أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوال السعداوي - رسالة الى صديق قديم















المزيد.....


رسالة الى صديق قديم


نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)


الحوار المتمدن-العدد: 5496 - 2017 / 4 / 19 - 09:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


صديقي محمد : وقعت في يدي بالصدفة ، جريدة عربية ، وأنا هنا في الجزيرة الصغيرة البعيدة ، في شمال المحيط الأطلنطي . لا أرى إلا تلاصق البحر بالسماء،

والأسماك تجري تحت الماء، تلتقطها مناقير طيور النورس الشبيهة بالنسور البيضاء، أو الطائرات النفاثة الصغيرة ، تنقض على الأطفال الصغار، السابحة في مرح ، بعيدًا عن قبضة الآباء والأمهات . الأكبر يأكل الأصغر فوق الأرض,وفى الماء، من أجل ماذا؟

السؤال الملح ، الذي راودني منذ أكثر من نصف قرن . وكانت إجابتك يومها ، أن عقلي ناقص عاجز عن إدراك الحكمة الإلهية . واختلفنا حول معنى العقل والحكمة والاتزان . كانت أسئلتي تثير غضبك، وتهز ثوابتك الموروثة ، عن أبيك وجدك . أتهمك بالجمود، وتتهمني بالجنون . ونفترق ثم نعود . كان شيء يربطنا ، أكبر من العقل والحكمة الإلهية . لا نعرف بالضبط ما هو، ولا نحاول أن نعرف . فالحياة الأخرى تشغلنا بهمومها الصغيرة والكبيرة .

وقعت في يدي الجريدة بالصدفة . وقرأت نعيك يا صديقي . تقلصت عضلة في قلبي ، ليس لها اسم في علم الطب . وهي مصنوعة من مادة أخرى غير اللحم، أو اللحم مع مواد أخرى ، نفسية عقلية اجتماعية تاريخية، بالإضافة إلى المادة الروحية . لم ندرس المواد الروحية في كلية الطب، فهي تندرج تحت علوم الدين . دراسة « الروح» شيء غامض جدًا ، يدخل ضمن العلوم الإلهية . كنت أضحك وأقول ، بيننا رابطة روحية نقية سامية . وليست رابطة جسدية . أو ذلك الشيء المدنس الذي اسمه « الجنس» . وتلمع عيناك الخضروان ، يكسوهما سواد شيطاني كعيني الذئب ، وتهز رأسك موافقًا على مضض.

جاءتني الجريدة العربية ، وفيها نعيك بصفحة الوفيات، مع الرجل الذي يسكن البيت المطل على المحيط ، بجوار بيتي ، اسمه «بيل» . رجل وحيد يكتب الشعر . وينحت التماثيل التي يملأ بها حديقته . لكن هوايته الأولى ، هي الإبحار في المحيط ، داخل سفينته الصغيرة. لها شراع أبيض ، يذكرني بالزوارق على نهر النيل . ولها مرسى خاص في حديقته الأمامية ، الواصلة حتى الماء.

وفي الحديقة الخلفية ، جزء خاص محاط بالأسلاك، يزرع فيه الطماطم والسبانخ والخس والجرجير . يسمى « أرجولة» باللغة الأمريكية ، أو الانجليزية « المعوجة « ، في نظر الإنجليز . « المتطورة « ، في نظر الأمريكيين . وفي كل بلد أسافر إليه ، أسأل عن الجرجير، في لندن، حين سافرت إليها أول مرة منذ أربعين عامًا، سألت عن الجرجير . إلا أن أحدًا لم يعرف . لم تكن كلمة «أرجولة « معروفة لدى الإنجليز . ولماذا الجرجير ، بالذات أسأل عنه ، أينما اذهب ؟. ربما رابطة روحية ، تربطني بهذا النبات الرقيق ، شديد الخضرة ، القوي الرائحة . هذه الرائحة ، تنتمى الى « الروح « . ما أن تسرى في صدري ، حتى أستعيد روحى . أتذكر وجه أمي وأنا طفلة ، حين كانت تقطع الجرجير ، وتفرشه في الصحن . أرمقها بعينين متسعتين ، لا يطرف لهما جفن . رائحة الجرجير ، تسري إلى جسدي ، وخلايا عقلي ، مع دفء الشمس ، ورائحة أمي .

