أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد الحروب - صادق جلال العظم: السجالي الكبير وصانع النرد















المزيد.....

صادق جلال العظم: السجالي الكبير وصانع النرد


خالد الحروب

الحوار المتمدن-العدد: 5430 - 2017 / 2 / 12 - 11:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



حتى في “مشروع وفاته” اراد صادق جلال العظم ان يظل ريادياً وثورياً واستثنائياً. في وصيته الطويلة، العائلية والفكرية، طلب ان تُقرأ في جنازته وفي لقاءات تذكره قصيدة محمود درويش “لاعب النرد”. يكرس هذا الطلب المُدهش والملفت المكانة التي احتلها العظم في ذلك الرواق المميز للأفكار والكلمات والأدب والفن. لم يرد ان يغادره حتى لحظة وفاته. ظل وفيا وبإمتياز لعقلانية باذخة، بها اجتاز عتبة الموت بكبرياء الظافر. على فراش المغادرة، كان يقول، وكما تروي ايمان زوجته ورفيقته في شطر طويل من عمره، انه يريد ان يرحل سريعا وخفيفا، ان لا يكون عبئا على محبيه، وعلى الممرضات والممرضين الذي اخجلوه بإهتمامهم ورعايتهم الشديدة به، لا يريد حياة من دون معنى، او ربما لنا ان نقول من دون سجال.
هنا في قلب برلين وفي قاعة المدينة العريقة نظمت مؤسسة إبن رشد للفكر الحر التي منحت جائزتها الدورية للعظم في احدى دوراتها إحتفالية كبيرة بالراحل العظم، وفيها تعالى نبر محمود درويش على أنغام الأخوين جبران يحلق بوداعيته الأشهر "لاعب النرد" ويسهب في ملاحقة مراحل حياته وتقلبات نردها. يقول حكمت بشناق، رئيس مؤسسة ابن رشد، هذه اول مرة ننظم فيها نشاطاً تُحجز فيه كل مقاعد القاعة الكبيرة التي تتجاوز الثلاثمائة، وتستطيل قائمة إحتياط المنتظرين لأزيد من نصف هؤلاء. فخورون كنا ولم نزل بالراحل، وفخورون بالإحتفاء به.
ما الذي شد العظم إلى "لاعب النرد" لدرجة النص في وصيته على قرائتها في جنازته؟ "لاعب النرد" هي كلمة درويش الأخيرة قبل الولوج إلى "الابدية البيضاء" كما كان يصف الموت. ليست فقط مرثيته الخرافية لذات مشدوهة بتحولاتها وصراعات القدرة والحظ في تحديد سيروراتها، بل هي ايضا تصفية حساب مع الحياة، واستسلام لذيذ لنهاية كان الشاعر قد رآها محتومة بعيد قراءته للقصيدة وسفره لإجراء العملية الجراحية التي كانت الفاصل الاخير في حياته، صيف 2008. لنا ان نتخيل"لاعب نرد" درويش هو الإله "جاد"، إله حظ الكنعانيين المتمدد على مياه المتوسط في عصور قديمة ماضية. و"رمية نرد" ذلك الإله الإسطوري هي التي كانت تحدد مصائر الشاعر، عندما اعاد النظر في حياته بإستراجع تأملي وهو في اوج ذروات نضجه الشعري والفلسفي. تبدت له هشاشة قدرته المتجسدة في مراحل حياته، وهشاشة ظنه بأنه كان يرسم قدره ويتحدى حيواته ويقرر خياراتهبنفسه.وتبدت له الحياة وكأنها "لاعب نرد" عملاق تسير وفق رميات نرد طائشة هي التي تقرر البدايات والنهايات وما بينهما من مسارات واستمرار.
تأمل حياة وافكار ومسار جلال العظم الفكري والسياسي والسجالي من زاوية "رؤية نردية" لا تقودنا إلى انسجام تام مع مضمون "لاعب نرد" درويش. بل ربما تقودنا إلى نهاية ووصف آخر هو "صانع النرد" الذي يبدو اكثر اتساقاً مع العظم. "لاعب نرد" درويش يراهن على الحظ، وفي نهاية النهايات يسلم مصيره له. عيونه تنشد على "رمية النرد" بإنتظار هبوطها وظهور ما يحمله وجه النرد المتطلع للأعلى. "لاعب نرد" درويش يأمل ويحلم دوماً برمية تحمل "الستة" كاملة. لا يستطيع ان يفعل شيئاً سوى انتظارها واستمرارية المناورة مع اقدار الحظ حتى تأتي ويتحقق الامل او الحلم او الرغبة. "صانع نرد" العظم يصحو قبل يقظة الجميع ويصنع نرده بذاته. يحاول ان يضع على وجوه نرده جميعها تلك "الستة" الكاملة ويغلق على الحظ اي منفذ. "نرد العظم" ظل