أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل الشبيبي - البصرة جنة البستان محاولة في التجنيس الروائي















المزيد.....


البصرة جنة البستان محاولة في التجنيس الروائي


جميل الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 5427 - 2017 / 2 / 9 - 16:07
المحور: الادب والفن
    


لن يبقى لي سلاح سوى
أن أشهر طفولة مدينتي
في وجه كل ما يهدد العالم الجميل
مهدي محمد علي
كتب الشاعر مهدي محمد علي ( البصرة جنة البستان ) عام 1982 في السنة الثانية من الحرب العراقية الإيرانية واستغرق في كتابتها ثماني سنوات ورد ذلك في صفحة العنوان الأولى (كتب خلال 1982 – 1990 ) وأكدتها مقدمته انه بدا الكتابة عام 1982( وحتى هذه اللحظة بعد انجازه )وهي اللحظة المؤشرة في نهاية المقدمة في أواخر 1990 ، مما يعني انه كان مشغولا في الكتابة طيلة الفترة التي استغرقتها الحرب ( 1980- 1988)، يحاول جاهدا ان يستعيد صورة مدينة البصرة في ( الخمسينات من القرن العشرين ص5) أما لماذا اختار الشاعر هذا التاريخ من عمر المدينة فهي ( سنوات طفولتي من عمر الخامسة حتى الرابعة عشرة أنها صور مرئية وذكريات أحسست – ومنذ أكثر من عشرين عاما – بأنها مهما تبهت فأنها تتألق بمزيد من العمق بحيث تصبح معينا يغتني بالأمثلة الإنسانية والحضارية ص5).
محاولة في التجنيس
عندما كتب الشاعر كتابه في أعوام الثمانينات لم تكن السيرة تقنية واضحة في الأعمال الروائية ، كما أن الحدود كانت صارمة في النقد بين الأجناس الأدبية وهي تفصل بين السيرة والرواية ، ثم أصبحت الحدود متداخلة حين ظهرت روايات تستفيد من السيرة الذاتية للكاتب والعديد منها يعمد الى تسجيل حوادث حياتية عاشها وكأنها أحداث روائية ،وكتاب البصرة جنة البستان ليس سيرة حياة للشاعر مهدي محمد علي ، بل انه سيرة حياة مدينة سجلها عبر ذاكرته وما تحفظه من صور ومرئيات إبان طفولته الممتدة بين الخامسة والرابعة عشرة ، وهي سيرة لتلك السنوات بكل مرئياتها : شوارع وبيوت وأسواق وأضرحة وشخصيات شعبية ودينية وتقاليد الأعياد والمناسبات الدينية ....ص5-6 ) بما يشكل عالما ذا ملامح لشخوص وأماكن وأحداث تدخل في اعتبار كونها أحداث وشخصيات متخيلة بسبب غربتها عن عالم المتلقي المعاصر فالأب وألام والباعة المتجولون والأسواق والمحلات لا تحيل إلى وقائع تحت أنظار المتلقي بل أنها تنأى به إلى أماكن لا يستطيع أن يتصورها إلا عبر مفردات السارد بسبب ابتعاد الفترة التاريخية التي تجعل من هذه الأماكن والشخصيات شواخص خيالية تدخل ضمن تقنيات السرد الروائي فالبصرة وهي مجسدة في سوق الهنود وشط العشار ومبنى المحافظة وكل الشواخص الواردة في الكتاب هي شواخص مندرسة ولا تشكل للقارئ المعاصر سوى أماكن مفترضة أو حتى خيالية لا علاقة لها بالبصرة المعاصرة بحيث يكون سؤال الناقد مقداد مسعود مبررا حين يقول في مقالته عن هذا الكتاب ( من الذي يقوم بالتوصيف لفترة الخمسينات الطفل مهدي محمد علي، أم الشاعر المنفي مهدي؟.. إن الاستعادة مزدوجة القيمة فهي استعادة ما يأخذه الزمان عبر حركيته الطبيعية من الكائنات الحية وغير الحية، كما انها استعادة ما استلبته المنافي من العراقي الشاعر- موقع الحوار المتمدن – العدد 5026 في27/12/2015) واذا كان الناقد مقداد لم يجب على سؤال علاقة الراوي بالشخصيات فالواضح أن من يسرد هو الشاعر مهدي محمد علي ومن يرى الأحداث ويسمع الأصوات هو الطفل مهدي وبهذا المعنى يكون الشاعر ساردا والطفل شخصية يرى ويسمع ومن خلال شخصيته تتجسد أحداث جنة البستان ، كما أن ظهور الأماكن ( البستان ، شجرة التوت ، الخان ، سوق الهنود البصرة القديمة ومحلاتها ...الخ ) يمثل تأثيثا للمكان الروائي ، وهو تأثيث ناطق بالتفاصيل التي تجعل من هذه الأماكن شخوصا ناطقة في جنة البستان ، حين نعتبر الشخصية كائن ورقي لا علاقة لها بالانسنة .