هنا في شمال الشمال ، أجلس في غرفتي المطلة على المحيط الكبير، أرقب رذاذ الثلوج يهبط مثل رذاذ المطر . درجة الحرارة تحت الصفر، الأشجار سقطت عنها الأوراق الحمراء والبرتقالية والصفراء والبنية . يتغلب اللون الأحمر على كل الألوان . وتصبح الأرض مفروشة ببساط أحمر، أدوس عليه برفق ، وأنا أمشي في رياضتي الصباحية . ترتعش الأوراق الحمراء ، تحت حذائي السميك من الكاوتش، كأنما لا تزال بها الروح . أرمق الأفق الغارق في السحب البيضاء . يجتاحني الحنين إلى أمي، وشمس الوطن، وأختي الصغيرة.

ربما يا صديقي ، لم تعد تهتم ، « بعد أن توفيت» ، بظهور الشمس في نهاية الخريف، في جزيرة بعيدة مجهولة الاسم. لكن الراديو هنا ، لا يكف عن وصف تفاصيل الطقس اليومية، حركة الشمس والرياح ودرجات الحرارة. فالناس هنا ينشغلون بانخفاض الحرارة ،أو ارتفاعها درجة أو اثنتين أو ثلاثة ، أكثر من انشغالهم ، بمقتل ثلاثة آلاف من الأرواح ، التي تعيش في بلاد بعيدة ، وراء البحار.

جاءتني الجريدة العربية ، داخل سلة مليئة بالجرجير ، وزهور بنفسجية ، مع « بيل « . هو في السبعين من عمره، ممشوق القامة، عيناه زرقاوان تلمعان في الشمس، يتغير لونهما في الخريف ، مثل لون السماء ومياه المحيط . يصبح لونهما رماديًا وأحيانًا رصاصيا ، بلون الزئبق، أو أسود . وتظل اللمعة قوية نفاذة ، كأنما تنفذ من عينيه ، روح قوية ليس لها عمر . لا تعرف الشيخوخة أوالموت . لا يقرأ اللغة العربية . ولكنه يسافر بسفينته ، جنوبًا إلى بوسطن ، أو نيويورك ، ليشتري لي جريدة عربية ، أو يشترك في مظاهرة ضد الحرب ، أو ضد العولمة . يقرأ النيويورك تايمز كل يوم . يقول عنها جريدة رجعية ، تخدم المصالح الأمريكية ، الصهيونية . رغم بعض المقالات المعارضة ، الجيدة ، لمجرد إثبات الديموقراطية . رغم تجاوزه السبعين من العمر ، يجري حول الجزيرة كل صباح ، مسافة خمسة أميال . بشرة وجهه ، مثل عضلاته مشدودة، مثل شاب في الثلاثين ، أو الأربعين، من العمر . يقع بيتى ، فى نهاية شارع اسمه « بوينت رود» . وتعني الشارع الذي ينتهي إلى نقطة « بوينت» . وهي رأس الجزيرة المدببة، الواصلة إلى الماء . اخترت هذا البيت لأرى المحيط من نوافذ غرفة نومي ، وأنا أكتب روايتي الجديدة . منذ طفولتي ، أعشق الكتابة ، وأنا في سريري ، والنافذة أمامي مفتوحة على الأفق اللانهائي.

قرأت نعيك يا صديقي ، وأنا أتصفح صفحة الوفيات . لم أكن أقرأ هذه الصفحة ، في طفولتي ، أو فى سنوات الشباب.

