أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ثائر دوري - الوجوه المتعددة للمثقف الكولونيالي في رواية (( موسم الهجرة إلى الشمال ))















المزيد.....


الوجوه المتعددة للمثقف الكولونيالي في رواية (( موسم الهجرة إلى الشمال ))


ثائر دوري

الحوار المتمدن-العدد: 1434 - 2006 / 1 / 18 - 07:42
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


إن عودتنا الراهنة لدراسة كل ما يخص الكولونيالية من اقتصاد و فكر ليس مجرد تأريخ لمرحلة مرت بها البشرية ثم انقرضت مع تصفية الاستعمار في ستينات القرن العشرين . بل هو عمل في صلب مهمات الحاضر لأن الكولونيالية و منذ منتصف التسعينات تعاود انبعاثها ، و كان هذا الأمر قد بدأ بشكل مبكر منذ بدء التدخل العسكري الأمريكي في الصومال ثم في كوسوفو تحت شعارات " التدخل الإنساني " و تبع ذلك إصدار أمين عام حلف شمال الأطلسي السابق خافيير سولانا إعلاناً يدافع "عن نمط جديد من الإمبريالية مقبول في عالم حقوق الإنسان والرأي العام الكوسموبوليتي . في الوقت نفسه تقريباً، كان رئيس الوزراء البريطاني يقول، في جلساته الخاصة، أنه مؤيّد للتدخل العسكري في المستعمرات البريطانية السابقة كزيمبابوي وبورما" . و صارت لدينا حزمة شعارات "كولونيالية "جديدة مساوية لخطاب "تحضير العالم غير الغربي " الذي مارس الغربيون بحجته الإبادة و النهب و الاستيطان و التدمير . لقد صارت شعارات " التدخل الإنساني" و "التدخل لنشر الديمقراطية" و "حقوق الإنسان" ، هي الشعارات التي تتحرك تحتها الجيوش الغربية أثناء اجتياحها الدموي الجديد للعالم فمورس هذا الأمر في كوسوفو و الصومال و تيمور الشرقية و أفغانستان و العراق حتى الآن . و كان من الطبيعي أن ينبعث في المراكز الكولونيالية خطاب تمجيد الكولونيالية القديمة بالتوازي مع الكولونيالية الجديدة ، فرأينا البرلمان الفرنسي يسن تشريعاً يشيد بمرحلة الاستعمار الفرنسي للجزائر و يشيد بالمستوطنين هناك . كما مجد قادة حزب العمال البريطاني الحاكم تاريخ بريطانيا استعماري. لكل ذلك علينا أن نعود لدراسة تلك المرحلة التي تنبعث أشباحها من جديد .
كل سيطرة تبدأ بالفكر و كل تحرر يبدأ من الفكر
تبدأ الرواية "موسم الهجرة على الشمال" بعودة الراوي بعد سبع سنوات من الغربة قضاها في الدراسة في الغرب (( كنت خلالها أتعلم في أوربا . تعلمت الكثير و غاب عني الكثير ، لكن تلك قصة أخرى )) و منذ اللحظة الأولى نشعر بموقف مختلف عما اعتدنا عليه من أبناء المستعمرات الذين تعلموا في الغرب و عادوا محملين بالاحتقار لثقافتهم و لأمتهم. أما بطل الرواية هنا فليست لديه هذه العقدة . فهو يحن إلى أهله و يشعر بالاعتزاز و الامتلاء الروحي بهم . يقول
((المهم أني عدت و بي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحني النهر . سبعة أعوام و أنا أحن إليهم و أحلم بهم ، و لما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم ، فرحوا بي و ضجوا حولي ، و لم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي ، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس .ذاك دفء الحياة في العشيرة ، فقدته زمناً في بلاد (( تموت من البرد حيتانها )) . تعودت أذناي أصواتهم ، و ألفت عيناي أشكالهم من كثرت ما فكرت فيهم في الغيبة ........ ))
