أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسني إبراهيم عبد العظيم - تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4/4 (*)















المزيد.....


تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4/4 (*)


حسني إبراهيم عبد العظيم

الحوار المتمدن-العدد: 5507 - 2017 / 4 / 30 - 10:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4/4 (*)


رابعا: المقاربة السوسيو أنثروبولوجية وجدلية العلاقة بين الثقافة والألم

تبين لنا مما سبق أن النظريات البيولوجية والطبية التقليدية قد هيمنت على تفسير ظاهرة الألم الإنساني، وركزت على الأبعاد العصبية والفســيولوجية في تشخيصه وعلاجه، وأن الطب العلمي قد حصر خبرة الألم في بعدها العضوي باعتبارها نظاما معقدا من الإشارت العصبية، بدلا من النظر إلى هذه الخبرة كظاهرة اجتماعية تتشكل وفق سياق اجتماعي - ثقافي محدد. (Bendelow and Williams 1995a:139)

ولقد أدت القسـمة الديكارتية Cartesian Split (الضيزى) بين الجسـد والعقل، والتي اختزلت الألم في بعده العضـوي الطبي، وما تبعها من رؤى فسـيولوجية صارمة إلى تشـكيل عائق صلب أمام مزيد من الفهم الملائم والشامل للألم، ومن ثم تم التعامل مع الألم كظاهرة حسـية يمكن دراسـتها موضوعيا وفق مقاييس طبية وعقلية فقط. (Bendelow and Williams 1995b:84)

غير أن ثمة عوامل أخرى مغايرة ساعدت على فتح المجال أمام الدرس السوسيولوجي والأنثروبولوجي والفلسفي لاستيعاب الألم وفهمه كخبرة اجتماعية يومية، وليس مجرد مشكلة طبية، وهذا ما سنعرضه فيما يلي.

1- العوامل الممهدة للتحليل السوسيو – أنثروبولوجي للألم:

من أبرز العوامل المؤثرة في حضور التحليل السوسيو – أنثروبولوجي للأم ذلك الإسـهام الرائد الذي قدمه كل من (ميلزاك) و (وول) في نظرية بوابة التحكم، والجهود الكبيرة لعالم التخدير الأمريكي (جون بونيكا) Bonica الذي أكد على الفهم التكاملي للألم، وطبق ذلك بنفسه في مراكزه الطبية المتعددة، وانبثاق جدل علمي متزايد داخل المراكز الأكاديمية والعلاجية المنشغلة بالألم حول أهمية الأبعاد النفسية والثقافية في التعاطي مع الألم، واتجاه الكثير منها نحو تثمين دور العوامل الاجتماعية والســلوكية في تجربة الألم. (Bendelow and Williams 1995b:84 -85)

ومن تلك العوامل أيضاً بزوغ نظامين معرفيين جديدين وواعدين في علم الاجتماع، وهما سوسيولوجيا الجسد Sociology of the body وسوسيولوجيا العواطف Sociology of emotions . اللذان كان ظهورهما انعكاسا للتحول في مسار النظرية السوسيولوجية - منذ ستينات القرن الماضي - من الاتجاهات البنائية الماكروسكوبية الكبرى، إلى الاتجاهات الميكروسكوبية التي تؤسس لرؤية جديدة يبرز فيها الفاعل ِAgent مؤثرا في البناء Structure بما يقوم به من ممارسة practice واعية وفاعلة، ولم يعد خاضعا لذلك البناء كما تبنت ذلك الاتجاهات الوضعية والبنائية الكلاسيكية.