كان أبي يواظب على قراءتها، وأندهش ، لاهتمامه بالموتى أكثر من الأحياء . حتى مات أبي ، فأصبحت أقلد بعض عاداته التي تمردت عليها، بسبب تأنيب الضمير، أو الحنين إلى الأب الغائب . أو شيء روحاني نفسي تاريخي غامض . وأصبحت صفحة الوفيات ، تطاردني مثل طيف الحب.

وقعت عيني على اسمك بالبنط الأسود العريض ، على رأس صفحة الوفيات . النعي يشمل مساحة كبيرة . ربما خمسة ، أو ستة من الأعمدة . صورتك داخل برواز ، وأنت تمسك ذقنك المدببة بالسبابة والإبهام ، مثل الفلاسفة في عصر الإغريق . وصورة جنازتك، صفوف مصفوفة ، الصف وراء الصف ، من الرجال ذوي المكانة ، رئيسهم في الوسط بالصف الأول، مرتديًا نظارة سوداء، وربطة عنق

سوداء . ربما لم تر كل هؤلاء الرجال الأكابر ، بعيونهم المختفية ، وراء العدسات الداكنة، يبالغون في اظهار الحزن . بعضهم يكتم الفرح الطبيعي ، الذي يغمر إنسانًا حيًا ، يرى إنسانًا غيره ميتًا . فما بال ، أن يكون الميت أكثر تميزًا منه ، وأنت محمول داخل الصندوق، ملفوف بالعلم ؟؟ أي مجد يا صديقي ، يحسدك عليه بعض الأحياء ، من زملائك الأدباء والمفكرين ؟؟؟

لم أتوقع أن أقرأ نعيك، وأنا في هذه الجزيرة البعيدة وسط مياه المحيط . كنت مليئًا بالنشاط والحيوية ، حين ألتقينا منذ عامين . كان ذلك في شارع الجيزة ، أمام بيتك . كنت في طريقك ، لتركب سيارتك المرسيدس السوداء، والسائق الأنيق أدار المحرك . لكنك توقفت حين لمحتني ، وقلت : « نوال ؟ مش معقول؟ بعد كل الغيبة الطويلة دي؟ وشعرك بقى أبيض زي الثلج، لكن تشارمينج ، زي ما كنت من ثلاثين سنة ، لا يمكن أن تتغيري أبدًا أبدًا «.

نوع من الجمود يا محمد .

أبدا، نوع من الشباب الدائم يا نوال .

وأنت لم تتغير يا محمد .

لا أنا خلاص بقيت راجل عجوز .

دار الحوار بيننا ، كما كان يدور منذ ثلاثين عامًا. وجاء سائقك ينبهك إلى موعدك الهام ( ربما مع رئيس الحكومة أو الدولة ) ، لكنك لم تعره انتباهًا ، وأشرت إلى باب بيتك، تدعوني لفنجان من القهوة . دخلت معك إلى الحديقة الكبيرة، ومنها إلى البهو ومدخل البيت، ثم الصالة الخارجية حيث الصالون الأخضر الأنيق . توقفت أنت أمام دولاب من الزجاج ، يكشف ما بداخله . يشبه دولاب الفضيات في بيوت الأثرياء . رأيت مثل هذا الدولاب ، في بيت المرحوم جدي ، وأنا طفلة في السادسة من العمر . أشرت بيدك إلى الجوائز ، داخل الدولاب، ذهبية وفضية وبرونزية، محفور عليها اسمك وتاريخ الحصول عليها، جائزة الدولة التقديرية والتشجيعية ، وجائزة التفوق الأدبي والفكري، وجائزة عبد الناصر ، والسادات ، ومبارك ، وجائزة من الصين أو اليابان أو كوريا أو إيران أو العراق، وفلسطين أيضًا، جائزة من الثورة الفلسطينية، وحركات المقاومة الشعبية ، في بلاد أفريقية وأسيوية وأمريكا الجنوبية . كنت أتابع بصعوبة ما تشرحه لي ، عن تاريخ كل جائزة . كان هناك دولاب آخر ، من الخشب المشغول الأرابيسك ، يحمل مؤلفاتك ورواياتك ونظرياتك الفكرية، والأغلفة كلها مصقولة ، مذهبة محفور عليها ، اسمك واسم أبيك وجدك . أرى عينيك تلمعان هذه اللمعة الذئبية . أعرف أنك تريد التأثير عليً ، وإثبات أنك عبقري . تذكرت هذه النظرة ، حين التقينا لأول مرة في نادي القصة ، بشارع قصر العيني . كنت في أول الشباب ، فتاة مفتوحة العينين ، ترى ما لا تراه البنات من عمري . وكرهت هذه النظرة في عينيك . نظرة تقول أنك أكثر عبقرية ِمني ، وأنني لابد وأن أقع في غرامك . إلا أن العكس ، هو الذي حدث . لقد وقعت أنت في غرامي يا صديقي، وأنا وقعت في حب رجل آخر.

