أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عقيل الناصري - دراسة في حركة الضباط الأحرار4-6















المزيد.....



دراسة في حركة الضباط الأحرار4-6


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 1431 - 2006 / 1 / 15 - 11:10
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


3- كتلة رفعت الحاج سري ورجب عبد المجيد: (4-6)
(طموح المسالك المتنوعة)
كانت الفكرة الإنقلابية تلوح كالشبح الهائم في اجواء البلدان الشرق أوسطية في مطلع الخمسينيات وإن كانت منابعها تختلف وأهدافها تتباين, فبعضها كان نتاج لعملية الصراع الدولي والحرب الباردة ومحاول الولايات المتحدة لتطبيقها في ظروف هذه المنطقة. في حين إن البعض الآخر, وهذا ما ينطبق على ظاهرة حركة الضباط لأحرار, كان نتاج لفشل الحكومات المحلية على تحقيق الأهداف الوطنية العامة بشقيها الداخلي والعربي.
وتأسيساً على ذلك فالفكرة الإنقلابية لم تدر في خلد ضابط معين أو مجموعة من الضباط, بل كانت تدغدغ عواطف العديدين منهم. وعليه فكل الكتل التي تأسست آنذاك بدون إستثناء كانت في البدء, حلم يقظة يومي أو هوى فردي, أو على الأقل كانت موضوعاً لم يستكمل ذاته, كضرورة تعبر مضامينها عن فكرة غائية محددة الأبعاد يتحسسها الضباط الأكثر وعياً.
ونحن لا نبتعد عن الحقيقة والموضوعية عند القول, كان من بين هؤلاء الذين تأثروا بالفكرة وبدور الضباط في الحياة السياسية, رفعت الحاج سري, نظراً لمهنوية أسرته (العسكرية) وتركيبته الاجتماعية والثقافية والنفسية وطموحه الذاتي الجامح, إذ سبق وإن كان من أوائل الضباط الذين شاركوا في وعي ومن ثم خلق ونشر فكرة التكتل الغائي للضباط وإستعادة (دورهم التاريخي) في إدارة السلطة, بالتوافق مع المفهوم البروسي المُحدث ونسخته الشرق أوسطية:
- الأتاتوركية في تركيا؛
- والشريفيون في العراق (منهم ياسين الهاشمي وطه الهاشمي ونوري السعيد وجعفر العسكري وعلي جودت الأيوبي ومولود مخلص وجميل المدفعي, خال رفعت , وغيرهم)؛
- ومن كرازمية الناصرية بعد عام 1954 وهو تاريخ خروجها من مصريته إلى عروبته.
ويشير الأدب السياسي للتيار القومي إلى أن العقيد رفعت الحاج سري, كان المؤسس الأول لحركة الضباط الأحرار في العراق. هذا الإدعاء لا يمثل سوى جزء من الحقيقة, إذ يمكن أن يكون المؤسس الأول للتيار القومي في الحركة التي تكونت عام 1952 وهو ما كان فعلاً, ولكن ليس للضباط الأحرار بصورة عامة. فإذا إعتبرنا إن تكتل الضباط الوطنيين في فلسطين هو أول تنظيم غائي, فرفعت كان أحدهم, ولكن رتبته العسكرية (رائد) لم تؤهله ليحتل مركز الصدارة في هرم التنظيم الذي كانت الأولوية فيه للتراتيبة العسكرية, لأن الدور الأرأس في في إدارة وتنشيط " تنظيم الضباط الوطنيين" عام 1948 كان لكل من الربيعي وقاسم, أكثر مما لسري, من جهة, ومن جهة أخرى, توضح تاريخية المؤسسة العسكرية إن إنتشار التكتلية كان قبل عام 1952 كما مر بنا, بل كانت قائمة حتى قبل 1948 وإن لم تكن مبنية على أسس ومبادئ وطنية شاملة, التي إتسمت بها منذ حرب فلسطين, حيث تبلورت فكرة التنظيم الغائي. كما لم يشر تاريخ الحركة إلى تبوء رفعت رئاستها حتى لم يكن ضمن قوام الهيئة العليا للضباط الأحرار إلا من الناحية المعنوية والشكلية. وقد ترأس كتل صغيرة ضمت ضباط من متوسطي و صغار الرتب على الأغلب, كذلك أنه لم يعمل مع كتلة القادة( بغداد), رغم تعينه ضمن هيئتها العليا.
وتأسيساً على ذلك وإعتماداً على ما نشر من مذكرات ووقائع, يمكننا إعتبار عام1950, عام تأسيس حركة الضباط الأحرار ذو التوجه اليساري والوطني ذو النزعة العراقية. في حين يعتبر عام 1952, تاريخ تأسيس التيار القومي في الحركة ذاتها. وكما مر بنا سابقاً, ففي عام 1950 تكونت: كتلة ما بين النهرين ذات التوجه اليساري؛ كما بدأت كتلة الزعيم قاسم بالتشكل وغيرها من الكتل الصغيرة القائمة على الولاءات الدنيا غير الولاء الوطني.
لا يستطيع الباحث الجاد أن يقرر بصورة حاسمة ويقينية وبالأدلة القطعية, متى وكيف تشكلت كتل الضباط الأحرار ومن كان المؤسس الأول لها. فالكل, مع إستثناءات قليلة, تحاول إبراز ذاتها على حساب الآخرين أو تعطي لذاتها الفردية أو التكتلية, على غير إستحقاقها, مكانةً أو دوراً بالقرب من القادة المحوريين في الحركة. تفصح مذكرات عبد السلام عارف, عن ذاتها بكونها النموذج الأكثر وضوحاً لهذا الإستنتاج, في الوقت الذي تشير فيه مذكرات إسماعيل العارف وجاسم العزاوي وصبحي عبد الحميد وعبد الكريم فرحان ومحسن حسين الحبيب إلى ما يشابه ذلك, بالرغم من تضارب مضامينها المتسمة بالأنوية وبالكثير من اللا موضوعية والا دقة. أما حول بدايات التكوين يشير إسماعيل العارف, على سبيل المثال, إلى بداية عمله مع رفعت الحاج سري أثناء وثبة تشرين 1952, بالقول :
" وربما يتضح في ما بعد أن كثيراً من الخلايا قامت في الفترة نفسها. ولكن الأكيد أن كل هذه الخلايا أو ما إستطاع الإستمرار منها لم يلبث أن إنصهر في بوتقة الحركة الواحدة التي قادت الثورة, وما أرويه هنا هو قصة الخلية التي ساهمتُ في تأسيسها والتي لست متأكد من أنها الخلية الأولى التي إتسعت لاحقاً لتضم في صفوفها أبرز قادة الثورة ".
يدلل النص بوضوح على أن هنالك خلايا (ربما) قامت في الفترة ذاتها, وبالتالي لا يمكن الإدعاء بأن كتلة رفعت كانت أول تنظيم للضباط الأحرار, خاصةً إذا أخذنا بالإعتبار الإرهاصات التنظيمية لعام 1948, وما سبق شرحه بصدد الكتل ذات الطابع الوطني واليساري النزعة. لكن يجب التأكيد على القول أن رفعت الحاج سري كان, بحق, أحد المؤسسين الأوائل لحركة الضباط الأحرار, في الوقت نفسه لا توجد دالة معلومة ومؤكدة توضح من هو المؤسس المحوري الأول دون غيره. ولذا فإن حركة من هذا القبيل, كانت في البدء ذات صفة جمعية وليس فردية, وهذا ينسجم ودرجة النضج الذاتي للحركة ذات الطابع السري والتي ظلت بعيدة عن أن تؤكد ذاتها كظاهرة في المؤسسة العسكرية في مطلع الخمسينيات. كان رفعت وبحكم مهنويته, ينحو في حياته العسكرية نحو هذا الهدف. وكان من الأوائل الذين إنتظموا في هذه الحركة منذ بداياتها, سواءً في شكلها الفردي أو التكتلي الجمعي, كما في فلسطين, حيث لم يلعب الدور الأرأس فيها, بقدر ما كان ضمن قوام قيادتها العليا الفاعلة.
يحدد محي الدين عبد الحميد بداية العمل خلافاً لما طرحه رجب عبد المجيد تبناه بطاطو, بالقول:
" منذ حرب فلسطين 1948 بدأ الضباط يتحسسون بالأمور الوطنية وما آلت إليه قضية فلسطين, فقسم كبير من الضباط بدأوا يعملون ويتكتلون ويجتمعون ولكن بدون قيادة. في فلسطين كان المحور هناك هو رفعت الحاج سري الذي بدأ يتصل بالضباط وسبق أن ذكرت أنه أتصل بنجيب الربيعي فهذا الإتصال أدى إلى إتصالات أخرى بعد 1948, فالأخ رجب لم يذكر شيء عن الفترة 1948-1952 يعني بعد ثورة مصر, إذ إتصل هو بالضباط وبدأ يعمل, ولكن في هذه الفترة كانت هنالك إتصالات بين ضباط كثيرون... ولكن في تلك الفترة كان الكثير من الضباط يعملون ونشأت تكتلات ربما لا نعرف عنها شيئاً.
بالنسبة لي كنت أتصل دائما برفعت الحاج سري منذ 1948... وبين الحين والآخر عندما كنت أزور بغداد أزور رفعت وكان الأخ خليل يحضر معنا ونتداول بالأمر, وكان رفعت يتحدث لي عن الكتل التي كانت تصدر منشورات في تلك الفترة في 1954و1955... يجب علينا أن لا ننكر على الناس الذين أشتغلوا قبلنا في سنة 1948إنهم كانوا متحمسين ويعملون. ولكن يجوز أنه لم تكن لهم قيادة " بل لنقل أنها لم تتبلور في هيكل تنظيمي محدد الأبعاد, دائم العمل وذو قيادة معترف بها. (التوكيد منا-ع.ن).