فسوسيولوجيا الجسد على ما يقرر (تيرنر) لعبت دورا مهما في تطور النظرية السوسيولوجية بشكل عام، وعلم اجتماع الصحة والمرض بوجه خاص، حيث وفرت من خلال فينومينولوجيا الجسد منظوراً متطوراً حول قضايا مثل الألم، والعجز والموت، وعمل ميرلو بونتي Merleau-Ponty بمنظوره الفينومينولوجي على تجاوز ثنائية العقل/ الجسد التي أسسها ديكارت والتي أعاقت المقاربة السـوسـيولوجية للقضــايا الجسـدية بوجه عام . (Turner 2008:51-52)

أما سـوسيولوجيا العواطف، فتتناول العواطف الإنسانية انطلاقا من المنظور السوسيولوجي، وتحريرها من الفهم السيكولوجي المنفرد، فمع أن دراســة العواطف ظلت لفترة طويلة موضوعاً أساسياً في التحليل السيكولوجي، إلا أن علماء الاجتماع اهتموا في السنوات الأخيرة بالجوانب الاجتماعية للتعبير العاطفي، حيث تناولوا الوظائف الاجتماعية له، وكيف تسهم العوامل الاجتماعية والثقافية في صياغة التعبير عن العواطف، وذهب علماء الاجتماع إلى أن العواطف تمثل حلقة الوصل بين المجتمع و المجالات الأكثر شخصية في التجارب الفردية، كما أنها تجمع بين الجوانب العضــوية والعقلية للوجود الإنساني، بالإضافة إلى أن دراستها تمثل قضية أساسية فيما يتعلق بفهم العلاقة بين العقل والجسد. (Freund 1990:453)

فالعواطف مثلها مثل الألم تقع في منطقة التماس بين العقل والجسد، بين الثقافة والبيولوجيا، وتعد أمرا حاسما في الوجود الإنساني نظراً لوظيفتها المرتبطة بالإشارة للخطر وغيره من العمليات، وتتشابه العواطف مع الألم كذلك في عدم قابليتها للاختزال في البعد العضوي فقط، وإنما ينبغي أن تُدرس في السياق الاجتماعي والثقافي. (Bendelow and Williams 1995b:90)

ويؤكد (تيرنر) على ذلك الارتباط بين سوسيولوجيا الجسد وسوسيولوجيا العواطف، وما يمكن أن نسميه سوسيولوجيا الألم Sociology of Pain فيقول إن العلماء إذا أدركوا الألم كحالة عاطفية، فإنهم سيقبلون على الفور فكرة أن الشخص هو فاعل متجسد لديه استجابات اجتماعية وعاطفية مؤثرة وقويـة لحالة الألم، وسيمَكِّنهم ذلك من الالتفات للجوانب المسكوت عنها في علم اجتماع الصحة والمرض من أن نظرية الجسد تعد شرطاً ضرورياً لفهم الألم كعاطفة في سياق اجتماعي محدد. (Turner 1992:169)

كذلك لعبت حركـات رعايـة المحتضرينHospice Care movements التي تطورت بشــكل لافت منذ منتصف القرن التاسع عشر دورا بالغ الأهمية في لفت الانتباه نحو البعد الاجتماعي والروحي للألم، وتخفيفه لدى المرضى بأمراض لا يرجى شفاؤها. إن فلسفة رعاية المحتضرين تنظر للموت باعتباره المرحلة الأخيرة للحياة، إنها تؤكد على الحياة، ولا تستعجل الموت ولا تعمل على تأجيله، وتهتم عملية رعاية المحتضرين بالشخص أكثر من اهتمامها بالمرض، وتعمل على إدارة الآلام التي يكابدها المريض في أيامه الأخيرة، ليتمتع في تلك الأيام بالعيش بكرامة ورفاهية، محاطا بعائلته وأحبائــه، إن رعاية المحتضر تتم حيثما يظن بعض النــاس أن كل شئ قد انتهى. (American Cancer Society 2014:1)

والحق أن رعاية المحتضرين هي عملية إنسانية وأخلاقية، تركز على الرعاية لا على الشفاء focuses on caring, not curing ولا تنحصر تلك الرعاية في مكان بعينه، فقد تتم في منزل المريض أو أحد المراكز الطبية، أو أي مكان آخر ملائم، وتتاح خدمات الرعاية لكل المحتضرين بصرف النظر عن نوع المرض أو العمر، أو الدين أو السلالة. (National Hospice and palliative care organization 2012:3)