لقد كتب الكثير من الكتاب مقالات عن هذا الكتاب ولم يحاول احد الكتاب – على حد علمي وقراءتي لبعض هذه الكتابات – تجنيسه باعتباره رواية يمتزج فيها خيال الشاعر بوقائع الأحداث في الخمسينات ، خصوصا وان الكاتب وقد ابتعد عن مدينته زمنيا ( كتبه بعد 32 عاما بعد مرور خمس سنوات على ميلاده عام 1945 وبين بداية الكتابة 1982) ومكانيا ( المنفى في سوريا ) وخلال ذلك لابد للشاعر من ترميم ذاكرته ببعض الأحداث والتصورات التي تجعل من الوقائع أحداثا اقرب للخيال ، ويتضح ذلك من قوله ( صورة آسف لضياعها ألان ...كما أسفت وأنا أعيش فيها ... ومنذ أواسط الستينات وقد تحول فيها الكثير من مرابع الطفولة الى مجرد شوارع حمقاء وأرصفة جرداء بعد ان كانت عوالم رحبة ...ص7) ومن معاني هذا الأسف أن قدرة الذاكرة تبقى محدودة إزاء ذلك الواقع المتلاشي ، ولذا سيكون السرد بالنيابة هو احد أركان هذه الرواية السيرية ، حين يكون السارد خارج الأحداث متخيلا لها وبانيا لمرافقها من خلال الكتابة المتخيلة ، وهناك براهين على انشغال السارد / الشاعر مهدي ، في ترميم ذاكرة الطفولة بتعليقات خارجية لا يمكن ان ترد على لسان طفل في الخامسة او بعدها بقليل ، من تلك المواقف : ( ظل يتذكر – من هو ؟؟- ويتحسر ويتمنى لو انه استطاع ان يرشق ذلك الجمع الذي أحاط بالمنضدة الكبيرة التي طرحوه عليها كي يقطعوا تلك الوذرة من اللحم ، لئلا يظل نجسا وغير مسلم (....) ببولة قوية (يشنترها)في وجوههم ص13) وكذلك وصفه للثوب الذي بات يرتديه (ذلك الجلباب الأبيض الشفيف ... لئلا يتأذى ، مأخوذا بمظهره الجديد ،ص13) وهو وصف لمشاعر الطفل وهيأته ، لا علاقة لها بسرد محتمل ومباشر من الطفل مهدي ، بل انه سرد من سارد خارجي عن الأحداث. ويمضي السرد وهو يتخطى الشخوص والأماكن في رحلة حلمية تنحو إلى إعادة تأسيس مدينة الأحلام ( البصرة) وقد اصبح مستقبلها (سنوات الثمانينات ) مرهونا بالدمار حين يرى الشاعر معالمها الأليفة التي عاش تفاصيلها قبل هجرته الإجبارية وهي تتهاوى بضربات المدفعية والطائرات عبر شاشات الفضائيات التي جسدت العديد من المشاهد المرعبة عن مدينة البصرة وأهلها أثناء الحرب العراقية الإيرانية ، وبهذا المعنى كان الشاعر مشغولا بتأسيس مدينة بمرافقها الحية في ذاكرته عبر الصورة والصوت مستعادة من ذاكرة طفل ، بالعلاقة مع خيال الشاعر مهدي محمد علي الذي يسعى بوعي وتصميم على تأسيس مدينة الحلم من سيرة حياة عاشها حتى خروجه مضطرا للهجرة خارجها .
