أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - الخروج من سجلماسة















المزيد.....

الخروج من سجلماسة


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 5494 - 2017 / 4 / 17 - 01:30
المحور: الادب والفن
    


الخروج من سجلماسة *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كل ذلك تلاشى ..
في رمشة عين اختفى وتلاشى .
كُنتَ غارقاً في لغطهم الماجن ، حينما غطّـت كف مساعدك الأول ظهرك ، ودفعت بك إلى جوف غرفة العروس بفظاظة .
دفعتك بعبارة لا تستحي ، حين كان يصيح عالياً :
« الآن ادخلْ واذبحْ البطّـة » .
كانوا داعرين ، تمعّجت الكلمات الفاحشة بين شفاههم . وقفوا برهة من الوقت يردّدون أهزوجة ، أرادوا أن يكون لها مفعول يضارع مفعول حبّـة الفياغرا الشهيرة .
« لماذا هم لحوحون هكذا » .
تساءلتَ في نفسك ، وأنت تفكّـر بأنهم يسعون لاستثارتك في هذه المهمة ، كما يستثيرونك في المهام القتالية الأخرى .
كنت حسّاساً حيال الكلمات البذيئة ، ولكن الأقدار رمت بك بين نفر لا يتخاطبون إلّا بسقط الكلام ، وقد أعدمت الحيلة . وعلى الرغم من استيائك المكتوم فقد أهاج لغطهم حوافزك ، وزيّنت لك مخيّلتك تذوّق العسل .
« إنّ بطّـتكم ذُبِحَت عشرات المرّات » .
ابتسمتَ بأسنانك البارزة وأخبرتهم بذلك ، وأنت تدلف إلى الغرفة متلهفاً ، وتوصد الباب في وجوههم .
كانت الغرفة ليلاً أبيض .. ليلاُ نضّ عنه غلالته السوداء ، فأخذ يتفصّد منك عرق الرغبة . وفي طلاقة غمرت الغرفة بكلامك الفصيح :
« مساء الخير ( أم وليد ) » .
كانت ( أم وليد ) بطّـة مرحة . شغلت بجسدها الممتلئ ، معظم السرير الذي جلست فوقه . بدت شبه عارية ، وكانت آية جمال . وقد تأكّـد لك أنها تزوّجت ثلاث مرّات قبل أن تؤول بها الأمور إلى شغل منصب المسؤولة عن سجن النساء .
أنت تعشق السمينات ، وتطاوع هواهن من غير تورّع . بين ( الرقة ) و ( الموصل ) كنت تصول وتجول ، وفي أي مكان ، بين هاتين المدينتين نزلت فيه ، لم تكن ترغب إلّا في السمينات .
دخلت عليها بحرارة ، وكانت تجلس برفقتها إحدى صديقاتها ، التي نهضت في الحال ، لتغادر الغرفة . إلّا أنّ ( أم وليد ) استوقفتها برهةً وهي تخبرها قائلة :
«تعالي أنظري إلى عينيه العسليتين ، كم هما جميلتان » .
وفي جرأة أحنيت لها رأسك ، وراحت تقبّـل عينيك ، غير أنّ صديقتها اعترضت على هذا النمط من الأشواق ، فقالت محذّرة :
« كفى تقبيلاً من العينين ، ألا تعلمين أن قبلة العين تقود إلى الفراق ؟ » . وعندما اشرأبت برأسها إليك واللّهفة تغمرها ، تقدّمت منها وطبعت قبلة على فمها .
كلاكما كان يمثّـل دور العريس ، ولكنها كانت امرأة ذات خبرة . نهضت وخلعت عنها بعض الأردية ، لتجعل خدود الليل تتورّد خجلاً .