واستنادا لما سبق فلقد بدا من الأهمية بمكان ضرورة حضور التحليل السوسيولوجي – الأنثروبولوجي للألم، الذي يستوعب العوامل العضـوية الفســيولوجية ويتجاوزها إلى آفاق أرحب وأعمق، ويطرح تفسـيرات علمية للأبعاد الاجتماعية والثقافية المرتبطــة بالألم، والتي يعجز النموذج الطبي عن تفسيرها واستيعابها.

2- التحليل السوسيو – أنثرووبولوجي: وجدلية العلاقة بين الثقافة والألم

يؤسس "موريس" Morris ابتداءً للرؤية السوسيولوجية والأنثروبولوجية للألم في كتابــه ثقافـــــة الألم The culture of pain الصادر في عام 1991 بقوله إن الألم ليس مجرد ظاهرة فسيولوجية وتشريحية فقط، وإنما هو نتيجة التفاعل بين العقل والجسد والثقافة. ويؤكد أن النظرية الطبية أهملت جوانب مؤثرة في تحليل الألـــم تتعلق بأن الألم يتم تشكيله وتقييمه وفق عناصـــــر ثقافيــــة محــــددة. (Bendelow and Williams 1995a:139-140)

ويؤكد "موريس" المعنى السابق في موضع آخر إذ يقول: (إن الألم – وبخاصة النمط المزمن منه – لا يعد ظاهرة عضوية وعصبية عبر جلدية Transdermal فقط، وإنما هو ظاهرة وثيقة الصــلة بالبيئة الاجتماعية والثقافية، إن مفاهيمنا عن الألم، والضعف والعجز، تتضمن عوامل اجتماعية لا تقل في أهميتها عن العوامل العضوية، والحاصل أن الممارسة السريرية (الإكلينيكية) عندما اهتمت بالعوامل البيئية اختزلتها في ثلاثة عوامل رئيسية وهي العمل، الأسـرة، وتعاطي المخدرات، بيد أن ذلك الثلاثي رغم أهميته قد يكون مجرد ظـل خفيف لمزيج أكثر عمقا من المتغيرات الاجتماعية والثقافية. إن القضية المحورية في هذا السياق هي ما إذا كانت البيئة الاجتماعية – الثقافية تؤثر Influence في الألم الذي يوجد بالفعل كظاهرة عضــوية خالصة، ومن ثم تعمل على تقليله، أم أن هذه البيئة تتجاوز مجــرد تخفيف الألم، لتساعد في بناء الألم وتشكيله Construct؟ (Morris 2010:133)

والحقيقة أن الفـرق شاسع كما يرى "موريس" بين التأثير Influence والتشكيل Construction فيما يتعلق بفهم الألم، والتعاطي معه، فنظرية التأثير ترى أن الألم ظاهرة مستقلة عن العوامل الاجتماعية – الثقافية، ولا يتعد دور هذه العوامل أن تكون مجرد محفزات triggers لتخفيف الألم. وترى هذه النظرية تبعاً لذلك أن الجــهاز العصـبي للفرد وحـــده هو الذي يوَلِّد الألم، وبالتالي فالألم حدث جسدي خالص تضفي عليه البيئة الاجتماعية الثقافية مجرد تعديلات modifications تصـبغه بصبغة محلية local color، مثل قمع الأم لصـراخها أثناء الولادة، بيد أن البيئة الاجتماعية لا تلعب دورا في تشكيل الألم. أما نظرية تشكيل الألم – التي يتبناها موريس - فعلى النقيض من نظرية التأثير، ترى أن الألـم الإنساني يحدث فقط عندما يصطدم الجهاز العصبي الفردي بعوامل اجتماعية – ثقافية معقدة، إن دور البيئة الاجتماعية – الثقافية أكبر من مجرد تحفيز أو تخفيف الألم أو صبغه colored بصبغة معينة، وإنما يتحدد دورها في تشكيل الألم ذاته. (Morris 2010:133-134)

