أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير ابراهيم تايه - في مديح الموت وذم انقطاعاته















المزيد.....

في مديح الموت وذم انقطاعاته


منير ابراهيم تايه

الحوار المتمدن-العدد: 5447 - 2017 / 3 / 1 - 11:17
المحور: الادب والفن
    


"في اليوم التالي لم يمت أحد"
ولأن الحدث مخالف للمنطق واعراف الحياة فقد أحدث ارتباكا هائلا في النفوس فلم يحدث على مر تاريخ الكون ان مر يوما بساعاته الاربعة والعشرين كلها دون ان تحدث وفاة واحدة... فغياب الموت هو الفوضى بعينها وهو أسوأ ما يمكن أن يحدث للجنس البشري وللمجتمع.
اسم الرواية " انقطاعات الموت" تحكي عن الموت الذي توقف فجأة عن اداء وظيفته، تبهرك الفكرة، فتقرأ بنهم ، فمن اكثر الأمور حساسية وصعوبة الحديث عن الموت، التعـاطي معه خارج الإطـار الديني يسبب مشـاكل فكـرية وعقائديـة للمتديّنين.. والتحدث عنه خارج الإطــار العلمي، يؤدي إلى تشنّج العلمييــن الذين يؤمنون بالجانب المـادي العضــوي في تفسير ظواهر الكون، لقد شغلت الرغبة في التعرف الى حقيقة الموت أذهان العلماء والفلاسفة منذ القديم، فكانت لهم تصوراتهم المستمدة من مذاهبهم ومواقفهم الفكرية؛ فكان منهم من تمثل الموت تمثلا ماديا فلم ير فيه أكثر من توقف للجسم عن أداء وظائفه الفسيولوجية لسبب طبيعي، أو لسبب مفاجئ يختم العمر. وكان منهم آخرون تمثلوه تمثلا روحيا يتم فيه فك الارتباط بين الروح والجسد ليكون ذلك مرحلة ضرورية للخلوص إلى مرحلة جديدة تتجلى فيها الحياة تجليا آخر أرقى وأشرف.
ولكن.. ماذا لو لم يكن هناك موت؟ ماذا لو توقّف الموت؟ وماذا لو رفض أحدهم أن يموت؟ ماذا لو حيينا في عالم لا موت فيه ، فلا طفل يموت ولا شاب ، ولا رجل ولا امرأة. عالم يتحقق فيه حلم الإنسانية الأعظم منذ بدء الحياة ، التمتع بحياة أبدية على الأرض ؟ هل سيكون أمراً يستحق كل هذا التفكير الذي قمنا به ؟ وهل سنجد السعادة التي تخيلناها مرافقة لهذا الحلم ؟
السؤال فرض نفسه مما جعلني افكر في معنى الموت وأهميته والمغزى من حتمية وجوده، عندما بدأت قراءة رواية "انقطاعات الموت" للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، صاحبني السؤال منذ البداية وجعلني أدرك نوعا ما أن معنى الحياة يأتي من وجود الموت، وأن الموت ليس مخيفا ومرعبا بل إنه أساسي من أجل استمرار الحياة، وهذا ما يجيب عنه ساراماغو في هذا العمل المبهر حيث يأخذ على عاتقـه مسؤوليـه توضيـح أهميـة المـوت وهـى مهمـة ليست سهلـة ، فمـن منا يحب أن يمـوت ؟
خوسيه ساراماغو يعتمد في رواياته اسلوب طرح السؤال: ماذا سيحدث لو؟ ففي روايته "العمى" اعتمد على سؤال: ماذا يحدث لو أصيب النّاس بالعمى؟ وفي روايته "الطّوف الحجريّ"، يسأل ماذا لو انفصلت شبه الجزيرة الإيبيريّة عن أوروبا، وأبحرت في قلب المحيط الأطلنطي؟ وهنا يتساءل ماذا لو توقّف الموت عن قتل النّاس؟ الأسئلة والبحث هما سحر ساراماغو،...
استيقظ أهل المدينة يوما على حقيقة أن الموت توقف عن المرور بهم، فأصبح الجميع فجأة خالدين. فهل سيكون خبرا سعيدا جدا وأمنية طالما تمناها البشر؟
الرواية تلقي الضوء على الآثار السلبية لاختفاء الموت على حياة الانسان، وكيف لجأ الناس إلى الكنيسة ليصلوا للرب ويتوسلوا إليه بأن يعيد إليهم الموت مرة أخرى حتى تستمر الحياة.
فمنذ البداية تغزونا الرواية بجملة اسئلة...
يتوقّف الموت عن القتل في بلدة صغيرة بعد الساعة الثانية عشرة من رأس السنة، ولمدة سبعة اشهر متتالية. في البداية كان إضراب الموت عن عمله كافيا ليبعث حالة من الفرح العارم لدى اهالي البلدة ، إذ نكّسوا الأعلام على الشرفات ، كمبادرة للتعبير عن مدى رضاهم وسرورهم، لكنهم شيئا فشيئا يدخلون تدريجيا في القلق، وتبدأ فئات المجتمع على اختلافها في البحث عن حلول لهذه المأساة، لا موت في الأنحاء، وإلاحساس بالكارثة يتعاظم.