كان رفعت الحاج سري من الضباط القلائل الذين ثابروا على مواصلة العمل.. وقد تعمق ذلك بعد نجاح الانقلابات العسكرية في سوريا في البدء ومن ثم في مصر ولبنان, حتى أنه أراد التماثل مع الرئيس ناصر في قيادة الحركة وهما كانا في ذات الرتبة الصغيرة. لكن رفعت لم يستطع بلوغ ذلك لأن هناك في حركة الضباط الأحرار في العراق, خلافاً لمصر, من كان أعلى رتبة منه وأكثر كفاءة عسكرية وسياسية ومرونة فكرية وتجربة عملية من جهة؛ ولديهم تنظيم اوسع من الكتلة التي كان يعمل فيها رفعت من جهة ثانية؛ وأن التراتيبية العسكرية العراقية كانت الأقرب قبولا من التراتيبية الحزبية من جهة ثالثة. وعليه كان في العراق قادة ينافسون المقدم رفعت الحاج سري في قيادة التنظيم, من أمثال: الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن محي الدين عبد الحميد والعقيد الركن ناجي طالب والعقيد الركن عبد الوهاب الشواف وغيرهم من الذين كانوا في نفس رتبة سري أو قريباً منها, ولديهم ذات الطموح من قبيل: رجب عبد المجيد وصبيح علي غالب ووصفي طاهر وطاهر يحيى. لذا لم يساير رفعت أغلب هؤلاء بل إتجه نحو التكتل الغائي المنفرد المعترف بزعامته مع الفئة الوسطى من الضباط الآمرون (عقيد- رئيس أول) والأعوان (رئيس-ملازم ثاني) وليس مع القادة. كان هذا الطموح بمثابة بوصلته في التحالف والعمل المشترك مع بقية الكتل. وهذا ما يلاحظ, كما مر بنا, عندما كون تنظيماً, خلا من الرتب العليا, يأخذ على عاتقه إسقاط السلطة في 11مايس 1958. وعليه دأب رفعت على تكوين سمعة لنفسه وسط زملاءه في المؤسسة العسكرية, ضمن حدود مفاهيمه الدينية والاخلاقية, المتسمة بالتزمت و الصرامة, والابتعاد عن المحرمات الدنيوية المتعارضة مع قيمه الإسلامية ونظرته الاجتماعية وهندسة أبعادها. كما كان متأثراً بالمروث الاجتماعي/الثقافي السائد. هذه السمعة حققت له شيء محدود من الكارزمية في عالمه العسكري وخلقت ثقة لديه في إداء دور مهم في الحياة, وتغذت هذه النزعة من موروثه العائلي (الأرستقراطي) العسكري.
أما بصدد أسس التنظيم وإنسيابه العملي الذي سار عليه رفعت, فهي"... وفي أحد الإجتماعات إتفقنا على بعض الأسس التي ينبغي إتباعها لضم الضباط الجدد إلى الحركة. فكان على العضو أن يرشح الضابط, وبعد أن يتم الإتفاق عليه يراقبه لفترة لا تقل عن ثلاثة أشهر ويتأكد من إرتباطه وأحاديثة ويطمئن إلى إخلاصه ووطنيته وعدم إرتباطه بأجهزة الاستخبارات أو الأشخاص الذين يرتاب من تصرفاتهم وعلاقاتهم وبعد ذلك يفاتحه ويكون مرتبطاً به وحده. وإشترط أن لا تقل رتبة الضابط الذي يفاتح عن ملازم أول ولا تزيد على العقيد وتجنبنا مفاتحة الضباط الكبار لإرتباط معظمهم بالنظام الملكي.
ولذا قررنا أن يكون العمل سرياً للغاية وحرمنا إستعمال الكتابة مهما كانت الظروف, وشددنا على الإعتماد على الإتصال الشخصي في تبليغ المعلومات أو التداول حول القضايا التي تخص الحركة, وأن يكون إرتباط العضو الجديد بالشخص الذي نظمه أو فاتحه فقط ولا يكشف عن أسماء الأعضاء الآخرين ". ( التوكيد من-ع.ن).
هذه الطريقة في العمل وقبول الأعضاء الجدد تكاد أن تكون واحدة من حيث المبدأ لدى كافة الكتل , لكن يجب الإشارة إلى دور العلاقة الشخصية بين الضباط التي لعبت الدور الأرأس في المفاتحة بالإنضمام للحركة من جهة, ومن جهة أخر لم تطبق هذه المبادئ بحذافيرها, حيث لاحظنا في قوائم حركة الضباط الأحرار من كان برتبة ملازم ثاني خلافاً لما ذُكر أعلاه. ومن جهة ثالثة أن القبول قد أنحصر برتبة العقيد فما دون ,كما مر بنا, لأن رفعت لا يستطيع أن يتبوء مركز الصدارة في التنظيم إذا ضُم من هو أعلى منه رتبةً, وهذه كانت أحد الأسباب الأرأسية وراء عدم موافقته على العمل في اللجنة العليا وقبلها في كتلة القادة ( بغداد). كما إتضحت هذه الحالة بأسطع صورها, في علاقته برجب عبد المجيد, الذي فكرته "تعتمد على مفاتحة الضباط ذوي المراتب العليا وضباط الركن بخاصة, نظراً لأن رتبته كانت بهذا المستوى ولعدم وجود علاقات إجتماعية له مع الضباط الشباب على الرغم قد دَرَسَ لأعوام في الكلية العسكرية فأنا أحد طلابه وأعتز به كثيراُ, ولكن مزاجه العصبي وتشنجه المستمر وإنفعاله السريع لأتفه الأسباب ضيع عليه الفرصة لكسب أحد من طلابه. أعتقد أن ميل الأخ رجب لنوعية الضباط المذكورين هو لكونهم يقودون قطعات عسكرية إو هم مرشحون لذلك بعد مدة قصيرة لاحقة... إنها فكرة إنقلابية- تؤمن بالانقلاب العسكري- يقوم به أفراد وتقود بالتالي إلى الفردية والدكتاتورية ... ".
ويؤكد هذه الحالة (الوحدة- الإختلاف) بين سري وبقية رفاقه عند تشكيل هيكلية كتلة القادة (بغداد) وبعدها حيث "... قبل تشكيل أعضاء اللجنة العليا قلت لابد من أخذ رأي رفعت الحاج سري لأني بدأت العمل معه لأخذ رأيه في اللجنة العليا, ذهبت إلى رفعت رحمة الله فإعتذر في أول الأمر, وقال نحن لا نحتاج إلى قيادة والوقت سابق لأوانه الآن. دعنا فترة أخرى, قلت له: لنفترق إذا أنت لم توافق على تشكيل اللجنة العليا ولم تأتي معنا سنفترق, أنت في طريق وأنا في طريق ... " ( التوكيد منا-ع.ن) وأستمرت هذه الحالة بينهما لغاية 14 تموز.
لعب التنافس بين الضباط الأحرار دوراً في تكوين وتفرق بعضهم وخاصةً أولئك الطامحين للزعامة, الذين يرون في أنفسهم أحق من غيرهم من أصحاب الرتب الأعلى في كتلتي المنصورية والقادة التي أصبحت مركز ثقل اللجنة العليا لاحقاً, وزداد وزنها بعد توحيد الكتلتين, حيث كانت رتبة أغلبهم أعلى, من رتبة سري في فترة تكون هذه التنظيمات. في الوقت نفسه, كما تشير كثير من الدلائل, إلى أن رفعت قد إستمر بالمثابرة على كسب الضباط إلى كتلته الجديدة التي بدأ بتكوينها بعد عودة الجيش مباشرةً من حرب فلسطين الأولى. وقد ذكر هذه الحقيقة على سبيل المثال: محي الدين عبد الحميد؛ عبد الرزاق محمد سعيد؛ عيسى إسماعيل الشاوي؛ شكيب الفضلي؛ وغيرهم. إذ لم يتكون في البدء مركز قيادي واحد يأخذ على عاتقه عملية إعادة التنظيم, وقد كان المحوريون رفعت ومحي الدين عبد الحميد وإسماعيل العارف يتداولون مع بعض أصدقاءهم من الضباط حول الوضع العام وإمكانية مساهمتهم في الحياة السياسية.
وقد كللت هذه المثابرة نفسها بتكوين هيكلة تنظيمية قائمة على أساس خلوي, تضم كل خلية عدد محدود من الضباط, تطورت لاحقاً "... إلى تنظيم وتأليف لجنة لقيادة التنظيم في نهاية عام 1951ومما يؤيد تحليلنا هذا هو أن أكثر أعضاء لجنته كانوا من ضباط دورته المارة ذكرها, وها أنني أثبت بعض الأسماء للتدليل وليس للحصر متجنباً ذكر الرتب العسكرية لكل منهم وهم: إسماعيل العارف, نعمان ماهر الكنعاني, وصفي طاهر, مجيد جليل, عبد الوهاب الأمين, صالح مجيد السامرائي ومحي عبد الحميد وغيرهم ". ومن الملاحظ أن الرجل الذي لعب دوراً في هذه الكتل لاحقاً لم يكن من المؤسسين الأوائل لها .. وأعني به رجب عبد المجيد. ومن هذا المنطلق أني سأقترب من الحقيقة أكثر فأكثر, إذا أطلقتُ على هذه الكتلة أسم كتلة سري – محي الدين, نظراً لما لعباه من دور في تنظيمها قبل إنشطارها بعد إنضمام رجب عبد المجيد, الذي سلط الأضواء على ذاته أكثر من الآخرين في كتلة القادة (بغداد).
لقد كثرت المصادر التي أشارت إلى أن فكرة التكتل الغائي للضباط في العراق " كانت مستوحاة من إنقلاب جمال عبد الناصر ومجموعته الصغيرة من الضباط الأحرار ضد فاروق يوم 23يوليو/تموز 1952, الذي شكل بداية الثورة المصرية الحديثة ". إن هذا الرأي لم يستطع أن يثبت واقع تاريخيته الصحيحة. إذ عرفنا من الصفحات السابقة, أن التنظيم الغائي لحركة الضباط الأحرار في العراق, وقبلها مساهمة الضباط العراقيين في السياسة, يعود لفترة طويلة قبل مساهمة زملائهم المصريين بسنوات. كما أن مساهمة رفعت الحاج سري كما أتضح سابقاً, تسبق قيام الثورة المصرية بعدة أعوام . إن هذا الرأي الذي تبناه بطاطو يعود إلى إعتماده على مصدر رئيسي واحد تقريباً, وهو مخطوطة مذكرات رجب عبد المجيد, الذي يذكر ذلك صراحةً هذا من جهة, ومن جهة ثانية ربما أراد بطاطو الإشارة إلى وجود تماثل شكلي حسب بين تنظيمات الضباط الأحرار من خلال إستلهام العراقيين عبارة (الضباط الأحرار) من الثورة المصرية. وهذا الرأي فيه وجاه منطقية, يجب الإقرار بها, كما كان النجاح السهل للمصريين قد شحذ فعلاً همم كتل الضباط العراقيين على بلورة ذاتهم وتكتلاتهم بغية تحقيق ذات الهدف. ومن جهة أخرى لم تطرح الثورة المصرية ذاتها العربية إلا بعد سنتين من نجاحها وإستلام عبد الناصر السلطة, و بالتالي لم تكن في حينها تمثل منطلق إستقطابي قومي, بل على العكس فقد نددت الأحزاب السياسية في العراق بالإنقلاب بما فيها الأحزاب القومية.. وكان خروج ناصر من مصريته جاء بعد تحليل للمشكلة الاقتصادية المصرية من قبل الخبراء الأمريكان, بإعتبار أن هذا الخروج يمثل حل لمشكلة البطالة, وهو مورد مهم للعملة الأجنبية, يضاف إلى ذلك كرازمية عبد الناصر.