واستنادا لرؤية "موريس" يرى الباحثون في سوسيولوجيا الألم أن الاختلاف بين النظرة الطبية للألم والنظرة السـوسيو – أنثروبولوجيــة له تكمن في الاختلاف بين رؤية الألم (كـإحساس) pain as sensation ورؤيته (كعاطفة) pain as emotion وهو مفهوم أكثر ديناميكية من الإحساس، فكما رصدنا في صدر هذه الدراسة ينظر النمـوذج الطبي، وهو النموذج المهيمن في تفسـير الألم، والذي يتم تدريسـه لطلاب الطب، للألم على أنه إحســاس ينتقل عبر مستقبلات الألمpain receptors في الجلد إلى مركز الألم في المخ. أما الرؤية السوسيو- أنثروبولوجية للألم فقد لخصـها "ميلزاك" و "وول" Melzack & Wall بقولهما: إن كلمة ألم تمثل طائفة من الخبرات المختلفة والفريدة التي تتأثر بقوة بالبيئة الاجتماعية الثقافية التي تتضمن مجمل العوامـل الاجتماعية والسلوكية والثقافية. (Bendelow and Williams 1995a:142)

والواقع أن البيئة الاجتماعية – الثقافيــة لا تعني فقط وفق التحليل الأنثروبولوجي الأماكـن أو المواقـع الماديــة التي توجــد خارج نطــاق الذات، ولكنها تتضمن أيضا تلك الوقائـع والعمليات المحيطة بنا في عالم الحياة، والتي تم استدماجها Internalized داخل الذات، وتتجلى في حالة الجســد والعقل والعاطــفة. هذه الحالات تبقى حيــة في الذاكـــرة حتى عندما يغير الناس أماكــنهم. إن الألم باعتباره حالة عقلية جسدية لا ينفصم inextricable أبداً عن السياق الاجتماعي الثقافي الذي يسهم في تشكيله. (Morris 2010:135)

والسياق الثقافي بدوره لا يسهم فقط في تشكيل التفسيرات والمعاني التي نعـــزوها للألــم، وإنما يعمل كذلك على صياغة الاستجابة له على نحو معين، فعلى الرغم من أن الأفراد يختلفون فيما بينهم في طرق استجابتهم للألم، إلا أن الوقائع تؤكد أن تلك الاستجابة أمر يمكن التنبؤ به استناداً لعضوية الأفراد في الجماعة الاجتماعية، واستناداً أيضاً للمعاني الاجتماعيـة التي تُعزي للألم والتي يقوم أعضاء الجماعة بمشاركتها فيما بينهم. (Bendelow and Williams 1995a:156-157)

إن الثقافة كما يفهمها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ليست مجرد عنصر (براني) مفارق للذات الإنسانية، كعناصر الطقس والمناخ مثلاً، وإنما هي عنصـر (جواني) متغلغل في عمق الذات الإنسانية، وتتجلى تأثيراتها في كل المواقف الإنسانية التي يعيشها الفرد، إن الثقافة بهذا المعنى ليست مجرد فضاء يعيش فيه الإنسان، بقدر ما هي حقيقة تعيش في الإنسان وتوجه سلوكه حيثما وُجد.

والحق أن ثمة دراستين كلاسيكيتين شهيرتين لـكل من "مارك سبوروفسكي" M. Zborowski عام 1952 بعنوان المكونات الثقافية للاستجابة للألم Cultural Components in Responses to Pain، و(إرفنج زولا) I. Zola عام 1966، بعنوان الثقافة والأعراض Culture and Symptoms مثلتا فتحاً مبيناً لتحليل الأبعاد الثقافية للألم في إطار الفضاء السوسيولوجي والأنثروبولوجي الرحب.