ماذا سيحدث للعائلة التي يتراكم فيها كبار السن الذين يعانون من أمراض لا حصر لها نتيجة تعرض أجهزة أجسادهم للعطب الكلي أو الجزئي، وكيف سيتصرف الأبناء مع وجود أجداد وأجداد يضاف إليهم المزيد من كبار السن مع تقدم الأيام، وكل منهم يحتاج العناية والرعاية بعدما ردوا إلى أرذل العمر، لنرى الوجه الآخر المبتذل للخلود عندما تصبح الحياة الهرمة والكئيبة متواصلة، و يصبح المرض العضال مستمرا بلا طائل، ويصبح الألم الجسدي عبئا على صاحبه وعلى من حوله، فلم يبق بين الأحياء من هو قادر على العناية بالعجزة الذين لا يموتون ولم تعد دور رعاية المسنين تتسع لأحد ويغدو الموت أمنية لا تطال..
المستشفيات والمراكز الطبية تكتظ بالمرضى الذين يعانون من امراض خطيرة ومميتة واسرتها التي لا تشغر ولا تكفي ممراتها للمرضى الذين لم يعد بعضهم يغادر إلى "ثلاجة الموتى"، فسنة الحياة أن الناس تمرض ثم تشفى وتغادر المستشفى، أو تمرض ثم تموت وبعدها تغادر المستشفى للدفن، ليأتي مكانهم آخرين لتلقي الخدمة العلاجية.
وكيف ستتصرف الهيئات الحكومية المختصة بالتقاعد والضمان الاجتماعي مع الاعداد الكبيرة من الذين يخرجون من سوق العمل ولكنهم لا يخرجون من الحياة، ومن حقهم أن ينالوا رواتب تعينهم في حياتهم الطويلة المقبلة.
وشركات التأمين التي تؤمّن على الحياة مع انعدام الموت، وما هو مصير الآلاف الذين يكسبون لقمة عيشهم من مهن متعلقة بالموت، كحفاري القبور، وشركات تجهيز الموتى الذين أصبح لا عمل لهم، ماذا يفعلون بعد أن انقطع الموت عن الناس؟
السلطة الدينية تقع في حيرة، إذ يعلن الكردينال: "من دون الموت لا وجود للانبعاث، ومن دون الانبعاث لا وجود للكنيسة" ...
كذلك دور المسنين ما عادت تتسع للعجزة ،فطالبت الحكومة بإنشاء دور كبيرة لها للتخفيف من المعضلة، ناهيك عن الانعكاسات السلبية لعمل عدد كبير من الفئات الشابة في خدمة الكبار، فأضحوا - كما يصفهم ساراماغو- كالحوت العظيم الذي يأكل الصغار، فعمدت مؤسسات تجهيز الموتى ودفنهم، للاستعاضة عن دفن الإنسان بالحيوان لتفادي الإفلاس، أما مؤسسات التأمين على الحياة فصارت على شفير الهاوية، وتذمر الأهالي أنفسهم من مرضاهم الميؤوس من شفائهم، ومن الشيوخ الطاعنين في السن، فعملوا على نقلهم إلى خارج حدود بلادهم المحصنة ضد الموت، كي يلقوا حتفهم حيث لا يزال الموت ممكنا..
لوهلة يخترق سمعك صراخ الكائنات "لا أريد هواء، أريد أن أموت!"... ثم يلفتك تضرّع الجميع من أجل عودة الموت، ولكن يصدمك أنه حتى في الموت يستعمل الناس نفس الأسلحة الحقيرة التي أفسدت الإنسانية، الفساد والرشوة والتّخويف وشبكات المافيا.
الرواية رغم انها مرهقة وتحتاج إلى كثير من الصبر عند قراءتها، لكنها مثل فنجان قهوة، فالقهوة توقظ مشاعرك وأفكارك وتجعلك أكثر تركيزا، أفكار وتحليلات ومنطق وفلسفة لوضع متخيل أساسا، الحوار غير تقليدي ولا يفصل بين المتحاورين سوى فواصل ما يجعل عملية تتبع القائل مسألة مرهقة، تبدأ الرواية بجملة "في اليوم التالي لم يمت أحد" وتنتهي بنفس الجملة، وبعد أن يستمتع الموت بمذاق الموسيقى يقرر أن يُبقي على عازف الفيولونسيل على قيد الحياة، ان غياب الموت هو الفوضى بعينها وهو أسوأ ما يمكن ان يحدث للجنس البشرى وللمجتمع...
كلنا يعلم أنّ الموت والحياة شقيقان، لكنّنا لم نستشعر المأساة والكارثة في غياب الموت مرّة واحدة وإلى الأبد، الخلود لا يعني أن لا تموت أو ان تبقى على قيد الحياة في انتظار الموت. الخلود أن تحيا لحظة تبقى للأبد..
إن ساراماغو لا يذكرنا بالموت ليدفعنا للخوف والقلق، ولكنه يسعى إلى تكريسه كفكرة بديهية لدينا، ولازمة لابد منها لكي تستمر الحياة!