نلاحظ ان السرد يبدأ في الصفحات الأولى بضمير الغائب وهو يسرد أحداثا لا يستطيع الطفل ان يسردها ، فيكون الشاعر ساردا محايثا لذاكرة الطفل مهدي ، لكنه سرعان ما يعطيه قيادة السرد بضمير الانا ليسرد أحداثا عاشها الطفل بشكل خاص ، غير ان السرد ينعطف حين يروي أحداثا عاشها شخوص لم يحدد ملامحهم ( صيادون ،باعة متجولون او حتى أخوانه آو أمه أو أخته الكبرى) فيكون السرد بعين الكاميرا حيث تتضح أفعالهم ووجهات نظرهم ،(قضاء فترة المساء قرب النهر يحمل الكثير من الاثارات فحين يضجر الجميع من الصيد وما يتطلبه من الصبر والأناة يلجأون إلى الحماقات الغريبة ...ص39) كما يتنوع السرد حين ينعطف تجاه معالم المدينة وأسواقها ، حيث تجري أفعال السارد دون سارد محدد وبعضها يأتي من ساردين يعطيهم السارد الرئيس حرية القول بينما يسرد هو صفاتهم وهيئاتهم وأصواتهم عبر ذاكرة الطفل الذي يبقى معينا دائما لا ينضب او من خلال وجهة نظرهم وهذا ما نفصل فيه في الصفحات القادمة .
جنة البستان
يحمل العنوان دلالات متعددة ، تتخذ لها فضاء رحبا كلما توغلنا عبر حركة السرد اعتبارا من المكان المحدد بالبستان ،الذي يمثل حياة الشاعر الأولى ( ها هو البستان ، وأنا أوهم نفسي بأنني أعود إليه ..ص26 ) وصولا إلى أعماق مدينة البصرة وشواخصها وشخوصها ، لتكون بديلا عن هذا المكان الصغير ، وسوف يتضح أن هذا الكتاب / الرواية قد بني على علاقة وثيقة بين الأمكنة والشخوص ، فظهور الشخصيات وانطفائها له علاقة بالمكان المحدد ولن نراها في أمكنة أخرى يسرد تفاصيلها الشاعر بعين طفولته ، وبهذا المعنى سوف لن نعثر على شخصيات تتفاعل مع الأحداث وتنمو عبر حركة السرد كما في الروايات المألوفة، بل أنها ستقدم جاهزة متكاملة عبر ذاكرة السارد الطفل ، كأنها صور فوتوغرافية حملتها الذاكرة وبقيت محتفظة بألوانها وشبابها وحيويتها كلما وردت في ثنايا السرد شانها شان شواخص المدينة المكانية التي بقيت شاخصة ببهائها على الرغم من تغير الزمان واندثارها في الواقع الفعلي المعيش .
لقد احتفظ الشاعر عبر ذاكرة الطفولة بالأماكن والشخوص بالعلاقة مع نموه وانتقالات عائلته الكثيرة التي أصبحت فضاءات لذكرياته ،وبهذا المعنى تتنوع الشخوص على وفق انحدارها من بيئتها ، وتتسم بسمات تلك البيئة .
في البستان ، تكون الذكريات غامضة وتأتي ملخصة عبر صفات حميدة او مستهجنة (أتذكر رمزية المشهورة تلك المرأة المبحوحة الصوت من مشاجراتها مع الجيران أكثر مما يتشاجر أولادها الأشقياء او بسببهم فهي تسب سبابا عجيبا وتشتم شتائم مخجلة ص19 ) يعادلها في الطيبة والهدوء ( (طلبة ) اسما نادرا لفتاة عذبة هادئة ، ولها أم عذبة وهادئة أورثت بنتها الوحيدة هذه الصفات ، لأنها جاءت إلى الدنيا تلبية لأمنية ...ص19) وفي البستان يتذكر الطفل حكايات أمه وهي تسرد بالنيابة عنه ( أيام كان لامي طفلان او ثلاثة ص54) حين كان الأب يغادر البيت و يعود ألا بعد شهر تاركا الأم وأطفالها الصغار في ذلك البستان (بدون رجل يبدد وحشة المكان ) وحين يأتي بعد شهر ( لا يكاد يسمح بسؤاله عن ذلك الغياب المفاجئ والطويل ص54) وإذا أجاب يقول انه كان في (الزيارة ) – زيارة مرقد الإمام الحسين ع .