فقد كشف "سبوروفسكي" الدور الذي تلعبه الأصول العرقية - الثقافية في تقبل الألم وتحمّلُه، ففي هذه الدراسة التي أجريت على عينة من الأمريكيين القدامىOld Americans وعينة أخرى من أمريكيين من أصول يهودية وإيطالية، تبين أن الثقافتين اليهودية والإيطالية تطرحان إطارا محددا في التعامل مع المرض، يختلف عما تطرحة الثقافة الأمريكية، فالثقافتان اليهودية والإيطالية تسمحان للفرد بالتعبير الحر عن مشاعره وعواطفه بالكلمات والإشارات كما تسمحان بحرية التعبير عن الألم والمعاناة من خلال البكاء والأنين، فلا مجال للخجل من الشكوى، ويلاقي المريض بذلك تعاطفا من أفراد أسرته. أما الثقافة الأمريكية الحديثة فإنها تتعامل مع المرض بصورة موضوعية صارمة من خلال التحديد العلمي الدقيق له، ويتحاشى المريض إظهار الشكوى والمعاناة؛ لأن ذلك يتناقض مع المعايير الثقافية المرتبطة بقوة الرجل وقدرته على التحمل. (Zboroweski 1952: 16)

ولاحظ (سبوروفسكي) أيضا تباينا في الاتجاه نحو الألم بين الإيطاليين واليهود، فثمة توجه نحو المواجهة الحاضرة للألم لدى الإيطاليين، حيث اجتهد الإيطاليون في البحث عن طريقة لتخفيف الألم، ومن ثم شعروا بالرضا والارتياح بعد اختفاء الألم، في حين وجد أن هناك توجها نحو المستقبل لدى اليهود،حيث كانوا أكثر اهتماما بمعنى الألم وأهميته، والنتائج المترتبة عليه بالنسبة لصحتهم ورفاهيتهم المستقبلية. (Bendelow and Williams 1993:275)

وقد قام (ستيرنباخ)Sternbach و (تورسكي) Tursky بإجراء تجربة معملية للتأكد من صدق ما ذهب إليه (سبوروفسكي) فأحضرا عددا من ربات البيوت من الأمريكيات من أصول أيرلندية وإيطالية ويهودية، وأمريكيات أصليات (قدامى) Yankee إلى معمل "للتحليل النفسي/ الفسيولوجي" Psycho-physiological Lab. حيث تم تعريضهم لآلام نتيجة صدمة كهربائية، وقاما الباحثان بتسجيل استجاباتهم. ودعمت نتائج الدراسة بعض الملاحظات التي سجلها سبوروفسكي، فيما يتعلق بالتباين في القدرة على تحمل الألم والاستجابة له. (Mechanic 1978:264 – 265)

أما دراسة (زولا) فتعد إحدى النماذج العلمية المشهودة لفحص العلاقة بين الثقافـة والألـم. ورسخت ما توصل إليه سبوروفسكي، حيث تم الكشف عن التباين بين الجماعات الإثنية في الولايات المتحدة فيما يتعلق باستجابتها للألم. ودعمت رؤية سبوروفسكي، حيث وجد أن هناك اختلافا بين الأمريكيين ذوي الأصول الإيطالية، والأيرلندية، والأنجلوساكسونية، فاستجابة الإيطاليين حسب ما يرى زولا، هي بمثابة آلية دفاعية Defence Mechanism لمواجهة القلق، حيث يبالغون في التعبير عن آلامهم، ويكررون الشكوى مرارا وتكرارا، وبالتالي يشتتون الإحسـاس بالألم، أما الأيرلنديون فإنهم يتجاهلون الألم ويستخفون به، وتلك بدورها آليـة دفاعيـة مغايرة. (Bendelow and Williams 1995b:96)