ومع ذلك تراجع رجب عبد المجيد نفسه, إلى حدٍ ما, في موقفه من دور الثورة المصرية في حركة الضباط الأحرار في العراق وتماثلها معها لأنه لا يقدر أن يحدد " الوقت الذي بدأ الضباط فيه بالتفكير بالعمل للثورة أو أحدد من الذي بدأ منهم, وأعتقد بأنك تتفق معي إذا ما قلت بأننا تسلمنا أمانة الثورة من ضباط سبقونا سنوات كثيرة, ولقد قام هؤلاء كما نعلم بمحاولات ثورية لم يكتب لها النجاح, صلاح الدين الصباغ وجماعته وقبل صلاح وبعد صلاح. كلهم كانوا يعملون من أجل الثورة حتى هيأ لها الباري عز وجل رجالاً قاموا بها في 14 تموز 1958... اما بالنسبة لأهم العوامل المعجلة والمشجعة للبدء بالعمل فهي نجاح ثورة الجيش المصري في 23 تموز(يوليو)1952... " ( التوكيد من-ع.ن).
ومن الملاحظ أن حركة الضباط الأحرار في العراق تختلف, مقارنةً بالأقطار العربية الأخرى, في الكثير من تفاصيل وظروف عملها, وغائياتها ودرجة الإنسياق مع الأنظمة العسكرية وقوام ضباطها وقادتها من الرتب العالية وتكويناتهم الفكرية وخبرتهم السياسية.. وأهم ما فيها يكمن في درجة السرية العالية التي أعتمدت في العراق مقارنةً بمصر على سبيل المثال, والأهم, حسب قراءتي, يكمن في عدم إرتباط الحركة بالعراق بأية قوى خارجية لا أثناء خطاها الحثيث نحو إنضاج ظروف التغيير ولا يوم التنفيذ, وكانت وليدة قوى داخلية صرفة " متأصلة في صلب كيان المجتمع وفي صلب نظام الحكم. إذ لا يمكن أن تقوم في أي بلد حركات ثورية... ما لم يكن في البلاد إستعداد لتقبل الأفكار الثورية.. ".
في حين كانت " الولايات المتحدة ضمن أطراف متعددة تبحث عن الرجل القوي في القيادة الجديدة.. كان الرجل القوي في القيادة الجديدة يبحث عن الولايات المتحدة... وجمال عبد الناصر كلف عبد المنعم أمين يوم 23 يوليو بإخطار السفارة الأمريكية بنوايا الحركة وتوجهاتها... ".
وفي سياق سيرورة التحقيق هذه ضمن ظرف العراق الملموس, إلتقى رفعت الحاج سري في أيلول/ سبتمبر عام 1952, برجب عبد المجيد, و" إتفق الإثنان على أن يبدأ العمل السري, وإن يهتم سري بسلاح المهندسين وعبد المجيد بوحدات الهندسة الميكانيكية والكهربائية. وإتفق الإثنان كذلك, بناءً على إصرار سري, وعلى الرغم من إحتجاجات عبد المجيد, على أن تبقى المجموعة التي يكون سري مركزها منفصلة وغير معروفة للمجموعة التي سيشكلها عبد المجيد. وهكذا ولدت الحركة " على أن يحتفظ كل منهم بسرية تنظيمه وكتلته ويستمر الإتصال الفوقي بينهما. هذه الفكرة إستلها بطاطو من مسودة مذكرات رجب عبد المجيد, والذي أكدها بتعابير أخرى في مناقشات المذكورة في (الذاكرة التاريخية), لكن قد نفاها بعض شهودها كعيسى الشاوي (إنتظم عام1951) وعبد الرزاق محمد سعيد (1950) وشكيب الفضلي (1951) . هذا النفي لبداية العمل له جانبان: الأول من كونه ليس بداية تكوين البداية العام لحركة الضباط الأحرار, كما مر بنا, ومن جانب ثاني جاء هذا النفي من بعض الضباط على ضوء جزئيات التحرك العام للحركة ودور اللاعبون الأساسيون في توجيهها. وكان التأثير الأهم في نمط ومنهج تفكير هؤلاء الضباط المتأثرة بجغرافية القمع المادي والمعنوي الذي غشاها منذ الرحيل القسري للثورة وقادتها.
يبدو من الوقائع أن رفعت الحاج سري, كان يلملم شتات الضباط الذين سبق وأن إنتظموا في فلسطين ويثابر في الوقت نفسه على توسيع كتلته, وعندما إلتقى رجب عبد المجيد, كانت كتلة سري لها هيكلية تنظيمية قائمة, لذا لم يرغب في بدء العمل من صفر مع رجب ويشاركه قيادتها, حيث رغب بوضع نفسه في مصافى من سبقه, حتى يكتسي صفة القائد الرائد في الحركة. من هذا المنطلق أصر سري على أن يعمل كل منهما بصورة مستقلة. أما سر هذا الإصرار فيسلط الضوء عليه, جاسم العزاوي من منطلق تحيزه المسبق لسري, بالقول:
" لقد وجهت أنا شخصياً, إلى الشهيد رفعت, بعد علمي بوجود كتلة أخرى لولبها رجب, سؤلاً عن أسباب عدم دمج الكتلتين. صمت طويلا, كعادته في قلة الكلام, ثم تمتم بصوت منخفض قائلاً: " إن رجب لا يمكن العمل معه". ولما حاولت معرفة المزيد أدار دفة الحديث إلى موضوع آخر, ثم وجهت إليه السؤال نفسه بعد أن قرر تجميد نشاطه حينما يشعر بالمرارة والألم وإنحسار بعض رفاقه وميلهم إلى الكتلة الأخرى... وقال بإقتضاب: " إن رجب وطني غيور, ولكنه يحب التسلط وينفرد برأيه ويطمح إلى الزعامة ويصعب العمل معه ", (التوكيد منا-ع.ن). كما يكمن السر أيضاً, حسب قراءتنا, في الأبعاد الذاتوية والحساسيات المفرطة التي غشت نفسية القادة الأساسيين لحركة الضباط الأحرار ومنهم رفعت ورجب. إذ كانوا يعتقدون بأنهم أفضل من يمثل ماهياتها والأقدر على التعبير عن أهدافها والأحق بقيادتها من غيرهم. وهذا ما أتضح من خلال عمل رفعت مع الحلقة الوسطية ومن ثم تشكيل المجموعة التي حاولت تنفيذ محاولة (11مايس 1958).
وفي إطار التسابق على تحقيق فعل التغيير والتنافس على الزعامة وتكوين الهالة الصمدانية (الكارازمية) إستمر رفعت يبحث عن المؤيدين والأنصار من الرتب المتوسطة دون تدقيق كافٍ, مما أوقع كتلته في توسع كمي, وخاصةً لذوي الرتب الصغيرة, مما لا بد أن يترتب عليه, من وصول أخبار الكتلة إلى آذان السلطات الأمنية, التي أوجبت إستدعاءه للإستجواب , وترتب على ذلك نقله إلى خارج بغداد وتشديد الرقابة عليه, بحيث كبلت حركته بصورة عامة, أدت في نهاية المطاف إلى تقديمه طلب إحالته على التقاعد, التي تمت في نيسان 1958.
كانت الإستقالة من المؤسسة العسكرية أحدى دوافعها عدم إحراج خاله, عضو النخبة الحاكمة جميل المدفعي, أمام أركان الحكم الملكي, إذ سبق له أن نبه رفعت إلى ذلك قبيل حادثة الكشف في الكاظمية. ورغم ذلك بقى مستمراً في التكتل لقلب لنظام الحكم, إذ " أعاد رفعت بعد إحالته على التقاعد إرتباطه بتنظيم بغداد, لكنه لم يعد كالسابق في موقع القيادة, بقي محتفظاً بفضله في تأسيس التنظيم وإحترامه لدوره النضالي ولكنه لم يعد قادراً على أن يسهم في صنع القرار " وعندما ترأس عبد الكريم قاسم اللجنة العليا "... لم يستطع رفعت أن يغير من إتجاه تلك القرارات التي لم يستسيغها " إذ "... ظل رفعت يشعر بأنه أحق بقيادة التنظيم من غيره لسابق عمله في نشر الوعي السياسي والتنظيمي بين الضباط الأحرار. وعلى هذا الأساس قاطع اللجنة العليا ولم يحضرها منذ ظهورها وحتى إندلاع ثورة 14 تموز 1958 ". ورغم هذه الوقائع وما تتضمنها من حساسيات متبادلة وإختلافات في وجهات النظر, فقد إنعكست إحدى نتائجها لاحقاً في تمركز قيادة هذه الكتلة بيد محي الدين عبد الحميد ورجب عبد المجيد, من جهة وحرص بعض أصدقاءه القدامى على تزويد سري بمعلومات عن الحراك السياسي والتنظيمي للكتلة, من جهة ثانية. لكن رفعت قد أبقى خيوط تحرك بعضٌ من الخلايا بيده التي كانت بمثابة الورقة الضاغطة على اللجنة العليا أو الكتل الأخرى حتى يحتفظ بمكانته المؤثرة في الحركة عموماً. ومن هذا المنطلق ساهم, في أوائل كانون الثاني 1958 في إجتماع عقد في دار الرائد كامل الشماع, في تكوين كتلة جديدة أخذت على عاتقها محاولة تنفيذ حركة 11 مايس 1958, وقد ضمت قيادتها كل من: " العقيد الركن عبد الوهاب الشواف, والمقدم رفعت الحاج سري والمقدم وصفي طاهر و المقدم ماهر نعمان الكنعاني والرائد حسن مصطفى النقيب والعقيد عبد الغني الراوي والرائد خليل العلي والرائد خزعل السعدي والرائد طه ياسين الدوري والرائد كامل الشماع ".
ومن الملاحظ أن هناك ثقل نوعي كبير للضباط الديمقراطيين واليساريين في هذه الكتلة الجديدة, كما إتسم أعضاءها المنفذون بالاندفاع والحماسة تصل حد المغامرة. ويبقى السؤال المهم بالنسبة لهذه الكتلة, ينصب على ماهية الرابطة التي جمعت سري ذو النزعة الدينية/ القومية مع جمهرة واسعة من الضباط ذوي التوجهات اليسارية والديمقراطية ؟ وبم يُفسر إندفاع سري للتعاون حتى مع كتلة إتحاد الجنود والضباط التي يرعاها الحزب الشيوعي من خلال بعض ضباطها المعروفون له في هذه الكتلة ؟ وكيف يفسر أندماج هذا الخليط من الإنتماءات السياسية المتعارضة في كتلة واحدة ؟ وما هو الجامع المشترك بينها ؟ فهل هو إسقاط النظام الملكي حسب, وإذا كان نعم فما هو برنامج الكتلة وموقف القادة الأقوياء (رفعت/الشواف/وصفي) في تحقيقه, وهم المتعارضون في الإنتماءات السياسية والفكرية !؟. لم تزودنا الأدبيات المنشورة عن حركة الضباط الأحرار بما يُفيد في تعليل هذه الظاهرة الجديدة سوى إن روح المغامرة والتسابق لإحتلال الدور القيادي بين القادة الكبار لمجمل الحركة, وهذا واضح جدا من خلال التشريح الاجتماعي والنفسي لقيادة هذه الكتلة (11 مايس 1958) دون إستثناء وما رسمته سلوكياتهم السياسية من تأثير على الأحداث قبل 14 تموز أو بعدها, عندما ساهموا بصورةٍ عضوية في الفعل السياسي بعد تشظيهم وتفرقهم وما إنتابهم من عداء بلغ حد الإجتثاث المادي بعضهم البعض الأخر.