ويعلق السارد /الشاعر ( أقول لنفسي بعد عشرين عاما من الذكرى وأنا أقاضي أبي ( وهل يأمرك الحسين أن تمعن في اهانة أمي هكذا كي تؤدي الزيارة فهل يحق لامي بعد ذلك المفتتح العاصف ان تفكر باقتراح او اعتراض على هذه الزيارة المفاجئة ص55)
ويعلق السارد على تصرفات أبيه عبر ذاكرة الطفل الذي يرى ملامح أبيه وهو غاضب ويسمع صراخه بوجه أمه وغضبه الشديد عن أي سؤال منها يعلق قائلا : (أصدقاؤه محدودون أهمهم ( جودي)صانع كراسي الخيزران الذي يحب أبي ويصغي إليه بابتسام و( الحاج كاظم ) الذي لا يلتقي به ابي إلا مرة آو مرتين في العام ..)بسبب سكنه في الإحساء !! ويقول عنه انه (لم نسمع أبي يمدح أحدا إلا نادرا ولكن كثيرا ما سمعناه يوزع استهجانه واستخفافه بمن تذكر أسماؤهم في حضرته ، وله عبارات معروفة في هذا المجال ..(فلان؟؟!والقندرة فلان والكالة ... والطكاكية ) إضافة إلى انه كان مزواجا ،ومع كل هذه الصفات البغيضة ، لكنه يتذكر أن أباه على الرغم من تدينه ( لم يكن يسمح لنفسه بالصلاة خلف أي من رجال الدين ( المقلدين )انه لا يثق بأحد منهم ليسلمه صلاته ص55) وهو إضافة إلى ذلك يرفض الربح !!( بل يخيل إلي انه كان يبحث عن الخسارات دائما كي يحفظ نفسه من احتمال ربح ( حرام) ص 55) مرددا حكمته المثلى (كن عبد الله المظلوم ولا تكن عبد الله الظالم ..)
في الطريق إلى الخان
تتسع الرؤية وتتعدد الشخصيات والأماكن ، كلما اقترب السارد من العشار حيث يعمل أخيه الأكبر في الخان ، وفي الطريق إلى الخان تشتعل ذاكرة السارد من خلال عين الطفل وهي تنير شواخص المكان بداية من ( جسر الانكليز ) مرورا بالسفارة الإيرانية وبالتقدم ناحية يمين الجسر ينتصب ( مخيم الأرمن - الطيني في الغالب بسطوحه الواطئة ونسائه اللواتي يفترشن الدرب والسطوح المتقاربة ، ويتحدثن وكأنهن على مستوى واحدة ص70) وقد أصبح كمب الأرمن ( مخيم الأرمن ) الآن خارج سجلات الذاكرة.وهناك تفصيل للمكان يشمل بيوت أثرياء البصرة ( الخضيري)و( الشمخاني) وبيت ( اصفر) ( الذي هو المركز الثقافي البريطاني ) تأتي بعده سلطة تجهيز الماء والكهرباء ثم وكالة حجي جيتا ص71) وهي شواخص مهمة في المدينة .ويستغرق وصف الشواخص التي تحيط بنهر العشار والأماكن الأخرى القريبة من النهر أكثر من تسع صفحات ، يتوقف خلالها عند أماكن مؤثرة في حياة المدينة منها :(صالون حلاقة سومر )لصاحبه ( محمد علي مهدي ذلك المواطن المغرم بالفن السينمائي والذي وضع كل ما يملك لخدمة هذا الفن من اجل سينما عراقية يزهو بها شخصيا امام السينما المصرية المتقدمة ص70) في هذا المقطع يتمرد الشاعر على عين الطفل ومعرفته بالمكان ليسرد هو ضمن خبرته بحياة المدينة عن شخصية محمد علي مهدي وصالونه ومواعيده المضبوطة (إن يحجز المواطن لنفسه موعدا – للحلاقة – باليوم والساعة والدقيقة ...ص70)وقصاته الحديثة ثم إفلاسه وانزوائه بعيدا عن العيون بعد أن كان نجم المدينة اللامع !! .ومن الشواخص التي أثارت انتباه السارد في هذا التجوال دكان ( جاسم ابو الثلج )الذي يعلق الشاعر متمردا على ذاكرة الطفل أيضا (إن منظر صندوق الثلج لا ينسى حين ينام فيه جاسم ظهرا بطريقة توحي وكأنه ينام مباشرة على ألواح الثلج كي يحظى ببرودة الألواح الجليدية المصفوفة داخل الصندوق ص71).