ربما كان آخر لقاء لنا ، في مؤتمر الأدباء ، أو ربما اجتماع المفكرين ، في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة ، حيث توزع جوائز رفيعة، على منْ تراه السلطة الحاكمة مفكرًا كبيرًا . وكنت أنت واحدًا من هؤلاء . رأيتك تصعد إلى المنصة ، بخطوة محكومة السرعة ، ورأس مرفوع في كبرياء، داخل بدلة أنيقة داكنة اللون، وربطة عنق حمراء ( ربما علامة الانتماء لليسار) . كانت قامتك مفرودة، حتى أصبحت على بعد خطوتين من الرئيس ، فإذا بك تنحني ، حتى تصورت أنك تعاني مغصًا مفاجئا ، بسبب حصوة في الحالب . لكنك استعدت قامتك بسرعة . ربما عاد إليك الوعي ، أو تأنيب الضمير . هبطت من المنصة . وتركت الجائزة الكبرى ، تتدلى من يدك ، كأنما عاهة طارئة ، أو عضو مريض مزمن ، يتدلى من جسمك الممشوق . وما أن جلست في مقعدك ، والتقت عيناك بعيني ، حتي أخفيت الجائزة بين ركبتيك، كأنما هي عشيقة تمنحك اللذة، في الخفاء.

منذ بداية صداقتنا، أدهشك، أنني لا أقرأ صقحة الوفيات . قلت لي ، أنها أهم صفحة في الجريدة، تكشف عن العلاقات الخفية، وروابط الدم والنسب والمصاهرة، وشبكات المجتمع حيث تكون مناطق النفوذ. أذكر كلامك، رغم مرور أربعين عامًا . عيناك لونهما، كان أخضر ، بلون الزرع . ومع ذلك ، كنت ترى المقلتين السوداوين في عيني ، أجمل من كل العيون الخضراء ، والزرقاء ، في العالم . ربما لهذا السبب ، لم أنس كلامك رغم مرور السنين . ولم أكف منذ ذلك اليوم ، عن قراءة صفحة الوفيات . ربما لارتباطها بحقيقة هامة في حياتي ، هي أن عينيً أجمل العيون في العالم.

عارفة يا نوال صفحة الوفيات مهمة جدًا جدًا .

ليه يا محمد ؟

وتسهب في سرد فوائد هذه الصفحة . تشبهها بالجينات ، والكروموسومات ، في خلايا الجسد . صفحة الوفيات ،

يا نوال ، تحمل في سطورها ، وما بين السطور ، وما تحت السطور، ثنايا العلاقات الدفينة ، وأقاصيص الحب والكره، من وراء الأبواب والنوافذ المغلقة . الأسرار الصغيرة ، التي تخفيها الأشياء الصادقة جدًا، والكاذبة جدا ، التي تتكون منها حياتنا الحقيقية.

