أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - رائد فؤاد الرديني - المفارقة في شعر الجنوسة ، قصيدة بشرى البستاني نموذجاً، دراسة وتطبيق















المزيد.....



المفارقة في شعر الجنوسة ، قصيدة بشرى البستاني نموذجاً، دراسة وتطبيق


رائد فؤاد الرديني

الحوار المتمدن-العدد: 5494 - 2017 / 4 / 17 - 01:28
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    






المفارقة في شعر الجنوسة
قصيدة بشرى البستاني نموذجاً
دراسة وتطبيق






الاستاذ المساعد الدكتور
رائد فؤاد طالب الرديني
كلية الآداب / جامعة البصرة
1436هـ /2016م












توطئة :
يعد مصطلح (الجنوسة) من المفاهيم التي شاعت وانتشرت في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة ، وقد ارتكزت حول هذا المفهوم دراسات نسوية متعددة ومن خلال مجالات مختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية وبيولوجية وطبية ونفسية وعلوم طبيعية وقانونية ودينية وتعليمية وادبية وفنية ..... وغير ذلك ، مما جعل هذا المصطلح منطلقا لكثير من الدراسات والبحوث التي تمحورت حول المرأة بخاصة فيما يتعلق بقضايا الحقوق والمساواة وكسر مركزية الذكورة وتسلطها ضد المرأة ، من هنا وجدت الحركات النسوية العالمية في مفهوم الجنوسة (الجندر) مجالا واسعا للتعبير عن افكارهم ومبادئهم فيما يخص قضايا المرأة .

ولكون الحركات النسوية المتعددة تتكئ على مرجعيات مختلفة ونظريات متنوعة ، فقد جاءت توظيفاتهم لمفهوم الجنوسة حاملة مرجعياتهم ورؤاهم التي تعبر عن وجهات نظر متباينة ازاء مفهوم الجنوسة ، فوظفوا منها ما يتناسب ونظرياتهم المختلفة ، ابتداء بنظريات فرويد ولاكان في التحليل النفسي ، ومرورا بالنظريات البنيوية وما بعد البنيوية ، وانتهاء بالتفكيكية وطروحات دريدا ، فضلا عن الاتجاهات الليبرالية والطروحات الماركسية ، الا انها جميعا اتفقت على أن التمييز النوعي بين الرجل والمرأة هو نسق ثقافي لا علاقة له بالاختلافات البيولوجية ، ومن ثم اصبح هذا المفهوم يشير إلى مقاومة كل أشكال الانحياز ضد المرأة ، ومناهضة القوانين والأعراف التي تضطهدها ، وتجعلها خادمة تابعة ، وخاضعة ، وفي المرتبة الثانية ، ولاسيما مقاومتها قسمة العمل الذكورية التي جعلت العمل في الميادين المفتوحة للرجال ، والخدمة في الميادين المغلقة من دون أجر للنساء ، لتغدو مما جعل المرأة – ازاء ذلك – تتحول من حالة الرفض لتلك الأحوال إلى حركة تعمل على تغيير هذه الأوضاع لحظة وعيها بها ؛ لتحقيق المساواة الغائبة عبر المطالبة بالحقوق الكاملة للنساء بوصفهن بشرا وقلب التفضيلات السائدة للنظم الروحانية ، ذات الطابع الذكوري ، رأساً على عقب ، وإعادة بناء التقاليد منظومة قيم جديدة على نحو أكثر إنسانية .

وعلى الرغم من تأثر كثير من الكاتبات العربيات بالمرجعيات الغربية فيما طرح من مفهوم للجنوسة الا ان بعضهن قد تبنينَ استراتيجية الاستفادة من المرجعيات العربية وخصوصا الإسلامية منها ، وقد تجلى ذلك في المنتديات والجمعيات ، التي التقت كلها تحت مظلة الدعوة إلى تحرير المرأة من اسار الجهل والاستلاب ، ومناهضة كل أشكال التمييز ضدها ، بداية بكتابات قاسم امين وجميل صدقي الزهاوي ووصولا الى طروحات لطفية الدليمي وفاطمة المرنيسي واحلام مستغانمي وغيرهنَّ كثير .

واذا كانت قضية المرأة وما اتكأت عليه من اشكاليات عدة وتناقضات مختلفة وكبيرة وبخاصة فيما يتعلق بجدلية الرجل/المرأة ، قد شكلت منطلقا لكثير من الدراسات النقدية والفكرية ، فان النص النسوي شعرا كان او سردا قد اتكأ على أنماط تعبيرية خاصة وأساليب تعكس طبيعة الموضوع الذي تخوض في كتابته المرأة كما تعكس خصوصية المعالجة النصية التي تعتمدها الكاتبة النسوية ، وتعد المفارقة احدى تلك التقنيات التعبيرية التي وُظفت في النص الأدبي النسوي ، مما جعل المرأة وهي تكتب نصها انما تكتبه في صورة اقرب ما تكون الى المعالجة الثنائية التي تقوم على (التراجيديا الكوميدية) إن صح التعبير ، فالكاتبة النسوية وهي تكتب عن قضية المرأة فإنها تصدر عن أسى وحسرات كونها إنسانا يمتلك من الطاقات ما يؤهله للشراكة في بناء الحياة وصنع القرار ، وفي الوقت نفسه فإنها تواجه تيارا مضادا تحاول ان تجابهه بقوة وثبات وشيء من القوة التعبيرية التي لا تخلو من السخرية أحيانا وأحيانا أخرى من التناقض ، وهذا ما جعل الكاتبة تلجأ إلى أسلوب بلاغي ساخر يتمثل في المفارقة التي هي في حقيقتها وليدة موقف نفسي وثقافي متكئ على المرجعيات الفكرية للكاتب/الكاتبة .

ونتيجة لحتمية التحولات التي طرأت على الحياة المعاصرة والتي أضحت تقوم على متناقضات متعددة واختلالات / اختلال في التوازنات ، وجدليات في الحوار ، فان المفارقة أصبحت في النص الادبي العربي المعاصر تقنية شائعة وعنصرا مهيمنا يصلح لدراسة كثير من النصوص الأدبية وتحليلها كما يذهب الى ذلك بعض النقاد .
وتعد الشاعرة والناقدة العراقية الاستاذة الدكتورة بشرى البستاني واحدة من ابرز تلك الاصوات التي خاضت غمار مناهضة التحيز ضد المرأة سواء من خلال ابداعها الشعري ام من خلال كتاباتها النقدية وحواراتها الفكرية ، بل نجد ان خطابها الفكري تجاه قضية المرأة اتصف بالاعتدال المبني على اسس مرجعية تعكس واقعا معيشا ومنظومة ثقافية اكثر مما يعكس حالة استلاب تابعة لمنظومة غير منظومتنا الثقافية ، او تكون نابعة من ردة فعل لما هو موجود في الواقع الذي نعيشه وما يحوي من افرازات مجتمعية خاضعة لتقاليد واعراف ، وهذا ما مثل مشروع الناقدة بشرى البستاني في مجال قضايا الجنوسة ، وسنحاول في بحثنا هذا ان نعرض رؤيتها لقضايا المرأة وبخاصة فيما يتعلق بقضايا الجنوسة والإبداع الشعري من خلال حواراتها الكثيرة وطروحاتها المتعددة ، ثم نسعى لان نعاين مشروعها النظري من خلال ما كتبته من ابداع شعري وعبر قصائد متنوعة محاولين الوقوف على نصّ قصيدتها (أنا والأسوار) ساعين إلى مقاربة هذه القصيدة من خلال تقنية المفارقة الشعرية التي تعد احدى التقنيات التعبيرية التي وظفت في النص الادبي .


* * *

اولاً / المحور النظري


1-1 مفهوم الجنوسة :
يعد مصطلح (الجنوسة) من المفاهيم التي شاعت وانتشرت في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة ، وقد ارتكزت حول هذا المفهوم دراسات نسوية متعددة ومن خلال مجالات مختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية وبيولوجية وطبية ونفسية وعلوم طبيعية وقانونية ودينية وتعليمية وادبية وفنية ..... وغير ذلك ، مما جعل هذا المصطلح منطلقا لكثير من الدراسات والبحوث التي تمحورت حول المرأة بخاصة فيما يتعلق بقضايا الحقوق والمساواة وكسر مركزية الذكورة وتسلطها ضد المرأة ، ولذلك فان ((المحرك الاساسي لمثل هذه الدراسات هو الدعوة التحررية التي تبنتها الحركات النسوية في تركيزها على مفهوم الجنوسة كعامل تحليلي يكشف الفرضيات المتحيزة المسبقة في فكر الثقافة عموما والغربية خصوصا)) . ( )

ومصطلح الجنوسة ترجمة لمصطلح (genedr) وتعني وحدة النوع البشري ، الرجل والمرأة من حيث انهما يجتمعان معا في مضمار ثقافي واحد ، وانهما حملا متاعب المسار التاريخي في تطور الحياة والرقي بها( ) ، ويعود مفهوم (gender) في اصله الى مصطلح لغوي السني يشير الى تقسيم ضمني في النحو القواعدي اللغوي ، اذ هو في اللغات الغربية السائدة اليوم مشتق من المفردة اللاتينية التي تعني النوع او الاصل (genus) ، ثم تحدر سلاليا عبر اللغة الفرنسية في مفردة (gendre) التي تعني ايضا النوع او الجنس ، ومن المفردة نفسها جاءت الانواع الادبية او الاجناس الفنية ، كالرواية والمسرحية والشعر . ( )

ويرى الدكتور محمد عناني في معجمه الادبي ان الترجمة الحرفية لمصطلح (genedr) هو الانحياز لاحد الجنسين ، ويرى ايضا ان هذه الكلمة مصطلح نحوي في الاصل إذ يعني التمييز في الاسم بين المذكر masculine والمؤنث feminine ، ومن هنا فان كلمة الجنس (sex) تختلف عن كلمة النوع (genedr) ، فاذا كانت كلمة الجنس تعني الفئة البيولوجية ، اي الاساس الجسدي للتقسيم ، فان كلمة النوع (genedr) تعني انماط السلوك الذكرية التي يتبعها الرجال ، وانماط السلوك الانثوية التي ينبغي ان تلتزم بها المرأة ( ) .

من هنا سعت الدراسات النسوية من خلال مصطلح الجنوسة الى توظيف المفهوم النحوي في دراسة البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية المختلفة ، فاذا كانت الجنوسة اللغوية النحوية مجرد بناء او تركيبة عرفية تقتضيها خصائص اللغة ، فان التمييز النوعي الجنسي (البيولوجي) بين الذكر والانثى هو تمييز تركيبي مؤسساتي ثقافي وليس خاصية بيولوجية طبيعية ، ولهذا تصبح الجبرية البيولوجية مجرد اسقاط ثقافي لا علة طبيعية في التكوين البشري نفسه ، كما ان الجنوسة اللغوية النحوية ليست بنية ضدية ، بل تتسع الى تشعبات متساوية لا تملي قيما هرمية ، ومن هذه الخصائص سعت الدراسات النسوية لدحض دعوى هرمية العلاقة بين الذكر والانثى التي اصطنعتها وارستها الثقافة لكي تعطي الرجل قيمة لا تعتمد على غير تكوينه البيولوجي ، اما المرأة فتتدنى على السلم الهرمي لا لسبب سوى تكوينها الطبيعي . ( )

من هنا وجدت الحركات النسوية العالمية في مفهوم الجنوسة مجالا واسعا للتعبير عن أفكارها ومبادئها فيما يخص قضايا المرأة ، ومن هذا المنطلق بدأت الدراسات النسوية بدحض مصداقية الجبرية البيولوجية واثبتت هذه الدراسات ان التكوين الجنسي ليس معيارا للقيم الثقافية ، بل ان القيم الهرمية اسقاطات لا يبرر تعسفها سوى التذرع بالتكوين الجنسي الذي لا يصمد امام الدراسات المخبرية التجريبية ، كما انبرت دراسات نسوية اخرى لتقصي علاقات البنى الاجتماعية في تفريقها بين الرجل والمرأة اعتمادا على الجنوسة التي لا تبرر طبقية العلاقة ، ولا توزيع الفائدة والاعباء في المجتمع ، وقد كشفت عن علاقة هذا الفصل بالهيمنة والسلطة والتسلط وتكوين الهوية ومفهوم الذات ، اذ ان الفصل الحاد بين المذكر والمؤنث ارسى منظومة مفاهيمية عازلة تجعل الانثى تفكر بطريقة تختلف عن طريقة تفكير الرجل في المستويات كافة . ( )

لذلك فان الجنوسة جاءت لتؤكد ((وحدة النوع البشري ، الرجل والمرأة ، من حيث انهما يجتمعان معا في مضمار ثقافي واحد ، وانهما حملا متاعب المسار التاريخي في تطور الحياة والرقي بها ، وان كلفت لمرأة دون الرجل باداء مهمة التواصل البشري ، ويترتب على هذا ضرورة التفرقة بين الجنس والجنوسة ، واذا كان الرجل قد روج للجنس عبر التاريخ للهبوط بالمستوى الحضاري للمرأة الى المستوى البهيمي ، فان المرأة عادت لتؤكد دورها الحضاري جنبا الى جنب مع الرجل من خلال هذا المصطلح الجديد الذي روجته منذ الستينيات وواصلت البحث عنه في المجالات الابداعية والاجتماعية المختلفة ، لتنتهي الى ان الجنوسة اقدم من الجنس ، اذ انها تمثل الفعل الاول للحياة عندما خلق الله تعالى الرجل والمرأة من نفس واحدة ، ليجعلهما مسؤولين عن الوعي بافعالهما)) . ( )
ولكون الحركات النسوية المتعددة تتكئ على مرجعيات مختلفة ونظريات متنوعة ، فقد جاءت توظيفاتهم لمفهوم الجنوسة حاملة مرجعياتهم ورؤاهم التي تعبر عن وجهات نظر متباينة ازاء مفهوم الجنوسة ، بمعنى ان دراساتهم فيما يخص المرأة من خلال مفهوم الجنوسة جاءت عبر منظار كل نظرية ارتكزت عليها مرجعياتهم ، فوظفوا منها ما يتناسب ونظرياتهم المختلفة ، ابتداء بنظريات فرويد ولاكان في التحليل النفسي ، ومرورا بالنظريات البنيوية وما بعد البنيوية ، وانتهاء بالتفكيكية وطروحات دريدا ، فضلا عن الاتجاهات الليبرالية والطروحات الماركسية ، الا انها جميعا اتفقت على أن التمييز النوعي بين الرجل والمرأة هو نسق ثقافي لا علاقة له بالاختلافات البيولوجية .

لقد سعت الناقدات النسويات في الغرب باختلاف توجهاتهن وتعدد انتماءاتهن الى زعزعة السلطة الذكورية المهيمنة في الغرب ، فاستعانت بفكر ما بعد البنيوية لتفكيك نظام الثقافة الغربية التي تستند على تنظير فلسفي ذكوري قائم على نظام الثنائيات المتعارضة ، فقد قامت النسويات على كشف هذه التراتبية وسعت لهدمها عن طريق لغة انثوية تمارس فعل التخريب في بنية اللغة العادية التي ليست سوى لغة رجالية . ( )
وقد اختصرت جوان سكوت اهداف دراسات الجنوسة في ثلاث : اقامة تحليل التراكيب الاجتماعية مقام الجبرية البيولوجية في مقاربات الاختلاف الجنسي ، واقامة دراسات مقارنة للرجل والمرأة في حقل التخصص الواحد ، واخيرا تغيير نماذج التخصصات باضافة الجنوسة كعامل تحليل جديد ، ولا شك في ان مثل هذه الاهداف قد افرزت دراسات كشفت الكثير من التحيزات في الفكر الغربي . ( )

ان خطاب الحركات النسوية التي وظفت مفهوم الجنوسة وما ينطوي عليه من مرتكزات يغدو خطابا للمراة (( يسعى الى اعلان وجودها كما اعلن خطاب الرجل وجوده ، كأن المرأة بهذا الخطاب المضاد توسع لذاتها مساحة حضور في الكتابة والحياة ، وخطابها من هذا المنطلق له صفة الدفاع عن الـ(انا) الانثوية ، بوصفها ذاتا لها هويتها المجتمعية والانسانية ، ومن ثم له صفة المواجهة امام خطاب آخر شرّع ويشرع قمعها ، وحرمانها وتأبيد امتلاك الآخر السلطوي اياها ، وسيطرته عليها)) . ( )
واذا كانت دراسات الجنوسة قد سعت الى تحييد هيمنة الرجل ومحاولتها احداث نوع من التوازن بين الرجل والمرأة عبر عدالة متبادلة ، فان هذه الدراسات لم تخلُ – عند بعضهن -من التطرف والدعوة الى قلب المعادلة السائدة المتضمنة اولوية الرجل على المرأة لتكون المرأة هي الاصل والرجل هو الفرع ، والسعي الى اقامة جماعات الانثى على غرار جماعات الرجل ، ولا شك ان مثل هذه الدعوات ترتكب آلية القمع نفسها التي جاءت لتناهضها ، ولما كانت هذه الدراسات منصبة على معاناة الانثى فانها وصلت الى مرحلة تأكيد سمو واهمية الانثى ، ومن ثم تكون قد وقعت في شرك الهرمية الفكرية التي جاءت اصلا لمحاربتها ، مما يجعل طروحات الجنوسة لا مبرر لها بوصفها طروحات تبعدها عن اهدافها الحقيقية وتجعلها في عزلة انفرادية ، فضلا عن دخولها في إشكالات تضر بنضال الحركات النسوية المعتدلة ضد الممارسات القمعية لمؤسسات الثقافة الذكورية ( ) ، فاستبدال التطرّف الذكوري بتطرّف نسوي لا يحل المشكلة وإنما يعمقها ( ) ليستحيل الطرح الجنوسي مجرد الوجه الآخر لعملة الفكر الابوي .
وترى بعض المفكرات الغربيات ان المرأة تكوّن مع غيرها من النساء المجتمع النسوي الذي يمكن ان يتعدى حدود الواقع الثقافي من خلال وضع اجتماعي واحد ، اذ تمثل احدهن برسم دائرتين متداخلتين هما Y , X ، وتمثل الاولى المجال الثقافي الرجالي ، والثانية المجال الثقافي النسائي :

Y X





فالمرأة تشترك مع الرجل في جزء كبير من الدائرتين المتداخلتين ، ويظل لها بعد ذلك جزء محدود خارج دائرة الرجل ، الا وهو الجزء الذي يعد ملكا لها ولا دخل للرجل فيه ، ويسمى من جانب الرجل الجزء البري او الجامح في المرأة ، ويوازي هذا الجزء الخارج عن دائرة الرجل جزءا خارجا عن دائرة المرأة ، وهو كذلك جزء ملك للرجل ولا دخل للمرأة فيه ، ولكن بينما يوصف ما هو ملك للمرأة بانه جامح وبري ، يوصف الجانب الخاص بالرجل بكمال الوعي ، وبغض النظر عن الجانب الذكري ، فان المنطقة الخاصة بالمرأة التي توصف انها البرية والجامحة هي التي تعني النقد النسوي ، حيث انها تعد مكمنا لرموز الوعي النسوي ، ومهمة هذه الرموز في حالة تفعيلها ان تجعل الخفي ظاهرا والصامت متكلما ، وهذا يعني ان هذا الجانب البري الجامح يصدر عنه صوتان خطابيان هما صوت التسلط ، وصوت الصمت وهما الصوتان الصادران عن الميراث الاجتماعي والثقافي اللذين يقدر للمرأة ان تتحملهما ، وحيث ان كل خطوة يخطوها النقد النسوي اليوم تتجه نحو تحديد خصوصيات الكتابة النسوية ، فانها في الوقت نفسه تتجه نحو فهم الذات النسوية وسبر اغوارها . ( )

* * *

1-2 الجنوسة في الثقافة العربية :
اذا كانت الاسباب التي دعت الى بروز مفهوم الجنوسة في الثقافة الغربية نابعة اساسا من حركة مقاومة نسوية ازاء كل مظاهر الانحياز ضد المرأة ، والسعي نحو مناهضة القوانين والأعراف التي تضطهدها ومحاولة تحييد هيمنة الرجل ، فاننا لا نستطيع ان نقرر ان مفهوم الجنوسة في الثقافة العربية قد كان رد فعل طبيعي لكل مظاهر الانحياز ضد المرأة – كما هو موجود في الثقافة الغربية – فعلى الرغم من اقرارنا بوجود المشكلة نفسها في الخطاب العربي المعاصر والمتمثلة في ((التعامل اللاهوتي مع المرأة باعتبارها كائنا يأتي في المكانة الثانية من حيث الوجود الانساني ، وبوصفها عنصرا ]أُختير[ للقيام بوظيفة اعادة الانتاج وحسب))( ) ، ومع اقرارنا ايضا ان بعض الكاتبات قد صدرن عن الاسباب نفسها او قريبا منها مما هو موجود عند الكاتبات الغربيات ، فان مما لا يخفى على كثير من النقاد ان الطروحات النقدية والمقاربات الفكرية ازاء مفهوم الجنوسة في ثقافتنا العربية قد اتكأ على خلفيات ومرجعيات غربية ، هذا اذا نظرنا الى مفهوم الجنوسة وفقا للجانب التنظيري ووفقا للدراسات التي تناولت المصطلح والمقاربات التي عالجت المفهوم تنظيرا وتطبيقا ، اما من حيث طبيعة الطرح النسوي الانثوي لكل مظاهر التحيز ضد المرأة ومقاومة اشكال هيمنة الرجل وتسلطه ، سواء أكان هذا الطرح المناهض ادبيا ام فكريا ، فان مفهوم الجنوسة في هذا الجانب كان اقل حدة واقل انحرافا مما هو عليه في الثقافة الغربية ، وهذا راجع اساسا الى المرجعية التي تتكئ عليها المرأة العربية ، والبيئة التي عاشت من خلالها المرأة وما زالت ، فعلى الرغم من وجود مظاهر الانحياز واشكال التسلط الذكوري في المجتمع العربي ، الا انها لم تكن بالدرجة نفسها مما هي عليه في الثقافة الغربية ، والسبب يرجع الى المرجعية الاسلامية المتمثلة في الطرح الاسلامي الحقيقي وموقفه الايجابي تجاه المرأة ذلك الموقف الذي اتسم بروح الانصاف والعدالة والاحترام للمرأة وجعلها العنصر المكافئ للرجل ان لم تكن الاساس في المجتمع ، هذا اذا اسثنينا بعض التأويلات للنصوص الاسلامية التي اتسمت بروح العدوانية والدونية تجاه المرأة ، وهذه النصوص لا تعدو كونها وجها آخر من وجوه الانحياز ضد المرأة .

ان ((الخطاب المنتج حول المرأة في العالم العربي المعاصر خطاب في مجمله طائفي عنصري ، بمعنى انه خطاب يتحدث عن مطلق المرأة/الانثى ويضعها في علاقة مقارنة مع مطلق الرجل/الذكر . وحين تحدد علاقة ما بانها بين طرفين متقابلين او متعارضين ، ويلزم منها ضرورة خضوع احدهما للآخر واستسلامه له ودخوله طائعا منطقة نفوذه ، فان من شأن الطرف الذي يتصور نفسه مهيمنا أن ينتج خطابا طائفيا عنصريا بكل معاني الالفاظ الثلاثة ودلالاتها ، وليس هذا شأن الخطاب الديني وحده ، بل شأن الخطاب العربي السائد والمسيطر شعبيا واعلاميا)) ( ) .

تبعا لذلك فان كثيرا من الكاتبات النسويات العربيات - فضلا عن الكتّاب العرب الذين ناصروا قضية المرأة - تبنينَ استراتيجية الاستفادة من المرجعيات العربية وخصوصا الاسلامية منها ، واستتبع هذا قيامهم بإجراءات عدة ضمنت لهم انتخاب ما يتواءم منها ، ويتوافق والهوية العربية الإسلامية وثوابتها ، لاعتقادهم أن الإسلام لم يهضم حقوق المرأة وإنما الثقافة العربية الذكورية هي التي هضمت حقوقها واختزلتها إلى جسد ، وألغت كينونتها ( )وقد تجلى طروحات تلك الحركة عبر عدد من التمظهرات لعل ابرزها الكتب والمقالات والمنتديات والجمعيات التي نادت بحقوق المرأة والدفاع عنها ، بداية بكتابات قاسم امين وجميل صدقي الزهاوي ووصولا الى طروحات لطفية الدليمي وفاطمة المرنيسي واحلام مستغانمي وغيرهنَّ كثير .

* * *

1-3 الجنوسة وفعل الابداع :
اذا كان فعل الكتابة بالنسبة للمرأة هو بحث عن ((افق اوسع للحرية تحقق فيه المرأة توازنها المفقود بين ذاتها الداخلية وذاتها الاجتماعية ... بين ما ترغب في اعلانه ، وبين المسكوت عنه))( ) ، فاننا نرى انه لابد من الوقوف عند فلسفة الكتابة وفعل الابداع عند المرأة ، لنتبين رؤية وفلسفة الناقدة بشرى البستاني ازاء المرأة العربية وهي تقاوم بالابداع .