وفي الفصل الرابع تكون تفاصيل رحلته في الخان والناس الذين بعيشون فيه بعين الطفل وهو يعيش لحظات ممتعة لا نظير لها : الحبيبة الصغيرة التي (كانت تحبني بجرأة صافية وأنا أحبها بخجل ص85 وهي تعيش مع عائلتها: الام المسلمة نحيفة ناحلة وناعمة والأب الطيب البدين المترهل اليهودي الذي اسلم في (غرفة صغيرة تقع إلى يمين مدخل الطابق الثاني من الخان ...) اما هو فيلازم دكان أخيه الخياط ، وكان لهذا الحب البريء مكانة خاصة في نفس الطفل والشاعر ايضا ليفصل في حكايته وتتوج حكاية الحب بإصرار والديها وبمباركة أخويه ( إلى حفظ كل هذه الذكريات في صورة فوتوغرافية ...) تظهر فيها الحبيبة ( ببدلة مكشكشة رشيقة القوام تعلو وجهها ابتسامة خالدة ...) ويظهر هو (قصير ممتلئ بدشداشة وسترة ص89).
سوق الهنود
يمثل سوق الهنود ( روح المدينة ص76 ) فهو فضاء يمتلك سمات شخصية روائية اذا اعتبرنا الشخصية الروائية كائن ورقي ، فهو في جنة البستان كائن حي ينبض بالحياة عبر شواخصه المكانية وعبر عالم البشر الذين يمارسون أعمالهم ومصالحهم ابتداء من بداية اليوم وحتى غروب الشمس وبعضهم يبقى حتى ساعة متأخرة من الليل .وقد طبع السوق مواصفاته عليهم فأصبحوا كائنات هذا السوق دون غيره وبدونه فهم خارج الزمن .
اتخذ سوق الهنود حدوده واستقر على شكل معين في جنة البستان ، فهو كائن خيالي يبنيه الشاعر مهدي محمد علي من مخيلته الطفلية بعد أن اندثرت معالمه وأصبحت ذاكرة بحته حتى عند مجايلي الشاعر الإحياء ، والسوق على وفق التصنيف الروائي هو شخصية ساكنة بثوابت المكان ( المحلات ، المقاهي ، عيادات الأطباء ، المعارض ..) وهو متحرك أيضا بشخوصه الذين تخلقوا فيه وأصبحوا جزءا منه ، وبذلك يصبح السوق شخصية تشبه الشخصيات الروائية الساكنة والمتحركة ( النامية) فهم يتحركون وينطقون على وفق تواجدهم في السوق تعبيرا عن روحه وإذا خرجوا منه لم يعودوا شخوصا مؤثرين .
