النوم.
كُنت ـ وأنا أحكي لها ـ في حالة تلك التي منحت فرصة طال انتظارها للانتقام ورد الاعتبار، وبدا علي الحبور وأنا أدقق في وصف رسمة أصابعي على خده، وسرعان ما امتلكني ذلك الإحساس العنيف بفك الغبن وتفجير الغيظ الذي طالما سيطر علي؛ إذ إنني قد ظللت طيلة الأيام التي أعقبت حرقي لألبوم الصور، ظللت كابتة تلك الرغبة في الافتداء لنفسي والانتقام بأبشع الصور، وكم ليلة استحضرت فيها ذلك الزوج الذي ابتلتني به حكمة الأهل واستغراقهم جورا في تخطيط حياة الآخرين عوضا عنهم وتدبيرها، ولو لم تكن جدتي المحبوبة هي المتورطة في ذلك الجرم لما كنت لأغفر لها ذلك.
لقد أوقدوا شمعة في كأس منكفئ فانطفأت من قلة الأكسيجين في لمح البصر، وهذا هو الغبن، خاصة وأن الحرقة لم تنته بمجرد ما خمدت الذبالة، بل امتد الحريق إلى ذاتي الباطنية فصهرني الألم والحرقة. وقد حالفني الحظ يومي هذا، ومن حقي أن أثأر لنفسي. لا يهم خد من ذاك الذي تلقى الصفعة، ولكن الأهم أنها رسمت على خد رجل، فاقتصت المرأة في، من الرجل فيه.
على عكس معظم الطالبات، تحمست بهية لردة فعلي الصاعقة تلك، وثمنتها، بل وراقها أني أدّبت ذلك الضحية أحسن تأديب، إن صح وصف فعلتي اللاإرادية تلك بالإجراء التأديبي، أو إن كان من الممكن إدراجها ضمن بيداغوجيات التربية المستمرة، كما قالت بضحك صاخب.
ولكني لن أخفيكم سرا، فإني قد اشتريت بذلك التصرف احتراما لا مثيل له، وهذا وحده كفاني مما لاقيت، ولم يتجاسر علي بعد ذلك إلا هذا الضابط ذا القبعة السوداء الذي لا يزال مصرا على مهاتفتي في كل وقت، رغم فك خيوط الجريمة التي طالها التقرير، والذي نشرت مؤخرا، وكان آخر تقرير لي إلى حد الساعة، ذلك أني تفرغت لتدوين الأحداث وترتيبها في هذا المؤلف الذي بين يديك.
أقول هذا لأن بعض الطالبات لم يتقبلن مني ذلك، وعبرن صراحة وبطريقة فجة عن رفضهن لذلك السلوك أثناء المحاكمة، وأكثر من ذلك أن منهن من عبرت عن امتعاضها منه، ولا أدري من أين؟ أو كيف يحصرن دائرة الأخلاق؟ لأن بعضهن وصفت ردة فعلي ذاك بالعمل المنافي للأخلاق والأعراف، ووَسِمْنَهُ بأنه لا حضاري، وكثيرا ما تردد على مسامعي مما تهامس به البعض من أني معقدة نفسيا، وأني لا أفهم في أمور العلاقات بين الشباب، بل إن واحدة منهن قد ألحت من داخل الحلقية ـ التي تجمهر فيها الطلبة وكنت أنا حينها إلى جوار الطالب من جهة خده الملطوم ـ على ألا تكتفي بالإدلاء برأيها، فتجاوزتني كأني غير موجودة، وتحدثت عني بضمير الغائب، متبرئة باسم المرأة المتحضرة المتعلمة مني، وفصلت رأيها بالتمام والكمال، فكانت تزم شفتيها الملطختين بأحمر الشفاه لتظهر ألّا عيبَ ولا حرج في قبلة بين شباب الأمم المتحضرة، وأننا قد تجاوزنا تلك العصور القديمة، التي كان يُحظَر فيها الالتقاء بين الجنسين فوق العشر سنوات.
ولتؤكد خطابها الرنان بالحجة الدامغة والبرهان الجلي قبلته من خده، فزادته طابعا من شفاهها فوق ختم أصابعي، وقد راقني ذاك ولم يغضني، إذ بدا لي كأنها قبلت يدي لا أكثر غيابا قبل الحضور، وفي ذلك عزة نفس ما فوقها عزة. والأرزى من ذلك كله أن الكثير من الحضور قد صفق لها بحرارة، فلاحظت كأنهم يفرضون علي أن أخجل من نفسي، لكنني انبريت لهم كالقلم الأحمر، وقد فاض الدم في رأسي وغلى، وابتعدت قليلا عن الفتاة والطالب جواري، وطالبت بتهكم، وبصوت عال أن يتطوع أحدهم بوضع لائحة يسجل فيها أسماء كل طالبة تتطوع لتقديم القبل للطلبة، وبذلك سيعرف كل مقصده، فتعالت الصرخات والضحكات، وتوارت الطالبة عن الأنظار كأن الأرض قد انشقت وابتلعتها، وغادرت أنا الحلقية بعد ما اعتذر مني ذلك الطالب وتصافحنا على أن ننسى كل شيء مما قد حدث.
غمسنا الحديث في أعماق الليل، ولم ينتشلنا إلا صوت خربشة في الفسحة الترابية قرب النافذة التي دعوناها فيما بعد بالحديقة الخلفية، فارتعدت فرائصي دون مشورتي، وكذلك كان الحال مع بهية، وقد راعني أن لاحظت اتساع حدقتي عينيها بشكل مفزع، فتحسسنا مصدر الصوت صامتتين، لا يسمع إلا هسيس أنفاسنا التي كادت أن تنقطع، تحركت الآذان والأعين الشاخصة لنعرف كنه الصوت، فكان قريبا إلى خدش أظافر أو مخالب في كيس من الألياف البلاستيكية.
وبقفزة سريعة أقفلت بهية باب الغرفة وهي ترتعد، ثم عادت إلى مضجعها على رؤوس الأصابع، تحدثنا همسا فقط، ولمدة طويلة نسبيا، ما كان الصوت ليهدأ إلا ليعود أكثر حدة، وفي غمرة الخوف الشديد جمعت قواي كاملة، ودون أن تفهم بهية مما أقدمت على فعله أمرا، رأيت علامات الاستغراب بادية على وجهها وهي تتبع حركاتي المتناسقة وأنا أفتح شباك النافذة كأن شيئا مفزعا لم يحدث، وأسأل بأعلى صوت عمن بالحديقة الخلفية، وما هي إلا صيحة واحدة، ثم الثانية لينزل صوت مواء قط بردا وسلاما على قلبينا، وعلى إثرها فُتِحَتِ النافذة في الدور الفوقي، فصدح بصوته الأجش ليعرف ما الحادث الطارئ.
أخبرته بصوت عال أن قطا ما خدش في ما لا ندري هنا بالفسحة فأفزعنا، وعلى إثرها نزل راكضا عبر درجات السلالم، سمعنا وقع بلغته على كل درج، ما أكد لي أنه كان يقفز متجاوزا الدرجة أو الاثنتين في كل خطوة، وفتحت له بهية وهي تتأفف من سمع الشيوخ الثقيل:
ـ هل اقتربتم من البئر؟
طمأناه إلى أننا لم نفعل، فعادت عيناه الزائغتان إلى مكانهما، لكنه لم يستطع كبح ارتعاده، فكان كمن استفاق من كابوس طويل ومرهق، وحتى وهو منصرف من عندنا، استمر بتفصيل نصائحه ناهيا إيانا عن الاقتراب من تلك البئر مهما حصل.
ـ هل أحدثك في شيء؟
هكذا بدأت بهية كلامها، ودون أن أترك لها مجالا لإخباري بما عزمت عليه، انساب لساني بكلمات مبهمة عن ذلك المكعب الغامض وعن عدم ارتياحي له ولا لصاحب الدار، فصدقت كلامي وأفاضت فيه، وأضافت إليه، ومن عجائب الصدف وغرائب الوقائع أن أحاسيسنا تجاه البيت وصاحبه متقاربة إلى حد التشابه.
وقد زادت مخاوفها لما أخبرتها صباحا عن حلم رأيته ليلة الأحد تلك، ومثله في أول ليلة بِتناها في الدار، حتى كأنه مشهد سينمائي متكرر وليس حلما، فمنذ الليلة الأولى لإقامتنا سقيت المشاتل الأربعة قبل نومنا، وفي تلك الليلة رأيت نبتة الصبار وقد اخضرت وطالت إلى أن صارت سامقة في الأعالي، ثم رأيت أنها ليست نبتة صبار؛ تحولت إلى امرأة دون جذع، وقفت أمام الشباك ولوحت لي بيدها تدعوني أن أدنو إليها، ولما انتبهت إليها وحاولت النهوض من مكاني ألفيتني عاجزة كأني مشلولة أو مكبلة، فقطبت بين حاجبيها وقصدت ناحية البئر، ورغم أني لم أر ما حدث بعدها، لأن منطقة البئر كانت خارج نطاق رؤيتي، إلا أني قد سمعت صكة الحديد، فاستيقظت فزعة على آذان الفجر، أما ليلة السبت فقد دققت جيدا في ملامحها ولباسها؛ بدت لي شابة سمراء، واضعة منديلا أسود على رأسها، فانسدلت أطرافه إلى أن غطت ظهرها، وتحت المنديل الأسود ترتدي تنورة بيضاء فضفاضة غطت قدميها، ودعتني ثانية، لكني ظللت عاجزة كما في المرة الأولى.
ولما ألفتها، وربما ألفتني هي الأخرى من طول الزيارات، فقد طلبت منها القدوم عندي، لكنها أرخت عينيها معتذرة، ومال رأسها على كتفها، فامتدت يد من حيث لا أدري إلى فمها، ولوت عنقها إلى أن انقطع، وانفصل عن جذعها، فقمت من مضجعي مرتعبة، وكان الفجر مرة أخرى، كما في كل مرة.





II
استمر طيف المرأة في زيارتي كل ليلة سبت لأحد، مدة دامت سنتين جامعيتين كاملتين، حتى استأنسنا ببعضنا البعض، وبملامحنا الحزينة. سنتان كاملتان، طغى عليهما الروتين وحده، وغالبا ما افتقدت المرأة الشبح أثناء العطل التي كنت أقضيها مع العائلة، معتكفة في غرفتي طبعا، وانتظرت قدومها ليلة السبت أو الأحد بفارغ الشوق ولكنها لم تظهر لي يوما ولا ليلة.
ولما سألت طيفها حين عودتي لمَ لمْ يزرني في البيت الكبير؟ محاولة أن أوضح لها كرم الأهل، وسعة الغرفة، إلا أنها لم تجيبني، بل اكتفت بالنظر جهة البئر.
ولأن زوجة عمي حليمة تحبني حبا جما، فقد حكمت علي بمغادرة الدار نهائيا؛ تعود أحداث هذه القصة الملتهبة إلى عطلة الربيع الأخيرة من السنة الثانية التي أعقبت وفاة عمتي غفر الله لها؛ فانتظرت سيدة الإجرام تلك إلى أن اجتمع أفراد العائلة جميعا بعد صلاة خطبة الجمعة، واستغلت التفافهم على مائدتَيْ الكسكس ــ واحدة للنساء والأطفال، وأخرى للكبار والرجال ــ لتفجر المأساة.
ــ الله ينورك يا حمامتي يا نورة، يا نور عيني، يا رافعة رأس أبيك بين الهمم، تكلم فيك الخطاب، وتدافعوا على الباب، وليته كان ممكنا.
أخبرتنا هذا، بصوت لا شك أن الجيران قد سمعوه جميعا، ولما لم يرد أحد على هرائها، فقد أضافت بكل وقاحة، موضحة أنها اعتذرت لبنت خالتها، أم الولد الراغب في الزواج، بسبب أعراف العائلة، وأنها تنتظر زواجي أنا، بما أني كبرى بنات الدار، وأن العائلة ترفض تزويج صغار بناتها قبل الكبريات، ولا زالت تطرق بابي إلى أن فتحت عليها بوابة السعير، فانفجرت حرائقي عليها، وطبعا امتدت النار إلى والِدَيَّ، وإلى ذاتي أكثر.
كثر اللغط بيننا، وكنت أتكلم بصوت عال اكتسب بحة بسبب جفاف حلقي وغصتي. وفي قمة الجدل، حين تدخل الرجال بيننا، حسبتْ أنها طرحتني أرضا لما أخبرتهم بكل سخرية أّن لي حسابا في موقع التواصل الاجتماعي الأزرق، وأني أتعرف من خلاله على شبان كثر، وأني قد ضيعت قيم العائلة، وسودت الوجوه، و،و،و...
وأفحمتها أخيرا بأن أخبرت الجميع بأن لها هي الأخرى حسابا، وأثبتت ذلك بالدليل لما أظهرته لهم على شاشة هاتفي الذكي، عارضة صورها بدون منديل رأس، ولأن ذلك كان أبعد من أن يبلغه أفق توقعها، فقد صعقت، وضاع نبر صوتها بين مقاطع الكلمات، فتلعثمت، ووجدت صعوبة في ازدراد ريقها، ثم بررت ذلك بأنها تستغله للتواصل مع أهلها والاطلاع على آخر الوصفات في الجمال والطبخ. فأطلقت عليها رصاصة الرحمة بأن طلبت منها فتح حسابها للاطلاع على الرسائل أمام الجميع.
انتظرت نهايات مختلفة لذلك الوضع، إلا أن تمتد إلي تلك اليد التي طوحت نحو خدي، فلم أكن لأتوقعها من عمي، ولكني كنت في الموقع الذي مكنني من صدها، فلم تصل وجهي إلا ريحها. وجمت الوجوه، وخشعت القلوب، وتجمد الكل ــ من الصغير إلى الكبير ـ خاشعا منتظرا، كأن الله قد أمر النافر بالبوق، ولأول مرة رأيت في عيني والدي رهبة قاتلة، فلم ينبس بكلمة رغم أن عمي الذي تركته واقفا وأنا قاصدة إلى غرفتي وأمي في أعقابي، قد تعمد ملاحقتي بكلماته الجارحة، وأمام والدي.
فتحدث عن أخلاقي المنحطة، وقلة حيائي، وكسري هيبة العائلة ووقارها، بإزالة المنديل عن رأسي، وأني بذلك أستحق اللعنة، وأن الحق كله على أبي الذي أخل بتربيتي وتخليقي، وغيرها من الهرطقات التي تفوه بها. وأنا من جهتي لم أرد عليه أخ كلامه، بل تركته لنار الغضب تلتهمه، فأقفلت باب الغرفة دون أمي وأختي الصغرى، وشرعت ألقي ملابسي في الحقيبة دون طي:
الريق جف،
والخناق ضاق
لا، ومِن لا ألف
ما عاد الحمل يطاق
لف في الدنيا لف
سيعوض الله على الفراق
بئر وطيف
ولا بيت الخنوع والنفاق
عانقت أمي عناق مودع، فسَمَحت للصمت والدموع بالتهامها، ثم عانقتها وأنا أعلن استنكاري صمت أبي ووقاحة عمي وزوجته، لكنها لم ترد علي بغير دموعها، مما زاد رأسي صلابة وعزما على ما قررت في نفسي، فقبلت رأسها من الجبين، وخرجت من الغرفة واضعة حقيبتي بين ذراعَيّ، لا أرى لي وجهة إلا الباب الخارجي، فوجدت الجميع كما تركتهم؛ واجمون كأنهم أصنام حجرية، اللهم أبي الذي قبع في المكان الذي كانت تشغله المرحومة إلى جانب جدتي التي فقدت السمع والبصر، ولكني لا أشك أنها أحست بكل شيء، ولذلك فإن السبحة ظلت ترتجف في يدها.
ــ ها هي ذي الدار لك خالصة يا حليمة الجميلة، زوجي بنتك، نور عينيك، راحتك، أرجو أن لا تنزعي المنديل في صورك التي ستنشرين على صفحتك في مواقع التواصل الاجتماعي، وإن فعلت فأرجو أن يمتد إليك ذلك الكف المتصلب.
عدت إلى دار البئر في المدينة قبل نهاية العطلة بيومين، ونمت مبكرا عسى تزورني المرأة في منامي، فأشكو إليها ما أصابني، وددت أن أسألها فقط عن سر المنديل الكبير الذي تضعه، وممن تستحيي ما دمنا في الجنس سواء، وما دامت طيفا لا تنالها الأعراف والتقاليد، ولكنها لم تزرني تلك الليلة، فقمت في الصباح يائسة، لكنني عزمت على كتابة مقالة أناقش فيها حرية المرأة في وضع المنديل على رأسها من عدمه، ونشرته في الصحيفة التي تعودت إرسال مقالاتي إليها، وبعد يومين وصلتني منهم مائة درهم كالعادة، واضطرني فضولي إلى الاطلاع على المقال المنشور، فوجدت بعض التعليقات الجارحة والخادشة، ومنها ما حمل سبة لي، وللصحيفة، واعتبر البعضُ المقالَ تجاسرا على قيم المجتمع، ومن التعليقات ما اعتبرت المقالة ضربا في الدين القويم، كما اتهمت بعضها الخط التحريري بنشر الفساد والتشجيع عليه، ما زاد من أسفي وأساي.
يوم السبت مساء عادت بهية من دوارها، فاندهشت لأنها وجدتني قد سبقتها على غير العادة، وأني قد اقتنيت كل شيء. كان معها لحم مقدد، وكمية وافرة من المؤونة، كتلك التي تعودت العودة بها في العطل السابقة، ولكني لم أفعل هذه المرة للأسف. وفي تلك الليلة أيضا، زارتني المرأة الشبح كاشفة عن رأسها، فبدا حليقا ومحترقا دون شعر، ما أثار في نفسي رغبة في التقيؤ والنفور، ووددت لو أطلب منها تغطيته.
لكني لم أفعل أن الحوار بيننا غالبا ما يدور بالإشارات فقط، كما أنني قد استحييت من إحراجه، ودعتني على العادة أن أتقدم نحوها، لكن ركبتي لم تطاوعاني، فانهمرت دموعها؛ تدفقت الدموع من عينيها كالشلال، فشكلت مجرى أرجواني اللون، ذلك الأرجواني القريب من الدم المتخثر الذي طالما التصق بالتراب بعد ذبح المرحوم جدي كبش العيد، كالتصاق ذكريات الطفولة المرتسمة والمترسبة في ذاكرتي، رغم أن الأرض دأبت على أن تشرب الدم بمساعدة المطر، فيزول أثره بعد مدة، ولكن هذه الذكريات المؤلمة تأبى الامِّحاء. تدفق دمعها نجيعي اللون على أرضية الحديقة الترابية، فرأيت انعكاسه في زجاج النافذة وهو يصب في البئر، ثم امتدت اليد لتخنقها، وتفصل رأسها لما بدأت بالصراخ.
صحوت من ذلك الحلم على آذان الفجر، فتركت الفراش وقصدت الفسحة حيث البئر، وضعت أذني على جداره بعد أن تأكدت من خلو الأرضية من دموع المرأة وجفافها التام، فسمعت في لحظة كأن صرخة قد صدحت من أعماقه ففزعت، وانتابني خوف شديد، فعدت إلى مرقدي، وفيه تكومت إلى أن استيقظت بهية.
لم أحدثها في شيء مما حصل، فقد استهجنت علي ذلك من قبل بسبب كثرة ما أحكيه لها حول مرآي ذاك في مسرح أحلامي، ودعتها خرافات محضة. لكنني أطلعتها على المقال، لاسيما على التعليقات.
وإصرارا مني، تشبثت بالمقال، رغم أن البعض ومنهم بهية طالبوني بسحبه والاعتذار عما جاء فيه، أما بهية فهي في الحقيقة لم تر في وضع المنديل تعبيرا لا على حرية المرأة ولا غيره، ولم تعر الموضوع كبير اهتمام، ولما طالبتني بسحبه فقد بررت ذلك بالحفاظ على سلامتي أولا وأخيرا.
نقحت المقال وقدمته عرضا أمام الطلبة في حصة الأستاذ العظيم "د أحمد"، وقد نهجت في العرض طريقة ورطت بها كل من عارض أفكاري في تناقضهم الفكري والعقدي، فجعلت عنوانه "المرأة ومرآة الأخلاق"، وأول ما افتتحت به العرض كان هو تعريف الحرية في اللغة، قارنة ومقارنة إياه بمجموعة من الألفاظ القريبة منه أو المناقضة له، كالعبودية، والتحكم، والفوضى، والميوعة، والسيبة، والتحلل الأخلاقي، والمسؤولية... ثم عقبت بدلالة اللفظ كما جاء في المواثيق الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبعد ذلك انتقلت إلى المرأة وأدوارها الطلائعية في المجتمع، ثم عرجت على وجهة نظر الدين فيها، وربط تاء التأنيث بالخطيئة في الديانات الإبراهيمية وفي الثقافات القديمة، خاصة قصة الخلق الإغريقية، ثم انتقلت بهم إلى الإعلام، فجررت خواطرهم لما خاطبت عواطفهم قائلة:
ـ ألا ترون كيف يقدم الإعلام الرسمي المرأة؟ خذوا معي الإشهار، سترى أن المرأة في كل لوحة أو وصلة إشهارية، إنما تقدم نموذجا معينا للمرأة، المرأة النمطية التي يراد خلقها، تلك المرأة القريبة من ملامح السيدة الغربية المتحررة.
فسمعت همهمات ولاحظت بسمات الرضا قد جالت في مدرج القاعة، وحينها أردفت:
ــ ولكن، لما نعود إلى الشارع والبيت، ألا ترون أن المجتمع عموما، والأسرة خاصة تصر على خلق نموذج آخر للمرأة، تلك المرأة المحجبة والمخلقة، الحشوم الوقور؟ .
وعلى هذا النحو سرت إلى أن جعلتهم يقتنعون أن المرأة قد تحولت إلى مرآة تعكس رغبة المؤسسات، وأنها لا تتمتع بأي قدر من الحرية في اختيار أبسط الأمور؛ لباسها. فانسلخ البعض من المدرج، وانبرت إحدى الطالبات، وهي منقبة لا يبدو منها إلا العينين تحت النظارتين، انبرت لتقاطع العرض وهي تتساءل عن معنى الحرية الذي "نطبل" له، واصفة العرض بالدعوة إلى التغريب ومحو الهوية. أصدرت هذا الحكم حتى دون أن تسمع تتمة العرض، فصاح فيها الدكتور غاضبا، داعيا الجميع التزام الهدوء وأن يحترموا صاحبة العرض، وذلك بالإنصات وتأجيل المناقشة إلى نهايته.
لم أتمكن من إتمام عرضي بسبب الضجيج الذي خلقه البعض بصفيرهم، ورفعهم شعارات لا جدوى من استحضارها الآن، لكنني حظيت بحب البعض وتعلقهم بي، وبشخصيتي، وقد عرض علي بعض الطلبة التقدميين أن أقدم العرض في المقصف، ففعلت.