وقفت خلفها حابساً أنفاسك ، وكان جو ( الموصل ) ساخناً . وحينما رفعت ساقها إلى حافّـة السرير ، لتخلع جواربها ، اغرورقت عيناك بالذهول . كنت سواداً في سواد . انطلقت كالغيمة إلى زاوية من الغرفة ، ورحت تنزع عنك لزوجة العرق من دون تريث . ولكنها سارت إليك حافية ، ولسعتك من الخلف نيران جسدها . التفتّت إليها ، وضممتها بين ذراعيك ، ودفنت وجهك في وسادة صدرها ؛ ثم شهقت بوسع منخريك عبيراً قاتلاً كأنّه السم الزعاف .
كنت أكثر طولاً منها ، وفي الحال رميت برأسك إلى الخلف ، أغمضت عينيك قليلاً ، ثم فتحتهما مصوّباً نظراتك إلى المجهول . أمسيت تحت تأثير هزّة عنيفة ، مفاجئة سَرَت إلى أعماقك ، كأنها صعقة كهرباء .
انثالت عليك الذكريات الدفينة مباشرةً ، واعتصرت مرارة الألم المبرّح أحشاءك ، وفي ثوان معدودات انهار عرسك .
أبهرتك رائحة التفّـاح الأحمر عندما ضممت المرأة بين ذراعيك ، وخطر في أعماقك أصدق خاطر .. خاطر عظيم جعل قوامك يتخلّـخل ويتبدّد في الحال . اختلج قلبك ، وارتخت يداك ، وهاض الحزن روحك .
إثر تلك اللمسة الحسية الصغيرة ، لم تَعُد أنت أنت . أمسيت خيط دخان نحيل يتلوّى متوارياً في منتهى الصمت ، في سماوات الضياع .
تلك اللمسة كانت ناراً في شوك .
في لحظات خاطفة غمرت صورة حبيبتك ( ريما ) ، ابنة ( سنجة ) المليحة ، أفق نظرك ، بشذاها العشبي الأخضر ؛ فاصطبغ الليل الأبيض بلون زمردي عطر .
في الحال لم تعد عابئاً بعروسك ( أم وليد ) ، ولا بأولئك الذين يتراهزون خلف الأبواب .
كل شيء تلاشى آنئذٍ ..
كل ذلك تلاشى .
كانت ( ريما ) حلم شبابك السوداني الجميل ، التي أخلصت لك العواطف والمشاعر ، وظلّـت تعيش لأجل حلمك المرّ ، الهارب و المغترب أبداً . إلّا أنّـك كنت حبيباً عاقّـّاً ، سرعان ما رميت بنفسك في دروب الحماقات من غير رويّة ، ولا حسبان . ما أن تلقّـيت مكالمة هاتفية من ابن عمّـك ، الشقي الذي كان يقاتل في ( الرقة ) السورية ، حتى اهتزّت بك أرض السودان ومادت .
ما أسرع سقوطك في لجّـة أوهام ( سجلماسة ) ! .
في أعقاب تلك المحادثة التلفونية أمسيت تتخايل الرحيل إلى هناك : حريّة بلا حدود ، مال منهمر ، ونساء وفق الذائقة ، وإمرة وسلطنة ، ورصاص لا يقف في وجهه أحد .
كنت معتقلاً في سجن مدينتك ( سنجة ) ، مضى عليك أكثر من عام في هذا السجن ، قبل أن تنجح في الهرب منه بمعونة ، وتدبير أحد القريبين من سلطة السجن .
سال كل ذلك من تحت الأقدام باسم الجهاد الموهوم .
رحت تمشي ليلاً ، وتكمن نهاراً .. مشيت على امتداد النيل الأزرق حتى مدينة الخرطوم .
في هذه المدينة لم تطلْ الإقامة . استرحت قليلاً ، وحزتَ جواز سفر مزيف ، وثمة معونة سرعان ما أوصلتك إلى ميناء ( سواكن ) .. ميناء الأساطير ، وجن سليمان .
في غاية اليسر استطعت أن تلتقي أحد مهربي البشر في هذا الميناء ، واتفقت معه على كل شيء .