طوال حياته قيد التصنيع الذاتي، فيه إعتلاء صهوة الإقتدار، وكبرياء مبارزة الحظ. فيه ملاحقة مساحات التوهم والإيهام والإنتظار، عبر الإنحياز إلى وضوح صارم وموقف لا لبس فيه. تلك كانت سمة العظم الأبرز وفيها مكمن شجاعته المُتفردة. في القضايا التي كان يداور فيها كثير من المثقفين، ويهربون من القبض على اطرافها الملتهبة نحو القبض على وسطها المريح، كان العظم يمسك الطرف الملتهب ولا يهاب. ذهب إلى جوهر التابوهات الثلاث في الفكر والسياسة العربية، السياسة والجنس والدين، وتجاوز السجال مع هوامشها. لم يتوقف عند التأويلات والتفسيرات بل ذهب عميقا وبعيداً ... إلى الطرف الملتهب.
المفكر والسياسي والفيلسوف في العظم لا يتفق مع "لاعب النرد"، إذا من هو فيه الذي اختار تلك القصيدة وتوقف عندها ملياً وسحره التأمل فيها؟ هل نعود إلى العظم الذي كتب في "الحب والحب العذري" لنحاول تلمس الفنان والمتأدب ومتذوق الشعر فيه وبكونه من انحاز إلى "لاعب النرد" في نهايات حياته؟ نعرف ان العظم ودرويش التقيا في بيروت في عصر المقاومة الزاهي، وثمة صورة للعظم تنسدل على كتفيه الكوفية الفلسطينية ومطلقاً لحية جيفارية كثة تحكي الكثير، وهي لا تزال في محفوظات العائلة. ونعرف ايضا ان العظم ظل متواصلا مع درويش ومعجباً ومريداً لشعره ويصفه بالعمق الشديد. هل قدمت "لاعب النرد" بإنحيازاتها الإنسانية المكثفة وإقراراتها العميقة بالإنشداه والحيرة الإنسانية فاصل استراحة للعظم الراكض دوماً، والمنطلق بلا قيود، والمتحدي بلا مهابة ... حتى للموت؟ ام هل قدمت "لاعب النرد" بإنحيازها ليقين النهاية متمثلاً بالموت قدرا من اللايقين المريح لليقين الفلسفي والفكري الذي ظل ينوء على كتف العظم، محاولاً تغيير العالم الذي يمور حوله برفض ما يبشر به العظم؟
تظل الإجابة غامضة وتتسع لكل الإحتمالات، مضفية على ثنائية "لاعب النرد" و"صانع النرد" بعداً آخر فيه جماليات السؤال الصعب المُولد لإجابات لا تنتهي. عندما تتسع الأجوبة والإحتمالات تتجسد على الارض بطيف تطبيقي واسع وجميل، او ربما يحلو لنا ان نرى ما حولنا بتلك الكيفية. هذه هي الكيفية التي تبدت فيها الإحتفالية الثرية والراقية والمتنوعة التي احتفت بالعظم غائبا حاضراً. حضر العائلي المباشر، زوجته ايمان وابنه إيفان، وحضر الماضي الفلسفي المرافق للعظم، فيرنر انديه المستعرب الذي التقى العظم في اواخر الستينات مع صدور كتابه عن "النقد الذاتي والهزيمة"، وحضر المُستقبل الذي يحمل اسم العظم في مؤسستين بإسمه، واحدة تهتم بالتعليم والمنح الدراسية، وثانية تُعنى بإرثه الفكري. وحضر الشرق كله فيالموسيقى والغناء الصوفي المذهلبصفاء صوت بشار زرقان وعزف عوده المبدع، وتواصل الشرق الملغز في مقطوعات عازف الناي التركي اوزغير ارسوي متناغماً مع بيانو زياد حكيم الذي كان يحبه العظم كثيرا. وجاء الغرب الملغز ايضاً في صوت إيديث بياف مُغنى بصوت كاثرين لوكور وهي ترنم: Je ne regrette rien ، "لا اعتذر عن اي شيء". احب العظم، كما تقول إيمان اغنيات أيديث بياف، وليس من قبيل الصدفة ان تلتقي كلمات هذه الاغنية الفادحة للفرنسية الشهيرة مع كلمات بل وعنوان ديوان شعر كامل "لا تعتذر عما فعلت" لصاحب "لاعب النرد". ربما تكشف لنا اختيارات ومذاقات العظم التي حاول منظمو الحفل التعبير عنها وفاءً لما احب الراحل الكبير جوانب خفية من شخصيته، او من الشخصيات المتعددة التي كانت كامنة فيه. "صانع النرد" الذي قال في وصيته إنه ليس نادماً على شيء، خطا خطوته الاخيرة نحو "الابدية البيضاء" وهو يبتسم ل "لاعب النرد". ربما اختلف تواقيت ومراحل واشكال الصناعة واللعب، إلا ان كليهما صنع نرده، وكليهما لعب نرده، كما اراد ومن دون اي ندم.

