أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدو أبو يامن - فلسفة السؤال، والثقافة المفقودة















المزيد.....

فلسفة السؤال، والثقافة المفقودة


عبدو أبو يامن

الحوار المتمدن-العدد: 1441 - 2006 / 1 / 25 - 06:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يمكن القول بشيء من اليقين الحذر: إن من العلامات التي لا تكاد تخطئ والتي تدل على تقدم ورقي أمة أو شعب أو على تخلفهما وتقهقرهما هو مقدار ما يطرح لديهما من الأسئلة؛ فكلما كثر طرح الأسئلة واتسعت فضاءات السؤال لما كان وما هو كائن وما سيكون، وشمل الذات والآخر، والنفس والعالم، والأرض والسماء، والظاهر والباطن، والغيب والشهادة كلما كان ذلك كذلك كان هذا دليلا على أن الأمة بخير، وأنها بسبيل التطور وإن تأخر تطورها إلى حين... أما إذا كان العكس وكانت تستنيم إلى إجابات ومسلمات اكتسبتها بحكم العادة أو تحدرت إليها من الأسلاف والأجداد، أو أملاها الخوف والجهل، أو غرستها العصبية والانغلاق فهذا دليل لا يكاد يقهر على أن الأمة ليست على ما يرام، بل إنها آخذة بسبيل الاضمحلال إن لم تكن اضمحلت بالفعل؛ ذلك أنها قطعت كل صلة لها بالحياة وسيرورتها ألا متناهية، حين تقوقعت على نفسها وانطوت على ذاتها، ووهمت أن العالم على مثالها يجب أن يكون، وإن لم يكن كذلك فهو ضال وكافر ومخالف وعدو، ومن المحتم عليها عند ذاك محاربة هذا الضلال الذي لا يؤمن بقيهما ومعتقداتها ومسلماتها.
فالسؤال يمكن أن يقال عنه بأنه الأكسجين الذي يجدد الهواء حتى لا يتجرثم الجسم ويذوي ويموت. بل قل هو النور الذي يضئ الدروب ويضع الصوى والعلامات على الطريق. بل هو الشريان الحي الذي ينفخ في الحياة الروح ويمدها بالغذاء.
فعندما تتوقف الأمة عن طرح الأسئلة وتكتفي بالإجابات الموجودة لديها دل ذلك على تصلبها وانغلاقها وتحجرها وسكونيتها وقناعتها، والقناعة في طلب العلم والمعرفة انتحار، وكونها راضية عن نفسها ومطمئنة إلى أسلوب حياتها الوادع الساكن السعيد، ولكنة اطمئنان العجزة، ووداعة الهمج، وسكون الأموات.
ودل ذلك فيما يدل على أنها بلغت من النرجسية وعبادة الذات والخيلاء والكبرياء حدا جد شديد، حين توهمت في نفسها كل ذلك الرضا وكل تلك القناعة وكل هاتيك الإجابات القاطعات المطلقات، فاقتصرت عليها لا هي جددتها ولا هي أنشأت بدلا منها تطور بها حياتها وترقي من خلالها كيانها.
ودل ذلك كذلك على أنها عمدت إلى ما لديها من إجابات محتملة الصدق ومحتملة الوثوق ونسبية الأحكام فسربلتها برداء القدسية ووشحتها بوشاح العقيدة، حتى أصبح كل سؤال زندقة، وكل تجديد بدعة، وكل متسائل مارقا خارجا على سنة الجماعة وكافرا بقيمها.
وبما أن ( المعرفة قلق عظيم ) كما يقول الحكيم الهندي القديم، فهي لا تعرف هذا القلق الخلاق، هذا القلق الحيوي النشط والناشط والمنشط في ذات الوقت، هذا القلق الذي يحمل معنى الاضطراب والحركة والانفعال والتي هي بدورها من سمات الحياة والأحياء.
هذا القلق الذي يقول عنه شاعر العربية أبو الطيب المتنبي في بيته المشهور:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فإذا كنت تفتش عن الراحة والنعيم فأمرهما ميسور ومنالهما قريب؛ عش عيشة البهائم، عش في ظلام، عش جاهلا، فالسعد في طالع البهائم، كما يقول الفيلسوف العربي وأحسبه الفارابي، وذاك حين يقول:
فعش حمارا تعش سعيدا فالسعد في طالع البهائم
وهل هناك أسعد من القبائل الهمجية، وسكان الأدغال، والجزر النائية في أفريقيا واستراليا وآسيا؛ ولكنها سعادة الغفلة والجهل، واطمئنان البلادة والخوف، وسكون الموات والجدب.
والحياة رحلة معاناة، ألم يخلق الإنسان في كبد، ولكن آلم معاناتها وألذها هي معاناة المعرفة، وأحبها وأبغضها أيضا، وإذا قلنا السؤال فكأننا قلنا المعرفة... ومن المشهور والمذكور عن الأسلاف أنهم كانوا يقولون: العلم خزائن ذات مغاليق ( أي أقفال ) ومفاتيحها السؤال. فكلما سألت سؤالا فكأنك فتحت بابا من المعرفة يمكن أن يعرف مبدؤه لكن الله وحده علام الغيوب يعرف منتهاه.
فأن تسأل يعني أنك قلق حي فاعل منفعل متحرك مضطرب تفتش وتبحث وتنقب وتضرب في البلاد وتسيح في بحار المعرفة وتصارع لججها وأنواءها... يعني أنك تعرف شيئا ولكن غابت عنك أشياء، ولكن هذه الأشياء التي غابت عنك تظل تؤرقك وتخزك كأنها ذبابة ( سقراط ) التي كانت تحث اليونانيين في عصره على التفكير والتأمل من أجل تصحيح مفاهيم طالما سلم الشعب بصدقها، هذا التسليم الذي أملاه طول الألفة وتقادم العهد وحكم العادة وعقل الجماعة.
وأن تسأل يعني أنك مازلت طفلا، ينظر إلى العالم من منظار الطفولة الدهش المتطلع المستعلم المتسائل عن كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة مما حوله من عالم الأشياء والناس والطبيعة والكون؛ لأن الكون لما يزل بالنسبة له مجهولا، ولأن الطبيعة لما تزل عنده بكرا، ولأن الأشياء بالنسبة له لما تزل جديدة لم تفقد بعد رونقها وسحرها وفتنتها.
