أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمل سالم - ذاكرة الموتى















المزيد.....

ذاكرة الموتى


أمل سالم

الحوار المتمدن-العدد: 5473 - 2017 / 3 / 27 - 10:17
المحور: الادب والفن
    


"نص نشر في مجلة الثقافة الجديدة عدد مارس 2017"
الناس روح الأمكنة؛ لذا لما رأته أول مرة بالقرب من المقابر حسبته ميتًا، أو بالكاد يقف على عتبة الحياة، حاملًا رأسه كثقل يستعصى حمله، أما كلماته فتخرج مثقلة، حملتها السنين شقاءً أثمر تجاعيد نبتت فى وجهه وجبهته المحنية.
فى وجل من خطب ما، قررت فجأة أن تزور الأولياء، تتشفع بهم وبحضرتهم البهية؛ عل الله ينقذها مما هى فيه، ومما آلت إليه أحوالها الرثة، فهى بقايا أنثى؛ حيث لم يتبق من أدلة على أنوثتها إلا استشراف ما مضى، فبرغم الثياب الفاخرة التى تلبسها.. بانت هى نفسها كالخرقة الممزقة، التى استعملت لإزالة الأتربة عن أشياء منزلية شديدة الاتساخ، تماما كائن بائس!
الولى: هو من ولى الله فى الأرض، ومن له الولاية وجبت له الشفاعة.
وطالما أنه احتجب وتوارى، فعليها أن تتجه للولى، الاتجاه قبلة: "وأينما تولوا وجهوكم"، وهناك.. ستطعم عددًا من المساكين، ولا مانع من تفرقة النقود-كعادتها- صدقات خفية.. ومقنعة. لن تعتبر ما تنفقه رشوة للأولياء، لكن دعاء المتصدق عليهم مستجاب، حتما.. مستجاب؛ كذلك أنبأنا تراث السلف الصالح. أما خيال المآتة الذى يرافقها فى الطريق إلى الإمام الولى.. فلا مانع من التصدق عليه أيضًا. قد تختلف الصدقات؛ فالصدقة على الجائع.. إطعامه، وعلى الظامئ.. ريه، وكل محروم بما حرم منه. ما صدقة المحب إذن؟
لذا اصطحبها-بناء على رغبتها وإلحاحها- للمساجد التى بها أضرحة، ومعظمها قريب من المقابر، أو أن الطريق إليه يسلك ممرات داخل المقابر.. بشواهدها المختلفة، معظم هذه المساجد مختَلَفٌ على ما تحتويه الأضرحة؛ فبعض الأضرحة فى بلادنا تحتوى على موتى قضوا فى بلدان أخرى، ويجب ألا تعمل عقلك: كيف تأتَّى لساكن هذا الضريح أن ينتقل من مدينة موته إلى مدينة مدفنه، خاصة وأنهما يبعدان عن بعضيهما مسافات يصعب إتيانها إلا بعد أسفار تطول لعدة من الأيام والشهور، حسب نوع الدابة الممتطاة.. سواء كان المسافر حيًا أم ميتًا!
كما أننا نرجح أن المسافر على أية حال كان يدعو بالدعاء المشهور، الوارد فى الآية القرآنية: "سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين"، ذلك سواء كانت الدابة حمارًا أو خيلًا مسومة أو حتى.. ملك كريم.
لكنه اصطحبها إلى هذه الأضرحة، رغم عدم اقتناعه وشكه في مصداقية الأمر برمته، واستحسن المسير معها، أحس ببهجة المقابر؛ وقد احتالت فى عينيه حدائق غلبا، جادت بما لديها فأنبتت حبًا، وزيتونا ونخلًا، وحين دلفا إلى المسجد لم يكن هناك سواهما، على أنها ما لبث أن تاهت مع أول مقابلة لضريح تراه؛ راحت تتنقل- كنحلة من زهرة إلى زهرة- من جانب إلى أخر فى المقصورة التى تحيط بالضريح.. والتى تفنن صانعها فجمل تكوينها الخشبى، وطرزه بصدف أبيض أكسبه حضور الطلعة وبهاء الساكن، وتجلى الوجد ففى خلوتها والضريح كانت تتلمس المقصورة بكلتا يديها، تلمس العاشق لعشيقته فى خلوة، وترفع وجهها فى سقف الضريح، تجول بعينيها فى قبة الضريح، ترجع البصر من كل ركن من أركانها يرتد إلى منتصفها، ويتهادى وجهها كأنها ترى فى القبة الأنوار الربانية، تحتضن الأعمدة الرخامية والتى أحاطت الضريح احتضانها لطفل، ذلك الطفل الذى لم تنجبه وكانت تتمنى، وتتمتم بكلمات وجمل يبدو أنها كانت تحفظها عن ظهر قلب، أو أنها أدعية ادخرتها فى أيامها الماضية، ولقنتها نفسها لوقت الحاجة، فعندما يتأتَّى لها المجيء والزيارة أن تدعو بها، وتكررها المرة تلو المرة.
كل الكلمات تحمل طاقات سحرية، وبقدر صدقها فى ترديد هذه الجمل والعبارات بقدر استنطاق هذه الطاقات واستحضارها، بل.. والفوز بمزاياها وقواها الخفية، حتى إنه يقال: إن للكلمات وللحروف ملائكة خدامًا.. يأتمرون بأمر من صدَّق فيهم.. واستحسن ذكرهم.
