أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد اليوسفي - العالم بوصفه ظهورا عند -حنة أرندت Hannah Arendt -.















المزيد.....



العالم بوصفه ظهورا عند -حنة أرندت Hannah Arendt -.


محمد اليوسفي

الحوار المتمدن-العدد: 5493 - 2017 / 4 / 16 - 10:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



.
هذه مقاربة فلسفية تحاول دراسة وتحليل شروط قيام "حقيقة للوجود". سأشتغل على كتاب أرندت المُعنون بـ : [1]La vie de l’esprit, La pensée. Le vouloir، وهو كتاب في تاريخ الفكر البشري، منظوراً إليه من خلال ثلاثة مفاهيم/مشكلات أساسية: التفكير La pensée  الإرادة  Le vouloir، الحكم Le jugement. هذا المفهوم الأخير كان حجمه قصيرا بالمقارنة مع المفهومين الآخرين، نظرا لقلة المصادر المكتوبة حوله: كانط هو الوحيد الذي كان قد كتب حول هذا الموضوع آنذاك (goût)[2].
لن أتطرق إلى الكتاب كله، وإنما سأشتغل تحديدا على الفصل الأول المخصص لمفهوم "الظهور l’apparence" من المفهوم الأول La pensée. فكيف نظرت حنة أرندت، التلميذة الحذقة لدى مارتن هايدغر، إلى هذا المفهوم؟ وما علاقته بالكائنات الحية في علاقتها بالوجود؟    
1-    العالم والظهور[3]؟
    إن العالم الذي ينتمي إليه الإنسان يخفي العديد من الأشياء، طبيعية واصطناعية، حية وفانية، أبدية وزائلة...يجمعها قاسم مشترك واحد: تسعى لأن تتبدى، تتمظهر، تتجلى، تحضر، تعبر عن نفسها...وجدت هذه الأشياء لأن تُسمع، تُرى، تُلمس، وجدت ليتم الإحساس بها وتذوقها...من طرف مخلوقات حية موهوبة بطابعها الحسي الخاص الذي يسمح لها بأن تقوم بالعمليات السابقة الذكر[4].
    والعالم من خلال موجوداته يسعى لأن يظهر، أو لأن يحضر، ولن تتحقق هذه الغاية إلا بوجود مستقبلات حسية ومن خلالها[5]، بحيث تصير علاقة الكائنات بالعالم هي علاقة ظهور، علاقة مرسِل ومرسَل إليه، علاقة فاعل ومنفعِل... شرط أن تكون هذه المستقبلاتُ قادرةً على استخدام جهازها الحسي، فيغدو "فعل الظهور ملازما لفعل الإحساس". إن مفهوم "apparence " الفرنسي يشير من جهة إلى المجلى، الهيئة، الأثر - أو لنقُل: "ما يبدو عليه هذا الشيء أو ذاك بالنسبة لمُستقبِل ما"- كإشارات وأمارات تستدعي انفعالاً حسيا بالضرورة، أو لنقل علاقة حسية، أساسها التواصل باستخدام الجهاز الحسي لدى الكائنات. ويشير من جهة ثانية إلى "الشيء في ذاته"، وهنا سنكون أمام ضرورة استدعاء آليات (véhicule) فكرية خاصة كما سنرى لاحقا، آليات تمكننا من الغوص في أعماق الشيء لمعرفة ما يخفيه، البحث وراء لحم العالم كما يقول موريس ميرلوبونتي الذي غالبا ما تستشهد به حنة أرندت بقوة في هذه القضية التي نحن بصدد معالجتها، خاصة كتابه الرئيسي والعميق "المرئي واللامرئي le visible et l’invisible". إن مفهوم الظهور هذا يمتاز إذن بخاصيتين: خاصية الظاهر الذي يبدو وخاصية الباطن الغامض الذي يتقنع، وبالتالي الارتياب. وهنا تظهر أول مشكلة رافقت الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون على الأقل، إنها مشكلة الأصل والنسخة، همُ المطابقة[6]، التمثُل العقلي للوجود. لكن تتبع التفكير الإنساني يوصلنا إلى قاعدة عامة ميزت مواقف الفلسفة والعلم معا، إنها قضية: "يبدو لي...il me semble " وفقط، وليس نقل العالم "صورة طبق الأصل"، إذ مهمة كهذه تبدو أمرا مستعصيا على الإنسان، إلى درجة إعلانه فشَله في كل مرة، حتى في أقصى جهوده الاستدلالية في مجال العلوم التي وصفت بالحقة، والتي زادت من كبرياء الإنسان (العالِم) حتى أضحت جهود من قبله في نظره تافهة لا ترقى لشرط "العلمية". وعموما، فالعلاقة الظهورية هذه التي تحدُث بين كائنات العالم، هي بمثابة لعبة ميزتها الأساسية الانفلات والتقنع والخيانة والخداع في أغلب الأحيان، بحيث تصير كل حقيقة تفترض مصداقيةً معينةً في حكم المؤجل والمأمول. ولقد نبهَنا كانط إلى هذه المشكلة، حينما سلم– بمقتضى فلسفته النقدية/المثالية[7]- بوجود "الاشياء في ذاتها"، ولكن تنبيهه كان اقوى حينما أقر بكوننا لا نعرفها كما هي في حقيقتها، وإنما نعرفها فقط "كما تبدو لنا"، وبعبارة أخرى، إننا لا نعرف "حقائق" الاشياء، وانما نعرف "الظاهرات"[8].
   وحسب حنة آرندت دائما، أن توجد، معناه أن تُظهِرَ الأشياء وتَظهَرَ لها، هذا هو قانون الوجود، سواء تعلق الأمر بالحيوانات أو الإنسان أو كل الكائنات الحية المنتمية إلى هذا العالم، "فمادامت الكائنات موهوبة بالإحساس، تتمتع بالحواس – البشر كما الحيوانات- التي تَظهَرُ لها الأشياء...فإنها هي الأخرى ظاهرات، وُجدت لتَرى وتُرى، لتَسمع وتُسمع، لتَلمس وتُلمس، فهي ليست أبدا ذواتا بسيطة...وليست أكثر قيمة وجودة من الأشياء...لأنها هي الأخرى خُلقت من هذا العالم...وما يسمى عادة الوعي بالذات، الذي من خلاله أعي ذاتي بذاتي...لن يضمن لي أبدا واقعيتي - أي إحساسي بوجودي- بعيداً عن عالم الكائنات الأخرى[9]. وهنا بالضبط توجه آرندت سهام النقد "للأنا الوحدية solipsisme " الديكارتية القائمة على "الذات المفكرة" كأساس لقيام أي معرفة بالعالم الخارجي. إن الذات – حسب آرندت - وحدها لن تستطيع ضمان وجودها إلا بالانوجاد في ساحة تَعُج بباقي الكائنات التي تسعى لنفس الغاية.
    كل طرف إذن يقال بالإحالة إلى الآخر، وكأننا أمام موقف أساسه "مرآة ينعكس فيها كل موجود بالنسبة للآخر". فالوجود والظهور متعالقين بالضرورة: "être et paraitre coïncident"، هذا هو قدر الكائن البشري الذي ألقي على عاتقه عنوة أن يظهَر ويُظهِر، هو الكائن من بين كائنات عدة أوكلت له هذه المهمة الشاقة، بل والمستحيلة في الكثير من الأحيان، حينما تنعدم لديه الضمانة، حيث يتكلم في الوقت الذي كان يجب عليه أن يصمت، أو يحكم في الوقت الذي كان يجب عليه أن يمتنع عن الحكم. ويكفي أن نعري تاريخنا كما فعل فرُويد، أو نيتشه على الأخص، حتى نميط اللثام عن النفاق الذي يطبع معارفنا[10]، كما يطبع إصرارنا على قول "حقيقة الوجود" دون الأخذ بعين الاعتبار أننا نقول ما يبدو لنا وفقط. من يستطيع أن يقول العكس؟
    لا يمكننا بتاتا أن نتصور وجودا بدون كائنات حية[11]، متفاعلة ومنفعلة في نفس الوقت. حيث الإنسان يشكل متفرجاً، مع مجموعة متفرجين[12]، في مقابل مجموعة ممثلين يظهرون، يسعون نحو الظهور، كأننا أمام مشهد مسرحي تماما، تتبادل فيه الكائنات أدوارها كل مرة، ممثلة ومشاهِدة في نفس الآن، في عالم بمثابة منصة، هذه الأخيرة التي ترفع الممثل لتتم مشاهدته. تماما كما هو عملُ العالِم أو الفيلسوف، أليست مهمته أن يُظهِر، أن يكشِف، أن يُزيل الستار عن المحجوب والمختفي بخصوص العالم؟ أليست الغاية من إنتاج النص ، علميا كان أو ميتافيزيقيا أو حتى دينياً هي الرفع والإظهار بواسطة اللغة؟ أليست النزاعات والصراعات العلمية تدور حول كيفيات وطرق إظهار العالم وبيانه وفضح سره من خلال نصوص يُظن فيها القدرة على القيام بهذه المهمة الشاقة؟
 