و يتابع الراوي العائد من الغرب وصفه الدافيء للنخيل و الرياح و حقول القمح و الطمأنينة التي يمنحها الجريد الأخضر المنهدل . لذلك يقول
(( فأحس بالطمأنينة. أحس أني لست ريشة في مهب الريح و لكني مثل هذه النخلة مخلوق له أصل ، له جذور له هدف ))
و في مكان آخر يصف جده قائلا:
(( و تمهلت عند باب الغرفة و أنا استمريء ذلك الإحساس العذب الذي يسبق لحظة لقائي مع جدي كلما عدت من السفر . إحساس صاف بالعجب من أن ذلك الكيان العتيق ما يزال موجوداً أصلاً على ظاهر الأرض . و حين أعانقه أستنشق رائحته الفريدة التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة و رائحة الطفل الرضيع . ................نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوربي ، فلاحون فقراء ، و لكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى ، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه . ))
إن هذا الاختلاف هو ما جعل هناك إمكانية للرواية فلولا هذا الاختلاف بين الراوي و بين مصطفى سعيد لما كان هناك رواية أصلاً . لكن العلاقة بين الراوي و بين مصطفى سعيد ليست علاقة اختلاف و تناقض ، فقط ، بل هي علاقة تشابه، أيضاً. لقد تعلم كل من مصطفى سعيد و الراوي في مدارس الإنكليز و غرفا من علومهم ، فكلاهما نتاج للعلاقة الكولونيالية بين المستعمر (بكسر الميم ) و المستعمر( بفتح الميم ) ، و هذا ما جعل العلاقة بين الطرفين متوترة . فإذا كان مصطفى سعيد ينجذب تلقائيا إلى الراوي يطل عبره ، و كأنه ينظر بالمرآة ، إلى ماضيه. لكن الراوي يرفض أن يكون مجرد امتداد في الحاضر و المستقبل لمصطفى سعيد لا بل إنه يخشى أن يلاقي نفس المصير . و هذا ما دعاه ليتساءل بخوف :
(( .......هل كان من لمحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد ؟ قال إنه أكذوبة ؟ فهل أنا أيضاً أكذوبة ؟ إنني من هنا . أليست هذه حقيقة كافية؟ لقد عشت معهم ......))
نتعرف على صورة مصطفى سعيد بالتدريج . فقد اختار الراوي أن يجعلنا نفعل ذلك و كأننا نجمع صورة مرسومة على لوح زجاجي كسر و تناثر إلى شظايا فكل شظية تقدم لنا جزءاً من الصورة الكلية لمصطفى سعيد ، فجزء نلمه عن لسان المأمور المتقاعد ، الذي كان زميلاً لمصطفى سعيد في المدرسة الابتدائية ، و هو يقدم لنا صورة إجمالية للتعليم الكولونيالي و وظائفه ، فيقول :
(( كانت اللغة الإنكليزية هي مفتاح المستقبل – لا تقوم لأحد قائمة بدونها . كلية غوردون كانت مدرسة ابتدائية . كانوا يعطونها من العلم ما يكفي لملء الوظائف الحكومية الصغرى – أول ما تخرجت ، اشتغلت محاسباً في مركز الفاشر . و بعد جهد جهيد قبلوا أن أجلس لامتحان الإدارة. و قضيت ثلاثين عاما نائب مأمور . تصور . و قبل أن أحال على المعاش بعامين اثنين فقط رقيت مأموراً . كان مفتش المركز الإنكليزي إلهاً يتصرف في رقعة كبر من الجزر البريطانية كلها ، يسكن في قصر طويل عريض مملوء بالخدم و محاط بالجنود . و كانوا يتصرفون كالآلهة يسخروننا نحن الموظفين الصغار أولاد البلد لجلب العوائد ، و يتذمر الناس منا و يشكون إلى المفتش الإنكليزي . و كان المفتش الإنكليزي طبعاً هو الذي يغفر و يرحم . و هكذا غرسوا في قلوب الناس بغضنا نحن أبناء البلد ، و حبهم هم المستعمرون الدخلاء )) .