كان خيال الظل المرافق يقف ويتمتم هو الآخر: قديمًا كان الناس يتحصنون من الطبيعة بترديد جمل غير مفهومة، وهى عبارة عن أصوات ومخارج لفظية، ظنًا أنها تخوف الطبيعة، وما تحتويه من برق ورعد.. وظواهر جوية مخيفة للإنسان البدائى، وبالطبع مع مجموعة من الحركات ترافق هذه الصيحات.. وتشبه الرقص، وغالبًا ما تكون حول النار مثلًا. وحديثًا فإن الإنسان أيضًا يردد عبارات ومقاطع يظن أنها مفهومة!
لكنها فى واقع الأمر.. كلمات متراصة متتالية.. وغير مترابطة، ولذا فى حقيقتها فهى أيضًا غير مفهومة، مبهمة.. لكن الناس قبلوا الملغز والملتبس من القول.. وآمنوا به، وبمرور الوقت أصبح ظاهره بيّنًا.. ومنجليًا.
وتجلى الوجد على حالها فى التوهان والسرحان حول ضريح الإمام، بعد أن غطت ذراعيها ورأسها بخرقة كانت قد أحضرتها خصيصًا لذلك الوقت. وما أن نظر إليها وهى على هذه الحال.. حتى جذبته عيناها القابعتان خلف زجاج نظارتها السميك.. فاندهش، خاصة أن زيها شبهها بأهل الباكستان والأفغان، وفيما يبدو أنه كان يحب أفغانستان وأهلها- كحبها، وعشقها لأولياء الله الصالحين- على الرغم من عدم رؤيته إياهم.. إلا عبر التلفاز، حيث مشاهد قتلهم المرعبة، والتى تولى الأمريكان والتحالف الدولى مهمة القيام بها عقب أحداث الحادى عشر من سبتمبر.
كان عليه التأكد من صلاحهم، أولئك الذين يتقربون إليهم، هم وأبناؤهم وخدامهم الموارون الثرى، الموارون فى قبورهم خلف مقاصيرهم الخشبية، والنحاسية، والفضية-إذ اقتضى الأمر- مع رفعة ذات مولانا الإمام الولى.
اتخذت من ضريح الولى قبلة، ودارت فى الجهات الأربعة. واتخذ منها قبلته، ودار فى جهاتها الأربعة. كانت تتفحص المقام من كل زاوية، وكان يتفحصها من كل زاوية. تبحث عن شيء متوار يساعدها على مسيرتها المجهدة، والتى ضنت أحوالها عليها. وكان يبحث عن الأنثى التى توارت فى ذات ذاك المحب، وعن نوع الجمال التى توارى فيها، يستخرجه قطعة قطعة، غير عابئ بحرمة المكان، ولا بحضرة الإمام الراقد هناك، يعرف جيدًا أنه لو أتيحت الفرصة للإمام.. لاستبان ما يبحث عنه بشغف، وما ضيع تلك الفرصة، بل وأمست حضرته، وأنطق فيها أهل الذكر والنجوى.
دارت حول الإمام، ودار حولها أثناء دورانها حول الإمام، بالتبعية دار حول الإمام.
سبحت لذات صاحب المقام، أقام لها مقامًا فى قلبه.. وسبح لها، بالتبعية سبح لذات صاحب المقام. نادت أن يتوسط الإمام بينها وبين ربها؛ ليقبل أن يقضى حاجة لها.. لم يصلح الدعاء أن يقضيها.
وعندما همت بمغادرة المكان، بعد أن رفعت يدها اليمنى فى إشارة لترك المقام، عبثًا كان يبحث عن يدها ليتناولها مصطحبًا إياها إلى الطريق خارج المقبرة، لكن لم يجدها، فقد كان جسدًا مبهمًا!
بحث كثيرًا عنها لكنها كانت باردة منقضية، أدرك لما قدر لهما أن يلتقيا فى المقابر؛ الموتى ذاكرة المقابر، وتلك التى فشلت فى أن توقد ما تبقى من أنوثتها؛ لتشعل به ذكورته المهدرة .. لا بد وأن تكون شاهد قبر، أو حجرًا كبيرًا من الأحجار التى تسد فوهات القبور عقب دفن الموتى!
تتبعه عند مغادرته صدى حديث بصوت خافت، كان يدور فى المقصورة الخالية.. ليس إلا من مقبرة:
-وجودنا يا حافظ لغز كبير .. الإجابات عبث، والحلول أساطير.(1)
.....................
(1) البيت للشاعر الفارسي حافظ الشيرازى.



#أمل_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أين تذهب يا بابا؟
- بدون وساطة العبث
- صور معتمة لذاكرة تامة الاستضاءة
- الرحلة
- صدفة
- غروب
- الشرك
- متى يستوعبون؟؟
- تعليقاً على خطابه
- الإبداع بين التناص والتلاص
- قواعد العشق الأربعون رواية صوفية أم تأصيل غربى لديانة متسللة ...
- مرثية ذات - مقطع من نص طويل-
- بهية طلب وأنجلينا جولى وما بينهما من هروب
- السد-الألفية/النهضة-مشروع أممى.
- العمالة الشريفة
- هزيمة ونكبة
- قرون استشعار
- شخابيط الشخابيط ...عيال بيط
- الصراع / الثورة- حلقات مركبة.
- القميص


المزيد.....




- القضاء العراقي يوقف عرض مسلسل -عالم الست وهيبة- المثير للجدل ...
- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمل سالم - ذاكرة الموتى