** جزء من كلمة في إحتفالية "ذكرى صادق جلال العظم"، في "قاعة برلين الحمراء"، برلين، 10 فبراير 2017

Email; [email protected]



#خالد_الحروب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من هتلر والإنجيل إلى داعش والقرآن
- زيغموت باومان: اليهودي -الحالي- ما بعد الحداثي
- من القوميات -الُمدجنة- إلى القوميات الفاشية: حقبة جديدة؟
- عالم جديد: -صدام القوميات والشوفينيات-!
- الداعشيات الدينية والداعشيات الغربية وعالم جديد مخيف
- لاعبُ النرد ... مُستقبلاً صادق جلال العظم
- اعراس فاطمة المرنيسي، موريتانياً وفلسطينياً
- من يجلس على كرسي فاطمة المرنيسي الأكاديمي؟
- الإسلامويون و-فكرة الدولة-: توتر الواقع، قصور الخيال
- فلسطينيات -عائشة عودة-: الساعيات نحو الشمس!
- كيف نتفادى الحرب العالميّة في منطقتنا؟
- ماذا رأى ابراهيم نصر الله فوق قمة كليمنجارو؟
- -نكبة- الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة
- اغتيال ناهض حتر ... داعشيتنا الكامنة!
- أسماءُ نسائنا: -الشرف السمج- ... والقيعان المتلاحقة!
- «سيد قطب» متخفياً في كتاب «استحالة الدولة الإسلامية» (١ ...
- الحق في عدم التدين .. بين المواطنة والدعشنة الكامنة
- الإرهاب المُنتسب للدين: سؤالان صريحان ومواجهة!
- بريطانيا: شعبوية صادمة ... ثم تعود لاوروبا!
- الإنقسام الفلسطيني: هل تكرس سيناريو -قبرص الغزاوية-؟


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد الحروب - صادق جلال العظم: السجالي الكبير وصانع النرد