وفي غضون ثلاثة أيام ، كنت على متن زورق محلّـي الصنع يشق بك مياه البحر الأحمر نحو شواطئ السعودية .
وفي مدينة ( جدة ) تسلّـحت تسليحاً كافياً بكل ما يحتاجه الإرهابي من ذخيرة روحيّـة .
كانت رحلتك الوعرة إلى ( الرقة ) محفوفة بكل ألوان الخطر ، ولكنّـك عبرتها جذلاً ، تهدّهدك أحلام ( سجلماسة ) الآسرة .

لحظة طوّقت ذراعاك ( أم وليد ) ، وامتلأت أحضانك بجسدها البض ، هاجت مدينة ( سنجة ) في عروقك كالدم الفوّار ، وأفغمت صدرك روائح ( ريما ) الحبيبة .
في لحظات ذبل كل شيء من حولك ، كل شيء .. فقد نضارته ، وشحبت خضرته ، وآل إلى يباس .
في تلك اللحظة صحوت صحوة الموت . أفقت مذعوراً على صدر عروسك . تلفّـت يميناً ويسارا في حيرة ، وصرخت بصمت جريح :
« أين أنا ؟ .. أين أنا ؟ .. في أي ركن من أركان الأرض رمى بي جن ( سواكن ) ؟ » .. فجأة تشرّعت أبواب عينيك ، واندلق الماء والهواء مندفعاً إلى جذور روحك ، التي توشك أن تموت .
أحسّستَ بحركة الأنفاس في صدرك ، وأدركتَ أنّـك تحيى .
غبتً في دوّامة الصور برهةً وأنتَ تضمّ عروسك ، ثم فتحت عينيك ورحت تحدّق في هذا الجدار اللحميّ ، البض ، الذي يريد أن يحجب عنك ذكرياتك ، في مثل هذه الأوقات .
هكذا رحتَ تغيب وتتلاشى سريعاً . وشعرتَ بالألم ينزل في صدرك أكثر مضاءً .

ما لبثت أن وهنت أعضاؤك ، وتدلّـت يداك على جانبيك بتعاسةٍ ، وفقدت كل أثر للهاث رغباتك .
الحب النائم طلّ عليك مثل ملك الموت .. الحب النائم استيقظ في أول الليل ، وجفاه النوم .
« ما بك ؟ » .
سألتك ( أم وليد ) .
« هل أنت على ما يرام ؟ » .
كانت تحاول ، في غاية التعثّر ، أن تجاريك في فصاحة اللسان .
ولأجل أن تداري ورطتك وضياعك سارعت تطبع على ثغرها الحائر قبلة لا معنى لها ، جعلت المرأة تتراجع إلى الخلف قليلاً ، وهي تحدّق فيك ذاهلةً :
« هل أنت خجول إلى هذه الدرجة ؟ إذن دعني أنا أتولّـى الأمر » .
احتقن وجهك الأسمر ، وعلته دكنة ضاربة إلى السواد ، وتفصّدت حبّات العرق على صفحته في تمام الروعة والجاذبية . ضمّتك إلى صدرها ، وارتشفت عرقك بشهوة عجيبة .
دفعت بك إلى السرير وطرحتك سريعاً ، وهناك قادتك ، بخبرتها المتقنة ، حتى التخوم القصية من ( سجلماسة ) .
حالما فرغت منها ، رميت جسدك الصلب جانباً ، من غير أن تحرّك ساكناً ، وكنت مثل تابوت أفريقي من الأبنوس الأسود ، الممطور .

تكالبت الأفكار الموحشة عليك ، وافترستك الهموم . كنت تحسّ بصحوة جسد ومشاعر عاصفة ، انتفضت من القعر المظلم ، الخانق ، وطفحت إلى الهواء . وكانت عيناك تحلّـقـان في سقف الغرفة ، وذهنك شارداً . تطوف من سماء إلى سماء ، وما تلبث أن تتوقّـف فوق بساتين ( سنجة ) وشواطئها الحالمة .
هامت ( أم وليد ) بك . كنت تحظى بآيات الإعجاب منها طوال المدّة التي عملت فيها قريباً من سجنها . سحرتها بفتوّتك ، وجرأتك الاقتحامية التي أقامت لك منزلة لا ينازعك فيها منازع .
كانت هذه المرأة تعشق الوحوش الكاسرة ، وبذلت غاية جهدها للظفر بك .