أما إذا تقدم هذا الطفل في العمر وودع زمان البراءة والتسآل، وأخذ الزمن يسحب عليه رداء العادة واللامبالاة والواقعية وأن ليس من جديد تحت الشمس وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأما إذا غرق هذا الطفل الذي أصبح رجلا في جزيئات الحياة وسفاسف العيش وفضول الأشياء ومسئوليات الأسرة والمجاملات الاجتماعية، وأما إذا غلظت طباعه وتحجر قلبه وضعفت أحاسيسه واستهلكه البدن بمتطلباته وشهواته فمن أين له عند ذاك أن يسأل، ومن أين له حين ذاك النظر إلى العالم نظرة الدهشة والبراءة والفضول؟
وإني لأزعم أن من الدوافع الخفية التي تدفع الإنسان إلى الحنين إلى زمن الطفولة والصبا، هذا الزمن الذي يكاد الجميع يفتقده ويتمنى رجوعه هي هذه الرغبة في اكتشاف الأشياء، هي هذه العذرية التي يتبدى فيها العالم لأعين الصغار، هي هذه الجدة التي يرى فيها الطفل كل الأشياء والناس والكلمات والكائنات من حوله..
وإني لأزعم _ كذلك _ أن السبب الأكبر وراء الملل الذي يشعر به عالم الكبار هو الرتابة والتعود والتكرار والشعور القاتل بتفاهة الحياة والأشياء بعد أن امتحن الإنسان منها نقطة من بحرها فظن المسكين لجهله وحمقه وعجلته أنه سبح فيها وراضها طولا وعرضا وشبرها ذراعا وفترا.
ولهذا وصم الشباب بالجنون، وما أبدعه من جنون، ولهذا كثر تردده في قصائد الشعراء، وطال حنينهم إليهم وتشوقهم له وفجيعتهم به حين دلهم صبح المشيب على الطريق الأقصد بزعمهم، حتى لا يكاد يخلو شعر شاعر من ذكره إن في القديم وإن في الحديث.
ولهذا ظل الشعراء العظام أطفالا كبارا؛ لأنهم لم يفقدوا بعد عذريتهم، ولم تستنزف الحياة الصاخبة أحاسيسهم المرهفة ومشاعرهم المشبوبة وعواطفهم الجياشة، ولأنهم لما يكفوا بعد عن السؤال في الوقت الذي كف فيه كل من حولهم عن اجتراح هذا الفعل البديع الخلاق.
فأن تكون شاعرا عظيما، أو مبدعا كبيرا معناه أن تكون طفلا ترى ما لا يرى ( بضم الياء) وتسمع ما لا يسمع وتحس بما لا يحس وتتألم بما لا يتألم منه، وتبكي لما لا يبكى عليه وتضحك لما لا يضحك منه، وتسأل في دهش برئ وتطلع عذري في حين يشمخ الآخرون ويتبجحون بمعرفتهم ويقنعون بما ألفوه من إجابات حاضرات جاهزات ظنا منهم أنها الحقيقة بل كل الحقيقة، فيضلون أنفسهم ويضلون من يلون، فيأتي الولد عند ذاك سر أبيه، يزعم العلم وهو ليس كذلك ويزعم الفهم وهو خلاف ذلك، وعند ذاك حق عليه أن يوصف بالجاهل جهلا مركبا، وهو الذي لا يدري ولا يدري أن لا يدري، فهذا صلاحه متعذر والرجاء فيه بعيد.. أما الجاهل جهلا بسيطا وهو الذي لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا علاجه ميسور والأمل فيه ليس بمفقود لأنه خلاف الأول يعرف علته ومكمن دائه.
ولأمر ما وصفت الحكماء السؤال بالنور ووصمت الإجابة بالديجور ( الظلام )؛ فالسؤال بداية للبحث والرود والاكتشاف والإجابة انتهاء، والسؤال بعد تطلع ومغامرة والإجابة قناعة واكتفاء، اكتفاء بمعارفنا القديمة ومسلماتنا البالية وقناعاتنا العادية.
وإذا ما بحثنا عن حال السؤال في حياتنا العربية، وكيف يعيش بين أهلها وناسها؛ هل أكرموه وصانوه أم أذلوه وأهانوه لأجاب السؤال وقال : بأنهم أكرموه بأن دفنوه لأن إكرام الميت دفنه في ثقافتنا العربية، وبأنهم صانوه بأن قصروه على التفتيش عن عقائد الناس والتلصص على عوراتهم وادعاء علم ما في الصدور، وهو سؤال إجابته حاضرة في العقل الجمعي وهي الإدانة والتجريم والتكفير والتفسيق، إجابة لا تكاد تتغير لأن السؤال لا يكاد يتغير، سؤال الأمة لا يكاد يتغير، ولذلك لا رجاء من تغيرها ولا أمل في صلاحها.
وعندما رجعت بالسؤال إلى الوراء ألف عام بل وأكثر من ألف عام إلى العصر الجاهلي أبحث عن حاله عندهم، وأفتش عن دلالاته وأبعاده وجدت _ ويا للأسف _ أن السؤال عندهم، بل عند الكثرة الكاثرة منهم إن لم يكن كلهم، يعني : الاستجداء والشحاذة وتمريغ الجباه على بيوت الكبراء، ولسان حالهم يقول من ابن الرومي في قصيدة طويلة يقول في مطلعها:
أبا العباس ما هذا التواني *** وقد أوسعت من كرم وفهم
قصدتك راجيا واليأس رجم *** فلم تترك رجاء غير رجم
إلى أن يقول وهذا بيت القصيد:
وواترت السؤال فلم تجبني *** كأني سائل آيات رسم
غفر الله لك _ يا ابن الرومي _ ليتك واترت السؤال فيما ينفع ويمتع، وعممت النفع للكل ولم تخص به نفسك وتقصره على شخصك؛ على أن حبل العذر لك ممدود فهذا عصركم وهذه عاداته وقيمه، ولكن ما نقول عن إنساننا العربي المعاصر الذي إن لم يكن سؤاله سؤال استجداء فهو بلا شك سؤال اعتداء إلا فيما ندر.