 
2-    النص بما هو ظهور وإظهار: 
    لنحاول أن نلتمس – بمقتضى البيان المنفصِل- الإجابة عن هذا السؤال من خلال إمكانيات اللغة. نقرأ في لسان العرب ما يلي: "النص: رفعك الشيء. نصَ الحديث ينصُه نصاً: رفعه. وكل ما أُظهر، فقد نُص...نصَ الحديثَ إلى فلان أي رفعه...ووُضع على المنصة أي على غاية الفضيحة والشهرة والظهور. والمنصة: ما تُظْهَرُ عليه العروس لتُرى...وهي تَنْتَص عليها لتُرى بين النساء. وفي حديث عبد الله بن زمعة: أنه تزوج بنت السائب فلما نُصت لتُهدى إليه طلقها، أي أُقعِدت على المنصة...وكل شيء أظهرته فقد نصَصْتُه...والمنصة: الثياب المُرفَعة...ونص المتاع نصا: جعل بعضه على بعض. ونصَ الدابة ينُصها نصا: رَفَعَهَا في السير...والنص أصله منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها...وكذلك النص في السير إنما هو أقصى ما تقدر عليه الدابة...ومنه قول الفقهاء: نص القرآن ونص السنة أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام."[13].
للنص إذن، الكثير من العمليات المرتبطة بموضوع اشتغالنا هذا، لذلك ارتبط بالألقاب التالية:
1)   ارتبط بلقب "الرفع" لكونه ينتقل بالشيء من وضعه المُهمل واللامحدد إلى وضع التحديد والتعريف بواسطة الكلمات. (définir).
2)   ارتبط بلقب "الفضيحة" لكونه ينتقل بالعالم من وضعه السري والملغز إلى وضع المعلوم والمُبَيَن.
3)   ارتبط بلقب "الشهرة" لكونه ينتقل بالعالم من وضعه المتخفي إلى وضع الانكشاف والتعري.
4)   ارتبط النص بلقب "المنصة" لكونها تُظهِر العالم/الوجود عاليا أمام الجمهور/الناس حتى يُرفع أمامهم فتتم مشاهدته بشكل أفضل وأعمق.
إن العالم نفسه يعتبر نصا منفتحا على تأويلات متعددة ومختلفة، يظهر هذا الاختلاف بشكل واضح على مستوى النصوص المكلفة بمهمة الإظهار. كما نقرأ في لسان العرب أن الظهور هو: «ظهَر: الظهْر من كل شيء: خلاف البطن...قال الفراء: العرب تقول: هذا ظَهْر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي تراه...وظهَرتَ البيت: علوتُه. وأظهرت بفلان: أعليت به...والظهر من الأرض: ما غلظ وارتفع...والظاهر خلاف الباطن; ظَهَرَ يَظْهَرُ ظُهُوراً، فهو ظاهر وظهير...والظواهر: أشراف الأرض. الأصمعي: يُقال هاجت ظهور الأرض وذلك ما ارتفع منها...ويقال: هاجت ظواهر الأرض. ابن شميل: ظاهر الجبل أعلاه، وظاهِرَةُ كل شيء أعلاه، استوى أو لم يستو ظاهره، وإذا علوت ظَهْره فأنت فوق ظاهِرَته...والظُهُور: الظفر بالشيء والاطلاع عليه. ابن سيده: الظهور الظفر...وظَهَر بالشيء ظهْراً: فخَرَ...وظهرت عليه: قَوِيتُ عليه...وظهرتُ على الرجل: غلبته...وأظهَرنا الله على الأمر: أطْلَعَ وقوله في التنزيل العزيز: فما اسطاعوا أن يَظْهَروه أي ما قدَروا أن يعلوا عليه لارتفاعه...وظهر على الشيء إذا غلبه وعلاه...وظَهَر الشيء، بالفتح، ظُهُوراً: تبين. وأظهرتُ الشيء: بينته. والظُهُور: بُدُو الشيء الخفي. يُقال: أظهرني الله على ما سُرِق مني أي أطلعني عليه."[14]. كما نجد نفس الإمكانيات الدلالية في اللغة الفرنسية، نقرأ في معجم روبير ما يلي:
Apparence:
- “aspect (de ce qui apparait); ce qu’on voit d’une personne ou d’une chose, manière dont elle se présent – Extérieur - forme.
- Les diverses apparences de la lune, des planètes.
- Une apparence de…, trace, vestige.
- Lueur, ombre, semblant, soupçon.
- L’aspect, l’extérieur d’une chose considère comme différents de cette chose (réalité). C’est une simple, une fausse apparence…couleur, croûte, décor, dehors, écorce, enveloppe, façade, figure, vernis. Des apparences trompeuses.
- phénomène, par opposition à la chose en soi même, l’être…
- Le caractère plausible, vraisemblable d’une chose.
Apparent :
-Qui apparait, se montre clairement aux yeux. Ostensible, visible.
-C’est très apparent (cela se voit comme le nez au milieu du visage, cela saute aux yeux).
-Evident, claire, manifeste.
-Sous cette éclat apparent, il n’y a rien de solide. Faux, illusoire, superficiel, trompeur. 
-Caché, invisible.[15]
وفي الفرنسية مفهوم آخر يبدو أكثر قُربا لما نحن بصدده، يتعلق الأمر بفعل ‘se prouver’، الذي يرادف ‘se montrer’، وكأننا، من هذه الجهة اللغوية، نرى في الشخص الذي "يظهر"، يعلن عن نفسه ‘se montre’، شخصاً يقوم لغيره وينتصب له ليراه ولينافسه[16]. هذه المنافسة تتجلى أكثر في ميدان النظر ، بحيث يبدو كل نقاش فلسفي أو علمي أو حتى ديني، هو نقاش تنافسي تغالبي بين من ينظرون (النظر العقلي، البصيرة) من جهة، وبينهم وبين الوجود من جهة ثانية، بحيث يبدو العالَمُ بكل مكوناته العنصرَ الأساسي –الموضوع- في النشاط الانساني المسمى تفكيراً أو تأملاً، إذ العالَمُ يشكل عنصرا مستفِزا للذات الإنسانية التي ما تلبث أن تنهض لدفع هذا الاستفزاز وطرد هذا الهم، عن طريق معالجة ألغازه والإجابة عن أسراره، ولعل فعل التدبر العربي بما هو نظر في الأدبار لمعرفة ما يخفيه الشيء وتقليبه على وجوهه حتى يُنشر أمام الفكر نشراً، يبدو هو الآخر أكثر مناسَبة لمعنى الظهور الذي يقتضي "الظفر بالمتخفي".
والفعل الفرنسي ‘prouver’ يقال أيضا للدلالة على الإقامة ، إقامة الشيء ونصبه إظهاراً له وبياناً له وبرهنة عليه لأنه وجد حسنا فقُبل ويراد من الغير أن يقبله أيضا. والشاهد في هذا المعنى العام أن الفعل ‘prouver’ يتسع لغة للدلالة على معان أربعة...من بينها: démontrer، الذي يفيد الإظهار، البيان، البرهنة[17].
كما ترى آرندت أن الكائنات الحية ليست تمظهرات بسيطة وجامدة...بل وجودها هو وجود مسؤول، وجود مسكون بهاجس الكشف والإظهارse montrer، الانكشاف والظهور، ويتم فعل الظهور هذا حسب سلطة pouvoir كل ساع للظهور من الموجودات. حتى ليبدو العالم – كما أشرنا سابقاً - بمثابة مسرح، فضاء للظهور، خشبة مُعدة مسبقا، والأشياء الساعية للظهور بمثابة مجموعة ممثلين acteurs، كل طرف منها يجسد دورا معينا، وخشبة المسرح هذه تشترك فيها كل الكائنات الحية بلا استثناء تماما، تتقاسم فيها أدوارها وتظهر فيها بدرجات متفاوتة ومختلفة، لتشغل دورها الطبيعي الذي أوكل لها قبل أن توجد، من أدنى الموجودات الى أرقاها. وكما تتفاوت قيمتها النفعية تتفاوت كذلك درجات حضورها وتبدِيها....وفي الجهة المقابلة (مجموعة مشاهدين=متفرجين spectateurs)، هم جملة مستقبلين تحضر لديهم هذه المشاهد بطرق مختلفة، وهنا يكمن الاختلاف فيما بيننا، فحضور الأشياء والانطباع الذي تتركه لدينا ليس واحدا، إذ رغم كون المشهد واحدا من جهة الوقائعية والانوجاد مثلا (الهوية)، إلا أنه متعددا ومختلفا بشكل جذري من جهة التلقي والاستقبال بالنسبة لكل عينة أو نموذج[18]: لنأخذ مثال شجرة الزيتون - أو أي حدث إنساني - رغم كونها انوجدت لتبدو لنا، وتتجه نحونا، إلا أن فينا من يركز على أوراقها، وفينا من يركز على أغصانها، وفينا من يركز على طبيعة ثمارها، وآخر يركز على ما تمثله من رمز للسلام والاستقرار، حيث الفلسطيني يفتقر إليها ويتمنى زرعها وينظر إليها تكبر وتكبر دون أن تطالها يد الاحتلال. إن حضور الأشياء وتجليها دائما ما يشكل لغزا. إذ يغدو البحث في ظواهر العالم هو بحث في طرق تبديها وتجليها لكل واحد منا. حتى ليصير تاريخ الفكر البشري هو تاريخ "دراسة ما يبدو لهذا الفكر". وبالطبع ما يبدو لي يكون حسب الوضع الذي أنا فيه، إذ كيف يمكن مثلاً أن أفهم ما هو خارج وضعي أنا؟ فأنا لا أستطيع أن أفهم إلا ما ألمسه ويلمسني، أقاومه ويقاومني، أستفزه ويستفزني...على حد تعبير ألبير كامي.