جرّبت ( أم وليد ) في موهن الليل أن تعيد الكرّة معك ، ولكنها فشلت ؛ كنت جثة هامدة ، لا رجاء فيك .
تبتسم ، وتسألك :
« هيا يا رجل هذه ليلة عرسك » .
وتردّ عليها بابتسامة متخشّـبة ، وأنت تقول :
« ليس الآن .. ليس الآن على الأقل » .
ذبل الليل ، واسودّت بشرته ، وتصاعد في طيّاته دخان الهواجس .
« سألّتكَ هل أنت على ما يرام ولم تجبني ؟ » .
وكانت تداعب صدرك العاري .
« كلا ، أنا متعب قليلاً لا غير . لنخلد إلى النوم ، ونترك كل شيء إلى الغد » .
كانت تريدك أن تفترعها ، أن تنالها افتراساً ، أن تكون سبيّـتك في تلك الليلة .
عندما نال منها اليأس لاذت بالصمت ، واستسلمت لخدر النعاس .
دفنت وجهها في الوسادة ، وكانت أشبه بسلّـة فواكه قُلَبَت فوق ملاءات السرير .
تأملّـت عريها المثير ، وندبت حظّـك المنحوس .
لم يعد الليل أبيضَ ، تهاوى البدر ، وانكسرت الأضواء .
لم تنم لحظةً واحدة ، حَرَقَت تلك الصعقة كلّ أثر للنعاس في محجريك .
شبكّـت كفيك لتسند بهما رأسك فوق الوسادة ، وهمت ضائعاً بين شتّـى الفكر . لم تعد أنت أنت ، بل كنت كل النقائض .
ما عادت كتلة اللحم الأبيض ، المستكينة معك في السرير ، تعني لك شيئاً . كنت تتأمّلها من شعر الرأس حتى أخمص قدميها ، وهنالك ، عند قدميها ، تتوقّـف ملياً ؛ لشدّ ما أبهرتك الأظافر الصقيلة في قدميها ، كانت أظافر بيضاء يشرق فيها اللون الوردي كالشفق . وأكثر ما أثارك هو أظفر إبهامها الأيمن ، الذي لاح لك مثل وجه رجل شديد المكر ، يبتسم في عينيك مباشرةً ابتسامة قاتلة ! .
بعد ذلك لم تعد تقوى على النظر إلى أية قطعة من جسدها .
« كيف سرقتني أوهام الدواعي وبريق المغريات ، وانتهيت إلى هنا ؟ » .
« ما الذي جئت لأفعله بين هؤلاء الأشقياء ؟ » .
« لم أثقلت رقبتي بدماء أناس غرباء ، هل كنت أعرفهم حقّـاً ، وهل كانوا أعدائي في يوم من الأيام ؟ » .
مثل مسامير حامية كنت تطرق هذه الأسئلة في عظام رأسك .
في مدينتك ( سنجة ) كنت شابّـاً متهوّراً . تخاصمت مع بعض الشبّان ، وأسلت دماء خصومك . إلّا أنّ تهوّرك لم يدفع بك إلى ارتكاب جرائم قتل ، فماذا دهاك الآن ؟ ..
عكفت تخوض طوال الليل في مستنقع أفكارك الموحلة ، وتعاني من حلكة ورطتك ، التي تشبه سجناً من البلوى في بطن سجن من الشقاء .. أحسسّت بورطتك المهولة على الرغم من تشبّعك بتلك الأفكار الدموية ، الحمراء ، التي مخرت لأجلها البحر الأحمر .
كانت عيناك مثل نجمتين محتقنتين ، تحبسان الدمع . ورحت تردّد في أعماقك المضطربة :
« كيف سمحت لتلك الأوهام أن تخدعك .. كيف سمحت ؟ » .
بين ساعة وأخرى كانت ( أم وليد ) تفزّ من نومها ، وتشملك بنظرة حائرة ، وأنت ساهم لا تعي بها . كانت تنظر إليك بخالص الشكوك والريب ، وعدا ذلك لم تكن لأعذارك أيّة قيمة في تفكيرها. عند أعقاب الليل كنت أنت الصيّاد ، وأنت الطريدة .
كنت أنت السهم ، وأنت الدم ! .

