أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عايد عواد - رحلة إلى قلب الإلحاد بمنظور الأرثوذكس ج1















المزيد.....



رحلة إلى قلب الإلحاد بمنظور الأرثوذكس ج1


عايد عواد

الحوار المتمدن-العدد: 5426 - 2017 / 2 / 8 - 17:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد

الأستاذ حلمي القمص يعقوب

الجزء الأول: الإلحاد.. بذار ورجال


تقديم :

الأمر الذي دفعني للكتابة في موضوع الإلحاد، أن شجرة الإلحاد مازالت حيَّة، تطرح ثمارها السامة في الغرب وفي الشرق أيضًا، فكل فتى أو شاب يقرأ كتابين أو ثلاثة عن الإلحاد، أو يدخل إلى المواقع الإلحادية على شبكة الإنترنت، يتشكَّك في إيمانه، ويقول لك: أثبت لي أن ربنا موجود، ولماذا لا يكون الله هو وليد فكر الإنسان بهدف أن يهرب من الواقع المر الذي يعيش فيه، والسماء والحياة الأخرى ما هي إلاَّ خدعة يخدع بها رجال الدين والحكماء البسطاء ليصرفونهم عن واقعهم المؤلم ويعطونهم الرجاء الكاذب في حياة لا وجود لها، ومادام ليس هناك إله، ولا حياة أخرى، ولا ثواب ولا عقاب، فما الفائدة من هذه الحياة..؟ ولماذا أتحمل فيها عناء الدراسة والتمسك بالفضيلة..؟ لماذا أتعب من أجل حياة تؤول إلى العدم..؟! ما فائدة هذه الحياة، والأيام تسرع بنا إلى الفناء الذي ينتظرنا بشغف عند باب القبر..؟! لماذا لا نشجع على الانتحار وموت الرحمة..؟! ويطرح عليك أفكار شوبنهور التشاؤمية، وأفكار نيتشه الصادمة..

ويأتي آخر ليقول: لو كان الله موجودًا، فمن الذي أوجده؟ ولماذا لا يعلن عن ذاته بصورة محسوسة؟ ولماذا يترك الإنسان للمتاعب والآلام والحروب والأمراض والموت؟ هل هو غير قادر أم غير محب؟!

ويأتي ثالث ليقول: حتى لو كان الله موجودًا، وهو قد حدَّد مصيري مسبقًا إذا كان الملكوت أو جهنم النار، فلماذا أتعِب نفسي في جهاد روحي من صوم وصلاة وتمسك بوصايا الإنجيل.. إلخ.

من أجل هذا، كان هذا الكتاب "رحلة إلى قلب الإلحاد" كمحاولة متواضعة، شمعة صغيرة، لعلها تفضح ظلمة الإلحاد، إله القتل والهلاك، وتنير الطريق للمعرَّضين للشكوك والإلحادية، ولعلها تكون فرصة نجاة لشبابنا الذين يتلظون بنيران الإلحاد، لعلهم يعيدون ترتيب أفكارهم، ويهربون من سجن الإلحاد القاسي، سجن الكآبة وظل الموت، سجن الضيق والضجر وصغر النفس، سجن التيه والضياع، ويلقون بأنفسهم في الأحضان الأبوية التي تنتظر عودتهم بشغف زائد، فيعودون إلى بساطة الإيمان ويستردون بهجتهم التي ضاعت وفرحتهم التي سُلبت منهم، ويلتفتون إلى الوزنات التي أودعها الله إياهم، فيتاجرون ويربحون، واثقين أنه ينتظرنا باشتياق كبير على أبواب الملكوت فاتحًا أحضانه لنا لنكون معه في كل حين في سعادة أبدية لا تنتهي.

يا ربي يسوع المسيح.. يا ليت كتابي هذا يكون بلسمًا شافيًا لمن لدغته الحيَّة القديمة، ويكون وقاية لأولادنا لئلا ينزلقوا في هوة الإلحاد التي طالما ابتلعت عمالقة الفكر والذكاء، وابتلعت الملايين ولا تشبع.. يا ليت دماء ملايين شهداء الشيوعية المُلحدة تشفع من أجل كل شاب ضل الطريق، فالدماء الصارخة من الأرض لها قوتها وقدرتها، وأنت يا إلهي على كل شيء قدير، لأن لك المجد الدائم إلى الأبد آمين.

صاحب موسوعة اقرأ وافهم

والآن أتركك يا صديقي مع كتابك هذا " رحلة إلى قلب الإلحاد " ولكيما تسهل مطالعته رأيت تقسيمه إلى جزئين:



الجزء الأول: الإلحاد.. بذار ورجال

ويدور حول أسباب الإلحاد، ورجال زرعوا الإلحاد، وذلك من خلال بابين:

الباب الأول: بذار الإلحاد

ويتناول ستة فصول هي:

الفصل الأول: الصراع البروتستانتي الكاثوليكي

الفصل الثاني: نظرية التطوُّر والبقاء للأصلح

الفصل الثالث: الظُلم والطُغيان

الفصل الرابع: شهوة الكبرياء

الفصل الخامس: الكوارث والحروب والعقاب الأبدي

الفصل السادس: الخلط بين المسيحية والشيوعية

الباب الثاني: رجال زرعوا الإلحاد

ويتناول شخصيات كان لهم دورهم في إرساء مبادئ الإلحاد وهم:

كارل ماركس (1818-1883م.)

لينين (1870-1924م.)

ستالين (1879-1953م.)

هولباخ (1723-1789م.)

جورج هيجل (1770-1831م.)

آرثر شوبنهَور (1788-1860م.)

فريدريك نيتشه (1844-1900م.)

آدولف هتلر (1889-1945م.)

ماوتسي تونج (1893-1876م.)

برتراند راسل (1872-1970م.)

جان بول سارتر (1905-1980م.)

الجزء الثاني: ثمار الإلحاد

ويدور حول الثمار المرة التي طرحتها شجرة الإلحاد، أي المبادئ الفاسدة التي أرساها الإلحاد، فنطرحها على بساط البحث، ونناقشها، ونرد عليها من خلال الباب الثالث والذي يشمل خمسة فصول:

الفصل الأول: إنكار وجود الله

الفصل الثاني: الاعتقاد بأزلية المادة وتطورها

الفصل الثالث: تأليه الإنسان ورفض السلطة الإلهيَّة

الفصل الرابع: الدين أفيون الشعوب

الفصل الخامس: الكتاب المقدَّس و سفر الإلحاد

ويبدأ كل باب بجزء من قصة ذئب شيوعي تصطاده الحملان، وينتهي الباب الأول والثاني بنظرة تأمل. أما الجزء الثاني فينتهي كل فصل فيه بلقطة للتاريخ بالإضافة إلى نظرة تأمل.


شجرة الإلحاد

أصدرت جامعة أكسفورد عام 1982 " الموسوعة المسيحية العالمية " إعداد "دافيد ب. باريث"، وهي حصيلة أبحاث قام بها 370 باحثًا في 223 دولة، وقد استغرقت الدراسة نحو 12 سنة (من 1968 - 1980م) وإن كانت هذه الدراسة ينقصها بعض الدقة بسبب صعوبة الحصول على معلومات على مستوى العالم، إلاَّ أنها تُعتبر مؤشر هام للحقيقة، وقد جاء فيها أن عدد الطوائف والملل والنحل في المسيحية 20800 ملة، وأن نسبة المسيحيين في العالم سنة 500 م. كانت 22%، وفي سنة 1500م انخفضت إلى 19%، وفي سنة 1900 م. وصلت إلى 4ر34% وفي سنة 1980 انخفضت النسبة إلى 8ر32%.