و لا ينسى المأمور أن يذكرنا بأصل مصطفى سعيد الوضيع :
(( ...تأكد أنهم احتضنوا أراذل الناس ....كنا واثقين أن مصطفى سعيد سيصير له شأن يذكر . كان أبوه من العبابدة ، القبيلة التي تعيش بين مصر و السودان . إنهم الذين هربوا سلاطين باشا من أسر الخليفة عبد الله التعايشي ، ثم بعد ذلك عملوا رواداً لجيش كتشنر حين استعاد فتح السودان ))

و هذا الدور الذي لعبه المثقف الكولونيالي هو دور جد خطير فعلى أكتاف هذه الطبقة من الموظفين قام الإستعمار و استمر . يقول نصر شمالي :
((لقد احتلت لندن الهند في لحظة تاريخية انتقالية مناسبة، وفي ظروف عالمية مواتية، وحكمتها بعدد من الموظفين المدنيين الإنكليز لا يزيد عن الألف، مخصصة لهم رواتب ضخمة جداً جعلت منهم طبقة عليا متميزة، بحيث أصبحت مكانة أقلهم شأناً تفوق مكانة أية شخصية هندوسية مهما علا شأنها، فتكفل أولئك الموظفون الألف بإدارة "الخدمة المدنية" التي سيطرت على مئتي مليون إنسان، يدعمهم جيش إنكليزي لا يتجاوز تعداده عشرات الألوف في أية مرحلة من المراحل، أمّا السّر في تحقيق السيطرة الإنكليزية الشاملة فهو مئات الألوف من الموظفين المدنيين الهندوس، ومئات الألوف من الجنود الهندوس، الذين كانوا تحت إمرة الموظفين والضباط الإنكليز، والذين قاموا باحتلال وإدارة أنفسهم بأنفسهم لصالح بريطانيا، فهل اللحظة التاريخية الانتقالية الراهنة والظروف العالمية الحالية مناسبة ومواتية ليفعل الأميركيون في العراق وغيره ما فعله الإنكليز في الهند وغيرها؟
لقد أرادت لندن في القرن التاسع عشر، عبر برامج تعليمية مكثفة، تقويض الثقافة الهندوسية وإحلال الثقافة الإنكليزية محلها كشرط لديمومة سيطرتها، فما الذي نجم عن تلك التجربة؟ لقد رأى الإنكليز أن جهودهم التربوية أسفرت عن ظهور طبقة هندوسية خاصة، شملت مئات الألوف من المثقفين، تتسم بفقدان الاتزان عقلياً وخلقياً، حيث عجزت عن إدراك أبعاد الأفكار الأوروبية التي حشرت في أدمغتها، وحيث التربية الاصطناعية أنتجت مثقفاً هندوسياً مسكيناً، يتخبط في عالمه الجديد كالأعمى الذي يرغم على معرفة الألوان بوصفها بالألفاظ! يقول غوستاف لوبون في وصف ذلك المثقف الهندوسي الذي أنتجته التربية الإنكليزية: "لا شيء يعدل عدم ترابط أفكاره غير هوسه المستعصي في الكلام بلا هدوء وبلا تعقّل، فإذا لقي أوروبياً حدثه بوقار، من غير أن ينتظر جواباً، عن ترجيحه شكسبير على غيره! ولا أمر يثير الدهشة أكثر من عدم ترابط أفكار المثقف الهندوسي، فهو يفسر ما تعلمه من المبادئ الأوروبية على حساب مبادئ قومه الموروثة التي لا ينتهي إليها، ولا يستخف إلا بها أيضاً، وذلك نتيجة الهاوية التي أغرقته فيها تربيته الإنكليزية!))
و في مكان آخر من الرواية نعثر على جزء آخر من الصورة على لسان مصطفى سعيد نفسه ،فيقول أثناء محاكمته في لندن :
((...حين جيء للكتشير بمحمود ود احمد و هو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعه اتبرا ، قال له : (( لماذا جئت بلدي تخرب و تنهب ؟)) الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض ، و صاحب الأرض طأطأ رأسه لم يقل شيئاً . فليكن أيضاً ذلك شأني معهم . إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة ، و قعقعة سنابك خيل اللنبي و هي تطأ أرض القدس . البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز ، و سكك الحديد أنشأت أصلاً لنقل الجنود . و قد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول (( نعم )) بلغتهم . إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم و في فردان ، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام . ...))
و أحيانا نعثر مع الراوي على شظية متطايرة من صورة مصطفى سعيد في مكان لا يخطر على البال و بطريقة تمتزج بها الحقيقة بالخيال،فتذكر إحدى شخصيات الرواية:
(( إن مصطفى سعيد كان أول سوداني تزوج إنكليزية، بل كان أول سوداني تزوج أوربية إطلاقاً......إنه قام بدور خطير في مؤامرات الإنكليز في السودان أواخر الثلاثينات . إنه من أخلص أعوانهم . و قد استخدمته وزارة الخارجية البريطانية في سفرات مريبة في الشرق الأوسط . و كان من سكرتيري المؤتمر الذي انعقد في لندن سنة 1936 ....))