في أول الصباح ، خرجت من تابوتك الأبنوسي نصف حي ، واهن الأنفاس ، تنشد حياةً جديدة . وكانت الحيلة تعقد حاجبيك .
ارتديت كامل ثيابك الحربية ، قبل أن تتناول فطورك . وكانت ( أم وليد ) تبصرك بريبة . ولم تصبر طويلاً حتى سألتك :
« إلى أين تذهب ؟ » ..
« سأزور أحد أخوتي السودانيين في ( تلعفر ) » .
نظرت إليك في غضب ، وقالت في سريرتها إنّك تكذب . كنت تكره الكذب ، وارتحت حقّـاً إذ أخبرتك بأنّك تكذب . كانت تنظر في عينيك بانكسار ، أشفقتَ عليها ، وودّدت لو تخبرها بما تفعله رائحة التفّـاح الأحمر بقلب رجل مشتاق ؛ ولهذا السبب وحده دنوت منها وطبعت على خدّها قبلةً تحمل كل معاني الرثاء . ثم أخبرتها قائلاً :
« لا تقلقي سأعود عصراً » .
وقبل أن تمضي عنها أطلقتَ حسرة خافتة ، حاولتَ بصبر أن تكتمها ، ولكنّها كانت حسرة فاضحة ، بأي حال من الأحوال ، إن كانت تنمّ عن شيء فإنها تنمّ عن جيشان عواطف في فؤادك المصدوع .. عواطف ترفرف تائهةً بعيداً عن موطنها .
وذهبتَ ..

كانت تعلم .. تلك الشيطانة التي لا يخفى عنها شيء ، والتي خالطت الكثير من أمثالك ، كانت تستشعر كل ما كنت تفكّر به ، وتخبّئه في رأسك . أدركت ، بكل يقين ، أنّـك راحل . قرأت التصميم النافذ في عينيك على اللاعودة ، وأنّ قدميك ستمضي في اتجاه واحد لا غير . ما أن هرعت مسرعاً من الدار ، تريّثت قليلاً ثم تبعتك مقتفيةً خطواتك .
في مركز القيادة فاجأت الجميع ، حين تقدّمت بطلب إذن للذهاب إلى مدينة ( تلّـعفر ) ، في أول يوم من أيام عرسك . سافرت بالفعل إلى تلك المدينة من دون إبطاء . وقد أورث سفرك هذا في نفوسهم الكثير من الارتياب .
على أعتاب مدينة ( تلّـعفر ) ترجّـلت ، ووقفت على جانب الطريق الرئيس تنتظر مركبة أخرى ، لم يستغرق وقوفك الكثير من الوقت ؛ إذ استوقفت شاحنة كانت تقصد الأراضي السورية ، وركبت إلى جوار السائق .
انطلقت بك الشاحنة عبر الآكام الرملية والدروب المتصحّرة التي يزوبع فيها الغبار حتى يكاد يغشي البصر . لم يكن الأفق جليّـاً لك . كان الطريق حزيناً ، والأرض جرداء يغيب عنها الفرح . طرق لا تفضي لغير الموت ، وكانت الريح تخوت حائرة . غير أنك كنت مسافراً في رياح من أمل .
بعد مسير قليل ، وقبل أن تقتربا من أية قرية أو ناحية ، لاحت لكما على الطريق نقطة تفتيش ، تعترض الدرب وتسدّه عليكما . كانت مباغتة ، ولم تكن موجودةً من قبل .
توقّـفت الشاحنة عند النقطة . سألوا السائق عن وجهته فأخبرهم أنه ذاهب إلى سوريا . ثم سألوك عن وجهتك أنت فأخبرتهم أنّك تقصد ( الرقة ) .