من اوائل المحلات التي ترد ذاكرة السارد ، دكان ( خماس ابو الشربت ) الذي يبدو ساكنا في الوصف ( تتألق الزجاجات الكبيرة المحشوة بكثير من الثلج تحمل في بطونها المنتفخة شراب البرتقال والزبيب ص113) ثم يتنفس الدكان في السوق حركة دائبة طول اليوم من خلال عمال المحل ( الذين يقودهم خماس بالمراقبة والتوجيه وله ساع او ساعيان بالمنتوج من الشرابت والدوندرمة على المحلات التي تطلبه لأصحابها أو لضيوفها أو لزبائنها المكرمين ص113) .هناك باعة متجولون ، وأصحاب بسطيات صغيرة ،تكون منزوية قرب المحلات الكبيرة وهناك أسماء دمغها السرد بصفات المهن التي يمتهنوها وقد التصقت بهم ولا يمكن التخلص منها ، مثل ( عواد ابو الفشافيش ، ابو احد الاتوجي ، صالح الجايجي ، جاسم ابو الثلج )، وفي هذا الفضاء المزدحم بالناس والبضائع والمحلات (يدخل ( تومان ).داعية سينما الحمراء الجديدة (واحمد) داعية سينما الوطني وباعة الكعك والبقصم والجرك والصمون والسمسمية والبيروتي والداطلي وبائع الصبر طيب وكبة البرغل ...ص120) يظهر تومان في صفحة أخرى من الرواية كعلامة من علامات المدينة (وهو يشمخ إلى السماء بجسده الأسود الرشيق حد الذهول انه لا ينظر أفقيا ا والى تحت إلا نادرا ...انه ينظر إلى أعلى دائما ، مكورا صدره إلى الأمام ومؤخرته إلى الخلف بشكل مبالغ فيه ، ويخطو متأرجحا على أصابع قدميه بحذاء مطاط ص80) والشاعر لا يكتفي برسم صورة خارجية لهذه الشخصية المرحة التي شغلت المدينة فترة طويلة من الزمن بل يستحضر بعض حواراته الدعائية (...تعال شوف ، شلخ ملخ ،عركات بوكسات ص79)ستبقى هذه الصورة صادقة وناطقة عن هذه الشخصية الساحرة ، وهي نموذج لمعظم الشخوص التي استحضرتها مخيلة الشاعر عبر عشرات السنين من الغياب عن المدينة .
ومن العلامات في مدينة البصرة التي يجسدها السارد – بالرجوع الى شخصية الطفل مهدي – صورة ( صبري افندي ) الذي يرد في أغنية صديقة الملاية الأفندي حيث يراه في ذاكرتها ليس افتديا كما تصوره الاغنية بل ( يرتدي الصاية والعباءة وفينة ( طربوش)حمراء على راسه ...غير ان ما كان يشد انتباهنا هو حمرة وجهه رغم هزاله وشيخوخته الواضحة ...وقد قيل لنا انه ياكل يوميا دجاجة كاملة موزعة بين الغداء والعشاء إضافة إلى الحليب والبيض والعسل في الصباح ...ص165)
طرائف وشخصيات وحكايات
تحتشد جنة البستان ، بالطرائف والحكايات البليغة التي تسرد حياة الناس في السوق او في المحلات الشعبية او عبر الحكايات الخرافية التي شكلت خزينا كبيرا في الذاكرة وهي تعبير صادق عن شخصية الشاعر المرحة طيلة حياته .
من الحكايات الطريفة في سوق الهنود حكاية ( عبد الرحمن أبو الطوابع ) ذلك الرجل الخمسيني وصاحب اصغر دكان رأيته في حياتي فهي عبارة عن (رازونة) في جدار ص133) فيها منضدة وكرسي وحقيبة يجمع فيها الطوابع المالية المعدة للبيع .
( ذات مساء رتب عبد الرحمن – كعادته – حقيبة النقود والطوابع وأغلقها جيدا وكعادته وضعها لصق قدميه أثناء إغلاق باب الدكان ..وبينما هو يهم بوضع القفل في المزلاج حفه رنين درهم مر بقربه ، فلحقه متوهما انه سقط من جيبه أثناء انحنائه وتناوله ، ثم عاد إلى استكمال إغلاق الدكان فاذا بالحقيبة قد اختفت ص133.