وبهذا المعنى، العالم كله ما هو إلا فضاء للظهور، للحضور، هو فضاء للتعبير عن الموجود بأنه موجود، بل أكثر من ذلك، العالم نفسه يسعى ليتجلى، لينكشف عبر موجوداته بكل أصنافها، فيتموقع (من الواقع)، الأمر الذي يجعل مفهوم الواقع له طبيعة ظاهراتية تماما، قبل كل شيء. وقبل أن يكون موضوعا للتعقل الميتافيزيقي أو الإدراك الإمبيريقي، هو موضوع للتمثل الفينومينولوجي، إن العالم كله لا ينفلت حسب هذا التوجه من قضية (يبدو لي il me semble). مما يجعل منه بحق "لعبة jeu) كما ترى أرندت، لغز ينتظر من يحله ويكشف عن سره، بل أسراره.
3-    الإنسان والعالم: إمكانيات الإظهار والكشف والبيان:     
    نجد أنفسنا إذن أما تفاعلات بين قوى وجودية متعددة، كل قوة تسعى للظهور بالإحالة إلى قوة أخرى وعلى حسابها. وليست الأشياء وحدها هي التي تظهر بالنسبة لمستقبلها من الإنسان والحيوان، بل هذان الاثنان معا يلعبان نفس الدور بالنسبة للأشياء، كل واحد منهما مرآة لانعكاس الآخر، ليس الإنسان ذاتا لها وجود خاص، يميزها جذريا عن باقي أشياء العالم. فالكائنات الحية كلها تنتمي أولا وقبل كل شيء إلى العالم - عالم الأشياء- وليست في العالم وفقط، وبالأخص الإنسان الذي لا يمكن له أبدا حسب أرندت أن يعي وجوده في استقلال تام عن الوجود الطبيعي الحسي، بحيث تصير عبارة الكوجيطو غير منطقية بتاتا، "أنا أفكر" لا تستلزم[19] منطقيا وبالضرورة، فكرةَ "أنا موجود"، فهل بالإمكان أن أظهر أنا لذاتي بالاقتصار على ذاتي وفقط؟ ألا تستدعي التجربة الديكارتبة أن نفكر خارج العالم إن نحن اتبعنا نموذجها هذا؟
العالم هو ما يظهر، ترى أرندت أن كل الأشياء الموجودة على الأرض وصلت الى هنا لتضع نفسها في فضاء حيث الظهور والوجود متعالقين، متلازمين  coïncide...فمن الذي يرى من؟ ومن يظهر بالنسبة لمن؟ ومن يحكم على من؟ هل هناك كائن يمكن له أن يتحمل مسؤولية الإظهار والكشف عن الوجود من خلال ما هو موجود طبعا؟ هل يستطيع الإنسان مثلا أن يقوم بهذه المهمة؟ إذا عدنا لكبرياء الإنسان وأجبنا عن هذا السؤال المطروح بالإيجاب، كيف يمكن أن يتم ذلك والإنسان ما هو إلا جزء لا يتجزأ من هذا العالم؟ أليس الإنسان ذاتا وموضوعا في نفس الوقت؟ من الذي يسمح له أن يكون حكَما ليقول لنا العالم ويترجمه؟ ما هي الضمانة التي تضمن لنا أن ما يقوله هو العالم نفسه؟ ألم نقل سابقا أن قدرته لا تتعدى كونه يقول فقط ما يبدو له؟ حتى الطرق الاستدلالية  الأكثر صلابة، ألم يضعها الأنسان، تلك الذات التي تتداخل فيها خلفيات لا يمكن حصرها، عقدية، أسطورية، واعية، لا واعية، كاذبة، صادقة، جدية، تافهة؟
بل أكثر من ذلك، ومادام "أن إمكان المعرفة لغز في كل الأحوال" كما يرى هوسرل، هذا العالم المتقنع، أليس أوسع وأضخم من أن يُقال في لغة طبيعية أو يصاغ في قضايا رمزية؟ كيف نقول الأشياء إن كانت فعلا متنكرة ومموِهة؟ أليس الوهم، الهفوة، الخطأ، الغلط، صفات ملازمة لكل حقيقة مشكِلةً عنصرَ ابتزاز لها؟ ألا يخبرنا تاريخ العلم أنه تاريخ أخطاء يتم تصحيحها بشكل مستمر؟ أليس منطق العلم هو البناء وإعادة البناء؟ أليس منطق الوجود هو الغواية، وكأننا أمام لعبة حب بين عاشق ومعشوقة تتفنن في استعمال مساحيق التجميل بكل مكر لإخفاء حقيقتها المرة؟ ولكن في مقابل ذلك، أليست مهمة الباحث/الفيلسوف هي رفع الحجاب وإزالة مساحيق التجميل عن العالم؟ ألا يشكل جهلنا للوجود مشهدا مسرحيا ينتظر فيه المتفرجون رفع الستار لاكتشاف طبيعة العرض؟ وهل مشاهد هذا العرض تَمْثُل للمشاهدين بنفس الطريقة؟ ما الضامن من أن المخرج لا يخفي حقيقة رئيسية وراء ما يعرض من المشاهد؟ ثم أصلا، ما الدافع وراء اكتشاف هذا السر؟ ألم يصرح نيتشه قائلا: حذار أن توقظوا الناس من أوهامهم؟ أليس الوهم أنفع للحياة من الحقيقة؟ ومن قال لنا فعلا أن هناك سر؟ أليس هذا تمويه آخر أَخفق الإنسان في اكتشافه إلا متأخراً؟ أليس الأجدر أن نعيش على أمل اكتشاف السر- كما كان الشأن عند فلاسفة اليونان القدماء- أفضل من فضحه وتعريته ؟
إننا إذن أمام مشكلة حقيقية، الأمر الذي يجعلنا نتقدم بروية حتى يتسنى لنا الخروج من هذه الأزمة، كيف نقول العالم ونترجمه على حقيقته؟ هل يمكن أن نخرج من دائرة "يبدو لي"؟
إن الحدس الفلسفي لدى آرندت قادها مباشرة إلى التقليد الفلسفي القديم، فلقد سبق أن اقترح أفلاطون وجود عالمين، عالم الحس الفاسد، وعالم العقل/المثال الذي لا يقبل الفساد، وجعل مهمة الإنسان هي السعي نحو التعقل: "من المحسوس إلى المعقول"، إنها مغامرة الهروب والخروج من الكهف. من عالم الوهم إلى عالم الحقيقة، فهل هذه التجربة الفكرية/السفر الفكري ممكن؟ أم أننا لا يمكننا أن نتعرف على الوجود إلا في الوجود نفسه على حد تعبير ميرلوبونتي[20]؟ فمادام الوجود والظهور متعالقين، متلازمين، متعاصرين، متعايشين ضرورة بالنسبة للإنسان، فهل يمكن القول أنه لا يمكن له أن يتعرف على ما يظهر(الوجود) إلا من خلال ما يظهر؟ هل بمقدور الفكر أن يظهر ويتجلى خارج ما يظهر؟ هل الفكر وباقي  القدرات العقلية الصامتة، الخفية، اللامرئية(invisible)  مفروض ومحكوم عليها أن تظهر؟  أكثر من ذلك: هل في العالم وعاء لغوي يناسبها؟
أ‌)       الميتافيزيقا: من المحسوس نحو المعقول:
    يميز أفلاطون –حسب حنة آرندت- بين الوجود الحقيقي (L’Être vrais)  والمظاهر البسيطة (La simple apparence)، ويمنح التفوق والسيادة والسلطة suprématie)) لما يعتبره وجودا حقيقيا مثاليا، والذي له الأسبقية والأفضلية (priorité) على مجرد الظاهرات/التمظهرات البسيطة.
إن الفيلسوف الحق من هذا المنطلق هو الذي له القدرة على مغادرة عالم التمظهرات البسيطة حيث ينتمي طبيعيا وحسيا نحو إقامة برج الحقيقة، الفكر المتعالي، كما فعل بارمنيدس في وثوبه الحيوي في ما وراء حدود الواقع، وراء أبواب الليل والنهار، نحو الصوت الإلهي/الأزلي الواقع بعيداً عن الدروب الضيقة لعائلات الأموات. أو كما فعل أفلاطون في أسطورة الكهف[21].