في الوقت نفسه حافظ رفعت الحاج سري على صلته السابقة ببعض الضباط الذين كونوا ما أطلق عليه بالحلقة البديلة (الوسطية), من خلال جاسم العزاوي وصبيحي عبد الحميد ومحمد مجيد, والتي كانت في حاجة إلى قائد رمزي له كرازمية في أوساط الضباط, يساندها في عملها وفي تنافسها مع اللجنة العليا, التي أصابها شيء من الركود نتيجة التأجيلات المتكررة لمحاولات الإطاحة بالنظام, وما سادها من نزاعات وصراعات أنوية وإختلافات في المواقف والتأويلات. و إستمر رفعت بعد محاولة فشل محاولة (11 مايس1958) يساند التنظيمات التي له علاقة به ويحثها, ويُعجل الظروف, ربما قسرأ, لأجل إنجاز فعل التغيير المنتظر, كما ساهم بالمشورة وشحذ همم الضباط الصغار من التيار القومي بصورة خاصة, بإعتباره ملهمهم الروحي . ولكنه فوجئ بثورة 14 تموز التي لم ينفذها أعوانه وكانت مساهمته العملية فيها معدومة, مما خلق لديه فجوة روحية ونفسية كبيرتين من قادة فعل التغيير, ولذا لم يلتحق بمنصبه الذي تم تعينه فيه كمدير للإستخبارات العسكرية, إلا بعد أن ضغط عليه زملائه في الحركة.. قَبِلَ ذلك على أمل المساهمة المادية بتغيير العلاقة لاحقاً وتبوء مركزاً اجتماعيا وسياسيا مرموقا.. وعندما فشل في ممارسة الضغط المعنوي, ساهم بقوة في تغيير الحكم عبر الإنقلابية العسكرية, وهذا ما أوضحته الوقائع المادية لمسيرة الجمهورية الأولى, وما نشره الضباط القوميين من مذكرات ومطالعات.
أما نشاط رجب عبد المجيد الذي تم إيفاده في نهاية 1952 إلى دورة تدريبية في المملكة المتحدة وعاد في نيسان 1953, وإستطاع هناك أن ينظم معاون الملحق العسكري العراقي في لندن الرئيس الركن صبيح علي غالب ويضمه إلى كتلته.. وبعد عام 1954(الذي يعد بمثابة عام الإحباط بالنسبة لكتل الحركة نظراً للزيادة في رواتب الضباط), نال عبد المجيد ترقية عسكرية وبواسطتها إستطاع في نهاية صيف 1956 أن ينظم "... أربع خلايا من الضباط الأحرار, واحدة في مقر سلاح الجو وواحدة في كل من معسكرات الرشيد والوشاش والمسيب, بالإضافة إلى هذا فقد نجح في كسب ضابطين كبيرين هما: العقيد الركن ناجي طالب... والعقيد الركن محسن حسين الحبيب... ", بعد ما أصاب كتلة سري من كشف جزئي في حادثة الكاظمية وتجميد نشاطها وما أصابها من إنسحاب وتشظي المنتمين لها. حاول رجب عبد المجيد وناجي طالب, رغم جو التشاؤم الذي ساد في الحركة آنذاك, إستمالتهم وكسبهم لكتلته, وقيل أن بعضهم إتصل برجب عبد المجيد بناءً على إقتراح سري نفسه نظراً لتجميد نشاطه مؤقتاً وللرقابة المفروضة عليه.
ويشير بطاطو إلى نجاح رجب عبد المجيد ومجموعته في إستمالة ضباطاً ذو رتب عالية (ما بين مقدم وزعيم) لكتلتهم, كان منهم: محي الدين عبد الحميد وعبد الوهاب الأمين ووصفي طاهر, للعمل سويةً, علماً بأن بعضهم سبق وإن عملوا في قيادة كتلة سري ولهم في الوقت نفسه علاقات مع عبد الكريم قاسم وكتلته, وبعد هذا الإستيعاب الجديد لذوي الرتب العالية, أخذ يطلق على هذه الكتلة تارة إسم كتلة بغداد وأخرى تنظيم القادة. ولقد تهيأت الظروف لعقد إجتماع موسع تم فيه إنتخاب اللجنة العليا لتنظيم بغداد, وهذا ما تم فعلا.
وهنالك وجهة نظر أكثر واقعية تنصب على أن ناجي طالب ورجب عبد المجيد ومحسن حسين الحبيب أنتموا إلى كتلة محي الدين عبد الحميد (القادة), وليس العكس, بحيث تم إنتخاب محي الدين رئيساً لها. وربما كان إنتماء رجب لهذه الكتلة بسبب إبتعاد رفعت عن العمل معه ومع كتلة القادة ومن ثم في اللجنة العليا للضباط الأحرار.
ويبدو من دراسة الأسماء أعلاه أن كتلة القادة ربما تكونت من إندماج عدة كتل كانت في طور النشوء والتكوين.. فمحي الدين عبد الحميد كان منذ زمن طويل يعمل في ذات الفكرة ضمن التصورات الوطنية العراقية المتأثرة بالفكر الشعبوي للحزب الوطني الديمقراطي, في حين وصفي طه كان من المتأثرين بالفكر الشيوعي ويعمل في هذا الإتجاه وله صلات مع الضباط التقدمين.. أما رفعت ذو التوجه القومي الاسلامي قد إلتقى رجب في البدء ومن ثم سارا في طريقان متوازيان منذ بدء العمل.. وهكذا بالنسبة لعبد الوهاب الأمين الذي كان يعمل مع قاسم وآخرين.. فهذا التحقق لكتلة القادة (بغداد) يبدو لي كما لو أنه كان إندماج لمجموعة من الكتل الصغيرة غير المكتملة الأبعاد والتي ترغب في جمع الشمل على قاعدة واحدة مركزية, بدليل ما ذكره رجب من أن مجموعته قد فاتحت تلك المجموعة التي أشار إليها إسماعيل العارف, التي لم تتبلور بعد ككتلة إذ أكتشفت كما يقول العارف: "... في سنة 1956وشعرنا بضرورة تشكيل قيادة تتولى تنظيم العمل الثوري بعد إتصالات فردية تقرر أن تتألف هذه من: العميد الركن عبد الكريم قاسم, العقيد الركن محي عبد الحميد, المقدم الركن عبد الوهاب الشواف, المقدم الركن إسماعيل العارف, المقدم الركن عبد الوهاب الأمين المقدم رفعت الحاج سري, المقدم صالح عبد المجيد. وفي شهر تشرين أول سنة 1956تقرر أن تجتمع هذه الهيئة لتدرس وضع التنظيم وتضع أسس عملها وهو الإجتماع الأول والأخير... ", إذ تم الكشف عن بعض ضباطها في حادثة الكاظمية المعروف وتجمد نشاطها وإنشطرها لحين إعادة العمل بشكل جديد, بعد العدواني الثلاثي على مصر, من خلال توحيد عمل بعض قادة الكتلة المذكورة مع مجموعة رجب عبد المجيد, ومن ثم الإتحاد مع كتلة المنصورية التي يترأسها عبد الكريم قاسم.
إن الطرح ذو النظرة الأحادية التي ينطلق منه رجب عبد المجيد في سرد تاريخ حركة الضباط الأحرار, تطمس حقائق ومساهمات تتصل بتلك الشخوص التي عملت مع سري قبيل لقاءه برجب نفسه ومنهم من ذكرهم العارف أعلاه, إذ من المعروف أن جُلهم كان يعمل بصورة سرية قبل إنضمام رجب إلى الحركة بصورةٍ عامة, مما ولَّدّ أنطباعاً, لم يُكمل ذاته, تمحور حول هيمنة التيار القومي على حركة الضباط الأحرار, وتضخيم الذات الفردية, في حين إن هنالك قوى وضباط ساهموا وإياهم في تحقيق هذه الصيرورة وتجسيد غائيتها.
لقد توسعت كتلة القادة (بغداد) مجدداً وبصورةٍ كبيرة بعد العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956, الذي ترافق مع تزايد روح التحدي لدى الضباط الأحرار وتصلب عزيمتهم وإصرارهم على بلوغ غائيتهم.. وقد أمتد تأثيراتها إلى أغلب الوحدات العسكرية, وأنظم إلى الكتلة (أو نسق العمل معها) العقيد طاهر يحيى والعقيد عبد الرحمن عارف وغيرهم. كما نسجت الكتلة علاقات وإتفاقات (جنتلمانية) مع بعض الكتل الأخرى بصورة جمعية أو مع بعض أفرادها القياديين بصورة فردية. لكن هذا التوسع الكمي في حركة الضباط الأحرار بصورة عامة, رافقه تلكؤ نسبي في نوعية العمل التنظيمي, إذ نرى أن بعض التكتلات تتكون كإسم فقط دون فعالية تذكر مثل الكتلة التي كتب عنها نجم الدين السهروردي وأعطاها دوراً أكبر من حجمها الحقيقي , أو كما هو بالنسبة للكتلة التي أسسها سري والشواف لتنفذ محاولة 11مايس 1958, حيث تأسست ضمن حالة ظرفية محددة. كما يلاحظ الإنتسابات الثنائية لبعض الضباط فوصفي طاهر كان ضمن كتلة القادة (بغداد) وإتحاد الجنود والضباط وينسق العمل مع عبد الوهاب الشواف في الكتلة الجديدة وكان من قوام اللجنة العليا, ومن ثم يُستبعد أو يُجمد من العمل من هذه الأخيرة, كما كان ينسق العمل مع كتلة المنصورية وساهم كدليل للقوات الزاحفة على بغداد يوم 14 تموز. كذلك الحال بالنسبة إلى عبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري اللذان عملا مع أكثر من كتلة في آن واحد.
في الوقت نفسه أجبر التطور الكمي لكتلة القادة على إعادة هيكلتها ورفدها بضباط ذو رتب عالية, وتشكيل مركز رئيسي, يتمحور حوله أو بفلك يدور بقربه, عدة كتل, أطلق على هذا المركز إسم:
( اللجنة العليا للضباط الأحرار)




4- كتلة رفعت الحاج سري ورجب عبد المجيد:
(طموح المسالك المتنوعة)

كانت الفكرة الإنقلابية تلوح كالشبح الهائم في اجواء البلدان الشرق أوسطية في مطلع الخمسينيات وإن كانت منابعها تختلف وأهدافها تتباين, فبعضها كان نتاج لعملية الصراع الدولي والحرب الباردة ومحاول الولايات المتحدة لتطبيقها في ظروف هذه المنطقة. في حين إن البعض الآخر, وهذا ما ينطبق على ظاهرة حركة الضباط لأحرار, كان نتاج لفشل الحكومات المحلية على تحقيق الأهداف الوطنية العامة بشقيها الداخلي والعربي.