و يحول الراوي مصطفى سعيد إلى مستوى الرمز حين يقرنه بسادة أفريقيا الجدد، فيقول:
((...لن يصدق أن سادة أفريقيا الجدد ، ملس الوجوه ، أفواههم كأفواه الذئاب ، تلمع في أيديهم ختم من الحجارة الثمينة ، و تفوح نواصيهم برائحة العطر ، في أزياء بيضاء و زرقاء و سوداء و خضراء من الموهير الفاخر و الحرير الغالي تنزلق على أكتافهم كجلود القطط السيامية ، و الأحذية تعكس أضواء الشمعدانات ، تصر صريراً على الرخام – لن يصدق محجوب أنهم تدارسوا تسعة أيام في مصير التعليم في أفريقيا في (( قاعة الاستقلال )) التي بنيت لهذا الغرض ، و كلفت أكثر من مليون جنيه ، صرح من الحجر و اسمنت و الرخام و الزجاج ، مستديرة كاملة الاستدارة ، وضع تصميمها في لندن ، ردهاتها من رخام أبيض جلب من ايطاليا ، و زجاج النوافذ ملون ، قطع صغيرة مصفوفة بمهارة في شبكة من خشب التيك ، أرضية القاعة مفروشة بسجاجيد عجمية فاخرة ، و السقف على شكل قبة مطلية بماء الذهب .................... كيف أقول لمحجوب عن الوزير الذي قال في خطابه الذي قوبل بعاصفة من التصفيق : (( يجب أن لا يحدث تناقض بين ما يتعلمه التلميذ في المدرسة و بين واقع الشعب . كل من يتعلم اليوم يريد أن يجلس على مكتب وثير تحت مروحة و يسكن في بيت محاط بحديقة مكيفة بالهواء يروح و يجيء بسيارة أمريكية بعرض الشارع . إننا إذا لم نجتث هذا الداء من جذوره تكونت عندنا طبقة برجوازية لا تمت إلى واقع حياتنا بصلة ، و هي أشد خطراً على مستقبل أفريقيا من الاستعمار نفسه )) – كيف أقول لمحجوب أن هذا الرجل بعينه يهرب أشهر الصيف من أفريقيا إلى فيلته على بحيرة لوكارنو ، و أن زوجته تشتري حاجياتها من هرودز في لندن ، تجيئها في طائرة خاصة ، و أن أعضاء وفده أنفسهم يجاهرون بأنه فاسد مرتشي ، ضيع الضياع و أقام تجارة و عمارة ...........و قد قال مصطفى سعيد : (( إنما أنا لا أطلب المجد ، فمثلي لا يطلب المجد )) و لو أنه عاد عودة طبيعية لانضم إلى قطيع الذئاب هذا ، كلهم يشبهونه ، وجوه وسيمة و وجوه وسمتها النعمة . و قد قال أحد الوزراء أولئك في حفلة اختتام المؤتمر أنه كان أستاذه . أول ما قدموني له هتف : (( إنك تذكرني بصديق عزيز كنت على صلة وثيقة به في لندن . الدكتور مصطفى سعيد . كان أستاذي عام 1928 ؟ كان هو رئيساً لجمعية الكفاح لتحرير أفريقيا و كنت أنا عضواً في اللجنة . يا له من رجل. إنه من أعظم الإفريقيين الذين عرفتهم ...))