العالم حسب هذا التصور، ليس هو ما يظهر ويبدو، فما يظهر على صيغة (il me semble)، يصور لنا الوجود أو العالم كلعبة وكلغز غير مضمونة نتائجه. أما الإنسان فإنه يبحث عن الحقيقة كما رسم مصيره سقراط مسبقاً، وبالتالي يبحث عن الثبات واليقين، يبحث عن الراحة. وتصور العالم كلغز هو تصوره كمتاهة تستدعي مغامرة تنفلت من كل خطط مسبقة، وهذا ما جعل الانسان لم ينجح في كشف العالم والوجود اعتماداً على الظاهرات البسيطة، ولكنه اكتشف أن ما يبدو هو محض زيف، نظرا لكون احتكاكنا بالعالم يتم عبر الحواس، وهذه بالضبط سبب المشكلة، فما العمل؟
إن أفلاطون وكل التصورات الميتافيزيقية "تشل حواسها وتغلق عيونها لفتح عيون العقل"، هذا هو الجواب المقترح من طرفها، العالَم في نظرها ليس فقط ما يظهر، بل حقيقته تكمن في ما هو مخفي، فنحن أمام عالمين: أحدهما ظاهري حسي والثاني مثالي معقول، الأول تبين أنه مزيف، والفيلسوف الحق هو الذي يتعامل مع الثاني، ظناً منه أن حقيقة الوجود توجد وراء ما يظهر وما يبدو، إنه عالم المثل بالنسبة لأفلاطون.
ترى آرندت أيضاً، أن الإنسان موهوب ومهووس بفعل الظهور والحضور في العالم، الأمر الذي يدفعه نحو إيجاد ما لا يظهر[22]، البحث عن الخفي في العالم قصد إبداع الجديد، هذا الأخير الذي يشكل حدثا نادرا حسب جيل دولوز. أو كما يقول كانط: " إذا أخذنا العالم كمظهر، فإنه يبين وجود شيء ليس بمظهر"، وكأننا إذن أمام إنسان/فيلسوف – وهو يهتم بالوجود – يقوم بدورة (demi-tour)، متجها نحو عالم الفكر وهاربا من عالم المادة والحس، أي إضفاء الطابع العقلي على العالم، بحيث يصير الفكر كوعاء يحوي العالم وإن استدعى الأمر أن يقوم بذلك قسراً.
العالم/الوجود الحق حسب هذا التصور هو ما يقوله الفيلسوف الحق، والفيلسوف الحق هو الذي له القدرة على مغادرة عالم الحس نحو عالم العقل، هذا السفر الفكري بكل ما يتطلبه من زاد هو الكفيل بالكشف عن حقيقة العالم وراء مجرد ما يبدو، وفعل الكشف يلعب هنا دورا أساسيا. ولعل هايدغر هو بحق من عني بهذا الأمر جيدا، الكشف بما هو فضح ورفع للحجاب وإفشاء للسر. وهذه بالطبع مهمة الراسخون في العلم – بتعبير حكماء المسلمين -، والتراث الإسلامي في وجهه الصوفي يزخر بأمثلة من هذا القبيل. إن أفلاطون يبحث عن الصفاء، عن الأزلي غير القابل للفساد، وهنا بالضبط أود أن أشير إلى فكرة رئيسية بإيجاز، نظرا لكون مناقشتها بقوة تستدعي مقالات، بل مؤلفات لإثباتها، وسأقتصر في هذا المقام على ما يخدم إشكالياتنا هذه، ويتعلق الأمر بالمفهوم من مفهوم فلسفة، فلقد استقر في الأذهان أن معناها محبة أو حب الحكمة ، وكل المشتغلين في ميدان تاريخ الفلسفة وتاريخ الأفكار يردون مثل هذه المفاهيم/المشكلات إلى أصلها الإغريقي، في حين أن أصلها أبعد من ذلك بكثر، وأغرق في القدم، يقول أحمد داوود[23]: "إن كلمة فيلوسوفي مثلا، يحسبونها إغريقية ويقولون إنها مؤلفة من كلمتين: فيلو=أحب، وسوفي= الحكمة. أما الحقيقة فالكلمتان عربيتان قديمتان: فيلو، وتعني: الابن، المريد، المتعلم، الطالب، الراغب، الباحث، وقد استمرت في العربية الحديثة إلى اليوم، إذ أن فعل فلا يعني: ربى، علم، تبنى...أما الكلمة الثانية فهي صوفي وهي اسم الفاعل في العربية القديمة من صفا أي الصافي، والمعنى الإجمالي هو طالب الصفاء، الباحث عن الصفاء الروحي...إلخ"[24].
ثم يزيد موضحاً: "وإن كان المعنى كما يزعمون فإن فيلولوجيا التي يترجمونها اللغوي، عالم اللغات كان ينبغي أن يترجموها: أحب اللغة"[25].
إن المشروع الأفلاطوني إذن هو "مغامرة للبحث عن الصفاء"، هو مشروع ميتافيزيقي يسائل جوهر العالم بعيداً عن أعراضه المتبدِية والقابلة للفساد، هو مشروع يبحث عن حقيقة العالم في ما وراء حدود ما يبدو  ce qu’il semble. فالفيلسوف يهتم بالمعنى وليس باللفظ، يتأمل الجوهر وليس المظهر، ينفذ الى الماهية ويتجاوز الشكل[26]، وهذا المجهود كله ربما ينجح فيه وربما يفشل، لا أحد يضمن لمسعاه النظري النجاحَ، إنها نوع من المقامرة الفكرية العسيرة، لكنها بطعم خاص. يقول أرسطو: "البحث عن الحقيقة صعب من جهة، سهل من جهة أخرى. والدليل على ذلك أن أحدا لم يبلغ فيه القدر الكافي، كما لم يجهله أحد جهلا تاما. كل فيلسوف يقول شيئا ما عن الطبيعة، وهذا الإسهام لا يبلغ إلى مستوى الحقيقة، لكن الجمع بين مختلف التأملات يفضي إلى نتائج خصبة"[27].
هذا هو الهم الميتافيزيقي إذن، الميتافيزيقا بما هي تفكير يسعى لتحديد الموجود بما هو موجود، معتمدة في ذلك – حسب EUGEN FINK- سؤالا يركز على أربعة جوانب رئيسية متعلقة بسؤال الوجود: الموجود بما هو موجود، البنية الكاملة والكلية للموجود، الموجود الأسمى، الموجود الواضح والمنكشف...وحتى في حياتنا العادية نميز بين الوجود والعدم، الوجود والصيرورة، الوجود والمظهر، الوجود والفكر[28].
ولكن رغم ذلك ترى آرندت أن النتيجة من كل هذه العملية العقلية/الميتافيزيقية هو استبدال مظهر بمظهر آخر، استبدال تجلي بتجلي آخر، ظاهر آخر خفي في الأصل، ولكنه يؤخذ على أن له ترتيبا أفضل وأسمى...إن العقل (L’esprit)، كما الحواس، ينتظر في بحثه النظري (investigation) عن شيء ما ليظهر له[29]. إذ عدم القبول بما يظهر هو بحث عما يظهر جديد ، فهل يكفي أن تكون الوسيلة جديدة (العقل مكان الحواس) حتى تكون النتيجة جديدة ومختلفة (المعقولات مكان المحسوسات)، وبالتالي "حقيقة الوجود في ذاته" وراء "ما يبدو"؟
ب‌)    العلم الحديث: السعي نحو تقويض الميتافيزيقا؟
 ترى حنة آرندت، أن العلم الحديث نفسُه اهتم جيدا بهذه القضية، وكان رهانه للخروج من أزمة "ما يبدو" هو تطليق الوجود من المظاهر والتجليات، ‘le divorce de l’être et de l’apparence’، بمعنى عدم النظر إلى حقيقة العالم من خلال ظاهره، وهنا لا حاجة لمجهودات الفلاسفة مهما كانت خاصة للوصول إلى أي حقيقة كيفما كانت وراء ظاهرات الوجود والعالم، بل مجهودات العالِم المختص ستكون أكثر فاعلية.
إن إنسان العلم الحديث يشترط وجود الجسم البشري، بمعنى حضور الحواس لمعرفة ما يحدث وراء التمظهرات البسيطة، والعلم هنا هو وسيلة لرفع الحجاب كذلك، قصد معرفة ما يحدث، ولكن ليس بنفس المنطلقات والأسس التي نجدها في ميدان الميتافيزيقا[30]، هذه الأخيرة هي الوحيدة التي تحتكر ذلك السؤال الخالد: الموجودات بما هي موجودات، هذه النظرة الكلية ترتبط بها هي وحدها دون باقي الميادين المعرفية الأخرى كالعلم مثلا، هذا الأخير مرتبط بالتخصص في جنس أو نوع أو موضوع محدد، باحثا في مبادئه وأسبابه وفق منهج مختلف جذريا عن المنهج الميتافيزيقي. إن عمق الميتافيزيقا هو الماهية والجوهر، والعرض والقوة والفعل والواحد والكثير...وحسب أرسطو فإن قلب الميتافيزيقا وموضوعها كالتالي:
 