كنت أتابع صفحة الوفيات، وصفحة الحوادث أيضًا . وكنت أنت تمدح صفحة الحوادث أيضًا . وتقول أنها أهم من الصفحة الأولى، حيث تنشر صور الرؤساء والملوك ، وأخبار الحرب، و معاهدات السلام . وحين وقعت الجريدة تحت يدي ، وقرأت خبر وفاتك المفاجئة من أسبوع ، تذكرت أنني قرأت في صفحة الحوادث « من خلال الانترنت» ، خبرًا صغيرًا عن حفيدتك «نورية» ابنة ابنك البكر ، التي تحمل اسمك ، واسم أبيها ، واسم أبيك ، وجدك ، نورية محمد محمود ال.......

اختفت حفيدتك فجأة من بيتك الكبير، في جاردن سيتي المطل على النيل . اختفت نورية « عمرها تسعة عشر ربيعًا «، دون أن تترك رسالة ، أو كلمة لأبيها أو أمها، أو جدها المفكر المعروف، الحائز على الجوائز . والكل يشهد له بالوطنية والعلم ، والإيمان والاستقامة . فكيف يخرج من ضلعه المستقيم ، ذلك الضلع الأعوج ؟ . كانت نورية ، فتاة مثالية متفوقة في الدراسة . مخطوبة لشاب مثالي ، متفوق في العلم والأدب . لا تفوته مظاهرة وطنية ، أو ندوة شعرية . وكان أبوها ، وجدها ، يفخران بهذا الشاب الفذ ، المنحدر من أسرة عريقة . وكانت العائلتان الكريمتان ، تستعدان لفرح الزفاف الكبير، في أفخم فنادق القاهرة . وطبعت الدعوات ، على ورق مصقول مذهب الحواف ، ألف دعوة أو أكثر، و.......

قرأت الخبر عبر الانترنت ، وأنا في هذه الجزيرة البعيدة في آخر الدنيا . تصورت نفسي هذه الحفيدة الهاربة . وكنت مثلها في التاسعة عشرة من عمري ، أفكر في الهرب . فماذا كان يشغلني في هذا العام ،1951 حين بلغت التاسعة عشرة ؟ كنت أفكر في الهرب يا صديقي . لم أعرف الي أين أهرب؟ وماذا كان أهم عندي ، من الأسرة والوطن والحب والخطيب وزوج المستقبل ؟ لم يخطر هذا السؤال ، على بال أحد من عائلتك الكريمة . كل ما طرأ على أذهانكم ، أن الفتاة المراهقة ، أحبت رجلًا آخر ، غير خطيبها الشرعي، وأنها حملت منه سفاحًا، و.....

في التاسعة عشرة من عمري ، لم أقع في حب رجل . لقد عشت تجارب الحب ، منذ كنت في العاشرة من عمري . وانتهيت إلى حقيقة هامة ، هى أنني لم أخلق ، إلا لدور أكبر ، من الحب والزواج والأمومة ورعاية الأطفال و... وإنني لن أكون أبدًا ، مثل أمي ، أو جدتي ، أو أخواتي . ولن يملكني رجل ، أبدًا . وإن كان ملك الملوك ، وقدس الأقداس.

مثل هذه الفتاة ، يشخصها أطباء النفس، بأنها مريضة عقليًا ، يستوجب دخولها المستشفى . وعلاجها ، بالصدمات الكهربية ، أو الكيميائية . أو بعملية جراحية ، تستأصل الفص الأمامي من مخها . حيث توجد خلايا المشاعر القوية ، والخيال الجامح.