تصف الناقدة والمنظرة النسوية الفرنسية هيلين سيكسوس العملية الابداعية لدى الكاتبة قائلة:((ان المرأة تمنح نفسها قدسية عندما تنجب ذلك التدفق الامنيوسي(amniotic) الرحمي من الكلمات والتي تعيد وتكرر ايقاع وتقلصات فعل المخاض))( ) ، فالكتابة بالنسبة للمرأة هي بمثابة فعل خلاص وفعل مقاومة ، فعل خلاص من واقعها الذي ضرب حولها الاسوار بفعل القوانين والاعراف والتقاليد التي منحت الرجل سلطة ابوية(بطريركية) لاضطهاد المرأة مرة باسم الدين ومرة اخرى باسم الرجولة والهيمنة الذكورية ، واما فعل مقاومة فلانها ناتجة عن ردة فعل طبيعية مشروعة عند المرأة في التصدي لكل ما يعيق حريتها ويقيد حركتها ، ((ان الكتابة لدى الاديبات جزء من عملية المقاومة ، وكأن التحدي شكل لديهنّ مكونا من مكونات فعل الكتابة ))( ) ، ذلك الفعل التي يحمل في داخله ثورة على الواقع القائم سعيا منها في تغييره واعادة تشكليه عبر المواجهة والمقاومة التي تقودهما المرأة من خلال فعل الكتابة ، مما يجعل من فعل الابداع الانثوي مجالا واسعا للمرأة في اعادة انتاج ذاتها بالكتابة فـ((حينما تكبر دائرة استلاب المرأة ، ويعوق الحصارُ الذاتَ ، تتجه الانثى الى الاستفادة من قدراتها ، وتسعى الى تحويل العزلة الى فضاء منتج ، ترى السبيل متمثلا في توليد الحياة من ظلمة الفقد من خلال الابداع والكتابة)) ( ) ، لا سيما وان الذاتية والتعبير عن الداخل من اهم ملامح الكتابة النسوية ، اذ ان ما يحدد كتابة المرأة بالاساس هو تجربتها الذاتية وفي ضوء هذا ((تحدد خصوصية الادب النسوي بالتمركز حول الذات ورفض السلطة الذكورية ، والبحث عن الحرية)) ( ) ، فالكتابة بالنسبة للمرأة ملاذ (( تحتمي فيه الذات من عفونة الواقع وتردي مستوى وقصور الوعي عن الذهاب بعيدا في اعماق الموجودات وسبر اغوار المجهول الانساني والطبيعي)) ( ) ، وما السير الحثيث المتواصل في طريق الابداع النسوي الا محاولة خلخلة بعض المفاهيم السائدة في المجتمعات الذكورية والحد من هيمنتها ، اذ يهيمن الخطاب الابوي المستحدث على الساحة الابداعية والنقدية والاجتماعية محاولا اخفاء مادية الخطاب النسوي الادبي واستبعاده واعادة تكريس الفصل والعزلة . ( )

لذا فان خصوصية ابداع المرأة في الادب لاتنهض من ذات مبدعة مخلوقة من عدم وانما من حقل اجتماعي وذاتي لم يفضِ الى تلوين ادبها بلون خاص وحسب ، بل افضى الى جعل كتابة المرأة فعل مقاومة مزدوجة حيال عالم غير عادل من جهة ، يقاومه الرجل ايضا ، وحيال مجتمع بطركي / ذكوري من جهة اخرى ، مسؤول عن المها الانطولوجي ، تبدع هي في التعبير عنه . ( )

ذلك لان (( المرأة كتبت منذ الازل وسوف تبقى تكتب الى ما لا نهاية ككائن لا كجنس لان الابداع لا يؤطره جنس حامله امرأة كان ام رجلا ، لان خلوده يأخذه من قيمته كنص ابداعي حامل لوجوده عبر الزمان والمكان ))( ) ، فالمرأة حين تقتحم عالم الكتابة تقتحمه بكل كينونتها ، وما يحيط بأبعاد وجودها الاجتماعي والحضاري لأن الكتابة الصادرة عنها حينئذ لا يراد لها أن تكون امتدادا لوجودها الأنثوي فقط ، بل هي امتداد بوجودها وقدرتها الإنسانية، واعتدادا بالذات المؤنّثة المتعالية عن فلسفة التبعيّة والقوامة وفلسفة السيّد و العبد ، إنها صورة تقطع مع الماضي السحيق( ) ، من هنا فانه لم تعد ((الكتابة بالطريقة الانثوية تعني تكرار هوية محددة او خبرة معينة ، بل تعني تمثيل الدور الذي يخلق المرأة بصفتها هوية ، امرأة تخلق هويتها ، وتمثل القراءة النسائية نموذجا مضادا للقراءة الرجولية التي تحدد هوية الابداع الابداعي ، ويعد الابداع الادبي والابتكار الفني اساسا لتحديد الهوية)) . ( )


* * *

1-4 الجنوسة وقضاياها في رؤية الشاعرة والناقدة د.بشرى البستاني :
بداية ترى الناقدة بشرى البستاني ان علم الجندر(الجنوسة) هو الذي انقذ قضية المرأة من احادية الطرح والتناول واعادها الى شموليتها في الحياة ، فقضية المرأة ليست قضية مسألة حقوق وواجبات بل هي قضية مرتبطة بطرائق النظر الى العالم وحركة التاريخ وجوهر الحياة والى الاسس المعرفية الشمولية ، ومن هنا كان على الجندر تقديم فرضيات جديدة تلامس الفكر والسلوك الانساني ، ومنظومات القيم المحركة لمجمل الميادين ، وعليه فان هذه القضية ليست بمعزل عن مجمل قضايا المجتمع الاخرى ، انما هي النبض الحميم الذي يحرك مجمل قضايا الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، فالجندر يهتم بالبحث في امور المرأة والرجل والطفولة والاسرة والمجتمع ، ويهدف الى اعادة المرأة لمزاولة دورها في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية . ( )
واشارةُ الناقدة الى قضية (احادية الطرح) يوميء الى قضايا التحيز ضد المرأة من قبل المنظومة الذكورية المتمثلة في الرجل ، الا انها تحاول ان تكون طروحاتها - في مسألة التصدي لهذه المنظومة – ايجابية وهو ما ميزها عن كثير من طروحات المفكرات اللاتي طرحن هذه القضية في عصبية منحازة للمرأة ، فالناقدة ترى ان سلطة الرجل الذكورية (( ليست سلطة فردية بل هي سلطة مجتمعية صنعتها منظومات التخلف التي اشتبكت في تشكيلها عبر عصور متراكمة عواملُ شتى ، حتى صارت المرأة نفسها جزءاً فاعلا في هذه المنظومة حين تشتغل داخل فكرها التقليدي وعبر مخططاتها عندما تقوم بتنشئة اولادها وتربيتهم على خطوط مدونتها الموروثة دون وعي بستراتيجيتها ))( )
ان الناقدة بشرى البستاني وهي تسعى لان تنصف المرأة من السلطوية الذكورية بعيدا عن التحيزات ضد الرجل ، فانها تحاول ان تؤسس منظومة شراكة بين الاثنين : الرجل والمرأة ، وهي لذلك تفرّق بين مطلب واقعي وحق مشروع للمرأة ان تنتزع سلطة الرجل عليها وتضعها في منظومة ثنائية متكاملة بينهما ، وبين ذكورية متسلطة تخنع المرأة ازاءها لتكون تابعة سلبية وليست مشاركة ، (( فالمرأة في العالم كله عبر التاريخ كانت مخلوقا كادحا وأماً مضحية وزوجة وربة أسرة مسؤولة ، مما أغرى الرجل بعطائها فأوكل إليها واجب العطاء العاطفي وحرمها معظم ميادين الحياة الأخرى ، أسكنها بيته حارسة أمينة وأخذ منها الدنيا وصنع القرار وكتابة التاريخ وتفسير الأديان والخطابات حقبا طويلة ، فلما أفاقت ورفضت الواقع نسي الكثيرون تاريخ عطائها الطويل واتهموا قرارها الذي هو مطلب حقيقي وليس رد فعل على الاستلاب بالأنانية ، أما حق امتلاك القوة والكفاءة أمام الآخر ، فذلك حق مشروع ظل مضمونا للرجل عموما ، لكني أحرص على أن تكون القوة والكفاءة متشكلة مع الآخر وبشراكته وبمؤازرة الطرفين ولا تتم من خلال فصل أو منافسة وتحديات أو صراع يؤذي ثنائية الحياة الأساسية المؤتلفة : المرأة والرجل ، فهما يشتغلان داخل مشروع واحد هو تمجيد الحياة))( )

ان الثنائية التي تسعى اليها بشرى البستاني بين الرجل والمرأة انما هي ثنائية كونية وجودية ، فالحياة – كما ترى البستاني – ((امرأة تضمر رجلا كما يضمرها الرجل ، فالكون لا يستكمل بهاءه في رؤية المرأة الواعية والمتصالحة مع انوثتها الا بوجود الرجل الواعي المؤازر والمشارك ، والوجود لا يكون متوازنا الا بوجودهما معا ، إنهما منتجا الحياة ، بوعيهما الفاعل يشكلان الجمال ويمنحان الطبيعة معناها ، ويعطيان الأشياء الجميلة قيمتها ))( ) ، فالمرأة والرجل من الثنائيات الاساسية في الحياة ، وهما ثنائية مؤتلفة منسجمة ، وليست ثنائية تضاد كما يدعي بعضهم ولا ثنائية مصالح ، بل هي ثنائية حياة وتكامل ومصير انساني مشترك . ( )

ولذلك فان بشرى البستاني ترفض ذلك الفصل القسري بين المرأة والرجل فهي لا تؤمن(( بفصل الأنثى عن رفيق العمر وصديق المكابدة الأزلية حتى لو كان منه ما كان عليها من قسوة وما يزال ، إن محاولة عزل قضية المرأة عن قضية المجتمع باعتقادي من أخطر القضايا التي يمكن أن تواجهها الإنسانية في الوقت الحاضر ، لأن المجتمع الإنساني اليوم يواجه أخطار إبادة حضارية وإنسانية من قبل حضارة استعلائية مادية لا بد من التكاتف رجالا ونساء ومجتمعات من اجل التصدي لها وإحلال مبادئ التوازن والانسجام محلها ))( ) ، ولهذا السبب ترفض الناقدة مصطلح النسوية دالا على الطروحات التي تخص المرأة ، إذ ترى ان ((النسوية – مصطلحا ايديولوجيا – ليس هو ما اسعى اليه ولا انا مؤمنة بكل طروحاته ، كونه يعزل ويفصل وانا ضد الفصل والعزلة ))( ) ، فـ((مشروعي تجاه الانثى يخص الانوثة منطلقا انسانيا وجماليا وفلسفيا لاحتواء الكون واحلال التواصل والتناغم ، فالانثى شقيقة الرجل وحبيبة عوالمه النقية غير الملوثة بالذرائع ، والرجل شقيق روح الانثى والظلال التي تقيها قسوة لفح الحياة ، وحواء ام الاحياء وحاضنة الحياة وموطنها معا كما يؤكد المتصوفة ، كونها خلقت من الحياة وليس من تراب يابس وكونها منتجة الحياة وديمومتها)) . ( )

ومن هنا نجد الناقدة رافضة لكل الحركات الغربية التي سعت الى ان تؤسس مركزية للمرأة على حساب الرجل ، اذ ترى ان ما قدمته تلك الحركات من احكام وطروحات لا تصح على المرأة العربية لاختلاف ظروفها الحياتية اختلافا جوهريا عن ظروف المرأة العربية ، من جهة ومن جهة اخرى لتطرف المنظمات النسوية الغربية الراديكالية ، تلك المنظمات التي دعت إلى فصل قضايا المرأة عن الارتباط المصيري بالرجل ونظم العائلة فيما يخص الزواج وتشكيل الأسرة وأعباء الأمومة ، مما يشكل عوائق كبيرة – برأيها - أمام تحقيق ذاتها وتشكيل مواهبها بحرية كما هو متاح للرجل . ( ) ، لذا فان ما جاء به النقد النسوي الغربي لا يحمل في طياته كلها خيرا للمرأة والاسرة ، ذلك انه حمل في تطرفه الكثير من السلبيات التي ادت الى تفكك الاسرة وتدهور العلاقات الانسانية وتدهور احوال الطفولة وفقدان الشعور بالامن النفسي ، فضلا عن ان تلك النظريات المتطرفة افرزتها مجتمعات تختلف كليا عن مجتمعاتنا ، ولذلك فهي لا تصلح حلا لمشاكلنا ، او معالجة للسلبيات التي تحيط بظروفنا . ( ) فمركزية الحضارة الغربية وكل ما نتج عنها من نهاية التاريخ وحتمية عولمة العالم في رأي بشرى البستاني خرافة صنعتها غطرسة التطرف الغربي وحضارته المادية التي ادعت التمركز والانبثاق في حين تؤكد الوثائق والمنطق التاريخي أن الحضارة الغربية ماهي الا ثمرة جهد الانسانية جميعاٍ عبر التاريخ من وادي الرافدين والنيل والهند والصين وفارس ، وأن حضارتهم نتاج ظروفهم التاريخية ، فهي ليست شمولية ولا تصلح لشعوب العالم ، ولذلك فالنسوية التي نتجت عنها خاصة بها وبنسائها ()، لان الطرح الغربي انما كان قائما على انعكاس لواقع له مقدماته ومرجعياته الخاصة ، ولهذا السبب فان المرأة العربية اذا ما ارادت هي طرح قضاياها ومشاكلها؛ فلابد ان يكون ذلك الطرح انعكاسا لواقعنا وقائما على اساس من مرجعياتنا ومنظومتنا الفكرية ونابعا من واقع استلابي تعيشه هي وتتحمل معاناته وافرازاته الاجتماعية .
وحسب مقولة هيدغر ((ان اخطر الاعمال هي الكتابة))( ) ، فاننا نرى من الضروة الوقوف عند قضية ذات اهمية في موضوع الجنوسة تتمثل في الكتابة النسوية وفعل الابداع واثر ذلك في موضوع الجنوسة .

1-5 الكتابة والابداع عند المرأة في رؤية الشاعرة بشرى البستاني :

ترى الشاعرة بشرى البستاني ان الكتابة بالنسبة للمرأة هي حضور وتحرر ومسؤولية وانتماء ، فالمرأة في هذه الكتابة تضيف متعة أخرى لحضورها الأنثوي المرهف والمفعم بالحنو ، هي متعة العطاء الإبداعي والمعرفي ، في الكتابة الأنثوية تكشف المرأة عورة التاريخ وموروثاته المتخلفة بشجاعة ، وتزيح الغطاء عن ظلم جعل الإنسانية تهدر نصف طاقاتها عبر القرون ، وتدحض بقلمها الجهل الذي أدام تلك التشوهات ، وهي في مواهبها الحقيقية تضيف لخصوبتها الفطرية خصوبة أخرى تلقحها بجهدها الذاتي وسهرها المعرفي والثقافي ، وهي بذلك تزيد من بهائها وجمال حضورها حين تضاعف أنوثتها بالشعرية وسطوة الكتابة ؛ لان الجسد يحضر عبر كل مفردة وكل تركيب من تراكيب النص المكتوب بأنامل الأنثى ، الكتابة عنفوان لأنها وليدة الحرية وخلاص من الوأد وسلطة الحجب ووحشة الجدار ، والكتابة الأنثوية ليست تعبيرا عن ضعف واستلابات حسب ، بل هي تفجير لكل القوى الكامنة في صميم إنسانة عاشت قرونا من الكبت والقهر والحرمان ..فالكتابة قوة وحب وولع وانعتاق وتشكيل للجمال ، وهي بالكتابة تقاوم عوامل السلب في المجتمع ؛ فالكتابة من أهم وسائل المقاومة الابداعية ، إنها إصرار على الحضور وتدوين الأثر ، هذا الأثر الذي كانت تنجبه للرجال بوجع ومعاناة كي يخلد أسماءهم عبر العصور، بينما يختفي اسمها في سجلات ميلاد يعلوها الغبار ، لكنَّ هذا المنجز الجديد الذي يتشكل جنينا في دمها وخلايا رأسها وعصبها ، ومن ثمَّ بأناملها غدا اليوم أثرا وليدا يُنسب إليها ويحمل اسمها ويحقق سمات هويتها . ( )
تقول الشاعرة في مقدمة ديوانها :
((مع امساك المرأة بالقلم بدأت عملية كسر الحواجز التي منعتها وتمنعها من التواصل وديمومة الفعل ، فالكتابة افضاء والافضاء تعبير عن امتلاء وثراء ، وذلك اول مفاتيح الحل ، والكتابة هوية وديمومة وخطاب ، والخطاب سلطة ، والسلطة صوت ، وهذا الصوت بالنسبة للمرأة كان في طي الكتمان خشية او رهبة او تقية ، والصوت افصاح وعلامة وكشف عن الذات ، انه الهوية وقد تجلت ، والكلام وقد انبثق من اعماق الغياب مذ ضاع حضورها زمن اكتشاف الزراعة حيث استقرت الاسرة بعد طول رحيل مع الصيد ، وحيث قسم النظام الذكوري الادوار فاختار لنفسه صنع القرار السياسي والاقتصادي ، ومنحها الدور العاطفي متمثلا بالامومة وخدمة البيت الذي يتزعمه الرجل ، ومن هنا بدأت عملية حجبها عن الحياة العامة كما بدأ تغييبها لتظل الانظمة التقليدية المتسلطة احقابا منفردة بالتخطيط للحياة وصنعها والتشريع لها وكتابة تاريخها ، وظلت الانثى هي التابعة المتلقية بصمت ، وان حضرت فمن وراء حجاب))( ) .

وترى الناقدة بشرى البستاني ان المرأة بالكتابة تنجز أمرين لا أهمَّ منهما ، الأول إعلان المساءلة للتاريخ والمجتمع وجبن النساء وتبعيتهن لتسلط الثقافة الذكورية الحريصة على إدامة موروث فظ وجامد وقبلي لا علاقة له بالتراث الحي ، بل مهمته الوقوف عقبة أمام مستقبل أفضل ، والثاني عقد المصالحة والانسجام مع ذاتها التي تحولت من السكون الى الحركة ومن الرضوخ الى الثورة ، فالثورة ان لم تكن انوثة مخصبة ستصاب بالعقم والقطيعة والموت حتما ، لذلك فالشاعرة الثائرة تشعر بالرضى عن ضراوة فعلها المتحرر وسط ظلام الجهل والقطيعة . ( )

تقول الشاعرة بشرى البستاني : ((كان مشروع التحرر في وعيي يتمركز حول مفهوم مفاده ان الانسان اذا كان هو فعله ، فان الحرية هي الارادة الحرة التي تخلق فعلا حرا لا تكبله تبعية القيد الخارجي وبالتالي فان المقاومة الدائمة هي الطريق الامثل لمواصلة هذا المشروع ، وهكذا كانت المقاومة في كل اتجاه هي الخلاص الوحيد الذي آمنت بجدواه دوما ، المقاومة الرصينة باسلحتها الجادة علما وعملا واستمرارية في بناء الذات ومؤازرة الآخر في بناء ذاته وهي مقاومة متحركة لا تستقر عند هدف معين بل تتحول من انجاز الى آخر وكان لها ما اردت ، ان المرأة لكي يُعترف بحضورها ابداعيا او علميا او عمليا تحتاج الى طاقة هائلة وشجاعة فائقة على التوازن والتضحية في اجواء تهيمن عليها كارثتان ، ثقافة ذكورية راسخة ، وتسليع شنيع لانسانيتها)) . ( )

واذا كان الناقد عبدالله الغذامي في تحديده لمصطلح الكتابة النسوية ((يشترط توفر وعي المرأة/الكاتبة بذاتها ووجودها))( ) ، فان الذات الانثوية - في رؤية الشاعرة بشرى البستاني - انما ((تكتب ضرورة كينونتها وكشفا لازمة هذه الكينونة في توتر وجودها وهي تسعى للسمو على التشيء والانفصال ، حاجتها الجارحة لتحويل محنتها الداخلية الى الورق في محاولة لتفكيك ما يمكن معالجته بالوعي من خلال الوقوف امام متاهات الذات وهي تحتدم بالاسئلة الطافحة بالحيرة امام مجاهل المصير واسراره وسلبيات الواقع بحثا عن المعنى بالكتابة وجها لوجه)) . ( )

ان الابداع اذا كان هو وليد الحرية وانه ثورة ضد الظلم والتقاليد والموروثات المتخلفة ، فان المرأة المبدعة - كما تذهب الى ذلك الشاعرة بشرى البستاني - تحتاج لمقومات عدة واسلحة وعي ثقافية نشطة من اجل ان تكون قادرة على مواجهة هذا القهر المركب والواقع المعقد ، ولذلك فإن الحراك الثقافي الواعي بمنجزات الحرية وقيم الإبداع في تفعيل خياراته لابد له من تنشيط أجواء التفكيك بإشاعة روح التذوق الجمالي الحر لدى القارئ والاستجابة الابتكارية للجديد الثائر على الأطر القديمة ، وتهيئة الأجواء لتشكيل قيم جديدة تقتحم القدامة لا لتزيحها فحسب ، بل لتعمل على إزاحة كل مخلفاتها وما ينجم عن تلك المخلفات من استمرار الركود والسكونية وعلاقات القمع في المجتمع . ( )
وهنا تتحقق الحرية للذات عبر افق الكتابة بصفتها محتوى مكانيا لحركة الحرية ، وهذا ما عبر عنه ميشيل فوكو عندما صرح قائلا (اتركونا احرارا عندما يتعلق الامر بالكتابة) ، فالحرية ذات طبيعة علائقية لا يمكن ان تنهض من دون ان تتعاضد مع المكان والزمان في وحدة واحدة ، بحيث تشكل بنية متعددة الرؤى كفيلة بان تجعل الذات المبدعة تمسك باللحظة التاريخية الخالدة ، وهنا تصبح الذات رائية ، بمعنى انها تخترق البنية الاجتماعية والثقافية والادبية المتخارجة منها ، وتتعالق مع عالمها الخاص ورؤيتها المستقبلية . ( )

وإذا علمنا أن هذه المحاولات محاطة أكثر الأحيان بالرفض والتصدي والنكوص والردات المتكررة كما هو في العالم العربي ، فإن المبدعة الحقة - في رؤية بشرى البستاني - تحتاج لشجاعة مبهرة وتضحيات جمة من أجل تحقيق هذه القضية ، الا ان المبدعة العربية يعوزها الكثير من الجرأة والعلوم والمعارف والفعل والخبرة المعمقة كي تقول كل ما يجب قوله شعرا ، وقصور هذه الجرأة ليست جبنا ولا ضعفا أو انكفاء على الدوام ، لكنه في الغالب اشتراطات قسرية وموقفُ تحسّبٍ واع لما يحيط بها من سلطة ثقافة ذكورية وقيم عشائرية وقبلية ما زالت للأسف تهيمن على المجتمع . ( )

لكن على الرغم من كل هذا فان الشاعرة بشرى البستاني وبنظرتها المتفائلة ترى ان المبدعة العربية والشاعرة على وجه الخصوص وقياسا بالأجواء القسرية التي تعيشها ومجتمعها تمكنت من فتح الأبواب التي كانت موصدة على موضوعاتها الأنثوية الخاصة بها مرة ، والتي كان الشاعر يقولها نيابة عنها لصمتها وتغييبها أخرى ، كما تمكنت لحد لا بأس به من التعبير عن مشاعرها الأنثوية الخاصة وإطلاق صوتها في الأمور العامة وتدوين رأيها فنيا على كل المستويات الثورية والوطنية والإنسانية ، وقول أحاسيسها في الرجل إيجابا وسلبا وفي الوطن وقضايا الإنسان عموما ، مجربة في ذلك كل الأشكال الشعرية لكن كل ذلك لا يكفي ، فالشعر لم يعد ذلك الغناء الذي يُطرب بايقاعاته العالية ، الشعر اليوم فن ذو حساسية خاصة وروح مرهفة تمتزج فيه المعرفة وجوهر الحضارة بالجمال ، فن يحتاج لحس نقدي ومعارف متنوعة راقية وعميقة تراثية ومعاصرة معا ، وعلوم تغذيه وذوق رفيع يجيد تنسيقه وتجارب حياتية حادة تتطلب خوض غمار الحياة بعنفوان ، وبما لا يتاح لمجمل الشاعرات العربيات لأسباب عدة لعلَّ في طليعتها عدم توفر الظروف الموضوعية في الأسرة والمجتمع التي تساعدها على تحقيق هذا الهدف . ( )
والناقدة بشرى البستاني تؤكد في خطابها على المرأة الشاعرة تحديدا ، وترى ان الشعر هو الشكل الجمالي للأسئلة القلقة منذ أول قصيدة كتبها الإنسان وحتى اليوم ، ومنذ أن وقف الشاعر العربي القديم على الأطلال وحتى آخر طلل إنساني ، إنه جواب امرئ القيس وطرفة وعروة بن الورد والمتنبي وابي العلاء وسواهم على الجراحات الداخلية التي كرسها ويكرسها الاغتراب والفقدان وألم المصير ، فما الشعر في صيرورته إلا السؤال الوجودي الآخر الذي يتشكل لغةً جماليةً داخل تلك الأسئلة الوجودية الجارحة ليمر عبرها في رحلة انعتاق نحو الخارج ، إنه محاولة للتخفيف من عذاب المسكوت عنه وترويض تناقضاته ، وإذا كان الرجل الشاعر قد عانى ويعاني من هذه المكابدة المرة فكيف للمرأة المرهفة بكل استلاباتها وما ورثته من رواسب العلاقات التراثية القامعة أن تواصل الحياة دون عملية تسريب لاشتباكات الحزن والحرمانات وضيق الفضاء المفروض عليها والشعور العميق بالغبن الذي يلازمها ، علما أن كل الشعر والفنون التي كتبت من قبل الرجال والنساء معا ما هي إلا وسائل تسريب ومقاومة ثقافية ليس لمكبوتات الداخل حسب ، بل لإشكاليات الرصد التي تقف أمامهما متمثلة بالرقيب النفسي والثقافي والمجتمعي ، مما يجعلها تعيش معاناة أخرى هي كيفية إلباس نصوصها طاقية الإخفاء لانجاز أدب يجيد الترميز بحيث يعبِّر عن معاناتها ويخفي ، ويقول ولا يصرح معا . إن اندماج الأنثوي بالشعري أمر بغاية الأهمية في شعر المرأة ، إنه أبلغ خطورة من نصوصها الأخرى سواء الروائية أو القصصية ، ذلك لعمودية الشعري واشتغاله السري وسطوته على المكبوت وما خفي في اللاوعي أكثر من الأنواع الأدبية الأخرى . ( )