وهناك أتممته تحت التصفيق، وقد لاحظت امتلاء المقصف ببعض ممن كان رافضا عرضي بداية، لكن أحدهم لم يستطع مقاطعتي لحظتها، فأحسست بقوة تنبعث من داخلي، ووضحت رأيي وفصلته بأبسط الطرق، فسجلت بالبند العريض أن المرأة التي تضع المنديل على رأسها لا تعبر بالضرورة عن اختيار حر ما دام المجتمع قد فرضه عليها منذ الصغر، خاصة بالنسبة للفتاة التي تربت في كنف أسرة متزمتة.
اعتليت كرسيا قدمه لي أحد الطلبة، وقلت مستحضرة سياق العرض:
"كتبت قبل أيام مقالة تحت عنوان "المنديل قيد" وقد تعرضت هذه المقالة لهجوم متعدد الجوانب، والآن أريد أن أصحح بعض المغالطات، لأن البعض ذهب إلى أني وقعت في تناقض لما انطلقت من مبدأ الحرية وخلصت إلى أن هذا اللباس الذي يوصف بأنه شرعي، لا يمثل ارتداؤه من قبل كل بنت حرية شخصية، أو أني غلفت المقالة بالذاتية، وما إلى ذلك.
والواقع أن القارئ المتعصب ضد فكرة لا يلاقيها إلا بالرفض، والبحث عن منافذ للتوغل فيها، والتغول عليها، ومن وجهة نظر شخصية أحتفظ لهم بحق الرفض والانتفاض، والتعبير عن غضبهم، لا بأس في ذلك كله، لأنني أقدمت على مغامرة واعية لما عريت ما يهولهم منظره منهم أولا، ولأن المتشبثين بالفكر الأصولي، والذين يعانون من حساسية مفرطة اتجاه الحرية والتحرر دوما ما يرفضون مواجهة الرياح الملقحة ثانيا.
وسابقا رفض هؤلاء نظرية التطور، بل لا زال منهم من يؤمن بمركزية الأرض في الكون، فهل مع هؤلاء يصح النقاش؟ يبدو لي إن وافقتموني الرأي أنه لا يمكن إرغامهم على الركوب، بل يكفي الانطلاق دونهم.
لا زلت متشبثة بأن اختيار المرأة اللباس الذي يروق خاطرها، ويناسب ذوقها وجسدها حق لا مزايدة عليه، وننطلق في ذلك من مبدأ أساسي يرى أن للمرأة الحق في التمتع بكل حقوقها الكونية، كأخيها الرجل دون تمييز، ولكن، يبقى أن كلمة "حق" تتطلب شرطا آخر، وهو الحرية في الاختيار، لأنه لا يمكن أن نقول إن رضيعا قد اختار لباسه، لأنه لبس باختيار غيره، وربما أمكننا قياس الأمر على الأحمق لو رأيناه في حلة ألبسها إياه أهله أو إدارة المستشفى.
وإذن فلن تكون المرأة حرة في لباسها إلا إن اختارته بحرية تامة، وهذا الشرط الأخير لا يتوفر للمرأة المغربية المحجبة، لأنها تضع ذلك الزي/الواجب نزولا عند رغبة أهلها، وربما امتثالا لأمر أسرتها إن كانت تنتمي لوسط متشدد، أو حتى واجب ديني. رغم أن مؤولي النص الديني قد اختلفوا في وجوب بعض الأزياء كالنقاب والخمار والبرقع، فما أدراك بالمنديل، كما أن بعض الدول تفرض على نسائها البرقع بقوة القانون والسوط، فهل يمكن الحديث هنا عن حرية اختيار؟ وهنا استحضر صورة انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي لمضيف طائرة عثر في مطار أوربي على لباسين "شرعيين" تركتهما خليجيتان بعد وصولهما إلى ديار الحرية.
وبهذه الصورة أدفع ادعاء من سيقول إن المحجبة تختار وهي حرة تماما وضع ذلك المنديل على رأسها، أو تغلف نفسها في خمار أو برقع.
وإليكن زميلاتي، وإليكم زملائي، لتطمئن قلوبكم؛ إن المنديل الذي تضعه أغلب المغربيات إنما هو مفروض عليهن اجتماعيا، كيف؟ بالتفييئ والتصنيف، إذ يعمد المجتمع المحافظ (ولو في لا وعيه الجماعي) خاصة في التجمعات القروية أو الحواضر الصغرى، إلى تصنيف المرأة السافرة والحاسرة ضمن المغضوب عليهن. ولتجنب ذلك تضع البنت منذ صغرها المنديل على رأسها، إما خضوعا لأمر أسري حتى تعبر عن الحشمة والحياء، أو تجنبا لنظرة المجتمع المحافظ السلبية، (فالمرأة إما محتشمة محجبة أو قليلة حياء، ومنعدمة التربية) نعم معاشر الطالبات والطلبة، تصنف المرأة المغربية المنفتحة والمتحررة على أنها باغية، وفقط لظهور شعرها دون منديل ولا أظن أنكم ستخالفونني الرأي".
وتحت التصفيق أكدت ــ كأني جمال عبد الناصر في إحدى خطبه، ولكن بنبرة ساخرة ــ أن أغلب المدافعين عن اللباس الملتزم إنما يتمسكون بالجانب الأخلاقي، وأن البعض يذهب إلى تشبيه المرأة بالحلوى، وهكذا فالتي لا تضع الحجاب تصبح عرضة للاعتداء، كما أن الحلوى دون غلاف تجلب الذباب والنمل، ولكن هؤلاء غالبا ما ينسون أنه ليس للمرأة في هذا من ذنب، لأنها ليست مسؤولة عن تدني أخلاق الذكور الذين تسيطر عليهم غرائزهم الحيوانية.
ومن هنا، خلصت إلى أن الأولى بالمجتمع أن يربي أبناءه على الاحترام، وأن يعلموا أبناءهم الذكور أنهم سواسية والإناث، وأن يخضع المتعلم لتربية جنسية تجعله قادرا على التحكم في غرائزه، وهذا كله يحتاج ثورة ثقافية حقيقية.
ثم خلصت مدفوعة بالدعم الذي لم أكن أتوقعه إلى أن الخمار والبرقع والحجاب والمنديل وما إلى ذلك مجرد قيد اجتماعي يشل المرأة، وقد صار لازما أن نحدد موقعنا من المجتمع الأممي؛ إما أن ندع القطار يمر وننتظر القافلة التي ضاعت في دهاليز التاريخ، أو أن نصارح أنفسنا ونساهم جميعا في التخلص من رزايا الماضي، وأهم ما بإمكاننا، ويجب علينا فعله الآن على استعجال هو المساهمة في تحرر المرأة وكسر قيودها حتى نبني مستقبلنا المشترك يدا بيد.
أحسست أن الأجواء قد احتقنت، خاصة من جهة رافضي كلامي، فأضفت جبرا للخاطر:
هل ترون الحال التي وصلنا إليها بفعل شد الحبل على هذا النحو؟ إن المنع الذي يرفضه البعض، والإلزام الذي يريدونه متشابهان، وكلاهما سلبي النتيجة، وكلاهما مناقض للحرية، نعم، تقف الحرية الحقة عند الحد الفاصل بين دعوة الإلزام التي تتشبثون بها، ودعوة المنع التي رفعتها حالا، ولا شك أنكم ستخلصون بعقول صافية إلى أن الاحترام هو الأصل، ولاسيما احترام الحلقة الأضعف في سلسلة المجتمع؛ لا بد صديقاتي وأصدقائي وأخواتي وإخواني من احترام المرأة في اختياراتها، والكف عن فرض أفكار المجتمع الذكوري عليها. نعم، بإمكاننا بناء مجتمع متوازن على لبنة الاحترام والتقدير.
بهذا ختمت خطبتي وقد أحسست بجوع رهيب، فصفق لي عدد غفير من داخل قاعة المقصف وخارجها.
تركتِ الخلاصة الأخيرة التي ختمت بها كلامي وقعا طيبا في نفوس الطلاب جميعا كما بدا واضحا، اللهم الغلاة من الجانبين. بل وأكسبتني محبة عدد من الطلبة والطالبات الطيبين، ما دفعني إلى سرد تفاصيل حادثتي الأخيرة مع زوجة عمي عليهم بعفوية تامة، ذلك الحادث السيئ، وهو الحافز الحقيقي الذي دفعني إلى التفكير في موضوع المقالة من قبل، ولم أجد في نفسي غضاضة في حكي تفاصيل الحادث أمام تلك المجموعة من الطلبة الذين تحلقوا حول الطاولة التي جلست على أحد كراسيها لأكل حلوة مع كأس شاي ساخن، وبعد انتشار تفاصيلها على الألسن، كسبت تعاطفا جماهيريا واسعا.
وفي الليل نقحت عرضي ورقنته، ثم أرسلته إلى ذات الجريدة التي نشرت لي المقال الأول، لكن مسؤوليها اعتذروا لي في بريد إلكتروني وردني صباحا، ما جعلني أشك إن كانوا قد قرؤوها في الأصل أم إنهم خافوا من مجرد اطلاعهم على عنوانها، فقمت من مرقدي غاضبة، ودون أخذ فطوري قصدت الجامعة، وولجت المدرج مباشرة.
لما رآني الدكتور أحمد في حالتي تلك، استفسرني آخر المحاضرة عن سبب عبوسي، فصارحته بالذي كان، وتكلف هو بنشرها في الصحيفة التي سأشتغل لاحقا.
وفي غده، استدعتني محطة إذاعية محلية لمناقشة طرحي والإجابة على أسئلة بعض المستمعين، وقد خففت من وطأة ما جاء في المقالة، وتخليت عن بعض عناصره نزولا عند رغبة هيئة تحرير الإذاعة، ولاسيما أخذا بالاعتبار المستويات الثقافية والاستيعابية المختلفة لفئات المستمعين المتنوعة.
وقد علمت مؤخرا من خلف سماعة الهاتف أن أهلي قد بلغهم ما ذاع عني، وأن الغيظ قد تملك عمي وزوجته، فثارا في وجه والديّ. لم يرقني ذلك، ولاسيما تجاسر العم على أبي رغم أنه هو بكر الدار، في حين أن عمي عبدو يقبع في المركز الثالث من حيث الترتيب العمري، وقبله بنتان، كبراهما عمتي المتوفاة والتي قضت حياتها رهينة الكرسي المتحرك.
وجدت نفسي عاجزة عن إبداء أي رد فعل، فطلبت من أمي ملائكة الرحمان أن تقنع أبي بالرد على أخيه وإلجامه، بدل إرخاء عنانه هو ولسان زوجته السليط، لكنها تعللت بحالته الصحية المتدهورة التي لا تسعفه، وقد مغصني ذلك فشكوته إلى المرأة التي تزورني كل ليلة نهاية الأسبوع.
وكما التهب نجمي بداية السنة الجامعية، فقد خبا في نهايتها، فتخليت عن الكتابة في الصحف، واستغرقني المقرر الدراسي المثقل، فانغمست بين كتب الأدب والنحو القديمين، لأنهما شكلا محور دروس السنة الثانية الجامعية، ومع أني قد وجدت صعوبة في قراءة المصنفات القديمة بلغتها الموغلة في الحوشي والصعب من الألفاظ المستعملة، كما عانيت مع كتب العروض كثيرا، إلا أني استمتعت بقراءة بعض الكتب كتاريخ الأدب العربي، وكتاب الأغاني، فأتممت أجزاء هذا الأخير كاملة دون عناء، ومنه اكتسبت معرفة موسوعية حول الأدب العربي القديم، أو هكذا خيل إلي.
ثم، وكأن شيئا لم يكن؛ حلت العطلة فتحولت كلية الآداب إلى ملجأ للأشباح والفراغ، ولما علقت اللوائح معلنة نجاحي، انقطعت عن محيط الجامعة، وبعد أيام قليلة بدأت بهية استعدادها للرحيل، فألفيت نفسي وحيدة، لأول مرة سيجتاحني إحساس غريب بالفراغ والوحدة والعزلة؛ في ذلك اليوم الأول لوحدتي، فندمت على رفضي ذلك الطلب السخي من صديقتي التي دعتني إلى قضاء العطلة أو قسط منها معها في بلدتها، وسرحت بخيالي مستطلعة الطبيعة الخلابة التي غالبا ما وصفتها لي أيام الآحاد، في تلك الجبال الشامخة والمياه المنسكبة الباردة.
حدّثْت صاحب الدار في أمر مكوثي طيلة العطلة، ووضحت له الأسباب فلم يمانع، على أن أدفع نصف سومة الكراء طيلة أشهر العطلة الصيفية، ومن أجل تحصيل المال قصدت وراقة، وعرضت عليها خدمتي في رقن الوثائق المعدة للطبع، أو أي عمل آخر يمكنني شغله، ولم يبخلني حظي فحصلت على عمل من أول يوم.
ــ مرحبا بك أولا، عملك سيكون بسيطا، لكنه دقيق؛ هذه مخطوطات لبحوث جامعية ينتظر أصحابها رقنها وطبعها، يجب عليك توخي الحذر، إياك والأخطاء الطباعية أو اللغوية، دققي في الحروف قبل نقلها، وإن كان غير واضح فقدريه ببديهتك. ومقابل كل ورقة تنقلينها من المخطوط إلى الحاسوب ستحصلين على درهم ونصف، إن شئت الاشتغال هنا، عندنا في فضاء المكتبة، فيمكنك ذلك، أو خذيها معك إلى البيت وهذا ممكن. حظا موفقا.
هكذا اختصرت سيدة المكتبة عملي من خلف مكتبها، وقدمت لي أول مخطوط على أنه مستعجل، وهو رسالة دكتوراه خطها رديئ جدا.
بدأت العمل في المكتبة ليومين كاملين هروبا من الوحدة والعزلة في البيت الخالي، لكني عدلت عن رأيي، ففضلت الاشتغال في البيت، لأن ضجيج آلات النسخ وطلبات المساعدة الصادرة أحيانا عن صاحبة الوراقة قد أزعجتني، وأفقدتني تركيزي. أما في البيت، فعملت بجد وكد ودون كلل؛ ورقة مقابل خبزة صغيرة للإفطار، وورقتين لكيلو بطاطس، وعشرة أوراق لعلبة شاي... هكذا كنت أحرض نفسي على المواصلة، وكان الحصاد مضاعفا، فأنهيت البحث في ظرف أسبوع، وهي مدة قياسية كما علمت بعد ذلك. وقد صادف تقديمي البحث في مفتاح يو إس بي والمخطوط، حضور صاحبه، وكان باديا عليه أنه يئس لما أخبرته السيدة أن رقن البحث قد يتأخر قليلا، وإن ناسخة جديدة هي من اشتغلت عليه، وإلا فكان عليه الانتظار لمدة شهر أو يزيد حتى تفرغ الناسخات مما كان بين أيديهن، كل هذا وهي تخاطبه من خلف الإطار العازل، لا أدري ما كانت بصدد البحث عنه هناك، وما إن علم بأني أنهيته حتى برقت عيناه فرحا، وراجعته معه في ذلك الصباح بالذات، فراقه الإتقان والدقة، ودس في يدي مائتي درهم حلاوة، وإن أضفنا إليها الثلاثمائة درهم التي استحققتها من عملي، فإني قد ضمنت ثمن كراء ذلك الشهر، وفي ذلك منتهى النشوة بالسعادة.
تبادلت كلمات الشكر والامتنان مع السيدة فاطمة، ثم حملت معي بحثا آخر، لكنني كنت مصممة على تخصيص تلك الليلة للراحة استعدادا للقاء سيدة البئر، مؤنستي الوحيدة، انتظرت الليل كالمشتاق للقاء حبيب طال غيابه، فحاولت النوم جاهدة، لكنه امتنع عن مطاوعتي.
قمت من فراشي لما غلب عيني الأرق، وفتحت حاسوبي، فرُحت أكتب قليلا عساني أستأنس، أو أقلها أرهق نفسي فتنزل هامتي على المخدة مرغمة، كان البحث الذي رقنت من قبل قد خلف في ذهني شذرات، فلممتها وألفتها في فقرات مركزة على موضوع الامتداد المغربي بين العمق الإفريقي والشرق العربي، مستحضرة الهجرات العربية التي أعقبت الفتح الإسلامي، والرحلات الموغلة في صحاري إفريقيا عهد المرينيين والعلويين، ورحلات تجار الرقيق، إلى أن اكتمل مقالا تاما في موضوع تاريخ المغرب القديم، فنقحته كاملا وأرسلته إلى الصحيفة الجديدة التي دلني عليها الدكتور.
استيقظت صباح الأحد على رنين الهاتف، وكان رئيس تحرير الصحيفة على الخط، أجبت على الهاتف وأنا أحاول ما أمكنني ألا تبدو على صوتي علامات النوم، لكنه أيقن ذلك فاعتذر عن إيقاظي باكرا، ملحا علي في حضور دورة تكوينية يحتضنها مقر صحيفته، وفيها تعرفت إلى أقلام عديدة لها باع في دنيا الصحافة الإلكترونية.
توقفت حصة التكوين نصف ساعة للغداء الذي تكلفت الصحيفة بإعداده، ثم أتممنا التكوين المكثف إلى حدود ساعة متأخرة من المساء، وأثناء توديعه وشكره قدم لي مائتي درهم للمقالة المنشورة، فعدت إلى بيتي محبورة، لولا أني افتقدت ليلتي تلك صاحبة البئر.
ما إن دخلت الدار حتى تفقدت غطاء البئر، فوجدت أن الشتلات قد جف ترابها، وأن صفرة اعتلت شتلة الصبار، وذلك لإهمالي إياها وانشغالي بالبحث الذي اشتغلت على طبعه، فسقيتها وجلست في ذلك الفناء الترابي، أتأمل السماء وهي تغطي الزرقة سوادا لتكشف عن نجومها كأنها نبات مزهر، وهناك رشفت جرعات من فنجان القهوة التي تعلمت إعدادها بطريقة بسيطة وبالشكل والنكهة الذي تقدمه المقاهي.
صفا خاطري كأي بحيرة مساء، فركبت زورق الذاكرة القصيرة مستحضرة حيثيات الأحداث الممتعة التي عشتها صباحا، ولاسيما كلمات تلك الصحافية المقتدرة التي ظننت لوهلة أنها موجهة لي أنا خصيصا، وفهمت الآن صعوبة العمل في الصحافة الإلكترونية، لاسيما وما فرضته الحداثة والتكنولوجيا من تحديات تتجاوز السبق في الوصول إلى المعلومة، إلى التعليق. وأن الصحافي المتميز هو الذي يصوغ المقالة باحترافية سائغ الذهب، فلا يجهد على المقالة بنار الخبر فينتج مقالة جافة، ولا يخصص كل عمله وجهده للتنميق فتخرج جوفاء، بل عليه الحرص والاحتراس...
قبل ذلك، ما كنت أعرف من عالم الصحافة إلا القاعدة الذهبية التي تختصر في"الخبر مقدس والتعليق حر" أما الآن فأحس أني كنت معصوبة العينين بحزام الانفعال.
أسندت ظهري ورأسي على قاعدة البئر بعد أن توغل الليل في قلب السماء، عازمة على أن أخصص بحث الإجازة لموضوع من مواضيع العمل الصحفي، وقد عزمت على وضع برنامج لجمع المادة العلمية وتنظيمها، واستغلال العطلة جيدا في ذلك لأرتاح طيلة الموسم الدراسي من ضغط بحث التخرج، خاصة وأنه قد ساعدني السيد رئيس تحرير الصحيفة ومديرها العام السيد مراد العراقي لما أعلن دعمه التام لي في ختام حديثنا على انفراد بخصوص موضوع المقالة التي استخلصت مادتها من البحث الذي رقنته، والذي كان موضوع رسالة للحصول على شهادة الدكتوراه. ولما أخبرته بتفاصيل القضية والعمل الذي بدأت، أحسست كأني أبث شكواي على أب حنون، ففتحت له صرة أسراري كاملة ودونما تحفظ.
بعد أن لامني على سرقة الموضوع معتبرا إياه منافيا لأخلاق العمل الصحفي، وأن على المشتغل في هذا المجال أن يكون دمثا خلوقا قبل كل شيء، وفيما بعد فهمت لماذا وصف عملي بالسرقة، بعد ذلك عرض علي مائتي درهم مقابل كل مقالة جيدة، وخمسمائة للتحقيق، شرط الالتزام بخط الصحيفة التحريري، كما مدني بشيفرتين للولوج إلى موقع وكالة الأنباء الوطنية وأخرى غربية.
فرغ فنجاني من سائله السحري، وتلألأت النجوم في صفحة السماء، فسبحت بحمد خالق هذه العظمة ودخلت الغرفة. سمرت مع البحث الذي كان بين يدي مكتفية بكأس زبادي وحلوى معلبة، وللعلم، فإن أسوء ما يمكن رقنه هي بحوث الجغرافيا، المليئة بالجداول والبيانات؛ لقد أرهقني منذ البداية، وأحسست بإرهاق شديد نظرا للمجهود الذي بدلته ذلك اليوم منذ الصباح، فتركت الحاسوب جانبا، وشربت رشفات من قنينة الماء التي دائما ما تجاور مرقدي، منذ كانت تفزعني الكوابيس التي أعقبت الزفاف التعيس، شربت الماء وأغمضت عيني لأتخلص من الإعياء قليلا، فسرحت في نوم عميق.
استيقظت فزعة من حلمي المعتاد، إلا أنه قد جاء مختلفا عما سبق، أولا لأني لم أخرج من كيانه فجرا، بل منتصف الليل تماما، بأربعة أصفار، ثم لأن معالمه كانت مختلفة:
رأيتني في الجانب المقابل للبئر، فانفتح كأن لا شيء فوقه، وتسربت منه ريح وردية ثم انغلق، انتبهت ثانية فرأيت أن المشاتل والصخرات لا تزال في مكانها، ولا أثر للريح الوردية، وما هي إلا لحظة حتى تحرك جذع نبتة الصبار، ثم طال واستطال، إلى أن بلغ نجمة في السماء، فالتهمته. تأكدت من المشتل فوجدت أن نبتة الصبار لا تزال في مكانها، ومثلها نبتة في السماء؛ خرجت من تربة نجمة بارزة، فوقفت حائرة في هذا التشابه الغريب، دققت في نبتة السماء، لم تطرف عيني إلى أن رأيت أن نبتة صبار السماء تلك قد تدلت نحوي، ثم تحولت إلى أن اتخذت هيئة إنسان، وبينما هي كذلك، إذ صارت المرأة صاحبة أحلامي، اقتربت من الأرض أكثر إلى أن حادت البئر، فطلبت منها أن تجلس قربي، لكنها لم تستجب، ولما ألححت عليها في الطلب، اقتربت منها يد، ولوت عنقها إلى أن فصلته، ثم فُتِح البئر ودخلته بدمائها، وكأي أنثى عاجزة، لم أقدر إلا على البكاء والعويل.