وتأسيساً على ذلك فالفكرة الإنقلابية لم تدر في خلد ضابط معين أو مجموعة من الضباط, بل كانت تدغدغ عواطف العديدين منهم. وعليه فكل الكتل التي تأسست آنذاك بدون إستثناء كانت في البدء, حلم يقظة يومي أو هوى فردي, أو على الأقل كانت موضوعاً لم يستكمل ذاته, كضرورة تعبر مضامينها عن فكرة غائية محددة الأبعاد يتحسسها الضباط الأكثر وعياً.
ونحن لا نبتعد عن الحقيقة والموضوعية عند القول, كان من بين هؤلاء الذين تأثروا بالفكرة وبدور الضباط في الحياة السياسية, رفعت الحاج سري, نظراً لمهنوية أسرته (العسكرية) وتركيبته الاجتماعية والثقافية والنفسية وطموحه الذاتي الجامح, إذ سبق وإن كان من أوائل الضباط الذين شاركوا في وعي ومن ثم خلق ونشر فكرة التكتل الغائي للضباط وإستعادة (دورهم التاريخي) في إدارة السلطة, بالتوافق مع المفهوم البروسي المُحدث ونسخته الشرق أوسطية:
- الأتاتوركية في تركيا؛
- والشريفيون في العراق (منهم ياسين الهاشمي وطه الهاشمي ونوري السعيد وجعفر العسكري وعلي جودت الأيوبي ومولود مخلص وجميل المدفعي, خال رفعت , وغيرهم)؛
- ومن كرازمية الناصرية بعد عام 1954 وهو تاريخ خروجها من مصريته إلى عروبته.
ويشير الأدب السياسي للتيار القومي إلى أن العقيد رفعت الحاج سري, كان المؤسس الأول لحركة الضباط الأحرار في العراق. هذا الإدعاء لا يمثل سوى جزء من الحقيقة, إذ يمكن أن يكون المؤسس الأول للتيار القومي في الحركة التي تكونت عام 1952 وهو ما كان فعلاً, ولكن ليس للضباط الأحرار بصورة عامة. فإذا إعتبرنا إن تكتل الضباط الوطنيين في فلسطين هو أول تنظيم غائي, فرفعت كان أحدهم, ولكن رتبته العسكرية (رائد) لم تؤهله ليحتل مركز الصدارة في هرم التنظيم الذي كانت الأولوية فيه للتراتيبة العسكرية, لأن الدور الأرأس في في إدارة وتنشيط " تنظيم الضباط الوطنيين" عام 1948 كان لكل من الربيعي وقاسم, أكثر مما لسري, من جهة, ومن جهة أخرى, توضح تاريخية المؤسسة العسكرية إن إنتشار التكتلية كان قبل عام 1952 كما مر بنا, بل كانت قائمة حتى قبل 1948 وإن لم تكن مبنية على أسس ومبادئ وطنية شاملة, التي إتسمت بها منذ حرب فلسطين, حيث تبلورت فكرة التنظيم الغائي. كما لم يشر تاريخ الحركة إلى تبوء رفعت رئاستها حتى لم يكن ضمن قوام الهيئة العليا للضباط الأحرار إلا من الناحية المعنوية والشكلية. وقد ترأس كتل صغيرة ضمت ضباط من متوسطي و صغار الرتب على الأغلب, كذلك أنه لم يعمل مع كتلة القادة( بغداد), رغم تعينه ضمن هيئتها العليا.
وتأسيساً على ذلك وإعتماداً على ما نشر من مذكرات ووقائع, يمكننا إعتبار عام1950, عام تأسيس حركة الضباط الأحرار ذو التوجه اليساري والوطني ذو النزعة العراقية. في حين يعتبر عام 1952, تاريخ تأسيس التيار القومي في الحركة ذاتها. وكما مر بنا سابقاً, ففي عام 1950 تكونت: كتلة ما بين النهرين ذات التوجه اليساري؛ كما بدأت كتلة الزعيم قاسم بالتشكل وغيرها من الكتل الصغيرة القائمة على الولاءات الدنيا غير الولاء الوطني.
لا يستطيع الباحث الجاد أن يقرر بصورة حاسمة ويقينية وبالأدلة القطعية, متى وكيف تشكلت كتل الضباط الأحرار ومن كان المؤسس الأول لها. فالكل, مع إستثناءات قليلة, تحاول إبراز ذاتها على حساب الآخرين أو تعطي لذاتها الفردية أو التكتلية, على غير إستحقاقها, مكانةً أو دوراً بالقرب من القادة المحوريين في الحركة. تفصح مذكرات عبد السلام عارف, عن ذاتها بكونها النموذج الأكثر وضوحاً لهذا الإستنتاج, في الوقت الذي تشير فيه مذكرات إسماعيل العارف وجاسم العزاوي وصبحي عبد الحميد وعبد الكريم فرحان ومحسن حسين الحبيب إلى ما يشابه ذلك, بالرغم من تضارب مضامينها المتسمة بالأنوية وبالكثير من اللا موضوعية والا دقة. أما حول بدايات التكوين يشير إسماعيل العارف, على سبيل المثال, إلى بداية عمله مع رفعت الحاج سري أثناء وثبة تشرين 1952, بالقول :
" وربما يتضح في ما بعد أن كثيراً من الخلايا قامت في الفترة نفسها. ولكن الأكيد أن كل هذه الخلايا أو ما إستطاع الإستمرار منها لم يلبث أن إنصهر في بوتقة الحركة الواحدة التي قادت الثورة, وما أرويه هنا هو قصة الخلية التي ساهمتُ في تأسيسها والتي لست متأكد من أنها الخلية الأولى التي إتسعت لاحقاً لتضم في صفوفها أبرز قادة الثورة ".
يدلل النص بوضوح على أن هنالك خلايا (ربما) قامت في الفترة ذاتها, وبالتالي لا يمكن الإدعاء بأن كتلة رفعت كانت أول تنظيم للضباط الأحرار, خاصةً إذا أخذنا بالإعتبار الإرهاصات التنظيمية لعام 1948, وما سبق شرحه بصدد الكتل ذات الطابع الوطني واليساري النزعة. لكن يجب التأكيد على القول أن رفعت الحاج سري كان, بحق, أحد المؤسسين الأوائل لحركة الضباط الأحرار, في الوقت نفسه لا توجد دالة معلومة ومؤكدة توضح من هو المؤسس المحوري الأول دون غيره. ولذا فإن حركة من هذا القبيل, كانت في البدء ذات صفة جمعية وليس فردية, وهذا ينسجم ودرجة النضج الذاتي للحركة ذات الطابع السري والتي ظلت بعيدة عن أن تؤكد ذاتها كظاهرة في المؤسسة العسكرية في مطلع الخمسينيات. كان رفعت وبحكم مهنويته, ينحو في حياته العسكرية نحو هذا الهدف. وكان من الأوائل الذين إنتظموا في هذه الحركة منذ بداياتها, سواءً في شكلها الفردي أو التكتلي الجمعي, كما في فلسطين, حيث لم يلعب الدور الأرأس فيها, بقدر ما كان ضمن قوام قيادتها العليا الفاعلة.
يحدد محي الدين عبد الحميد بداية العمل خلافاً لما طرحه رجب عبد المجيد تبناه بطاطو, بالقول:
" منذ حرب فلسطين 1948 بدأ الضباط يتحسسون بالأمور الوطنية وما آلت إليه قضية فلسطين, فقسم كبير من الضباط بدأوا يعملون ويتكتلون ويجتمعون ولكن بدون قيادة. في فلسطين كان المحور هناك هو رفعت الحاج سري الذي بدأ يتصل بالضباط وسبق أن ذكرت أنه أتصل بنجيب الربيعي فهذا الإتصال أدى إلى إتصالات أخرى بعد 1948, فالأخ رجب لم يذكر شيء عن الفترة 1948-1952 يعني بعد ثورة مصر, إذ إتصل هو بالضباط وبدأ يعمل, ولكن في هذه الفترة كانت هنالك إتصالات بين ضباط كثيرون... ولكن في تلك الفترة كان الكثير من الضباط يعملون ونشأت تكتلات ربما لا نعرف عنها شيئاً.
بالنسبة لي كنت أتصل دائما برفعت الحاج سري منذ 1948... وبين الحين والآخر عندما كنت أزور بغداد أزور رفعت وكان الأخ خليل يحضر معنا ونتداول بالأمر, وكان رفعت يتحدث لي عن الكتل التي كانت تصدر منشورات في تلك الفترة في 1954و1955... يجب علينا أن لا ننكر على الناس الذين أشتغلوا قبلنا في سنة 1948إنهم كانوا متحمسين ويعملون. ولكن يجوز أنه لم تكن لهم قيادة " بل لنقل أنها لم تتبلور في هيكل تنظيمي محدد الأبعاد, دائم العمل وذو قيادة معترف بها. (التوكيد منا-ع.ن).
كان رفعت الحاج سري من الضباط القلائل الذين ثابروا على مواصلة العمل.. وقد تعمق ذلك بعد نجاح الانقلابات العسكرية في سوريا في البدء ومن ثم في مصر ولبنان, حتى أنه أراد التماثل مع الرئيس ناصر في قيادة الحركة وهما كانا في ذات الرتبة الصغيرة. لكن رفعت لم يستطع بلوغ ذلك لأن هناك في حركة الضباط الأحرار في العراق, خلافاً لمصر, من كان أعلى رتبة منه وأكثر كفاءة عسكرية وسياسية ومرونة فكرية وتجربة عملية من جهة؛ ولديهم تنظيم اوسع من الكتلة التي كان يعمل فيها رفعت من جهة ثانية؛ وأن التراتيبية العسكرية العراقية كانت الأقرب قبولا من التراتيبية الحزبية من جهة ثالثة. وعليه كان في العراق قادة ينافسون المقدم رفعت الحاج سري في قيادة التنظيم, من أمثال: الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن محي الدين عبد الحميد والعقيد الركن ناجي طالب والعقيد الركن عبد الوهاب الشواف وغيرهم من الذين كانوا في نفس رتبة سري أو قريباً منها, ولديهم ذات الطموح من قبيل: رجب عبد المجيد وصبيح علي غالب ووصفي طاهر وطاهر يحيى. لذا لم يساير رفعت أغلب هؤلاء بل إتجه نحو التكتل الغائي المنفرد المعترف بزعامته مع الفئة الوسطى من الضباط الآمرون (عقيد- رئيس أول) والأعوان (رئيس-ملازم ثاني) وليس مع القادة. كان هذا الطموح بمثابة بوصلته في التحالف والعمل المشترك مع بقية الكتل. وهذا ما يلاحظ, كما مر بنا, عندما كون تنظيماً, خلا من الرتب العليا, يأخذ على عاتقه إسقاط السلطة في 11مايس 1958. وعليه دأب رفعت على تكوين سمعة لنفسه وسط زملاءه في المؤسسة العسكرية, ضمن حدود مفاهيمه الدينية والاخلاقية, المتسمة بالتزمت و الصرامة, والابتعاد عن المحرمات الدنيوية المتعارضة مع قيمه الإسلامية ونظرته الاجتماعية وهندسة أبعادها. كما كان متأثراً بالمروث الاجتماعي/الثقافي السائد. هذه السمعة حققت له شيء محدود من الكارزمية في عالمه العسكري وخلقت ثقة لديه في إداء دور مهم في الحياة, وتغذت هذه النزعة من موروثه العائلي (الأرستقراطي) العسكري.