واذا كانت المرأة قد وجدت في الكتابة الابداعية وبخاصة الشعر اداة للمقاومة ومواجهة السلطوية الذكورية القائمة على المنظومة الموروثة ، فان الاداة الرئيسة لهذه الكتابة ستكون بلا شك اللغة ، ولما كانت اللغة تخضع للمنظومة المتوارثة الساندة للنظام الابوي ، فان اللغة حينئذ لغة ذكورية في نسقها ، ولهذا فان (( صراع الذات مع من حولها صراع لغوي ، وأن أولى خطوات تحقيق وجودها تبدأ في مواجهة سطوة اللغة للخروج من أَسْرِ تنميطاتها الاجتماعية ما يجعل التحرر من أسر هذا الخطاب مرهوناً بثورة لسانية تقوض التمركز المنطقي حول الذكر، وتبدع قوانين خطاب خاصة بالمرأة)) ( ) .
وهو ما تراه الشاعرة بشرى البستاني ، إذ تؤكد أن الرؤى هي التي توجه اللغة وهي التي تشكلها ، وامرأة تمتلك رؤية حرة ووعيا فاعلا بقضية الإنسان لابد من امتلاكها اللغة التي تعبر بامتياز عن قضيتها الإنسانية ، وإذا كان العقل الإنساني عبر التاريخ قد اشتغل في حيز الذكورة ومصالحها فان المرأة في اللغة غالبا ما تظهر في ظلال الذكر وضمن حضوره فيما نسميه بظاهرة التغليب في اللغة والانضواء في ضمائره ، تغليب التذكير على التأنيث ، ان أيديولوجية اللغة القياسية كما أطلقت عليها لوزيتالبي غرين تعني الانحياز الى لغة مجردة ومتجانسة ، وذلك لا يمكن الركون له كما أرى حتى في المجتمعات المستقرة حضاريا ، فاللغة هي ابنة الحياة والعلاقة جدلية بين الأدب والحياة والأدب والسياسة وبين اللغة والحضارة وما دامت الحياة قائمة على التطور والحركية في كل تلك الجوانب ، فان اللغة ستأخذ مداها في التطور هي الأخرى مطردة مع التطور الحضاري ، لكنها بالنسبة للمرأة تحتاج لمزيد من المثابرة والجرأة كي تكتب بأسلوب يعبر عنها وعن مشاعرها وحاجاتها . ( )
واذا كانت اللغة اندروجينية (Androgyne) وهو مصطلح يوناني الاصل يشير (Andro) الى الرجل ، بينما يشير (Gyne) الى المرأة ، فاللغة غير حيادية بل توترية تعكس المواجهة اللاشعورية بين الاثنين ( ) ، من هنا فان الشاعرة بشرى البستاني ترى ان نص المرأة ليس محايدا ، بل هو نص مقاوم يقاتل على أكثر من نسق ، يقاتل سلطة الخارج بأزماته المركبة ، ويقاوم سلطة الداخل المجروح بالأسئلة النفسية والوجودية المحكومة بالتوتر الدائم ؛ لذلك فإن الشعر يعمل على التفريغ والخلاص والاستبدال معا ، وهو فضلا عن ذلك يشكل انهماكا في لعبة فنية تشتغل بذروة الدقة والجد لتستنفد مداها بين أمرين بغاية الأهمية هما قمة اللذة مندمجة بجوهر القيم في شبكة من العلاقات المعقدة تشكلها الشعرية المثابرة للكشف والتصدي معا( ) ، وعلى الرغم من اقرار الشاعرة بشرى البستاني بان هناك صعوبة في القول بوجود لغة خاصة بالرجل وأخرى خاصة بالمرأة ؛ لأن اللغة عموما إنسانية مشاعة للجميع ووجودها في المعاجم بثراء يتيح لمستعمليها النهل من ثرائها ، فان اللغة تتباين حين تكون كلاما أو كتابة كما أكدت اللسانيات ومعها الاسلوبية ؛ لان لكل متكلم وكاتب أسلوبه الخاص ، والمبدعة الحقة هي التي تتمكن من تطويع اللغة لمقاصدها ، وهذا التطويع هو الذي يشخص طريقةً عن طريقة ، ويمايز بين أسلوب و أسلوب ، المهم هنا رحابة الرؤيا وكيفية التعبير عنها فضلا عن سعة الأفق الذي يجب أن يتوفر للمبدعة لتجيد التعبير عن قضاياها. من هنا ستظل اللغة الأنثوية في علاقة جدلية مع الحياة لا تنفصل عنها ، فاللغة إنسانية محايدة ، لكن طرائق التعامل معها هي التي تميل بها نحو الانحياز أو التوازن ، وإذا كانت الثقافة الذكورية قد وظفت قوانينها اللغوية بانحياز للذكورة ؛ فعلى المبدعات العربيات وعالمات اللغة - وهن كثر – أن يجتهدن في الإصرار على اجتراح صيغ جديدة تعطي المرأة حقها اللغوي في الحضور ، وذلك متاح في قوانين التشكيل مرة وفي استعمال الضمائر المؤنثة وهي موجودة باللغة ، وفي قوانين الاشتقاق اللغوي وصياغاته الثرية في اللغة العربية المعروفة بمرونتها وقدرتها على التواصل( ) ، وبهذا تستطيع الذات الانثوية من بلورة تجربة عبر لغتها التي تعكس واقعها النفسي مثلما تكون انعكاسا لواقعها الخارجي .

* * *

1-6 المفارقة في النص النسوي :
واذا كانت قضية المرأة وما أحاط بها من اشكاليات عدة وتناقضات كبيرة ومختلفة وبخاصة فيما يتعلق بجدلية الرجل/المرأة ، قد شكلت منطلقا لكثير من الدراسات النقدية والفكرية ، فان النص النسوي شعرا كان او سردا قد اتكأ على انماط تعبيرية خاصة واساليب تعكس طبيعة الموضوع الذي تخوض في كتابته المرأة كما تعكس خصوصية المعالجة النصية التي تعتمدها الكاتبة النسوية ، وتعد المفارقة احدى تلك التقنيات التعبيرية التي وُظفت في النص الادبي النسوي وبخاصة في الطرحات التي عالجت موضوع (الجنوسة) ، مما جعل المرأة وهي تكتب نصها انما تكتبه في صورة اقرب ما تكون الى المعالجة الثنائية التي تقوم على (التراجيديا الكوميدية) ان صح التعبير ، فالكاتبة النسوية وهي تكتب عن قضية المرأة فانها تصدر عن توجهين ، إما عن تحديات صادمة للواقع المستكين على منظومات قيمه المتخلفة ، أو عن اسى وحسرات كونها انثى وفي الوقت نفسه فانها تواجه تيارا مضادا تحاول ان تجابهه بقوة وثبات وشيء من القوة التعبيرية التي لا تخلو من السخرية احيانا واحيانا اخرى من التناقض ، وهذا ما جعل الكاتبة تلجأ الى اسلوب بلاغي ساخر يتمثل في المفارقة التي هي في حقيقتها وليدة موقف نفسي وثقافي متكئ على المرجعيات الفكرية للكاتب/الكاتبة .

مصطلح المفارقة .. المفهوم والدلالة :
تعد المفارقة احدى التقنيات التعبيرية التي وظفت في النص الادبي ، وعلى الرغم من وجودها منذ زمن قديم ، الا ان كثيرين ممن تعرضوا لدراسة المفارقة رأوا بانه ليس هناك تاريخ كامل وموثق لتطور دلالة مصطلح المفارقة في اي من آداب الامم الاوروبية الرئيسية كالانجليزية والفرنسية والالمانية ، الا ان الدارس يستطيع ان يخرج بتصور عام لا تنقصه الصحة او الدقة فيما يتعلق بدلالة المصطلح وتطورها اعتمادا على ما اصبح يتوفر من مادة مكتوبة حول هذا الموضوع في اللغات العالمية ، فكما يذكر ميويك فان الكلمة الاغريقية (Eironeia) قد وردت في جمهورية افلاطون لاول مرة ، وهي مصطلح (Irony) نفسه في اللغة الانجليزية ، ويعني المفارقة ، على لسان احد الاشخاص الذين وقعوا فريسة محاورات سقراط ، وهي طريقة معينة في المحاورة لاستدراج شخص ما حتى يصل الى الاعتراف بجهله ، وكانت الكلمة نفسها تعني عند ارسطو الاستخدام المراوغ للغة ، وهي عنده شكل من اشكال البلاغة ويندرج تحتها المدح في صيغة الذم ، والذم في صيغة المدح ، ولم تظهر كلمة (Irony) في اللغة الانجليزية بوصفها مصطلحا الا في اوائل القرن السادس عشر ، ولكنها لم تجد سبيلها الى الاستعمال العام الا في نهاية القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر ، وكانت تعني ان يقول الانسان عكس ما يعنيه ، كما تضمنت معنى السخرية . ( )
وقد تطور مفهوم المفارقة بعد ذلك الى ان اصبح ينظر اليها على انها صيغة بلاغية ، وصار تعريف الكلمة (قول المرء نقيض ما يعنيه) ، او (ان نقول شيئا ونقصد غيره) ، كأن تمدح لكي تذم ، او تذم لكي تمدح ، ثم صارت تستخدم لتفيد التظاهر حتى في ما لا ينطوي على مفارقة . ( )

اما عند العرب فان فن المفارقة لم يعرفه بلغاؤهم على هذا النحو من التحديد الحديث له ، وان كانوا قد احسوا بخصوصية الكلام الذي يراوغ ويهرب من تحديد المعنى ، او يقول شيئا ويعني شيئا آخر ، ومن هنا كان كلامهم عن التهكم ، والسخرية ، ولطائف القول ، والمدح بما يشبه الذم ، والذم بما يشبه المدح ، الى غير ذلك من الفنون البيانية التي تقوم على التلاعب باللغة على نحو خاص ، ولكن لما كان حس المفارقة حسا اصيلا في الانسان ، فانه لا يخلو عصر من العصور ، او ادب من الآداب ، ولو بدرجات متفاوتة من التعبير بالمفارقة . ( )

وقد اختلف الدارسون في تعريف المفارقة ، كل بحسب اتجاهه ونظرته وتوظيفه للمصطلح ، مما ادى الى تقسيمات وأنواع لا حصر لهما ، بدلالات مختلفة وتعريفات متنوعة ، الا ان بعض الدارسين حاولوا ان يحصروا انواع المفارقة في ثلاثة انماط : المفارقة اللفظية ، والمفارقة الدرامية ، والمفارقة الرومانسية ، وتعد المفارقة اللفظية هي الاقرب الى النص الشعري ، حيث اللغة هي اداته ( ) ، إذ تعرف بانها شكل من اشكال القول ، يساق فيه معنى ما ، في حين يقصد منه معنى آخر ، غالبا ما يكون مخالفا للمعنى السطحي الظاهر ، ويتحقق هذا النوع من المفارقة في مجموعة من المستويات ، ويجتمع فيها اكثر من عنصر ، فهي تشتمل على عنصر يتعلق بالمغزى هو مقصد القائل ، وتشتمل كذلك على عنصر لغوي ، او بلاغي هو عملية عكس الدلالة ، والمفارقة اللفظية في هذا المجال تشبه الاستعارة في هذه البنية ذات الدلالة الثنائية ، غير ان المفارقة تشتمل ايضا على علامة توجه انتباه المخاطب نحو التفسير السليم للقول ، ويحتاج فهم هذه العلامة الى مهارة خاصة ، وهي مهارة ثقافية وايدولوجية يشارك فيها المتكلم والمخاطب ، وعلى كل حال فان الكشف عن المعنى الحقيقي الذي يسوقه الكاتب لا ينتج عنه الغاء قوة المعنى الظاهر لان فن المفارقة يتحقق حين يقال الشيء دون ان يقال ، وحين يكون القصد مفهوما دون ان يكون جليا . ( )

وقد تعددت تعريفات المفارقة اللفظية ، إذ كل ناقد يحاول ان ينظر الى هذه المفارقة من الزاوية التي يريد دراستها ، فمثلا نجد البلاغيين نظروا اليها من منظور اسلوبي بلاغي ، فهي من الناحية الاسلوبية ضرب من التأنق هدفها إحداث ابلغ الاثر باقل الوسائل تبذيرا ( ) ، وهناك من ينظر اليها نظرة دلالية فيرى انها ليست اكثر من علامة منتجة لعالم غير محدود من العلامات التي لم تفلح في اكتساب مدلول ثابت او مدلولات مناقضة ولكنها تستخدم فقط بديلا مستديما لدال بدلا من دال آخر ، بحيث يبقى البعد بين الدوال قائما( ) ، ونظر آخرون الى المفارقة من خلال النقيض ، فمثلا نجد معجم اوكسفورد المختصر يعرف المفارقة بانها تعبير عن معنى معين بلغة نقيضة ولهدف مختلف ، وينظر اوجست شليجل الى المفارقة على انها شكل من النقيضة ، في حين يرى صموئيل جونسون المفارقة طريقة من طرائق التعبير يكون المعنى فيها مناقضا او مضادا . ( ) ، اما فرويد فقد رأى في المفارقة وسيلة تطلق نوعا من اللذة التي من شأنها ان تساعد على التخلص من الكبوتات ، شأنها في ذلك شأن النكتة . ( )
ومن خلال ما سبق يتبين لنا ان هناك عناصر مشتركة بين تعريفات المفارقة ، وتتمثل هذه العناصر في ثلاثة :

اولا : الكلام الذي يتم تنسيقه في منظومة معينة ، يحيث يؤدي الدال في هذه المنظومة مدلولات سياقية نقيضة لمدلوله المعجمي .
ثانيا : الرسالة : وهي ما تحمله المفارقة من المعاني او الدلالات النقيضة للدلالة المعجمية الظاهرة ، او ما تود المفارقة ان تحققه ، في نفس صاحب البصيرة من رؤية .
ثالثا : صاحب البصيرة ، وهو الطرف الذي تحقق رسالة المفارقة نفسها لديه ، وينحصر صاحب البصيرة هذا في واحد او اكثر من الاطراف :

1- الباث (Emitter)
2- المتلقي (Receiver)
3- الضحية (Victim) ، وهو الطرف الذي يقع عليه مضمون المفارقة . ( )

ان المفارقة – تبعا لما تقدم - لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين : صانع المفارقة وقارئها ، على نحو يقدم فيه صانع المفارقة النص بطريقة تستثير القارئ وتدعوه الى رفضه بمعناه الحرفي ، وذلك لصالح المعنى الخفي الذي غالبا ما يكون المعنى الضد ، وهو في اثناء ذلك يجعل اللغة يرتطم بعضها ببعض ، بحيث لا يهدأ للقارئ بال الا بعد ان يصل الى المعنى الذي يرتضيه ليستقر عنده . ( )

يتضح مما سبق ان المفارقة في النص الادبي ليست مجرد وسيلة تزيين للقول او للعمل الادبي الذي ترد فيه كما انها ليست مجرد شكل جميل ذي نكهة معينة ،ولا حلية للزينة او لعبة بلا قوانين ، بل هي لا تكون مكونا أدبيا إلا إذا كانت نابضة في صميم البنية التشكيلية للنص ، لا تطغى عليها الصنعة ولا يهيمن عليها الوعي القصدي ، بل تندمج في تشكيلها الموهبة المقتدرة بذكاء الفن ومهارة المعرفة ، ولا تكون أدبا إلا إذا امتلكت الأدوات التي تجعل منها مفارقة منبثقة الدلالات ، لها قوانينها الماهرة والماكرة معا ، كما أن لها أهدافها التي تتنوع حسب عمق رؤية المبدع وسعة أفقه ومدى وعيه بذاته وبما حوله من صراع واحتدامات ، فكلما كان المبدع واعيا بكثافة الحياة وتعقيداتها وكارثية وقائعها ، وبالفلسفات المغذية لتلك الوقائع كانت مفارقاته متشظية الدلالة ، عميقة البعد ، بعيدة المرمى ، ومتشابكة الأهداف( ) ، انها كما يقول كيركيجارد ((حيث انه لا يمكن ان توجد فلسفة صادقة بدون شك ، فاننا نستطيع القول انه لا يمكن ان توجد حياة بشرية اصيلة بدون مفارقة)) ( ) .

ان المفارقة – في وظيفتها - تشبه اداة التوازن التي تبقي الحياة متوازنة او سائرة في خط مستقيم ، تعيد الى الحياة توازنها عندما تحمل الحياة على محمل الجد المفرط في جديته ، او عندما لا تحمل على ما يكفي من الجد ، فالكاتب يجعل من المفارقة وسيلة لفهم التناقضات التي يقوم عليها العالم ، وهو لذلك يسعى الى الحفاظ على نوع من التوازن في عمله الفني بين اليقين العاطفي وبين التحفظ المشوب بالشك . ( )

ونتيجة لحتمية التحولات التي طرأت على الحياة المعاصرة التي اضحت تقوم على متناقضات متعددة واختلال في التوازنات ، وجدليات في الحوار ، فان المفارقة اصبحت في النص الادبي العربي المعاصر تقنية شائعة واستراتيجية محببة لدى ادبائنا ، او كما تقول سيزا قاسم اصبحت عنصرا مهيمنا يصلح لدراسة كثير من النصوص الادبية وتحليلها ، ذلك لان النص العربي المعاصر ، قد اخذ يسجل تحولا في العنصر المهيمن الواقع الى اتجاه يقوم على المفارقة ، والعنصر المهيمن كما توضحه الناقدة متبنية تعريف ياكوبسون له بانه العنصر المحوري في العمل الفني ، الذي ينظم ويحدد العناصر الاخرى ، ويدخل عليها بعض التحولات الدلالية ، وبذا يقوم العنصر المهيمن بضمان تماسك البنية الفنية وتلاحمها . ( )

* * *

ثانياً / المحور التطبيقي .. تحليل القصيدة
عتبات القصيدة :
1-1القصيدة الانثوية ومغادرة الفحولة :

سعت الذات الانثوية المبدعة الى محاولة اجتراح لغة خاصة بها تكون انعكاسا لتطلعاتها ورؤيتها وافصاحا لوجودها واثباتا لحضورها ، اذ وجدت ((في التشكيل اللغوي فضاء رحبا للتعبير عن ذاتها ككائن مستقل له رؤيته وتصوره للعالم ، وبوصفها كائنا غير الرجل يجب أن يحمل خطابها اللغوي بصمات تفردها الإنساني،ولذلك فقد اصطبغ نص الأنثى الشعري برؤيتها لعالمها في ذاتها وعالمها حولها ، والعلاقة بين العالمين ،فكان شعر الأنثى فاتحا لبوابات الأمل والميلاد الجديد ، وكان نصها قرينا لحالة الانعتاق من التقاليد التي رهنت المرأة وحاصرت وجودها))( ) ، ولهذا فان اولى التقاليد التي تواجه هذه الذات وهي تكتب الشعر هو ما عليه هذا الشعر من تقاليد مرتبطة بالقيم الذكورية التي ارتبطت به منذ زمن فاصبحت دلالة على وجود ما عرف بالنسق الفحولي الذي ينظر الى الشعر على انه نظام ذكوري قائم على انظمة ابوية لا يمكن المساس بقدسيتها ، وابرز نسق فحولي هو النظام العمودي في الشعر ، ذلك ان ((عمود الشعر علامة ذكورية ترمز الى الفحولة وتتسمى بها))( ) ، وهذا متأت من علاقة عضوية صارمة ما بين الشكل العمودي الشعري من جهة والفحولة من جهة اخرى ، وكل شعر عمودي فهو بالضرورة شعر فحولي ، لهذا فان الذات الانثوية اذا ما ارادت لتجربتها ان تنجح وتأخذ مساحة من الحرية للتعبير عن مكنونات تجربتها الذاتية (الجنسوية) ، وان تجترح لغة انثوية تكون معبرة عن تجربتها الخاصة وفي الوقت نفسه تكون في مواجهة مع اسوار النسق الذكوري ، فان عليها ان تكون - بداية - في مواجهة مع هذا النسق المستفحل والمتمثل في القصيدة العمودية ، وهذا ما فعلته اولى التجارب النسوية التي كان لها الفضل والاسبقية في كسر عمود الفحولة وانتهاك النسق الذكوري متمثلة في الرائدة نازك الملائكة التي كان عملها مشروعا انثويا من اجل تأنيث القصيدة ، وهذا لم يكن ليتم لو لم تعمد - اولا - الى تهشيم العمود الشعري ، وهو عمود مذكر ، عمود الفحولة ، اذ انها كانت - مشاركة مع السياب - سباقة الى فعل تفكيك الموروث ، ونقد البنية الصلبة لثقافتنا وهي القصيدة العمودية ، وحدوث ذلك من شاعرة فتاة له مدلوله الخاص في مواجهة عمود الفحولة والنسق الذكوري للثقافة . ( )
ان قصيدة التفعيلة لا تعني خروجا على الشكل القديم ، بقدر ما كانت خروجا واضحا عن الانظمة الذكورية المتحكمة في مملكة الشعر ، ولهذا كان الشعر الحر رؤية جديدة للعلاقة بين ما هو ذكوري وما هو انثوي ، ، لتكون قصيدة التفعيلة - بعد ذلك - صورة ((لحركة الذات الشاعرة في بعدها الجواني والفردي الخاص ، بعد انعتاقها من اسر البيت ، ليرتبط ايقاعها بمكوناتها الداخلية ، ابتداء من حركة الذات الشاعرة بعواطفها العميقة ورؤاها البعيدة ، وانتهاء بمكنونات اللغة في تراكيبها المخصوصة ومساحاتها التخييلية))( ) ، المسألة - اذن - لا تتعلق بالحرية العروضية التي اتيحت للشاعر/الشاعرة ، بقدر ما كانت ((مشروعا لتحقيق الذات ولابراز الذات بوصفها مبدعة ومتميزة وكصوت مسموع وملحوظ ..... هي تحقيق للذات وتحرير لها ، وليست تحريرا للشعر العربي بما انه خطاب حي او خطاب جامد))( ) ، فضلا عن كونه كسرا للنسق الابوي المهيمن والمتسلط لنكون ازاء نسقين متماثلين متقابلين : النسق الانثوي والنسق الذكوري .

واذا كانت قصيدة التفعيلة هي محاولة من الذات الشاعرة لايجاد مساحة اكثر اتساعا فضلا عن ازاحة النسق الذكوري وتسلطه على عالم الشعر ، فان بقايا العروضي الخليلي لا يزال يعيش في ثناياها ، مما حدا ببعض الباحثين الى القول ان خروج الشاعر العربي على عمود الشعر كان خروجا محدودا وما التنويعات العروضية التي قام بها بعض الشعراء الا تعبيرا عن احساسهم بمعضلة الوزن الشعري ، وضيق المجال الموسيقي للقصيدة الحديثة من جهة ، وتلمسا لما يمكن ان تقدمه هذه التنويعات من عون في اثراء القصيدة ايقاعيا ورؤيويا من جهة اخرى( )
إن قصيدة النثر ((حين غادرت الوزن فانها استطاعت ان تخلق نظامها الفني الخاص بها لان حركية الايقاع الداخلي المرتكز هنا على التكرار انما تتحرك بشحنات زمنية تفضي الى حركية دلالية وهذه الحركية الفنية التي تصدر عن فن المبدع تفضي الى تشكيل جمالي لدى المتلقي)) ( )
((ان قصيدة النثر حالة انقلابية متمردة اصلا وهي تشكل في الوقت نفسه حسب تقييم سوزان برنار الاعلان عن روح فردية تعيش صراعا ضد المبادئ السلطوية للكلاسيكية))( ) ، فضلا عن كونها تمثل ((رغبة عميقة في التحرر من تقاليد اللغة ، والتمرد على قوالب العروض ، ووضع حد لطغيانها الذي كان يحدد بمفرده شعرية النص ... وكان الميل الى اقصاء الوزن ، باعتباره عنصرا اساسيا من عناصر الشعر ، لا ينفصل عن الدافع الاساسي لولادة هذا النمط الشعري الجديد : الاعتراض على قيد خارجي متوارث ، كان الوزن التقليدي يلبي في الانسان غريزة الاستسلام للايقاعات الجسدية والكونية وحب النظام))( ) ، الذي اتسم به النسق الذكوري وهو يحتضن الشعر منذ زمن بعيد .