أعتقد أن خبر هروب حفيدتك ، جاءك ، قبل وفاتك بأيام قليلة . ربما صدمك الخبر إلى حد الموت . فكيف تهرب حفيدتك من بيتك الكبير، وتخلع عنها إسمك ، واسم أبيك ، واسم جدك ، وتخلع عن عنقها السلسلة الفضية التي تتدلى منها صورتك ، والساعة الذهبية التي أهديتها لها ، حين حصلت على 99,9 % في امتحان الثانوية العامة ، وهي نسبة أقل من الكمال بقليل جدًا. ولا أحد من البشر يتجاوز هذه النسبة إلا الله . فهو الكمال المطلق 100 % لا تنقص شيئًا . أما النقصان المطلق ، الشر المطلق ، 100 % فهو الشيطان ، إبليس الملعون دنيا وآخرة . ولابد أنه هو ، الذي وسوس في أذن حفيدتك ، وحرًضها على نبذ الخير

الوفير ، الذي تنعم فيه أسرتها، والمجد العظيم الذي يحظى به أبوها وجدها وأبو جدها . ومنْ يكون ، غير إبليس ؟؟ يحرض فتاة في التاسعة عشرة من عمرها ، على نبذ كل الثوابت الموروثة منذ آلاف السنين ، ومنها الأسرة والوطن والعلم والإيمان والحب والزواج والأمومة و......

وأنا يا صديقي ، لا أعرف إلى أين هربت حفيدتك ، وكنت في عام 1951 ، في مثل عمرها، لا أعرف إلى أين أهرب . وكان الراديو يغني كل يوم ، ملك البلاد يا زين يا فاروق يا نور العين . والصحف والمجلات ، كلها تقول عنه الملك الصالح. وكبار الأدباء والمفكرين أمثالك يا صديقي ، يكليون له المديح في المقالات والكتب والقصائد وكلمات الافتتاح في المؤتمرات. وشيوخ الأزهر يدعون له في الجوامع بطول العمر، أن يحفظه الله ذخرًا للبلاد. كان يجلس في الصف الأول في الحفلات، حيث تعزف الموسيقى النشيد الوطني، ويغني له المطربون والمطربات، على رأسهم عبد الوهاب ، وكوكب الشرق، أم كلثوم .

كنت في التاسعة عشرة من عمري، مثل عمر حفيدتك الهاربة. كنت أقطع أظافري، بأسناني، من الغيظ أو الغضب. أدرك دون حاجة إلى ذكاء كبير، أن العالم فاسد، ويغني لملك فاسد. لم يكن في مقدروي، أن أنطق كلمة الملك الفاسد. والعالم كله من حولي، يقول أنه ، الملك الصالح. وهناك كوبري كبير، يحمل اسم الملك الصالح. وميدان كبير ، اسمه ميدان الملك فاروق . وشارع لا نهائي، يحمل اسم الملك ، والجامعة الضخمة بالجيزة ، والمكتبات العامة ومراكز العلم ومحطات القطارات، ومدارس البنين الابتدائية والثانوية، كلها تحمل اسم الملك. أما مدارس البنات، فكانت تحمل اسم زوجته، صاحبة الجلالة الملكة، وأصبحت تحمل إسم السيدة الأولى، باللغة الأمريكية .

كنت في مثل عمر حفيدتك ، أتلفت حولي مذهولة. لا أعرف، هل العالم من حولي مجنون، أم أنا المجنونة؟ كنت في التاسعة عشر من العمر، أثق في نفسي، وفي عقلي إلى حد كبير. لكن هل يمكن لإنسان عاقل، أن يكون هو الوحيد العاقل ، في محيط من الجنون ؟

أصابني الجنون يا صديقي. وفعلت بالضبط ما فعلته حفيدتك. خلعت عني صورة جدي الوقور، وخلعت اسم أبي، واسم أبيه وجده. ونزعت عن عنقي السلسلة الفضية، يتدلى منها قلب ذهبي مشقوق بكلمات ثلاث: الله ، الوطن، الملك. كنا نغني هذه الكلمات الثلاث، في طابور الصباح بالمدرسة كل يوم . وخلعت الفستان الحريري الملائكي الأبيض ، الذي يسمونه فستان الزفاف . وارتديت جلبابي الرمادي من الجبردين ، وحذاء أبيض من الكاوتش . كان في جيبي ثلاثة وعشرين قرشَا ، تصورت أنها تكفي ثمن التذكرة إلى عالم آخر ، غير فاسد.