أما بصدد أسس التنظيم وإنسيابه العملي الذي سار عليه رفعت, فهي"... وفي أحد الإجتماعات إتفقنا على بعض الأسس التي ينبغي إتباعها لضم الضباط الجدد إلى الحركة. فكان على العضو أن يرشح الضابط, وبعد أن يتم الإتفاق عليه يراقبه لفترة لا تقل عن ثلاثة أشهر ويتأكد من إرتباطه وأحاديثة ويطمئن إلى إخلاصه ووطنيته وعدم إرتباطه بأجهزة الاستخبارات أو الأشخاص الذين يرتاب من تصرفاتهم وعلاقاتهم وبعد ذلك يفاتحه ويكون مرتبطاً به وحده. وإشترط أن لا تقل رتبة الضابط الذي يفاتح عن ملازم أول ولا تزيد على العقيد وتجنبنا مفاتحة الضباط الكبار لإرتباط معظمهم بالنظام الملكي.
ولذا قررنا أن يكون العمل سرياً للغاية وحرمنا إستعمال الكتابة مهما كانت الظروف, وشددنا على الإعتماد على الإتصال الشخصي في تبليغ المعلومات أو التداول حول القضايا التي تخص الحركة, وأن يكون إرتباط العضو الجديد بالشخص الذي نظمه أو فاتحه فقط ولا يكشف عن أسماء الأعضاء الآخرين ". ( التوكيد من-ع.ن).
هذه الطريقة في العمل وقبول الأعضاء الجدد تكاد أن تكون واحدة من حيث المبدأ لدى كافة الكتل , لكن يجب الإشارة إلى دور العلاقة الشخصية بين الضباط التي لعبت الدور الأرأس في المفاتحة بالإنضمام للحركة من جهة, ومن جهة أخر لم تطبق هذه المبادئ بحذافيرها, حيث لاحظنا في قوائم حركة الضباط الأحرار من كان برتبة ملازم ثاني خلافاً لما ذُكر أعلاه. ومن جهة ثالثة أن القبول قد أنحصر برتبة العقيد فما دون ,كما مر بنا, لأن رفعت لا يستطيع أن يتبوء مركز الصدارة في التنظيم إذا ضُم من هو أعلى منه رتبةً, وهذه كانت أحد الأسباب الأرأسية وراء عدم موافقته على العمل في اللجنة العليا وقبلها في كتلة القادة ( بغداد). كما إتضحت هذه الحالة بأسطع صورها, في علاقته برجب عبد المجيد, الذي فكرته "تعتمد على مفاتحة الضباط ذوي المراتب العليا وضباط الركن بخاصة, نظراً لأن رتبته كانت بهذا المستوى ولعدم وجود علاقات إجتماعية له مع الضباط الشباب على الرغم قد دَرَسَ لأعوام في الكلية العسكرية فأنا أحد طلابه وأعتز به كثيراُ, ولكن مزاجه العصبي وتشنجه المستمر وإنفعاله السريع لأتفه الأسباب ضيع عليه الفرصة لكسب أحد من طلابه. أعتقد أن ميل الأخ رجب لنوعية الضباط المذكورين هو لكونهم يقودون قطعات عسكرية إو هم مرشحون لذلك بعد مدة قصيرة لاحقة... إنها فكرة إنقلابية- تؤمن بالانقلاب العسكري- يقوم به أفراد وتقود بالتالي إلى الفردية والدكتاتورية ... ".
ويؤكد هذه الحالة (الوحدة- الإختلاف) بين سري وبقية رفاقه عند تشكيل هيكلية كتلة القادة (بغداد) وبعدها حيث "... قبل تشكيل أعضاء اللجنة العليا قلت لابد من أخذ رأي رفعت الحاج سري لأني بدأت العمل معه لأخذ رأيه في اللجنة العليا, ذهبت إلى رفعت رحمة الله فإعتذر في أول الأمر, وقال نحن لا نحتاج إلى قيادة والوقت سابق لأوانه الآن. دعنا فترة أخرى, قلت له: لنفترق إذا أنت لم توافق على تشكيل اللجنة العليا ولم تأتي معنا سنفترق, أنت في طريق وأنا في طريق ... " ( التوكيد منا-ع.ن) وأستمرت هذه الحالة بينهما لغاية 14 تموز.
لعب التنافس بين الضباط الأحرار دوراً في تكوين وتفرق بعضهم وخاصةً أولئك الطامحين للزعامة, الذين يرون في أنفسهم أحق من غيرهم من أصحاب الرتب الأعلى في كتلتي المنصورية والقادة التي أصبحت مركز ثقل اللجنة العليا لاحقاً, وزداد وزنها بعد توحيد الكتلتين, حيث كانت رتبة أغلبهم أعلى, من رتبة سري في فترة تكون هذه التنظيمات. في الوقت نفسه, كما تشير كثير من الدلائل, إلى أن رفعت قد إستمر بالمثابرة على كسب الضباط إلى كتلته الجديدة التي بدأ بتكوينها بعد عودة الجيش مباشرةً من حرب فلسطين الأولى. وقد ذكر هذه الحقيقة على سبيل المثال: محي الدين عبد الحميد؛ عبد الرزاق محمد سعيد؛ عيسى إسماعيل الشاوي؛ شكيب الفضلي؛ وغيرهم. إذ لم يتكون في البدء مركز قيادي واحد يأخذ على عاتقه عملية إعادة التنظيم, وقد كان المحوريون رفعت ومحي الدين عبد الحميد وإسماعيل العارف يتداولون مع بعض أصدقاءهم من الضباط حول الوضع العام وإمكانية مساهمتهم في الحياة السياسية.
وقد كللت هذه المثابرة نفسها بتكوين هيكلة تنظيمية قائمة على أساس خلوي, تضم كل خلية عدد محدود من الضباط, تطورت لاحقاً "... إلى تنظيم وتأليف لجنة لقيادة التنظيم في نهاية عام 1951ومما يؤيد تحليلنا هذا هو أن أكثر أعضاء لجنته كانوا من ضباط دورته المارة ذكرها, وها أنني أثبت بعض الأسماء للتدليل وليس للحصر متجنباً ذكر الرتب العسكرية لكل منهم وهم: إسماعيل العارف, نعمان ماهر الكنعاني, وصفي طاهر, مجيد جليل, عبد الوهاب الأمين, صالح مجيد السامرائي ومحي عبد الحميد وغيرهم ". ومن الملاحظ أن الرجل الذي لعب دوراً في هذه الكتل لاحقاً لم يكن من المؤسسين الأوائل لها .. وأعني به رجب عبد المجيد. ومن هذا المنطلق أني سأقترب من الحقيقة أكثر فأكثر, إذا أطلقتُ على هذه الكتلة أسم كتلة سري – محي الدين, نظراً لما لعباه من دور في تنظيمها قبل إنشطارها بعد إنضمام رجب عبد المجيد, الذي سلط الأضواء على ذاته أكثر من الآخرين في كتلة القادة (بغداد).
لقد كثرت المصادر التي أشارت إلى أن فكرة التكتل الغائي للضباط في العراق " كانت مستوحاة من إنقلاب جمال عبد الناصر ومجموعته الصغيرة من الضباط الأحرار ضد فاروق يوم 23يوليو/تموز 1952, الذي شكل بداية الثورة المصرية الحديثة ". إن هذا الرأي لم يستطع أن يثبت واقع تاريخيته الصحيحة. إذ عرفنا من الصفحات السابقة, أن التنظيم الغائي لحركة الضباط الأحرار في العراق, وقبلها مساهمة الضباط العراقيين في السياسة, يعود لفترة طويلة قبل مساهمة زملائهم المصريين بسنوات. كما أن مساهمة رفعت الحاج سري كما أتضح سابقاً, تسبق قيام الثورة المصرية بعدة أعوام . إن هذا الرأي الذي تبناه بطاطو يعود إلى إعتماده على مصدر رئيسي واحد تقريباً, وهو مخطوطة مذكرات رجب عبد المجيد, الذي يذكر ذلك صراحةً هذا من جهة, ومن جهة ثانية ربما أراد بطاطو الإشارة إلى وجود تماثل شكلي حسب بين تنظيمات الضباط الأحرار من خلال إستلهام العراقيين عبارة (الضباط الأحرار) من الثورة المصرية. وهذا الرأي فيه وجاه منطقية, يجب الإقرار بها, كما كان النجاح السهل للمصريين قد شحذ فعلاً همم كتل الضباط العراقيين على بلورة ذاتهم وتكتلاتهم بغية تحقيق ذات الهدف. ومن جهة أخرى لم تطرح الثورة المصرية ذاتها العربية إلا بعد سنتين من نجاحها وإستلام عبد الناصر السلطة, و بالتالي لم تكن في حينها تمثل منطلق إستقطابي قومي, بل على العكس فقد نددت الأحزاب السياسية في العراق بالإنقلاب بما فيها الأحزاب القومية.. وكان خروج ناصر من مصريته جاء بعد تحليل للمشكلة الاقتصادية المصرية من قبل الخبراء الأمريكان, بإعتبار أن هذا الخروج يمثل حل لمشكلة البطالة, وهو مورد مهم للعملة الأجنبية, يضاف إلى ذلك كرازمية عبد الناصر.
ومع ذلك تراجع رجب عبد المجيد نفسه, إلى حدٍ ما, في موقفه من دور الثورة المصرية في حركة الضباط الأحرار في العراق وتماثلها معها لأنه لا يقدر أن يحدد " الوقت الذي بدأ الضباط فيه بالتفكير بالعمل للثورة أو أحدد من الذي بدأ منهم, وأعتقد بأنك تتفق معي إذا ما قلت بأننا تسلمنا أمانة الثورة من ضباط سبقونا سنوات كثيرة, ولقد قام هؤلاء كما نعلم بمحاولات ثورية لم يكتب لها النجاح, صلاح الدين الصباغ وجماعته وقبل صلاح وبعد صلاح. كلهم كانوا يعملون من أجل الثورة حتى هيأ لها الباري عز وجل رجالاً قاموا بها في 14 تموز 1958... اما بالنسبة لأهم العوامل المعجلة والمشجعة للبدء بالعمل فهي نجاح ثورة الجيش المصري في 23 تموز(يوليو)1952... " ( التوكيد من-ع.ن).