 
ما بعد الطبيعة
 
الجوهر والعرض                              القوة والفعل               الواحد والكثير
     
غير مفارق                     مفارق
 
مقالة الزاي     مقالة الحاء   مقالة اللام         مقالة الطاء                مقالة الياء
                                          
مقالات مكملة لمقالة الزاي
 
ولكن يبقى رجل العلم هو الآخر – حسب آرندت- يعتقد في وجود عالَم باطني وراء عالم الظاهر، عالم ما يبدو، العالِم الحديث هو الآخر يعتقد في وجود أشياء خفية تحت كل سطح أو مساحة ظاهرة، دائما نفس الفكرة تقود المجهودات العلمية والفلسفية: يجب، حسب كانط، "أن تكون للظواهر أسساً ليست ظواهر"[31]، آنذاك ممكن أن نتحدث عن بديل علمي لما هو ميتافيزيقي بخصوص حقيقة الوجود، إن أي تقويض (Elimination) للميتافيزيقا يجب أن يتم على هذا المستوى بالذات، تقويض من حيث الأسس والمنطلقات المرتبطة بمعرفة حقيقة الوجود بعيدا عما يبدو.
إن الظهور هنا – حسب العالِم المختص- معناه عموما كيفية أو صور خروج الأشياء من تربة الظلام إلى نور النهار قصد أن تتموضع، خروج مما هو مغمور نحو ما هو واضح وجلي...ولكن هذه أيضا هي مهمة الجهود التصورية (conceptuels) للفلاسفة بغرض كشف ما هو هنالك وراء التبديات والتمظهرات العادية للعالم/الوجود، ولكنها تنتهي دائما، في نظر آرندت، بإهانات عنيفة (violentes invectives) وقسرية ضد التجليات في بساطتها وكما هي في ذاتها[32].
إن نتائج العلم، والتي غالبا ما تبدو في غاية الكمال، لا تكشف نهائيا عما تسفر عنه المظاهر إلا وهي مدفوعة بقوة ومرغَمة، والظاهرات لها سلطة في الحياة اليومية للإنسان، بل إنها حدث رئيسي، لا رجل العلم ولا الفيلسوف يستطيع تجاوزها حسب آرندت، اللهم إذا كان عليه أن يفكر خارج خبراته وخارج دراساته، وبالتالي خارج العالم، وهذا مستحيل ما دمنا نسعى لمعرفة حقيقة هذا العالم هنا والآن.
وحتى مفاهيم الفيزياء الجديدة، أدهشت الحس المشترك، ولكن بدون أن تغير من خصائصه كما يقول ميرلوبونتي[33]. ثم ترى تلميذة هايدغر، أن بهذا اليقين الراسخ للمعنى الجيد، تتواجه وتتقابل سلطة الخالد والأزلي النظرية للوجود وحقيقة الظواهر والتجليات البسيطة، بمعنى سلطة العمق الذي لا يظهر على المساحة التي يُحدِثُها. هذا العمق هو الذي شكل سؤالاً مغرقا في القدم، والذي طرحته الفلسفة كما العلوم: كيف يمكن لشيء ما أو أيا كان أن يظهر؟ وما الذي يجعله يظهر بهذا الشكل أو بهذا المظهر ولا يظهر بأشكال أو مظاهر أخرى؟ إنه سؤال السبب أكثر مما هو سؤال القاعدة أو الأساس،  والتقليد الفلسفي هو الذي استبدل الأساس نحو البحث عن السبب المُنتِج، ومن ثم ربط هذا السبب المنتِج بدرجات معينة أكثر علواً للواقع المرئي والظاهر[34].
إن الميتافيزيقا تقدم اعتقادا راسخا وعنيدا، وتعرض حججا خاصة للدفاع عن تصورها لحقيقة الوجود، هذا التصور المرتبط بالبحث عما وراء ما يوجد أو يظهر، ما هو فوق مادي، على أساس أن العالم ليس هو ما يبدو، وإنما ما يخفى وراء الظاهر. ولكن المشكلة الحقيقية حسب آرندت لا تبدو من هذه الجهة، المشكلة أعمق بكثير: "الحقيقة لا تتعلق بكون المظاهر لا تبوح بما وراءها، وإنما أكثر من ذلك، فهي "لا ترضى بأن تبوح"، إنها "تُخفي  وتستر" أيضا- "لا شيء، ولا جانب  من شيء يظهر ونحن نخفي بسرعة وبنشاط الآخرين"[35] على حد تعبير ميرلوبونتي. إن الاهتمام بدور الحماية والتستر هذا يبدو حسب آرندت أكثر أهمية.
والخطأ المنطقي لكل النظريات – دائماً حسب آرندت – التي تركز على ثنائية الوجود والمظهر (Être et Apparence) واضح تماما، وقد تم اكتشافه باكراً من طرف السفسطائي جورجياس Gorgias، وعالجه في مقطع ضائع حول "الطبيعة واللاوجود" (la nature et le non Être)،  حيث دحض اعتقاد الفلسفة الإيلية: " الوجود لا ظاهر له مادام لا يظهر للناس; أن يظهر للناس، أمر ضعيف، ما دام لا ينجح في أن يوجد"[36].
إن هذا السعي الحثيث نحو البحث عما وراء الظاهر العادي الذي اهتم به العلم الحديث أحيا الخصام القديم، حيث رغبة الإنسان في اكتشاف السر وراء ما يبدو وما يظهر، ولكن – حسب آرندت- مع ذلك  لم ينجح الإنسان، رغم مجهوداته العلمية والتكنولوجية التطبيقية في اكتشاف ما هو هنالك وراء لحم العالم، إن الإنسان، وفق هذا التصور، وهو يسعى في هذا المسار، لم يستطع أن يعيش في عالم لم يكشف هو عن نفسه[37].
تاريخياً، حسب حنة آرندت، راودَ الإنسانيةَ وهم خطير جداً، خاصة في الفترة الحديثة، يتجلى في مسألة التقدم، هذه الدوغمائية - التي سيطرت على كل سكان المعمورة أو على الأقل في الغرب الحديث-  راهنت بقوة على نتائج العلم ومنطلقاته التي كانت مقدسة، الصنم الجديد الذي تكلم عنه فريديريك نيتشه، حيث كان الكل يعتقد أن بإمكان العلم أن يتجاوز المقولات الميتافيزيقية والوصول إلى حقيقة الوجود يقينا وإطلاقا، ويتجلى ذلك أساسا في المفاهيم التي كونت قاموس هذه الحقبة التاريخية، كالموضوعية والحتمية، وكان الهدف الرئيس من كل بحث علمي منهجي هو بناء صرح الحقيقة على أسس ثابتة وصلبة، أسس من شأنها دفع ما لا يظهر نحو الظهور، وعلوم الطبيعة هي التي شكلت نموذجا معرفيا في هذا الصدد، بحيث نجد أن العلوم الإنسانية جعلت منها المثال في الدقة والصرامة، جاعلة منها قدوة في المنهج المتعلق بالظواهر الإنسانية، حيث لم تدرك خصوصيات هذه الأخيرة إلا متأخراً. ولكن هذا الرهان تبين أنه فشل هو الآخر، وأن موت الميتافيزيقا، وبالتالي موت الفلسفة أمر مستحيل مادامت هناك مناطق مجهولة لا يستطيع العلم أن يقول بصددها شيئا كما يرى برتراند راسل. والنص التالي يلخص أزمة العلوم وفشلها، النسبي طبعاً، ثم عدم قدرتها على أن تثبت على أنها مطلقة وباستطاعتها أن تكون  بديلا حقيقيا لمبحث الميتافيزيقا ، لذلك آثرنا إيراده هنا كالتالي: " وإن نحن ولجنا علوم الطبيعة وعايشناها وجدنا كل شيء واضحا ومعقولا على قدر ما بلغت من الإحكام. كلها يقين من امتلاك حقيقة موضوعية تستدل عليها مناهج واثقة تقدر أن تبلغ الموضوعية حقا. غير أنه ما إن ننتقل إلى التأمل حتى "يتحول اليقين" إلى خبط عشواء، وسرعان ما نقع في تفاوت وتناقض ظاهرين يحيق بنا خطر الوقوع في الريبة من كل جانب، وفي أفضل الأحوال في واحدة من أشكال الريبة المتباينة التي تدل عليها علامة مشتركة هي لسوء الحظ العلامة عينها: التهافت" نفسه[38].
 