لم أستطع العودة إلى فراشي، ولا الخروج من الغرفة، تملكني الخوف والفزع من كل ناحية، وحتى أتخلص من وقع الحلم، سبحت في بحر ذلك البحث الذي كنت بصدد الاشتغال عليه إلى أن أذن الفجر، فتعبت، وغرقت في نوم استفقت منه مفككة الأوصال.
استيقظت ذلك الصباح أيضا على رنين الهاتف، أحسست بخدر ووخز في رقبتي وكتفي، وبإرهاق حاد يمتلك جسدي كله، فلم أبلغ الهاتف رغم أنه كان إلى جانب وسادتي إلا بشق الأنفس، جاءني صوت أمي هادرا خلف السماعة هذه المرة، وأخبرتني أنها في محطة حافلات البلدة، وأنها قادمة ومعها أختي وأبي فأيقنت أنهم آتون لاصطحابي إلى البيت الكبير.
خرجت لجلب فطوري وأنا عازمة على عدم العودة إلى الدار مهما حاولوا معي، ما دامت الأفعى في جحرها ذاك بحماية زوجها الذي يربطني به دم أبي، وليته ما كان.
في الباب الخارجي اصطدمت برجل متأهب للطرق، ففاجأني وأفزعني، وبدا واضحا علي وقع الصدمة. اعتذر لي عن ذلك، وحاول أن يهدئ روعي، ثم سألني عن صاحب الدار، وحين أجبته بجهلي إن كان هناك من عدمه، تدخل صاحب العربة من مكانه، ليخبرنا بصوت عال أنه قد رآه خارجا رفقة زوجته صباحا، وبيدهما حقيبة، ولا بد أنهما مسافران...
قصد الرجل صاحب العربة مستفسرا أو ما شابه، وولجت أنا الدكان المجاور له، فاقتنيت حليبا وبيضتين وخبزة باريسية قصيرة، ثم عدت متجاهلة ما ألقاه صاحب العربة في طريقي من كلمات.
بينما شرعت البيضتان تتراقصان في الماء المغلي فوق الموقد، انبثقت في رأسي فكرة فتح البئر مستغلة غياب صاحب الدار، وهدوء الأوضاع، وما إن اختمرت الفكرة في رأسي ووجدت أسباب قبولها، حتى انطلقت بي رجلاي نحو المكعب المغطى. أحسست كأن قوة تحركني، لا ادري أهي نابعة من الداخل الثائر على القواعد، أم إن قوة خارجية كانت تحرك خيوطي كالكركوز؟.
ثم، وبحركات آلية وخفة قط يترصد فأرا، أنزلت الحجارة من مكانها تباعا، ثم أتبعتها المشاتل وأنا أترقب السطوح خشية أن أكون تحت أعين راصدة. شرعت في رفع الغطاء الحديدي بتؤدة، فتساقط منه قليل من الغبار العالق عليه من طول زمان انغلاقه، وانبعثت منه رائحة كريهة بمجرد انفراج الحدية عن الحائط الإسمنتي، رائحة بعثت من صدري سعلات خفيفة، ولما انفتح أحدث صكة ناجمة عن الصدأ.
جلت ببصري فيه دون أن أفتحه كاملا، فظهرت لي ملاءة رمادية أو ما شابه ذلك، ولحاف أصفر، وكيس من القنب غير واضح ما بداخله، ثم محفظة سوداء مغبرة، وهي التي فوق الكل، فأمسكت المحفظة بأصابعي وانتشلتها، ثم نفضتها ليتساقط ما يمكن أن يعلق بها من دود أو غبار.
وضعت المحفظة على الأرض، وما إن مددت يدي ثانية حتى سمعت دقا على الباب فجمد الماء بركبتي وذراعي، فتركت الغطاء الذي أحدث ارتطامه ضجة وصوتا حادا، وأسرعت إلى الحجارة والمشاتل أعيدها إلى أماكنها، ثم أخذت المحفظة ولففتها في كيس بلاستيكي ثم آخر فآخر...وخبأتها في ملاءات الشتاء التي كومناها في الغرفة الصغيرة، ولما سمعت الطرق ثانية، صحت سائلة عمن في الباب، فجاء صوت أمي يطلب مني فتح الباب، ما زاد من ارتباكي؛ إذ لم يمر وقت طويل منذ أخبرتني أنها في محطة حافلات البلدة، ثم ها هي تناديني من خلف الباب!.
ولأنها الأم، فقد انزعجت من الحالة التي وجدتني فيها حين فتحت الباب، ونسيت كل شيء وهي تعانقني وتسأل عن أحوالي:
ــ ما بك يا زهرتي؟ هل أفزعناك بطرقنا العنيف للباب؟ أبخير أنت؟ لِمَ يكتنف اصفرار أهل القبور وجه الملاك هذا؟
لم تتوقف أسئلتها لمدة طويلة من لقائنا؛ حتى ونحن مجتمعين على صينية الشاي، ورغم أني طمأنتها على حالي، إلا أنه قلب الأم؛ يكشف الحجب ويستشف الخبايا. ثم خف نبض قلبي بعد ذلك، وهدأت أعصابي رويدا رويدا، خاصة لما تأكدت من وضع غطاء البئر وأقفلت باب الغرفة الصغيرة بدورتين من المفتاح، فاسترجعت عروقي دماءها ورحبت بالجميع، بالطريقة اللائقة.
تكومت كالصبية في حضن والدي، فنسيت العالم والبئر وكل شيء، لكن حالته الصحية لم ترقني؛ فقد بدا منهكا ومتعبا، وقد اعتلى الشحوب وجهه، فبدت عليه علامات الأرق التي شكلت بقعا زرقاء وهالات سوداء تحت جفني عينيه، كأنه لم ينم أسبوعا كاملا.
جاءت نورة معهم فرحبت بها واحتضنتها ضاربة عرض الحائط كل ما سلف من أبويها، بل عاملتها بحفاوة أكثر مما قابلت به أختي، وبعد أن تداولنا كؤوس الشاي المنعنع طلبت من والدي أن يستسلم للنوم ويريح جسده في فراشي، ودخلت الغرفة الصغيرة محترسة، فأخرجت جميع الفراش وفرشت الممر العريض به، وهناك جالست أمي وأختاي، ومنهن علمت أنهم إنما قصدوا المدينة لإجراء عملية جراحية لوالدي من أجل استئصال ورم بالبروستاتة، وكذلك لعلاج نورة من البلغم الذي نفخ عنقها، فتحت فمها فرأيت لوزتها ملتهبة ومنتفخة جدا فدعوت لها بالشفاء.
بعد الغداء الذي تعاوننا لإعداده ارتاح الجميع في البهو طلبا للهواء البارد وهروبا من جحيم البيت الملتهب بحرارة الصيف، وحينها ولجت عالم الشبكة العنكبوتية بحثا عن تفاصيل أكثر حول المرض الذي ألم بالوالد فأنهكه، وبين دهاليز المواقع الصحية والطبية والعامة، وجدت أنها جميعا تنصح بشرب منقوع البقدونس، فخرجت في الحال وعدت بقبضة يد منه، غليت الماء ونقعته فيه، ولما هجع قدمته للوالد، فخف عليه وقع الألم بعد لحظات، ولما انتهى الحديث بيننا، أخذت الحاسوب ومخطوط البحث وانغمست في عملي، وبذلك أطلعت والداي على مصدر رزقي فشكرا لله حسن خلقي، وأثنيا علي كثيرا.
لم يكن البحث طويلا، ولكنه أرهقني، خاصة وأني غالبا ما رافقت والدي إلى المستشفى لإجراء الفحوصات والتحاليل والاستجداء من أجل موعد قريب، خاصة ليلة إجراء العملية الجراحية؛ ليلة المارثون بامتياز. نجحت العملية وعاد بالسلامة إلى البيت، ثم استأنفنا ربط الطريق بين الدار والمستشفى من جديد لعلاج بلغم نورة، ولما لم ينفع معها علاج لمدة أسبوع رغم المضادات الحيوية وكيس الأدوية التي تناولت، فقد اقترحوا عليها عملية جراحية لاستئصاله نهائيا، عملية استقدمت عمي إلى الدار مع زوجته، فازدحمت بخلق الله، ولجمت نفسي عن تذكر الماضي، خاصة وأن الوالدة أدام الله عافيتها ظلت واطئة على أنفي، ملزمة إياي بحسن التخلق مع حليمة وعمي، اللذان تحولا إلى ظبيين ظريفين، وصرت أنا ذلك الملاك الذي يرف على الجميع بأجنحة عنايته.
مدنا صاحب الدار بعد عودته من سفره الذي لم يدم سوى يومين بفراش وافر، وفتح لنا أبواب بيته في الدور الفوقي، لكن الجميع فضل البقاء في الدار السفلية؛ أما عمي وزوجته وأختي فيتمددان على لحافيهما في الفسحة الترابية بعد أن غطيناها بحصير قدمه لنا صاحب الدار، وأبي فضل الصبر على حرارة الغرفة خوفا من تأثير البرد على جرحه الجديد، وتراكم الباقي في الممر.
لما قدمت البحث إلى صاحبة المكتبة، اعتذرت منها على تأخري بانشغالي مع الأهل، ولم آخذ البحث الذي عرضته علي بإلحاح؛ لقد راقتها طريقة عملي والتزامي بالوقت المحدد، ولاسيما الدقة في نقل المعلومات، لكني وجدت هذا العمل مرهقا؛ يتطلب تركيزا مكثفا، ويؤثر سلبا على العين، فقد بدأت تظهر لي نقط سوداء أمام عيني، خاصة مع البحث الثاني والأخير؛ لقد كان شاقا وأرى أن رقنه يستحق ثلاثة دراهم أو أكثر.
اكتفيت بإعداد مقالة بين اليوم إلى اليومين، أحاول ما أمكن أن أطبق فيها كل ما تعلمته في عالم الصحافة من دروس الكورسات التي دأبت على حضورها مهما كانت الأحوال، ولأشحذ مهاراتي اطلعت على مقالات الصحفيين الكبار، بحثا عن سر انجذاب القراء لكتاباتهم، محاولة خلق أسلوبي الخاص الذي سيعكس شخصيتي المهنية، وقد لاحظت كما سجل ذلك أيضا السيد العراقي تقدما واضحا في لغتي، ومنهجيتي في الكتابة.
استمر الحال على ذلك النحو لمدة قاربت الشهر، لم تزرني فيها المرأة ولو ليلة واحدة، حتى نسيتها وكدت أنسى المحفظة، لولا أن أهلي قد تركوني فجأة ذات مساء، فودعتهم قرب العربة ودخلت لأقفل الباب دوني؛ جاءت سيارة الأجرة إلى عتبة الدار مزمجرة فاقتلعتهم من فؤادي؛ تركوني وحيدة لعواصف الوحدة ومشاعر الغربة بعد إيلافي لهم واستئناسي بوجودهم الذي ملأ كياني، وكأن قدري كان محفورا على جبيني؛ لم يدعني أحد للركوب أو اللحاق في الحافلة، كما كانوا ستة ركاب، بالقدر الذي يُسمح لسيارة الأجرة بنقله،
دخلت الدار وأقفلت الباب، ثم شرعت بلم الفراش وإعادته إلى الغرفة الصغيرة، فالتقت عيناي بالمحفظة التي غلفت في أكياس البلاستيك، أخذتها بين يدي، أضاء المصباح فالتفت إلى مفتاح الكهرباء قرب الباب، لم أجد أحدا، ثم انطفأ الضوء فارتعشت، أغمضت عيني وفتحتهما لأجد المرأة واقفة في الحائط، كأنها قد سُمِّرت فيه، انهرت مغشيا علي، واستيقظت على قطرات الماء التي بدأت تقطر على شفاهي، ثم تلتها صفعات خفيفة على خدي، لم أستطع فتح عيني، لكن لساني كان يتوسل:
ــ أرجوك سيدتي، لا تؤدني، أرجوك.
ــ أنا بهية ما بك؟
فتحت عيني، فرأيت بهية جالسة على ركبتها فوق رأسي، وبيدها كوب ماء. لم أستطع مد يدي لأتحسسها، لكني تيقنت من كونها آدمية لما حركت خصلات شعري بيدها، ثم ساعدتني على فك أسري من المحفظة، وجرتني من يدي لأقوم من مكاني، وأخذتني إلى الغرفة الواسعة، أحسست أن عمود ظهري الفقري قد تيبس بالبرد، وأني جائعة إلى حد لا يطاق، فأخبرتها بذلك وأعدت لي كأس شاي ساخن، وقدمت لي حلوى جلبتها معها من بيتها.
لم تحدثني في أي شيء، ولكني استعنت بما بقي معي من قوة عقلية فأدركت أني قد استغرقت يومين كاملين ساقطة في مكاني ذلك، وفيما بعد سأعلم من صاحب الدار أنه دق بابي ليلة غياب الأهل ومعه نصيب مما أعدته زوجته للعشاء، ولما لم أجبه ظن أني قد رافقتهم. وفي الليل أخبرت بهية كل شيء، خاصة فيما يتعلق بالبئر والمحفظة والمرأة.
حين تجتمع البنات وقت راحتهن، وتكون بينهن بهية، فإن فكرة جنونية لا بد أن تنفذ؛ اقترحتْ علي أن نقصد ملهى ليليا، علّنا نرقص قليلا وننسى الواقع المر، كانت مغتاظة، وترغب بشدة في أن تغير الجو، لتنسى كما قالت، لم أجد في نفسي رغبة في معرفة السبب، بل إن كل ما أحسست به إنما هو دافعا داخليا في مجاراتها، ولما عدنا إلى البيت آخر الليل علمت السبب؛ لقد خرجت من دار أبيها غاضبة، فقد أراد تزويجها من ابن عم لها، والذي كان من شروطه انقطاعها عن الدراسة، وأنهم قد حاصروها بعقليتهم المتخلفة لتفضل بيت الزوجية وإنجاب الأولاد والاستقرار عوض إضاعة عمرها بين الحروف. خاصة وأن ابن عمها هذا ضابط سام في الجيش، مؤكدين أنها ستكون في وضعية مادية مريحة ومحسودة عليها، قالت ذلك بامتعاض شديد، ومن هنا فهمت عدم اهتمامها بأمري، ولمَ لمْ تسألني عن رقدتي تلك.
لم يسبق لي أن ذقت الخمر، لذلك فقد لعب مفعوله بعقلي، فدخلت الغرفة الصغيرة وأخرجت المحفظة من الوسط المظلم، فتحتها في فراشي الذي شاركتني فيه بهية، فوجدت فيها مذكرة زرقاء وثلاث صور انزلقت من بين الأوراق، فاستفقت من ثمالتي رغما عني؛ لقد كانت المرأة التي حفظت ملامح طيفها في كل صورة منها، غسلت وجهي مرتعبة وعدت، دققت النظر في الصور ثم فركت عيني بظهر كفي ومحصت جيدا، فإذا بها هي هي، أدركت أن مفعول الخمر قد أثر علي فقلبت الصور كي لا أراها وفتحت المذكرة.
تهجيت الحروف، فقرأت سطرا دون أن أفهم كلمة واحدة، أما بهية فبدأت تصفق وتزغرد وهي مولية لي بظهرها، ثم هنأتني وباركت لي، ولما سألتها عن السبب أخبرتني أني قد تعلمت الأمازيغية في ظرف قياسي.
لم أعرها اهتماما، فقد كانت ثملة جدا، ثم بدأت ترد علي بلغتها الأمازيغية وأنا أتتبع الكلمات في المذكرة، إلى أن قالت لي:
ــ لا بد أن جنيا أمازيغيا قد تلبسك في غيابي، لأنك رفضت الذهاب معي لقضاء العطلة بين جبال تامزيرت.
من مكاني انحنيت فملأت راحتي من ماء القنينة جواري، ورششته على وجهها فاستفاقت وهي تولول وتلطمني في وجهي دون أن تفتح عينيها، ولما لم أستطع ردعها ولا إخراجها من ثمالتها، فقد تركتها لحالها ونمت، تاركة المذكرة قرب رأسي.
استيقظنا على آذان الظهر ونحن متعانقتان كالتوأم في رحم الأم، ورغم تسطحنا على ظهورنا بعد ذلك، إلا أننا لم نستطع القيام من شدة صداع الرأس والإرهاق. عبّرتْ عن سعادتها وعن استعدادها للخروج كل ليلة نهاية أسبوع معي إلى ملهى ما، فيوما ما سيتم اعتقالنا في بيت، لخدمة زوج وحماة، ولن يُسمح لنا بالاستمتاع بعد ذلك، ضحكت من فكرتها ومبرراتها. ثم تذكرت الصور فأخذتها ثانية لأتأملها مجددا، فوجدت أن ملامحها لم تتغير، وأني كنت واعية ليلة أمس؛ إنها المرأة نفسها، ولو زارتني ذلك الليل لسألتها عن قصة الصور.
كأني أخبرها بأمر المحفظة والصور والمذكرات للمرة الأولى؛ بدت بهية مبهورة، وحائرة، تشممتِ المذكرة ثم فتحتها، وبدأت تتلو وتترجم لي:









III
اللقاء الأول
قبل نقل ما ترجمته لي بهية في الجزء الذي سجلته صاحبة المذكرات تحت عنوان "اللقاء الأول"، ـ وهو بالمناسبة أول ما دُوِّن في المذكرة ــ لا بد من التلميح إلى أن فقرات وجمل قد خُطَّت في غلاف المذكرة، بعضها بالعربية وآخر بالفرنسية، ومنها جملة كُتِبت بخط مضغوط كاد يمزق الغلاف، كما أنه مختلف عن ذلك الذي كتبت به محتويات المذكرة. تقول الجملة:
" النملة قوية، هذا صحيح، لكن قوتها يجب أن لا تُستغل إلا في خدمة خليتها، وإلا فلتمت".
كما أن نجيعا قديما أسود اللون قد لطخ بعض جنبات المذكرة، وهذا ما جاء في اللقاء الأول، والعهد على المترجمة:
فقط في المحطة الطرقية، يمكنك تمييز الوضعية الاجتماعية لأهل المدن والقرى حسب حافلاتها، ولقصد مدينتي الصغيرة "تاكوست" يكفيك أن تدخل محطة الحافلات الكبرى بمدينة مراكش، تلك التي تدعى "باب دكالة"، وستجد حافلة لونها حائلا كأهل البلدة، لا يمكن تمييز اللون الأصلي الأصفر، الذي أذكره من صغري عندما كنا نأتي لاستقبال والدتي حين عودتها من المستشفى، من اللون الذي أضفته الشمس، الترابي والحنطي والأصفر الباهت؛ إذ تأبى شمس بلادي الحارقة إلا أن تبصم على كل شيء يدخل تلك الحفرة التي سأقصدها لأنطفئ فيها نهائيا؛ من واجهات البيوت الباهتة المتشققة، إلى سحنات البشر ووجوههم المكدودة.
دخلت من الباب الرئيسي للمحطة زوال الخامس والعشرين من غشت سنة 2001، ودون أن آبه للأيدي التي تمتد لتلقف المسافرين وأمتعتهم، حتى تكون دليلهم نحو الحافلة الأجمل، والتي توفر شروط الراحة التامة للمسافرين، قصدت الحافلة التي اعتدت ركوبها في السنين الأخيرة، كانت قابعة كالعجوز الثكلى بين الحافلات الأنيقات، فعانقتها بعيني بحرارة من بعيد، ثم صعدت درجاتها دون استئذان، فاحتضنتني في المقعد الثالث قرب زجاجة النافذة.
مدينتي تاكوست، هي بلدة شبه حضرية، ترتاح في عزلتها محتمية بحضن جبال الأطلس الصغير، لا تقصدها سوى حافلتين وبعض سيارات الأجرة الموروثة عن حقبة الاستعمار؛ حافلة تأتي من مراكش، تنطلق منها في الثانية بعد الزوال، وتبيت معنا في الخلاء، لتودعنا صباحا، وإن فاتك وقت إقلاعها فما عليك إلا انتظار الغد. أما الأخرى فتأتي من العاصمة، لم أركبها في حياتي قط، قيل إنها مريحة، ولكني أرتاح في هذه أكثر، أما سيارات الأجرة فتربط الدواوير فيما بينها، وقد تقوم مقام سيارة الإسعاف إن تعلق الأمر بحالة صحية طارئة.
أما ما عدا ذلك، فلا يزورنا محرك بأربع عجلات إلا أن يكون لسياح أجانب، يقضون فيها أشهر الشتاء بسراويلهم القصيرة، وقمصانهم النصفية، ثم يفرون مع شهر أبريل حين تدنو الشمس من رؤوس طلع النخيل، أو سيارات الخضر والسلع يوم السوق، وبعض هذه السيارات قد ألفناها فصارت جزءا منا.
لا أدري كيف تشتغل الذاكرة، ولكن الذي أعرفه أنها تقفز أحيانا كالضفدع في البحيرة الهادئة، فلا تستطيع التحكم في ردة الفعل التي يمكن أن تصدر عنك، ولكنك ستحاول تكييفها مع الأحداث الجارية بكل ما استطعت، أو ستضرب بالحاضر أمامك عرض الحائط فتتابع مشهد تداعي الذكريات ذلك، فتضحك، أو تبكي، أو تتابع مشيك بين الناس مرفوعا عما يدور حولك.
تذكرت يوم السوق في اللحظة التي رأيت فيها طفلة تبيع المناديل الورقية بين الحافلات، فتعرضها على الناس وتتوسل إلهم شراءها، فاجتاحتني ضحكة من الباطن، وفرضت على شفتي أن تنفجر بها، فقد عادت بي إلى الطفولة:
قبل الاستقرار النهائي بضواحي تاكوست كنا نسكن دوار أنغور البعيد قليلا، بعيد بالنسبة إلى طفلة لا يسمح لها بالابتعاد عن البيت بأكثر من مسافة الأمان، وكنت غالبا ما أصحب أمي إلى السوق، كل يوم أحد من كل أسبوع؛ نركب الحمار فجرا ليدب بنا دبيبا، فيخترق بنا فجا ضيقا ثم ينساب بين الحقول مسرعا تحت لكزات أمي، إلى أن نحط بالسوق مع أول شروق لشمس يوم الأحد.
في ذلك الأحد الربيعي، تركت أمي وقت الضحى جالسة قبالة بيضاتها وتمرها وديكها الأبيض، ورحت ألعب تحت عنايتها، وبينما أنا كذلك تسللت بي رجلاي بين البضاعة والخضر المتراكمة، إلى أن وصلت قبالة رجل يعرض الفراولة للبيع، ما كنت أعرفها حينذاك، فقلت له:
ــ ما هذا يا عم؟ وكم ثمنه؟
لم يرد علي، بل نهرني لأنصرف، فوضع أحد زبائنه حبة منه في يدي ومسح على رأسي.