وأن العلمانية (اللادينية) تتخذ أشكالًا مختلفة مثل المادية العلمية، والإلحاد، والشيوعية الملحدة، واللاادرية، والفاشية، والمذهب المادي، والمذهب الإنساني الليبرالي، وقد تزايدت نسبة العلمانية بصورة ضخمة، فبعد أن كانت نسبتها سنة 1900م لا تزيد عن 2% بلغت سنة 1980م 8ر20%، وسجلت أعلى معدلاتها في السويد حيث وصلت إلى 7ر28%، بينما جاءت في اليونان أقل نسبة حيث وصلت إلى 3ر0% وفي النرويج 7ر1%، أما في الدول الشيوعية فكانت أعلى نسبة في ألبانيا 74% والصين 2ر71% والإتحاد السوفيتي 2ر51% وأقل نسبة في هذه الدول الشيوعية في كمبوتشيا 2ر5% وفي بولندا 5ر9%0 أما في الدول الإسلامية فأعلى نسبة سجلتها الأردن 2% وأقل نسبة سجلتها تركيبا وليبيا 1ر0% أما في أفغانستان وإيران وباكستان والمغرب فوصلت النسبة إلى صفر%، وفي دول آسيا وأفريقيا سجلت اليابان أعلى نسبة 12% وسجلت غينيا أقل نسبة 1ر0%، وفي أمريكا اللاتينية سجلت أورجواي أعلى نسبة 1ر35% أما بارجواي فسجلت أقل نسبة 5ر0% للعلمانية (اللادينية).

وحول سؤال "هل تؤمن بالله؟" قام الباحثون في 12 دولة غربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة واليابان باستطلاع الرأي، وذلك بين عامي 1981، 1982، وقام قسم الاجتماع بجامعة توند نهايم بالنرويج بنشر نتائج هذا البحث، فسجلت اليابان أعلى نسبة، حيث بلغت نسبة المُلحدين 23% ونسبة اللاادريين 38%، بينما بلغت نسبة المُلحدين في السويد 35% واللاادريين 14%، بينما سجلت الولايات المتحدة أقل نسبة فكانت نسبة المُلحدين 2% واللاادريين 3% 0 ؛

ذئب شيوعي تصطاده الحملان 1

هذه قصة حقيقية لذئب شيوعي لم يحتمل وداعة الحملان، فصار حملًا مثلهم.. يقول "سيرجي كورداكوف": "لقد رُبّيت على تعاليم ماركس ولينين، وكانا آلهتي، وكنت أنحني ثلاث مرات أمام الجسد الميت للينين في موسكو وكنت أوجه له صلاة حارة كأنه إله، فقد كان إلهي وسيدي" (1).

طفل في ملجأ:

تعرض والد سيرجي للقتل، وماتت أمه كمدًا عليه، وأُخذ هو إلى الملجأ، وملاجئ الشيوعية لا تعرف ذرة من الحب، فالبغضاء تسود بين الأولاد وبعضهم، وبين الأولاد والمعلمين، وبين المعلمين والمدير، وكانت السمة السائدة في الملاجئ هي الخوف الذي يستبد بالجميع، فالأولاد بسبب العقوبات الشديدة يعيشون حياة غير طبيعية، بل والمعلمون أيضًا يخافون من المديرين لأن عقوباتهم كانت صارمة، فالجميع شيوعيين، والشيوعية لا تعرف للرحمة بابًا، وترى العطف ضعفًا، وتُمجّد القوة والقسوة كما سنرى ذلك في فلسفة "نيتشه" الألماني، ويحكي " سيرجي " عن موقف من مواقف عديدة كانت تحدث في الملجأ، وكيف تعرَّض للضرب المبرح من أجل عشقه للقراءة، فيقول "لقد أدركنا في الملجأ شيئًا فشيئًا الوحشية والقسوة اللتين تعتملان في قلوب مسئولي الملجأ من نحونا. فقد كان يتم عقابنا لأتفه الأسباب. كانت إحدى قوانين الملجأ تلزم كل الأطفال بالنوم قسرًا وقت الظهر، ولم أكن ألتزم بهذا القانون، فقد كان شغفي بالقراءة يجعلني أسحب اللمبة تحت الغطاء، وأواصل قراءتي. ولكن حدث ذات يوم ما ليس في الحسبان إذ أقبل عليَّ " العم نيشي " وهو نصف سكران وأخذني على حين غرة وأنا تحت الغطاء وإذ بي أجد يدًا تسحبني من تحت الغطاء وترفعني عاليًا ثم تتركني أهوي على الأرض، ثم بدأ يضربني بكلتا يديه ورجليه بمنتهى القسوة ولم يترك جزءًا من جسمي يفلت من أذاه وهو يردد أنه سيعطيني درسًا لن أنساه لأنني أقرأ وقت الظهر، وهو يردد ويفعل هذا في نشوة سكره مقهقهًا. كم كنتُ أرتعد وأنا تحت يديه من ذلك الضرب الذي يسميه هو " فيتامين ب". ثم خلع حزامه وواصل ضربي وهو يقول: أعدد نفسك جيدًا لفيتامين ب، ولم يتركني إلاَّ بعد أن كدت أموت من شدة الضرب وسط فزع الأطفال وذعرهم إذ رأوا الدم ينزف بكثرة من أماكن عديد في جسمي. لم أخف في حياتي كما في هذه اللحظة" (2).

شاب يعبد الشيوعية:

تدرج " سيرجي " في دراسته إلى أن وصل بجهده، ورغم الظروف القاسية التي كان يعيشها إلى الأكاديمية البحرية، وقد كرَّس حياته بالكامل لروسيا الشيوعية بعد أن تربى على مبادئ الشيوعية وتشرَّب بها، بل أنه كان يقوم بتدريس المواد الشيوعية في الأكاديمية، ويعقد المؤتمرات من أجل هذا الغرض، وكان على اتصال دائم بالمسئولين من الحزب الشيوعي، الذين لمسوا مدى حبه الذي يصل إلى حد العبادة لكل ما هو شيوعي، وتفانيه من أجل رفع مبادئ الشيوعية، لذلك تم اختياره من قِبل جهاز المخابرات الروسية K.G.B سنة 1969م ليقوم بتنظيم فرقة تأديب للمؤمنين، تعمل تحت أمرة البوليس السري، لقاء 25 روبلا مقابل كل عملية. أنه مبلغ ضخم جدًا، فإن كل مصروفه في الشهر من الكلية كان سبعة روبلات، ومتى أنهى دراسته ودخل مجال العمل يصل راتبه إلى 65 روبل، فانبهر " سيرجي " بهذا العرض المغري، وتفهم طبيعة عمله جيدًا، فاختار بعض الطلبة من نفس الكلية البحرية، من أبطال الملاكمة والجودو والكراتيه، وأيضًا كان العرض مُغريًّا جدًا لهؤلاء الطلبة، فكل منهم سيتقاضى مثل سرجي 25 روبلًا عن كل عملية قبضٍ على المسيحيين، فالموضوع في حقيقته ليس موضوع قبض لكنه قتال عنيف من جانب واحد، موضوع طحن وتكسير عظام يصل إلى حد القتل، بدون أية مسئولية جنائية تقع على القاتل، فقد كانت الحرب شعواء ضد الدين وضد كل إنسان يشتم من رائحته أن لديه ميول للتدين، ويحكي "سيرجي" أنه في إحدى عملياته السرية.. (يتبع - الباب الثاني).