تبعا لما تقدم ولهذه الاسباب مجتمعة ، فان قصيدة النثر قد شكلت حلا لكثير من الشعراء في التعبير بامكانات تكون اعمق تجربة ، من جهة ، واكثر صفاء من مخلفات النسق الذكوري المتمثل في الاوزان الخليلية التي غابت كليا في قصيدة النثر ، وهو ما شكل فرصة اكبر للشاعرة العربية التي تسعى الى بناء نسق انثوي يكون في مقابل النسق الذكوري ، وما نزوع الشاعرة بشرى البستاني نحو قصيدة النثر في قصيدتها (انا والاسوار) الا بداية لعمليات تحطيم وتكسير للاسوار التي التفت حولها ، ومحاولة بناء نسق انثوي يكون اساسه (الانا) بكل ما تمثله هذه الانا من قوة وشجاعة ، وبكل ما في هذه المواجهة من مقاومة ، إذ ان كتابتها لهذه القصيدة وفقا لهذا النمط من الشعر ما هو الا اعلان صريح من الشاعرة عن هدم جميع الاسوار التي تقف في طريقها وهي تحاول بناء نسق انثوي بجانب النسق الذكوري ، تقول الشاعرة بشرى البستاني : ((ان الحرية المتاحة لقصيدة النثر ... هيأت فضاء مفتوحا للتجريب الواعي والتعبير الرؤيوي والالتزام بضرورة تحويل الحرية لمنجز فني فيه من الجدة والابتكار ما يعمل على اكتشاف مديات جمال ابعد وبهاء اوفى بحيث نجد لكل قصيدة نثر يكتبونها معاييرها الشعرية الخاصة بها فهي تخلق ايقاعها الجديد بذاتها ، وتشكل تحولاتها الترميزية برؤاها ، وتفعّل تناقضاتها المزدوجة في الشعرية والنثرية والحرية والالتزام والتنظيم والفوضى لصالح جوهرية الشعر تشكيلا وليس لصالح انفراد مفهوماتها وعزلتها وانفصامها وانغلاق إبهامها داخل النص ، لأن في تلك العزلة وذلك الانفصام يكمن مقتل هذا الفن حقا ... أن قصيدة النثر الجيدة هي فن النخب الثقافية))( ) .

وعلى الرغم من ان الشاعرة بشرى البستاني - وكما تصرح هي - كانت كتابتها لقصيدة النثر متزامنة مع كتابتها الشكلين العمودي والتفعيلي الذين بدأت بهما وهي في مقتبل عمرها* ، الا انها تركت العمود لتقتصر على التفعيلي وقصيدة النثر ، تقول عن تجربتها في الجمع بين هذين اللونين من الشعر : ((ولعل سبب جمعي لهذين اللونين ومعهما النص الطويل والنص المفتوح كامن في طبيعة ايقاع الحياة الذي لم يعد قادرا على المكوث في بحر واحد او وزن بعينه او شكل دون غيره ، فضلا عن حدة الصراع النفسي والروحي الذي ارهق انسان العصر الراهن وجعله يبحث في كل شيء عن خلاص ... اني اجد في كتابة القصيدتين حلاً لتوتري وخلاصا من اشتباك الازمة داخلي ومن حولي)) ( )

1-2 البناء الشعري للقصيدة :

يمثل البناء الشعري اهمية كبيرة على السياق العام للقصيدة ، اذ تلقي الانماط المختلفة والجديدة ظلالها على المضمون وما يتكئ عليه هذا المضمون من مرجعيات معرفية تعكس توجه الشاعر/الشاعرة ، ((فاذا كان توزيع العمل الشعري الى ابيات يعتبر توزيعا نمطيا اجباريا ، فان توزيعه الى مقطوعات شعرية يعتبر توزيعا اختياريا))( ) ، وذلك لان قضية البناء تتيح للشاعر ((فرصة التخلص الشعري الذكي من النماذج البنائية التقليدية التي قد لا تتلاءم مع طبيعة تجربته فتسقطها في اسر النمطية))( ) ، والشاعر الكبير هو الذي يحرص على ان لا يجعل لانفعاله هذه القوالب المتكررة ، بل يسعى الى تكوين قاموسه التعبيري الخاص به( ) ، لكي تتميز تجربته الشعرية وتكون تجربة نابعة من الداخل ، متحررة من كل ما يضيّق عليها فضاءها ، او يكبل حركتها ، ولهذا جاءت قصيدة الشاعرة بشرى البستاني ( انا والاسوار ) مبنية على نمطين رئيسيين :
الاول : النمط المقطعي : ويعتمد هذا النمط في بنيته الاساسية على تعدد مراكز الحدث الشعري ، او توزع الحدث الرئيس على محاور عدة ، او تجسيد حالات كثيرة تختلف في مضامينها وطبيعة تجربتها لكنها تلتقي بعضها ببعض بخيط واحد يكون عادة غير مرئي ، وهذا نمط مهم من الانماط المركزيسة في الشعر الجديد . ( )

الثاني : النمط التوقيعي : اما هذا النمط فيعتمد على ما يمكن وصفه بـ(الضربة الشعرية) التي تحقق اكبر قدر ممكن من التركيز والتكثيف والتبئير ، على النحو الذي يستوعب عموم التجربة باقل مساحة كتابية ممكنة . ( )
وعلى هذين النمطين جاء بناء القصيدة ، اذ اتخذت نسقا متميزا متفردا ، اعتمدت فيه نظام المقاطع المتعددة التي بلغت في القصيدة 36 مقطعا ، واكثر هذه المقاطع كان يعتمد على الضربة التوقيعية الشعرية السريعة ، وسنحاول تتبع بنية المفارقة وآليات تشكيلها ، وما انتجته من وظائف عدة ، ساعدت في ابراز النسق الانثوي وبنياته الدالة .

1-3 عتبة العنوان :

يشكل العنوان بنية دلالية تنبئ بما في النص من دلالات قارة ، تساعدنا في تجلية مساحات كبيرة من بنية القصيدة ، مثلما تجعلنا نمسك بالدلالة المركزية التي يتكئ عليها النص ، ((ان العنوان الحديث بدأتتحكم باختياره موجهات مختلفة تأتي في مقدمتها مهيمنة تتمثل في بروز شديد لانساق النص على بقية انساقه الاخرى))( ) ، ولذا يعد العنوان اول موجه اسلوبي في النص يأتي ليؤدي وظيفته في الاضاءة ، وهذا متأت من كون العنوان يشكل الثريا والعتبة ومركز الاشعاع الذي يتبادل مع المتن تيارات دلالية يفصح احدها عما يختبئ في تشكيلات الآخر ( )
ان العناوين هي رسائل مسكوكة ، مضمنة بعلامات دالة ، مشبعة برؤية للعالم ، يغلب عليها الطابع الايحائي ، وهو اول مفتاح اجرائي به نفتح مغالق النص من اجل تفكيك مكوناته قصد اعادة بنائه من جديد ، منه تولد معظم دلالات النص وتشابكاته وابعاده الفكرية والايديولوجية( ) ، فعبر العنوان نستطيع ان نتعرف على العمق الدلالي لنص القصيدة ، مثلما نسطيع ان نلج الى بنية القصيدة .
تبعا لما سبق فان عنوان قصيدة الشاعرة بشرى البستاني (انا والاسوار) قد شكل مرتكزا اساسيا في تجلية انساق القصيدة ، فعنونة القصيدة بـ(انا والاسوار) لا يوحي - مثلما يتبدى للمتلقي لاول وهلة - من ان الذات تعاني حصارا اطبق عليها نتيجة هذه الاسوار المحيطة بها من كل جانب ، بقدر ما يجعلنا عنوان القصيدة امام ذات تتحدى هذه الاسوار وهنا المفارقة ، فالعنوان يعطينا تصورا مفاده ان هذه الاسوار في حقيقتها لم تلتف حول الذات لتقيد حركتها ، بل كانت اشارة التحدي التي ادخلت الشاعرة في صراع ومواجهة مع هذه الاسوار ، واذا كانت القصيدة وعبر انساقها قد حاولت ان ترسم عمق المعاناة وحالات الاضطهاد التي تعاني منها المرأة نتيجة سيطرة عوامل القهر المتمثلة بالثقافة الذكورية التقليدية المتمركزة والراسخة في المجتمع ، فان العنوان ، جاء ليؤكد رفض الانوثة .. تمردها .. ثورتها .. تحديها .. لمركزية الذكورة ، وليؤسس - من خلال هذه الانا - مركزية انثوية ليست بديلا عن المركزية الذكورية ، ولا تطمح الى ايجاد تمركز يضطهد الرجل ، بقدر ما تكون غايتها هو معادلة الكفة لمواجهة التمركز الذكوري المثمل في (الاسوار) التي تؤدي الى دلالة الثقافة الذكورية المتمركزة ، والتي تسعى الشاعرة الى هدم ما ترتب عليها من منظومات قيم استلابية مخزية لانسانية الانسان ، ومحاولة تقويضها واعادة بناء منظومة جديدة ، وهذا ما يؤكده المقطع الاول من القصيدة :
الرجال يحكمون العالم ..
فليس لامرأة مثلي ان تتكلم .. ( )
فاذا كانت هذه (الانا) هي وحدها من يقف في مواجهة (الاسوار) ، فان الذات بمركزية انوثتها تواجه اسوار العالم مجتمعة ، وهذا ما دل عليه العطف (الواو) الذي اعطى معنى موازيا للمعطوف عليه (انا والاسوار) ، لتستحيل هذه الاسوار ، والتي تعبر عن الثقافة الذكورية ، دائرة في فلك مركزية الانوثة ، ومعنى ذلك اننا ومنذ العنوان سنشهد صراعا وتحديا لتقويض هذه الاسوار التي تمثل سلطة القهر والعنف التي تمارسها منطومة القيم الذكورية المتخلفة ، وهذا ما ستنبئنا به انساق القصيدة من خلال دلالاتها المتعددة التي سنتناولها بالتحليل فيما يأتي.
* * *

الانا وبناء المركزية الانثوية :

تبدأ الشاعرة قصيدتها بمقطع (الرجال يحكمون العالم / فليس لامرأة مثلي ان تتكلم) ، إذ تضعنا منذ بداية مقطعها الاول الذي يمثل اول الاسوار في مفارقة بنائية اسلوبية تمثل في مضمونها مواجهة محتدمة ازاء كل ما يمثل السلطوية الذكورية ، وتجعلنا في الوقت نفسه ازاء مواجهة ثنائية متضادة ، فـالمعرفة (الرجال) ازاء النكرة (إمرأة) ، والاثبات ازاء النفي(ليس) ، والجمع(الرجال) ازاء المفرد (إمرأة) ، والفعل المضارع المرفوع(يحكمون) ، ازاء الفعل المضارع المنصوب (ان تتكلم) ، و(الحكم) بما فيه من سلطة الهيمنة ، وجبروت المتكلم ، ازاء الصمت المطبق على المرأة ، وهذا يعطينا دلالة عميقة عن شدة المواجهة التي ستخوضها المرأة وهي تسعى جاهدة لكي تقوض هذه الاسوار وتفكّ اسر الذات الانثوية من اغلالها .
ان دلالة (الحكم) الذي اطلقته الشاعرة على (الرجال) انما يمثل اعلى درجات التسلط الذي تواجهه الذات الانثوية المتمثلة في انا المرأة ، وهذا الحكم فيه دلالة التمركز الذكوري الذي يحكم العالم عبر منظومات القيم المتخلفة التي صنعتها مصالح الذكورة المتنفذة عبر تاريخ البشرية في كل ارجاء العالم ، مما يعطي هذا التمركز الحق للمرأة ان توجد لها تمركزا انثويا ليس غايته التمركز فحسب ، بل حتى تستطيع مواجهة هذا التمركز بمعنى مقابلة التسلط بالثقة القوية القادرة على المواجهة ، وهو ما فعلته الشاعرة إذ هي تواجه سلطة الذكورة بشيء من القوة والمركزية المتمثلة في (انا) الشاعرة التي هي في حقيقتها انا جمعية تمثل الذات الانثوية ، وقد برزت هذه الذات في تجلٍ واضح عبر التنكير الذي استخدمته الشاعرة في (إمرأة) محاوِلة تخصيص هذه النكرة بـ(مثلي) وليس إمرأة مثلها الا (أن تتكلم) متسلحة بقوة الكلام المعرفية الذي يجعلها قادرة على مواجهة التمركز الذكوري ومقاومته والتخفيف من وطأته على الذات .
نحن اذن في معادلة حرجة طرفاها : الحكم  الكلام ، وهذه المعادلة في طبيعتها تضمر صراعا حادا بين مركزين : السلطة متمثلة بـ(الحكم) ، و (الكلام) متمثلا في الثقافة ، ووصف الشاعرة الجانب الذكوري بـ(يحكمون) فيه اشارة واضحة الى ان تقويض المركزية الذكورية يحتاج الى عملية انقلاب ثوري وهو ما يؤكده معجم القصيدة - فيما بعد- بـ(ابعث .. رحم الارض .. البذور .. الثورة ......) ، ولهذا كله فان اداة المرأة لمثل هذه المواجهة ستكون بلا شك عبر(الكلام) ، واذا كان الكلام في اساسه يبطن في داخله الثورة والتمرد والمغايرة .... مما يدعو الى الخوف منه ، فان مواجهته ستكون عبر محاولة اسكاته بالحكم الذي يعني الكبح والتسلط بالقوة .

وبناء المنظومة الانثوية واعادة الثقفة للذات لابد له من تقويض للاسوار الداخلية اولا ، لاسيما تلك الاسوار الذاتوية النابعة من داخل المجتمع الانثوي التي تقيّد المرأة وتجعلها خاضعة سلبا للرجل ، ولهذا فان الشاعرة بشرى البستناني تسعى جاهدة ليس لتقويض الاسوار الذكورية فحسب ، بل الاسوار الانثوية ايضا ، ان لم تكن هذه الاسوار هي الاشد وطأة على المرأة ، ومن تلك الاسوار صورة المرأة الخانعة المستسلمة كليا للرجل ، محاولةً الشاعرةُ رسم هذه الصورة عبر مفارقة حادة إذ تجعل (الام) المناصرة للسلطوية الابوية تقف ضد الذات الانثوية ، وبالمقابل يكون (الاخ) مناصرا لقضية المرأة في مواجهة هذه السلطوية ، وعلى الرغم من ذلك فان صوت الذات الانثوية يسعى جاهدا لاسكات هذه الاصوت عبر مفارقات شعرية تشكل ممانعة لدخول هذه الاصوات نحو عمقها الانثوي :

قالت امي .. اقفلوا الابواب فذلك ادعى للراحة ..
وقال اخي .. كسروا النوافذ ،
فذلك اجلب للحزن ! ( )

ان الشاعرة تضعنا في هذه الصورة امام رؤية للمرأة المعاصرة التي تسعى وتطمح (( ان تصل الى مستوى اعلى من الوعي والادراك ، فقد صارت اكثر يقظة عن والدتها ... ان امرأة اليوم تريد ان تتخلص من عقدها التي تمثل محركات النفس حتى تحولها الى مراكز طاقوية )) ( ) ، ان الشاعرة تضعنا في هذا النص امام صورة من صور المجتمع الذي نعيشه ، فنحن إزاء بيت له ابواب ونوافذ وفيه الاب بوصفه صاحب السلطة ، فضلا عن الام والاخ ، اذن نحن امام مثال من امثلة الحياة التي من خلالها ترسم الشاعرة صورة من صور التبعية التي تعانيها المرأة ذاتها وهي ترضخ لسلطة الذكورة ، فالام وهي الانثى التي يجب ان يكون موقفها مناصرا لموقف الأنثى الجديد في مواجهتها مع الذكورة نراها تقف في صف الاب ، وهذا الاصطفاف مع الفكر الذكوري هو الذي أعاد إنتاج عوامل الضعف والتبعية في الانثى عبر العصور ، كما أعاد ترسيخ سطوة الذكر وتفوقه على المرأة من خلال التربية التي تمارسها المرأة / الأم . هذا المشهد انما يرسم لنا لوحة من لوحات الانهزام الذي اعطى للذكر محاولة إحكام السيطرة على المرأة وتحييدها وإضعاف موقفها ، بل واقناعها بعدم المواجهة والخلود الى الراحة والسكون والتبعية (فذلك ادعى للراحة) ، (( هنا تبدو التحديات التي تواجه المرأة / الكاتبة في واقعها اشبه بعملية غسيل للمخ ، بواسطة هذا النمط من الايديوجيا الابوية التي تنتج قوالب مكررة عن رجال اقوياء ونساء ضعيفات ، وصورة الذات الانثوية وفقا لهذا تصبح محدودة من خلال منظور الرجل ، بل تكون بمثابة النص المكتوب ، او الصفحة البيضاء التي يسطرها الرجل فتظل بمثابة التمثال لا المثال ، والمصنوع لا الصانع )) ( ) ، انها باختصار قصة مأساة المرأة عبر التاريخ ، المرأة هي ذات تابعة لسلطة الاب ، المرأة هي المسجونة في الهامش الضيق المحدود ، المرأة هي الباحثة عن رضا السلطة الذكورية وإن كان على حساب شخصيتها .. ذاتها .. بل وحتى راحتها ، وما الراحة التي تريدها عبر نص الشاعرة الا الراحة التي تبعدها عن غضب الذكر .. او الاقتراب من هذا الشيء .. انها الخانعة .. المنكسرة .. التابعة ، والشاعرة تعبر عن هذا المعنى من خلال صورة (اقفلوا الابواب) ، وهذه الصورة لها دلالات عدة ، فالشاعرة على لسان الام لم تقل (اغلقوا الابواب) ، انما قالت (اقفلوا) وهذا تأكيد على صورة إحكام الغلق والسد فضلا عن ذلك فانها قالت ابواب ولم تقل باب ، فالابواب في اللغة العربية منظومة دلالية تأتي لتعبر عن تنوعات عدة لعل ابرزها البداية لكل شيء : (باب البيت ... باب الفرج .. باب الامل ...) فالابواب متعددة ومتنوعة ، فضلا عن ذلك فانها تحمل معانيَ واسعة ، فـ(باب البيت) يأتي دالاً على الامان .. الستر .. العزلة عن الخارج .* ، ولهذا قالت الام مبررةً فعلتها بان هذا الشيء (ادعى للراحة) ، وهذه هي مواقف المرأة التابعة للسلطة الابوية ، فكل تفكير المرأة (الام) ليس اكثر من راحة البال ورضا الاب (الذكر) عن تصرفاتها وافعالها ، ان الخارج وهو يحمل رياح التغيير .. الثورة .. الحرية .. الانعتاق من ربق العبودية الابوية يجب ان يكون البيت بمعزل عن كل هذه التغيرات وما السبيل الى ذلك الا عن طريق احكام اغلاق الابواب من خلال القفل .
وتأتي المفارقة الثانية للشاعرة حين تجعل موقف (الاخ) مختلفا عن موقف الام التي كان يجب ان تكون مناصرة لقضية الذات الانثوية فضلا عن ان تكون الصوت الاكثر قوة وعمقا ، ان المفارقة الحادة التي صنعتها الشاعرة من خلال موقف الاخ تجعل من قضية المرأة اكثر ثباتا واقوى صوتا لانها اولا نابعة من داخل البيت ، ولانها ثانيا تنطوي على مفارقتين ، الاولى : ان الاخ هو عنصر ذكوري فالشيء الطبيعي ان ينحاز الى الابوية ولذلك نراه هنا منحازا الى قضية المرأة ، مما يؤكد بداية تغيير ثوري جديد يطلع في أفق المجتمع . اما المفارقة الثانية فهي ان الاخ عادة ما يمثل في مجتمعاتنا الذكورية الابوية بصفته الحارس الامين والرقيب المؤتمن لتصرفات الاخت من اي انحراف ، نراه هنا حارسا امينا وراعيا لافكار وقناعات المرأة(الاخت) ، لاسيما وان موقفه لم يتسم بالدفاع عن موقف الاخت فحسب بقدر ما كان مندفعا بقوة الرجولة وعنفوان الشباب للوقوف بجانب قضية المرأة ، وصدا منيعا لتسلط الابوية وافكارها القاسية تجاه المرأة ، وهذا واضح من خلال اسلوب الشاعرة في التعبير عن هذا الموقف : (وقال اخي .. كسروا النوافذ ، / فذلك اجلب للحزن !) ، فالشاعرة لم تستخدم لفظة افتحوا النوافذ ، بل (كسّروا) والتكسير يعني التقويض .. ازاحة الشيء .. الازالة .. تخريب الشيء .. اللا عودة .. ، مستخدمة الشاعرة اسلوب المبالغة إذ لم تقل (اكسروا) بل كسّروا بتضعيف عين الفعل لتكون ابلغ في التعبير وهذا ما يناسب موقف الاخ وهو في فوران الشباب ، واستخدام لفظ (النوافذ) لها من الدلالات التي تنفتح على الأفق وترنو إلى العالم ، انها الجسر الواصل لكل ما تتوق اليه الشاعرة من طموحات وما ترنو اليه من امنيات ، النوافذ ومضة الامل المتوقدة للوصول الى الهدف المنشود ، والشاعرة لم تستخدم لفظة (الشباك) ذلك لان هذه المفردة لا توحي بالمعاني المنفتحة مثلما هي في لفظة (النوافذ) ، ان الشباك يأتي بوصفه (محبساً وقفلاً من حديد) اما استخدام (النافذة) فهي فضلا عن معنى الشباك الحاجز .. المحبس ..... ، فهي تنفتح على معان قيمية ومجازية ورمزية أجمل افقا واوسع مضمونا ، النوافذ" (تدفع الى التفكير بالعلاقة المفترضة بين الكائن والمحيط الذي يتشبع الشاعر بروائحه وأنفاسه وتفاصيله) ، ان الشاعرة تسعى من خلال (نوافذ الاخ) إن صح التعبير الى خلخلة العزلة التي تعيشها في بيت السلطة الابوية بأن تجعل الاخ يشق منفذا لمحاصرة (عزلة الكائن الوجودية) وإيجاد ممر للانفتاح على الآخر الخارجي .
ان صورة الاخ التي رسمتها الشاعرة وهو يدافع عن الذات الانثوية انما هي ضربة للمنطق الذكوري المتشبع بـ(( اوهام الايديولوجية البعد الواحد الذي حافظ على تماسكه بالحراسة الاسطورية والدينية لقيمه ، ومنعه للآخر من الاقتراب من بؤرة المعنى لاقتناص المتعدد والمتشظي الذي يحمل في طياته ديمومة الاختلاف ومشروعية الانثى في الحضور كذات وكينونة )) ( ) ، لذا فان توظيف موقف الاخ الايجابي ووجوده اخا مدافعا عن قضية الذات الانثوية في هذه اللوحة الشعرية له ما يبرره ، ففضلا عن ان الاخ بالنسبة للاخت يمثل سندا لها دائما يقف معها يوجهها وينصحها بفعل متانة هذه العلاقة ، ففضلا عن ذلك فان الذات الانثوية وهي تعاني اضطهاد السلطة الابوية ، لم تجد سندا قويا وعميقا من الام التي اتصف موقفها بالتخاذل والتبعية بقدر ما وجدته في الاخ الذي - من خلاله - سعت الشاعرة الى ايجاد توازن نفسي ومعنوي ومصدر قوة ، ولذلك جاء الاخ مخففا من وطأة معاناة الاخت تجاه موقف الام ، ثم ان الشاعرة ارادت ان توجد ارضية قوية لعدالة قضيتها ولهذا لم تجد افضل من الاخ مناصرا ومساندا ، وكما سبق فهو الرقيب والمؤتمن لكل تصرفات اخته ولهذا فان موقفه يؤكد شفافية موقف اخته وعدالة قضيتها بل يجعل من قضيتها قضية له ولو كانت قضية الاخت(المرأة) سلبية لكان الاخ اول من يتصدى للوقوف ضد افكارها ، فضلا عن ذلك فان توظيف شخصية الاخ في مناصرة هذه القضية انما هو تأكيد ضمني من قبل الشاعرة في نظرتها للجنوسة والوقوف مع المرأة برد القضية إلى أهمية الشراكة مع الرجل في مجابهة التخلف في الأسرة والمجتمع معا درءاً للعزلة . بمعنى انها لاتسعى الى تهميش الرجل ومحاولة البحث عن تمركز للمرأة كردة فعل لمركزية الرجل ، بل هو تأكيد على ان الدعوة الى مناصرة المرأة في قضيتها لا يتم الا عن طريق هذا التشارك المتآزر والمتضامن والمتوافق .
وتمضي الشاعرة في رسم مفارقاتها الشعرية الحادة ، اذ تضعنا امام نص تصور خلاله المرأة المثقفة وهي تواجه واقعها المتسلط :

اوقفني في مفترق الدروب لص ..
قال : ارفعي يديك فالطرق مقفلة
قال صوت خفي :
تعلمي ان تقولي كلمة كرصاصة .. تلفت فلم اجد احدا ..
حينها فقط .. رفعت يدي . ( )

تحاول الشاعرة هنا ان ترسم صورة لدور المثقفة في المواجهة ، إذ تظهر امامنا الذات وهي في حالة من انعدام التماسك ، وضعف الترابط ، ليس فقط فاقدةً لوظيفتها في الحياة ودورها في عملية المواجهة ، بل نجدها حتى في تماسكها الداخلي وثقتها بطاقاتها الروحية والمعنوية ، نحن إزاء موقف لعنصرين من عناصر المجتمع ، رجل ذكوري غاصب ، إزاء امرأة (مثقفة) سليبة مغتصبة ، تلك المرأة التي تسير متجهة نحو هدفها ، تعرف غايتها على الرغم من تعدد الاتجاهات ، لكن لا يمنعها هذا اللص الذي جاء يسرق كل انجازاتها ، انما تمنعها تلك الروح الانهزامية المتغلغلة داخل نفسها ، انها الروح السلبية التي اوقفت المرأة عن السير ، واذا كانت الذات - حسب سياق النص - لم تستجب لطلب اللص فان سماعها لهذا الصوت الخفي الذي كان من المفروض ان يشجعها ويرفع من قوة مواجهتها ، وان تقول كلمة كرصاصة اشارة الى قوة ما تمتلكه من سلاح ، يضعنا امام مفارقة حادة وهي استسلام الذات بعد سماع صوتها الداخلي ، ان صوتها الخفي يريد منها ان تتعلم كيف توظف قدراتها في مواجهة الانا الآخر ، يريد منها ان تعلم انها مواجهة وليس رحلة سير فحسب ، لكن الشاعرة تدرك بوعي أن بناء الداخل وتماسكه ليس بالأمر السهل ، بل هو قضية بغاية الدقة والصعوبة.
وتحاول الشاعرة رسم لوحة شعرية قائمة على محاورة بين الرجل والمرأة ، تظهر فيها المرأة قوية شجاعة جريئة :

شجاعة كنت بالامس ..
قال لي احد الرجال بادب :
ان القمر لم ينطفئ بعد ..
صرخت اشتمه ان كذاب انت .. ومضيت .
قال الرجل فيما بعد .. انه عذرني ..