انطلقت جريا إلى حيث أمي، أراوغ الناس والعربات إلى أن اقتربت منها فلاحت لي من مكانها، وفي التفافي الأخير نحوها تعثرت بقدم رجل، فطارت الحبة من يدي وسقطت أمام الديك الذي التقطها بمنقاره. لم أبك ولم أتدمر، بل قمت من مكاني ملطخة اليدين بالدم، وشنقت الديك من عنقه وأنا أصيح:
ــ أعد لي حبتي أعدها.
كلما جثم علي الحزن بصدره العريض إلا وأتذكر تلك اللحظات فيتغير مزاجي رغما عنه، كما أن لهذا الحادث دور آخر؛ فكثيرا ما أنار لي شعلة الأمل في درب حياتي، إذ كلما تذكرته إلا واستخلصت الدرس:
" ما يحزننا اليوم، ربما سيضحكنا مستقبلا، وإذن فلا شيء يستحق أن نحزن لأجله".
راقبت من زجاج الحافلة الحركة الدؤوبة، والنشاط الذي يعمل به مستخلصو الحافلات؛ يلتقطون المسافرين التائهين، ويتصايحون بأسماء المدن كلها، من جنوب البلاد إلى شمالها، إلا حافلتنا حائلة اللون والحظ هذه، فلا يتوجه إليها إلا أهل البلدة، ولا أحد مهتم بذكر اسمها.
كان المُشَحِّم جالسا على درجة بابها الأمامي بهدوء، لا تهمه الأحداث الجارية حوله، وهو مُشَحَّم ومتكرش كالحبلى في شهرها السادس، لا يقف إلا لراكب إن قدم، يصافح هذا أو ذاك، أو يكلم السائق العجوز بأمازيغيته ذات اللكنة السوسية فيرد عليه السائق بلكنتنا، بصوت أقرب إلى الهمس، ولم يتحرك بنشاط إلا لما اقتربت من الحافلة امرأة شابة، بشعرها الأشقر المكشوف وهي تبحث عن الحافلة المؤدية إلى تاكوست.
راقبتهما من زجاج النافذة، فراعني نشاطه المفاجئ، ولاسيما تفانيه غير المعهود في خدمتها وتقديم المعلومات الكافية حول المدينة وأهلها، ثم اقترب منها لما جلست بالقرب مني، وهو يسألها إن كانت بحاجة إلى ماء أو غيره، مذكرا إياها أن الطريق طويلٌ وخالٍ، لكنها شكرته بابتسامة عذبة انسابت كالجدول الرقراق من ثغرها المتلألئ، فراق له كل ما رآه منها واستراق.
انطلقت الحافلة بعيد مدة قليلة، فلمحت أنها فتحت هاتفها الذكي، وكتبت بعض الفقرات في مدونتها الإلكترونية، كتبت نصها بالفرنسية، وقصدت منه أنها بدأت رحلتها في البحث عن بديل أهنأ من صخب المدينة.
مال قرن الشمس نحو الغرب فسَبِقَنا ظل الحافلة، كأنه دليلنا نحو الجنوب الشرقي، ورويدا رويدا بدأ ضجيج النسوة وصغارهن يهدأ، فما عاد يسمع إلى حفيف العجلات، أو اهتزاز الزجاج أحيانا.
ــ أف، تغطية الشبكة منعدمة هنا!
ــ نعم، لقد دخلت الربع الخالي من البلاد.
ــ شكرا.
ابتسمتُ دون أن أرد عليها بكلمة، وانغمست في بحيرة الماضي؛ وأخيرا سأعود نهائيا إلى البلدة، ولن أخرج منها إلا اضطرارا، ها قد نفدت عللي جميعا، ما علي إلا أن أرضى بمصيري وأتعايش معه... وكان ليصفو لي الخاطر لولا أنها اعتادت مقاطعتي وهي تستفسر عن المسافة المتبقية، أو عن اسم المكان الذي نمر منه كلما لاحت لها دور مجتمعة أو خيام متفرقة أو واحة نخيل، وهي معذورة في ذلك؛ فحتى الصِّوات علامات التشوير قد مُحِيت كتاباتها وأرقامها، ولا يحد العين إلا الفراغ المؤثث بشجيرات الطلح أو السدر، والجبال الحمراء، وأحيانا بعض الواحات المتناثرة على أطراف الطريق، خاصة عند الوديان والشعاب.
لم أجد غضاضة في مبادلتها أطراف الحديث، بل ارتحت لها ولبساطتها، وكذلك بدا عليها، فعلمت أنها انتقلت حديثا إلى بلدتنا، وجاء انتقالها بناء على طلب منها، وذلك بحثا عن السكينة والطمأنينة، وعلمت أيضا أنها أنها ستعمل مسؤولة الشباك الجديدة في وكالة البريد، وتوقعت أن تنشط الوكالة بقدومها. فالجميع سيرغب في التبرد بالمكيف داخل المبنى الأبيض والتملي بالشعر الأشقر.
سألتني كثيرا عن البنية الاجتماعية والعرقية للبلدة، وعن أهلها، فأخبرتها أن معظمهم فقراء أو معدمين، وأغلبهم أمازيغ، ثم طمأنتها إلى أن جميع من قد تتعامل معهم متمكن من التحدث بالدارجة المغربية أو الصحراوية القريبة من الحسانية، وأنها ستلتقي بأناس من غير أهل البلدة؛ وقصدت الموظفين مثلها من المعلمين ورجال الدرك وموظفي الداخلية والطبيب والممرضات...
تخففت مِنّا الحافلة بالمحطة الصغيرة وسط المدينة، وهدأ هدير محركها فنزلنا. وما إن أرخت أمي من قبضة ذراعيها علي وسلمتني لصدر أبي الذي اكتفى بتقبيل جبيني حتى تقدمت إلي السيدة الشقراء وطلبت مني أن أدلها على فندق.
ضحكت الوالدة حتى برق نابها الفضي حين ترجمت لها طلب السيدة الشقراء، ودون أن تفهم منها كلمة، ألقت حقيبتها على ظهر الحمار إلى جانب حقيبتي وندهت على الدابة "أَرَّا"، فتحركنا خلفه جميعا إلى أن وصلنا الدار المتربعة بين شجر النخل المتناثر، السامق منها والقصير، الدار الواقعة على أطراف المدينة بعد مسير ربع ساعة، وفي الليل دار بيننا حديث أضاء سواد الدجى، وحرم على العين السِّنة والدعة.
وهكذا قضيناها ليلة بيضاء ساهرة إلى أذن الفجر فانتبهنا لأنفسنا المتعبة وأنخنا الحديث، فارتاحت النفوس، ودمجت الجفون ضوء النجوم بنور الشمس. وتعمدت الوالدة تركنا على حالنا فما استيقظت إلا على صوت آذان الظهر.
استغرق مني رقن المقطع الأول مترجما وتنقيحه المساء كله، وقد حاولت جهدي أن أحافظ على جمالية بعض الصور الشعرية التي استعملتها السيدة صاحبة المذكرات.
في الوقت الذي تكلفت بهية بإعداد وجبة خفيفة للعشاء، انشغلت بفتح حساب جديد على مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر شهرة، وبريد إلكتروني أيضا، وقد احترت في اختيار اسم لصاحبته، لذلك سجلته في البداية تحت اسم "نبت السماء"، وذلك لأني تذكرت الحلم الأخير؛ حين تدلت علي من الصبار الذي نبت في نجمة بالسماء، كما حرصت على فتح هذين الحسابين في الصفحة الخفية من محرك البحث والتي لا يبقى لها أثر بمجرد الإغلاق، وهذا تحسبا لأي طارئ طبعا.
أثناء عودتنا من جولتنا المسائية، حدثتني بهية عن مخاوفها تجاه صاحب الدار، مستغربة علاقة تشديده الرقابة على البئر بِالحَالةِ التي وجدنا عليها المذكرة التي استخرجتُ منها، إضافة إلى الحلم الذي كثيرا ما راودني، إلا أني ــ وإن بادر الشك والريبة إلى ذهني ــ لم أر في ذلك ما يثير المخاوف، فأصحاب بيوت الإيجار غالبا ما يتعاملون مع شتى أصناف البشر، ومن حقه أن يلح على احترام إرث أجداده، أما عن المذكرة والأشياء التي عثرت عليها، فتخيلت أن إحداهن قد استأجرت البيت وتركت ــ لسبب لا يعرفه غير الله ــ خلفها كل شيء.
اتفقنا على أن تترجم لي فصلا من المذكرات كل نهاية أسبوع، وبعد أن أطلعتها على نيتي في نشر تلك الفصول بالجريدة الإلكترونية ألحت علي أن نغادر الدار ــ بعد إعادة المذكرة إلى مكانها ــ قبل نشر أي حرف منها طلبا للأمان.
وفي هدأة الليل البهيم، رحت أستحضر في ذهني الفصل الأول كاملا، فراعني اسم البلدة التي قدمت منها صاحبة المذكرات.
ــ بهية، تذكرت أمرا يا بهية.
ــ ما هو؟
ــ متعلق باليوم الذي فتحت فيه البئر.
ــ اخفضي صوتك، إن للجدران آذان.
ــ طيب، يومها، التقيت رجلا عند الباب، وسألني عن صاحب الدار، ولما أخبره صاحب العربة أنه مسافر.
ــ عاشقك؟
ــ تعشقه حية! أصغ إلي، حينها طلب مني أن أخبر صاحب الدار أن ابن عم له من تاكوست قد زاره في غيابه، لكني لم أتذكر الاسم ولم أخبره.
ــ هل تعلمين؟ تاكوست هو الوتد في اللغة الأمازيغية، وقد بحثت عنها في خارطة محرك البحث، فوجدت أنها واحات صغيرة تبعد من هنا بنحو ثلاثمائة كيلومتر إلى الجنوب الشرقي.
ــ إن رغبت يا بهية، غدا سأحضر دورة تكوينية في الصحافة وهي مفتوحة لجميع المهتمين، وإن شئت أيقظتك صباحا، بإمكانك مرافقتي؟
ــ لا، شكرا، ولكن نفسي في قنينة خمر، كتلك التي شربنا ليلة عودتي.
ــ ستدمنين عليها يا بهية،
ــ أبدا، لألهو وأستمتع لا أكثر، ريثما حلت الدراسة فقط، وسأترك كل شيء، إنه عامي الختامي، وسيكون مشحونا بالضغط والدروس المكثفة، فلم لا أنفس عن نفسي؟
ــ موعدنا في الدار إذن، مساء أو ليلا، على أن الهاتف بيننا في كل الأحوال.
على هذا اتفقنا واستسلمنا للنوم. زارني الطيف ليلا، وقد تدلت علي السيدة من السماء على هيئة شجرة صبار نابتة من تربة نجمة قرب القمر، كما هو الشأن في آخر ظهور لها قبل أسابيع، ولم أفزع حين رأيتها وهي داخلة إلى الغرفة؛ فاخترقت حديد الشباك، إلى أن اقتربت مني وذابت في دموعها دون كلام.
خرجت من الدار في الصباح الباكر، وقد تركت بهية نائمة على بطنها، وديعة كالأمانة، باسمة في نومها كأنها في حلم من أحلام الجنان، وتعمدت عدم إحداث ضجة فتناولت فطوري في محلبة تُعِدُّ خبزا محشوا لذيذا، برأس الشارع من الحي الذي نسكنه، ومن هناك أخذت حافلة النقل الحضري، وبعد نصف الساعة من التاسعة صباحا كنت متأهبة للتعلم، جالسة على كرسي في قاعة الاستقبال بين القليل ممن أحب الاستفادة من الدورة التكوينية التي التزمت الصحيفة بالاستمرار في تقديمها كل أسبوعين.
قدم السيد العراقي العرض الرئيسي الذي تحدث فيه عن تاريخ الصحافة الإلكترونية، وفجاجة القانون المنظم لها، وعن علاقتها بالصحافة الورقية، والمنافسة المحتدمة التي تخوضها ضد الصفحات الإلكترونية غير المتخصصة ولا المرخصة، والتحديات الملقاة على عاتق الصحفي بشأن تطوير المجال وكسب ثقة القارئ، والتمويل وغير ذلك.
وفي نهاية العرض دعاني إلى كأس شاي بالمقهى القريبة من مقر الصحيفة، وكان معه رجل عرفني عليه؛ وهو ضابط الشرطة جمال العوني، الذي عبر لي عن استعداده التام لتقديم المعلومات التي قد أحتاجها في مقالاتي أو تحقيقاتي الجنائية والقانونية أو المتعلقة بالحوادث التي قد تشهد فصولها المدينة الحمراء كالجرائم وغيرها، وكان أول ما قدمه لي رقم هاتفه، كما استضافني في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي.
بعد ذلك، خاصة في اللحظة التي عزمت فيها على المغادرة، أمسك السيد العراقي بيدي مستمهلا إياي:
ــ الآنسة الفاطمي، أود أولا أن أعبر لك عن اندهاشي وإعجابي بمقالاتك الأخيرة، لقد اتضح فيها اجتهادك بجلاء، لكن تحقيقاتك أفضل عندي، سواء من حيث البناء أو المنهج الحجاجي والتقصي الدقيق الذي تتبعينه، وأظنك واعدة في هذا المجال، وهنا سأقترح عليك الاشتغال على واحد من ثلاثة مواضيع إن أمكنك ذلك وهي انتشار الإيدز في المغرب، أو وضعية الأقليات العقدية، أو المثلية الجنسية. طبعا على ألا تستهلكي فيه فترات دراستك، لاسيما وأنك مقبلة على بداية الموسم الجامعي الأخير والأكثر ضغطا، أرجو لك النجاح وأنت أهل له.
ثم توجه إلى الضابط فشكرني عنده موضحا له أني مكتفية ماديا عن أهلي ومستقلة بما أجنيه من خط يدي، وغير ذلك مما عدد فأثار في نفسي نخوة لا نخوة فوقها. وبعد فترة قصيرة من التفكير أجبته:
ــ مرحبا أستاذي العزيز، السيد العراقي المحترم، سأشتغل على المثلية الجنسية، وأرجو ألا أخيب ظنكم.
صافحني بحرارة على إثرها، وتبادلنا تحية الوداع نحن الثلاثة وافترقنا جميعا. وفي طريقي إلى محطة الحافلات الحضرية القريبة من مقر الصحيفة، سمعت بوق منبه سيارة إلى جانبي من الخلف، ولما التفتُّ وجدته الضابط جمال، فابتسمت له وتابعت مسيري، لكنه حاذاني وعداني إلى الركوب على أن يوصلني في طريقه.
عوضا من أن العودة إلى البيت، وجدتني أشاركه طبق الغداء في مطعم فاخر.
ــ آنستي، اعذري تطفلي، فهو داخل ضمن مكتسبات المهنة ولا أستطيع التحكم فيه، لقد أثرت فضولي عند اختيارك موضوع المثلية.
عبر عن فضوله وصمتَ كأنه ينتظر ردا، فوجدت صعوبة في الرد عليه في البداية؛ تلعثمت كثيرا في البداية لكن صمته وعدم محاصرتي بعينيه، شجعاني، ووجدت أن الكلمات ــ في مرحلة ما ــ قد انسابت من فمي وتناسقت لتشكل جوابا كافيا، لملمت فيه كل ما استطعت، فقلت وأنا أتصبب عرقا رغم أن القاعة كانت مكيفة:
ــ يعني، كل ما في الأمر، ببساطة، لقد رأيت أنه أيسر من الموضوعين الآخرين، إذ يظهر أن فيهما نوعا من الصعوبة على مبتدئة مثلي، فأرى أنهما يحتاجان قاعدة بيانات دقيقة، ومعلومات خشيت ألا تتاح لي، فتضيع بذلك فرصتي، أو أن يخرج تحقيقي حشوا من الكلام لا طائل منه.
توقعت أن يستمر في الحديث وينقب على المعلومات وينبش ــ على طريقة أفلام هوليود البوليسية ــ بحثا عن الأسباب الخفية والظاهرة، لكنه غرس شوكته في قطع الطماطم والخيار، ورفعها إلى فمه فقال لي مبتسما:
ــ مرحبا بك، وشكرا على قبول الدعة، وبالصحة والراحة قبل كل شيء، اعذريني فلن أشاركك الوجبة لأني لا أحب السمك، وسأكتفي بهذه السلطة وفنجان قهوة؛ يجب أن أبقى يقظا ونشيطا.
أجبته بابتسامة خفيفة وأنا أنزع اللحم عن هيكل تلك السمكة التي لم أعرف اسمها إلى حد الآن، وحين انتهينا من وجبة الغذاء، حدثني عن نفسه قليلا، وفي السيارة فتح لي قلبه بطريقة لم أستسغها:
ــ آنستي، لقد اخترتِ موضوعا شائكا جدا، وأنا لا أدري كيف ستقتحمين عالمهم لتطلعي على أوضاعهم الاجتماعية والنفسية والمادية، لو بحثت عن وجهة نظر الدين أو المجتمع المحافظ لقوبلت بنظرة مسبقة لن تتقبليها. وفي الأخير، كيفما جاء تحقيقك، لا بد أن تنهال عليك الألسن والأقلام الصفراء بالكلام الجارح.
فرمل في منتصف طريق خال فاستعددت للأسوء، لكنه دون أن ينظر إلى وجهي سألني إن كنت أعرف شخصا مثليا، ولما أجبته بالنفي، قدم لي نفسه على أنه عاش فترة من حياته شاذا جنسيا، قال هذا وهو متكئ على ذراعية مستندا بهما على مقود السيارة، وأضاف أنه قد تخلص من حالته بمساعدة طبيبة نفسية، ثم حدثني عن الظروف التي يعيشها الشواذ، ونظرة المجتمع الرافضة لهم، ما زاد من اشمئزازي منه ومن الموضوع ففكرت في تغييره والتخلي عنه.
ومنه علمت أنه كاد يفصل من مهنته لما راود أحدهم عن نفسه، ثم حكى لي عن أحداث ومواقف عاشها، وهي مؤسفة ومضحكة في الآن ذاته.
تحدث كثيرا ونحن في الطريق، وظل يفرمل بين الحين والآخر رغم أن سرعته على الإسفلت كانت كدبيب الحلزون على الصخور، ولما رأى نفوري من حديثه عن نفسه، حاول جاهدا أن يؤكد لي شفاءه من الشذوذ والميل إلى الرجال، وأنه يفكر في بناء أسرة. محاولا في ذلك جمع كل الأسباب والمبررات التي سيدفعني بها إلى الاقتناع بدور المجتمع ولاسيما الأسر في خلق الشواذ، ومنه علمت أن خاله هو الذي ربى فيه دودة الشذوذ إلى أن صارت أفعوانا فالتهمه.
دخلت البيت فلم أجد بهية، ووجدت على الطاولة ورقة أخبرتني بها أنها انتظرت عودتي للغداء ولما تأخر قدومي، فقد تركت لي نصيبا مما أعدت على أن تعود مساء فنقضيها ليلة بيضاء معا.
عزمت على الشروع في الإعداد للتحقيق في انتظار عودتها، وأول ما بدأت به أن فصلت مباحثه، وقررت أن أفتتحه بالتعريف اللغوي باللغات الثلاث؛ العربية والفرنسية والإنجليزية، ثم أستند على التفسير الطبي، وهنا علمت أني سأتكل على بهية، لأمر بعدها برأي أهل الدين، وارتأيت أن أستدل بأقوال رجال الدين المسلمين والمسيحيين واليهود المبثوثة في الأشرطة الموزعة في مواقعهم الإلكترونية الكثيرة، ثم ألتفت إلى المجتمع، ومن أجل الدقة في تعقب الرأي العام ارتأيت أن أصمم استطلاع رأي إلكتروني.
وفي الأخير عزمت على جمع شهادات من المثليين أنفسهم، ذكورا وإناثا، وبالنسبة لهذه الخطوة كان بإمكاني ترصدهم في الحانات، أو دخول غرف الدردشة الافتراضية التي يكثرون فيها.
لما أدارت بهية المفتاح كنت أرص الحروف الأخيرة من التقديم الذي أعددته لتحقيقي هذا، وقد حاولت أن أفخخه بالأسئلة المشوقة التي تجذب القارئ وتغريه بالمتابعة، فسجلته تحت عنوان "أسرار المثليين"، ثم أطفأت الحاسوب وقمت من مقامي، فتلقيت زميلتي بقبلتين من خديها ودخلت إلى المطبخ لأعد فنجاني قهوة.
وبينما أنا كذلك إذا بقنينتين عسليتين تخرجان من محفظتها وتأخذان موضعهما على الطاولة القصيرة.
ــ لا، لا تقولي إنك قد دخلت نادي المدمنين بقدمك اليمنى.
ــ لا تكوني متزمتة، ما في الأمر من إدمان ولا هم يحزنون، كل ما هناك أنني أريد استغلال العطلة على أحسن وجه.
وكذلك كان...
استيقظت صباحا وليس في ذاكرتي من أمس إلا الجرعات الأولى والموسيقى الهادئة، أما ما عدا ذلك مما لون ليلتنا فلم أذكر منه إلا أحداثا ضبابية، ولكن أثرها الجميل لا يزال يداعب شفتي، لعبت الثمالة برأسي وأنا أفارق المخدة، فلم أصل المرحاض إلا بشق الأنفس، ثم عدت إلى مضجعي بالقرب من بهية، واستسلمت للألم والدوار في رأسي، إلى أن سمعت الآذان.
قمت كالمفجوعة من مرقدي لما رأيت ساعة الهاتف واقفة في الرابعة بعد الزوال، فأدركت أن العصر هو الذي رفع لها الآذان وليس الظهر، وبعدي قامت بهية متثائبة، وهي تشكو من الوجع والجوع، فدخلت المطبخ، وأعددت أسرع وجبة على الإطلاق، وبها أسكتنا أمعاءنا المناضلة، ثم قمت لأشتغل على التحقيق الذي كلفت نفسي به بعد أن أعددت كأسا كبيرا من القهوة.
صممت استطلاعا للرأي حول الموضوع ونشرته على مدونتي، وفي هامش الصحيفة التي أنشر فيها مقالاتي، وكذلك على صفحات المجموعات بمواقع التواصل الاجتماعي. ثم فتحت بوابة المعاجم الإلكترونية باحثة عن دلالة الاسم، وجَامِعة المعلومات المتعلقة بالموضوع جميعها، لأسجلها في ملف وزعته حسب مباحث التحقيق.
وقد استغرق العمل من نهاري مدة لم أذكرها، كانت بهية حينها منشغلة بإعداد وجبة اللمجة، ولم أقم من جلستي من بعد أكلها إلا بعد أن رن هاتفي، فعلمت منه أن أسرتي الصغيرة عائدة لإجراء فحوصات للوالد.
ارتديت ملابسي على عجل، ورافقتني بهية إلى المحطة بثياب نومها. استقبلناهم وعدنا جميعا في سيارة الضابط جمال الذي هاتفني في الطريق وأصر على مساعدتي، ورغم اعتذاري وجدته في باب المحطة، وقد حمدت الله أن بهية قد تداركت الموقف وسبقت الجميع إلى الدار فأزالت الشاهد على ليلتنا من الغرفة الفسيحة.