وترجع جذور الإلحاد إلى الأزمنة القديمة، فطالما شكَّك الشيطان في حقيقة وجود الله الخالق ضابط الكل، ولعل جولات الشيطان مع أيوب البار كانت تهدف لزعزعة إيمانه بالله الخالق، أو على الأقل بالله ضابط الكل مُحب البشر، ولا نعجب عندما نسمع داود النبي منذ القديم يقول "قال الجاهل في قلبه ليس إله.. الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم يطلب الله" (مز 14: 1).

الحواشي والمراجع
(1) ترجمة نشأت مرجان - شاول طرسوس جديد - قصة ذئب شيوعي يتحوَّل إلى المسيحية ص 12
(2) قصة ذئب شيوعي يتحوَّل إلى المسحية ص 35


ما هو الإلحاد؟ وما هي أنواعه؟ وما هو الفرق بين الإلحاد، واللادين، واللاأدرية؟

ولكن كبادئ ذي بدء دعنا يا صديقي نتساءل:

س1: ما هو الإلحاد؟ وما هي أنواعه؟ وما هو الفرق بين الإلحاد، واللادين، واللاأدرية؟

ج: الإلحاد Atheism:

هو مصطلح عام يستعمل لوصف تيار فكري وفلسفي يتمركز حول فكرة إنكار وجود خالق أعظم، أو أية قوة إلهية بمفهوم الديانات السائدة. وببساطة شديدة فإن الإلحاد يعني إنكار وجود الله لعدم توافر الأدلة على وجوده، فمنطق الإلحاد هو " إن ما لم تثبته التجربة العلمية يكون خاطئًا وتافهًا ومنقوصًا من أساسه، ونحن لا نؤمن إلاَّ بالعلم وبالمنهج العلمي، فما تراه العين وتسمعه الأذن وتلمسه اليد، وما يمكن أن يُقاس بالمقياس والمكيال والمخبار وما إلى ذلك من أدوات هذا الحق. وأما ما عدا ذلك مما يخرج عن دائرة العلوم التجريبية ومنهجها فلا نصدقه" (1). هذا مفهوم الإلحاد قديمًا. ثم أكتشف الإنسان أن الحواس البشرية تعجز عن إدراك أمور كثيرة وليس معنى هذا أن هذه الأمور غير موجودة، فالعين البشرية تقف عاجزة أمام رؤية الكائنات الدقيقة مثل البكتريا أو الأميبا، بينما تنجح في هذا بواسطة الميكروسكوب، وأيضًا تقف عاجزة أمام إدراك ما يدور حولنا من أجرام سماوية بعيدة جدًا. بينما تنجح في هذا بواسطة التلسكوب، وبينما طائر الكناري يرى جميع الألوان فإن العين البشرية تعجز عن هذا، وبينما للصقر قدرة على رؤية أرنب بين الحشائش، وهو يُحلق على ارتفاع نحو ثلاث كيلومترات، لأنه يُكبّر الصورة ثمان مرات، فإن الإنسان يعجز عن هذا، والأذن البشرية تعجز عن التقاط الأصوات التي تلتقطها أذن بعض الحيوانات مثل الكلاب والغزلان، التي تلتقط أصوات الزلزال قبل حدوثه بنحو عشرين دقيقة. بل أن الحواس البشرية قد تخدعنا، فالإنسان التائه في الصحراء ملتمسًا النجاة يرى السراب، والسراب ليس حقيقة، والملعقة في كوب الماء نجدها مكسورة وكذلك المجداف في المياه، وهما ليس كذلك.

أنواع الإلحاد:

بسبب ضعف الحجة التي أعتمد عليها الإلحاد قديمًا، وهي عدم إدراك الله بالحواس البشرية، وبعد أن بات العلم الحديث يثبت وجود الله بقوة، وقد تجلَّت القدرة الإلهيَّة في الخلية الحيَّة التي لا تُرى بالعين المجردة، وكذلك بعد التعمق في الفلسفة، حتى أن " فرانسيس بيكون" (1561 - 1626م) قال " أن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان" (2)، ولهذا ظهر " الإلحاد المعاصر " الذي يتجاهل تمامًا وجود الله، ويؤلّه الإنسان، فإن كان الله موجودًا فليبق في سمائه وليترك الإنسان إلهًا لهذا الكون، فقال الشاعر الفرنسي " بريفير": "أبانا الذي في السموات، ابقَ فيها" (3) فالاعتقاد بوجود الله يلغي كرامة وسلطان الإنسان على الأرض، فلسان حال الإلحاد المعاصر هو " إذا كان الإنسان إلهًا، فلا يحق لله أن يوجد"،

ويقول "إيتان بورن " عن الإلحاد المعاصر " أنه مبدأ أولي، أو بالأحرى تصميم أولي، فيجب أن لا يكون الله لكي يوجد الإنسان" (4) وقال " فويرباخ": "أن نقطة التحوُّل الكبرى في التاريخ ستكون في اللحظة التي سيعي فيها الإنسان أن الإله الوحيد هو الإنسان نفسه" (5) أي الإنسان هو إله الإنسان وقال " كارل ماركس": "كل كائن لن يعتبر نفسه مستقلًا إلاَّ إذا كان مكتفيًا بذاته. ولن يكون مكتفيًا بذاته إلاَّ إذا كان هو مصدر وجوده. إن الإنسان الذي يعيش من فضل غيره يشعر بنفسه كائنًا تابعًا" (6) وادَّعى "ماركس" أن الإنسان الذي يشعر أن الله هو الذي خلقه، وهو الذي يحفظ حياته، فهو إنسان تابع وليس مستقلًا، ولذلك دعا لنبذ الدين قائلًا " أن نقد الدين يُخرج الإنسان من أوهامه، ويحمله على أن يفكر ويعمل وينظم واقعه كرجل تخلَّص من الوهم وبلغ إلى الرشد، حتى يدور حول ذاته، حول شمسه الحقيقية، وما الدين إلاَّ الشمس الوهمية" (7) كما ادَّعى "ماركس" أن الإيمان بالله يعني هدم قيمة الإنسان وقدره، فقال " أن الإيمان بالله يقضي بالاعتراف بعدم قيمة الإنسان. إذًا كان لابد من الاستغناء عن الله لإنقاذ الإنسان" (8) ولخص "ماركس" فلسفته الإلحادية في قوله " أن الإلحاد هو إنكار الله، وبهذا الإنكار يؤكد وجود الإنسان" (9).

ويقول "نيافة الأنبا غريغوريوس": "الإلحاد المعاصر ليس إلحادًا عقلانيًا، ولا فلسفيًا، ولا منطقيًا، ولا علميًا.. إنما هو إلحاد تصميم.. تصميم بالرفض لفكرة الله.. وذلك بسبب خبرة حزينة عن بعض الأفراد أو عند بعض الشعوب، خبرة مؤلمة وقاسية.. عن الدين والمتدينين أو عن الملوك والحكام الذين يتخذون الدين غلافًا يغلفون به تصرفاتهم ويستندون فيها كذبًا وبهتانًا إلى الله" (10).