وأثبتت دراسة حديثة على عينة من مرضى التهاب المفاصل الروماتويدي Rheumatoid Arthritis مكونة من 42 مريضة مصرية و30 مريضة هولندية، وجود فروق واضحة في التعامل مع الألم والاستجابة له بين المجموعتين، حيث كشفت الدراسة أن المصريات يظهرن تعبيرا أكثر وضوحا للمرض من الهولنديات، وفسر فريق البحث ذلك بتفسيرات تتسق مع ما وصل إليه (سبوروفسكي) و(زولا) من أن الثقافة تلعب دورا مؤثراً في التعامل مع الألم، فالمصريات ينتمين لثقافة البحر المتوسط، وهي ثقافة تسمح بالتعبير الحر عن المشاعر، خاصة بين النســاء. (Vlaar, P., et.al., 2007:732)

وقد أكدت دراسات عديدة أخرى أن ثمة علاقة بين الإثنية والسلالة والاستجابة للألم، حيث سجل العديد من الباحثين فروقا إثنية فيما يتعلق بشدة الألم وتحمله، ورصدوا اختلافات معتبرة في مســتويات تحمل الألم، وفي اتجاهات الجماعات الإثنية نحوه، والحقيقة أن التراث العلمي حول الإثنية والألم قدم أدلة كافية ترقى لدرجة التواتر recurrence على تلك العلاقة، حيث كشف عن أن الاختلافات الإثنية والسلالية في تصور الألم، وتقييمه، وعلاجه تمت ملاحظتها في العديد من المواقع الطبية، وفي كل أنماط الألم، والنقطة الحاسمة في هذا الإطار أن الاختلافات الإثنية والسلالية فيما يتعلق بالاستجابة للألم تتأثر بصورة أساسية بالعوامل الاجتماعية والثقافية، باستثناءات (وراثية) بسيطة. (Morris 2010:135)

ولقد تواترت الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية الميدانية المتعاقبة بعد ذلك في تأكيدها فكرة أن الألم ظاهرة معقدة، تتأثر بالبناء الاجتماعي والثقافي والموروث التاريخي لكل مجتمع، وأن القدرة على تحمل الألم تتباين وفقا لمجمل تلك العــوامل.

قدم "ميلزاك" مثالا على الاختلاف في خبرة ولادة الطفل بين الثقافة الغربية والثقافة البدائية ممثلة في إحدى قبائل أمريكا الجنوبية، حيث كتب يقول: )تعد عملية الولادة واحدة من أصعب الآلام التي يمكن أن تكابدها المرأة في الثقافة المعاصرة، وقد لاحظ الأنثروبولوجي الأمريكي "كروبر "Kroeber أن النساء لا يظهرن أي إحساس بالألم أو المعاناة أثناء الوضــع، وبالإضافة إلى ذلك تستمر النسـوة الحوامل في ممارسة العمل في الحقول حتى قبل الولادة بوقت قصير، وبعد الولادة تعود الأم إلى الحقل لاستئناف العمل، وقد يبقى الزوج مع الطفل لرعايته لحين عودة الأم. ويتساءل "ميلزاك" هل يعني ذلك أن النساء في ثقافتنا الغربية المعاصرة يتصنعن making up الألم؟ ويجيب بالطبع لا، إن ما يحدث هو جزء من ثقافتنا التي تنظر إلى عملية الولادة بأنها تمثل خطرا محتملا على صحة الأم، وتتعلم الفتيات الصغيرات الخـــوف من الولادة في مراحل نموهن المختلفة). (Tuckett 1978: 167)