اذ تطالعنا الذات الانثوية هنا بشجاعتها وجرأتها ومواجهتها القوية مع الرجل ، إذ ومنذ اول كلمة في المقطع تبدأ بها الشاعرة تعبر وبقوة عن هذه الدلالة الصارخة ، لاسيما وان كلمة (شجاعة) خبر كان الذي يأتي في مرتبة اخيرة في الجملة ، الا ان الشاعرة قدمت هذا الخبر على كان واسمها لتعطي الاولوية لصفة الشجاعة الموصوفة بها المرأة .

ان الشاعرة تسعى هنا في هذا النص الى رسم صورة للمرأة الجريئة ، المرأة التي لها صوت .. رأي .. ، إمرأة لا يقدر الرجل الا ان يكلمها بأدب (قال لي احد الرجال بأدب) ، ان ادب الرجل في كلامه مع المرأة ما هو الا تأكيد لهذه الروح القوية التي تمتلكها ذات المرأة التي يواجهها ، وبالقدر نفسه هي الذات التي تواجه .. تصرخ .. تشتم .. ولا تخاف هيمنة ذلك الرجل الذي يبقى صامتا لا يتكلم مع ان المرأة تمضي دلالة على عدم اكتراثها بردة فعل الرجل وان كان له رد فانه رد يأتي بعد مدة زمنية ليدل على هيمنة ذات المرأة إزاء صورة الرجل المتراجع ، وهذا واضح من دلالة الضمائر التي استخدمتها الشاعرة ، فالذات الانثوية تستعمل وبكل جرأة تاء الفاعل المتكلم (كنت ، صرخت ، اشتمه ، مضيت) ، الا ان الرجل لم يستعمل الا الجمل الخبرية التي تدل على هروبه من مواجهتها (قال ... ان القمر لم ينطفئ بعد ، قال .... انه عذرني) ، وهذا كله دلالة على هيمنة خطاب المرأة إزاء حضور الرجل الذي يخسر هذه المنازلة مع المرأة ، بل الاكثر انه ليس لديه ادنى عذر وليس له موقف في المواجهة .

ان هذا النص انما يقوم على مرتكز دلالي قار يتمثل في (ان القمر لم ينطفئ بعد) ، وتأتي دلالة هذا المرتكز بين التأكيد والنفي ، فالرجل يؤكد خبرية المضمون (ان القمر لم ينطفئ بعد) ، اما المرأة فتنفي وبشدة (ان كذاب انت) ، ودلالة رمزية القمر تتمحور حول معنى الرجولة ، فطالما يأتي القمر رمزا للذكر .. الرجل ، وان الرجل يدافع عن قيمة الرجولة وانها لم تنطفئ بعد ، الا ان الشاعرة تكذبه وتشتمه وتواجه عدم صدق هذه الحقيقة بالمواجهة الحادة التي رسمت من خلالها صورة المرأة القوية التي لا تنطلي عليها هذه الاكاذيب .
وتسعى الشاعرة الى تقويض سور آخر من اسوار الذات الداخلية متمثل بسور الصمت الذي اطبق عليها ، الصمت الذي يجعلها لا تستطيع ان تبوح بما يجول في فكرها ، وهنا لايعني الصمت السكوت عن الحق ، فهناك فرق كبير بينهما ، ولهذا لم تستخدم الشاعرة لفظة(ساكتة) ، وانما (صامتة) ، فالصمت توقف عن الكلام على مضض مع رفض القلب ، اما السكوت فهو خضوع واذعان وانبطاح ، الصمت يتولد من الأدب أما السكوت فيتولد من الخوف ، ولهذا جاء في الاثر : الساكت عن الحق شيطان أخرس. إذن فالصمت لغة الحكماء... والسكوت لغة الجبناء ، (ان الصمت رياضة فكرية تحفظ لك توازنك وتجعلك تعود إلى ذاتك الداخلية بعيداً عن الأفكار المتزاحمة داخل عقلك) ، ولهذا تأتي مفارقة الشاعرة في تقبلها للغة الصمت على الرغم من مرارة هذه اللغة ، بل نراها تجمّل الصمت وتعلي من شأنه وتستأنسه لذاتها وحالتها التي تمر بها :

اقول للصمت جميل انت .
لاني لا امتلك خنجرا امزقه .. ( )

وعلى الرغم من ان الصمت (جميل) في رؤية الشاعرة الا انه يبقى سورا لابد من تحطيمه ، الا ان عملية تحطيم هذا السور لا يأتي عن طريق المهادنة ؛ لأنه ليس سورا هيّناً ، بل هو حاجز منيع تمّ بنيانه عبر عملية تصميت تاريخية تراكمية حجبت هوية المرأة وأعدمت حضورها وحالت بينها وبين صوتها ، فظل كلامها يدور في داخلها لأن القيم التقليدية المتخلفة التي جدولت ايجابيات المرأة المثال جعلت الطاعة والتبعية في مقدمة تلك الجدولة ، ولذلك تحول الصمت لوحش يهدد كيان حضورها ، وللتغلب على هذا الوحش لابد من خنجر يُرديه ، والخنجر هنا ، والفعل (أمزقه) إشارة لعنف المقاومة التي يجب على المرأة الثائرة خوضها من أجل استعادة قدرتها على الكلام ، فالشاعرة تدرك أن الكلام خطاب ، والخطاب سلطة ، وأن هذه السلطة لكي تكون فاعلة لابد من استكمال أدواتها بالعلم والعمل والمعرفة والخبرات والتجارب إنها ترنو الى مواجهة هذا السور ، بذاتها الحاضرة المتوقدة ، بقوة ارادتها واستعدادها الشخصي على المواجهة ، ذلك الاستعداد الذي يجعلها تعتمد افعالا مضارعة (اقول .. لا امتلك ..) ، انها تريد ان تواجه واقعها بصبر وثبات ، مواجهة مدروسة تمتلك عوامل النجاح ، انها في سخريتها من قبح استكانتها تستبدل صفة بصفة ، فتثبت له الجمال في جملة اسمية (جميلٌ أنت) في حين تعبر عن موقف شديد الرفض له (لا أملك خنجرأ أمزقه) إنها لا تريد ان تتعجل في مواجهة اسوارها بسلاح فارغ بل هي تسعى الى المواجهة الفاعلة التي تستطيع ان تقتلع الأسوار من جذورها ، مثلما تسعى الى ان تشعل ثورة من تحت اسوارها ، حتى وان ادى ذلك الى موتها الا ان دمها سيكون الشرارة التي ستشعل الثورة ، الشيء الذي يخافه السلطان ويخاف ان تتحول اراقة دمها الى زلزال يهز عرشه الابوي :

قال السلطان : لا تريقوا دمها فانا اخافه ..
بل اسجنوها حتى تجف .. ( )

ان خوف الابوية المتمثل في السلطان دليل على خواء الافكار التي تحملها هذه الفئة من المجتمع ، إنه الفراغ الذي تعاني منه ، وانعدام مشروعية موقفها والظلم الذي يحيط بمبادئها ، ولذلك تلجأ السلطة اي سلطة قهرية اذا حكمت الى محاصرة الافكار داخل اسوار حديدية قصد تجفيف منابعها وقطع شريان الحياة المتدفق منها :

الشعراء يموتون ملعونين ..
الشاعرة فتاة تموت مخنوقة .. ( )

فمثلما نعرف ان السلطة الحاكمة - اي سلطة - تسعى الى انتاج خطابها السياسي وفقا لتوجهها وفلسفتها في ادارة الحكم ، وكل سلطة حاكمة لا تريد احدا يقف حاجزا امام سيرها وفلسفتها ، ولذلك هي لا تقبل بمن يعارضها ، ولما كان لكل شاعر رؤية وموقف يعبر من خلالهما عن فلسفته في الوجود ، فليس بالضرورة ان تتفق وخطاب السلطة ، ولذلك فان حالات الصدام تكون اكثر من حالات التوافق ، ذلك لان الشاعر له مهمة كبيرة وعظيمة تتمثل في انه صوت الشعب المظلوم والمقهور ، انه صوت الضعفاء ، انه صوت المعارضة الواعية بمدركات الواقع ، ولذلك ما كان للشاعر ان يسكت ازاء ما يراه من انتهاك الحريات والحقوق ، الامر الذي يعني ان الشعر لابد له من مواجهة ، والمواجهة لابد لها من تضحيات ، وليس اجل تضحية من تقديم الشاعر نفسه قربانا لكلمته ، واذا كان الشعراء يموتون مضحين بانفسهم ، فانهم يموتون (ملعونين) من السلطة التي تلاحقها كلماتهم الكاشفة فتربك عليها فضاء الجرائم التي تقترفها ، ومتى استطاعت السلطة ان تحتوي خطاب الشعراء ؟ ومتى استطاعت ان تحاور خطابهم ؟ نعم يموتون ملعونين باستلابها وطغيانها .. لكن الشاعرة لاتموت هكذا ، انها (فتاة) تموت مخنوقة ، والشاعرة تضعنا في هذا النص ازاء مفارقات ثلاث ، الاولى انها شاعرة واحدة امام شعراء رجال وهذا تأكيد على انفراد الشاعرة في مواجهة هذه السلطة ، اما الثانية فانها (فتاة) وهذا دلالة على حداثة عمر هذه الشاعرة بـكلمة (فتاة) ، اما الثالثة فانها تموت مخنوقة وهم يموتون ملعونين ، وهذا يجعل من الذين يواجهون هذه الشاعرة اناسا لا غيرة عندهم ولا انسانية تظلهم ولا حتى رجولة يتصفون بها ، وفوق ذلك كله فهم يمنعونها الكلام ويسكتون.. خطابها .. لانهم يخافون حتى من كلمتها فيخنقونها ، ان هذا النص ادانة كبيرة لفعل السلطات الابوية والسياسية في قطع انفاس الذات الشاعرة ، خنق الكلمة الطاهرة ، خنق الحرية الانسانية ، وخنق كل قدرات المرأة التي تخافها تلك السلطة ، فالكتابة بالنسبة للمرأة ((تُعد موقفا حضاريا لا بد من التنبه الى ابعاده الاجتنماعية والثقافية والسياسية والايجابية ، ذلك ان انتقال المرأة الى مستوى انتزاع بعض شروط الكتابة الرجل ، هي عن ذاتها وعن اختلافها دون وصاية او ارتهان ... يدخل ضمن صراع القوي .. لانه يدخل خارج نطاق اعتراف وعي الآخر ، لهذا كانت كتابة النساء/الكتابة النسوية بمثابة الرقص في حقل الغام))( ) .
وهذا الامر سيوصل الذات الى حالة الاحتراق الذي يمثل قربانا تقدمه الذات للمواجهة :

من قال لكم ادعوا الاطفاء
يعجبني ان احترق هكذا . !! ( )

فاستخدام الشاعرة ثيمة (الاحتراق) يومئ باستخدام صوفي يشي بمعاني الفناء الذي يحيل على دلالات الطهر والسمو ، فضلا عن ان المقطع فيه من الدلالات الكثيرة منها :
اولا : ان الاخرين لايرون في الشاعرة الا مظهرها الخارجي بحيث لا يضرهم داخلها وان احترق لذلك اسرعوا لاطفائها حين رأوا انها تحترق ، وهذا سعي من الشاعرة لفضح أفكارهم السطحية ورؤيتهم القاصرة عن رؤية البعد الاسمى للاحتراق الذي هو نور الإبداع .
ثانيا : ان الشاعرة استخدمت سؤالا استنكاريا من خلال اداة الاستفهام (من) وهذا دلالة على سخرية الشاعرة من العمل الذي يقومون به إذ هم يتوهمون إنقاذها مما هي فيه ، الا ان هذا الانقاذ لايتم من خلالهم مباشرة ، وانما بواسطة (الاطفاء) ، وهذه اشارة من الشاعرة انهم لايستطيعون مساعدتها في عملية الاطفاء لان عملية اطفائها هي اكبر من قدراتهم المحدودة القاصرة ، وذلك لانهم يخافون الاقتراب من الذات وهي تحترق .
ثالثا : ان المفارقة التي توظفها الشاعرة في هذا المقطع تأتي من خلال قبولها لحالة الاحتراق وانها ترفض اي عملية لاطفاء هذا الاحتراق ، بل وتزيد من ذلك حين تصرح باعجابها بمثل هذا الاحتراق ، ان الذات بهذا اضحت هي المضحية .. هي القربان التي تريد ان تقدمه للانسانية ، ان هذا الاحتراق هو الإبداع الذي تخيفهم ؛ لأنهم النور الذي سيشعل الثورة ويذكي شرارة الانتفاضة على الاوضاع السارية للمرأة ، وهو من سيدفع ابداعها نحو الامام لتنتج ابداعا اسمى وارقى .
رابعا : النص يمثل تحديا حادا للذات الانثوية تجاه الجميع ، فالشاعرة تستخدم بدايةً صيغة الجمع (لكم ، ادعوا) في موقف افتتنان بصيغة المفرد المتمثلة بضميريه المتصل مرة (الياء) في (يعجبني) والمستتر مرة اخرى في (احترق) ، وهذا دليل على ان الشاعرة تعاقبهم جميعا من خلال مفارقة تتضمن رفضا حادا وطاقة تأويلية تحتوي إغاظتهم بما تخبئ من ابعاد دلالية ، اولها القدرة على مجابهة مشروعهم القسري وليس آخرها تعرية سلبياتهم والكشف عنها من خلال النور الذي ينبثق عن احتراقها الابداعي ، فالاستفهام هنا استفهام المتمكن من موقفه ، العارف بوعيه ، والمستغني عن عون الآخر الذي يشكل مفارقة اخرى بذاته ، لانه يتظاهر بعنجهية القوة ويخفي هشاشة الظلم مرة ، وخواء الجهل مرات ، ولذلك يلوح التهكم المرّ ثاويا في اعماق هذا الاستفهام الذي تعمد دلالة تغييبهم حينما سد عليهم فسحة الجواب فارضا عليهم الصمت امام عنفوان احتراق الابداع وانواره الكاشفة .
ان حالة الاحتراق التي تمر بها الذات انما هي انعكاس لواقع مؤلم جعل من المرأة عنصرا هامشيا ، ولذلك فان الشاعرة تسعى لان تعيد دور المرأة الى وضعها الطبيعي عنصرا فاعلا في الحياة وله دور مركزي لا تقل اهميته عن مركزية الرجل ، فلابد اذن من قربان ، تضحية ، دماء ، حتى تدق باب الحرية وترفض اي حركة لانقاذها من هذا الاحتراق ، لان الانقاذ هو اطفاء للشرارة التي تسعى الى اشعالها ، ان حالة الاحتراق واشعال جذوة النار انما هي تحريك لحالة الجمود التي تمر بها الذات الانثوية التي اصابها الوهن .. الضعف .. البرودة المميتة .. ان الاحتراق هو سمو للارتقاء نحو الطهارة .. نحو المقدس الاسمى .. نحو الصفاء الروحي .. والابتعاد عن كل ما هو ارضي مدنس ..
ان استعداد الذات الانثوية للتضحية والاحتراق هو تأكيد على قدراتها على الابداع والتميز رغم المواجهة القاسية من قبل الرجل ورغم العوائق الاجتماعية ، فالشاعرة ترسم مفارقة حادة لهذا المشهد :

يوم صرت لفافة تبغ
هربني رجل طويل في علبة دخان .
ويوم احرقني دارت السقوف وداخ العالم ..
لكنني ظللت الواقفة الوحيدة ..
وحتى الآن .. ! ( )

يتكئ النص على عدة مفردات تشكل في مجموعها مفاتيح للوصول الى مقصد الشاعرة من نصها هذا ، فكل مفردة لها من القصدية ما يجلعنا نقف عند بعضها ، فمفردات مثل (لفافة تبغ ، علبة دخان ، هربني ، رجل ، احرقني ، داخ) كلها مفردات تشي بمعنى النص ، وتجعلنا نقترب منه اكثر ، فتحول المرأة الى (لفافة تبغ) هو اختزال لطاقة مهيئة للاشتعال والاحتراق ، فطاقة المرأة ليس في وجودها المادي بقدر ما هو في وجودها الروحي الكامن داخلها ، ان وجودها يستمد فاعليته من عملية احتراق فينتج طاقة لها قدرة على تغيير حيز مادي كبير ، ان تحول المرأة الى لفافة تبغ .. الى حيز قابل للاشتعال والاحتراق .. هو ليس الاشتعال الذي ينذر بخطر ، وانما الاشتعال الذي ينتج عنه حالة من الوعي واللاوعي الذي يجعل المحيط يدور في دوامة من الشعور واللاشعور ، انها طاقة المرأة الروحية ، ولذلك فان المرأة حين تحولت الى طاقة .. شحنة .. انما هو تحول من حالة سكونية في مجتمع هكذا ارادها الى حالة حركية تستمد هذه الحركية من مقوماتها الداخلية وتركيبها الروحي ، ولذلك فان المرأة بهذه الطاقة تكون ابداعا باحتراقها ، وتأكيدا على اهميتها .
وتحاول الشاعرة تصحيح مسار السياق الثقافي الراهن للذات الانثوية وهي تواجه تحديات المؤسسة الذكورية :

طالباتي يتساقطن في الظلمة
آه كم احب طالباتي .. ! ( )

تبتدأ الشاعرة نصها هذا بكلمة(طالباتي) وهذا الابتداء هو تعميق لسياق ثقافي تسعى اليه الشاعرة وهي تؤسس لوعي نسوي ومجتمعي معاصر يكون بمستوى المرحلة التي تمر بها الذات الانثوية ، مثلما توحي كلمة (طالباتي) بدلالة اخرى تتمثل في حداثة العمر ، إذ توحي هذه المرحلة العمرية بالنقاء والبراءة وبداية الوعي الثقافي ، وتتسم ببراءة التلقي والتصديق ، ولذلك فان حالة السقوط الموجع تقع عليهن بسبب ما يمتلكن من طاقة ليجدن انفسهن في ظلمات التخلف المحيطة بالمجتمع من كل مكان ، انها ظلمات الابوية الخانقة ، انها الذكورية (الوصية) ووأد البنات منذ نعومة حياتهن وهنَّ يعشن اجمل مراحل هذا العمر القادرة على العطاء والإبداع ، ولذلك تجد الشاعرة نفسها الوصية المربية ، انها الام الواعية لا الام التابعة ، ولذلك فان استخدام الشاعرة لكلمة (طالباتي) ما هي الا عملية توازن لاعادة ترتيب الانساق وجعل المرأة تسير وفق سياق ثقافي واع بمركزية انثوية يكون مركزها امرأة واعية مثقفة وتكون هذه المركزية مساوية لمركزية الرجل ومكافئة لها بعدل وتحقق ، انها حالة من اعادة التوازن وليس تأسيسا لمركزية انثوية طاغية على حساب الرجل ، ان الشاعرة في الحقيقة تؤسس لوعي مركزي مبني على اساس متين من الوعي والعلاقات في اعلى درجات هذه العلاقات من السمو انها رابطة الحب (آه كم احب طالباتي) ، ان الحب والوعي هما من سينقذ الذات الانثوية من وطأة الظلمة التي تعيشها في واقع فقد انسانيته ، وان الذات الانثوية يجب ان تثق بقدسية قضيتها التي تواجه من اجلها وبصدقها:

صباح امس القيت قصيدة عن القدس ...
قصيدة طويلة ...
عصر امس اعتلت طالبتي المكان واعلنت عن كذبي
وزيفي ..
بعد ان نزلت رأى الجميع زهرة تشرق في موطئ قدميها .. ( )

ان توظيف الشاعرة لكلمة (القدس) يكشف عن ماهية القضية التي تكافح المرأة من اجلها ، فـ(القدس) و (المرأة) تجتمع فيهما نقاط التقاء منها (المحاصرة) و (الاضطهاد) و (ابدية الصراع) ، فضلا عن ان (القدس) تشكل مركزية مقدسة ، والمفارقة في هذا النص تتمثل في تبدل الدور الانثوي الى دور المواجهة الداخلية في عالم المرأة ، انها مواجهة المرأة المخلصة لقضيتها مع المرأة التي جعلت من قضية المرأة مصلحة لها ، فالشاعرة باستخدامها كلمة (طالبتي) انما تؤكد حضور فكر ثوري انثوي مع مُضاده حتى داخل المؤسسة التعليمية ، وهذا ما يجعل الامل حاضرا والحلم متواصلا ، لكنه في جدل ، ان اشراق (الزهرة في موطئ قدميها) انما يؤكد صدق ما قالته الطالبة ، والشاعرة لم تستخدم كلمة (رأيت) ، بل عبرت عن ذلك بفعل الجمع (رأى الجميع) إمعانا في كشف الازدواجية العربية الجمعية والاستعراض الجمعي الزائف الذي كان يميز المجتمع في المرحلة السابقة .

ان مجابهة المرأة (الطالبة) للمرأة (الاستاذة) انما يحمل في دلالاته صورة للجيل الجديد وهو يكشف اخطاء وخطايا من سبقه .. إن كان الجيل الجديد صادقا .. ومؤمنا ,, وحامل رسالة . ، انه يحمل هماً كبيرا وقدره ان يعري هذا الواقع المزيف ، يعري تلك التناقضات بين الفكر والممارسة .. بين النظرية والتطبيق ، وهذا التناقض بين الفكر والممارسة لايقتصر على المرأة وقضيتها المجتمعية ، بل هو سمة المجتمع العربي عامة على الاصعدة كافة ، ولاسيما في الميدان السياسي ، يقولون كثيرا لكنهم لا يفعلون شيئا ، وكثيرا ما ينقض الفعل اقوالهم وزيف ما يدعون .
وليس افضل طريقة لتعرية الواقع المعاصر من عالم الكتابة والحرف ، وكما تقول ماركوريت دورامي من ان الحرف هو مملكة النساء ( ) ، فان الشاعرة تمضي في هذه الممكلة معبرة عن احاسيسها وآلامها الداخلية ازاء ما تواجهه من ازمات وبالقدر نفسه محاولة تعرية الواقع الذكورية ، لاسيما وان فعل الكتابة يشكل بحثا عن (( افق اوسع للحرية تحقق فيه المرأة توازنها المفقود بين ذاتها الداخلية ، وذاتها الاجتماعية ... بين ما ترغب في اعلانه ، وبين المسكوت عنه ))( ) ، ولهذا فان الذات الانثوية تجد ملاذها في الكتابة :
بالامس كتبت كلمات الى الالم
لم استلم الجواب بعد .. ( )
فالشاعرة تجعل من عملية الكتابة متنفسا لآلام المرأة ومخرجا من ضيق عالمها ، ولذلك فهي بدلا من ان تكتب عن آلامها او حزنها فانها تكتب الى الالم وفي هذا مفارقة ، حيث ان الشاعرة انما تخاطب الالم بصفته عنصرا شاخصا تبادله الرسائل .. الكلمات .. المخاطبات .. ، عنصرا تجعل منه غايتها لايصال رسائلها وما تكتبه عن وضع الذات الانثوية في هذا الواقع الذي حاصرها وضرب حولها الاسوار والاغلال ، والشاعرة تستخدم لفظة (الالم) بدل (الحزن) ، فعلى الرغم من ان الحزن هو سابق على الالم فالانسان يحزن ثم يتألم ، وان كل الم ووجع جسدي انما يتسبب عن الحزن لان الحزن هو الذي يؤدي الى الالم فيما بعد ، فذلك لان الالم اكثر من الحزن في تحفيز الذات على الابداع ، على تحمل الصبر ، على المواجهة والصمود ، انه الم الذات المبدعة ، وليس حزن الذات الذي لايأتي لها بغير الحسرات والآهات فحسب ، ((ان المرأة ظلت تعيش نفيا وجوديا خاصا ... وحين تعبر عن وجودها المنفي من خلال الرموز والكتابة تنتج كتابة جذرية ... ان كتابة النفي والاقصاء والخطر هي اشد الكتابات عنفا وتوترا)) . ( )

والشاعرة لاتخاطب الما فرديا ذاتويا شخصانيا ، انما هي تخاطب الما جمعيا وجوديا ، الم المصير ، الم الوجود ، الم الموت ، الم الحياة ، الم الذات الجمعية في مواجهتها للواقع الوجودي ، الالم بصفته الشريك (المحفز) في مواجهة الذات لواقعها المؤلم ، الا ان مخاطبات الشاعرة للالم لم تأتِ بنتيجة ، حيث انها لم تستلم الجواب بعد ، فهي تنتظر منه ردا على مخاطباتها ، واضافتها للفظة (بعد) هو دلالة على انتظارها وعدم يأسها من استلام الجواب ، ان كتابة الشاعرة ومخاطباتها الى الالم انما تعبر عن نقدها الكبير لخطاب المرأة في تجاوز ازمتها المعاصرة ، انه خطاب دعائي تنظيري يدور في فلك الذاتوية ونفث الآلام والحسرات والابتعاد عن المعالجات العملية في المحافظة على حقوق المرأة وصيانة قدسيتها ومحاولة هدم مركزية الرجل الذي جعل من الذات الانثوية فلكا تدور حوله ، ان هذا المقطع انما هو تنديد بكل تلك المنظمات النسوية التي لم تستطع ان تقدم شيئا للمرأة اما لضعفها او لانحراف غاياتها ومحاولة بناء مركزية انثوية مكان مركزية الرجل ، او لان تلك المنظمات كان خطابها يدور في حلقة مفرغة .