ومن الملاحظ أن حركة الضباط الأحرار في العراق تختلف, مقارنةً بالأقطار العربية الأخرى, في الكثير من تفاصيل وظروف عملها, وغائياتها ودرجة الإنسياق مع الأنظمة العسكرية وقوام ضباطها وقادتها من الرتب العالية وتكويناتهم الفكرية وخبرتهم السياسية.. وأهم ما فيها يكمن في درجة السرية العالية التي أعتمدت في العراق مقارنةً بمصر على سبيل المثال, والأهم, حسب قراءتي, يكمن في عدم إرتباط الحركة بالعراق بأية قوى خارجية لا أثناء خطاها الحثيث نحو إنضاج ظروف التغيير ولا يوم التنفيذ, وكانت وليدة قوى داخلية صرفة " متأصلة في صلب كيان المجتمع وفي صلب نظام الحكم. إذ لا يمكن أن تقوم في أي بلد حركات ثورية... ما لم يكن في البلاد إستعداد لتقبل الأفكار الثورية.. ".
في حين كانت " الولايات المتحدة ضمن أطراف متعددة تبحث عن الرجل القوي في القيادة الجديدة.. كان الرجل القوي في القيادة الجديدة يبحث عن الولايات المتحدة... وجمال عبد الناصر كلف عبد المنعم أمين يوم 23 يوليو بإخطار السفارة الأمريكية بنوايا الحركة وتوجهاتها... ".
وفي سياق سيرورة التحقيق هذه ضمن ظرف العراق الملموس, إلتقى رفعت الحاج سري في أيلول/ سبتمبر عام 1952, برجب عبد المجيد, و" إتفق الإثنان على أن يبدأ العمل السري, وإن يهتم سري بسلاح المهندسين وعبد المجيد بوحدات الهندسة الميكانيكية والكهربائية. وإتفق الإثنان كذلك, بناءً على إصرار سري, وعلى الرغم من إحتجاجات عبد المجيد, على أن تبقى المجموعة التي يكون سري مركزها منفصلة وغير معروفة للمجموعة التي سيشكلها عبد المجيد. وهكذا ولدت الحركة " على أن يحتفظ كل منهم بسرية تنظيمه وكتلته ويستمر الإتصال الفوقي بينهما. هذه الفكرة إستلها بطاطو من مسودة مذكرات رجب عبد المجيد, والذي أكدها بتعابير أخرى في مناقشات المذكورة في (الذاكرة التاريخية), لكن قد نفاها بعض شهودها كعيسى الشاوي (إنتظم عام1951) وعبد الرزاق محمد سعيد (1950) وشكيب الفضلي (1951) . هذا النفي لبداية العمل له جانبان: الأول من كونه ليس بداية تكوين البداية العام لحركة الضباط الأحرار, كما مر بنا, ومن جانب ثاني جاء هذا النفي من بعض الضباط على ضوء جزئيات التحرك العام للحركة ودور اللاعبون الأساسيون في توجيهها. وكان التأثير الأهم في نمط ومنهج تفكير هؤلاء الضباط المتأثرة بجغرافية القمع المادي والمعنوي الذي غشاها منذ الرحيل القسري للثورة وقادتها.
يبدو من الوقائع أن رفعت الحاج سري, كان يلملم شتات الضباط الذين سبق وأن إنتظموا في فلسطين ويثابر في الوقت نفسه على توسيع كتلته, وعندما إلتقى رجب عبد المجيد, كانت كتلة سري لها هيكلية تنظيمية قائمة, لذا لم يرغب في بدء العمل من صفر مع رجب ويشاركه قيادتها, حيث رغب بوضع نفسه في مصافى من سبقه, حتى يكتسي صفة القائد الرائد في الحركة. من هذا المنطلق أصر سري على أن يعمل كل منهما بصورة مستقلة. أما سر هذا الإصرار فيسلط الضوء عليه, جاسم العزاوي من منطلق تحيزه المسبق لسري, بالقول:
" لقد وجهت أنا شخصياً, إلى الشهيد رفعت, بعد علمي بوجود كتلة أخرى لولبها رجب, سؤلاً عن أسباب عدم دمج الكتلتين. صمت طويلا, كعادته في قلة الكلام, ثم تمتم بصوت منخفض قائلاً: " إن رجب لا يمكن العمل معه". ولما حاولت معرفة المزيد أدار دفة الحديث إلى موضوع آخر, ثم وجهت إليه السؤال نفسه بعد أن قرر تجميد نشاطه حينما يشعر بالمرارة والألم وإنحسار بعض رفاقه وميلهم إلى الكتلة الأخرى... وقال بإقتضاب: " إن رجب وطني غيور, ولكنه يحب التسلط وينفرد برأيه ويطمح إلى الزعامة ويصعب العمل معه ", (التوكيد منا-ع.ن). كما يكمن السر أيضاً, حسب قراءتنا, في الأبعاد الذاتوية والحساسيات المفرطة التي غشت نفسية القادة الأساسيين لحركة الضباط الأحرار ومنهم رفعت ورجب. إذ كانوا يعتقدون بأنهم أفضل من يمثل ماهياتها والأقدر على التعبير عن أهدافها والأحق بقيادتها من غيرهم. وهذا ما أتضح من خلال عمل رفعت مع الحلقة الوسطية ومن ثم تشكيل المجموعة التي حاولت تنفيذ محاولة (11مايس 1958).
وفي إطار التسابق على تحقيق فعل التغيير والتنافس على الزعامة وتكوين الهالة الصمدانية (الكارازمية) إستمر رفعت يبحث عن المؤيدين والأنصار من الرتب المتوسطة دون تدقيق كافٍ, مما أوقع كتلته في توسع كمي, وخاصةً لذوي الرتب الصغيرة, مما لا بد أن يترتب عليه, من وصول أخبار الكتلة إلى آذان السلطات الأمنية, التي أوجبت إستدعاءه للإستجواب , وترتب على ذلك نقله إلى خارج بغداد وتشديد الرقابة عليه, بحيث كبلت حركته بصورة عامة, أدت في نهاية المطاف إلى تقديمه طلب إحالته على التقاعد, التي تمت في نيسان 1958.
كانت الإستقالة من المؤسسة العسكرية أحدى دوافعها عدم إحراج خاله, عضو النخبة الحاكمة جميل المدفعي, أمام أركان الحكم الملكي, إذ سبق له أن نبه رفعت إلى ذلك قبيل حادثة الكشف في الكاظمية. ورغم ذلك بقى مستمراً في التكتل لقلب لنظام الحكم, إذ " أعاد رفعت بعد إحالته على التقاعد إرتباطه بتنظيم بغداد, لكنه لم يعد كالسابق في موقع القيادة, بقي محتفظاً بفضله في تأسيس التنظيم وإحترامه لدوره النضالي ولكنه لم يعد قادراً على أن يسهم في صنع القرار " وعندما ترأس عبد الكريم قاسم اللجنة العليا "... لم يستطع رفعت أن يغير من إتجاه تلك القرارات التي لم يستسيغها " إذ "... ظل رفعت يشعر بأنه أحق بقيادة التنظيم من غيره لسابق عمله في نشر الوعي السياسي والتنظيمي بين الضباط الأحرار. وعلى هذا الأساس قاطع اللجنة العليا ولم يحضرها منذ ظهورها وحتى إندلاع ثورة 14 تموز 1958 ". ورغم هذه الوقائع وما تتضمنها من حساسيات متبادلة وإختلافات في وجهات النظر, فقد إنعكست إحدى نتائجها لاحقاً في تمركز قيادة هذه الكتلة بيد محي الدين عبد الحميد ورجب عبد المجيد, من جهة وحرص بعض أصدقاءه القدامى على تزويد سري بمعلومات عن الحراك السياسي والتنظيمي للكتلة, من جهة ثانية. لكن رفعت قد أبقى خيوط تحرك بعضٌ من الخلايا بيده التي كانت بمثابة الورقة الضاغطة على اللجنة العليا أو الكتل الأخرى حتى يحتفظ بمكانته المؤثرة في الحركة عموماً. ومن هذا المنطلق ساهم, في أوائل كانون الثاني 1958 في إجتماع عقد في دار الرائد كامل الشماع, في تكوين كتلة جديدة أخذت على عاتقها محاولة تنفيذ حركة 11 مايس 1958, وقد ضمت قيادتها كل من: " العقيد الركن عبد الوهاب الشواف, والمقدم رفعت الحاج سري والمقدم وصفي طاهر و المقدم ماهر نعمان الكنعاني والرائد حسن مصطفى النقيب والعقيد عبد الغني الراوي والرائد خليل العلي والرائد خزعل السعدي والرائد طه ياسين الدوري والرائد كامل الشماع ".
ومن الملاحظ أن هناك ثقل نوعي كبير للضباط الديمقراطيين واليساريين في هذه الكتلة الجديدة, كما إتسم أعضاءها المنفذون بالاندفاع والحماسة تصل حد المغامرة. ويبقى السؤال المهم بالنسبة لهذه الكتلة, ينصب على ماهية الرابطة التي جمعت سري ذو النزعة الدينية/ القومية مع جمهرة واسعة من الضباط ذوي التوجهات اليسارية والديمقراطية ؟ وبم يُفسر إندفاع سري للتعاون حتى مع كتلة إتحاد الجنود والضباط التي يرعاها الحزب الشيوعي من خلال بعض ضباطها المعروفون له في هذه الكتلة ؟ وكيف يفسر أندماج هذا الخليط من الإنتماءات السياسية المتعارضة في كتلة واحدة ؟ وما هو الجامع المشترك بينها ؟ فهل هو إسقاط النظام الملكي حسب, وإذا كان نعم فما هو برنامج الكتلة وموقف القادة الأقوياء (رفعت/الشواف/وصفي) في تحقيقه, وهم المتعارضون في الإنتماءات السياسية والفكرية !؟. لم تزودنا الأدبيات المنشورة عن حركة الضباط الأحرار بما يُفيد في تعليل هذه الظاهرة الجديدة سوى إن روح المغامرة والتسابق لإحتلال الدور القيادي بين القادة الكبار لمجمل الحركة, وهذا واضح جدا من خلال التشريح الاجتماعي والنفسي لقيادة هذه الكتلة (11 مايس 1958) دون إستثناء وما رسمته سلوكياتهم السياسية من تأثير على الأحداث قبل 14 تموز أو بعدها, عندما ساهموا بصورةٍ عضوية في الفعل السياسي بعد تشظيهم وتفرقهم وما إنتابهم من عداء بلغ حد الإجتثاث المادي بعضهم البعض الأخر.