أمروك بالترجّل . كانوا يعرفونك تمام المعرفة ، وبنبرة امتعاضية ، غاضبة قالوا لك :
« هيا أنزل إلى الأرض أيها السوداني » .
ترجّـلت ورأيت الموت في عيونهم ، ولم تجسر على حمل سلاحك الراقد في حجرك . جرى تفتيشك فوراً ، ثم انتزعوا سلاحك من داخل الشاحنة ، بطحوك أرضاً . وراحوا يقيّدون يديك . وأمروا سائق الشاحنة بمواصلة سيره .
سألوك وهم يمرغونك بالتراب :
« كيف تخون خلافتك ودولتك ؟ » .
وأخبرتهم بما يشبه التوسّل أنّـك مهاجر وتروم زيارة أحد المهاجرين في الشام .
ولكنهم ردّوا عليك بصرامة قائلين :
« هل باعتقادك أن الجهاد مزاجٌ يميل بك هنا وهناك ؟ » .
لم يُضَيع أولئك الرجال وقتاً طويلاً معك ، سحبوك إلى ركن من الدرب الترابي المقفر ، الكئيب ، وهناك أخبروك بمنتهى الصراحة من أنّك هارب من ميدان المعركة ؛ وقد خدعت إحدى نسائهم المجاهدات ، إذ تزوّجتها لبضع ساعات ، قبل أن تولّـي عنها هارباً . ولذلك أنزلوا بك قصاصهم . وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة ثقبوا رأسك برصاصهم . لم تبدِ لهم أي استغراب ، ولم تجب بكلمة واحدة ؛ هكذا هي الحياة معهم دائماً . كل ما ندّ عنك هو أنّ عينيك الجميلتين جحظتا مباشرةً ، وانشقّ فمك عن صرخةٍ ميّتة . ثم هويت إلى الأرض مرتطماً على أديمها بعنف . وفور ارتطامك بالأرض علا صوت انشقاق قلبك المترع بالأشواق .
كنت تحاول أن ترفع صدرك المدمي عن التراب ، وأنت تشد بجسدك إلى الأعلى .
خلال ذلك أحسسّت بنفحة هواء بارد ، تسري عبر فتحة أعلى قميصك إلى جسدك المبلول .. أحسسّت بانتعاش لم تحس بمثله من قبل ؛ مشى سريعاً إلى روحك المتعبة .. أحسسّت بذات الارتجاج الذي تركته اللمسة الأولى من جسد ( أم وليد ) في أعماقك . حاولت آنذاك أن تعبّر عن عمق عواطفك بكلمة واحدة .. كلمة واحدة فقط ، تهيأت شفتاك لنطقها ، ولكن رأسك سرعان ما هوى في التراب ، ليضيع كلامك الفصيح في تلك الهيماء ؛ كما ضاع اسمك وعنوانك ! .
كل ذلك تلاشى ..
في رمشة عين اختفى وتلاشى .

ربما كانت نهايتك مألوفةً ، لا تثير ذهولك ، أو ذهول المغامرين في ( سجلماسة ) . ولكنها بالتأكيد سوف تكون ذات معنى عنيف بالنسبة لفتاة حسناء ، سودانية ، تعيش على أمل لقائك ، وتعدّ الأيام بصبر يفوق طاقتها ، وأنت ثاوٍ في لحدٍ مجهول . بينما سيبقى اسمك مطلوباً إلى سجون ( سنجة ) لعشرات من السنين المقبلة ! .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سجلماسة : مدينة إسلامية ، تاريخية ، أثرية ، تقع في المغرب العربي . عُرِفَت بغناها وثرائها ، وبلوغها أعلى درجات الرقي والتقدم . وكانت قبلة الحالمين بالمال والرخاء . ما لبثت أن اندثرت عقب تحوّل خطوط القوافل التجارية عنها .



#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بشر الحافي في ثورته الروحية
- اليقظات قصة طويلة
- روعة اللمسة الأخيرة / قصة طويلة
- تحت جسر الهولندي قصة طويلة
- التاريخ السري للعقرب / قصة طويلة
- يوميات معتقل سياسي
- فورة الشكوك
- الشجرة الرابعة
- أكاليل حب إلى نقاهة الشاعر خلدون جاويد
- عصفور الشطرة الكحلي
- حامل شمعة الحب .. ( سمنون المحب )
- بائع الصُوَر المقدسة : قصة
- النوم مُبتَلاّ ً : قصة قصيرة
- أسرار النجم الغجري
- نزلاء الفنادق : قصة قصيرة
- المنفاخ : قصة قصيرة
- نساء الأنقاض
- ( اللطف العجيب ) ترنيمة جون نيوتن الخالدة .
- متمسك ٌ بك ِ يا عزيزتي
- قصة كفاحي : قصة قصيرة


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - الخروج من سجلماسة