أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الخطيب - فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (6)*















المزيد.....

فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (6)*


محمود الخطيب

الحوار المتمدن-العدد: 5430 - 2017 / 2 / 12 - 01:52
المحور: الادب والفن
    


(6)
أمضيتُ ليلتي في نوم متقطّع وهدوء مصطنع وهشّ في جوّ إتفاق هو الثامن في سلسلة اتفاقات وقف اطلاق النار التي أبرمت بيننا وبين الإسرائيليين، ولم تعمّر سوى أيام معدودة، لتعود بعدها المعارك الى ضراوتها. وهي اتفاقات أملتها عملية التفاوض المكوكية الجارية مع الأطراف ذات الصلة بالنزاع، والتي كان عرّابها المبعوث الأميركي فيليب حبيب. وفي الواقع، لم تكن العملية تدور حول إيجاد صيغة يمكن أن يقبل الطرفان المتحاربان بها، وإنما انحصرت في كيفيّة تنفيذ الشروط الإسرائيلية التي حملها حبيب في جعبته. وهي شروط باعثها الغطرسة ولا تستند على واقع ميداني، وملخصها أربع نقاط: الإستسلام، إلقاء السلاح، رفع الرايات البيضاء، مغادرة بيروت الى خارج لبنان.
ويبدو أن القيادة الإسرائيلية راهنت، لدى طرحها هذه الشروط، على سهولة نجاح ةجيشها في دحر مجموعات مقاتلة متفرّقة في عراء الجنوب، سرعان ما تشرذمت بسبب قائد مهندم، رخو، لم تسعفه ساقاه على الثبات، دون أن تأخذ في الإعتبار وضع ذلك الجيش الذي .يطوّق بيروت الغربية.
فعلى مدى شهر ونصف من المعارك الشرسة حتى تاريخه، لم يحقق الجيش الإسرائيلي ولو خطوة واحدة داخل المدينة. ولمّا عزم، ذات ليلة ظلماء، على القيام بمحاولة "جسّ نبض" قدرتنا، وذلك بارسال قافلة محدودة العدد من الدبابات للتسلل من معبر المتحف الى كورنيش المزرعة كان رماة
أل "آر. بي. جي" (قيل إنهم من رجال "أبو موسى") كامنين لها في ميدان سباق الخيل، بانتظار توغّلها مسافة قصيرة، ثمّ أمطروها بالقذائف ودمّروها على مَنْ بداخلها. وكان ذلك درساً قاسياً للإسرائيليين جعلهم يحجمون عن تكرار المحاولة.
وعلى الرغم من قسوة الحياة والمخاطر التي تحيق بها، لم تقابل الشروط المطروحة، في أوساطنا، بغير التندّر والسخرية، ليس استخفافاً بعدوّ يتفوّق علينا بالعديد والعتاد، ويمطرنا بحمم الموت من البرّ والبحر والجو على مدى الليل والنهار، وإنما لأننا ندرك أنه يدرك أن لا مجال لتحقيق مطالبه. قد نخسر معركة ونغادر أرضها، فهذه حرب، والحرب سجال، وتحكمها موازين القوى. لكننا لم تُسجَّل علينا، من قبل، سوابق إلقاء السلاح ولا رفع الرايات البيضاء!
مع انحسار الفجر لإطلالة الصباح الرمادية ، عادت طيور الموت تستبيح فضاءنا على هواها، محمّلة بشتّى أنواع القذائف الفتاكة ،حتى في فترات وقف اطلاق النار. وكان الناس، في أثناء القتال، يتعايشون مع هديرها بقلق وخوف. فعندما يشتدّ هديرها، يهرع الجميع الى الطوابق "التحت أرضية" باعتبارها الأكثر أماناً من غيرها.
وقد ساورني القلق على أسرتي. ففي بنايتنا، الطابق التحتاني سجن، والسجناء، في أثناء القصف، محميّون ومحسودون على ما هم فيه. أمّا من تبقّى من سكان البناية، فلا ملاجئ لهم سوى الغرف الداخلية في شققهم التي تقيهم من الزجاج المتناثر من الإرتجاجات فحسب، وليس من انفجارت القذائف المباشرة. والمنطقة مستهدفة وباتت محاطة بالخراب. فالمدينة الرياضيّة مقصوفة بغارة جوّية وجزء منها تحوّل الى ركام، ومأوى العجزة قصف على من فيه، وصبرا لم تسلم، ووراءنا في منطقة الجامعة العربية بناية بأكملها تحوّلت الى تلّة صغيرة من الحجارة على الأرض,