قدمت السيد جمال لوالدي موضحة طبيعة علاقتي به، لكن والدتي رغم قبولها كل ما أخبرتها حين كنا بين الجميع، لكنها لكزتني في المطبخ وهي تقول، يبدو أنه "ولد الناس"، ومرحبا به في الدار الكبرى دون لف ودوران، فهذه العلاقات لا تناسب ما ربيتك عليه.
لم أرد عليها، لكني ندمت على اليوم الذي لاقاني بالضابط الأصلع، ثم نسيت كل شيء لما رأيت وجه الوالد وقد اكتسى ضياء بعد الذبول الذي كان باديا عليه أول زيارة له، وفي الغد عدنا من المصحة في حافلة النقل الحضري على أجنحة الفرحة. ثم احتفلنا بشفاء الوالد نهائيا من الورم تلك الليلة، فطبخنا دجاجتين سمينتين على الطريقة التقليدية، وحمدنا لله أنه لم يكن من النوع الذي يتجدد أو الذي يدعونه "البروستاتة الأنثى"، وقد خصصت له بهية درسا مطولا ومبسطا عقب وجبة العشاء، شرحت لنا فيه ظروف تكون ورم البروستاتة وأنواعها وحالاتها وكيفية الوقاية منها، وقد وعد الوالد باتباع كل ما خرج من فمها من نصائح، وأولها عدم حصر البول ليلا أو نهارا، لا من أجل الحفاظ على الوضوء ولا من أجل الاستغراق في النوم.
قضوا معنا ثلاثة أيام أمضيناها في التبضع والجولان في الأسواق القريبة، وإعداد ما لذ وطاب من الأطباق، وقد أصر فيها الضابط جمال على اصطحاب الوالد إلى أماكن لم نعرفها كل مساء، فربطا علاقة لم أفهم مغزاها إلا بعد أسابيع عديدة، وفي المساء الذي غادروا فيه محملين بالبضائع، أصر جمال ثانية على الحضور لتوديعهم، فأثار ذلك غضبي وعصبيتي، وعلمت أنه سيفتح علي عش الزنابير، وفي طريق عودتنا إلى البيت لم أرد على كلامه ببنت شفة واحدة، إلى أن شكرت له وقوفه إلى جانبنا بطريقة فجة، وانسحبت من السيارة إلى الدار برفقة بهية.
وبهية هي الأخرى لم أتحدث إليها في أي أمر مما يخص ليلة السكر أو علاقتي بجمال حين دخلنا إلى الدار، بل قصدت هي الغرفة الصغيرة لترتب كتبها استعدادا للموسم الجامعي المقبل، وقد اكتسى وجهها طابع الجد والحزم، وتكلفت أنا بإعداد وجبة خفيفة تناولناها أول الليل، ثم ترجمت لي الفصل الثاني. فوجدت أنه هو الفصل الأول في الترتيب الزمني المنطقي للأحداث، وقد جاء تحت عنوان "الميلاد والطفولة" وفيه تقول:

ــ لما عرفتني على نفسك أخبرتني أن اسمك هو نجمة، فلماذا يدعوك الأهل تيتريت؟
بهذه البساطة صاغت صديقتي الجديدة سؤالها، فأخبرتها عن سر التسمية باختصار، ثم آثرت أن أكتب نبذة عنه، وعن طفولتي التعيسة.
في أنغور، البلدة المحتمية بالجبل الأحمر، عاش أحمد مع والديه وإخوته، ولأنه بكر الدار فقد كان لزاما عليه العمل بجهده الجهيد، وأن يحتمل كل ما يكلف به، مهما كان شاقا، وهكذا ترعرع بين حقول النخيل والبرسيم، ورحلات استكشاف الملح وجلبه من قمم الجبال، إلى أن بلغ المراهقة، فاستحيى من خشونة صوته والزغب المسود بذقنه وإبطيه، فأقل من مجالسته للأهل وأطال المكوث في العمل وبين الأقران، وفي ذلك العام الذي أتبع سبع سنوات من الجفاف الماحق صبت الأنواء من كل الجهات، فغمرت الحقول وأغنته عن مشقة تتبع الساقية من حضن الجبل، وتنظيف الخطارات من الطحالب والترسبات الكلسية باستمرار، وأتبع المطر جيش من البعوض والحشرات صيفا، وما إن هدأت حرارة الهجير، وهبت رياح الخريف الأولى حتى كانت أعناق النخل مثقلة بأغذاق التمور المنحنية تواضعا بألوانها وأحجامها.
يُحكى أن الناس قد غاصت في التمر عامهم ذلك إلى الركبة، وإن من النخل ما لم يُجنَ إلا أواخر الشتاء.
ودون مشورته وجد نفسه عريسا لبنت خالته، التي وُشِمت له منذ أن صرخت بنفسها الأول، ولم يكن الوحيد الذي رقصت له مجموعات أحواش ذلك العام، ولكنه كان أول من رأى بطن زوجته مكورا.
بعد مرور الأشهر التسعة، انتظر وحيدا تلك الليلة، مستندا على جدار الدار المقابل للغرفة التي يشغلها مع زوجته، كان الليل حارا، وسماؤه صافية ومزهرة بالنجوم، التقط من الكوة فوق الحائط تأوهات زوجته الحادة، فاعتصره مثل ألمها، وما هي إلا لحظات، حتى اختلط اللغط والنحيب بالصلاة على النبي، وأعقبها صوت رقيق قريب إلى المواء، وفي تلك اللحظة بالذات، كانت عيناه شاخصتان في نجمة تتلألأ في حضن السماء، وبالقرب منها مر شهاب حارق، وأقسم أن يسمي المولود إيثري إن كان ذكرا، أو تيتريت إن كانت أنثى، ولأنه لم يسمع في أعقاب الصرخة الصغيرة زغردة، فقد أيقن أنها تيتريت، لأن المولود الذكر وحده يستحق الزغردة.
ذبح الفقيه نعجة العقيقة في اليوم السابع باسم تيتريت، ولكن موظفي مكتب الحالة المدنية رفضوا الاسم، وترجموه إلى مقابله في العربية، فصار اسمي على الوثائق نجمة، وفي الألسن تيتريت، بذلك أخبرني أبي مرات عدة، وأكدت الرواية أمي والجدة.
ومنذ ولادتي أنا الأخرى، وشموني لابن خالتي عبد العزيز الذي يكبرني بعشر سنوات، وقد أخبرتني أمي يوما أن خالتي قد طلبتني منذ ركلت في بطنها، وقد قالت لها حينذاك:
"يا شقيقتي، إن كان الذي في بطنك فتاة، فهي لعبد العزيز، أما إن كان ولدا، فلينتظرني لأنجب له زوجة، خيرنا لن يخرج من خيمتنا"
وقد دأبوا على أخذي منذ الصغر إلى دارهم، ونمت ليال طويلات في بيتهم؛ في حضن الخالة.
تدحرجنا مع الأيام وكبرت ككل فتيان الدوار وفتياته؛ نلعب جميعا إلى أن نروح إلى بيت مضاء لنتابع لعبنا ليلا، فننام فيه بعد التعب كيفما اتفق، وفي الصباح نجد أنفسنا في بيتنا. ودخلت المدرسة كالجميع أيضا فتسلقت مستوياتها وفصولها إلى أن لزمنا الانتقال إلى تاكوست لمتابعة الدراسة الثانوية.
حينها كان عبد العزيز من الذين قد برموا شواربهم في الدراسة، ولما لم يحصل لهم منها طائلا، فقد التحق بمدينة الدار البيضاء، وهناك اشتغل في دكان، وما عاد يزور الدوار إلا مرة أو مرتين في السنة.
أعلنت بهية انتهاء الفصل، وأن الإعياء قد غلبها فتوقفت عن الترجمة، ثم قبلتني بعد أن عدلت وسادتها واستسلمت للنوم، أما أنا فأعدت قراءة الفصل ونقحته جيدا، ثم صورت تلك الصور الثلاث بالسونار، ونشرتها في صفحة نبت السماء، مع إضافة اسم تيتريت على الاسم الذي اخترته لها من قبل، فصار الاسم كاملا هو "تيتريت نبت السماء"، وفي صفحتها نشرت مقتطفا عن حياتها، تماما كما ورد في المذكرات، ثم ضغطت على زر إقفال الحاسوب فرأيت شبحها ماثلا في الشاشة أمامي.
ــ أيها الطيف ما بك؟
ــ ...
ــ تيتريت، رجاء أخبريني ما الذي تريدين؟
ــ ما بك زهرة ما بك؟ هل أنت على ما يرام؟
انتبهت إلى الصوت فأدركت أنه قادم من ناحية بهية، والتفت لأخبرها بالأمر:
ــ لقد بدت لي في الشاشة يا بهية، أقسم لك.
ــ إنه التعب، هذا أمر معروف ومتعارف عليه، يحتاج الدماغ إلى النوم فتتراقص الفوتونات أمام العينين لتشكل أطيافا قريبة من الحلم، يكفيك إجهادا لنفسك، خذي قسطا من الراحة حبيبتي.
بحثت عن الطيف لأستدل به ولم أجده، فوضعت الحاسوب جانبا وأسلمت رأسي للوسادة، ثم رحت أفكر ــ وعيناي مفتوحتان في الظلام ــ إن كان بإمكاني تعديل تصميم التحقيق الذي أعده.
وقد أثمر بحثي اللغوي عن بعض الحقائق المتعلقة بالحمولة الاجتماعية لمفردات اللغة، ففي لغتنا الدارجة مثلا، يدعون المثلي الذكر بلفظ ساقط لا يصلح إلا للسب والشتم، أما المرأة المثلية فعاهرة مباشرة، وهذا يعكس نظرة المجتمع لهذه الفئة من الناس، في حين أن المثلية في اللغة العربية من المثل، وتعني الانجذاب لأشخاص من جنس مماثل.
وتدل المثلية عموما على وجود عواطف أو ممارسات جنسية بين أفراد من نفس الجنس، ولكن مصطلح "مثلية جنسية" المستعمل حديثا ما هو ترجمة للمصطلح الغربي "هوموسيكسياليتي"،‏ وهي في الأصل كلمة مركبة من كلمتين يونانيتين؛ فهومو" مشتق من هوموس، والتي تعني "نفس" أما سيكسياليتي فالجنس.
ولو قارنا الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية في احتضان المثليين، فالعربية لا تعترف بهم أصلا حسب ما توصلت إليه، فهم شواذ، والشاذ نقيض السوي، وضد القاعدة، والشاذ لا يقاس عليه.
إن الحديث هنا عن السلوك الجنسي، وإن تعلق الأمر بالذكور، فيدعون بلفظ اللواط، وهي من الكبائر المحرمة في الشريعة الإسلامية التي هي شريعة أغلب العرب، ويستوجب حدها قتل الفاعل والمفعول، ما يجعل الناس المنتمين إلى هذه الثقافة متحرجين من الظهور بميولاتهم الجنسية استحياء ورهبة.
أما الثقافة الغربية فإلى حد قريب كانت أشبه بالعربية، اللهم مؤخرا حيث تم سن قوانين تسمح لهم بممارسة حريتهم الشخصية، ومن الدول من شرعت زواج المثليين.
ورغم أن لفظ المثلية الجنسية يشير إلى التوجه الجنسي لدى كل من الرجال والنساء، إلا أن التوجه الجنسي المثلي بين النساء يشار إليه أيضاً بكلمة السحَاق بكسر السين أو رفعها، وهي كلمة مشتقة من السحق، كما أن الكثير من المصطلحات بلغات أخرى تشير إلى المثلية بين النساء بكلمات مشتقة من السحق والاحتكاك.
وفي الإنجليزية وعدة لغات غربية أخرى، يشار إلى السحاق بالمصطلح ليسبيان؛ المشتق من اسم الجزيرة اليونانية لسبوس، حيث عاشت الشاعرة القديمة صافو، التي كتبت قصائد حب للنساء وعن علاقاتها العاطفية معهن.
أما الدين، فرأيه واضح في الأمر؛ فهو عمل شنيع ومحرم شرعا، ويجب منعه لأنه ضد الطبيعة والحكمة الإلهية من الخلق؛ وهي عمارة الأرض والاستخلاف فيها. وإذن فممارسته تعدٍّ لحدود الله، ومن الدول والأنظمة الإسلامية من تطبق حكم الإعدام. وما لفت انتباهي هو أني عثرت على معلومات تفيد بوجود الظاهرة في فترات ما من تاريخ الإسلام، لاسيما في أواخر الحكم العباسي، وغيرها من الشواهد التي يتم بها تجريح بعض الشخصيات الدينية والفكرية بين المذاهب الدينية المتناحرة.
أما الطب فلا يرى المثلية مرضا أو سلوكا شاذا، بل يفسره بترابطات عضوية ونفسية معقدة، وقد لوحظ ــ كما اطلعت ــ أن السلوك الجنسي المثلي موجود عند بعض الحيوانات، كالإوز الأسود على سبيل المثال، بل إن بعضها مزدوج الجنس مثل الحلزون، وعموما فإن بهية ستفيدني في البحث أكثر، كما أن نتائج الاستطلاع ستساهم في تكوين نظرة عن الرأي العام إزاء الظاهرة، ولا بد ــ ليكتمل التحقيق ــ أن ألج غرف الدردشة للوصول إلى آراء السحاقيات، أما الشواذ فسيساعدني الضابط جمال على ترصدهم، واستدراجهم علهم يجيبون على أسئلتي والله الموفق.
لا أذكر كم من الوقت استغرقني التفكير في ذلك، ولكن الذي أذكره جيدا أنني نمت في ساعة متأخرة جدا، وأفقت قبل بهية، فأعددت الفطور وأيقظتها بكل حنان ورفق، فاستفاقت في دلالها المعتاد، فتناولنا فطورنا بسرعة وقصدت كل منا كليتها.
حدثت الأستاذ أحمد في أول لقاء لنا عن رغبتي في إنجاز بحث الإجازة حول موضوع الصحافة الإلكترونية، فوافقني في ذلك وثمن رغبتي، ثم دلني على الدكتور إدريس سعدات؛ المتخصص في مجال الإعلام والصحافة.
بحثت عن الدكتور سعدات بعد أيام من ضبط أموري، فعرفت أنه رئيس شعبة اللغة الفرنسية وآدابها، التقيت به في مكتبه وطرحت عليه الفكرة كما تصورتها بعد التحية، فأبدى موافقة مبدئية أولا، وبعد شد وجذب ونقاش مستفيض قبل الطلب بعد أن عبر عن رغبته في تعديل الموضوع الذي اقترحت في البداية، وفي الأخير استقر موضوع بحثي في البنية الحجاجية للمقالة الصحفية المقرونة بالصور البراقة.
اتصل بي السيد العراقي بخصوص موضوع التحقيق، فأخبرته أني أعمل جاهدة عليه، وأطلعته على المراحل والأشواط التي قطعتها وخطواتي المقبلة، فضربنا موعدا بالمقهى، وهناك التقيت ثانية بالضابط جمال الذي وصل بمجرد جلوسي على الكرسي إلى جانب السيد العراقي.
وبعد تبادل التحية وعبارات المجاملة قدمت لهما تفاصيل ما وصلت إليه؛ من التقديم إلى التصميم؛ ثم المادة الأولية التي جمعت، وحرصت أثناء ذلك على رصد حركات الوجهين والشفتين، لأستشف انطباعهما الآني مما أقدم فجاء جواب السيد العراقي بعد صمت دام برهة من الزمن، كأنه يحثني بصمته على الإضافة، لكني رشفت من كأس العصير رشفة ووجهت عيني نحوه مستمعة إلى رأيه:
ــ جميل، كل ما توصلت إليه رائع ومفيد، أما الملاحظة التي يمكن إضافتها إن وافقتماني هي أنك تأخرت قليلا عن الموعد المحدد، كما أنه إن كان ممكنا، وربما هذا لازم وصحي لنا جميعا، رجاء احذفي رأي الدين من الموضوع، لا نريد مجابهة مؤسسة بتلك القوة.
ــ ما كان تأخري إلا بسبب قدوم أهلي كما علمتم، ثم إني قد انشغلت قليلا مع موضوع بحث الإجازة، ولكني رتبت أوراقي الجامعية أخيرا، واليوم سأُفَرِّغ معطيات الاستطلاع، وأرجو أن أقابل مثليين للحصول على صور لهم، وانطباعاتهم، وهنا أحتاج يد المساعدة من السيد جمال إن أمكنه.
وفي نهاية الجلسة، وافق السيد جمال على مرافقتي ليلا إلى بعض الملاهي، وتأمين ظروف صالحة للاشتغال، ومن المقهى حججنا إلى محل لبيع الملابس المستعملة، فاقتنيت بدلة رياضية مهلهلة رخيصة، ولأن قدمي كانت في حذاء رياضي، فقد كان من الصعب على أيٍّ كان تمييز جنسي، خاصة بعد أن اعتمرت قبعة الضابط جمال وتركت صلعته لامعة تحت ضوء المصابيح.
وقفنا عند بوابات بعض الحانات في آخر الليل، والتقطنا صورا حية للظروف التي يعيشها المثليين، وقد عرفناهم بالطريقة التي يرتدون بها بدلات النساء ومشيتهم والزينة التي يضعون على وجوههم رغم أن لحاهم قد ازرقت في وجوههم ولاسيما أذقانهم من كثرة الحلاقة، وقد أسعفتنا السيارة في اصطياد العديد منهم، والمذهل أن بعضهم قد وافقوا على فتح قلوبهم مقابل الحصول على مال أو بدونه، مصرين على مناداتهم بالأسماء المؤنثة التي اختاروا لأنفسهم.
ــ ما اسمك؟
ــ أنا جميلة يا جميلة.
ــ ظننتك رجلا، أأنت...؟
ــ نعم، أنا كذلك وبكل افتخار، هل تريدان هنا في السيارة، أم نذهب إلى مكان آخر؟
ــ نريد فقط إجابة عن بعض الأسئلة، إن سمحت.
ــ لا وقت لدي، فبانتظاري زبائن عدة، ولكن لا بأس هات أسئلتك؟
...
وهكذا حصلت منهم على معلومات قيمة، بعضها يدعو إلى الشفقة والأسف والتقرب منهم أكثر لنقل معاناتهم إلى المجتمع الأصم، وبعضها الآخر قد يبرر قتل الشواذ وتنحيتهم، شكرنا كل من أدلى لنا بمعلومات حول حياته على حدة، ثم تركنا الفضاء ضاجا بالحركة آخر الليل، وعندما أوصلني الضابط جمال إلى باب الدار وودعني، كانت الساحة فارغة إلا من بعض القطط والكلاب الضالة.
ــ غيرت العاشق!؟
ــ عن أي عاشق تتحدثين؟ الضابط جمال؟ إنه يساعدني في التحقيق جازاه الله كل خير، لا غير.
ــ تأكلين أرزا بالحليب؟
ــ لا شكرا، لقد رافقته على عشاء خفيف، ودون تعليق رجاء.
طبعا هي لم تعلق بغير مص شفتيها، ثم نامت مغاضبة، وأظنها كذلك كانت من قبل، خلعت ملابسي استعدادا للنوم جوارها، وفتحت الحاسوب في مضجعي، ثم ولجت موقعا إلكترونيا يكثر فيه مثليو الجنس، فسجلت دخولي على أنني سحاقية، وأرسلت رسالة ترحيب إلى كل من وجدتها مسجلة بنفس النوع، ثم اشتغلت على تنزيل معطيات الاستطلاعات ونتائج الاستجوابات التي حصلت عليها في ليلتي تلك.
حاولت تصيد النساء السحاقيات واستدراجهن إلى الحديث معي، ولكن المشكل الذي غلبني على أمري هو أن الرسائل التي كانت تصلني من الرجال ولاسيما من الخليجيين، قد كثرت إلى الحد الذي بدأ يشوش على أدائي في حواراتي مع من تمكنت منهن، وفي لحظة سهو مني وغفلة، سرحت عيني في حلم يقظة، فرأيت طيف المرأة شاخصا أمامي.
ــ هل تعلمين؟ ما عدت أحتمل زياراتك المتكررة، والمتجاوزة للحدود مؤخرا.
ــ ....
ــ هذا غير عادل، قولي شيئا، تكلمي، أو ابتعدي عني، كانت زياراتك لي من خلف الشباك، وفي نهاية الأسبوع فقط، قلنا أهلا وسهلا، ولكن، أن تقتحمي علي غرفتي كل حين، فهذا غير مقبول.
ــ من تحدثين، آه، تهلوسين وحدك ثانية، حاولي أن تنامي جميلتي، ما تصنعين بهذا الحاسوب في آخر الليل؟
قالت بهية هذا فأيقنت أني قد غرقت في لجة الحلم، وحاولت أن أطفئ الحاسوب لكنها اختطفته من بين يدي وهي تقول:
ــ أوه، أواه، تبحثين عن السحاقيات؟
ــ لا، لا... رجاء لا تسيئي فهمي، أنا أشتغل على تحقيق صحفي، دعيني أريك، هل تذكرين يوم سألتك عن التعريف الطبي للمثلية الجنسية؟ لم أكن بذلك راغبة في التعبير عن رأيك، ولذلك تخليت عن المتابعة وبحثت عن ذلك في الموسوعة الطبية.
ــ ولكن، لم أنت مرعوبة بهذا الشكل من الموضوع؟ أين العيب أو المشكل في أن تكوني كذلك؟ فلنكن، أنا وأنت، حبيبتان إلى الأبد، أنا أحبك.
ــ بهذه البساطة؟ نامي أرجوك، ليس لي وقت لهذا الهراء، أنا سوية جنسيا، وإن كان عندي من مشكل مع الرجال، فلأنني قد عانيت من زواجي الفاشل لا غير.
ــ لا يا حبيبتي، لا، أنت تعيشين في عالمين مختلفين، عالم محافظ تصرين عليه، وآخر يلح باطنك على تحقيقه، ومن هنا يمكن تفسير ذلك الطيف الذي يزورك؛ إنه حبيبة خيالك.
ــ توقفي عن هذا الهراء الذي لا طائل منه، أنا لا أشك في أن هذه المرأة روح تريد أن ترتاح، وأنا أبحث عن المشترك بيني وبينها، ولم اختارت الظهور لي أنا بالضبط؟ ألم تلاحظي الشبه الذي بين الطيف وصور المرأة في المذكرة التي انتشلتها من البئر، هناك أمور تحيرني.
ــ أنا لم أر إلا صور المرأة، وهذا موجود في كل بيوت الإيجار، وربما نحن أيضا سنخلف بعد رحيلنا ما يمكن أن يبحث فيه أي مجنون، فيثير فيه مخاوفه. ولكن الذي رأيته بأم عيني هو أنك رائعة القُبَل حين تغيبي عن وعيك.