والإلحاد قد يكون ظاهرًا متى أعلنه الإنسان الذي يؤمن به للغير، وقد يكون مُبطَنًا متى أبطنه الإنسان وأخفاه عن الغير.

اللادين:

جاء تعريف " اللادين " في القواميس على أنه:

أ - انعدام الإيمان بالأديان، إما لعدم توفر المعلومات، وإما أن يكون بصورة متعمدة.

ب- عدم احترام فكرة اتخاذ الدين كفكرة مركزية لتنظيم حياة الإنسان.

ج- اختيار طريقة وأسلوب في الحياة لا تتماشى مع الدين.

وببساطة شديدة أن الإنسان اللاديني ينكر الأديان جميعها، ويرى أنها لا تصل بالإنسان لله، ويسير حسب هواه لا يتقيد بمبادئ الدين.

اللاادرية:

بين الإيمان والإلحاد تقف " اللاادرية"، ولسان حال الإنسان اللا أدري: لا أدري.. هل الله موجود..؟ هل الله غير موجود..؟ لا أدري ولا أعرف، هل هناك عالم آخر..؟ هل هناك أرواح..؟ هل هناك ثواب وعقاب..؟ لا أدري، فكل معرفة هي معرفة نسبية وليست أكيدة، ولا يمكن الجزم بأمر ما، فما أراه أنا صائبًا يراه غيري خاطئًا، والعكس قد يحدث، بل أن حكم الإنسان في أمر ما قد يختلف من وقت لآخر، ومن ظروف لأخرى، ولذلك فالأفضل أن أقول أنني لا أدري، والإنسان اللاادري مثل إنسان أعمى تائه لا يدرك طريقه، وكريشة في مهب الرياح تحملها كيفما تشاء، والفكر اللاادري لا يشبع الإنسان، بل يجرده من شخصيته ويتركه في متاهة، ولن يعفيه من مواجهة المصير المحتوم عندما يقف الإنسان ليعطي حسابًا أمام منبر الديان العادل.

وقد زاد الإلحاد واستشرى منذ القرن السابع عشر فصاعدًا، ولاسيما في دول أوربا، وبالأكثر في روسيا ودول الكتلة الشرقية، فهناك عوامل زكَّت نيران الإلحاد وساعدت على انتشاره، نذكر منها الآتي:



الفصل الأول: الصراع البروتستانتي الكاثوليكي

الفصل الثاني: نظرية التطوُّر والبقاء للأصلح

الفصل الثالث: الظُلم والطُغيان

الفصل الرابع: شهوة الكبرياء

الفصل الخامس: الكوارث والحروب والعقاب الأبدي

الفصل السادس: الخلط بين المسيحية والشيوعية

_____

الحواشي والمراجع
(1) أ. رأفت شوقي - الإلحاد بعض مدارسه.. والرد عليها ج 2 ص 73، 74

(2) رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 58

(3) القمص تادرس يعقوب - تفسير سفر التكوين ص 53

(4) رأفت شوقي - الإلحاد.. نشأته وتطوُّره ج 1 ص 114

(5) القمص تادرس يعقوب - سفر التكوين ص 53

(6) رأفت شوقي - الإلحاد.. نشأته وتطوُّره ج 1 ص 115

(7) رأفت شوقي - الإلحاد.. نشأته وتطوُّره ج 1 ص 116

(8) المرجع السابع ص 116

(9) المرجع السابق ص 116

(10) الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 17



الفصل الأول: الصراع البروتستانتي الكاثوليكي



س2: كيف أفضى الصراع البروتستانتي الكاثوليكي، ولاسيما حرب الثلاثين عامًا، إلى كراهية الله؟

ج: دعنا يا صديقي نتطرق إلى الجذور، ونعرض باختصار شديد قصة الأب الأغسطينوس الأغسطيني الذي وُلِد بألمانيا في 10 نوفمبر 1483م، وعاش طفولة قاسية معذَّبة في أسرة فقيرة تضم الوالدين وسبعة أبناء، تعاني من قلة الدخل، وقد لاقى هذا الابن معاملة سيئة في البيت والمدرسة، فتارة ضربته أمه بالسوط حتى أنفجر الدم من جسده بسبب حبة جوز، وتارة ضربه والده ضربًا مُبرحًا، حتى أنه لم يأنس إليه إلاَّ بعد عدة أيام، وفي يوم واحد ضُرب في المدرسة خمسة عشرة مرة، وعندما شبَّ تعرض لعدة حوادث جعلته يقف مواجهة أمام الموت، فتعرَّض أحد أصدقائه للمرض والموت، وأُغتيل صديقه " ألكسيس " في ظروف غامضة، وفي سنة 1503م أثناء عودته من الجامعة سقط في حفرة وتعرَّض للنزيف الحاد، وفي 2 يوليو 1505م أثناء عبوره الغابة في ستوترنهايم، هبت عاصفة شديدة، صاحبتها البروق والرعود بصورة مرعبة، وسقطت بجواره صاعقة كادت تصعقه، واقتلعت العاصفة الهوجاء شجرة ضخمة وطرحتها أمامه، فسقط على الأرض فزعًا، وفي هذه اللحظة المأسوية نذر نفسه للرهبنة متشفعًا بالقديسة حنة أم العذراء مريم قائلًا " يا قديسة حنة.. إذا أنقذتيني سأكون راهبًا بقية حياتي " وفعلًا بعد أن أنهى دراسته، دخل إلى دير القديس أوغسطين تاركًا منصبه كأستاذ في الجامعة،

ولكن هذا النذر كان قسرًا، وهو ما عبَّر عنه فيما بعد الأب أغسطينوس عندما كتب لوالده يقول "أتذكَّر.. أني قلت لك أن دعوة مخيفة من السماء قد وُجهت إليَّ، فلم أصر راهبًا رغبة مني أو مسرة في الرهبنة بل دُفعت بطريقة لا تُقاوم للنطق بهذا النذر" (1) فدعوة الرهبنة المُفرحة للقلب كانت بالنسبة لهذا الراهب دعوة مخيفة أنقضت عليه من السماء، ولهذا لم ينجح في حياة الرهبنة، فمعاملة والديه ومدرسيه القاسية طبعت صورة سيئة للغاية عن الله في ذهنه، فلم يرَ في الله الأب المُحب الباذل طويل الأناة، إنما رآه الإله القاسي المنتقم الجبار الذي يسر بهلاك الإنسان، وقد أعدَّ له النار الأبدية، فصار هذا الراهب مرتعبًا من العقاب الإلهي، فاقد الرجاء، ناقمًا على الله وثائرًا ضده، ولهذا عندما رآه مرشده الروحي "يوحنا ستوبيز" عابسًا خائفًا قال له: "ليس الله هو الغاضب عليك أو الثائر ضدك، بل أنت الغاضب والثائر ضد الله".. وهكذا كانت حياة الراهب أغسطينوس، فقال: "عندما قمت بخدمة أول قداس لي شعرت أني على حافة الموت " وكان يصف حالته بأنه يعيش مُحطَّم حزين، عندما يصلي تحيط به الشياطين، ولا يجرؤ على انتهارها، وانتهى به المطاف إلى كراهية الله، فقال: "لم أستطع أن أحب هذا البار بل كرهته".