ويرصد "ميلزاك" مثالا آخر من الهند حيث يقول: "يعد طقس تعليق الخطاف أو (السنارة) hook hanging - الذي ما زال يمارس في بعض مناطق الهند - واحدا من أغرب الأمثلة على تأثير القيم الثقافية على تحمل الألم، هذا الطقس مأخوذ أساسا من ممارسة قديمة ترتكز على اختيار أحد أفراد الجماعة الاجتماعية ليمثل قوة الآلهة. يتحدد دور الرجل المختار (أو الكاهن) Celebrant في مباركة الأطفال والمحاصيل الزراعية في عدد من القرى المتجاورة في فترة معينة من العام. المدهش في هذا الطقس أنه يُؤتى بعدة خطافات حديدية، وتُشد بحبال قوية وتُربط في عربة خاصة، وتُغرز الخطافات تحت الجلد في جانبي الظهر، وتبدأ العربة في التحرك من قرية إلى قرية، وبالطبع يتحرك الرجل حيثما تتحرك العربة، وفي قمة الاحتفال يتأرجح الرجل في الهواء بطريقة شعائرية، وهو معلق بالخطافات المغروزة في ظهره، والغريب أنه لا توجد أية دلائل على أن الرجل يتألم أثناء ذلك الطقس، بل إنه يكون في (حالة رفعة أو مجد) state of exaltation وعندما تُخلع الخطافات في النهاية تُشفى الجروح سريعا دون تدخل طبي باستثناء وضع رماد الخشب wood ash عليها، وبعد مرور أسبوعين تقريبا تختفي تماما آثار الجروح. (Tuckett 1978: 167 - 168)

ويكشف المثال السابق الدور الذي يلعبه الدين بجوانبه العقائدية والقيمية، والطقوسية في التعامل مع الألم؛ فالواقع أن الدين يعد عاملاً مهما في مسألة تقييم الأحداث بشكل عام، حيث يتم تفسير الأحداث باعتبارها دروساً من عند الله، أو ثواباً أو عقاباً، أو عدم رضا من الله، أو النظر للأحداث والوقائع بصورة عامة باعتبارها جزءاً من إرادة الله الخفية. ويعد البعد الديني مهما في سياق التعامل مع الألم، خاصة عندما يواجه الأفراد آلاما قاسية، وتؤكد الدراسات أن الأفراد الذين يواجهون مشكلات طبية خطيرة يفسرون تلك المشكلات باعتبارها انعكاساً لإرادة الله.(Bush et al.1999:250)

ويلعب الدين من ناحية أخرى دوراً مهما في تقبل الألم ومواجهته، وثمة آليات دينية متنوعة للتكيف مع الألم، منها طلب الدعم الروحي من رجال الدين، والمشاركة في الطقوس الدينية، والتماس الشفاء والراحة من الله، العيش في معية الله، والخضوع لإرادته، طلب الشفاعة، والتحول من دين إلى دين، والحقيقة أن لتلك الآليات نتائج سلبية وإيجابية في آن، ففي دراسة عن حرب الخليج الأولى أجراها مجموعة من الباحثين بإشراف (بارجامنت) Pargament عام 1994، وجدوا أن بعض الأنشطة الدينية التي تستخدم لمواجهة الألم، مثل التماس الدعم الديني، لها تأثيرات إيجابية، في حين أن أنشطة أخرى مثل عدم الرضا الديني religious discontent كان لها تأثيرات سلبية، ويبدو أن سلبية النتائج أو إيجابيتها ترتبط بعمق بإيمان الفرد بالآلية التي يلجأ إليها. (Bush et al.1999:250)

والحقيقة أن الألم - ومشتقاته ومرادفاته - يعد من أكثر المفاهيم حضوراً في النصوص الدينية المقدسة، ويتعلق الأمر دائما بارتباط الحياة بالآلام والمشقات، وبالتحذير من عذاب الله الأليم في الحياة الأخرى، وبالدعوة للصبر عليه وتحمله، بل إن الألم في الكتاب المقدس في عهده القديم يمثل عقاباً إلهياً للمرأة جراء الخطيئة الأولى، ولذلك فكان قدر المرأة أن تكابد آلاما عظيمة في الولادة، فقد جاء على لسان الرب في سـفر التكوين - الإصحـاح الثالث:(وقال للمرأة تكثيرا أكثر ألامك،بالوجع تلدين أولادا، إلى رَجُلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليكي). ومن جانب آخر تمثل آلام المسيح على الصليب - حسب المعتقد المسيحي - طريقاً للخلاص من لعنة الخطيئة الأولى.