#عبدو_أبو_يامن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فرنسا شيراك، والبحث عن دور
- متى أكتب؟!
- كليلة ودمنة في أراب ستان -6-
- كليلة ودمنة في أراب ستان -5-
- رسالة تداعي الحيوانات على الإنسان، الملحمة الإنسانية الخالدة
- قديس
- كليلة ودمنة في أراب ستان – 4 –
- كليلة ودمنة في أراب ستان – 3 –
- كليلة ودمنة في أراب استان -2-
- كليلة ودمنة في أراب ستان -1-
- هذا بوش أم هتلر.. لا أستطيع التمييز بينهما؟!! - 2-
- هذا بوش أم هتلر.. لا أستطيع التمييز بينهما؟!! - 1-
- قنوات التدجين الفضائية العربية!!
- ماذا يريد هؤلاء؟ ( زورق الإنقاذ ) 3
- قضية سيد القمني، تضامن أم ضمانات؟
- ماذا يريد هؤلاء؟ ( الليبراليون الجدد ) 2
- ماذا يريد هؤلاء ( الصحوة الإسلامية )؟؟ 1
- تحرير المرأة أم تحرير الرجل أم تحريرهما معا؟؟
- جنة بوش أم جنة ابن لادن؟
- فنارات على دروب التقدم 2


المزيد.....




- من أجل صورة -سيلفي-.. فيديو يظهر تصرفا خطيرا لأشخاص قرب مجمو ...
- من بينها الإمارات ومصر والأردن.. بيانات من 4 دول عربية وتركي ...
- لافروف: روسيا والصين تعملان على إنشاء طائرات حديثة
- بيسكوف حول هجوم إسرائيل على إيران: ندعو الجميع إلى ضبط النفس ...
- بوتين يمنح يلينا غاغارينا وسام الاستحقاق من الدرجة الثالثة
- ماذا نعرف عن هجوم أصفهان المنسوب لإسرائيل؟
- إزالة الحواجز.. الاتحاد الأوروبي يقترح اتفاقية لتنقل الشباب ...
- الرد والرد المضاد ـ كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟
- -بيلد-: إسرائيل نسقت هجومها على إيران مع الولايات المتحدة
- لحظة تحطم طائرة -تو-22- الحربية في إقليم ستافروبول الروسي


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدو أبو يامن - فلسفة السؤال، والثقافة المفقودة