و هذا احتمال آخر للمثقف الكولونيالي يتطابق مع وصف فرانز فانون للدور الذي لعبه مثقفو العالم الثالث في بلدانهم بعد الإستقلال . يقول فانون :
(( يحدث أن تتم تصفية الاستعمار في مناطق لم يهزها الكفاح الوطني التحرري هزاً كافياً. فيتحول المثقفون الذين كانوا للاستعمار أبناءه المدللين، و هم الآن للسلطة أبناؤها المدللين، أيضاً. ينهبون الموارد الوطنية نهباً و يندفعون إلى الإثراء بالصفقات و السرقات المشروعة اندفاعاً لا يعرف الرحمة، عن طريق الاستيراد و التصدير، و الشركات المغلقة، و مضاربات البورصة، و الرشوة، على أكتاف البؤس الذي أصبح الآن وطننا يطالبون بإلحاح أن نحصر الأسواق و الفرص المواتية في أبناء الأمة وحدهم و معنى ذلك أن نحصر سرقة الأمة في أبناء الأمة )) ( معذبو الأرض )
فالمثقف الكولونيالي متعدد الوجوه و الاحتمالات ، فهو أداة السيطرة الاستعمارية و لولاه لما تمكن المستعمر من إدارة هذه البلاد الشاسعة ، كالهند و السودان ، بهذا العدد القليل من الموظفين الأجانب ، و هو جاسوس تستخدمه وزارة الخارجية البريطانية ، و هو من قادة أفريقيا اللصوص الجدد . كما انه يصح أن يصير نموذجا لإبراء الذمة و إظهار مدى تسامح الغرب. فعندما يسمحون لأمثال مصطفى سعيد بالصعود الاجتماعي و التدريس في جامعاتهم و التزوج من بناتهم فهم يبرهنون على إنسانيتهم المزعومة . تقول إحدى شخصيات الرواية :
((..كأنهم أرادوا أن يقولوا: انظروا كم نحن متسامحون و متحررون ! هذا الرجل الإفريقي كأنه واحد منا ! إنه تزوج ابنتنا و يعمل معنا على قدم المساواة ، هذا النوع من الأوربيين لا يقل شراً ، لو تدرون ، عن المجانين الذين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض في جنوبي أفريقيا و في الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة . نفس الطاقة العاطفية المتطرفة ، تتجه إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار ))
لقد ألحقت أنظمة التعليم الغربية أفدح الأضرار بالعالم الثالث ، و للمفارقة فإن هذا الجزء من التجربة الاستعمارية ما زال يعتبر مفخرة يتباهى بها المستعمرون ، كما أن كثيراً من نقاد الاستعمار الجذريين يترددون بالخوض بهذا المجال ، حيث ينظرون إلى حقل التعليم على أنه حقل حيادي لا علاقة له بالظاهرة الكولونيالية هذا إن لم يثمنوه عالياً .
يمكنك أن تجد كثيرا من المراجع عن ظاهرة الكولونيالية الاقتصادية .لكن بالمقابل لن تجد إلا القليل منها عن ظاهرة الكولونيالية الفكرية . فكما أنتجت الكولونيالية اقتصادا تابعا . فتحولت مصر ، على سبيل المثال ، إلى حقول لإنتاج القطن لمصانع النسيج مانشستر . فإن الكولونيالية أنتجت مثقفاً تابعاً تنحصر مهمته بأن يحتقر ثقافته الأصلية و يتبنى نظرة المستعمر عن أبناء قومه ، فيتكلم عنهم كما يتكلم عنهم سيده ، فيشمئز من تخلفهم و من جهلهم و يعلن أنهم لا يستحقون الحياة . أو أنهم غير قابلين للتحضر ، أو يسخر من محاولتهم التحرر من الاستعمار .
في البداية يزين لهم التبعية فيحدثهم عن رغد العيش الذي ينتظرهم إن رضوا بسيطرة المحتل عليهم وتعاونوا معه ، فإذا لم يقتنع أبناء قومه بذلك و أصروا على التمرد جال بينهم يوهن عزيمتهم و يصف لهم مشاق الطريق الذين سيسلكونه محاولاً أن يدخل في روع أبناء قومه استحالة هزيمة المستعمر لأن ميزان القوى مختل لصالحه و لأنه غني يمتلك أسلحة الدمار الشامل و كل وسائل القتل الحديثة . فإن لم يعره أبناء قومه أذناً صاغية كشف عن وجهه الحقيقي و كشر عن أنياب أسياده التي يستعيرها ليلصقها على وجهه فتراه و قد صار عينا للعدو على قومه و مشاركاً في معركة الإبادة التي يشنها هذا العدو . فإذا صمد الشعب و حانت لحظة النصر يبدل هذا المثقف الكولونيالي موقعه في الساعة الأخيرة من المعركة ، في الساعة الرابعة و العشرين ، أو في الخامسة و العشرين . فيلتحق بأبناء قومه ، الذين أنهكهم القتال و قضى المستعمر على كوادرهم الوطنية ليجد موقعه كتكنوقراط تحتاج إليه عملية إعادة بناء ما دمره المحتل . ليجد موقعه جاهزاً فيتسنم أعلى المناصب ليعود لإنتاج ظاهرة التبعية من موقعه الجديد و بأشكال جديدة !!!