ولهذا فان الشاعرة تسعى لان تبتعد عن كل ما يؤدي الى الانقطاع الحضاري الذي يربك عملية تأسيس منظومة ايجابية للذات الانثوية بمرجعية تاريخية حضارية ، فهي لا تؤمن بحالة الانقطاع الفكري والثقافي ، بقدر ما تؤمن بضرورة الاتصال الحضاري والابتعاد عن الاخطاء التي وقعت بها الحركات النسوية المعاصرة ، ولهذا تؤكد الشاعرة للدور الريادي الذي اضطلعت به المرأة ايام الازدهار الحضاري للامة ، مما يجعلها تستحضر تلك المرحلة :

اقول للسماء : لم احضر يوم جاء محمد ..
ولذلك .. يجب ان ترسليه الآن .. ( )

الشاعرة تضعنا هنا إزاء مفارقة زمنية حادة ، فهي تحاول ان تستقدم الزمن الماضي ليكون زمنها الحاضر ، انها مفارقة الذات التي يئست من واقعها ولذلك فهي تسعى لخلق واقع يلبي طموحها ، واقع تكون فيه عنصرا فاعلا بوصفها إمرأة ذات ارادة وهدف .. وطموح ..
ان عصر الرسالة النبوية كان عصرا مثاليا جسد دور المرأة في صورة اظهرت اهميتها ودورها الكبير في حمل المبادئ والقيم والمشاركة في بثّ الدعوة من خلال سيدة مثّلت الحكمة والصبر والمؤازرة هي السيدة (خديجة) ، فتلك المرحلة لم تكن مرحلة تبشيرية فحسب ، بقدر ما كانت مرحلة ثورية وقفت بوجه الاعراف والقيم الجاهلية وابدلتها بقيم ومبادئ عليا ، ان تلك المرحلة جسدت دور المرأة في اعلى مراتبها ، الرجل والمرأة جنبا إلى جنب ، بل الاكثر من ذلك لم يجد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم - في بداية الدعوة - من يواسيه ويحمل همه ويبشره ويدفعه سوى زوجته خديجة ، انه التكامل والتوحد بين المرأة والرجل في انقى صورة واجلِّ مشهد ، فضلا عن ذلك فان مشهد المقطع يشير - عبر محاولة الشاعرة استقدام الزمن الماضي - الى ان واقعنا في حاجة الى فعل ثوري كمثل ذلك الفعل الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاذا كان بمجيء الاسلام قد اقتلعت الجاهلية من اساسها بما فيها من وأد البنات وانتهاك حرية المرأة ، فان محاولة الشاعرة في استقدام مثل هذا الفعل الثوري انما هو ادراك لما تمر به الذات الانثوية من اضطهاد لايقل خطرا عما كان يفعله الجاهليون بالمرأة ، ان المرأة اليوم تمر بوأد من نوع خاص ، وأد يميت ابداعها .. ارداتها .. شخصيتها .. روحها ، مثلما يميت في الوقت نفسه قيم الرجولة والمبادى التي جاء بها الاسلام ، انه - باختصار - الوأد الثقافي .. الابداعي .. انه وأد لذات المرأة .
وتسعى الشاعرة الى استدعاء لحظات التاريخ المشرقة بالنسبة للمرأة ، محاولة من خلال ذلك استعادة هويتها الحضارية عبر السياق الثقافي لتاريخها :

تقول لي رفيقتي ..
يوم خرج الفاتحون عبر الليل كنتُ معهم
لكنني تهت في الصحراء .. ! ( )

فالشاعرة تكشف لنا في هذا النص صورة ناصعة لسياق ثقافي كانت فيه المرأة ضمن منظومة ثنائية منسجمة ومتلاحمة مع الرجل تصنع الانتصارات التي رسمت لهذه الامة مسارها ونهضتها ، انه السير معا لاقامة حضارة انسانية تحترم المرأة وتجلي شأنها وترفع من مكانتها ، خلاف كل الافكار والمعتقدات التي رأت في المرأة اداةً أو مكانُها البيت ، انه خروج يبرز عظمة فاتحيه وغايتهم الكبرى نحو رفعةٍ وسموٍ ، المرأة عنصر رئيس فيه ، وتعبير الشاعرة بالخروج ليلا دليل على شدة هذه المهة ووطأتها على المرأة ، الا ان منظومة القيم لم تفرق بين الرجل والمرأة في الانطلاق لصناعة هذه الحضارة ، ولذلك لم تقل الشاعرة (خرجت معهم) ، وانما قالت (كنت معهم) تأكيدا على عدالة تلك المنظومة الحضارية ، الا انها - بعد ذلك - تاهت في الصحراء ، انه تيه المرأة بعد ان قدمت وكانت لها المساهمات في بناء الحضارة اضحت ضائعة في صحراء التيه الذكوري انها باختصار قصة تقادم الاجيال التي لم تعطِ للمرأة قيمتها وحقها في الواقع المعاصر التي كانت عنصرا بارزا ومؤثرا في مساراته الثقافية والحضارية كافة ، انه تيه الواقع في حقيقته بكل انجازات هذه المرأة .
* * *
الآخر وتقويض المؤسسة الذكورية :

ان الكتابة الموجهة من المرأة نحو الرجل اساسها الصراع مع السلطة القاهرة ، ولكي تنطلق المرأة بالحرية الواعية ، عليها اجتياز عقبة الرجل الممثل للمنظومة التقليدية ، هنا يتحول الرجل من مجرد شخص بسيط الى مستوى الصراع مع نظام معرفي جديد من جهة وتركيبة نفسية وذهنية سادت بـ(المجتمع الابوي) من جهة أخرى ، حيث تتبوأ المرأة الهامش والادوار المكملة لنشاط الرجل الاساسية ، والصراع هنايقوم على اساس واحد هو (التملك) ، فما دام الرجل يملك المرأة والمجتمع يثمن ملكيته تلك ، فعلى المرأة ان تواجه هذا النظام واعادة بنائه ، لتثبت المرأة بالفعل وجودها في مجتمع ظل يهمشها ذلك ان المرأة هي مستقبل الانسان كما يقول الشاعر لويس ارغون . ( )

(( ان البنية الذكرية المتحكمة في نظام القيمة السائد في المجتمع تبرز كل ايجابيات خصائصها الايجابية عن طريق اعتبار المرأة بوعي ودون وعي ، المستودع الطبيعي لنقائصها السلبية ، وهذا شكل من اشكال التشوية التي تستبيح حقوق الآخر من خلال استباحتها لصورته ... بحيث يصبح انتهاك الآخر وتشويهه ، وبالتالي حرمانه من حقوقه هو شرط تحقيق الانا وبلورتها لهويتها الجنسية ))( ) ، لذا فان الشاعرة بالكلمة ستقود معركتها لتقويض هذه السلطة/الاسوار ، ولهذا فانها ستسعى بكل ما أوتيت من قوة الى تعرية المقابل والكشف عن سوءاته وخلخلة منظومته الفكرية عبر تهديم هذه الاسوار سورا فسورا ، واذا كانت الشاعرة قد وصفت منظومة الرجال بالحكم فانها تبدأ بتعرية هذا الجانب من خلال ما قدمه السياسيون من هزائم قادت الامة الى المهالك ، ولعل ابرزها آنذاك ما عرف بـ(نكسة حزيران) :

نامي او لا تنامي
لن تضري حزيران بشيء

فالنوم دلالة على السبات الذي تعيشه الامة ، إذ ان النوم وعدمه للمرأة في منظومة السلطة الذكورية واحد ، والشاعرة لم تقل (لن تنفعي) وانما قالت : (لن تضري حزيران بشيء) وفي هذا مفارقة ، لان الشاعرة في سياق التهكم والسخرية لما قدمه هؤلاء الرجال من مواقف سلبية تجاه القضايا المصيرية ، وكأنها تريد ان توجه رسالة الى السلطة الذكورية (الحاكمة) في أن ما تقدمونه وما يصدر عن منظومتكم الحاكمة مآله دائما الى اضرار تلحق مصائر الشعوب ، ولهذا فان سياق نص الشاعرة الموجه الى المرأة اكد ان أمر مشاركتها او عدم مشاركتها لن يأبه له أحد ، لأنها لا شيء في المنظومة التي تحكم هذا المجتمع ، ولذلك فإن روح هزيمة حزيران ستبقى قائمة ما دامت هي طاقة معطلة وأسلوب التهكم الذي هيمن على المقطع زاد المعنى عمقا ومرارة .
وتسعى الشاعرة الى عملية اجتثاث وهدم للمرجعيات الذكورية المتمثلة بالانظمة الفكرية والاجتماعية التي ضيقت على المرأة وحاصرتها :

فليهطل .. ليهطل المطر ..
وليتهدم سقفُ بيتي .. ( )

ان الشاعرة تستنجد هنا بالماء ، وهذه مفارقة توحي بان الماء بدل ان يكون دلالة خير يغدو اداة غضب ، لاسيما وان استخدام الشاعرة للفعل (يهطل) بصيغته الامرية بحركية لام الأمر مرتين هو دلالة على تأكيد طلبها في نزول المطر ، لاسيما وان معنى (هطَل المطرُ : نزل متتابعًا متفرقًا عظيم القطر)( ) والهطول ، المطر المستمر ، جاء في لسان العرب : (هطل : الهطل والهطلان : المطر المتفرق العظيم القطر ، وهو مطر دائم مع سكون وضعف . وفي التهذيب : الهطلان تتابع القطر المتفرق العظام . والهطل : تتابع المطر)( ) ، والشاعرة باستخدامها لفظة المطر دون الغيث له ما يبرره ، فعلى الرغم من ان المطر لم يجئ في القرآن الكريم الا للدلالة على الشر والعقاب والتهديم والتحطيم ، وان الغيث هو للدلالة على الخير ، فلان موقف الشاعرة يتطلب قوة غضب تخلصها من واقعها البائس الذي تعيشه ، فسقف البيت لابد له من قوة تزيحه وترفعه عبر عميلة (التهديم) ، فضلا عن ذلك فان استخدام لفظة المطر يوحي بان الشاعرة مؤمنة بقضيتها ومنهجها السليم الذي يتفق مع منهج السماء في رؤيتها لواقع البشر ، وانها غير راضية عن الواقع وما آلت اليه افكارهم البعيدة عن منهج الفطرة السليمة ، والشاعرة إذ تدعو وتستنجد بالمطر لتهديم (سقف البيت) ، فذلك لان ازالة سقف بيت يحجب عنها الحياة وفضاءاتها هو الضمان الحقيقي لممارسة الحياة بطبيعتها وجمالها دون غشاوة من افكار منحرفة حجبت الذات عن السماء الصافية منبع الخير والجمال والاشراق ، انها الحياة كما هي بقوانينها المتطورة دون تأويلات او تحميلات لافكار ومعان مسبقة ، انها اتصال ذات الشاعرة بالقيم الأصيلة مباشرة دون غشاوة مضللة ولا مماحكات مصطنعة.

ان ازالة السقف ورفع الغشاوة عن الحقيقة ليس غايته الوصول الى الحقيقة فحسب ، بل وابراز التناقضات التي تعيشها الافكار التي تقف ضد المرأة الإنسانة ، تلك التناقضات التي توحي بازدواجية في التعامل ، مع ما يؤمنون به وما هو في واقع حياتهم ، فاذا كان هذا المجتمع الذي اضطهد المرأة ولا يزال تحت ذريعة العادات والتقاليد ، فانه يتنصل عن ايمانه بمرجعيته العقائدية التي نظرت الى المرأة نظرة تقديس واحترام ، واوصت بنوع من التعامل يليق بمكانتها المتميزة في المجتمع ، (كما جاء في الحديث الشريف رفقا بالقوارير) ، الا ان المفارقة تقع حين تتحول العادات والتقاليد لصيقة بتعاليم الدين لتحل محلها فيما بعد :

قالوا لي : ان ظهرك لا يحتمل ضربة غصن ..
ولذلك رجموني بالحجارة .. ( )

انها المفارقة التي تلجأ الشاعرة الى استخدامها إمعانا في فضح المرجعية التي تستند عليها مقولاتهم واوهامهم في مواجهة المرأة في ممارسة حقها الذي منحتها لها مرجعيتها الصافية التي اتصلت بها مباشرة ، لا مرجعية أعرافهم التي شابها الانحراف والشذوذ عن الفطرة السليمة .
ان الشاعرة وهي تسعى الى فضح تلك المرجعيات المتوارثة انما تقود ثورة ضد ذلك الارث المتجدد الذي اضحى سمة من سمات المجتمع ، ومعلما بارزا من معالم العرف ... دينهم المزيف .. الاخلاق المزعومة .. ، ولما كانت الشاعرة لا تستطيع ان تسير في هذا الطريق من دون سند او معين ، كان لابد لها من البحث عمن يواصل معها المسعى ، الا ان الصدمة تنتابها حين ترى نفسها وحيدة في الطريق ، بعدما تجد ان الجميع قد تخلى وتراجع بل ونام عن مبادئه وقيمه:

اتصلت ليلة امس بماياكوفسكي
قالوا لي انه نائم .. ( )

ان الشاعرة ترسم لنا صورة مأساوية لمبادئنا .. افكارنا .. مثقفينا ، وما آلت اليه الامور في اوساطنا الثقافية من تراجع بل وانهيار في منظومة القيم الثقافية ، فـ(ماياكوفسكي) ما هو الا رمز للإبداع والثورة على الاعراف والعادات القديمة والتطلع نحو المستقبل وهو ما صبغ حياة هذا الشاعر الكبير بحيث غدا اسطورة لنسف الماضي المتخلف واستبداله بحاضر يعطي للمظلومين استحقاقهم ، فقد ((شكل نسف الماضي العتيق ، وعادات المجتمع التي يرى أنها لا تستحق سوى التحطيم ولعا خاصا لدى ماياكوفسكي))( ) ، ولهذا فالشاعرة وجدت في هذا الانموذج ملاذا لنصرتها لكنها وجدته غارقا في نومه ، ان الشاعرة بهذا انما تفضح مجتمعا اضحى فارغا من مبادئه الثورية ، منعزلا عن واقعه ، عقيما عن انجاب ثوريين حقيقيين تتحول قيمهم وافكارهم الى واقع عملي تطبيقي ، لذا فان واقعا كهذا لا يستطيع ان يناصر حق امرأة او يرجع لها حقا قد اغتصب ، انه - باختصار - عصر تراجع الافكار والقيم والمبادئ .

واذا كانت الشاعرة قد بدأت عنوان قصيدتها بـ(انا) الذات الانثوية ، فان هذه الذات لم تغب عن اي مقطع من مقاطع القصيدة ، بل نراها حاضرة وبقوة ، فـ((بروز انا المتكلم في القصيدة كثيرا ما ينجح في حملنا على القرب منه ، والاحساس به ، والانفعال بتجربته على النحو الذي صاغها عليه ، وبعبارة اخرى تنجح هذه الانا في انشاء علاقة بينها وبين المتلقي من داخلها ، ومهما اصطنعت من الاقنعة فان هذه الاقنعة تظل اقوى دلالة عليها ، واصدق افضاء بمكنونها من وجهها الصريح))( ) ، والشاعرة من خلال قصيدتها تسعى الى ان تعطي لهذه الذات حضورا متميزا تجعلها نداً لكل (انا) تواجهها ، بل الاكثر من ذلك بان تجعل هذه الـ(انا) اقوى من الانوات الموجودة لكي تتحقق بينهم ، وبذلك تحدد نوع المواجهة ومن ثم هي ترسم لنا قوة الذات التي تمتلكها ، ولانستبعد ان يكون حضور هذه الانا بهذا الشكل هو بداية لحضور مركزي ليس هدفه إحلال تمركز مكان آخر - كما قلنا سابقا - بقدر ما يكون تمركزا إزاء تمركز ، انه تمركز المرأة إزاء تمركز الذكورة ، وهذا ما يضمن للذات كفؤ المواجهة :

اسرائيل تتجول في شوارع المدينة
انا اتجول في شوارع المدينة
صدر بيان ينكر ذلك ..
لماذا يتدخل الآخرون .. ! ( )

ان حضور (اسرائيل) هنا يأتي بوصفها دلالة على عدو خارجي غاصب يحتل ارضا ليست ارضه ويستبيح ملكا ليس ملكه ويغتصب حريات وينتهك حرمات ، ثم لا نجد من يواجه الغاصب الا بتنديدات ساخرة وكلمات ليس فيها معنى المواجهة ولا حتى الاستعداد لهذه المواجهة ، ان الذات الانثوية - هنا - تسعى لفرض حضور استثنائي ، انه تمركز من نوع آخر تمركز يجعل من (انا) المرأة تواجه من لم تستطع (انا) الذكورة ان تواجهه ، ان هذه المواجهة ليست مواجهة انا الذات الانثوية مع اسرائيل ، بل مواجهة انا الذات الانثوية مع الانظمة العربية الذكورية التي واجهت اسرائيل ببيانات جوفاء ، ولهذا فالشاعرة تؤكد هذا المعنى بان تجعل وظيفة هذه الانظمة الذكورية ليس الا اصدار البيانات واعلان التنديدات ، وهذا ما رسمته الشاعرة بان الانظمة الذكورية تصدر بيانا ينكر هذا الحضور الانثوي للمواجهة(صدر بيان ينكر ذلك) ، وهنا تأتي المفارقة الساخرة التي تصورها الشاعرة (لماذا يتدخل الآخرون .. !) ، وهذه المفارقة تحمل ثلاث مفارقات في آن واحد ، اولا : مفارقة السؤال الاستنكاري ، وثانيا : مفارقة التدخل وكأن المسألة لاتخصهم فلماذا يتدخلون ما داموا قد صمتوا على حضور العدو في عقر دارهم ؟ ، والثالثة : ان الشاعرة وسمت الانظمة الذكورية بـ(الآخرون) ، وهذه مفارقة تمييزية عن الآخرين ، فالآخرون ما هم الا نكرة ليس في ذاتها حسب ، بل هم نكرة في امور اضحت بعيدة كل البعد عن اهتماماتهم ، بعد ان اثبتت الانظمة السياسية(الذكورية) فشلها في إدارة الازمة ومواجهة العدو ، بل واضحت هذه النظم لا تختلف عن العدو المغتصب ؛ فهما سواء في المواجهة مع الذات ، ان الذات استحالت تواجه عدوين في آن واحد ، عدو داخلي وعدو خارجي .
ومن المفارقات الساخرة التي تلجأ اليها الشاعرة وهي تسعى لتعرية المؤسسة الذكورية محاولتها رسم صورة ناقدة للواقع الذكوري :

والدي احب بجنون امي ..
ولذلك تركها وتزوج امرأة قبيحة ! ( )

اذ يقوم هذا النص على مفارقة حادة تنشئها الشاعرة ، مستندة على مبدأ (المفاجأة) وهذا ما فاجأتنا به الشاعرة ، حينما نقرأ السطر الاول من النص فاننا نكوّن في ذهننا فكرة ما سيكون عليه السطر الثاني الدائر في حقل دلالة الحب ، الا ان الذات الشاعرة تكسر افق القارئ إذ تقوم بمخالفة ذلك حينما تجعلنا ازاء مفارقة مغايرة لما نتوقعه ، وفي ذلك دلالة على عمق المأساة التي تمر بها الذات وهي تواجه تحديات غير طبيعية تقوم على متناقضات مأساوية افرزتها الحياة بعبثية انساقها الثقافية والمجتمعية التي جعلت من المرأة قيمة منضوية تحت سلطة ذكورية مربكة لا يحكمها قلب ولا عقل ، ليكون - نتيجة ذلك - فقدان للتوازن الاجتماعي واحلال القيم التي تؤدي الى تحطم الذات الانثوية وتصدعها .

ان الشاعرة سعت - وعبر هذه المفارقة - الى تعرية الواقع القائم على ثقافة متهرئة منهزمة لاترعى قيما ولا تحترم انسانية ، ولا تحافظ على وفاء ، انها الثقافة التي تقوم على تناقضات الواقع والتي تكون سببا للاحباطات المتوالية على المرأة ، وقد زادت حدة المفارقة حينما وظفت الشاعرة كلمة (امرأة قبيحة) اذ لو قالت (امرأة جميلة) لخفت وطأة المفارقة .