وترك الراهب أغسطينوس الأغسطيني ديره وعاد إلى حياته العلمانية، ولم يكن هذا الراهب سوى "مارتن لوثر" الذي يدعونه قائد الإصلاح، وهنا قد يتساءل أحد الأحباء البروتستانت: ما هذا التعصب الأرثوذكسي وما هذا الشطط؟ ما علاقة المُصلح بالإلحاد..؟! وهذا ما سنراه حالًا الآن.

ومن الجانب الآخر قد ساد الفساد في الوسط الكاثوليكي فتفشت الرشوة والسيمونية وصكوك الغفران، وانتشر الانحلال الخُلقي حتى بين المستويات الدينية الكاثوليكية.. إلخ، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. وكل هذا قد أثار لوثر، فعلَّق 95 احتجاجًا على باب كاتدرائية ويتمبرج في 31 أكتوبر 1517م، وقد أعتبر الأخوة البروتستانت هذا اليوم هو بداية تاريخ الإصلاح.

وفي 10 ديسمبر 1529م خرج لوثر على رأس حشد من الأصدقاء وأساتذة جامعة ويتمبرج، حيث أحرق كتب القانون الكنسي، ثم ذرى رمادها في مياه النهر، أمام حشود الشعب الألماني التي أخذت تهتف بأن " ألمانيا ليس ذيلًا للبابوية". وبهذا أشعل لوثر نيران الحقد في قلوب الشعب الألماني، ولاسيما الفلاحين والعمال الذين اشتعلوا غضبًا ضد الأكليروس والأمراء، وقد شجعهم لوثر على هذا فكانت ثورة الفلاحين، وأصدر لوثر تحذيره للأمراء قائلًا أن غضب الفلاحين يعلن لكم غضب الله، فاندفع الفلاحين في ثورة رهيبة نحو قصور الأمراء يقتلون ويسلبون ويحرقون ويهدمون ويدمرون، وفي 26 أبريل 1524م أصدر لوثر بيانه للفلاحين " تقدموا.. تقدموا إلى الأمام.. ولتظل سيوفكم ساخنة بالدماء بدون شفقة " ولكن الأمور لم تسر حسب هوى الفلاحين، حيث أسرع الأمراء باستئجار بعض المحاربين الإيطاليين، وانقلبت الدفة على الفلاحين، والأمر المدهش أن مارتن لوثر غيَّر اتجاهه 180 درجة، إذ صرخ صرخته التي سجلها له التاريخ، قائلًا للأمراء والمحاربين " قاتلوا هؤلاء الفلاحين ككلاب مسعورة" (2) وكانت نتيجة الضحايا من الطرفين 100 ألف قتيل.

وفي سنة 1526م أحاط بأسوار روما عشرون ألف مقاتل ألماني وأسباني، وفتحوا ثغرة في السور، ويقف اللسان عاجزًا عن وصف ما فعله هؤلاء الجنود بالقصور التي سلبوها وقتلوا من فيها وأشعلوا النيران بها، والكنائس التي حوَّلوها إلى إسطبلات للخيول، وما تعرَّض له الأكليروس من عذابات رهيبة وقتل وتشريد، وما تعرَّضت له الراهبات اللاتي انتزعهنَّ الجنود من أحضان الأديرة، وأرغموهنَّ على الزواج، وظل الجنود يهتفون "لوثر بابا روما" ويقول "دكتور عزت زكي": "يقول مؤرخ معاصر (للأحداث) عن قصة شاهد عيان: وتدفق الألمان والأسبان ينهبون ويقتلون دون مراعاة لأي اعتبار، حتى الأطفال والنساء، ولم تشفع لهم استرحاماتهم ودموعهم وعبثًا حاول القواد إيقاف الجند -الثملين بخمرة النصر- والويل كل الويل لمن كان يقع في أيديهم من الكرادلة الذين لم ينجحوا في الهرب، فقد كان نصيبهم السحل في شوارع روما حتى الموت. وشُوهدت جماعة تمسك بأحد الأساقفة، كلَّلت رأسه بأغصان الشجر وعرضته في السوق للبيع كالسوائم، قبل الإجهاز عليه.

أما الكنائس فقد تحوَّلت إلى إسطبلات للخيل، وتكدَّست الخيول داخل كنيسة القديس بطرس وخارجها، والويل للراهبات والعذارى، فلقد كان الجند ينتزعونهن انتزاعًا من الأديرة ومن أحضان أمهاتنا" (3) وكان نتيجة اقتحام روما قتل ثلاثة وخمسين ألف نفس وهكذا وُلدت البروتستانتية في حلبة الصراع مع الكنيسة الكاثوليكية (راجع كتابنا: يا إخوتنا البروتستانت.. هلموا نتحاور ج1 ص 8 - 52).

وبعد نحو قرن من الزمان من الصراع غرقت أوربا في صراع عنيف وحروب طاحنة عُرفت بحرب الثلاثين عامًا من 1618 - 1648م بين البروتستانت والكاثوليك، ونجم عنها خسائر بشرية فادحة، فمثلًا قُتل في أيرلندا نحو مائة ألف رجل، وقُتل ثلث رجال ألمانيا، وانتهت هذه الحروب بسلام " وستفاليا " Westphalia الذي أقرَّ الحرية الدينية للجميع، لكيما يعيش اللوثريون مع الكالفنيين مع الكاثوليك في سلام، ولكن من نتائج هذا الصراع البروتستانتي الكاثوليكي الطويل المرير القاسي أن كَرِه الناس الدين والعقيدة والكتاب المقدَّس، بل كرهوا الله ذاته.

ورأى البعض أن كراهية "مارتن لوثر" لليهود ربما قد انتقلت إلى "هتلر" ففعل بهم ما فعل من المحارق، مما كان له تأثيره في امتداد موجة الإلحاد، فيقول "ريتشارد دوكنز": "أن الكُره المسيحي لليهود ليس فقط تقليدًا كاثوليكيا، بل مارتن لوثر كان معاديًا للسامية (الشعب اليهودي)، وكتب يقول {يجب طرد جميع اليهود من ألمانيا} وكتب كتابًا كاملًا عن اليهود وأكاذيبهم، والذي ربما كان له تأثير على هتلر. لوثر وصف اليهود بـ"ذرية الأفاعي" ونفس العبارة استخدمت من قبل هتلر في خطابه المشهور عام 1922م الذي كرَّر فيه مرارًا بأن مسيحي:

شعوري كمسيحي يوجهني نحو إلهي ومخلصي كمحارب.. وبحب لا متناه كمسيحي وكرجل أقرأ من خلال العبارات التي تقول لنا كيف انتصب الإله في قدرته أخيرًا وأخذ السوط بيده لطرد ذرية الأفاعي من المعبد. كانت حربه مثالًا مثاليًا للعالم ضد السم اليهودي، واليوم بعد ألفي عام، وبأعمق العواطف، أعرف بثقة لم أعرفها قبلًا بأنه من أجل ذلك قد بذل دمائه على الصليب.." (4).