لم أشأ أن أرد عليها، واكتفيت بتسجيل الحوارات التي أجريت مع بعض السحاقيات، ثم أطفأت الحاسوب استعدادا للنوم. لكن بهية قفزت من مكانها، وفتحت هاتفها وهي تقول:
ــ إليك الدليل، هذه أنت في الشريط، هل أنت هي هذه؟ نعم، إنها أنت بلحمك ودمك، ما من طيف، لقد سجلتك، انظري بنفسك، رقصك رائع، وقبلك أيضا، هل رأيت؟
قالت هذا وقد شغلت شريطا نظهر فيه كلانا في وضعيات مخلة ليلة سكرنا، طلبت منها إزالته ففعلت، ولكنها استمرت في شرح أمور غابت عني، ومن كلامها فهمت أنني قبلتها في الملهى بطريقة جنسية مثيرة لما تمكن مني الخمر، ولأني امتنعت عن تكرار ذلك في الغد، فإنها قد جلبت الخمر لتغيبني عن وعيي وتؤكد لي بالدليل القاطع طبيعتي الميالة إلى الإناث، احترت في أمري فما دريت ما يمكن عمله تجاه الأمر الطارئ،
ــ يا إلهي! ألهذا اخترت ــ دون وعي ــ الاشتغال على هذا الموضوع؟ لا، يجب ألا يكون هذا، وإن كان فلا بد من معاكسته، هل تعلمين؟ الآن فقط تتكشف لي بعض الأمور، لم أفهم ذات يوم لمَ أخبرني الضابط أنه كان مثلي الميول الجنسي، وأنه... كيف أني لم ألتقط تلك الإشارات؟ والليلة أيضا، خرج معي لتصيد الشواذ من أجل إجراء حوار فكان أول ما أخذني إليه هي تلك الحانة حيث شربنا تلك الليلة، هل كان هناك ليلتها؟ هل رأى كل شيء؟ ما الذي يخبؤه عني؟
ــ لا عليك، أخرجيه من حساباتك الشخصية، وإن كان من أمر يجب أن تفكري فيه، فهو طبيعة علاقتنا، أتحبينني؟ قوليها دون أن تكلفي نفسك الالتفات إلى ما سيقولونه أو الاهتمام بالمجتمع ككل.
ــ المجتمع، مجتمعنا يا بهية لم ولن يقبل بمثل هذا، لو اطلعت على نتائج الاستطلاع لفهمت ما أقول.
ــ المجتمع، مالي وما لهذا المجتمع؟ إلى الجحيم، إنه لا يسمح لك بأن تكوني ما تريدين، بل يجب أن تصيري ما يريد، إن المجتمع القاسي لا يهتم بفردانية الأفراد، بل يميل إلى التنميط والنمذجة، ولا يهمه إلا طبع عدة نسخ متطابقة من القيم وطرق التفكير، هيا، دعي المجتمع واهتمي بنفسك، وأصغي إلى باطنك.
ــ أريد أن أنام، وليت الموت يتلقفني بمخالبها الرحيمة في منامي هذا، آمل ألا يكون هذا كله إلا حلما.
ساقتني الذكريات التي عتمت على دماغي إلى سوق متنوع من الأحداث المتداخلة كالمتاهة، ولم أستطع الخروج منه إلا بأجنحة النوم الذي اختطفني بين أحضانه، ولما استيقظت صباحا، وجدت رأسي منشقا نصفين، إلى الدرجة التي لم أستطع معها رفعه وتحريكه، كان كالبيضة الفاسدة.
ألفيت الفطور موضوعا على الطاولة فتناولته على مهل، ثم أعددت فنجان قهوة علني أستعيد نشاطي عازمة على عدم التوجه إلى الجامعة، ففي ذلك اليوم لم تكن من محاضرة أساسية، ربما تتعلق إحداهما بالفقه المالكي، والثانية في تقنيات التعبير والتواصل، ولذلك فضلت المكوث في البيت والاشتغال على التحقيق.
إن هذا العمل مرحلة فاصلة في احتراف هوايتي الصحفية، وتقديم نفسي على أني قلم قد يخفي ذهبا؛ فإما أن أنجح فيه، وأضع قدمي في الملعب كلاعبة رسمية، أو أفشل فأخرج من الباب مطأطئة الرأس، هكذا حدثت نفسي لأحفزها على المواصلة، مقفلة دوني كل أبواب الشك ونوافذ التذمر، فجلست على الأرض، في المنطقة المنفتحة على الفسحة الترابية من الممر، مولية حائط الغرفة الصغيرة ظهري، والبئر إلى يميني.
انغمست في سبك التحقيق مُعَالِجة المعلومات المتوفرة في لغة شهية تتقاطر بعسل الصور الجمالية، محاولة تعويض شناعة الموضوع بجمالية اللغة، مؤكدة بعض الخلاصات بشهادات مسجلة، أو صور ملتقطة، متلافية وجهة نظر الدين ورجاله، مبتعدة عن الإشارة إلى الشخصيات المرموقة سياسيا واقتصاديا في بلادنا، والتي علمت أنها مثلية الجنس، ومنهم رؤوس كبار في الدولة، فقصرت البحث على البيادق الصغيرة التي بالإمكان التضحية بها دون أذى.
استهلكت في صياغة التحقيق فنجانين كبيرين من القهوة المركزة، فشعرت بدوار ظننته من ضغط الدم المنخفض نتيجة تأثير الكافيين، ولذلك حشوت حبة طماطم بالملح والسكر فالتهمتها، ولم آكل إلا بيضة مسلوقة بعدها، وعلى تلك الحال بقيت إلى أن عادت بهية مساء، فوجدتني في آخر العمليات؛ إذ كنت بصدد تجميع الوثائق وتصنيفها للاحتفاظ بها في الأرشيف الورقي والإلكتروني للصحيفة.
طلبت منها قراءة ما كتبت وتدقيقه بينما أعد أنا كأس شاي بالنعناع ففعلت ذلك دون اعتراض، وقد اغتنمتها فرصة لأدافع عن نفسي تجاه قذفها إياي أمس بذلك الادعاء الذي بنته على عاملين فقط. ما كان لها أن تحكم على ميولي الجنسي لمجرد رقصة جنسية وقبل ومداعبة في حال غياب تام عن الوعي، أو لمجرد أن رأتني وأنا أتراسل باسم مستعار يحيل على ميول جنسي شاذ، والحق أني قد طلبت منها القراءة من أجل ذلك فقط، لأني راجعته مرات عدة قبل أن أنتقل إلى جمع الوثائق وتصنيفها.
بعد أن أكلنا ما تيسر خابرت السيد العراقي بشأن التحقيق، فعرض علي أن نتعشى جميعا في مطعم قريب من مقر الصحيفة، ملحا على أن ترافقني صديقتي، على أن يوصلنا إلى الدار في الأخير، وحينها سنناقش التحقيق على مهل. واجهت من بهية رفضا خفيفا في البداية، لكنها طاوعتني في الأخير، وبعد مدة وجيزة كنا نحن الثلاثة في المطعم.
وبينما نحن كذلك، إذ لحق بنا الضابط جمال، تذكرت كل ما سلف من أمر المثلية فاستحييت من أن يكون على علم ببعض ميولي الشاذ الذي أخفيه في وعيي، أو هكذا أخبرتني بهية، ولما تذكرت أن ماضيه حالك أكثر مني رفعت ستار الحياء، وناقشت التحقيق بكل جرأة وبساطة، وألححت على الشكل الذي سيعرض به، والإعلانات الدعائية الممكن إرفاقها في نفس الصفحة وغير ذلك من الأمور الشكلية.
أثناء مناقشة ما توصلت إليه، وبالضبط في المرحلة التي ناقشت فيها رأي الطب في الموضوع تدخلت بهية وأثرت معارفنا بما امتلكته من معلومات طبية تشريحية، ونفسية.
ــ الآنسة طبيبة؟
هكذا سأل العراقي بهية مظهرا إعجابه برفع حاجبيه حتى صارا خارج إطار نظارته، وبالمناسبة فلفظ العراقي دون السيد، كانت من اقتراحه هو نفسه تلك الليلة، ولما أخبرته بأنها طالبة في سنتها الخامسة توجه إلي بكلامه:
ــ الله عليك يا آنسة، صديقتك طبيبة ما شاء الله، ولم تطلبي مساعدتها!، لا تؤاخذينا يا دكتورة، ألا تعرفين دواء لكبرياء الصحفي؟
قال هذا الكلام ليختم حديثه مازحا، وأطلق ضحكة رنانة، لكنني وجدتها نكتة ثقيلة، وأضفت المعلومات التي قدمتها لنا "الدكتورة" وأطلعتهم عليها فوجدوا أنها ناسبت موقعها من التحقيق بناء ومادة.
لم نتحدث في موضوع التحقيق تلك الليلة إلا بذلك القدر الذي ذكرت الآن، أما مواضيعنا الأخرى فتنوعت وتشعبت، وكانت بهية بطلتها الرئيسية، ولما أنهينا العشاء قال لي العراقي:
ــ الآنسة الفاطمي، هل أنت مستعدة؟ تعلمين أن أي نص، مهما كان نمطه، مقالة أو قصة أو غيرهما، ما إن يقدم إلى القارئ حتى يفقد الكاتب ملكيته، وما عليه إلا تقبل وجهات النظر المتباينة، وإذن، ومهما كانت التعليقات، فلتكوني رزينة وحكيمة في الرد عليها، أو دعيها دون رد إن كان خلفها من حرج.
في هذه اللحظة سنطلق تحقيقك.
جاء كلامه الأخير كترنيمة من ترانيم الصلاة، ثم طلب مني الحاسوب فقدمته له، وولج بوابة التحكم في الصحيفة. سجل شيفرة الدخول دون أن يخفيها عني، وبعد ذلك أعاد إلي الحاسوب، وطلب مني اختيار الشكل الذي أريد أن يبدو عليه التحقيق، وكذلك لون الخط والخلفية وغير ذلك. وقد ساعدتني بهية باقتراحاتها ومهاراتها في المعلوميات والتصاميم الإلكترونية، فاشتغلنا مدة وجيزة إلى أن استقر الأمر على ما راقنا، ثم ضغطت "موافق".
وما هو إلا جزء من الدقيقة حتى كان العنوان المتلألئ إلى جانب الصورة ونبذة من مقدمة التحقيق أول ما تقدمه الصحيفة على صفحتها الرئيسية، عنوان بالأحمر القاني، وصورة غطت خلفيتها ألوان الطيف كاملة، متضمنة لوضعية جنسية مثيرة بين مثليين.
دفع لي العراقي خمسمائة درهم على الطاولة بعد أن طويت حاسوبي، ففرحت، لا بالمال، بل بما اعتبرته نجاحا في رفع التحدي. ثم طلبت منه عدم تكليفي بأي تحقيق آخر مُدَّرِعَة بضغط البحث والدراسة، على أن أكتفي بالمقالات وما أجنيه منها، وقد اقترحت عليه أن بإمكانه ألا يقدم لي مقابلا ماديا للمقالات التي لن تروقه، أو التي يكون عدد قرائها قليلا، وبالمقابل اقترح علي من كرمه أن يخصص لي عمودا أكتب فيه ما شئت وكما شئت، فزادني ذلك ثقة في أناملي وحبا للصحافة.
بعد أن خلصنا من ازدراد الزاد، ومحت المناديل ما علق بالشفاه، تابعنا بأعين باسمة طريقة تنافس الضابط والمدير في من سيؤدي ثمن العشاء، وخرجنا بعد أن هزم الضابط جمال صاحب الجريدة فسبقت يده إلى يد النادل بالورقة المالية الزرقاء تاركا له الفكة الباقية كاملة وخرجنا فرحين جميعا.
ركبت مع جمال في سيارته، في حين تكلف العراقي ببهية، فخدمها بطريقة أميرية؛ إذ سبقها إلى الباب المجاور للسائق ففتحه وانتظر قدومها، ثم انحنى لها فصعدت في دلال. أما أنا فكأني صاحبة السيارة وجمال هو سائقي؛ ركبت دون مشورته، وألقيت حقيبتي في الخلف، ثم صففت شعري أمام المرآة الأمامية.
ونحن في الطريق، حدثت السيد جمال بخصوص رغبتي في زيارة طبيب نفسي، قذفت كلامي هكذا؛ دون أن أفصل له قولا، ولا وضحت له قصدا، وهو الآخر لم ينتظر مني توضيحا، بل دلني على طبيبة نفسية، وقدمها لي على أنها هي التي ساعدته على التخلص من الشذوذ الجنسي وما رافق مرحلة العلاج من آلام نفسية، وأكثر من ذلك أنه قد اقترح أن يدفع أقساط الحصص والزيارات، لكنني أخبرته ــ شاكرة له ــ أني قد برمجت طريقة للدفع؛ مستغلة في ذلك منحتي الجامعية وبعضا مما أجنيه من مقالاتي، وربما سأعود للاشتغال في رقن البحوث عند صاحبة الوراقة، وعموما هي لن تخيب لي طلبا.
كتبت بهية تلك الليلة مقالة صحية تتعلق بداء السكري، ونشرتها على موقع الصحيفة مباشرة من حاسوبي، ومنها علمت أن السيد العراقي قد أطلق يدنا على نشر ما كتبناه في الموقع الإلكتروني للصحيفة، ومهما كان، وفي الغد قفزت نسبة قراءة مقالها عاليا، وحصدت من الإعجاب والتعليقات رقما لم أحلم يوما ببلوغه بأفضل مقالاتي، ولما راقها الأمر، فقد دأبت على نشر مقالات أسبوعية في مواضيع صحية متنوعة، وكسبت جمهورا عريضا، ولكنها بالمقابل قد قترت علي في ترجمتها للمذكرات؛ ففي ظرف أسبوعين لم نترجم إلا فصلا واحدا، فصل راقني بأحداثه المتعاقبة العجيبة، تتحدث فيه تيتريت عن مغامراتها مع الدراسة فتقول:
ــ كانت الأخبار التي تصلني إلى غرفتي في داخلية الثانوية تؤكد أن خطيبي وابن خالتي لم يقبل بفكرة سكني في القسم الداخلي مطلقا، ويبرر ذلك بكونه قد سبق له أن عاش فيه واطلع على أحواله، وعلمت أيضا أن أهله، ولاسيما والده، يريدون تزويجه قريبا قبل أن تختطفه واحدة من بنات المدينة فينسى جذوره.
حاولت ألا أكترث لذلك، لكنه شوش على نفسيتي، وأثر على دراستي، فتراجعت العلامات التي حصلت عليها في الفروض المحروسة الثانية بشكل جلي وملحوظ عن سابقاتها، وقد لامني على ذلك جل الأساتذة، بل وذهبت أستاذة الرياضيات إلى تنبيهي وتحذيري من الانزلاق في أي علاقة عاطفية قد تؤثر علي سلبيا، ولم أخبر أحدا غيرها بواقع الأمر كيلا تسبح بعيدا، ثم طمأنتهم جميعا إلى استدراك ذلك في الدورة الثانية بعد العطلة البينية التي وافقت عيد الأضحى هذه السنة.
في هذه المناسبة السنوية وحدها تجتمع كل أغصان القبيلة؛ من الداني إلى القاصي، فتعج البيوت بالأنفس والحقول بالأرجل، وتكثر الزيارات بين أهل الدم والرحم، أقصد علاقات العمومة والخؤولة، وفي هذه المناسبة أيضا يلتقي الشباب والشابات في الحقول وأطراف الوادي، وهناك يمكن أن يجتمع الخطاب والعشاق دون حراسة ولا رقابة، وفي طرف الوادي أسفل الربوة، فُرض علي أن ألتقي عبد العزيز، ابن خالتي وخطيبي.
ــ يجب أن تركبي الهودج يا تيتريت.
ــ يمكن تأجيل هذا الزفاف. أرغب في متابعة دراستي.
ــ الأمر ليس بيدي يا نجمة، ولو كان، لاصطحبتك معي إلى المدينة، وهناك تتمينها، لكن، وكما ترين بأم عينك؛ خالتك مريضة، ولم ينتج رحمها إلا الذكور، وأنت أملها الوحيد وذراعها العتيد.
لم أرد عليه ببنت شفة، فقط تركته مذهولا وعدت إلى غرفتي دامعة، وهناك سجنت نفسي طيلة المساء، ولما علم أبوه خبر هجري إياه أمام الأعين زفر كالثور، فضرب الأبواب ونفخ في النار وقلب الإبريق
"ثالث يوم من العيد سنقصدهم خطابا، وأعدوا العدة للزفاف قبل عاشوراء".
بدا أبي عاجزا عن كسر قيد التقاليد، ورأيت في عيني أمي بسمة غير مبررة، فلم يبق أمامي من باب للأمل إلا عمتي يطو، المرأة التي امتنعت عن الزواج مرارا، وهي الآن عانس بعد سن اليأس، وقد جاءت من المدينة حيث تشتغل، فقط لتحتفل معنا بالعيد، على أن تعود إلى عالمها وشغلها بعد اليوم الثالث من المناسبة.
لا أحد يعرف عمل عمتي على وجه التحديد، وتتضارب حوله الأقاويل والآراء؛ فيتقول المفترون أنها عاهرة، أما من زارها في المدينة واستضافته فيقر أنها أشرف خلق الله، ويقسم من عاش في المدينة طويلا أنها راقصة. أما هي، فتلح بكل افتخار على أنها تشتغل في شركة لتنظيم الحفلات، راقصة مرة، وأخرى مغنية، أو مشرفة... على أن المهم عندها أن تعيش في أحسن الظروف، بعيدا عن أنفاس الدوار الملتهبة.
ــ خالتي يطو، لا أريد أن أُسْجَن في بيت خالتي من الآن، خذيني معك يا خالة، أتوسل إليك.
ــ سيصعب عليك التكيف مع حياة المدينة يا تيتريتي الغالية، وليس لي الوقت الفارغ لأرعاك هناك، لا بد أن نجد حلا آخر؛ سأكلمهم في الأمر، وستعودين إلى صفوف الدراسة.
أحسست كأنها تحاول زرع القمح في الرمل وسقيه صيفا، فعلمت بخاتمة الأمر، وتأكدت من ذلك لما سمعت الأصوات تحتد في البيت الفوقي، البيت الذي تجتمع فيه النسوة أصيلا. وضعت أصابعي في أذني كي لا أسمع القرار الذي كان يصدر عن خالتي أم عبد العزيز بحروف مفككة ومضغوطة، دافعة بيطو إلى الاستحياء من حالها وما إلى ذلك مما لا يصح ذكره بين الإخوة.
لا حل إذن إلا أن أشنق نفسي قبل الزفاف الذي يعدون له بيوم، هكذا صممت، وقررت أن يكون انتحاري انفجارا بحجم غير متوقع، فأعلنت إذعاني وانقيادي كخطوة أولية، انقياد الميت لمغسله وحاملي نعشه. لم يبد لهم من الأمر إلا ظاهره، ما عجل بانتشار البسمة والفرحة التي أحرقت فؤادي وأدفأت كل القلوب.
ــ تيتريت، هل حقا قبلت ب...؟
ــ هذا الجسد ما عاد ملكا لي يا عمة، فليفعلوا به ما شاءوا.
ــ أمس فقط أخبرتني عن رغبتك في إتمام دراستك!.
ــ القسم لأهله وأنا من أهل القبور.
ــ طيب، استعدي للمغامرة.
قالتها وهي تضحك كأنها تتحدث عن لعبة سنلعبها، ثم أتمت:
سننطلق ليلة الخطوبة، لا تقنطي ولا تحزني، عمتك إلى جانبك.
قبلتها من خدها وقد سرت الفرحة في قلبي الميت، وانطلقت أساريري بعد ذلك، وأنا كلي ثقة بقدرة عمتي على تنفيذ وعدها. فرحنا جميعا في ليلة الخِطبة التي أضيئت بالرقصات الجماعية على ضوء الوجوه الباسمة، تأملت وجه عبد العزيز من تحت القناع الشفاف النازل على عيني فتخيلت وقع الطعنة التي ستنزل بظهره غدا.
ثم في آخر الليل، حين امتثل الجميع لرغبة الأجسام في قسط من الراحة، تحركت بنا ضفدعة خالتي بمحركها الهادر، ليس معي إلا ما سرقت من الملابس والأحلام والأمل.
سارت الأمور كما خططت لها عمتي يطو تماما، فانبطح الجميع للقرار الوسطي؛ تتوقف المراسيم عند الخطوبة، ويؤجل الزفاف ثلاث سنوات إلى أن أفرغ من دراستي الثانوية شرط نجاحي كل عام، وإلا فيلغى الاتفاق بمجرد رسوبي في أي مستوى.
رفرفت بأجنحة الفرحة، وعدت إلى مقعدي في الفصل كأن شيئا لم يكن، وبجد واجتهاد قضيناها ثلاث سنوات مضت كلمع البرق. وبعدها جاء الموعد المشؤوم ثانية، ولكن الأقدار في السماء رُسِمت كما أراد لها الخالق سبحانه، فتعاقبت الوفيات في الأجداد ذلك الصيف الخانق، فأُلغِيَت الاحتفالات ذلك العام، ووافق خطيبي على إتمام دراستي الجامعية بعد نقاش طويل وشاق.
وقد تكلف هو نفسه بالإنفاق علي طيلة سنوات الدراسة الجامعية رغم أن نفقته كانت شحيحة. وقدرت المقادير أن أُقبَل في مركز تكوين الأساتذة، فبدا له كأنه قد حصد من صبره خيرا وفيرا، واتفقنا على الاستقرار في مدينة تاكوست بعد زواجنا؛ فأنا سأعمل بثانويتها الوحيدة، أما هو، فسيفتح دكانا بما معه من مال.
في ذلك اليوم الذي عدت فيه بعد التخرج، أحسست أن كل حيلي قد نفذت، وما علي إلا الانقياد ككل الخرفان إلى المسلخ، سأدخل تاكوست نهائيا، وسأنسى مشاريع تيتريت الشابة إلى أن أغرق بالأطفال ومشاكل الحياة.
بعد فراغي من رقن هذا الفصل، سجلته كالعادة في البريد الإلكتروني الذي خصصته لتيتريت نبت السماء في الصفحة الخفية من محرك البحث، ثم كتبت خلاصة له، ونشرتها على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي، الصفحة التي ما إن فتحتها حتى وجدت طلبات صداقة عدة في انتظار الموافقة عليها، فوافقت دون معرفة أصحابها وأقفلت الحاسوب استعدادا لاستقبال طيفها، ربما لأعرف إن كانت سعيدة بما أقترف باسمها أم لا.



لما توطدت علاقتي بطيف المرأة، ولم أعد قادرة على ردعها من الحضور في أي وقت أو طردها، تأكدت من أني أعاني مشاكل نفسية، ولم أكلم بهية في أمرها أبدا، خاصة وأن ظهورها لم يعد مقتصرا على الليل فقط كما كان، أو مجرد أن تقف عند حدود الشباك، بل صرت أراها في كل مكان، وتجلس أحيانا قربي في المدرج، أو في المكتبة، تلبست كل مكان أو وجه، أتعبني إلحاحها على الحضور كما شاءت ووقتما أرادت.