وتسعى الشاعرة الى فضح الواقع الذكوري من خلال عملية الكتابة التي تؤطر حياة الذات الانثوية فتقول :

كتب حبيبي يقول .. انت خائنة
قلت له مزق رسائلي .. ( )

يظهر في هذا النص صورة من صور المفارقة التي ترسمها الشاعرة بينها وبين الرجل .. بين الحب والخيانة ، وتتجلى هذه الصورة من خلال عملية الكتابة (كتب حبيبي ،،، رسائلي) ، إذ تسعى الشاعرة الى فضح الواقع الذي غدت فلسفته مبنية على انتهاك روابط العلاقات الانسانية وبالاخص اسمى هذه العلاقات المتمثلة بالحب حينما تكون بين الرجل والمرأة ولاشيء يسندها من قبل الرجل سوى كلمات رخيصة يطلقها على الورق ، فعلى الرغم من ان المرأة اقامت علاقتها مع الرجل من خلال الحب (كتب حبيبي) يسند هذا الحب تلك الرسائل ، الا ان الرجل لم يكن من حبه سوى كلمة واحدة تمثل غياب الثقة وغياب القدرة على تشكيل الانسجام ، وعدم الشعور بالتكافؤ ، ، انها كلمة (الخيانة) ، والخيانة في عرف هذا الرجل ما هي الا خروج المرأة من صمتها عبر الكتابة . فطالما نُظر الى علاقة المرأة بـ(الكتابة) بنوع من الريبة ، فالمرأة التي تكتب هي امرأة ترتكب خطيئة ، فقد اسس الخطاب الذكوري عبر التاريخ لهذه القاعدة التي تدخل في نسق الثقافة العربية الذكورية التي عملت لزمن طويل على ابعاد المرأة عن حقل الكتابة ، ان تكتب المرأة يعني أن تخرج من دائرة الصمت التي حوصرت فيها ، وان تخرج من صمتها بواسطة فعل الكتابة مفاده ان تقول : ان تفعل باختصار ، ان تنافس وتشارك الرجل في صنع قرارات بناء الحياة بعد أن بناها على مزاجه ووفق المقاييس التي أرادها ، وهذا ما لا يقبله الرجل ، اي صاحب سلطة على وجه العموم ، وحتى يحافظ الرجل على هذه السلطة سواء في شكلها المادي او الرمزي الذي يتجلى في القوانين والتشريعات والادب ، عمل على زرع فكرة ان المرأة لا تكتب ، واذا كتبت فانها لا تبدع ، وهكذا زرع التاريخ الذكوري فيها القناعة بضعفها ، رغم قدرتها على الابتكار ( ) واذا ما كتبت فانها توضع في خانة الريبة ، وهذا كله متأت من الوعي الاجتماعي الزائف المؤسس للثقافة الذكورية والقائم عليها ، وكما تقول الشاعرة بشرى البستاني فقد سبق للمرأة عبر التاريخ ان قطع لسانها وعوقبت بالحجر والطلاق والاقصاء بسبب ما قالت من شعر او نثر( ) ، ان (( البنى والانساق الرمزية الحاكمة لعمليات التعبير والتحليل تنهض على رؤية الرجل وحده للعالم))( ) .
وعلى الرغم من سكوت الذات الانثوية عن الرد الكلامي على هذا الاتهام الشنيع لها بالخيانة ، الا ان ردها الآخر كان اقوى واعمق وافحم في الحوار ، انه رد الذات الواثقة من نفسها في مواجهة هكذا اتهام (قلت له مزق رسائلي) ، ان المرأة حين ترى ان تلك الرسائل استحالت الى كلمات لا قيمة لها عند هذا الرجل ومنظومته فانها وبكل سهولة تأمره بتمزيق تلك الرسائل التي باتت وحدها تمثل الآصرة التي تربط الرجل بها وليس العكس ، ولذا فان الشاعرة لم تقل (مزقتُ انا رسائلي) وانما جعلت عملية التمزيق بيد الرجل لسببين : الاول : ان الرجل هو من خان هذا النص اولا ولذا فيجب ان يتحمل تمزيقها ، اما السبب الثاني : فيتمثل في ان الشاعرة بقيت وفيّة لكل ما كتبته ولم تمزقه هي وانما امرت من فقد الثقة وخان علاقة الحياة بتمزيقه ، ان المرأة في هذا النص تقف قوية شامخة عالية بمبادئها وقيمها التي لم تتراجع عنها ، بعكس المنظومة الذكورية المبنية على قيم هزيلة من الأنانية والاستئثار
، مما يجعل الشاعرة ترسم لوحة تشكيلية ساخرة لهذه المنظومة :

رجال مدينتي مساكين ..
يحملون احذيتهم دون ان يشعروا ويسيرون ...
دوائرهم عالية فخمة
ولكنهم بالرغم من ذلك يدخلونها حفاة ..
مساكين .. ! ( )

تحاول الشاعرة في هذا المقطع السعي في عملية الكشف عن واقع النسق الذكوري وهيمنته ، وذلك بتعرية هذا النسق ، وامعانا في ذلك فانها تلجأ الى (المفارقة الساخرة او المضحكة) ، لاسيما وان المفارقة تكون ((اكثر تأثيرا اذا اجتمع ]فيها[ العنصر الكوميدي والعنصر المؤلم))( ) .
ان مفارقة النص متأتية من ضربات عدة ، اولها : ان الشاعرة حاولت ان تؤطر هذه الصورة وتحصرها بلفظة (مساكين) ، وعلى الرغم من ان هذه الصفة التي توحي بالشفقة الا انها في حقيقتها تحمل قمة السخرية والتهكم ، اما الثانية فهي لفظة (يحملون احذيتهم دون ان يشعروا) ، لانهم مغيبو العقل عن منطق الاشياء وحقيقتها ، في حين جاءت الضربة الثالثة في انهم يدخلون دوائرهم العالية الفخمة (حفاة) .
وهذه الضربات الشعرية تحمل من الدلالات والايحاءات ما يعكس موقف الشاعرة تجاه (ثقافة الذكورة) القائمة على اسس فارغة هزيلة تفتقر الى العلمية والموضوعية من جهة ، كما تفتقد النبض الانساني الحميم والحس الحضاري ، وتنم عن اختلال التوازن العقائدي والفكري ، ما يجعل مبادئهم التي يؤمنون بها هي الاخرى متزعزعة وغير مستقرة ، بسبب الانفصامات الاليمة بين النظرية والتطبيق ، انها تلك الازدواجية التي يتسم بها الرجل العربي بين الفكر والممارسة ، انه اللاوعي الجمعي الذي يخيم على ثقافتنا دون ان نشعر (يحملون احذيتهم دون ان يشعروا ويسيرون) ، انهم لا يمتلكون وعيا يحصنهم من مجابهة الازدواجية ولا يمتلكون فكرا او نظرية متماسكة يسيرون بهديها ، واستخدام الشاعرة لمفردة (مساكين) فيه دلالة على رؤية الذات الانثوية نحو الرجل ببراءة واشفاق وعطف ، ذلك ان نظرة الرجل نحو المرأة برؤية سلبية انما يتم من خلال مشاكل يعاني منها المؤسسة الذكورية ، (( ان قهر الرجل للمرأة هو صورة من انقهاره هو في مجتمع قاهر ، وعليه فان تحرير الآخر هو جزء اصيل من تحرير الذات ، وان تحرير الذات هو جزء اصيل من تحرير الآخر)) .( )
وتمضي الشاعرة نحو تعرية النسق الذكوري عبر سيل من المفارقات الشعرية التي تواجه بها سلطة الذكر المتعالي :
رجل غبي طرقني بالامس ..
استقبلته ..
لكنه هرب بعد ذلك لانه اكتشف انني غبية ! ( )

نحن إزاء نص يحمل صورا من المفارقات الجميلة التي تسجلها الشاعرة في لوحة كاريكاتيرية معبرة ، والمفارقات التي تظهر في النص :
رجل = إمرأة / رجل غبي في نظر المرأة = إمرأة غبية في نظر الرجل / استقبلته = هرب
الذات الراوية عليمة = ذات الرجل جاهلة
ان الشاعرة تسعى في هذا النص ان تعرض مشهدا حقيقيا لما عليه الواقع الثقافي الذكوري ، انه واقع متسلط متعالٍ لا ينظر الا من فوق ، لكنه في حقيقة امره واقع فارغ ولا يعلم انه كذلك ، انها الثقافة الذكورية الفارغة التي لا تريد ان تقتنع بواقعها الحقيقي البائس ، فاستخدام الشاعرة لفظة (غبي ، غبية) انما يدل على فقر معرفي في قاموس هذه الثقافة التي فرضت نفسها على انها الثقافة الاعلى ، الا ان الشاعرة حاولت وباسلوبها ليس فضح وكشف ما تخفيه هذه الثقافة من حقائق ، بل تفتيت ارضيتها والحفر في قيمها المتهافتة ، انها القيم المتعالية التي تقف على ارض هشة ولا تقوى على الصمود أمام ضربات الحياة ، وفي مقابل هذه الصورة يقف شموخ المرأة بقوتها وادراكها وبمعرفة ما هي عليه من واقع ، بل والاكثر من ذلك انها العليمة بواقعها العارفة بسياقاته الواضحة والصريحة في كل ما تؤمن به ، فالمرأة على الرغم من معرفتها بـ(غباء) هذا الرجل الذي (طرقها) في ( الليل)* ، الا انها تستقبله ، وما دلالة الغباء هنا الا غباء الرجل بواقعه المهزوم وبواقع المرأة التي يُغتصب حقها ، الا ان المرأة يبقى حبها مفتوحا لا تقوى على رد احد ، في حين نرى في الصورة المقابلة صورة مغايرة ، إنها صورة الرجل (الغبي) الذي هرب من المرأة حين اكتشف أنها (غبية) ، ان غباء المرأة في نظر الرجل ما هو الا في نظرته الذكورية للمرأة حين ترفض منطلقاته تلك فتصبح في نظره امرأة غبية ، لذا فالمرأة تعرف انه غبي وتسخر من اكتشافه أنها غبية .
وتضعنا الشاعرة ازاء مفارقة حادة توجه من خلالها نقدا للمنظومة الذكورية وفضحا لهذه المؤسسة :

قفز من امامنا غزال شارد ..
تذكر جدي قيسا ، وجدتي ليلى ..
وذكرت امي الوفاء ..
ولم اذكر شيئا البتة . ( )

تضعنا الشاعرة في هذا المقطع ازاء قضية اجتماعية كبرى تتمثل في اختلاف الاجيال وتبدلها ، واستقرار الادوار وتماثلها ، :
جدي قيس
جدتي ليلى
الام الوفاء
الذات المعاصرة ؟؟؟؟؟
إذ تبرز الشاعرة في هذا النص صراعا قيميا بين الاجيال ، إذ ان كل جيل من الاجيال السابقة كان عنده منظومة مبادئ وقيم يناضل من اجلها ، اما الجيل الحالي فانه لم يجد منظومته القيمية التي يناضل من اجلها ، ويدافع عنها ، يبدأ النص اولا من وضوح الرؤية (جدي = قيسا ، جدتي = ليلى) ، الى اختزالها بصفة (الوفاء) ، الى التظاهر بانعدامها (ولم اذكر شيئا البتة) ، وانعدام الرؤية ناتج عن التداخلات غير المنطقية في حياة تربكها عوامل خارجية متسلطة وعوامل داخلية مفقرة بحكم التبعية ، وانواع السيطرة والارباك والاستلابات ، وتداخل القيم واختلاط الايجاب بالسلب ، ان المفارقة هنا تكمن في فاعلية التأويل التي تشير الى ان هذا الاعتراف بنفي الذاكرة قد يحمل في كوامنه وعيا حادا ومعرفيا بها وبما يتصل بها من قضايا لعل ابرزها وأد الذاكرة الثقافية ومحوها عبر السلطة الابوية الحاكمة استعداد لاستقبال ثقافة جديدة تنمو في بيئة جديدة من العلاقات الايجابية .

وتجعل الشاعرة من المنظومة الذكورية المتسلطة والمتآزرة مع التسلط الغربي الاستعماري أداة لتفتيت وإطفاء طاقة الإنسان العربي وفي طليعته المرأة جوهرة روح الأمة ، ولذلك فهي ترى المشروع يمتد ويجتاح المكان والزمان وينذر بكارثة اجتماعية وثقافية كبيرة ، إنها تعرض لقضية :

الطاعون عندما اجتاح المدينة لم يستأذن والديَّ ..
ولذلك اجتاحهما الغضب ! ( )

فالطاعون يعد مرضا ووباء وشرا يجتاح الامم فيصيبها بالتعطيل والسكونية التي ينتج عنها توقف الحياة وانعدامها ، وليس بإمكان الوالدين فعل شيء ، لأن المشروع أكبر من أي جهد فردي ، الا ان فكرة مرض الطاعون تثير صورا شتى من دلالات رمزية تشير او توميء الى مظاهر لها صلة بسياق النص ، ان الطاعون - ومن خلال استخدام الشاعرة لفظة اجتاح ما هو الا رمز للاحتلال اي احتلال .. جاء في معجم اللغة العربية ((اجتاح العدوُّ بلدًا أهلكها ، أتى عليها وهدّمها :اجتاحت إسرائيل مخيّم جنين . اجتاحت السُّيولُ الأراضي : اكتسحتها وغمرتها :- اجتاحت موجةُ البرد المنطقةَ ، - بلد مُجتاح بالوباء))( ) ، ان رمز الطاعون يشير ويوميء - وضمن سياق النص - الى فكرة الطغيان .. الدكتاتورية .. الظلم والعدوانية .. قهر الانسان للانسان .. ، ولذلك فان الذكورية والابوية ما هي الا مرض العصر .. انه وباء التسلط والدكتاتورية ، وهذا المرض له من المخاطر التي تنذر بكارثة وبائية اذا اجتاحت جيلا فان الجميع سوف لن يسلم من هذا المرض ، ولذلك فان الشاعرة عبرت عن هذا المعنى بقولها (ولذلك اجتاحهما الغضب) حيث لا جدوى من غضب الأفراد ، لأن الكارثة جماعية ، ولن تعالجها إلا قوة جماعية كبرى ومخططات ستراتيجية ، ان الاباء بمحدودية تفكيرهم ظنوا ان الامور مسيطر عليها مادام فعلهم هذا واقعا في حدود تصوراتهم وضمن ماهو مخطط له في فكرهم ، وقول الشاعرة (ولذلك اجتاحهما الغضب) دلالة على الصدمة الكبيرة التي عمّت الابوين فجعلتهم مذعورين مما اصاب واقعهم ، حين اجتاح المرض مدينتهم ظانين ان كل شيئ يجري بارادتهم الابوية التي وأدت كل ما هو جديد وجميل .

وعلى الرغم من محاولة الشاعرة تقويض مؤسسة الرجل الذكورية وتهديمها فلان الشاعرة لا تنطلق في ذلك من رؤية سلبية للرجل بقدر ما تحاول تقويض واقع سلبي والسعي الى انشاء واقع ايجابي جمالي ينطلق من كون الرجل والمرأة عنصرين متكاملين في الحياة ، واذا كانت الكتابة بالنسبة للمرأة وعيا بالذات والآخر والعالم ، وان الكتابة ((هي امكانيتها الوحيدة لاقامة علاقة جمالية مع الواقع))( ) ، فان الشاعرة تسعى - من خلال الكتابة - الى تشكيل صورة للرجل :

عندما اكتب عن عينيك احس العالم يتسع في قلبي ..
يفتح فيه نوافذ كبيرة ،
وعندما اغمض احسك تبتعد
واحس العالم قطرة دم غائرة في قعر قلبي .. ( )

اذ تسعى الشاعرة الى رسم صورة لقيم الرجولة كما تراها هي ، وكما أرادتها طبيعة الخلق ، انها صورة تتشكل وتتكون بوساطة عملية الكتابة وفعل الاحساس ، ففعل الكتابة له سحر في اكتشاف عالم ماوراء الوجوه عالم العيون وما تخبئه من عوالم اخرى ، انه فعل يتوجه الى قراءة المجهول والمخفي ، واذا كانت العيون تعطينا ما يمور في ذات صاحبها من الم واحساس .... ، فان الشاعرة تحاول ان تتأملها .. تغور في اعماقها .. تسبح في بحارها ، لتكتب عن احساسها الذي استحال الى عالم من المشاعر الدافئة التي احتضنت صاحب تلك العينين ، ليتحول قلبها الى نوافذ كبيرة من الامل .. فتتسع آفاق ذلك القلب ليحتضن العالم كله ، انه قلب المرأة الكبير ، ولكن ما الذي يجعل عيني تلك المرأة تغمضان فتتوقف عملية الكتابة ؟ انها اسوار ذلك الرجل وأسوار المجتمع معا ، حين تتحول تلك العينان - عينا الرجل - الى سور رصد كبير ، فتضطر عينا المرأة ان تغمض فتتوقف عملية الكتابة عن المضي ، فيتوقف معه ذلك الابحار في العينين ، ان الكتابة وجود وبخلافه يتوقف معها العالم كله عن السير ، ان الشاعرة تجعل وجود الكتابة مرهونا بوجود تلك القيم ، اما حين تتوقف عملية الكتابة فان هذه القيم تتلاشى لتستحيل الى قطرة دم في حيز ضيق في قعر ذلك القلب ليتحول ذلك العالم عندئذ الى مساحة ضيقة في قعر ذلك القلب الذي كان يدون بالكتابة حضوره وبوجود الرجل الحر يشكل وجوده.

انها لوحة احساس لصورة الرجولة كما تصفها المرأة وهي تسطر مشاعرها عبر فعل الكتابة الذي يجعلها امام الرجل في عملية تقابلية ثنائية ، العينان ازاء العينين ، ولكن القلب هو قلب المرأة وحدها ، انها حالة استلاب لكل قيم الرجولة حين يتحرك احساس المرأة تجاه رجل لا يحمل ايا من تلك القيم ، رجولة تتأرجح بين المظلم والمضيء ، بين الغياب والحضور ، بين الثورة والازدواجية ، تلك هي كارثة الرجل العربي المقيمة. ، فماذا يبقى اذن من تلك القيم ؟
ولهذا تصل الذات الانثوية الى حالة يأس من واقعها ، إذ هذه الذات تبدأ تتململ من الواقع المأساوي للمجتمع وهي تواجه هذه الاسوار ، انها حالة اليأس المحبطة تلتف حول الذات بعد بحث طويل :

صديقتي بحثت الف عام عن شيء واحد يريحها
فلم تجد ..
صديقتي تتوسل اليّ ان اصحبها لترحل ..
لكنني اخاف الاسوار ...
صديقتي جف الحب في قلبها فلم تعد ترى السماء ! ( )

ان صديقة الذات ما هي الا الذات نفسها انها قناع الذات الانثوية التي تصل هنا الى حالة من اليأس والاحباط .. انها لحظة استبطاءٍ للمخلّص الذي يريحها فلم يأتِ ، وما (الف عام) الا اشارة لبطئ حركة الزمن الثقيل الذي يمشي بخطوات بطيئة ضمن حركة قانون التخلف ، ولذلك فان هذه الذات تبدأ بالتفكير في الرحيل .. التخلص من الاسوار التي احاطت بها من كل مكان .. والرحيل هنا هو رمز للمغادرة الكلية / الثورة ، مغادرة مرحلة ثقُلَتْ وطأتها على الروح ، الا ان الذات تحس بالخوف يسري في نفسيتها انه الخوف من الاسوار ومن خطورتها ، وهذا الخوف يجعل من الرحيل مساويا الموت .. النفي .. القتل .. الضياع .. التيه ، فمنظومة التخلف تمتلك شبكة دفاع عدوانية شرسة ، ان حالة اليأس تصل الى مداها عند الذات الانثوية ، جف الحب وانقطع الرجاء بالسماء وما عاد هناك امل ، وما انقطاع رجائها بالسماء الا يأس من المنظومات الدينية التي تلبست بالدين لاعطاء شرعية لمنظومتهم البائسة ، فالسماء هنا إشارة لمن نصبوا أنفسهم أدعياء للدين وحرموا المجتمع من نصف طاقاته ، بل كل طاقاته بنزوعها نحو التحرر والتجديد والثورة :

هددت السماء ان لم تمطر زهورا في بيتي
فلن اصلي بعد .

* * *
السماء لا تمطر في وطني يا سيدي القارئ ..
ولذلك بقيت السطوح قذرة ..
الا تمطر السماء في مدنكم ايها السادة ؟
السماء مغبرة في مدينتي
ولذلك ابكي باستمرار
ولذلك العن طالعي .. ! ! ( )

توجه الشاعرة نقدا شديدا لكل الخطابات التي تلبست بلباس الدين وجعلت من نفسها خطابا سماويا مدعياً أنه يأخذ مرجعيته زوراً من القيم والشرائع الالهية السمحة ، ان تلك الخطابات ما هي الا عصرها الراهن ، إنها ترفض إعادة إنتاج ما قيل قبل قرون وقرون من تفسيرات وتأويلات مما لا يصلح لمعالجة أحوال مجتمعها اليوم ، لأنها كتبت لعصر مضى ، وعالجت مشاكل انقضت ، إنها تريد للفكر الديني أن ينتج أزهارا تليق بأمتها ، وتكون جديرة بمجابهة حضارات الأمم الأخرى ، من خلال تأويلات محايثة لإشكاليات الحياة الراهنة . فكل ما كتب ويكتب عن النص الديني ليس مقدسا ، لأن كتابه غير معصومين ، ويجب أن يكون موضع حوار الجميع ، لذلك فان الشاعرة تسعى هنا جاهدة الى رفض كل تلك الخطابات وبالقدر نفسه هي تحاول نزع القدسية التي الصقت بتلك الخطابات ، ان نظرة الشاعرة الى الخطاب الديني المقدس والتفسيرات المحايثة له وتحديدا السليمة منها انما هي نابعة من الفطرة ومتوافقة مع الفطرة ولذا فانها لاتتعدى سوى انها الرحمة والانس والراحة والطمأنينة للبشر (تمطر زهورا) وبغير ذلك فهي لن تكون خطابات سماوية ، ان الخطاب الديني هو ذلك الخطاب الذي يتوافق مع احتياجات البشر كونهم بشرا ، بقدر ما يعزز مكانة المرأة والشرائح المضطهدة في المجتمع ويعلي من شأنها وهذا ما عليه كل الشرائع السماوية ، ولذا فان الشاعرة ترفض ان تصلي تلك الصلاة الفارغة لان سماءها مغبرة ، لتأتي دموع الذات الانثوية مدرارا لتغسل ادران مدنها مما علق بها من قذارة سطوحها .
* * *

الانا والآخر .. الثورة وعملية الانبعاث :
تسعى الشاعرة في المقاطع الخمسة الاخيرة من القصيدة الى رسم طريق للخلاص الابدي من الاسوار التي احاطت بالذات الانثوية ، ولذا فهي تلجأ الى محاولة (الانبعاث) والحياة من جديد ، إذ تسعى الى ان تشكل صورة من صور الانبعاث بعد محاولة الموت التي ارادتها السلطة الابوية للذات الانثوية :

يوم قُتلت دفنني والدي في مغاور الثعابين
لكنني تعلمت ان أُبعث وابعث وابعث .. ! ( )

إن بناء الفعل (قتلتُ) للمجهول جاء مقصودا لتغييب فاعل القتل وتضييع الجريمة بحجب العقاب عن المجرمين . ان الشاعرة تضعنا في معادلة كونية تتجلى في ان القيم والمبادئ لاتموت مهما حكم عليها ومهما اراد لها الآخرون من موت حقيقي ، لن تموت مادام هناك إحساس بقيمتها، وما تعبير الشاعرة بـ(مغاور الثعابين) الا تأكيد وحرص من السلطة الابوية على قتل الذات الانثوية بعد ان اجهز عليها المجتمع بقيمه المتخلفة ، ان محاولة السلطة الابوية قتل هذه الذات هو سعي لقتل القيم الروحية الاصيلة التي تحيا من خلالها الانسانية ، ولهذا فان وأد المرأة في العصر الحديث لا يعني وأداً للمرأة وقتلا لحريتها وذاتها فحسب ، بل يستحيل الى وأد لقيم الرجولة الانسانية ايضا .. ، انه وأد مصيري تسعى الذات الانثوية لمجابهته بكل شجاعة ، ولا ترى سبيلا لذلك الا عن طريق الانبعاث .
وعلى الرغم من ان قضية الموت والانبعاث تعد من القضايا الفكرية التي شغلت حيزا كبيرا من فكر الشاعر العربي المعاصر لأتكائها على مرجعيات فكرية لحقيقة الصراع بين الحياة والموت التي ترفض من خلالها الذات الانسانية الاستسلام او الهزيمة لتخلق ازاء ذلك عالما اسطوريا يتغلب فيه الانبعاث على الموت( ) ، اقول : على الرغم من ذلك فان الشاعرة بشرى البستاني لا تريد ان تخلق واقعا اسطوريا ازاء ما تواجهه من صراع مصيري بقدر ما تسعى الى خلق واقع حقيقي لما تؤمن به من قيم عليا ومبادئ سامية تسعى من خلالها الى ان تحطم السكونية الحضارية واسوار التخلف ومنظومة الاستبداد برمتها وبضمنها السلطة الذكورية عبر الرؤيا الانبعاثية النابعة من مرجعية فكرية عالية ما كان للشاعرة ان تتبناها لو لم تكن قد بلغت حدا من الرقي والاندماج في افق كوني شامل ينظر الى الواقع نظرة خاصة محاولة بعث القيم الرفيعة الكامنة في اعماق الواقع من خلال تمثلها في افق الطموح الذي تسعى الذات الشاعرة الى بلوغه ، لتكون ازاء تقابلية بين رؤيا الذات التواقة الى عوالم الخلق والانبعاث وايقاع الواقع الموضوعي الذي تحياه الذات ، مجسدة الشاعرة ذلك من خلال نصها القائم على الفكر في معاينة الوجود . ( )
ان الخيبة واليأس الذين احاطا بالذات الشاعرة حين ايقنت بجدب السماء المغبرة في مدينتها ، وحالة الانتظار الطويلة التي اتعبتها ، كل ذلك جعلها على يقين من ان خلاصها لا يكون الا بالانبعاث ، وهذا واضح من تكرارها لمفردة (ابعث) ثلاث مرات في سطر واحد ، في مقابل مفردتي قتلت .. دفنني ، ان الذات الشاعرة تعمل جاهدة لاعادة الامل من خلال عملية بعث جديدة تتمثل في فكرة الانبعاث (الحياة من خلال الموت) ، انه الاستعداد لبدء حياة جديدة ، ولهذا كان لابد لهذا الاستعداد من تهيؤ معنوي ومادي تستطيع الذات ان تحقق من خلاله عملية الانبعاث ، واستعداد الشاعرة لحالة الانبعاث يقوم على مرتكزات اساسية لعل في مقدمتها شراكة الرجل في هذه العملية:

قال لي رجل عيناه بحيرتا فرح
اتريدين ان توقعي لائحة الوجود بالحضور .. ؟
ليس الا ان تنزرعي بقلب الريح اذن ! ( )