ورأى البعض أن كراهية "مارتن لوثر" لليهود ربما قد انتقلت إلى "هتلر" ففعل بهم ما فعل من المحارق، مما كان له تأثيره في امتداد موجة الإلحاد، فيقول "ريتشارد دوكنز": "أن الكُره المسيحي لليهود ليس فقط تقليدًا كاثوليكيا، بل مارتن لوثر كان معاديًا للسامية (الشعب اليهودي)، وكتب يقول {يجب طرد جميع اليهود من ألمانيا} وكتب كتابًا كاملًا عن اليهود وأكاذيبهم، والذي ربما كان له تأثير على هتلر. لوثر وصف اليهود بـ"ذرية الأفاعي" ونفس العبارة استخدمت من قبل هتلر في خطابه المشهور عام 1922م الذي كرَّر فيه مرارًا بأن مسيحي:

شعوري كمسيحي يوجهني نحو إلهي ومخلصي كمحارب.. وبحب لا متناه كمسيحي وكرجل أقرأ من خلال العبارات التي تقول لنا كيف انتصب الإله في قدرته أخيرًا وأخذ السوط بيده لطرد ذرية الأفاعي من المعبد. كانت حربه مثالًا مثاليًا للعالم ضد السم اليهودي، واليوم بعد ألفي عام، وبأعمق العواطف، أعرف بثقة لم أعرفها قبلًا بأنه من أجل ذلك قد بذل دمائه على الصليب.." (4).

الحواشي والمراجع
(1) القس حنا جرجس الخضري - مارتن لوثر ص 35

(2) القس حنا جرجس الخضري - مارتن لوثر ص 135

(3) تاريخ المسيحية - المسيحية في عصر الإصلاح ص 78، 79

(4) وهم الإله ص 127


الفصل الثاني: نظرية التطوُّر والبقاء للأصلح



س3: كيف كانت حياة داروين؟ وكيف أنكر ثبات الأنواع، ونظرية الخلق الإلهي؟

ج: وُلِد شارلز روبرت داروين في 12 فبراير 1809م من أب طبيب وأم من أسرة غنية، وعندما دخل المدرسة كان يهتم بالصيد واقتناص الفئران ومطاردة الكلاب، وجمع الأصداف والأحياء البحرية والحشرات والطيور، وكان شغوفًا بالتجارب الكيميائية مما أثر في دراسته، فاتهمه مدرسوه بأن متبلد الذهن، وعندما ألحقه والده بكلية الطب باسكتلندا ورأى غرف العمليات وجثث الموتى كَرِه الكلية وتركها بعد عامين، فأرسله والده إلى كلية اللاهوت في كامبريدج في أكتوبر 1827م فحصل على المؤهل بعد ثلاث سنوات إكرامًا لوالده، وقال عن هذه السنوات أنها كانت ضياعًا للوقت، وعشق داروين دراسة التاريخ الطبيعي، والتصق بعالِم النبات "جون هنسلو" الذي ذكَّاه ليصحب سفينة الأبحاث البحرية " بيجل " التي أقلعت في 27 ديسمبر 1831م إلى جنوب المحيط الأطلنطي والمحيط الهادي لمدة خمس سنوات، واشتغل داروين بجمع عظام الحيوانات وأحضرها إلى إنجلترا، وقد انتهت هذه الرحلة في 2 أكتوبر 1836م.
وقد أمضى داروين السنوات الطويلة في بحث النباتات والحيوانات وعظامها، وانتهى إلى نظرية "الانتخاب الطبيعي" Natural Selection أو " البقاء للأصلح " Survival of the fittest فالكائنات التي استطاعت أن تتكيف تلقائيًا مع البيئة هي التي استمرت وعاشت وتكاثرت. أما الكائنات التي فشلت في التوافق مع البيئة فقد ماتت وانقرضت، وعلى مدار ملايين السنين تطوَّرت الأنواع الأدنى، وأن الإنسان هو ثمرة تطوُّر الأنواع الأدنى.

وقد تأثر داروين بالقس الإنجيلي توماس مالثوس الذي قال أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية (2 - 4 - 8 - 16 - 32.. إلخ) أما الغذاء فأنه يتزايد بمتوالية عددية (2 - 4 - 6 - 8 - 1... إلخ) مما يقود للصراع من أجل البقاء، ولذلك نادى القس مالثوس بقانون الفقراء اللاإنساني، حيث قال " لا يستحق البقاء إلاَّ من هم أقدر على الإنتاج. أما أولئك الذين وهبتهم الطبيعة حظًا أدنى لهم أجدر بالهلاك والاختفاء " وأعتبر أن موت الفقراء من الجوع يعتبر قضاء وتدبير إلهي، وبهذا برَّر القس مالثوس الثراء الفاحش ولم يتراءف على الفقراء، وعندما قامت الثورة الفرنسية ونادت بالإخاء والمساواة والحرية هاجمها مالثوس معتبرًا أن هذه أمور خيالية، ونتيجة أفكار مالثوس أوصت بعض الطبقات الحاكمة في أوربا بإهمال الفقراء وتركهم فريسة للجوع والمرض حتى يتخلص منهم المجتمع. بل أجبرت إنجلترا الأطفال في سن الثامنة والتاسعة على العمل لمدة ست ساعات يوميًا في مناجم الفحم في ظروف صحية سيئة مما تسبب في هلاك الآلاف منهم.
وطبق " داروين " فكر " مالثوس " وهو " الصراع من أجل البقاء " على المجتمع الحيواني، وتوصل إلى فكرة الانتقاء الطبيعي، فالطبيعة تختار الأصلح والأقوى للبقاء على حساب الضعفاء، وقال داروين رغم أن التكاثر يتم بمعدل كبير فإن الصراع من أجل البقاء هو الذي يضمن لجزء فقط من هذا النسل البقاء بينما يهلك الجزء الآخر، وبذلك ظهرت نظرية النشوء والارتقاء. وأطلق " هيربرت سبنسر " صديق داروين على نظرية الانتقاء الطبيعية " البقاء للأصلح " وقَبِل داروين هذا الاصطلاح، واعترض على القائلين بأن الله خلق الطيور الجميلة والأسماك البديعة، وأرجع هذا للانتقاء الجنسي، فالذكور القوية الجميلة من الطيور والحيوانات هي التي تستأثر بالإناث وتنجب جيلًا قويًا، أما الذكور الضعيفة فمصيرها للإنقراض.

ورغم أن داروين ألَّف أكثر من عشرة كتب، ولكن كتابه " أصل الأنواع" The Origin of Species الذي أصدره سنة 1859م قد أثار ضجة كبيرة، وقد طبع منه 1250 نسخة، وفي اليوم الأول لصدور الكتاب نفذت جميع نسخه، رغم أن النسخة كانت تقع في 490 صفحة، وهذا يوضح مدى تجاوب المجتمع حينذاك مع فكر داروين.

وقد أنكر داروين في كتابه هذا ثبات الأنواع، أي أن الله خلق كل نوع منفصلًا عن الآخر كقول سفر التكوين " وقال الله لتنبت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه بزره فيه على الأرض. وكان كذلك. فأخرجت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا كجنسه وشجرًا يعمل ثمرًا بذره فيه كجنسه.. فخلق الله التنانين العظام كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه" (تك 1: 11، 12، 21).