قبيل الظهر، توجّهت الى حيث انتقلت الصحيفة في "الحمرا". في طريقي توقفت في "الرملة البيضاء" لأتحدّث الى أحد أقارب زوجتي، اسمه خليل، يعمل "ناطور" بناية دِلوكس في المنطقة، سألته إن كان لديه شقة خالية، أو على دراية بشقة خالية في الجوار، فقال:
- حسب علمي، معظم الشقق الخالية في الجوار تمّ احتلالها من قِبَل زعران التنظيمات المسلّحة. ولكن لديّ هنا، في هذه البناية، شقتان مفروشتان متجاورتان في الطابق الثاني، هرب أصحابهما من سعير الحرب وأوصوني بالمحافظة عليهما لقاء "إكرامي" بعد عودتهم. شقتان فخمتان لا تزالان في طيّ الكتمان، ولا علم للزعران بهما. هل تريد أن تترك الفاكهاني؟
- مؤقتاً، إلى أن يهدأ الوضع بعض الشيء. أنت تعرف أن ملجأ البناية سجن، ولا مكان آخر نلجأ اليه عند الضرورة.
- حسناً، أحضر العائلة وخذ إحدى الشقتين.
- ولكنك قلت "مفروشتين"، فمن أين لي أن أدفع أجرة شقة مفروشة؟!
- وهل قلتُ "إدفع"؟ لا تدفع شيئاً. خذها دون مقابل. فبوجودك فيها تسدي لي خدمة عظيمة.
- وأية خدمة تلك؟
- أضمن، أولاً، أن إحدى الشقتين مأهولة بقريب مؤتمن. ثانياً، إنْ جاء مسلّحون لاحتلال الشقة المجاورة، أقول لهم: صاحبها في "فتح"، فلا يقربونها. وإنْ لم يصدقوني، أّذكر لهم إسمك، وأحيلهم عليك. اتفقنا؟
ضحكت:
- إذاً، هي ليست "دون مقابل". فكرة مفيدة للطرفين! حسناً، اتفقنا. أراك قبل حلول الظلام.
عندما وصلت الصحيفة وجدت في القاعة الزميلين سامي سرحان ومحمد سليمان (أبو ابراهيم) يجلسان متجاورين الى طاولتي طعام متلاصقتين، والسائق علي السوري على كرسيّ قريب منفرد.
وقد دُهش ثلاثتهم لحضوري المباغت، فصافحتهم، وجلست الى الطاولة المزدوجة قبالة الزميلين، فشرعا يوجهان الاستفسارات عن انقطاعي عنهم، والظروف التي مررت بها، وعن كيفيّة اختراقي الحصار المضروب علينا والطرق التي سلكتها.
علمت منهما أن الصحيفة متوقفة عن الصدور بسبب توقف المطبعة في الفاكهاني عن العمل، وكذلك لخطورة تنقل العاملين لدينا من، والى، منازلهم في ظروف القصف الشديد. وصار الحضور طوعيّا لمن يشاء، إن استطاع.
مرَّ وقت على هذا المنوال, واتصل أحمد عبدالرحمن (رئيس التحرير) ، الذي كان يتواجد في مكتب "أبو عمّار"، هاتفياً، فأخبره سامي .بعودتي، قال أحمد: لا تدعه يغادر قبل أن أراه. أنا قادم.
وبالفعل، لم يمض نصف ساعة وإذا به بيننا. فخمّنت، دون أن أسأل، أن "أبو عمّار" انتقل من مقرّه المعتاد في الفاكهاني إلى مكان قريب، وربما كان في ذات البناية التي نجلس فيها.
صافحني أحمد، وأبدى سروره بعودتي. سألني باستهجان:
- ماذا حدث لك؟
فشرحت له حكايتي منذ انقطاعي عنهم، وعدم تمكني من العودة الى بيروت بسبب معارك خلدة، ثمّ الحصار، وكيفيّة ذهابي الى البقاع والتقائي، في برّالياس، براتب وجلال، وبقائي هناك الى أن قررت الحضور يوم أمس.
- وأيّ طريق سلكت؟
- بكفيّا، عبر بيروت الشرقية، ودخلت من حاجز المتحف.
.- ألم يعترضك أحد؟
أجبت ممازحاً:
- بلى. اعترضني رقيب في الدرك اللبناني، عرفته قبل أن أعرفكم، فدلّني على الطريق، وأوصاني بأن لا أتوقف لأحد أو أنقل أحداً معي. وعلى حاجز المتحف، دقّق الجندي الإسرائيلي في هويّاتنا وتصفّح وجوهنا ثمّ سمح لنا بالعبور.
- وأتيت مع العائلة أيضاً؟
- طبعاً.
فضحك. ثمّ أطلعته على قيامي بالأمس بإتلاف جميع الملفات المبعثرة على الأرض في مكاتبنا بمساعدة من رمضان والأخوين يوسف. وعلى ذكر هذين الأخيرين، سألته "لماذا طردا بدون سبب ؟ ولماذا لم تدفع لهما مستحقاتهما؟" فأجاب:
- أنا لم أطرد أحداً. إسأل "أبو ابراهيم"، هو استلم مكانك.
ومن طرف عيني راقبت "أبو ابراهيم" وهو يطأطئ رأسه ويتظاهر بالإنشغال ب "لا شيء" أمام عينيه على الطاولة. قلت:
- لا لزوم للسؤال. لقد اصطحبتهما الى "المالية" بالأمس، وأعدتهما الى "الكشف المالي"، وقبضا كامل مخصصاتهما.