ومن جانب آخر، تمثل الطقوس التجلي والتجسيد المباشر للمعتقد الديني، ومن ثم فإن المشاركة في الطقس الديني تجعل من لغة المقدس الرمزية فضاءً لتحويل الكائن إلى فاعل مشارك ومؤثر في الفعل الخارق، وفي هذا السياق تشكل الطقوس الفضاء الأمثل للانتقال والعبور من الدنيوي إلى القدسي، ومن ثم ممارسة الفعل المؤثر الناتج عن مبدأ الانخراط والمشاركة. (الزاهي77:2011)

ولذلك، نلاحظ أن المعتقد الديني يلعب دوراً حاسماً في تحمل الألم المرتبط ببعض الطقوس الدينية، وتمثل طقوس عاشوراء لدى المسلمين الشيعة نموذجاً مثالياً في هذا السياق، حيث يقوم الأفراد بضرب رؤوسهم وأجسادهم بسيوف، وسلاسل من حديد بطريقة غاية في الإيلام، وهم يتحملون ذلك بجَلَد عجيب، وذلك نتيجة التماهي مع الطقس الديني، والتشبع برمزيته التاريخية والاعتقادية.




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) هذه المقالات مأخوذة بشكل أساسي من المرجع التالي:

د. حسني إبراهيم عبد العظيم، الألم: مقاربة سوسيو - أنثروبولوجية، مجلة نقد وتنوير، الصادرة عن مركز نقد وتنوير للدراسات الإنسانية، الكويت، العدد الثاني خريف 2015.

(**) د. حسني إبراهيم عبد العظيم، أستاذ علم الاجتماع المساعد - كلية الآداب - جامعة بني سويف - ج.م.ع.



#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4 ...
- تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4 ...
- تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4 ...
- الفكر الاجتماعي في الإسلام 2/2
- بعض جوانب الفكر الاجتماعي في الإسلام 2/1
- ملامح الفكر الاجتماعي في الديانة المسيحية
- الفكر الاجتماعي في الحضارة الرومانية 2/2
- الفكر الاجتماعي في الحضارة الرومانية 2/1
- الشيخوخة النشطة: رؤية أنثروبولوجية 2/2
- الشيخوخة النشطة: رؤية أنثروبولوجية 2/1
- ختان الإناث: رؤية سوسيولوجية موجزة
- الفكر الاجتماعي في الحضارة اليونانية 4/4
- الفكر الاجتماعي في الحضارة اليونانية 4/3
- الفكر الاجتماعي في الحضارة اليونانية 4/2
- الفكر الاجتماعي في الحضارة اليونانية 4/1
- رحيل فاطمة المرنيسي: الآن سكتت شهرزاد السوسيولوجيا العربية
- ماكس فيبر: الأخلاق البروتستناتية وروح الرأسمالية
- الفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية القديمة 2/2
- الفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية القديمة 1/2
- الثقافة والحضارة هل هما مترادفان؟


المزيد.....




- خمس مدن رائدة تجعل العالم مكانا أفضل
- هجوم إيران على إسرائيل: من الرابح ومن الخاسر؟
- فيضانات تضرب منطقتي تومسك وكورغان في روسيا
- أستراليا: الهجوم الذي استهدف كنيسة آشورية في سيدني -عمل إرها ...
- أدرعي: إيران ترسل ملايين الدولارات سنويا إلى كل ميليشيا تعمل ...
- نمو الناتج الصيني 5.3% في الربع الأول من 2024
- حضارة يابانية قديمة شوه فيها الآباء رؤوس أطفالهم
- الصحافة الأمريكية تفضح مضمون -ورقة غش- بايدن خلال اجتماعه مع ...
- الولايات المتحدة.. حريق بمصنع للقذائف المخصصة لأوكرانيا (صور ...
- جينوم يروي قصة أصل القهوة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسني إبراهيم عبد العظيم - تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4/4 (*)