بل أن داروين قال أن لله لم يخلق النباتات ولا الأسماك ولا الطيور ولا الحيوانات ولا الإنسان، ولا أي كائن حي، بل كل ما فعله هو أنه أبدع جرثومة واحدة، وهذه الجرثومة أخذت تتفرع وتتنوع عبر ملايين السنين، وبذلك نسب داروين خلقة الكائنات الحية للطبيعة قائلًا " الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق" (1) لقد أنكرت نظرية التطور حقيقة " الله خالق كل شيء " وحقيقة أن الله خلق جميع الأنواع كما نراها اليوم.
وأقامت آراء داروين العالم ولم تقعده، ففي مؤتمر تقدم العلوم البريطاني بأكسفورد دارت مناقشة حادة بين " هاكسلي " مؤيد داروين، والذي يعتقد أن الإنسان سليل القردة وبين "صموئيل ولبرفورس" أسقف أكسفورد فسأل ولبرفورس هاكسلي قائلًا: هل يسمح السيد هاكسلي أن يخبرنا: هل كان القرد جده لأمه أو لأبيه؟ فاحتد هاكسلي عليه، وختم احتداده بقوله " على أية حال فإني أُفضل أيها السيد أن يكون القرد جدًا من أجدادي عن أن يكون جدي أسقفًا مثلك" (2) (ومن المعروف أن الأسقف الكاثوليكي لا يتزوج، ولكن هاكسلي هنا يتهم الأسقف لبروفورس اتهام غير مباشر بالانحلال الخلقي) ولوَّح " متزوري " ربان السفينة " بيجل " بالإنجيل وسط القاعة لاعنًا اليوم الأسود الذي وافق فيه أن يحمل داروين على ظهر سفينته.

وقد اعتزل داروين في أواخر حياته البحث، وتفرغ لكتابة مذكراته، وقالوا عنه أنه ظل متمسكًا بعقيدته المسيحية، شغوفًا بقراءة الكتاب المقدَّس، حتى أن " الليدي هوب " إحدى شريفات إنجلترا عندما التقت به وجدته يقرأ الرسالة إلى العبرانيين، وتقول الليدي هوب " فلما دخلت عليه وجدته جالسًا على فراشه.. وكان يشخص ببصره إلى الغابات وحقول الحنطة، فسرَّ عندما دخلت عليه وأشار بيده الواحدة إلى النافذة التي كان ينظر منها إلى ذلك المنظر البديع، بينما كان يمسك بيده الأخرى الكتاب المقدَّس الذي كان يطالع فيه على الدوام مدة ملازمته الفراش، فلما جلست بجانب فراشه ابتدرته بالسؤال ماذا تقرأ يا أستاذ؟ فأجابني: العبرانيين وهو السفر الملوكي، ألا ترينه ملوكيًا وعظيمًا بحق؟ ثم وضع إصبعه على بعض الأعداد وأخذ يقرأ ويشرح، فأشرت إلى بعض أفكار الناس عن الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، فظهر عليه الملل والضجر وحرك أصابعه بسرعة وانفعال، وقال بصوت الحزين الآسف {لما كنت صغيرًا لم يكن لي فكر خاص، فنبذت عني كل المباحثات والأسئلة والظنون وكنت أتعجب كل الوقت من كل شيء، ولزيادة دهشتي انطلقت أفكاري هذه كالنار بين الناس وسرعان ما كونوا منها دينًا غير ديني} ثم صمت ونطق بجمل مختصرة عن قداسة الله وعظمة الكتاب المقدَّس وهو ينظر إلى الكتاب الذي بيده ويشير إليه" (3). ثم قال داروين لليدي هوب وهو يشير إلى الحديقة: إنني أملك بيتًا صيفيًا، فأرغب إليك من كل قلبي أن تذهبي إليه، وتعقدي اجتماعا دينيًا لأني أعرف أنك تعقدين اجتماعات دينية في القرى لقراءة الكتاب المقدَّس، فآمل أنك غدًا بعد الظهر تعقدين اجتماعا للعمال الذين يشتغلون هناك، وعندما سألته: هل أخاطبهم عن.. قاطعها قائلًا: يسوع المسيح وعن خلاصه. أليس هذا أفضل موضوع، وطلب منها أن ترتل معهم على الموسيقى، وقال: إذا ابتدأت بالاجتماع الساعة الثالثة بعد الظهر، فإن هذه النافذة ستكون مفتوحة، وتأكدي إني أشترك معكم في التراتيل (راجع الإخاء والسلم بين الدين والعلم ص 60، 61).
ومات داروين يوم 19 أبريل 1882م، وفي 24 أبريل شُيعت جنازته في موكب ضخم من المؤدين والمعارضين، وحمل جثمانه عشرة من كبار العلماء منهم اثنان من العائلة الملكية، ودُفن في مقبرة الخالدين بكنيسة وستمنسر بجوار إسحق نيوتن، وبينما امتدحه الكثيرون، زمَّه الآخرون، وقال عند الدكتور موريس بوكاي، الذي طالما هاجم الكتاب المقدَّس " كان داروين دائمًا وثنًا من أوثان الترسانة الإلحادية، كان دائم الاستعداد لدعم أية أفكار تدعم ما يذهبون إليه" (4).

وذهب الدارونيون إلى أكثر ما ذهب إليه هو، وأصبحوا ملكيّين أكثر من الملك، فيقارن الدكتور كمال شرقاوي غزالي بين داروين وأتباعه قائلًا " ولم يفقد داروين نفسه في سبيل نظرية التطوَّر، ويتنحى عن عقيدته الأصلية المسيحية، كما فعل كثيرون مما أُعجبوا وفتنوا بنظريته.. كان البعض من المفتونين بسحر النظرية يساهمون في تفسير بعض الأمور المتعلقة بها، فعملوا على إدماج الفروض العلمية في هيئة دين، ومن هنا نمت شجرة الكُفر والإلحاد، واستهوى ذلك الكثيرين ليستظلوا بظلها أمثال أبسن، وويلز، وبرجسون، وبرناردشو" (5).

س4: كيف أثرت نظرية داروين على الإيمان بالله، والكتاب المقدَّس، وحياة الإنسان ككل؟

ج: كان لنظرية داروين تأثيرها السلبي الشديد، فجنحت بالإنسان نحو الإلحاد، وطعنت في الوحي الإلهي، وأرست شرعية الصراع والبقاء للأصلح، وساعدت على نشر الفلسفة المادية:
1- إنكار الله الخالق:

يرى " جوليان هكسلي " أن نظرية التطوُّر جعلت الإنسان يشعر أنه ذوي قربة للكائنات الأخرى من نباتات وحيوانات، لأنه عاش هذه الأطوار قبل أن يصل إلى مرحلة الإنسانية، فيقول "أن الإنسان يعرف الآن أنه ليست ظاهرة معزولة منفصمة عن بقية الطبيعة بسبب إنفراده الذي لا مثيل له.. ولكن على الرغم من كل تميزه عن سائر الكائنات إلاَّ أن وشائج (روابط) من الاستمرار الوراثي تربطه بكل سكان كوكبه الأخرى الأحياء، والحيوانات والنباتات، والكائنات الحية المصغرة Micro - organisms هي أبناء عمه جميعًا، وتمُت إليه بصلة قربى أكثر بعدًا وهي جميعًا أجزاء لمجرى واحد متفرع ومتطور من البروتوبلازم" (6).