وهناك طريفة أخرى عن شخصية ( حضيري)الشاب المرح والأنيق الذي يعمل عاملا لبيع الشربت في احد محلات السوق (يلبي طلبات الشاربين ويوزع نكاته الطريفة ، انه شاب عصامي كان يعمل في الحرفة ويتابع دراسته حتى حصل على البكالوريا واشتغل موظفا في الموانئ فيما بعد (....) حين سئل - في المقابلة التي تؤهله للعمل –عن عدد الركعات في الصلاة ، اجاب بانها ( 17) ركعة فاراد الممتحن احراجه ( وهو عارف بضعف دينه وطرافته )قائلا له : لا ... وزعها على اوقاتها الخمسة فقال حضيري )
في الفصل الثامن ( بيت المدرسة ) تتضح صورة جلية من طرافة السارد الشاعر وهو يرتب ذاكرته ليتوغل في مجاهل المحلات الشعبية في البصرة القديمة بعد انتقال عائلته لتسكن في بيت كبير ( كان مدرسة ابتدائية ) قبل إقامتنا فيه ص 169) وهي محلة يحيى زكريا ، حين تؤنث البيوت بأسماء النساء ( فمحلتنا هذه عجيبة غريبة يمكن ان نسميها محلة النساء فالرجال لا يظهرون الا نادرا وهم يخرجون مع ظلام الفجر ويعودون مع ظلام المساء ( ....) انها محلة تحكمها النساء ...) ثم يبدأ بالعد ( بيت ام عبودي ، بيت ام فهيمة ، بيت ام غازي الملاية ،بيت ام جبار بيت ام غازي يقابله بيت أم أسامة ...) في هذه المحلة تبرز شخصيات تتألق في ذاكرة السارد وفي ذاكرة المتلقي لتحتل حيزا متميزا في السرد امثال ( وصي) راوية الأفلام وأخيه الكبير ( أسامة ) الشاب المتأنق ( وصاحب الاتيكيت والنظارات الطبية التي يندر ظهورها في محلتنا ...ص176)
في مكان آخر نتعرف على ( مكياج تلك الايام ) : الديرم والحمرة وأمشاط الشعر ،والبلكيتات والزينة الذهبية : المكادس ، الملاوي – الطوك – المعاضد ، التكوك ،الحجول الفضية ...ص103
وفي المحلات الشعبية يتواجد ( جراخ السجاجين ) و(خياط الفرفوري ) (ونداف القطن ) اضافة الى (عداي ابو الصخول ) ذلك الراعي الذي عند الفجر يطرق الأبواب لجمع ( السخلات)وأخذها إلى المرعى ص181) .
لقد استطاع الشاعر مهدي محمد علي أن يرسم ملامح مدينة خيالية بشخوصها وبيوتها وشوارعها ومحلاتها الشعبية وطقوس الأفراح والأحزان فيها ومعتقدات ناسها ومعجم لهجتها الدارجة كصورة مصغرة لمدينة البصرة الواقعية إبان فترة الخمسينات كردة فعل إزاء الدمار الذي تعرضت له بديلتها في حرب أعوام الثمانينات ، والشاعر يعيش أحزانه وكوابيسه في منفاه الإجباري خارج حدود مدينته التي أحبها واخلص لترابها .



#جميل_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تجد الأنثى هويتها في مجازات اللغة الشعرية
- الرواية العراقية بعد التغيير2003 تعالق الفضاء الت ...
- بلاغة التورية في تيمور الحزين
- (البدون)إشكالية إنسانية وليست عرقية
- تساؤلات الأنثى في عالم ذكوري
- السجن فضاء قصصيا
- البحث عن هوية في فضاء بديل (رواية عجائب بغداد ن ...
- الفيلة تطير فوق نفايات المدن
- في رواية جاهلية ليلى الجهني تتحرى سجلات إذلال الأنثى في الحا ...
- حافات الدانتيلا ذاكرة يقظة من تاريخ الأسى
- الجنون و الحجر الصحي الدائم بديلا للحياة
- عالم خارج هموم الذات
- أنثى مفخخة
- من أشكال التجريب في السرد الروائي العراقي
- قراءة في رواية مدينة الصور
- من بحوث المهرجان الثاني للشاعر كاميران موكري – السليمانية
- ذاكرة جيل الحرب تفتح نافذة على :
- الروائي إسماعيل فهد إسماعيل ونزعة التجديد في تقنيات السرد ال ...
- قراءة في ديوان اغاني موسم الجفاف
- مجازات وصور مبتكرة من عالم الطفولة


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل الشبيبي - البصرة جنة البستان محاولة في التجنيس الروائي