#منير_ابراهيم_تايه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللغة العربية الضائعة في جاهلية اهلها
- صناعة العزلة؟
- الهوية الحائرة... تغريبة -الحسن الوزان- او -ليون الافريقي-
- بوصلة السماء
- هل الاسطورة هي الخرافة؟
- في بلد العميان
- هوس الكتابة.. وطقوس لا تخلو من الغرابة؟!
- أدباء وشعراء -منحوسون- واحلام على قائمة انتظار -نوبل-؟!
- وعد بلفور.. بيت العنكبوت الذي صار حصنا
- من هم البرابرة*؟
- -الساعة الخامسة والعشرين- عرت الوجه الحيواني للانسانية
- --الغابة النرويجية- للياباني هاروكي موراكامي اليابان بين نقد ...
- تصريح -بلفور- وعد ام عقد مشاركة؟
- صناعة الغباء والتلاعب بالعقول؟
- بين الضوء والظل .. اللامنتمي!!
- قيس بن الملوح... امام العاشقين
- -قناديل ملك الجليل- لابراهيم نصر الله.. رواية الثورة والحلم
- -أبناء الأيام- لإدواردو غاليانو: متحف الذاكرة الإنسانية
- -النفوس الميتة- ثقب في ضمير الانسانية!!؟
- رضوى عاشور في -الطنطورية- تعيد سرد تاريخ النكبة الفلسطينية


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير ابراهيم تايه - في مديح الموت وذم انقطاعاته