4-    ديكارت: الواقع - الذات المفكرة – الحس المشترك:
لقد نُظر إلى ديكارت على أنه مؤسس الفلسفة الحديثة، حيث تميزت فلسفته أساسا، بكونها عقلية، تتبع منهجا شكيا، "لأن أحكاما كثيرة قد تعجلنا في إطلاقها تمنعنا من الوصول إلى معرفة الحقيقة، وتتشبث بنفوسنا تشبثا يلوح لنا معه أن من المحال أن نتخلص منها ما لم نشرع، مرة في حياتنا، في الشك في جميع الاشياء التي قد نجد فيها أدنى شبهة من قلة اليقين"[39]. مَنْ يشك؟ إنها الذات المفكرة، كل ما يسلم ديكارت بوجوده الأساسي هو "الأنا المفكرة". أما ما يوجد خارج الذات فهو موضوع أقل ما يقال عنه أنه مشكوكاً فيه[40]. أراد ديكارت بفلسفته هذه، القائمة على الأنا الوحدية، أن يمسح الطاولة، أن يؤسس لحقيقة صلبة مبنية على أسس صلبة، معرفة بديلة للمعرفة القديمة من جهة، ورافضة للحس المشترك والأحكام المسبقة من جهة ثانية، تلك الأحكام التي انتقلت إلينا جراء عملية التربية والتنشئة الاجتماعية، فنحن "من حيث إننا كنا أطفالا قبل أن نكون رجالا، وإننا قد أصبنا حيناً وأخطانا حينا آخر في الحكم على الأشياء التي عرضت لحواسنا حينما لم نكن قد استكملنا بعد استعمال عقولنا[41]"، فإنه مما لاشك فيه أن معظم معارفنا ستكون مغلوطة إذا ما أخضعناها لمعيار عقلي وعلمي، فهذا الخوف من الخطأ أو الوقوع في الخطأ وعدم التسليم بما سبق من المعارف هو المحرك الأساسي للفلسفة الديكارتية. إن ديكارت يخوض حربا فكرية مع الإدراكات والمعارف المنقولة إلينا حسيا، ومن بين مهمات العقل أن يعري الأخطاء التي انتقلت إلينا بغير العقل ويُخرجها من دائرة الحقائق العلمية. إذ نجده يقول: " لكن لما كان غرضنا الآن مقصوراً على الانصراف إلى البحث عن الحقيقة، فبوسعنا أن نشك أولاً بصدد الاشياء التي وقعت تحت حواسنا أو التي تخيلناها إطلاقا فنتساءل هل منها ما هو موجود حقا في العالم، وذلك لأن التجربة قد دلتنا على أن حواسنا قد خدعتنا في مواطن كثيرة، وأنه يكون من قلة التبصر أن نطمئن كل الاطمئنان إلى من خدعونا ولو مرة واحدة، وكذلك لأننا نكاد نحلم دائما ونحن نائمون[42]".
فلو قلنا مثلا أن الواقع حقيقة لأننا نتعامل معه ونحن في يقظة وفي كامل وعينا، فإنه ثمة حالة يحصل لنا فيها نفس الأمر، نتلذذ ونتذوق، نفرح ونحزن...إذ الحلم هو الآخر عالما له مقوماته وواقعيته، فما معيار التمييز بين الواقعين؟ فنحن حينما نكون نائمين "يبدو لنا حينذاك أننا نحس بشدة ونتخيل بوضوح عدداً لا يُحصى من الأشياء التي ليس لها وجود في الخارج. ومتى صمم الانسان على أن يشك في كل شيء لم يعد يجد علامة للتمييز بين الخواطر التي ترد علينا في حال النوم وتلك التي ترد علينا في حال اليقظة[43]".
إن بناء المعرفة العلمية، لا يتطلب وفقط رفض المعارف الحسية والأحكام المسبقة وكل حقائق الحس المشترك التي انتقلت الينا بفعل التربية، وإنما يجب أن نشك حتى في المعارف الرياضية التي غالبا ما تود أن تفرض سيطرتها مدعية صرامة بنائها الاستدلالي وتماسكها المنطقي، وفي هذا الصدد يقول ديكارت أيضا: " وبوسعنا أن نشك أيضا في جميع الاشياء التي بدت لنا من قبل يقينية جداً. بل نشك في براهين الرياضيات وفي مبادئها وإن تكن في ذاتها جلية جلاء كافيا. لأن من الناس من أخطأ وهم يفكرون في مثل هذه الأمور[44]".
الفلسفة الديكارتية تبدو فلسفة ثائرة إلى أقصى حد، خصوصا حينما تتجه نحو الشك حتى في براهين الرياضيات ويقينياتها، إذ يبدو الأمر أن ديكارت من هذا المنطلق لم يترك لنا في العالم شيئا لا يمكن الشك فيه، ولكن مع ذلك، وهو يمارس هذه المهمة الشاقة، تيقن أن هناك شيئا لا يمكن الشك فيه، وهذا الشيء هو الذي سيقود مسيرة البحث عن الحقيقة، مسيرة البحث عن حقيقة الواقع والعالم والوجود، إنه "الأنا المفكرة". يقول ديكارت: "ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض، وأنه ليس لنا أبدان. لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا، لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن من يفكر لا يكون موجودا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططا فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر، وإذن فأنا موجود، صحيحة. وبالتالي أنها أهم وأوثق معرفة تعرض لمن يدبر أفكاره بترتيب[45]". فهل فعلاً بإمكان الذات العاقلة – كما تصورها ديكارت - أن تتولى مهمة البحث عن الحقيقة حسب حنة آرندت؟
أقرت آرندت أن الفلسفة الديكارتية قائمة على "ذات" تفكر وتسعى لعقل العالم، و "موضوع" خارجي هو الذي تسعى نحوه الذات لعقله وجعله مقبولا كحقيقة يقينية، هذا أمر مسلم به بالنسبة لكل دارس لفلسفة ديكارت الساعية بكل جهد لأن تكون موضوعية، ولكن "الواقع، في عالم الظاهرات، أول ما يجب أن يميزه هو أن يكون ثابتا وممتدا زمنا طويلا حتى يصير موضوعا (objet) يمكن أن تتعرف عليه الذات (sujet) وتسلم به وتقبل وجوده. هذا من جهة، ومن جهة أخرى: كيف يمكن لفعل ذاتي أن يستتبع ضرورة موضوعا ما؟. إن الاكتشاف الرئيسي لهوسرل مثلا تكمن أهميته بشكل أكبر في تحليله العميق لقصدية أفعال الوعي: إذ الشجرة المرئية يمكن أن تكون وهما، ولكن فعل الرؤية يعتبره موضوعا تماما، وأيضا  منظر الحلم الذي لا يُرى  إلا للحالم،  مع ذلك يعتبر موضوعا لحلمه. وهذا ما يجعل الموضوعية مؤسسة على الذاتية حتى في حالة الوعي من وجهة نظر القصدية[46]". فمن هذا المنطلق تبدو المعرفة العلمية مهما ادعت أنها معرفة موضوعية، فإنها لا تلبث أن تقع في فخ الخبرة الذاتية أو العِنْدِية، فالمعرفة هي، وقبل كل شيء حسب هذا التصور، قائمة بين العارف والمعروف، انفعال العارف بالمعروف.
كما يمكننا حسب آرندت أن نتحدث عن قصدية المظاهر وذاتيتها الباطنية. كل موضوع، في اللحظة التي يظهر فيها،  يشير إلى ذات، وإذا كان كل فعل ذاتي يمتلك موضوعا قصديا، فإن كل موضوع يظهر له هو الآخر ذاتا قصدية. حسب تعريف بورتمان Portmann: المظاهر هي وسيلة- لنقل الفكر- للمستقبلين . الشيء الذي يظهر وُضِع أساسا للمتلقي، حتى  الذات الموجودة بالقوة potentiel، ملازمة للموضوعية حيث الموضوع الموجود بالقوة له ذاتية الفعل القصدي[47]".
إن ما كان يعتقد فيه ديكارت من قوة الذات المفكرة، وقدرتها على معرفة حقيقة العالم في استقلال تام عن الحواس هو أمراً يجب إعادة النظر في –حسب أرندت-، ذلك أن "كل وعي هو في أساسه وعياً بشيء ما"، و "تطلُع إلى شيء ما"، فضلا عما يرافق عملية التعقل هذه من أحكام القيمة، وهذه كلها حالات قصدية. بل أكثر من ذلك، ليست الذات هي وحدها من تتجه نحو الموضوع، فـ"بكون الظاهرات تقتضي دائما مستقبِلاً يلاحظها، وفي نفس الوقت تستتبع على الأقل بشكل قصدي، أن  تُقبل ويُعترف بها ويُسلم بها admis et reconnu، فإنها تجذب نتائج واسعة بالنسبة لنا نحن الكائنات التي تظهر في عالم من الظاهرات، نحن الذين نفهم بالواقع، واقعنا نحن أو العالم. في الحالتين معا، إيماننا الادراكي، كما يسميه ميرلوبونتي[48]، واليقين في أن ما ندركه يوجد في استقلال عن فعل الادراك l’acte de perception، هو مشروط كليا بالكيفية التي بها يظهر الموضوع تماماً للآخرين ويُقبل به من طرفهم. فبدون هذا الاعتراف الضمني من طرف الآخرين، لا يمكن لأي كان أن يكون مستعدا ليتناسب مع الإيمان الادراكي بالطريقة التي يظهر بها مع نفسه[49]".
وتبعا لذلك ترى آرندت، أن "كل النظريات المثالية والذاتية التي تقرر، بدون فارق دقيق، بأن الأنا هي فقط ما يوجد، أو مع مزيد من التحديث، الأنا والوعي بذاتها هما اللذان يؤسسان لموضوع المعرفة المُمَنهجة والصارمة، يصطدمان بالمعطيات الأكثر أساساً وأولية للوجود وللتجربة[50]".
إن الأنا الوحدية، نُظر إليها كسلطة قبل أن يستند عليها ديكارت، فالفيلسوف حينما كان ينظر إلى الإنسان، لم يكن ينظر إليه بما هو حضوراً حسياً وطبيعياً، بل كان ينظر إليه بما هو "ذاتا مفكرة"، أصيلة ومُبدِعة، الهدف الرئيسي من وجودها هو التفكير وإعمال العقل دون الحاسة تماما. إن الانسان من خلال هذا التصور- حسب آرندت- يعيش كلية بشكل مفرد، بمعنى في وحدة مطلقة، وكأن الأرض معمورة بإنسان واحد وليس بأناس كُثر[51].
فضلا عن كون ديكارت نفسه – حسب آرندت – واع بذاتيته الجذرية، وفسرها بسبب الضياع القطعي لليقينيات التي أعقبت الاكتشافات العلمية للعصر الحديث، وآرندت ترى أنها تتبعت بشكل أساسي هذه المسألة وتناولته في كتابها:« condition de l’homme moderne ». لكن مع ذلك  نجد ديكارت يأخذ قرارا لرفض الأرض المتحركة ومواضع الرمال لإيجاد الجلمود الصلب[52]. مهما حاول ديكارت التجرد من المجال الذي ينتمي إليه فإنه لا يستطيع القيام بذلك أبدا، ذلك أن الاستدلال البرهاني ليس عقليا خالصا، وإنما تلتصق به مكونات تجريبية وأخرى اجتماعية، وهنا لن تنفع لا العزلة[53] ولا تعطيل الحواس[54].
إن هذه التجرية التي بسطها ديكارت، تفترض ذاتا ولدت في صحراء، بعيدا كل البعد عن مثيرات الفضاء، بعيداً عن ضوضاء المجتمع ومشهوراته. أو أكثر من ذلك، لكي تنجح التجربة الديكارتية، يجب أن يفكر كأنه لم يَرَ العالم يوما، لم يسمع أصواته، لم يشم رائحته، ولم يتذوق طعمه ومذاقه. وهنا سنكون أمام تفكير ربما خارج العالم، وهذا مرة أخرى مستحيل. ثم أكثر من ذلك، فالفيلسوف أولا وقبل كل شيء إنسانا كما يقول أفلاطون، أما هذه المهمة الصعبة التي يقودها ديكارت فإنها ربما تفترض ذاتا أكثر من إنسان.
إن حنة آرندت ترى أنه لا يمكن للتفكير أن يبرهن على صحة ولا على فساد الاحساس بالواقع، هذا الاحساس الصادر عن الحاسة السادسة: الحس المشترك، وإنكاره هو الذي يجعل الفلاسفة يظهرون كغرباء أمام الجمهور، هذا الأخير الذي كون معظم معارفه بالوجود من خلال ما تلقاه من حواسه، والفيلسوف كذلك، بما هو إنسان فإنه لا شك كون جزءاً من معارفه عن طريق الحس المشترك.
خاتــمة: كانط: الأنا والأنا المفكرة[55]:
تقول آرندت: "مفهوم الظهور والظاهر لا يلعب أي دور محدد ومباشر عند أي فيلسوف إلا عند كانط. مفهومه لـ "الشيء في ذاته"، "الذي يوجد ولا يظهر qui existe mais ne parait pas"، والذي هو سبب ما يظهر، يمكن أن يُفسَر ويُفهم، وهذا ما حدث منذ التقليد اللاهوتي: الله هو "شيء ما dieu est quelque chose"، وفي نفس الوقت "لا شيء[56]". يمكن أن نفكر فيه، ولكن فقط كالذي لا يظهر، لا يُعرض لتجربتنا، إذن هو "في ذاته[57]".
في العالم إذن أساس لا يظهر مهما حاول الفلاسفة الرهان على ظهوره، هذا الأساس هو الشيء في ذاته، إذن ما الذي نعرفه عن العالم؟ حسب كانط نحن فقط نعرف ما يظهر، ما يبدو لنا، نحن نعرف "الظاهرات" وفقط. وهذا نقد واضح لكل توجه فلسفي أو علمي يدعي إمكانية اسقاط قوانين العقل على العالم والواقع، أو بلغة فلاسفة الإسلام "مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان[58]".
قلنا سابقا، أن "الشيء في ذاته" شبيه بالكلام الديني حول الله، الذي ليس كمثله شيء، فما الذي يترتب عن هذا الأمر؟ ترى آرندت أنه مادام الإله لا يظهر لنا، فإنه ليس لنا[59]، فهل يترتب على هذا أن الوجود في ذاته ليس لنا مثلا، هل البحث عن حقيقة الأشياء في ذاتها هي مغامرة فيها ترفاً فكرياً ومخاضاً بدون نتيجة؟ هل هذا معناه أن قدرنا أن نعرف فقط الظاهرات؟
إن "أي تأويل لهذه القضية يبدو مريبا ولا يخلو من متاعب وصعوبات كبرى[60]"،  تجيب آرندت. فبالنسبة لكانط، الله هو "فكرة للتعقل Idée de raison[61]"، ومادام الأمر كذلك، بالنسبة لنا: التفكير في الله وتأمل  الماوراء هو ملازم للتفكير الانساني حيث العقل، بما هو استعداد بشري للتأمل، يفارق ويتجاوز ضرورةً ملكات المعرفة الناتجة عن الحواس "connaissance de l’intellect": فبالفعل لا يمكننا أن نعرف إلا ما يظهر، وعلى شاكلة "يبدو لي" المُعطى والمقترح للتجربة، ولكن رغم ذلك "الأفكار les pensées"، موجودة...حيث كانط يسميها "أفكاراً idées"...الله، الحرية، الخلود، هي خيرة بالنسبة لنا، وتضغط علينا، حيث العقل لا يمكن له أن يلغيها، كما أنها تشكل الغاية القصوى بالنسبة للإنسان وحياة العقل. ولهذا يكون من الأفضل تحديد إلى أي مدى يكون مفهوم "الشيء في ذاته"، الذي لا يظهر، مُدرج ومضمن  في الفهم المتعلق بالعالم بما هو عالما من الظواهر[62]".
 