ولما اشتد الأمر وفاق قدرة احتمالي، عزمت على زيارة طبيب نفسي، فخابرت الضابط جمال في الهاتف بالأمر، وحدثته في أمر الطيف لأول مرة، وعن اعتزامي تقديم نفسي للطبيبة النفسية التي يعرفها، فوافق على التوسط لأجلي وحصل لي على موعد قريب.
ــ أولا أريد أن أطمئنك إلى أن كل ما ستصرحين به، أو تقولينه، في حالتي الوعي أو اللاوعي، سيبقى سرا سجينا في هذه العيادة، ولذلك، حاولي الاسترخاء قدر المستطاع، واحكي لي عن كل ما تحسينه، أو ترغبين في الإفصاح عنه.
أحسست وأنا ممددة على السرير تحت الأضواء الخافتة براحة لا مثيل لها، وتشجعت فذكرت لها كل شيء؛ من علاقتي الجديدة مع بهية وتحفظي منها وخوفي من عواقبها، إلى طيف المرأة الذي يزورني، وعن وتيرة زيارة طيف المرأة وغير ذلك، دون أن أحدث لها أمرا بخصوص المذكرات، فطمأنتني إلى أن حالتي سهلة التجاوز إن امتلكت الشجاعة والقدرة على المغامرة، ورأت بكل أريحية أن ذلك الطيف ما هو إلا آمالي أو مخاوفي، وبالتالي فعلي إما تحقيقها أو تجاوزها.
اقترحت علي في الأخير أن أدخل في علاقة عاطفية حقيقية وجادة مع صديقتي لمدة أسبوعين، وبعد ذلك، كما قالت، سنُقَوِّم إن كانت ميولي الجنسية المثلية نابعة عن طبيعة يجب الانضباط لها، أم مجرد دفاع وتهرب من الدخول في تجربة سبق لي أن عانيت من مثلها. كما أنها طلبت مني إجراء تحليلات هرمونية، وتقديمها في الموعد الثاني.
سرت الأحداث بشكل عادي جدا طيلة تلك الأيام الخمسة عشر، دخلت وبهية علاقة حميمية وعاطفية يمكن أن نسميها ممتعة، وأحسست حينها كأن بهية كانت مستمتعة بها أكثر، ووجدت ما يشبه الميل والانجذاب إلى جسدها العاجي الصافي. كانت تتلوى تحتي كالأفعى، تلفحها الشهوة فتصهل من تحتي، وتحرقها أصابعي السارحة في أنحاء جسدها فتستمطر شفتي.
وفي تلك المدة ترجمنا بقية المذكرات، وعلى إثر ذلك لخصت مقتطفات من حياة تيتريت ونشرتها على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي. ثم بعد ذلك، استقبلت طلبات صداقة عدة على حسابها، ومن بين ما زاد همي في تلك الفترة أن الضابط جمال فاتحني في أمر علاقتنا، ورغم أني دعوته إلى تأجيل ذلك، إلا أنه هاتف أبي في الأمر دون مشورتي، ما أغضبني إلى حد أني لم أعد راغبة في الرد على مكالماته، وفقدت كل رغبة على محادثته، أما الحدث الثاني، فوافق الليلة التي سبقت زيارتي الثانية للطبيبة، ففي تلك الليلة، كنت مشوشة الذهن، فلم يطرف النوم بعيني. فتحت حساب تيتريت في موقع التواصل الاجتماعي فوجدت رسالة جديدة، وما إن أجبت عليها حتى دخلت مع صاحبتها في حوار:
ــ السلام أستاذتي الغالية، أنا أسيل بن يعقوب، هل تتذكريني؟ لقد درست في ثانوية النخيل، وكنتِ أستاذتي لمادة العربية لسنتين في سلك الباكلوريا، أرجو أن تكوني بخير.
ــ وعليكم السلام، اعذريني، ففي الحقيقة، إن ذاكرتي ضبابية، هلا زدتني إيضاحا؟
ــ مرحبا أستاذتي، لقد مرت بك أفواج من التلاميذ لذا أعذر لك نسياني، أحدثك أستاذتي عن عشر سنوات مضت، درست عندك في الجذع المشترك، وقد أخبرتنا حينها أنك حديثة التخرج، وفي السنة الثانية باكلوريا أيضا، وبعدها غادرنا الثانوية معا، أنا قصدت الكلية، أما أنت، سمعنا أنك انتقلت مع زميلتك، تلك الموظفة في البريد إلى مراكش. أستاذة، لقد كنتِ كثيرة التذمر في السنة الأخيرة، ووصلتنا أخبار مشؤومة عنك، ولكن لا بأس، أحمد الله أنك بخير.
ــ ربما تذكرتك الآن، أرجو لك مسيرة موفقة، وسأعتذر لك، فإن النوم قد أطفأ نور عيني، ليلتك سعيدة.
وفي تلك الليلة رأيت طيف المرأة، لكنها، وللمرة الأولى اقتربت مني بشكل كبير، أكثر مما اعتدت منها، ونامت إلى جانبي، فلدغتني منها رائحة كريهة لم أستطع تحملها، فأفقت وأنا أزفر كأني قد جريت ميلا في دقيقة، رأيت أن بهية هي الوحيدة النائمة إلى جانبي فلم أستطع العودة إلى النوم خوفا من الطيف ومن بهية.
وجدت الضابط جمال بانتظاري في نهاية الممر الذي يربط الدار بالشارع الكبير، قرب صاحب العربة، جاء رغم أني لم أطلب منه مرافقتي، فركبت مضطرة تحت إلحاحه، وفي الطريق لمته على خطوته تلك، لمته لأنه ما كان عليه أن يسبق الأحداث ويحدث أهلي، لأنه بفعله ذاك قد واجهني مع زوجة عمي أم نورة وزنابير لسانها اللاسعة، لمته لأنه تجاوزني، لكني وددت من أعماق أعماقي لو عجلنا بكل شيء لأتخلص من هواجسي.
ما عدت أحتمل التجربة التي دخلت مع بهية، أريد التخلص منها في أقرب وقت، فقد خلق حولي دائرة من المخاوف، خاصة وأني كتبت مع بهية ميثاق شرف على الاستمرار في علاقتنا. ولقد ضحك مني جمال لما أخبرته بذلك، واعدا إياي بتقديم يد المساعدة والدعم حتى أتخلص من كل ما لا أريد الاستمرار فيه.
اطلعت الدكتورة على نتائج التحليلات في مكتبها، ثم طلبت مني التمدد على السرير الطبي، ثم قامت من على كرسيها وهي تتحدث عن تقييمها الإيجابي لنتائج التحليلات.
ــ كيف كانت التجربة؟
ــ لا بأس بها، ولكن...
ــ نعم، أنا أسمع.
ــ دكتورة أريد أن أحدثك في أمر.
ــ أنا أسمع، بإمكانك التحدث متى شئت.
حدثتها عن المذكرات، وعلاقة ما وجدت فيها من صور بالطيف الذي يزورني، وعن التي تراسلت معها أمس في موقع التواصل الاجتماعي، وعن نفوري من رائحتها وخوفي من بهية.
ــ جيد، هذه نتائج حسنة؛ بدأ لاوعيك يرفض التجربة المثلية، وهذا سيُحدِث تناسقا بين وعيك ولا شعورك، ولكن، أريد أن أعرف ما الذي يثير مخاوفك أكثر؟
ــ لقد وقعت مع بهية ميثاقا على ألا تخون إحدانا الأخرى، وفي ترجمتها للمذكرات ــ وأنا لا أتقن الأمازيغية ــ أخشى أنها هددتني؛ لأنها ترجمت لي وثيقة عقد زواج عرفي بين تيتريت صاحبة المذكرات وحبيبتها، ويتضمن العقد بندا يسمح لأي منهما بقتل الخائنة، فأحسست كأنها تقصدني بذلك.
ــ حسنا، يمكنك أن تقدمي لي المذكرات لأطلع على العقد، فأنا ناطقة بالأمازيغية، وإن كنت من أصول ريفية فبإمكاني فهم الكثير من لهجة أهل الجنوب.
ــ طيب دكتورة، أود استشارتك في أمر.
ــ يا ألف مرحبا.
ــ أرغب في نشر ما ترجمته من المذكرات في صحيفة إلكترونية، لأني أشعر كأن ذلك سيخفف عني، ولكني لا أعلم أيمكنني من الناحية الأخلاقية أن أفشي سرا دفن في بئر أم لا؟
ــ في الواقع، المسالة معقدة قليلا، ولكن، سأحدثك الآن ليس بلسان الطبيبة، بل من وجهة نظر أخرى، ربما ستبدو خرافية، أو خيالية. حسب ما تقولينه، خاصة وأن الطيف زارك قبل اكتشاف المذكرات، وأنك توضحتِ معالم صاحبته، فعرفتها بمجرد الكشف عن الصورة، وليس العكس هو الذي حصل، وأن صاحب الدار غالبا ما نهاكما عن الاقتراب من البئر، فإن هذا يشير إلى شيء مخفي، وربما، يريد أن ينكشف، لا أدري لم تم اختيارك أنت بالضبط، المسألة خيالية قليلا، وجنونية أكثر، لكنها مشوقة.
لو كنت أنا لنشرتها، ولكن للاحتياط، حاولا الخروج من الدار بعد إعادة المحفظة إلى البئر قبل كل شيء، ولا تنشري القصة باسمك الشخصي، إذ يمكنك استعمال اسمها المذكور، بكل المؤشرات التي تحيل عليها، ولا تنسي أن تقدمي لي المذكرات، وليكن غدا، سأنتظر قدومك، فأنا متشوقة جدا للاطلاع على أمرها.
قالت هذا ثم عدنا إلى موضوع زيارتي إليها، فطلبت مني مفاتحة صديقتي بأمر التجربة، على أن أعود إلى حياتي الجنسية العادية، ووصفت لي دواء مهدئا عقب ذلك، دواء ما إن أتناوله حتى أغفو، فما عادت تزورني سيدة الطيف أبدا.
أيام الأسبوعين الذين تحدث عنهما آنفا، كانا في بداية العطلة الصيفية التي حصلت خلاها على شهادة الإجازة، وإن بهية هي الأخرى قد امتنعت عن العودة إلى منزل أبويها رغم محاولات أخيها البكر المتكررة، أصابتها حمى الهجرة من البادية والاستقرار في المدينة، فاشتغلت كممرضة في عيادة طبية جديدة، وهي في ملكية طبيب شاب علمت أنها تعرفت عليه في الكلية.
كان لقاؤهما الأول ــ كما حدثتني مؤخرا ــ في بداية دراستها العليا؛ ففي أول سنة لها في كلية الطب، كان هو بصدد الاستعداد لمغادرة الكلية، فقد اختار أن يتابع تخصصه في فرنسا، وبعد سنوات عاد طبيبا مختصا في جراحة العظام، فاشتغل في المستشفى الجامعي، كما افتتح عيادة خاصة، أما أنا فنوعت عملي بين العمل الصحفي كهاوية متميزة، ورقن الأبحاث مع صاحبة الوراقة.
ما يعنينا؛ التقينا حين عودتها من العمل مساء، فحدثتها بشأن رغبتي في الانسحاب من تلك العلاقة الحميمية بعد أن شرحت لها كل شيء. لم تعلق بكلمة، ولا قاطعت كلامي منذ نطقت أول حرف، انتظرت حتى إذا ما أنهيت خطبتي فقامت من الكرسي، ودخلت الغرفة بتؤدة، ثم عادت وفي يدها ورقة عرفتها رغم أنها واجهتني بظهرها الأبيض، عرفتها لأننا وقعنا عليها بقبلاتنا المليئة بأحمر الشفاه، وأمامي مزقتها، ثم انفلتت ضاحكة:
ــ هل خفت أن أقتلك؟ سبحان الله؛ كيف اتفقت رغباتنا؟ ولا أنا أريد الاستمرار في هذه العلاقة، لقد راودتني فكرة مخاطبتك في الأمر من قبل، إلا أني تريث قليلا، لقد كانت تجربة رائعة، عرفتنا على حقيقة أنفسنا. ثم إني قد خفت من مفاتحتك في الأمر.
صفا الجو للحديث الشيق الصريح بيننا كصديقتين وأختين، فحدثتني عن علاقتها بالطبيب؛ وأخبرتني أنه قد اعترف لها بحبه قبل أيام، وأنها لم تستطع الرد عليه، بل استمهلته مدة، وذلك من أجل مفاتحتي في الموضوع وأخذ مشورتي.
لم أقدم المذكرات للطبيبة في اليوم الثاني لأننا قررنا الرحيل، فدخلنا في حلقات البحث عن دور الإيجار ثانية، وفي ظرف ثلاثة أيام من البحث الجاد اكترينا شقة صغيرة في الطابق الثالث من عمارة نقية وأنيقة وأغلب سكانها من أسرة التعليم، وتتألف الدار من غرفتين صغيرتين تطل شرفتيهما على الشارع الكبير فتدخل منهما الشمس مساء، بالإضافة إلى بهو الضيافة، والمرافق الأخرى من حمام ومطبخ...
وفي الليلة التي كنا سنرحل فيها نسخت المذكرات مساء، في الوراقة مجانا، ثم أعدت المحفظة إلى مكانها بالبئر، ولأفعل ذلك، فقد غامرت معي بهية مغامرة تيبست فيها أطرافنا، فرفعنا غطاء البئر قليلا، حتى إذا ما تنفس دفعت فيه المحفظة من الفتحة التي انفرج عنها، لكن بهية لم تحتمل الرائحة النتنة التي انبعثت منه فتركت الغطاء من يدها، وسقط على الإسمنت المسلح، فكان لسقوطه صوت مدوي.
أطلت زوجة صاحب الدار من النافذة الفوقية في الوقت الذي تسللنا جاريتين إلى الممر، فشرعت تنادي باسم بهية، لكنني أنا التي ظهرت لها مستفسرة عما تريد وكأن شيئا لم يحدث:
ــ بهية خرجت ولم تعد بعد، هل زوجك هناك؟ لقد نقلنا كل رحيلنا ونريد إعادة المفاتيح إليه.
ــ انتظري سأرتدي ملابسي وأنزل إليك لتسلمه منك، لقد كنت نائمة واستيقظت على سماع ضجة، فظننت أن أحدهم يعبث بغطاء البئر.
ــ لا عليك، أنا سأصعد إليك.
قلت هذا وطرت أطوي السلالم تحتي، حتى لا تنزل هي فتكتشف أن بهية معي في الدار.
في الدار الجديدة الجميلة، بدأنا حياة غير تلك التي عشناها في بيت البئر، فرغم أن صاحب العربة لما عرف عن علاقتي بجمال وعلم أنه ضابط شرطة قد انضبط في معاملتي؛ فلم يعد يتفوه بكلمة معي، إلا أني لم أرتح يوما في ذلك البيت، ولاسيما من طيف المرأة الذي تجاسر علي مؤخرا، ولكني، للصراحة، أحسست كأني قد تركت فيه شيئا مني، وهذا هو حالنا مع كل الأمكنة التي نظن أننا سكناها، لكنها في الواقع هي التي تكون قد سكنتنا.
أرسلت في تلك الليلة كل الفصول التي ترجمت من المذكرات إلى الصحيفة، وقد أرسلتها من البريد الإلكتروني الذي فتحته سابقا باسم تيتريت كما نصحتني الدكتورة، وموقعة باسمها أيضا، أما العنوان فاخترت لها هذا
"حياة غامضة من تاكوست، بقلم الأستاذة تيتريت نبت السماء"
أرسلتها في الوقت الذي ظهر لي في موقع التواصل الاجتماعي أن السيد العراقي مرتبط بالإنترنيت فعلمت أنه سيستقبل الرسالة المراد نشرها في تلك الليلة، وما هي إلا دقائق حتى أرسل إلي رسالة من ذات موقع التواصل الاجتماعي:
ــ مساء النور، عزيزتي الفاطمي، أرجو أن البيت الجديد قد راقكم، لقد علمت بخبره من الضابط جمال، مبارك لكما.
ــ شكرا لك أستاذي الغالي، إنه جميل حقا، ومريح، أرجو أن تزورانا فيه حين تسمح لك الفرصة.
ــ إن شاء الله، عزيزتي، لقد وردني نص مطول قصد النشر، وإن صداعا برأسي منعني من قراءته، أرجو أن تطلعي عليه، حتى إذا ما وافق خط الصحيفة، ولم يتضمن مسا بالخطوط الحمراء فانشريه.
ــ على الرحب والسعة، سأقرؤه وأنشره إن كان ممكنا، وبعدها سأرسل لك خلاصة بشأنه.
ــ لك مني جزيل الشكر، ومبروك لكما البيت مجددا، بلغي تحياتي الحارة إلى بهية، واطلبي منها ألا تنسى الصحيفة من مقالاتها الصحية الرائعة، وحبذا لو تتناول موضوع الآثار السلبية للأجهزة الإلكترونية على صحة المدمنين.
أعددت تلخيصا سريعا، ثم تريثت قليلا إلى أن أحسست أنه قد نام فنشرت الحكاية وأرسلت غليه التلخيص، ثم شاركت ما نشرته في الصحيفة على صفحتها من موقع التواصل الاجتماعي، مع أني لم أنشر عقدها مع صديقتها؛ ففيه نوع من مخالفة قوانين الدولة وتعديا على أصول الشريعة وغير ذلك. ثم تواصلت قليلا مع المدعوة أسيل بن يعقوب، فعرفت أن تيتريت قد كانت مدرسة للغة العربية، وأنها عُرِفت بحبها للمسرح المدرسي، ولكن خروجها من البادية كان ملفوفا بالغموض، غموض استنتجته من كلام أسيل؛ فقد لاحظت أنها تخفي رغبة في التلميح إلى أشياء عدة، ولكنها تستحيي من التصريح بها، ومن ذلك أنها سألتني عن طبيعة علاقتي بصديقتي الموظفة بالبريد، وإن صح أن ابن عمي قد انتقم منا، أو كيف نجونا منه...
استيقظت في حدود الحادية عشر صباحا، وما كنت لأفعل لولا أن جمال قد رن علي في الهاتف مرارا، وهو يريد مقابلتي فورا، لكنني اعتذرت له بكوني سأزور الطبيبة النفسية، فتكلف بنقلي إليها بعد أن دللته على عنوان الدار.
وصلنا العيادة في وقت متأخر بسبب ازدحام الطريق، فصادف دخولنا خروج آخر مريض، واعتذرت لنا المسؤولة على الاستقبال طالبة منا تأجيل الزيارة، لكن الطبيبة ما إن سمعت صوتي حتى دعتنا إلى الدخول من خلف باب غرفة التشخيص، ثم صرفت مساعدتها وجلسنا نحن الثلاثة في قاعة الاستقبال:
ــ مرحبا كيف الحال؟
ــ لا بأس، أعتذر عن تأخري كنت مشغولة بالرحيل، لقد غيرت العنوان.
ــ حسنا فعلت، ما الجديد في حالتكما؟
ــ عادي جدا، تجربة واجتزناها، وربما استمتعنا بها.
ــ جميل، وماذا عن المذكرات؟ والطيف؟
أخبرتها أن الطيف لم يزرني في الدار الجديدة أولا، ثم أخرجت نسخة المذكرات من محفظة الحاسوب، فراجعت معي ترجمة الفصل الأخير:
لما التقينا في الحافلة، لم أعرها اهتماما، جرتني بعفويتها إلى الحديث معها، فاطلعت على قلبها الأبيض النابض بالحب من خلف بسمتها، استقبلناها ضيفة في البيت لثلاثة أيام، لكنها آوتني لثلاث سنوات حين لفظتني الأسرة، وأشار إلي الجميع بسبابة الاتهام.
حينها، لم أستطع إتمام زواجي من عبد العزيز، نعم، لقد أشفقت عليه؛ فقد عاد إلى البلدة واستقر من أجلي، ولكني ما كنت لأحتمل النوم إلى جانبه في السرير نفسه.
لم أجد طريقة لشرح ما كنت فيه، وكل الذي حفظه لساني طيلة الأيام التي حاصرني فيها أهلي من أجل إتمام الزواج وعدم تمريغ وجوههم في تراب العار، كان عبارة
"لا أريد الزواج".
ذهب رأي أمي إلى إمهالي أياما لأرتاح، وأشاع أهل عبد العزيز أن استقلالي الاقتصادي هو الذي فتح عيني، وأنه ما كان عليهم أن يسمحوا لي بإتمام الدراسة من الأول. ومع هذا وذاك، ما عدت أحتمل دخول باب الدار حين خروجي من العمل، أو مواجهة وجوه الأهل التي لم تعد محتملة ولا متحملة وجودي، فقصدت بيت صديقتي الجديدة، الملاك الذي فتح لي أبواب الجنة، حضن دافئ أقرب إلى حضن الأم الجديدة الذي احتضنني من أول ليلة، فنمت في رعايتها؛ تكفكف دموعي وتسمع شكواي، إلى أن نمنا على سرير واحد.
وبمرور الأيام وتعاقب الأحوال استغنيت بتلامذتي وصديقتي عن عائلتي كلها، فما عدت أغادر البيت إلا إلى العمل، وحتى بعد أن اقتنيت سريرا جديدا، لم أستطع النوم عليه وحدي، فعدت إلى جانب الشقراء، عانقتها فقبلتني، ثم...، ولما اعتدنا هذه الحالة، ما عدنا نخجل من أنفسنا، وغالبا ما مكثنا في الدار عاريتين؛ نستحم معا، ونتعانق فننام معا.
ثلاث سنوات من الهناء والمتعة مضت، إلى أن جاء اليوم الذي وجدت فيه عبد العزيز بانتظاري أمام الباب مساء، خفت منه فصحت بأعلى صوتي، لكنه أمسكني مهدئا إياي وخانقا أنفاسي، رأيت في عينيه لهيبا مشتعلا، ما زاد من مخاوفي وأججها فحاولت الإفلات منه، وأحمد الله أن ذلك صادف مرور دورية للأمن فاعتقلته من حينه، وهذا ما زاد الطين بلة؛ فبدأت تصب علي رسائل التهديد المجهولة. ما دفعني إلى طلب انتقال، وقد يسر الله في ذلك صيفا، فالتحقت بثانوية السعادة بمراكش، واكتريت بيتا جميلا(تقصد بيت البئر، حسب وصفها).
انتقلت حبيبتي الشقراء ـ كما أحب أن أدعوها دوما ـ إلى منطقة قروية قريبة من المركز، وكانت تزورني كل نهاية أسبوع، نقضيها في زهو ولهو واستمتاع. ولكن الوضع لم يعد رائقا لي، فقد رأيت زميلات كثيرات مع أولادهن، وعز علي ألا أحصل على صغير من رحمي، تحركت في داخلي أحاسيس الأمومة ولكن الطريقة الشرعية الوحيدة التي ستمكنني من الحصول طفل والتي قد أحفظ بها لطفلي دم وجهه في المستقبل هي الزواج.