وعلى حد تعبير شارل فوربيه ان درجة تحرر المرأة تصبح بكل بداهة مقياس التحرر العام ( ) ، فان الشاعرة مؤمنة ايمانا يقينيا بان خلاص المرأة لا بد له من مؤازرة حقيقية من قبل الرجل ، انها الشراكة المبنية على اساس قيمي لقضية المرأة ، ((ان ثنائية الرجل والمرأة من الثنائيات الاساسية في الحياة ، وهي ثنائية متكاملة ومؤتلفة وليست ثنائية تضاد ، ومن وقف في طريق تقدم المرأة عبر التاريخ ليس هو الرجل وانما منظومات القيم المتخلفة التي نشأ عليها ، ... ان التناغم بين المرأة والرجل هو العامل الرئيس في خلق حياة تسودها عوامل الايجاب والانسجام والفعل الخلاق والمنتج))( ) ، ولهذا فان توجيه الرجل للذات الانثوية في وصيته لها ليس الا دلالة على تلك الشراكة الحقيقية التي خلقت روحا مشتركة في المصير الذي تواجهه المرأة والرجل كليهما في هذه الحياة .
ان حالة الاستعداد للانبعاث التي تنتظر المرأة - شراكة مع الرجل - تأخذ شكل الانبات بقلب الريح ، فعملية الانزراع ما هي الا بداية الحياة التي تؤسس لجيل جديد يعي واقعه المادي مثلما يعي قيمه العليا ، والشاعرة توظف مفردة (الريح) بدل (الرياح) ، ومثلما نعرف ان القرآن الكريم يفرق في استخدامها ، اذ ان القرآن الكريم يستخدم مفردة (الريح) للعذاب والعقاب ، اما مفردة (الرياح) فهي دائما تأتي للخير( ) ، والشاعرة في استخدامها لمفردة الريح لا يعني انها تستخدمها للعقاب والعذاب بقدر ما توظفها للدلالة على شدة المقاومة التي ستلاقيها الثورة ، وشراسة العداء الذي ستواجهه عملية التغيير ؛ لأنها ستهدم دول الظلام وتؤسس للمستقبل أعمدة من نور ، وتدحض مصالح الذرائعيين. إن الله سبحانه وتعالى حين عذب الكفار واستخدم مفردة(ريح) انما كان يصور مشهدا من مشاهد القضاء على قيم متخلفة .. افكار منحرفة .. ، ان الريح التي تريد الشاعرة ان تنزرع في أعماقها هي ريح تغييرية ، ريح تدميرية لكل الافكار الفاسدة التي عاثت في هذا الجيل تحريفا وتدميرا ، وبذلك تنفتح صفحة من الامل وباب للمستقبل وتبدأ الاسوار تتكسر شيئا فشيئا ، ليصير الحوار مع الحرية ، وليس مع العذاب والأسوار والقيود ، مع الورد والشمس والئلج ، ولكل رمز دلالاته:

ايتها الوردة الجبلية
اجيءُ ام تأتين .. ؟
ايتها الشمس الجبلية
اجيءُ ام تأتين .. ؟
ايها الثلج الجبلي ..
اجيءُ ام تأتي .. ؟ ( )

تعتمد الشاعرة هنا اسلوبا استفهاميا في مناداتها الذات الانثوية بكل ما تحمل هذه الذات من معاني السمو والعلو بدلالة لفظة(الجبلي) ، وبكل ما تتميز به هذه الذات من صفات .. الجمال / الوردة ، الاشعاع والتوهج/ الشمس ، الصفاء الشفافية / الثلج ، وقد جاءت الهمزة مرتبطة بأم المعادلة اسلوبا في مقطعها هذا (اجيء ام تأتين) ، واستخدام الشاعرة لهذين الفعلين دقيق جدا ، إذ ان الفرق بينهما هو ان (المجيء) يكون في الشدة والصعوبة ، اما (الاتيان) فيكون في السهولة واليسر ، قال الراغب الأصفهاني مفرقا بين الإتيان والمجيء: الإتيان مجيءٌ بسهولة، ومنه قيل للسيلِ المارّ على وجهه أتي" ( ) ، ولهذا فالشاعرة كي تصعد الى الوردة الجبلية .. الشمس .. الثلج وهي في اسوارها فانها تحتاج (فعلا) يمكنها من ذلك ولهذا يأتي الفعل (اجيء) دالا عن هذا المعنى ، بعكس الفعل (تأتين) فان النزول من الجبل يكون اسهل ، ودلالة التركيب التي وظفتها الشاعرة في هذا النص (اجيء ام تأتين) هو اقرار من الذات بان خلاصها من الاسوار قد بدأ ، وهي الآن قادرة على الإمساك بفرح الحرية ، فخروج الذات الانثوية من اغلالها والتحاقها بمثلها العليا او نزول هذه المثل لفك اسارها سيان في ذلك بعد ان انزرعت في قلب الريح وقاومتها ، وتمكنت من اقتلاع كل الافكار التي بنيت حولها الاسوار ووقفت في طريقها ، ولهذا فان عملية الانزراع اثمرت (إمراة تحمل وطنا) :

جاءت إمرأة تحمل وطنا ..
قال رجل شرب دجلة .. اسمح لك ان تحمليه ..
من يومها والوطن يخضوضر ويتنامى . ( )

الشاعرة في مقطعها هذا تضعنا ازاء قضيتين : الاولى : علاقة المرأة بالوطن ، والثانية : علاقة المرأة والوطن بالماء ،
المرأة الوطن الماء الوطن يخضوضر ويتنامى
فالمرأة - حسب رؤية الشاعرة - كائن يهب الوجود معنى الحياة ، او كما يعبر نيتشة : (الحياة امرأة) ، فالذات الانثوية وجود لذات تصنع حياة .. تنتج وجودا لا يمكن ان يقوم بدونها ، وجودا تواصليا انسانيا لا يتم الا بمعاناتها التي تصل حد التضحية بحياتها ، فهي رحم الكون ومستقبله ، المرأة تضمر الرجل والاجيال القادمة في دمها ، وهي في هذه العملية التواصلية تحتاج لطاقة تعينها على الاحتمال والصبر على الاستمرار ، لذلك كانت الحياة انثى قوية وبهية لانها القادرة على الايثار والبذل بما يمنح الوجود قيمته الانسانية والجمالية الحافزة على تحقيق قيمته الواقعية ، كون الامومة لديها ليست سمة بايولوجية ميكانيكية ، بل هي طبيعة فيها تمكنها من القدرة على الحنو والاحتواء بشمولية( ) ، من هنا فان ارتباط المرأة بالوطن هو ارتباط مصيري .. ارتباط وجودي .. ،* ، فهناك معادلة ((بين الام والارض ، فاحشاء الارض كاحشاء الام ، تعطي الحياة ، وقد عد يونغ تعلق الانسان بالارض شوقا لتحقيق الانبعاث بالعودة الى رحم الام وانتظار حياة جديدة .. ان الانسان المتحضر .. يحس احساسا غامضا باتحاده اتحادا صوفيا بارضه ، يتخطى الشعور الوطني الى الشعور بانه ولد من الارض الخصبة ، كما تولد الصخور والانهار والاشجار والزهور))( ) .
واذا كان الماء اساس الحياة فان الشاعرة تجعل من ماء الوطن (ماء دجلة) دلالة بارزة على ثقة الذات الانثوية ويقينها بشريك نضالها (الرجل) ، لذا فهي تأتمر بامره ، ليثمر لنا هذا التآزر بينها وبين الرجل وطنا مخضوضرا ومتناميا ، لاسيما وان اللون الاخضر فيه من الدلالات التي تتسق مع هذا السياق فاللون الاخضر يأتي دالا على الخصب والتوازن الذي ينتج الحياة الجميلة والحب ، كما انه ارتبط بالتجدد والانبات فضلا عن دلالته على البعث والنهضة والتجديد( ) والنمو والخلود والامل والنبل ، ((ان العودة الى مدلولات اللون الأخضر في المعارف الانسانية تؤكد كونه لونا ذا ابعاد كونية ، فهو لون الماء والسماء والنار ، وهو رمز الحماية المقترنة بالامومة ، انه رمز الاطمئنان الربيعي الذي يخرج العالم من صقيع الشتاء الى دفء الربيع ، ولذلك فهو لون مبارك في الاديان كافة ولاسيما في الاسلام والمسيحية ، فضلا عن كونه يحمل سرا عجيبا لانه يأتي مزيجا من الازرق والاصفر ، فهو صورة للحياة والموت والقدر والمصير ، كما يحمل في طياته سرا لما يرمز اليه من معرفة عميقة خفية ترتبط بسر الإنبات والامل والعفة والانسجام)) ( ) .
واللون الاخضر مرتبطا بالرجل الذي شرب من ماء دجلة يجعلنا نقول : ان المقطع يتناص سياقيا مع ما ورد من موروث اسطوري ونص قرآني متمثل في شخصية (الخضر) وعلاقته بالماء ، إذ يعد الخضر رمزا انبعاثيا في المرجعيات الدينية ، كما انه يشكل امتدادا لادب المياه الذي يقترن حضوره بحضور نهري دجلة والفرات ، ولهذا الرمز عمق متجذر في التراث العربي وتراث وادي الرافدين منه بشكل خاص ، كما انه يعد رمزا لاله المياه العذبة ( ) .
واذا كان الخضر رمزا من رموز الخصب والحياة ، وان اسمه مرتبط بالاخضرار الذي يعيد الخصب الى الارض المجدبة ، والحياة الى كل ما هو ميت( ) ، وانه - اي الخضر - المحقق للاماني المستحيلة عند تهيؤ ظروف معينة( ) ، فان توظيف الشاعرة لهذه ا لشخصية وتناصها مع مضمونها ما هو الا اعادة للامل وتأسيس لمرحلة جديدة وبعث حقيقي لمنظومة القيم التي تعيد للذات الانثوية وجودها الحقيقي وللرجولة الاصيلة مكانتها ، لتنهي الشاعرة قصيدتها بهذا المقطع الذي يؤكد التلاحم المتواصل بين الرجل والمرأة في تأسيس المرحلة الجديدة لمنظومة القيم :
كتب حبيبي يقول ..
حينما تلغمين السور اكون قادرا على التفجير ..
قلت : اجل ، فعلت ذلك . ( )

ان الشاعرة تؤكد حضورها في المقطع الاخير عبر الكتابة المتسمة بالحب لشريكها الرجل ، انه حب مصيري وجودي ، يتحرك معا نحو مشروعهما المتمثل في الانبعاث ، واعادة الحياة للجيل القادم ، فـ((الكون لا يستكمل بهاءه في رؤية المرأة الواعية والمتصالحة مع انوثتها الا بوجود الرجل الواعي المؤازر والمشارك ، والوجود لا يكون متوازنا الا بوجودهما معا ، انهما منتجا الحياة ، بوعيهما الفاعل يشكلان الجمال ويمنحان الطبيعة معناها ، ويعطيان الاشياء الجميلة قيمتها)) . ( )
وعلى الرغم من الاصوات المتخاذلة التي تسعى الى اعاقة طريق الذات الانثوية ، فان صمود تلك الذات يظل هو الاقوى :
قال صوت :
نذر اشلاؤكما للاسوار ..
ضحك وجه صامد في دمي .. ( )
ان صوت الذات الثائرة انما يقاوم عمليات التبعية والتخلف ، ولايأبه لهذه الاصوات المتخاذلة ، بل تمضي نحو هدفها التي تصر على تحققه :
مدّ كفه عبر الجدار حبيبي
طلعت فرس من رحم الارض ..
وامتدت الغرفة سهلا ضاحك العينين ..
لم ادرك كيف بدأ الطاغوت يتوارى
ومن يومها وانا اسمع تفجر الالغام ..
والبذور لا تنفك تنمو ،
وتزحف بالثورة الحقول .. ( )
فطلوع الفرس ما هو الا ايذان برجوع القيم الاصيلة لمنظومتنا القيمية ، لاسيما وان الفرس - رمزيا - يتخذ طابعا إنسانيا إحيائيا عير مجموعة من السمات كالقوة والشجاعة والكرم والعطاء والإلهام والحيوية والنشاط ، والفرس- ذلك الإنسان الكامل- صورة لما يتشبث به الشعر أملا في المستقبل ورغبة في قدر أتم من المناعة والحصانة. إن صورة الفرس هي صورة الرجل النبيل الذي ملأته العزة والثقة . ( )
ان الشاعرة ترسم مشهدا حيا لصفحة من صفحات الاشراق الكوني ، انه استشراف للمستقبل ، عبر لوحة تتجسد فيها دلالات عميقة تتمثل في التوحد الثوري بين الرجل والمرأة الذي اثمر عن هذا التوحد اتساعا رحبا للكون وآفاقا واسعة للجمال ، ان الارض باتساعها ورحابتها تتفجر ثورة لتنهي عصرا مستبدا وليبدأ عصر جديد بمنظومة من القيم التي ستحدد مسارا سليما للجيل الجديد.



* * *



مصادر البحث :
اولا / المصادر :
- اسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث ، ريتا عوض ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ط1 ، 1978 م .
- الاعمال الشعرية ، بشرى البستاني ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت - لبنان ، دار الفارس للنشر والتوزيع ، عمان - الاردن ، ط1 ، 2012م .
- افق الخطاب النقدي ، صبري حافظ ، دار شرقيات ، القاهرة ، 1996 م .
- تأنيث القصيدة والقارئ المختلف ، د. عبدالله الغذامي ، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء - المغرب ، بيروت - لبنان ، ط : ، 2005
- تحليل النص الشعري ، ينوري لوتمان ، ت: د.محمد فتوح احمد ، النادي الادبي الثقافي ، جدة ، المملكة العربية السعودية ط1 ، 1999م .
- ثريا النص ، مدخل لدراسة العنوان القصصي ، محمود عبد الوهاب ، دار الشؤون الثقافية العامة ،
آفاق عربية ، ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة ، العراق - بغداد ، 1995 .
- جدلية الغياب والحضور في شعر بشرى البستاني ، اخلاص محمود عبدالله ، دار فضاءات للنشر والتوزيع ، عمان ، ط : 1 ، 2011
- جماليات الفن العربي ، عفيف بهنسي ، سلسلة عالم المعرفة (14) ، الكويت ، 1979 .
- خماسية المحنة اعمال غير كاملة ، بشرى البستاني ، فضاءات للنشر والتوزيع ، عمان - الاردن ، ط1 ، 2012 م .
- دراسات في النقد الادبي ، احمد كمال زكي ، دار الاندلس ، بيروت ، ط2 ، 1980 .
- دليل الناقد الادبي (اضاءة لاكثر من سبعين تيارا ومصطلحا نقديا معاصرا) ، د. ميجان الرويلي ، د. سعد البازعي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء المغرب – بيروت لبنان ، ط : 5 ، 2007 .
- دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة ، د. نصر حامد ابو زيد ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء المغرب – بيروت لبنان ، ط : 4 ، 2007 .
- الرؤية الفجائية في الادب العربي في نهاية القرن وبدايات الالفية الثالثة ، محمد معتصم ، منشورات الاختلاف ، الجزائر ، ط1 ، 2003 م .
- سرد الآخر ، الانا والآخر عبر اللغة السردية ، صلاح صالح ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء المغرب – بيروت - لبنان ، ط : 1 ، 2003 .
- الشعر والنقد والسيرة ، مقاربة لتجربة بشرى البستاني الابداعية ، حوار : عصام شرتح ، دار دجلة ، المملكة الاردنية الهاشمية ، ط1 ، 2013م .
- شعرية الكتابة والجسد ، دراسات حول الوعي الشعري والنقدي ، محمد الخرز ، بيروت - لبنان ، مؤسسة الانتشار العربي ، ط : 1 ، 2005
- عضوية الاداة الشعرية فنية الوسائل ودلالية الوظائف في القصيدة الجديدة ، د. محمد صابر عبيد ، سلسلة كتاب الصباح الثقافي صادر عن جريدة الصباح العراقية 2008م .
- فقه اللغة وسر العربية ، ابو منصور الثعالبي ، مطبعة الاستقامة ، مصر .
- فلسفة الايقاع في الشعر العربي ، د. علوي الهاشمي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ لبنان ، دار الفارس للنشر والتوزيع/الاردن ، ط : 1 ، 2006 .
- في أدب المرأة ، د. سيد محمد السيد قطب ، د. عبد المعطي صالح ، د. عيسى مرسي سليم ، مكتبة لبنان ، الشركة المصرية العالمية للنشر ، لونجمان ، ، دار توبار للطباعة ، ط1 ، 2000م .
- في حداثة النص الشعري دراسات نقدية ، د. علي جعفر العلاق ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، ط : 1 ، 1990 .
- في الريادة والفن قراءة في شعر شاذل طاقة ، د. بشرى البستاني ، مجدلاوي للنشر والتوزيع عمان الاردن ، ط1 ، 2010-2011م .
- القراءة واشكالية المنهج ، اعمال ندوة جامعة نزوى مارس 2010 ، جمعها وقدم لها د. الهادي الجطلاوي ، مركز الخليل بن احمد الفراهيدي للدراسات العربية ، دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع ، عمان - الاردن 2011 .
- الكاتبة وخطاب الذات حوارات مع روائيات عربيات ، رفيف صيداوي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء المغرب – بيروت لبنان ، ط : 1 ، 2005 .
- الكتابة النسائية حفرية في الانساق الدالة ، الانوثة . الجسد .. الهوية ، عبد النور ادريس ، مطبعة سجلماسة ، مكناس ، المغرب ، ط : 1 ، سبتمبر ، 2004
- كل الطرق تؤدي الشعر ، د. عزالدين اسماعيل ، دار الفيصل الثقافية ، الرياض/المملكة العربية السعودية ، ط : 1 ، 2006 .
- لسان العرب ، ابن منظور جمال الدين محمد بن مكرم الانصاري (630-711ه) ، طبعة جديدة اعتنى بتصحيحها امين محمد عبد الوهاب ، محمد الصادق العبيدي ، دار احياء التراث العربي ، مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت – لبنان ، ط : 3 ، د.ت .
- المرأة والسرد ، محمد معتصم ، دار الثقافة ، الدار البيضاء ، ط : 1 ، 2004
- المرأة والكتابة ، سؤال الخصوصية وبلاغة الاختلاف ، رشيدة بنمسعود ، افريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، المغرب ، ط : 1 ، 1994 .
- المرأة واللغة ، د. عبدالله الغذامي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء المغرب – بيروت لبنان ، ط : 1 ، 1996 م .
- المصطلحات الادبية الحديثة ، دراسة ومعجم انكليزي – عربي ، د. محمد عناني ، الشركة المصرية
العالمية للنشر – لونجمان ، مصر ، ط : 3 ، 2003 .
- معجم اللغة العربية المعاصرة ، د. احمد مختار عمر ، عالم الكتب ، القاهرة ، ط : 1 ، 2008 .
- المفارقة وصفاتها ، دي . سي . ميويك ، ت : عبد الواحد لؤلؤة ، (موسوعة المصطلح النقدي ، 13) ، دار المأمون للترجمة والنشر ، وزارة الثقافة والاعلام ، بغداد - العراق 1987 .
*- المفردات في غريب القرآن ، الراغب الاصفهاني ، تحقيق وضبط محمد رشيد كيلاني ، دار المعرفة بيروت لبنان .
- مفهوم الوطن في فكر الكاتبة العربية ، شيرين ابو النجا ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت - لبنان ، 2002 .
- الهوية والاختلاف ، المرأة والكتابة والهامش ، محمد نور الدين افاية ، افريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، المغرب ، 1988 م .
- نص المرأة (من الحكاية الى كتابة التأويل)/عالي القرشي ، دار المدى للثقافة والنشر ، دمشق ، ط1 ، 2000م .
- النقد الثقافي والنقد النسوي ، سلسلة اصدارات " النقد الادبي على مشارف القرن ، اعمال المؤتمر الدولي الثاني للنقد الادبي ، اشراف وتقديم : د. عزالدين إسماعيل ، دار غريب للطباعة والنشر ، دار ابوللو للنشر والتوزيع ، مصر ، ط : 1 ، 2003
- الوعي بالكتابة في الخطاب النسائي العربي المعاصر ، دراسات نقدية ، سوسن ناجي رضوان ، المجلس الاعلى للثقافة ، القاهرة ، 2004 م .

ثانياً / الدوريات :
- الادب النسوي واشكالية المصطلح ، مفيد نجم ، مجلة علامات ، ج : 57 ، م : 15 ، رجب 1426 ، سبتمبر 2005
- اشكالية المصطلح في المسرح النسائي ، نادر القنة ، مجلة البيان ، رابطة الادباء ، الكويت ، ع : 401 ، ديسمبر 2003
- الانا العليا في الذات العربية ، د. علي زيعور ، مجلة آفاق عربية ، س : 5 ، ع : 5 ، 1980 .
- الأنثى بين التنكير والتذكير والتأنيث – مقاربة إنسانية ، د. مشتاق عباس معن ، مجلة مدارك ، السنة الرابعة ، العددان 9-10 .
- تساؤلات حول ادب المرأة ، بهجة مصري إدلبي ، مجلة الرافد ، الامارات العربية المتحدة ، الشارقة ، ع : 70 ، 2003
- - ثنائية الوجود والمطابقة – قراءة في خطاب الأنوثة ، د.بشرى موسى صالح ، مجلة جدل ، بغداد،
ع : 7-8 ، 2008 م .
- السيميوطيقا والعنونة ، د. جميل حمداوي ، مجلة عالم الفكر ، ع : 3 ، الكويت
- شعرية الجنوسة : مقاربة لنص (قصيدة العراق) للشاعرة العراقية بشرى البستاني ، وفاء عبد اللطيف ، مجلة فصول ، ع : 72 ، شتاء 2008
- المفارقة ، د. نبيلة ابراهيم ، مجلة فصول ، مج : 7 ، ع : 3-4 ، ابريل - سبتمبر 1987
- المفارقة في رواية نجيب محفوظ حضرة المحترم ، خالد سايمان ، مجلة ابحاث اليرموك ، مج : 14 ، ع : 2 ، 1996
- المفارقة في القص العربي المعاصر ، سيزا قاسم ، مجلة فصول ، مج : 2 ، ع : 2 ، 1982
- المفارقة في كافوريات المتنبي : قراءة في نصوص مختارة ، امل نصير ، مجلة ابحاث اليرموك ، مج : 15 ، ع : 2 ، 1997
- نظرية المفارقة ، د. خالد سليمان ، مجلة ابحاث اليرموك (سلسلة الآداب واللغويات) ، مج : 9 ، ع : 2 ، 1991

ثالثا / الاطروحات الجامعية :
- الرمز الديني في الشعر العراقي المعاصر ، رعد رحمة السيفي (اطروحة دكتوراه) ، كلية الآداب / الجامعة المستنصرية ، 1999 .
- الكتابة الروائية النسوية العربية ، بين سلطة المرجع وحرية المتخيل(اطروحة دكتوراه) ، فطيمة الزهرة بو يزيد ، كلية الآداب واللغات ، جامعة العقيد الحاج لخضر باتنة ، الجزائر 2011- 2012 م .

خامسا / مواقع شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) :
- تجربتي الابداعية : موقع الدكتورة بشرى البستاني : https://bbustani.wordpress.com
- حوار مع بشرى البستاني : احمد العبيدي / مجلة الف ياء 27 / 1 / 2012 http://www.alefyaa.com.
- شعرية المفارقة في قصيدة الحرب قراءة في اكليل جواد حطاب ، د. بشرى البستاني ، موقع موقع الناقد العراقي http://www.alnaked-aliraqi.net/article/8714.php ، ،23/10/ 2011
- فلاديمير ماياكوفسكي ... نبذة مكثفة عن حياته وابداعه ، ايمن ابو الشعر ، موقع الحوار المتمدن ، محور : الادب والفن ، ع : 2759 ، 4/9/2009 .
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=183521
- في حوار مع الشاعرة العراقية د. بشرى البستاني : علي مولود الطالبي . صحيفة المثقف http://www.almothaqaf.com / ع : 1679 ، 25 / 2 / 2011
- النص السرّاني محرك للنص المعلن ، حوار أجرته بيداء حكمت مع الشاعرة العراقية بشرى البستاني، مجلة شُرفات / العراق ، العدد الخامس ، آب ـ 2013 : منشور في موقع الشاعرة الدكتورة بشرى البستاني (https://bbustani.wordpress.com).
- النقد الأسطوري عند الدكتور مصطفى ناصف ، د. جميل حمداوي 4/يناير / 2007 مجلة دروب ، نقلا عن الموقع الالكتروني ضفاف http://www.dhifaaf.com .



#رائد_فؤاد_الرديني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المواجهة الحضارية في شعر بشرى البستاني


المزيد.....




- شرطة الكويت تضبط امرأة هندية بعد سنوات من التخفي
- “800 دينار جزائري فورية في محفظتك“ كيفية التسجيل في منحة الم ...
- البرلمان الأوروبي يتبنى أول قانون لمكافحة العنف ضد المرأة
- مصر: الإفراج عن 18 شخصا معظمهم من النساء بعد مشاركتهم بوقفة ...
- “سجلي بسرعة”.. خطوات التسجيل في منحة المرأة الماكثة بالبيت ف ...
- إيران - حظر دخول النساء الملاعب بعد احتضان مشجعة لحارس مرمى ...
- هل تؤثر صحة قلب المرأة على الإدراك في منتصف العمر؟
- اغتصاب وتحويل وجهة وسطو وغيرها.. الأمن التونسي يوقف شخصا صدر ...
- “الحكومة الجزائرية توضح”.. شروط منحة المرأة الماكثة في البيت ...
- جزر قرقنة.. النساء بين شح البحر وكلل الأرض وعنف الرجال


المزيد.....

- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم
- قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق / بلسم مصطفى
- مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية / رابطة المرأة العراقية
- اضطهاد النساء مقاربة نقدية / رضا الظاهر
- تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل ... / رابطة المرأة العراقية
- وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن ... / أنس رحيمي
- الطريق الطويل نحو التحرّر: الأرشفة وصناعة التاريخ ومكانة الم ... / سلمى وجيران
- المخيال النسوي المعادي للاستعمار: نضالات الماضي ومآلات المست ... / ألينا ساجد
- اوضاع النساء والحراك النسوي العراقي من 2003-2019 / طيبة علي
- الانتفاضات العربية من رؤية جندرية[1] / إلهام مانع


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - رائد فؤاد الرديني - المفارقة في شعر الجنوسة ، قصيدة بشرى البستاني نموذجاً، دراسة وتطبيق