كان ذلك يوم 12 نوفمبر 1951 . كانت أسرتي الكريمة تستعد لإقامة الفرح . فرح ابنتهم المثالية الذكية . وعريسها شاب مثالي ذكي ، تخرج بامتياز في كلية الحقوق . وكانت كلية الحقوق ، مع كلية البوليس ، والكلية الحربية ، تشكل كليات القمة . يكفي أن تتخرج من الحقوق ، أو تلمع نجمة فوق كتفيك ، عسكرية ، أو بوليسية ، حتى تخفق لك قلوب المراهقات.

ولكنني يا صديقي ، كنت مثل حفيدتك ، في التاسعة عشر من العمر . ولم يكن قلبي يخفق ، لرجل أيًا كان . ، فما بال أن يكون واحدًا من البوليس ، أو العسكر ، أو وكلاء النيابة ، والمباحث ؟ لم أكن مراهقة كما كانوا يقولون . وأدركت بوضوح أن هناك خللًا في العالم ، في الكون كله ، و أن كل شيء مقلوب . القمة ، هي أسفل الهرم ، وليس أعلاه . الأعلى هو الأسفل، والأسفل هو الأعلى . . ومشيت في ظلمة الليل ، حتى ركبت القطار إلى العالم الآخر . دفعت ثمن التذكرة تسعة عشر قرشًا، عدد سنوات عمري . وبقي في جيب جلبابي ، أربعة قروش، لا تكفي ثمن تذكرة العودة.

وغمرتني سعادة طاغية ، وأنا أسير بقدمي نحو عالم أفضل ، ولأنني لن أستطيع العودة أبدًا ، حيث لا أملك ، ثمن تذكرة العودة . وحتى ان ملكتها ، فلن أعود ، وان استبد بي الحنين ، إلى أمي ، وأختي الصغيرة .

وداعًا يا صديقي في عالمك البعيد ، ولا تقلق على حفيدتك ، فهي بخير.



#نوال_السعداوي (هاشتاغ)       Nawal_El_Saadawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- متى يبدأ السقوط ؟
- ليست امرأة مثالية
- ما بين البحرين الأحمر والأبيض
- الدين والمرأة والسينما
- الفتاة الصغيرة أمام باب المحكمة
- أنتِ طالق يا دكتورة
- التأويل الذكورى للتاريخ المصرى
- الطب النفسى والإلحاد
- قضايا الحسبة والإرهاب
- قشرة الحياء الهشة .. يا أنت ؟
- الفدائيون وهدى عبد الناصر
- سقوط العرش المصنوع بالقش
- ثقب فى جدار العقل
- ضباب الرؤية وضوء الماضى
- كُحل ثقيل.. عقل خفيف.. والضحك
- الصخرة العاتية تتحدى أى دستور
- لكنهم لم يعثروا عليها أبدا
- رقة الشاعرة وحاملة الأثقال
- نكهة الشاى الأخضر بالنعناع
- تجاربنا الشخصية جدا تغير العالم


المزيد.....




- أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط ...
- -أمل جديد- لعلاج آثار التعرض للصدمات النفسية في الصغر
- شويغو يزور قاعدة فضائية ويعلن عزم موسكو إجراء 3 عمليات إطلاق ...
- الولايات المتحدة تدعو العراق إلى حماية القوات الأمريكية بعد ...
- ملك مصر السابق يعود لقصره في الإسكندرية!
- إعلام عبري: استقالة هاليفا قد تؤدي إلى استقالة رئيس الأركان ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: الولايات المتحدة تبارك السرقة وتدو ...
- دعم عسكري أمريكي لأوكرانيا وإسرائيل.. تأجيج للحروب في العالم ...
- لم شمل 33 طفلا مع عائلاتهم في روسيا وأوكرانيا بوساطة قطرية
- الجيش الإسرائيلي ينشر مقطع فيديو يوثق غارات عنيفة على جنوب ل ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوال السعداوي - رسالة الى صديق قديم