وقد بدأت بوادر علاقة طيبة تجمعني بأستاذ للرياضيات، يشتغل معي في المؤسسة نفسها، علاقة تطورت مع الأيام، ووصلت حد زيارته لي في أيام عدة.
صدق من قال "إن أيام الصفاء لا تدوم"، يأبى الزمان إلا أن يعضنا بنابه، ومن ذلك أن صادفت زيارة الأستاذ وجود الشقراء، ولأنه تعود الدخول بمجرد طرق الباب ودفعه معلنا قدومه، فقد وجدنا مستغرقتين في وضعية جنسية صدمته، وهنا بدأت المشاكل، إذ إنه من ناحية قد أذاع خبري بين الأطر العاملة في المؤسسة جميعا، وهي من جهة أخرى لم تطمئن لعلاقتي به، فأرادت توثيق علاقتنا بطريقة لم أستطع مقاومتها، فكتبت على ورقة:
"نعلن نحن الباصمتان بالدم التزامنا في علاقتنا لبعضنا رغم كل الظروف...وأما من خانت منا، فيحق عليها القتل"، ثم غرزت رأس السكين في إبهامي وإبهامها إلى أن سالت قطرات دم، وبها وقعنا على العقد.
وليكتمل المسلسل الدرامي، علمت أن صاحب الدار ممن هاجر قديما من تاكوست، وذلك حين التقيت في الباب بامرأة عرفتها ولم أظهر لها وجهي فلم تتعرف علي، هكذا ظننت، لكن الواقع أنها قد فعلت وكتمت ذلك فلم تبده، ولم أفقه ذلك إلا حين طرق بابي عبد العزيز. ولما لم أستطع دفعه أو رده، فقد دخل عنوة، وفرض علي محاورته، ثم تلتها زيارات عدة، أحسست حينها أن بالإمكان إعادة المياه إلى مجاريها وإصلاح ذات بيننا، ولكنني منعته من أن يذكر لأهلي خبرا عني.
قدر علي أن ألدغ من باب غفلتي عن إقفال الباب مرتين، وفي هذه المرة دخل عبد العزيز، فوجدني في المشهد نفسه مع الشقراء، حينها انهرت تماما، وما عدت أحتمل ما وصلت إليه، ولا هو، ولا شقرائي احتملا الصدمة، ولم يفهم أحدهما من الأمر شيئا.
أما أنا، فكنت أؤجل فقط، ولم أكن قادرة على الحسم بين إن كنت سأستقل قطار الزواج أم أستمر على خطى السحاق، لم أستطع التخلص من المتعة التي أجدها مع حبيبتي، ولا الكف عن مراودة حلم الحصول على حياة سوية مستقرة.
لن أصف ما حصل بعدها، ولكن الأهم أنهما خرجا غاضبين معا، ولم يبق في أذني إلا وعيدهما معا، فقد صرت في نظرهما أصل الخيانة والنجاسة. لم أرد على أحدهما ولم أحرك ساكنا حتى، تمددت في مكاني عارية، أنتظر قضاء قاصما أو يقظة من كابوسي على يوم الحشر.
لكن أيا من ذلك لم يحصل، ولذلك قمت من مرقدي محاولة الاستنجاد بالفراغ، وسجلت في هذه المذكرة كل شيء، والآن، أنا أختمه في آخر الليل، وكلي رغبة في الانتقال إلى مكان لن يعلم بوجودي فيه أحد.
ولما رتبت الأوراق المنسوخة في يدي أخيرا، أخبرتها عن آثار الدم التي وجدت على غلاف المذكرة، فحك الضابط جمال رأسه، وقال:
ــ إني أشم رائحة جريمة.
لم يرد عليه أحد إلا بتحويل أعيننا نحوه، ولكن الطبيبة اقترحت الاطلاع على المذكرة الأصلية علها تجد دليلا يشير إلى نفسية متأزمة قد تدفع إلى الانتحار، أو ما شابه، كما أبدى الضابط رغبته في ذلك هو الآخر، فقصدنا الدار القديمة بعد أن تناولنا وجبة الغذاء جميعا في مطعم يبيع الوجبات السريعة، ليس ببعيد من العيادة.
طرقنا الباب ووقفنا منتظرين، وأطلت علينا السيدة من نافذة الدار، ثم نزلت بعد أن عرفتني، ولما طلبنا منها السماح لنا في ما جئنا من أجله، رفضت متحججة بكون زوجها غير حاضر، فصدقناها مرغمين رغم سماعنا صوت سعاله حين طرقنا الباب.
أطلعت جمال على صور المرأة التي نسخت ونشرت في حسابها على موقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى الحوار الذي دار بيني وبين أسيل، فزاد إصراره على معرفة ما تخبئه تلك البئر، وفي الليل أخبرني أنه راجع أرشيف السنوات العشرين الماضية، وأنه قد عثر على إعلان باختفاء شخص، يعود إلى عشر سنوات مضت، وهو مسجل باسم والدة المدعوة تيتريت أو النجمة، واسمها العائلي هو آيت سعيد.
وفي غده حصل على إذن من النائب العام بالمحكمة بشأن تفتيش البيت رقم 122 الممر الثاني بشارع القرويين حي الصمود، التابع للدائرة الأمنية العاشرة صبيحة الثلاثاء الحادي والعشرين لشهر يوليوز 2017. وفي ذلك المساء قصدت السيد العراقي وأخبرته بكل شيء، ثم اعتذرت له عن إخفاء مصدر النص الذي نشرناه باسم تيتريت، وقد تفهم مخاوفي وتحمل كذبي بكل أريحية محذرا إياي من تكرارها، وبسرعة نسقت معه ومع السيد جمال على أن أتكلف بتغطية الحدث، لأعد تقريرا حصريا للصحيفة حول الموضوع.
لما آويت إلى الدار ليلا كنت في حالة من الإعياء بحيث لم أستطع المشي على الأرضية بقدمين حافيتين فوضعت رجلي في ماء دافئ ومملح، ثم حدثت بهية في الأمر، لكنها لم تعرني اهتماما، ولكنها بالمقابل أخبرتني أنها اتفقت والطبيب حبيبها الجديد أو القديم على تحديد الصيف المقبل موعدا لزفافهما، بعد تخرجها طبعا، وأنها ستحزن لتركي وحيدة حينها، وأننا سنبقى مرتبطين بحبل الصداقة دوما، ومهما كانت الظروف، فبادلتها الشعور نفسه بعد أن باركت لها.
لم يطل حديثنا فولجت غرفة نومي ففتحت الحاسوب لأطل على صفحة تيتريت في موقع التواصل الاجتماعي، فوجدت رسائل عدة، لكن أهمها ما كتبته أسيل:
ــ أهلا أستاذتي، هذه صورة جماعية، لتتعرفي علي جيدا، وجدتها ضمن صور الأرشيف، أنا الثالثة على يمينك، للأسف لا يظهر التاريخ أعلى السبورة، وأنا أيضا لا أذكر متى أخذناها بالضبط، لكن الظاهر أنه جو ربيعي، فملابسنا تبدو خفيفة، أرجو أن تجدك رسالتي بأمان.
ضغطت على أيقونة الصورة فكبرت إلى أن شملت شاشة الحاسوب كاملة، فتعرفت على تيتريت من أول نظرة، عينان غارقتان في الحزن، لكنها تتعمد اغتصاب بسمة من أجل الصورة، وبعد ذلك اطلعت على التعليقات التي كُتبت تحت نص الحكاية كما نشرتها في الجريدة، وما إن قرأت بعضها حتى بهتتني، ما هذا الكم من التعليقات في هذا الظرف القياسي؟، لم أستطع قراءتها جميعا، وقلما أتممت تلك التعليقات التي أسعد أصحابها أن يقرأ قصة ممتعة جيدة الحبكة أو ما إلى ذلك، في حين استوقفتني تعليقات تحمل طابع التهديد بالتصفية، حاولت تصنيفها فتعبت من الاشتغال عليها إلى آخر الليل، ولكني خلصت إلى أن أغلبها يستنكر تمجيد الشذوذ الجنسي ويرفض ذهاب السارد نحو تلميع البطلة الشاذة جنسيا، وأن ذلك يخلق رأيا عاما متواطئا وغير ذلك.
لكني لم أهتم بهؤلاء جميعا، فالذي همني وشغلني أكثر هو تعليق تائه بين ركام ما كتب، وقد جاء هكذا
"مبروك لكم سكان جهنم، متى تم ربط الجحيم بالإنترنيت؟".
خمنت على الفور أن صاحب هذا التعليق لا بد يعلم بموت تيتريت، ولكني لم أستطع تعرف صاحبه، لأن نظام الصحيفة يسمح لكل شخص أن يعلق مع إمكانية التنكر في اللقب الذي يشاء، وصاحب هذا التعليق مسجل باسم أيور سيد السماء. ولما تعبت من محاولة فهم ما ترمي إليه بعض التعليقات المبطنة نمت مرهقة.
لما جاء السيد جمال إلى مخفر الشرطة حيث يشتغل ومعه الإذن، وجدني في انتظاره بالباب، فحياني ضاحكا من الشارة التي علقت بعنقي:
ــ أهلا صحافيتنا المعتمدة، يبدو أنك ترقيت.
ــ صباحك سيدي، أنا الآن صحافية ودليلكم أيضا، ودوني لا يمكن فعل شيء.
ابتسم لكلامي، ودعاني للدخول إلى مكتبه، وهناك نادى على ثلاثة من رجال الشرطة، فحدثهم عن المهمة، ثم انطلقنا في سيارة الشرطة قاصدين حي الصمود.
كتبت في التقرير واصفة ما حدث:
"... فتحت السيدة العجوز ويداها مطليتين بالطين والتراب، فطلب منها ضابط الأمن السماح بتفتيش الدار شاهرا في وجهها إذنا من الوكيل العام بذلك، فتنحت جانبا الضابط إلى جانب ثلاثة من رجال الشرطة، قصدوا موقع البئر مباشرة، فوجدوا أن غطاء المكعب الإسمنتي المذكور آنفا مفتوح، والمكعب نظيف تماما ومملوء ماء، أما براميل المشاتل المذكورة آنفا، فغير موجودة بالمرة، بحثت باعتباري شاهدة أساسية عن الشتائل فرأيتها قد غرست في الأرضية التي نبشت حديثا، ولولا الماء الذي سقيت به لبدت كأنها مزروعة من زمان.
فتش رجال الشرطة الغرفتين والمرحاض والمطبخ، فلم يعثروا على أثر للمذكرات أو ما كان برفقتها.
أومأت إلى الضابط جمال بفرك شاربي وذقني ففهمني، وسألها عن زوجها، ولما أخبرته أنه في نائم في الدور الفوقي ناداه ثلاثا، لكن لا من يجيب، فصعدوا درجات السلالم ببطء، وجدنا الباب مفتوحا فدخلنا بحذر، بدت لنا ثلاثة أبواب مشرعة، وبابين مقفلين، فتش رجال الشرطة الغرف المفتوحة بأمر من الضابط، فقصد كل منهم غرفة، ولما لم يجدوه، دفعوا الباب الأول لنعرف أنه باب مرحاض وهو فارغ، أما الثاني فكان مقفلا، وتأكدنا أنه باب المطبخ.
تشمم أحد رجال الشرطة رائحة غاز البوتان منبعثة من خرم المفتاح، فأدرك الجميع أن الأمر يتعلق بقتل أو انتحار، وفعلا، لما ركل الباب مرتين أو ثلاث انبعج وانهار، ليتكشف لنا منظر مؤلم؛ السيد صاحب الدار جالس على كرسه، مسندا رأسه على الثلاجة، والريق مزبد في زاويتي شفتيه، أما رائحة الغاز المنبعث من الموقد فتزكم الأنوف، فسارعنا بفتح النوافذ، وأطلقت السيدة التي التحقت بنا بعد سماع وقع الركلات صرخة تشققت لها الجدران.
تم إسعافه أوليا بإنزاله إلى الفسحة الترابية، حتى يحصل على أكبر كمية من الهواء، في انتظار قدوم سيارة الإسعاف التي نقلته على وجه السرعة إلى المستعجلات، وفي انتظار تماثله للشفاء سنوافيكم ببقية الخبر."
تسارعت الأحداث وتحولت قصة تيتريت إلى محط انتباه الصحافة الوطنية، ما زاد الضغط على رجال الأمن.
وفي ثالث يوم من هذا الحادث تم استدعائي إلى خلية التحقيق الإلكتروني الجنائي، وهي بناية لا يذهب ظن المارة بجانبها أنها للشرطة؛ لا يرتدي من يشتغل بها زيا رسميا ولا موحدا، وإنها أشبه بمختبر إلكتروني، دخلت برفقة أحد الضباط إلى قاعة مليئة بالأجهزة الإلكتروني، ففتحنا حسابات تيتريت على مواقع التواصل الاجتماعي التي سجلتها سابقا.
قاموا أولا بمقارنة صورة تيتريت التي عندهم في قاعدة البيانات الشخصية للمواطنين بالصور الأربعة التي حصلت عليها، وبسرعة تأكدوا من أنها تعود لنفس الشخص باختلاف بسيط في الملامح، اختلاف ناتج عن تفاوت سنوات التقاطها، ثم دخلوا حسابات كل الذين استضفتهم على صفحاتها.
ولما كانت أسيل هي أكثر من تواصلت معه باسم تيتريت فقد ركزت الخلية التحقيق حولها، ولما عرفوا رقم هاتفها خاطبوها، فامتنعت عن تقديم أي مساعدة في البداية متعللة بكونها ربة أسرة، وتفضل تجنب المشاكل، وتحت محاولاتنا المتكررة جادت ببعض المعلومات التي قادت إلى معرفة ابن عمها، فتم استدعاؤه واعتقاله في تاكوست، وانتظرنا نصف ساعة لنعلم أن أمن تلك المنطقة بصدد الحصول على إفادته.
أحسست بضغط رهيب للوقت مع ازدحام الأحداث، وبعد مرور تمام الساعة وصلنا محضر رقمي بأهم أقواله وإفاداته، وهذا ما جاء فيه:
"يوم 24 يوليوز 2017 تم الاستماع إلى المدعو عبد العزيز بن عيسى، وهو مواطن مغربي من مواليد 1969 متزوج وأب لطفلين، بشأن قضية تيتريت آيت سعيد التي توصلنا بتفاصيلها من مقر مديرية أمن مراكش، وقد أفاد بكونه خطب المذكورة قبل سنوات نسيها بالتحديد، وأنها قد امتنعت عن الزواج منه، وبعد حصولها على الوظيفة انتقلت إلى مراكش، ولأنه كان مولعا بحبها فقد حاول معها مجددا فكان يزورها في بيتها بمراكش دون علم أهله، إلى اليوم الذي دخل بيتها وقد وجده مفتوحا، وسمع صوت اللهاث فظن سوءا قد حدث لها. إلا أنه قد تفاجأ وصدم لما وجدها في وضعية جنسية شاذة ومخلة مع صديقتها، وهي موظفة في البريد، وقال إنها تدعى ياسمين، ولا يعرف اسم نسبها، ويقر أنه قد خرج غاضبا إثرها، إلا أن خيط الهوى كما جاء على لسانه، قد جره مرة أخرى بعد أيام فلم يجدها، ولما سأل صاحب الدار الذي تعود جذوره هو الآخر إلى تاكوست، أخبره أنها قد غادرت تاركة كل شيء خلفها، فبحث عنها في المؤسسة التي كانت تعمل بها ولم يجدها هناك أيضا، ومع مرور الأيام نسيها تماما، وأسس حياته من جديد."
تشابكت خيوط الحكاية وتعقدت، ومنعت من نشر ما جاء في المحضر حرفيا، إلا أني استلهمت محتواه فنثرت مضامينه في أول مقالة ستروق بنيتها للسيد العراقي، فهنأني على التطور الملحوظ داعيا إياي إلى السير على نفس النهج من التطوير الذاتي.
هاتفت أمي بمجرد عودتي إلى البيت وطلبت دعواتها كما تعودت مؤخرا، دعواتها التي أحس أنها ترافقني دوما في كل خطواتي، وتيسر لي طريقي وتذلل أمامي الصعاب، وقد تسنى لي أن أكلم جميع أهل الدار لأنهم كانوا مجتمعين جميعا في الحديقة الخلفية، مستمتعين ببرودة الجو، وهاربين من حر الإسمنت، فتذكرت تلك الأمسيات الصيفية التي كنا نقضيها هناك، كانت كلها مرح وطرب وحكايات، فهزني الشوق والحنين، وعزمت على زيارتهم بمجرد انتهاء قضية تيتريت.
ذهبت مجددا إلى هيئة التحقيق دون استدعاء لأخبرهم بشأن ذلك التعليق الذي كتبه المدعو أيور سيد السماء، فعرفنا أنه يعود لامرأة، وليس لرجل رغم أن كلمة أيور مذكرة في الأمازيغية، وتعني القمر، ولحق بي الضابط جمال بعد أن علم مكاني، فاصطحبني إلى بيت البئر، وفي الطريق أخبرني أن صاحب الدار قد تعافى نسبيا وأنه قد خرج من غرفة الإنعاش، وقد أشار إلى أن جثة ما مخمرة في البئر، وأنهم ذاهبون لحفره وانتشال الجثة.
بدأت عملية نزع الإسمنت المسلح بحذر بعد أن هدموا جدران المكعب الإسمنتي، لأن مساحته الأصلية لم تكن معروفة، وإذن فقد خُشِي أن ينغرس أحدهم فيه، فبدؤوا بنبشه من الأطراف، ثم نزعوا السطح الإسمنتي كليا فانبعثت رائحة كريهة جدا، اضطرتنا الرائحة إلى الخروج والمراقبة عبر كاميرا معلقة ومرتبطة بسيارة الشرطة الكبيرة فقط، في حين تكلف بأمر الحفر رجال مقنعين ومجهزين، ومن السيارة المركونة بباب الدار كنا نشاهد عبر الكاميرا، فبدأ تفريغ الماء الأسود قليلا مع تصفيته، فكانت تعلق بين الحين والآخر بعض العظام الطويلة في المصفاة، ثم ظهرت جمجمة بشرية في الشبكة، ورفعها الرجل إلى مستوى الكاميرا فظهرت بشكل مقزز، وهكذا استمرت العملية لمدة طويلة، وأثناء إخراج الرفات قصد تقديمه إلى المختبر العلمي تجمهر عدد غفير من الناس عند الباب.
زمجرت سيارات الشرطة وسيارة الإسعاف مغادرة المكان غاصا بالمتفرجين، وركبت إلى جانب الضابط جمال قاصدين المخفر، وفي الطريق نمقت مقالة تلقفها القراء بسرعة، وحصدت عددا من المشاركات بين الجرائد ما جنت منه صحيفتنا مبالغ مهمة.
وبعد تعافي صاحب الدار تم الاستماع إليه، فاعترف بأنه قد شارك في إخفاء جريمة قتل شنيعة، وساهم في التمثيل بجثة المقتول، ولكنه ليس القاتل، مقرا بأنه في يوم ما، ما عاد يذكره بالتدقيق، دقت باب بيته امرأة شقراء، وقد تعرف عليها فإذا هي صديقة نجمة، وكان بيدها سكين لتقطيع الخضر وهو ملطخ بالدم، فرجته أن يسرع ليساعدهما في ذبح دجاجة، قالت ذلك وهي تضع السكين في يده، فقابل خوفها ضاحكا، ونزل خلفها ليجد أمامه جثة ملطخة بالدماء، وسبقت غايته بمكيدتها فأعلنت بلسان الشيطان أن الدليل بيده، وأنه لا أحد سيخرجه من دائرة الاتهام إن مل يختر المشاركة والصمت، ثم بعد أخذ ورد أقنعته أن يخفيا جريمتهما ويقبرا ضحيتهما في البئر الذي كان حينها مرحاضا غير مستعمل، فتكلفت هي بتقطيع أطراف الجثة ودفعها عبر الثقب، في حين التزم هو بطمس المعالم، وقد صادف ذلك أن زوجته كانت غائبة مع أبنائهما لحضور مناسبة عائلية، وعاد هو قبلهما لأمر مقدر، وأنه كان يكن حبا خفيا حارقا للسيدة الشقراء التي كانت تفتنه بقوامها، فاشترط أن يضاجعها مقابل ذلك كله، فأنالته من نفسها، ولكنها صوَّرته بكاميرا هاتفها، لتضم إلى جريمته الأولى جرما موثقا، ما ألجم فمه وأخرسه، وقد امتنع عن إيجار داره سنين طويلة، إلى أن انقطعت علاقته بالسيدة الشقراء ياسمين، ولما أذن الله بكشف المستور، فقد جرى لاهثا ليقدم الدار لطالبتين نباشتين.
وهكذا، تسلطت أضواء البحث على السيدة، فعلموا أنها قد حصلت لتوها على رخصة من عملها، وأنها تعد الوثائق لمغادرة البلاد في رحلة سياحية، فتحركت المساطر الإدارية، وأصدرت في حقها مذكرة توقيف وطنية، ومنع من مغادرة التراب الوطني، وفي الغد اعتقلت في ميناء طنجة الدولي واقتيدت إلى مراكش، وهناك اعترفت بالمنسوب إليها، وأنها غير نادمة على فعلتها.
بهذا ختمت المقالة الأخيرة من التقرير، وفي الليل احتفلنا نحن الخمسة بفك خيوط الجريمة، فاستضافنا الضابط جمال على حفل عشاء باذخ، وفيه أعلن الطبيب خطبته لبهية أمام الملأ وتحت تأثير النبيذ، وقد منعت الضابط جمال من التشبه بفعله، وطلبت منه تأجيل الأمر، أقلها بانتظار إتمام جلساتي مع الطبيبة النفسية.
زارني طيف تيتريت في تلك الليلة؛ رأيتها من شباك البيت، ولأول مرة رأيت على وجهها بسمة الرضا، لوحت لي بيدها وتبددت في الأفق، ثم برقت لي نجمة في السماء كأنها تغمزني.



#محمد_شودان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء الفصل الثاني
- رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء الفصل الأول
- تبخيس الثقافة
- الأحزاب الإسلامية والديمقراطية
- الخمار قيد في رأس المرأة
- الحمار العربي
- عربي أنا
- سيناريوهات تشكيل الحكومة المغربية
- نار تحت البرقع
- انتهى الكلام,,, إلى مزبلة التاريخ
- حربائية بنكيران
- مشروع متحف
- النظرية الثورية عند امرئ القيس
- مارطون تشكيل الحكومة المغربية
- نبوءة الشاعر
- شرارة شباط
- الدين والفلسفة
- في ظلال ما قبل الإسلام
- حلب وإعلام البيترودولار
- الحاجة إلى الوعي بالذات الجماعية


المزيد.....




- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد شودان - رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء. كاملة