في الوقت نفسه حافظ رفعت الحاج سري على صلته السابقة ببعض الضباط الذين كونوا ما أطلق عليه بالحلقة البديلة (الوسطية), من خلال جاسم العزاوي وصبيحي عبد الحميد ومحمد مجيد, والتي كانت في حاجة إلى قائد رمزي له كرازمية في أوساط الضباط, يساندها في عملها وفي تنافسها مع اللجنة العليا, التي أصابها شيء من الركود نتيجة التأجيلات المتكررة لمحاولات الإطاحة بالنظام, وما سادها من نزاعات وصراعات أنوية وإختلافات في المواقف والتأويلات. و إستمر رفعت بعد محاولة فشل محاولة (11 مايس1958) يساند التنظيمات التي له علاقة به ويحثها, ويُعجل الظروف, ربما قسرأ, لأجل إنجاز فعل التغيير المنتظر, كما ساهم بالمشورة وشحذ همم الضباط الصغار من التيار القومي بصورة خاصة, بإعتباره ملهمهم الروحي . ولكنه فوجئ بثورة 14 تموز التي لم ينفذها أعوانه وكانت مساهمته العملية فيها معدومة, مما خلق لديه فجوة روحية ونفسية كبيرتين من قادة فعل التغيير, ولذا لم يلتحق بمنصبه الذي تم تعينه فيه كمدير للإستخبارات العسكرية, إلا بعد أن ضغط عليه زملائه في الحركة.. قَبِلَ ذلك على أمل المساهمة المادية بتغيير العلاقة لاحقاً وتبوء مركزاً اجتماعيا وسياسيا مرموقا.. وعندما فشل في ممارسة الضغط المعنوي, ساهم بقوة في تغيير الحكم عبر الإنقلابية العسكرية, وهذا ما أوضحته الوقائع المادية لمسيرة الجمهورية الأولى, وما نشره الضباط القوميين من مذكرات ومطالعات.
أما نشاط رجب عبد المجيد الذي تم إيفاده في نهاية 1952 إلى دورة تدريبية في المملكة المتحدة وعاد في نيسان 1953, وإستطاع هناك أن ينظم معاون الملحق العسكري العراقي في لندن الرئيس الركن صبيح علي غالب ويضمه إلى كتلته.. وبعد عام 1954(الذي يعد بمثابة عام الإحباط بالنسبة لكتل الحركة نظراً للزيادة في رواتب الضباط), نال عبد المجيد ترقية عسكرية وبواسطتها إستطاع في نهاية صيف 1956 أن ينظم "... أربع خلايا من الضباط الأحرار, واحدة في مقر سلاح الجو وواحدة في كل من معسكرات الرشيد والوشاش والمسيب, بالإضافة إلى هذا فقد نجح في كسب ضابطين كبيرين هما: العقيد الركن ناجي طالب... والعقيد الركن محسن حسين الحبيب... ", بعد ما أصاب كتلة سري من كشف جزئي في حادثة الكاظمية وتجميد نشاطها وما أصابها من إنسحاب وتشظي المنتمين لها. حاول رجب عبد المجيد وناجي طالب, رغم جو التشاؤم الذي ساد في الحركة آنذاك, إستمالتهم وكسبهم لكتلته, وقيل أن بعضهم إتصل برجب عبد المجيد بناءً على إقتراح سري نفسه نظراً لتجميد نشاطه مؤقتاً وللرقابة المفروضة عليه.
ويشير بطاطو إلى نجاح رجب عبد المجيد ومجموعته في إستمالة ضباطاً ذو رتب عالية (ما بين مقدم وزعيم) لكتلتهم, كان منهم: محي الدين عبد الحميد وعبد الوهاب الأمين ووصفي طاهر, للعمل سويةً, علماً بأن بعضهم سبق وإن عملوا في قيادة كتلة سري ولهم في الوقت نفسه علاقات مع عبد الكريم قاسم وكتلته, وبعد هذا الإستيعاب الجديد لذوي الرتب العالية, أخذ يطلق على هذه الكتلة تارة إسم كتلة بغداد وأخرى تنظيم القادة. ولقد تهيأت الظروف لعقد إجتماع موسع تم فيه إنتخاب اللجنة العليا لتنظيم بغداد, وهذا ما تم فعلا.
وهنالك وجهة نظر أكثر واقعية تنصب على أن ناجي طالب ورجب عبد المجيد ومحسن حسين الحبيب أنتموا إلى كتلة محي الدين عبد الحميد (القادة), وليس العكس, بحيث تم إنتخاب محي الدين رئيساً لها. وربما كان إنتماء رجب لهذه الكتلة بسبب إبتعاد رفعت عن العمل معه ومع كتلة القادة ومن ثم في اللجنة العليا للضباط الأحرار.
ويبدو من دراسة الأسماء أعلاه أن كتلة القادة ربما تكونت من إندماج عدة كتل كانت في طور النشوء والتكوين.. فمحي الدين عبد الحميد كان منذ زمن طويل يعمل في ذات الفكرة ضمن التصورات الوطنية العراقية المتأثرة بالفكر الشعبوي للحزب الوطني الديمقراطي, في حين وصفي طه كان من المتأثرين بالفكر الشيوعي ويعمل في هذا الإتجاه وله صلات مع الضباط التقدمين.. أما رفعت ذو التوجه القومي الاسلامي قد إلتقى رجب في البدء ومن ثم سارا في طريقان متوازيان منذ بدء العمل.. وهكذا بالنسبة لعبد الوهاب الأمين الذي كان يعمل مع قاسم وآخرين.. فهذا التحقق لكتلة القادة (بغداد) يبدو لي كما لو أنه كان إندماج لمجموعة من الكتل الصغيرة غير المكتملة الأبعاد والتي ترغب في جمع الشمل على قاعدة واحدة مركزية, بدليل ما ذكره رجب من أن مجموعته قد فاتحت تلك المجموعة التي أشار إليها إسماعيل العارف, التي لم تتبلور بعد ككتلة إذ أكتشفت كما يقول العارف: "... في سنة 1956وشعرنا بضرورة تشكيل قيادة تتولى تنظيم العمل الثوري بعد إتصالات فردية تقرر أن تتألف هذه من: العميد الركن عبد الكريم قاسم, العقيد الركن محي عبد الحميد, المقدم الركن عبد الوهاب الشواف, المقدم الركن إسماعيل العارف, المقدم الركن عبد الوهاب الأمين المقدم رفعت الحاج سري, المقدم صالح عبد المجيد. وفي شهر تشرين أول سنة 1956تقرر أن تجتمع هذه الهيئة لتدرس وضع التنظيم وتضع أسس عملها وهو الإجتماع الأول والأخير... ", إذ تم الكشف عن بعض ضباطها في حادثة الكاظمية المعروف وتجمد نشاطها وإنشطرها لحين إعادة العمل بشكل جديد, بعد العدواني الثلاثي على مصر, من خلال توحيد عمل بعض قادة الكتلة المذكورة مع مجموعة رجب عبد المجيد, ومن ثم الإتحاد مع كتلة المنصورية التي يترأسها عبد الكريم قاسم.
إن الطرح ذو النظرة الأحادية التي ينطلق منه رجب عبد المجيد في سرد تاريخ حركة الضباط الأحرار, تطمس حقائق ومساهمات تتصل بتلك الشخوص التي عملت مع سري قبيل لقاءه برجب نفسه ومنهم من ذكرهم العارف أعلاه, إذ من المعروف أن جُلهم كان يعمل بصورة سرية قبل إنضمام رجب إلى الحركة بصورةٍ عامة, مما ولَّدّ أنطباعاً, لم يُكمل ذاته, تمحور حول هيمنة التيار القومي على حركة الضباط الأحرار, وتضخيم الذات الفردية, في حين إن هنالك قوى وضباط ساهموا وإياهم في تحقيق هذه الصيرورة وتجسيد غائيتها.
لقد توسعت كتلة القادة (بغداد) مجدداً وبصورةٍ كبيرة بعد العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956, الذي ترافق مع تزايد روح التحدي لدى الضباط الأحرار وتصلب عزيمتهم وإصرارهم على بلوغ غائيتهم.. وقد أمتد تأثيراتها إلى أغلب الوحدات العسكرية, وأنظم إلى الكتلة (أو نسق العمل معها) العقيد طاهر يحيى والعقيد عبد الرحمن عارف وغيرهم. كما نسجت الكتلة علاقات وإتفاقات (جنتلمانية) مع بعض الكتل الأخرى بصورة جمعية أو مع بعض أفرادها القياديين بصورة فردية. لكن هذا التوسع الكمي في حركة الضباط الأحرار بصورة عامة, رافقه تلكؤ نسبي في نوعية العمل التنظيمي, إذ نرى أن بعض التكتلات تتكون كإسم فقط دون فعالية تذكر مثل الكتلة التي كتب عنها نجم الدين السهروردي وأعطاها دوراً أكبر من حجمها الحقيقي , أو كما هو بالنسبة للكتلة التي أسسها سري والشواف لتنفذ محاولة 11مايس 1958, حيث تأسست ضمن حالة ظرفية محددة. كما يلاحظ الإنتسابات الثنائية لبعض الضباط فوصفي طاهر كان ضمن كتلة القادة (بغداد) وإتحاد الجنود والضباط وينسق العمل مع عبد الوهاب الشواف في الكتلة الجديدة وكان من قوام اللجنة العليا, ومن ثم يُستبعد أو يُجمد من العمل من هذه الأخيرة, كما كان ينسق العمل مع كتلة المنصورية وساهم كدليل للقوات الزاحفة على بغداد يوم 14 تموز. كذلك الحال بالنسبة إلى عبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري اللذان عملا مع أكثر من كتلة في آن واحد.
في الوقت نفسه أجبر التطور الكمي لكتلة القادة على إعادة هيكلتها ورفدها بضباط ذو رتب عالية, وتشكيل مركز رئيسي, يتمحور حوله أو بفلك يدور بقربه, عدة كتل, أطلق على هذا المركز إسم:
( اللجنة العليا للضباط الأحرار)



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دراسة عن حركة الضباط الأحرار 3-6
- دراسة عن حركة الضباط الأحرا ر2-6
- دراسة في حركة الضباط الاحرار في العراق
- النضوج والتكتل الغائي 1948-1958
- حركة الضباط الأحرار- التكوين والتكتل الغائي
- النواتات الأولى لحركة الضباط الأحرار
- 14 تموز.. ضرورات الواقع وتناقضاته
- 1- عبد الكريم قاسم في عوالم الحياة العسكرية:
- مــن ماهيــات سيرة عيد الكريم قاسم
- في:الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لعراق مطلع القرن الماضي
- الضباط والسياسة في العراق الحديث :مدخل تاريخي
- عودٌ إلى البدء في أرأسيات التطور: 14 تموز: جدلية الفهم والمو ...
- البيئة الاجتماعية لبغداد ومحلاتها الشعبية
- من تاريخية الأنقلابية في العراق الحديث
- أفكار أولية: عن طبيعة ومهام المؤسسة العسكرية في عراق المستقب ...
- مدخل نظري: من ملامح المؤسسة العسكرية العراقية
- الإرهاصات الفكرية للمساواتية الحديثة في العراق الحديث
- دور الفـرد في التاريـخ - عبد الكريم قاسم نموذجاً


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عقيل الناصري - دراسة في حركة الضباط الأحرار4-6