 


([1]) Hannah Arendt, La vis de l’esprit, la pensée. le vouloir, traduit de l’américain par Lucienne Lotringer, QUADRIGE, PUF, presse universitaires de France, 1981, «  philosophie aujourd’hui », paris.                                                                                                                                                 
([2]) للمزيد من المعلومات حول هذا الأمر، أنظر تحديدا  préface de l’éditeur في الصفحات الأولى من الكتاب.
([3]) سنتبع – في معالجة هذا الموضوع – مقاربة بيانية: بيان متصل وآخر منفصل، مقتضى الأول داخلي، متني – من المتن- ومقتضى الثاني خارجي، منفتح على نصوص أخرى، القاسم المشترك بينهما هو وحدة الاستشكال والمنطلق، ووحدة الموضوع المطلوب بيانه.                                                                      
([4])  « le monde où naissent les hommes renferme un grand nombre de choses, naturelles et artificielles, vivantes et mortes, provisoires et éternelles qui ont toutes en commun de paraître et par là même d’être faites pour se voir, s’entendre, se toucher, être senties et goûtés par des créatures sensibles dotées de sens appropriés ».                                                                                                                  
« La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir », p.37.                                                                                                                          
 
[5]) ) تقول حنا أرندت:
”le mot apparence n’aurait aucun sens, s’il n’existait pas de telles récepteurs des apparences”.
([6])  إن الافلاطونية "تؤسس الميدان الذي ستعتبره الفلسفة فيما بعد ميدانها الخاص. انه مجال التمثل الذي يعج بالنسخ...تلك النسخ التي لا تتحدد في علاقتها الخارجية مع موضوع معين، بل في علاقة داخلية باطنية مع الاصل والنموذج والاساس. النموذج الافلاطوني هو المطابق لذاته والنسخة الافلاطونية هي الشبيه". جيل دلوز، أنظر: عبد السلام بنعبد العالي، في الترجمة، شراع، العدد الأربعون، فاتح أكتوبر 1998. ص. 13.    
 ( ([7]  سنضبط هذين المفهومين في المكان المخصص لموقف كانظ من هذه القضية المطروحة، وذلك في آخر المقال حيث سنورد موقف حنة آرندت في ما يخص ديكارت وكانط.
[8]) ) عثمان امين، نقد العقل الخالص، ضمن "تراث الإنسانية"، المجلد الثاني، دار الرشاد الحديثة، ص .956.
([9])                                                                          « La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir », p.38.
([10]) لنتأمل هذه الفقرة لـ جون جاك روسو: " وحتى لو كان في وسع الفلاسفة أن يكتشفوا الحقيقة، من منهم يهتم بها؟ كل واحد منهم يعلم أن مقولته ليست أوثق تأصيلا من غيرها، لكنه يتشبث بها لأنها من إبداعه. لا واحد منهم، حتى لو تبين الحقَ وميزَه عن الباطل، يُفضل الحقَ الذي أبدعه غيره على الباطل الذي اخترعه هو. أين الفيلسوف الذي تورع عن خداع النوع البشري إن كان في ذلك إنقاذ لسمعته؟ أين الفيلسوف الذي، في قرارة قلبه، يتوخى غير الشهرة والنبوغ؟ كل ما يصبو إليه هو أن يسمو عن العامة، وأن يطفئ نورُه نورَ أقرانه. لا يهمه سوى مخالفة الغير، إن كان بين المؤمنين فهو ملحد، وإن كان بين الملحدين فهو مؤمن."
جان – جاك روسو، دين الفطرة، نقله من الفرنسية إلى العربية عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 2012. ص:29. العنوان الأصلي للكتاب: Jean-Jacques rousseau, profession de foi du vicaire savoyard 1961..
 
([11])  « L’existence-c ‘est –à-dire la faculté de paraitre- de la matière inerte, naturelle ou artificielle, stable ou soumise au changement, dépend de la présence d’être vivants » « La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir », p.38.                                                                                                                      
([12])                                                                                    «La pluralité est la loi de la terre » même page.                   
([13])  ابن منظور، لسان العرب، المجلد السابع، الصفحات: من 96 إلى 99.
([14])  ابن منظور، لسان العرب، المجلد الرابع، الصفحات من 520 إلى 529.
paul robert, le petit robert, p.113/114.                                                                                                ([15])
([16])  حمو النقاري، أبحاث في فلسفة المنطق، دار الكتاب الجديد المتحدة 2013، الطبعة الأولى يناير 2013، ص23.
 ([17]) إضافة إلى المعاني الثلاثة التالية: trouver bon- approuver- faire approuver، حمو النقاري، نفسُه، ص 23.
([18]) «  Les objets vivants se présentent, comme des acteurs, sur une scène, qu’on leur a préparée. c’est une scène commune à tous les vivants, mais elle semble différente à chaque espèce, et aussi à chaque spécimen. Sembler –le « il me semble » moi- et le mode, le seul possible peut- être, selon lequel on peut prendre conscience d’un monde apparent et le percevoir. Paraitre signifie toujours sembler aux autres, et ce sembler varie selon le point où se place les spectateurs et la perspective qu’il adopte. ». «La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir ».p.40.                                                            
                                                                                                                                                                                                                    
[19]) ) قضية اللزوم هي قطب الرحى في الدرس المنطقي المعاصر.
([20]) « Qu’on ne peut fuir l’être que dans l’être, et, puisque pour l’homme, être et paraitre coïncide, je ne peux fuir l’apparence que dans l’apparence, ce qui ne résout pas la question, qui est de savoir si la pensée supporte de paraitre ; il s’agit alors d’établir si la pensée est les autres activités mentales silencieuses et invisibles sont censées paraitre ou si, après tout, elles ne peuvent trouver dans le monde d’habitat qui leur convienne. ». « La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir ».p.42.                                       
([21])             « La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir », p.42.                                                                                                                          
 
([22])           « C’est le don de paraître de notre monde qui a suggéré au philosophe, c’est-à-dire à l’esprit humain, l’idée qu’il doit exister quelque chose qui n’est pas apparence ».ibid, p.43.                                                                                                                                                                         
[23]) ) أحمد داوود باحث ومفكر سوري، مهتم بالتاريخ والأنثروبولوجيا واللسانيات...ومتخصص أيضا في اللغات القديمة.
[24]) ) أحمد داوود، تاريخ سوريا الحضاري القديم، 1) المركز، دار الصفدي، الطبعة الثالثة، 2004، ص 84.
[25]) ) نفسه، ص 84.
([26])  محمد مزوز، مشكلة الوجود بين ابن رشد وأرسطو، سلسلة بحوث ودراسات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الطبعة الأولى 2014، ص 49.
 
 Aristote, la métaphysique..p.107.
 ([27])
                                                                                                  نقلا عن محمد مزوز، مرجع مذكور سابقا، ص: 61.
([28])  نظرا لأهمية هذه الفقرة آثرت نقلها:
« la métaphysique est cette réflexion qui détermine l’étant dans son être. L’étant, c’est-à-dire l’étant multiple, fini, limité, autrement dit les choses, c’est là le point de départ fondamental de la métaphysique. Des régions de l’espace et du temps, de l’entendue ouverte du monde, les choses viennent vers nous, vers nous qui sommes bien nous-même des choses finies. La métaphysique prend son point de départ dans l’intramondain en posant un quadruple problème. On pose la question de l’étant comme tel, de la structure totale de l’étant, de l’étant suprême et de la non-dissimulation de l’étant. D’où provient cette quadruple question, il est difficile de l’éclaircir. Elle se fonde sur les dimensions du concept d’être. Même dans la vie courante nous distinguons l’être et le néant, l’être et le devenir, l’être et l’apparence, l’être et la pensée, chaque fois que nous pensons l’être, nous pensons en même temps, implicitement, aussi la dimension du néant, du devenir, de l’apparence, de la pensée. » EUGEN FINK, LA philosophie de Nietzsche, traduit par Hans Hildenberg et Alex Lindenberg, ‘ARGUMENTS’, les éditions de MINUIT, 1965, p 232.        
 