فلم يعلّق بشيء، وانتقلنا لاستعراض الوضع العام وعملية التفاوض الجارية، فأوجز لنا موقف القيادة من التعنّت الإسرائيلي بما ينبئ بعدم إحراز تقدّم، وأن عرّاب المفاوضات، حبيب، لا يزال يراوح مكانه. غير أنني فهمت من مجمل ما قيل أن موضوع المغادرة مطروح للنقاش، وأن ثمّة موقفين يتجاذبانه في أوساط القيادة، عسكري وسياسي.
في الشق العسكري، أوصي رئيس غرفة العمليات، العميد سعد صايل (أبو الوليد)، بعدم أخذ الشروط المطرحة في الإعتبار وعدم ،المغادرة، لأننا، حسبما نقل عنه قوله: "قادرون، بما لدينا من عتاد، على التصدّي للجيش الإسرائيلي سنتين أخريين وتكبيده خسائر فادحة، على الرغم من الحصار المضروب علينا."
في الشق السياسي، أبدى "أبو عمّار" تذمّره من الضغوط الممارسة عليه، وخصوصاً من قبل القيادة السنيّة التقليدية، التي وجدت بحضور فيليب حبيب وموقف الرئس اللبناني الياس سركيس عضداً لتبدي خشيتها من تدمير "بيروت الغربية" إذا استمرّت الحرب وبقيت الجبهات مشتعلة. وكان يمكن أن يكتسب هذا التخوّف صدقيّة لو أن الذين أبدوه هم من القيادة اللبنانية في الحركة الوطنية المشاركة في التصدي للقوات الغازية. أمّا أن يأتي من قيادة أمضت سنوات الحرب على مسافة منها ومتفرّجة، فهو، من وجهة نظري، تخوّف مفتعل يراد منه إخفاء تخوّف فعلي من فقدان احتكار موروثها الدستوري في ترؤس الحكومات اللبنانية المتعاقبة لصالح قيادة جديدة، شابّة وطموحة، أفرزتها ساحة المعركة وتمثّلت في شخصين هما إبراهيم قليلات، قائد "المرابطون"، والملازم أحمد الخطيب الذي انشق عن الجيش اللبناني وشكّل "جيش لبنان العربي" الذي سرعان ما نما وصلب عوده.
عند العصر، غادرت المكان عائداً الى الفاكهاني، وأخذت أسرتي، وبعض الملابس في حقيبة، وانتقلنا الى الشقة في الرملة البيضاء.
كانت الشقة مميّزة حقاً، يدلّ أثاثها على ثراء أصحابها. لقد ذكّرتني بمنزلي على بوليفار كميل شمعون الذي هجرته بعد اندلاع الحرب الأهلية وشيوع القتل على الهوية للنجاة بحياتي، فاستولى عليه الجيش السوري، الذي تمركز على "خط التماس" في إطار عمل "قوات الردع العربية"، واستباحه الضباط والجنود، وأقاموا على رخامه المواقد، واستخدموا كتب مكتبتي لإشعال النار لصنع الشاي وقلي البيض والبطاطا والطبخ السريع! وعندما أخلى الجيش موقعه، حمّل الضباط الأثاث والثريّات في الشاحنات، وفكك الجنود حنفيات الماء، وأزرار الكهرباء عن الجدران، واللمبات، وأقفال الأبواب، وتركوا المنزل خالياً .لتحتلّه الميليشيات المسيحيّة.
____________________
* التواريخ والأرقام وبعض الوقائع الحربية الواردة في القصة تمّ اعتمادها من "لبنان 1982: يوميات الغزو الإسرائيلي، وثائق وصور"، توزيع دار الأندلس، بيروت، لبنان، 1982.
(يتبع)



#محمود_الخطيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة (5)*
- فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (4)
- فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (3)
- فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (2)
- فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعية بحلقات (1)
- في حالة ما
- النكبة 68
- على شُرفة حلم
- يوم الأرض (حكاية فلسطينيّة)
- الضحيّة
- ... ليس كأيّ صيف (أقصوصة)
- من ذاكرة الحرب (أقصوصة)
- حزن طويل الأجل (أقصوصة)
- في الطريق الى جانيس (قصة قصسرة)
- ليلة -محور المتحف-
- الرهان
- يا وطني هل أنت بلاد الأعداء؟


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الخطيب - فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (6)*