كان التعليم حقلاً لإنتاج السيطرة الغربية على المستعمرات و استمر كالقنبلة الموقوتة يثير المشاكل لآسيا و أفريقيا بعد استقلالهما. و هذا ما ناقشته رواية الطيب الصالح ، التي تنظر إلى ماضي المثقف الكولونيالي عبر شخصية كل من مصطفى سعيد و المأمور المتقاعد و حاضره عبر سادة أفريقيا ، اللصوص الجدد . أما المستقبل فيتركه الراوي مفتوحاً على أفق آخر، فنراه يقول:
(( كان من الممكن أن أدرس الهندسة أو الزراعة أو الطب . كلها وسائل لكسب العيش . الوجوه هناك ، كنت أتخيلها قمحية أو سوداء ، فتبدو وجوهاً لقوم اعرفهم . هناك مثل هنا ، ليس أحسن ، و لا أسوأ . و لكنني من هنا ، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا نبتت في دارنا و لم تنبت في دار غيرها . و كونهم جاءوا إلى ديارنا ، لا أدري لماذا ، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا و مستقبلنا إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً ، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة . سكك الحديد ، البواخر ، و المستشفيات و المصانع ، و المدارس ، ستكون لنا ، سنتحدث لغتهم دون إحساس بالذنب و لا إحساس بالجميل . سنكون كما نحن ، قوم عاديون .....))
إن المدخل لبناء المستقبل هو التحرر من علاقة ( شمال – جنوب ، أو سيد – عبد ) و إلا ستبقى أزمة الانتماء تلح بشكل خاص على المثقفين الذين يجدون أنفسهم عالقين بين الشمال و الجنوب لذلك يبقي الراوي الأفق مفتوحاً على علاقة سليمة في المستقبل بعد أن تزول علاقة المستعمر(بكسر الميم ) – المستعمر ( بفتح الميم ) دون أن ينسى أنه كمثقف وطني نشأ في مدارس الغرب يجد وضعه عالقاً بين الشمال و الجنوب و هذا ما يحيل الرواية إلى مزيد من التوتر و الاحتمالات المفتوحة . يقول الراوي:
(( ووصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى النهر في القاع تشدني إليها . سرى الخدر في ساقي و في ذراعي ، اتسع البهو و تسارع تجاوب الأصداء ............رفعت قامتي في الماء . سمعت دوي النهر و طقطقة مكنة الماء .تلفت يمنة و يسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال و الجنوب . لن أستطيع المضي و لن أستطيع العودة ...))



#ثائر_دوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفقراء فئران تجارب أغنياء الحضارة المعاصرة !!
- في العالم المعاصر الصحة تعني المرض
- جحيم بغداد اليومي
- الإعلام بين السل و انفلونزا الطيور
- صدام الهويات المصطنع
- العالم يتمرد
- لشو الحكي خلص الكلام
- من مطبعة نابليون إلى انتخابات رايس
- تقديس الداعين إلى نموذج الحضارة الغربي على طول الخط
- بوش قصف لويزيانا بالقنابل
- تل عفر تصحح مسار التاريخ بعد مائة عام
- البحث الأمريكي عن إسلاميين معتدلين
- احتلال عقول النخب
- الصغائر و الكبائر عند عمرو موسى
- عصر الظواهر التلفزيونية
- كم هو عدد مساعدي الزرقاوي ؟
- الإحتلال هو اكبر اعتداء على الحرية الفردية و هو مصدر كل الدك ...
- قمة الأغنياء : القضاء على الفقر أم على الفقراء ؟
- خرافة الحرية التي تعم العالم
- تقلبات ا لطبقة السياسية اللبنانية


المزيد.....




- الرد الإسرائيلي على إيران: غانتس وغالانت... من هم أعضاء مجلس ...
- بعد الأمطار الغزيرة في الإمارات.. وسيم يوسف يرد على -أهل الح ...
- لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا ...
- ما حجم الأضرار في قاعدة جوية بإيران استهدفها هجوم إسرائيلي م ...
- باحث إسرائيلي: تل أبيب حاولت شن هجوم كبير على إيران لكنها فش ...
- ستولتنبيرغ: دول الناتو وافقت على تزويد أوكرانيا بالمزيد من أ ...
- أوربان يحذر الاتحاد الأوروبي من لعب بالنار قد يقود أوروبا إل ...
- فضيحة صحية في بريطانيا: استخدام أطفال كـ-فئران تجارب- عبر تع ...
- ماذا نعرف عن منشأة نطنز النووية التي أكد مسؤولون إيرانيون سل ...
- المخابرات الأمريكية: أوكرانيا قد تخسر الحرب بحلول نهاية عام ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ثائر دوري - الوجوه المتعددة للمثقف الكولونيالي في رواية (( موسم الهجرة إلى الشمال ))