 ([29])   « La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir ».p.43.                                                                                     
 ([30]) من أجل بيان الفرق الجوهري بين اهتمامات العلم واهتمامات الميتافيزيقا لنعد إلى النص الفرنسي لكتاب الميتافيزيقا الارسطي كما حققه تريكو، والذي أورده الأستاذ محمد مزوز بهامش كتابه المذكور سابقا: مشكلة الوجود بين ابن رشد وأرسطو، ص 19:
« Les principes et les causes des êtres sont l’objet de notre investigation, mais il s’agit évidemment des êtres en tant qu’êtres. Il y a, en effet, une cause de la santé et du bien-être ; les objets des mathématiques ont aussi des principes, des éléments et des causes ; et d’une manière générale, toute science discursive ou participant du raisonnement en quelque point, traite de causes et de principes plus ou moins rigoureux. Mais toutes ces sciences, concentrent leurs efforts sur un objet déterminé, sur un genre déterminé, s’occupent de cet objet, toute science particulière recherche certains principes et certaines causes pour chacun des objets qu’elle connait ».
([31])   « La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir ».p.43/44.                                                                                                                                               
 
« La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir ».p.44.                                                                                                      ([32])
([33])   Maurice Merleau-Ponty, le visible et l’invisible, paris, 1964, p.34.                                                 
نقلا عن حنة آرندت، كتاب مذكور سابقا، ص44.
([34])                                                                            .45/44.« La vie de l’esprit, la pensée, le vouloir ».p
([35])                                                                       «  La vie de l’esprit ».p.45.                                                           
([36])             Herman Diels et Walther Kranz, die fragmente der vorsokratiker, berlin, 1959, vol. 2, B26.
نقلاً عن حنة أرندت، مرجع مذكور، ص 45.   
                                                                                                                                                      
 « la vie de l’esprit ».p.46.                                                                                                                                            ([37])
([38]) إدموند هوسرل، فكرة الفينومينولوجيا، ص 56.
([39]) ر. ديكارت/ مبادئ الفلسفة – ترجمة وتقديم وتعليق، عثمان أمين، مكتبة النهضة المصرية 1960. أنظر أساساً الصفحات: من 86 – 93.
 ([40]) هذا المنهج الديكارتي يُستخدم حينما يتعلق الأمر بالبحث عن الحقيقة، دون أن يتعدى إلى مجال الحياة اليومية، يقول ديكارت: " على أن بودي أن نلاحظ أني لا أقصد أن نستعمل الشك على هذا النحو إلا حين نشرع في العكوف على تأمل الحقيقة، لأن من المحقق أننا فيما يختص بسلوك حياتنا مضطرون في معظم الأحيان إلى متابعة آراء ليست إلا احتمالية، ذلك لأن فرص العمر في شؤون حياتنا تكاد دائما أن تنقضي قبل أن يتيسر لنا أن نتخلص من جميع شكوكنا. فإذا صادفنا منها آراء كثيرة كهذه في موضوع واحد، ولم نكن نستطيع ترجيح بعضها على العض الآخر، وكان العمل لا يحتمل أي تأخير، فإن العقل يقضي بأن نختار منها رأياً، وبعد اختياره أن نثابر على اتباعه كما لو كنا قد حكمنا عليه بأنه يقيني جداً.". ر. ديكارت/ مبادئ الفلسفة – ترجمة وتقديم وتعليق، عثمان أمين، مكتبة النهضة المصرية 1960. أنظر أساساً الصفحات: من 86 – 93.
 
([41])  ديكارت، مرجع مذكور، أنظر نفس الصفحات.
([42])  نفسه، أنظر نفس الصفحات.
([43])  نفسه.
([44])  نفسه.
([45]) نفسه، ص 54.
([46]) La vie de l’esprit, p.71.                                                                                                                                   
([47])  « Tout objet, du moment qu’il parait, indique un sujet et, si tout acte subjectif possède un objet intentionnel, tout objet qui parait a, de même, un sujet intentionnel.» ibid. p.71.                                                                             
([48]) Le visible et l’invisible, pp.28 et suiv.                                                                                                                               
أنظر: حنة آرندت، مرجع مذكور، هامش ص 72.
([49])  Ibid., p. 71/72.                                                                                                                                                                        
([50])                                                                                                                                      Ibid. p.72.                                                                                                                                                         
([51]) « La vie de l’esprit », p.72.                                                                                                                                                      
([52])                                                                                                                                            Ibid. p.73.
([53]) بخصوص المكون الاجتماعي المصاحب للاستدلال العقلي، فإننا نورد الشاهد التالي: "فعلى خلاف الاعتقاد السائد بأن المنطق البرهاني من صنع ذات عاقلة متجردة ومستقلة – تُذَكِر عزلتها بعزلة من يصنع معاناة الكوجيطو الديكارتي -، فإن هذا المنطق ليس هدفه أن يميز صحيح صور الاستدلال وفاسدها فحسب، بل أن يأتي بالحلول لبعض المشاكل والألغاز النظرية التي تحول دون هذا التمييز، إلا أن هذه الحلول، لما كانت تتفاوت نفعا وقوة، وتقبل التغيير والاتقان، ما كانت لتقنع أحدا – ولو كان صاحب النسق نفسه – بكفايتها المطلقة لحل هذا المشكل أو ذاك، فكان من الضروري أن تستند الصحة البرهانية إلى تعاقُدِ أفراد مجتمع عليها، حتى يقع التصديق بالحلول المقترحة والعمل بها، وإن لم يتم هذا التعاقد بصفة علنية، وليس من الصعب أن نتبين، من خلال نصوص كل فترة، بعض المبادئ المنطقية التي كانت عند هذا القوم أو ذاك بمنزلة مواضعات اجتماعية". طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2000، ص 64.
 
([54])  بخصوص المكون التجريبي المصاحِب للاستدلال العقلي، فإننا نورد الشاهد التالي : "فمن الآراء السائدة أيضا أن المنطق البرهاني علم صوري مفارق للعلوم التجريبية، وزاد في رسوخ هذا الرأي الاعتقاد بأن حقائقه كلية تنطبق على العقول جميعا، وأن لغته تكفينا اختلاف الالسن الطبيعية والتباسها وتعقدها، والصواب أننا لو راقبنا البرهاني في إنشاء أنساقه لوجدناه ينتهج سبل التجريبي ، فهو أيضا يلاحظ ويفترض ويحقق، وعمله في هذا أشبه ما يكون بعمل اللساني في وصف ظاهرة لغوية ما، ولا أدل على ذلك من أنه يصنع نسقه بالرجوع إلى مواصفات قومه أو غيره من الأقوام من خلال الاحتكاك بهم أو من خلال النصوص التي تركوها، ولا يوصد باب نسقه أبداً، بل قد يراجع الحُدوس التي قام عليها بناؤه، ويسقط بعضها أو يضيف إليها أخرى توسعها وتزيد في قدرتها الوصفية والتنبُئِية". طه عبد الرحمن، نفسه، ص 64.
([55]) « La vie de l’esprit », p.64.                                                                                                                                                       
([56]) وفي التقليد الديني والفلسفي الإسلاميين من صفات الله أنه "ليس كمثله شيء". هذه الإضافة غير موجودة في كتاب آرندت الذي نحن بصدد الاشتغال عليه، بل هي إضافة من عندي.
([57]) « La vie de l’esprit », p.64.                                                                                                                                                      
([58]) يقول الفارابي: " الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر. ونحن لا نعرف من الأشياء إلا الخواص والوازم والأعراض، ولا نعرف الفصول المقومة لكل منها، الدالة على حقيقتها" (الفارابي التعليقات ضمن رسائل الفارابي طبع حيدر اباد الدكن سنة 1246 هـ، ص 4، 13). نقلا عن: عثمان أمين، ضمن "تراث الانسانية"، المجلد الثاني، ص 963.
([59]) « La vie de l’esprit », p.64. ».                                                                                                                                                          
([60]) Ibid. p.64.                                                                                                                                                                                            
([61])  يميز كانط بين "ملكة التفكير faculté de penser" المسماة "raison"، بما هي  ساعية نحو الفهم العقلي: les concepts rationnels servent à comprendre ، وبين "ملكة المعرفة faculté de connaissance" المسماة "intellect"، بما هي ساعية نحو الفهم الحسي، تقول حنة آرندت في هذا الصدد، في نفس الكتاب الذي نحن بصدد الاشتغال عليه، الصفحة 85:
« La faculté de penser que Kant, on l’a vu, appelle vernunft (raison) pour la distinguer de l’intellect (verstand) ou faculté de connaissance, est de nature tout à fait différente. Ce qui les sépare, au niveau le plus élémentaire, et selon les mots même de Kant, tient au fait que « les concepts rationnels servent a comprendre (begreifen) comme les concepts intellectuels servent à entendre (les perfections) »…en d’autres termes, l’intellect (verstand) veut saisir ce qui est donné aux sens, tandis que la raison souhaite en comprendre la signification ».
                                                      
 
([62]) Ibid. p. 64.                                                                                                                                                                                 



#محمد_اليوسفي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- نقل الغنائم العسكرية الغربية إلى موسكو لإظهارها أثناء المعرض ...
- أمنستي: إسرائيل تنتهك القانون الدولي
- الضفة الغربية.. مزيد من القتل والاقتحام
- غالانت يتحدث عن نجاحات -مثيرة- للجيش الإسرائيلي في مواجهة حز ...
- -حزب الله- يعلن تنفيذ 5 عمليات نوعية ضد الجيش الإسرائيلي
- قطاع غزة.. مئات الجثث تحت الأنقاض
- ألاسكا.. طيار يبلغ عن حريق على متن طائرة كانت تحمل وقودا قب ...
- حزب الله: قصفنا مواقع بالمنطقة الحدودية
- إعلام كرواتي: يجب على أوكرانيا أن تستعد للأسوأ
- سوريا.. مرسوم بإحداث وزارة إعلام جديدة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد اليوسفي - العالم بوصفه ظهورا عند -حنة أرندت Hannah Arendt -.