ويقول "دكتور كمال شرقاوي غزالي": "عندما ظهرت نظرية داروين كانت بمثابة قنبلة فكرية هزت العالم أجمع، وقلبت المفاهيم رأسًا على عقب.. كان الغرض الخفي (من هذه النظرية) هو هدم العقائد المقدَّسة والقضاء عليها، وبالفعل سادت موجة عجيبة من الإلحاد " كما يقول أيضًا " لقد عرف ماركس ولينين ما في افتراضات داروين من اتجاه نحو المادية والإلحاد، ولم يكن ثمة حد لإعجابهما بداروين وأفكاره، فشيَّدوا متحفًا في قلب موسكو للداروينية وتمجيد داروين، ولكي تكون الخطة مُحكمة لانطلاق الماركسية على أساس نظرية داروين.. من هنا كانت أفكار داروين عونًا ومددًا لترسيخ المادية والإلحاد في المواجهة التي كانت دائرة بين العلم والدين" (7).
لقد أنكر الدارونيون خلق الله للإنسان الأول (آدم وحواء) وبالتالي أنكروا سقوط الإنسان في الخطية الجدية، وفساد الطبيعة البشرية، وبالتالي فليس ثمة حاجة للمسيح المخلص الفادي، فمن أي شيء يُخلّص مادام لم يكن هناك خطية ولا سقوط ولا فساد للطبيعة البشرية؟! وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. وأرجع الدارونيون تدني الأخلاق البشرية إلى أصل الإنسان الحيواني، فالإنسان في نظرهم قد ورث عن جده الحيوان الغرائز البهيمية التي تؤثر على سلوكه، كما أرجع التطوُّريون مبادئ الأخلاق والأدب إلى تطوُّر الإنسان من الناحية الأدبية.

ويرى "جوليان هكسلي" أن الإنسان هو الذي صنع الله من خياله، وأضفى عليه صورة الأب والقداسة فيقول: "والإنسان التطوري لم يعد يستطع الفرار من وحدته بالاحتماء نحو مأوى يقيه أحضان إله من صنع الإنسان نفسه، خلقه في صورة أب مضفيًا عليه ألوان القداسة" (8).
2- إنكار الوحي الإلهي:

خالفت نظرية التطوُّر الكتاب المقدَّس في قضيتين مهمتين:

1) قالت نظرية التطوُّر بأن الإنسان وليد النشوء والارتقاء، وبذلك خالفت قول الكتاب بأن الله جبل الإنسان على صورته ومثاله من تراب الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة " فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم" (تك 1: 27).. " وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حيَّة" (تك 2: 7).

2) قالت نظرية التطوُّر أن الأنواع غير ثابتة، بل تتطوَّر وتتغير، وبذلك خالفت قول الكتاب بأن الله خلق الأنواع ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فكل عشب وبقل وشجر " يبزر بزرًا وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه بذره فيه" (تك 1: 11).. " كل ذوات الأنفس الحيَّة الدبَّابة التي فاضت بها المياه كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه" (تك 1: 21).

وبذلك أنكرت نظرية التطوُّر وحي وعصمة الكتاب المقدَّس الذي يؤكد على خلق السموات والأرض، وقد أصدر " جوليان هكسلي " كتابه " إطار المذهب الإنساني " سنة 1961م، وشارك في تأليف هذا الكتاب خمسة وعشرون عالمًا، وقال هكسلي في مقدمة هذا الكتاب " أن الأرض لم تُخلق بل تطوَّرت. وهذا هو الحال مع سائر الحيوانات والنباتات التي تسكنها بما فيها نفوسنا البشرية وما فيها من عقل وروح ومُخ وجسد. وهذا هو الحال مع الدين كذلك" (9).

وقال الأسقف " صموئيل ولبرفورس" (1805-1873م) أن " مبدأ داروين للانتحاب الطبيعي لا يتفق مُطلقًا مع (كلمة الله) فلقد أعطت نظرية التطوُّر لأعداء المسيحية في ذلك الحين وقودًا لهجومهم على الكنيسة" (10)..

وقال " نوبل لورييت جاك مونود " Monod في كتابه " الصدفة والحاجة " أنه لا يوجد إله وأن العهد (الميثاق) القديم قد انهار، فقد عرف الإنسان أخيرًا أنه وحيدًا في هذا الكون الشاسع المُوحش، وأنه لم يوجد فيه إلاَّ عن طريقة الصدفة (Jo Monod, Chance and Necessity p. 167).

ويقول "الدكتور كمال شرقاوي غزالي": "وهنا بدا للناس أن النظرية تتعارض مع النصوص الدينية، وبالذات نصوص العهد القديم، التي تقرر بوضوح كامل أن الأنواع ثابتة وأنها غير قابلة للتغيير. ولما كانت للناس في ذلك الوقت كراهية متأصلة للتعاليم الدينية والكنسية، فقد بدأ الاقتناع بصحة النظرية يغلب على الاقتناع بالتعاليم الدينية، وصارت النظرية والدين في طرفي نقيض، وأدى إقناع الناس بالنظرية إلى أن قالوا بثبوت خطأ التوراة ورفض النص الكامل للإنجيل، ودار صراع بين العلم والدين" (11). ولنا عودة لهذا الموضوع في الكتاب الثاني (ثمار الإلحاد).

3- شرعية الصراع:

لقد أدخلت نظرية التطوُّر الإنسان في صراع قاسٍ من أجل البقاء، بدلًا من التعاون بين البشر، مع أن الأصل هو التعاون بين البشر، وما أجمل قول " ألبرت أينشتاين " عن خلق الإنسان، حيث يقول "غريب وضعنا على الأرض وكل منا يأتي في زيارة قصيرة، لا يعرف لماذا؟ ولكن في بعض الأحيان يبدو بأن هناك سببًا مقدَّسًا، من وجهة نظر الحياة اليومية. على كل حال، هناك أشياء نعرفها بأن الإنسان هنا من أجل الإنسان الآخر، وقبل كل شيء لأجل هؤلاء الذين نعتمد على سعادتهم وابتساماتهم لإسعادنا" (12).

وزرعت هذه النظرية فلسفة العنف والاعتداء، فالقوى يجتهد كيما يصعد على أشلاء الضعفاء، وتمخضت النظرية عن فلسفة "نيتشه" التي كان له الباع الأكبر في الفاشية والنازية، وسيادة الجنس الأري على جميع الأجناس، فأثارت هذه النزعة الحروب ونشرت الدمار، وجاء في كتاب علم الأحياء للصف الثالث الثانوي 1990 / 1991م ص 237 " ومما هو جدير بالذكر في هذا المجال الآثار التي أدت إليها نظرية داروين وبخاصة في مجال الفلسفة والسياسة والعلاقات البشرية. فقد ترتبت على نظرية الانتحاب الطبيعي ما يمكن أن يُسمى " فلسفة الاعتداء " أو فلسفة " العنف والاغتصاب " وتجاوبًا واطمئنانًا إلى هذه الفلسفة التي ساعد الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzche (1844 - 1900م) على رواجها فدخل العالم في غمار حروب عامة منها حرب السبعين عامًا والحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد أثارت النزاعات العدائية والحروب وأطلقت الشعارات بسيادة جنس على آخر" (13).

ويقول "أيريل كيرنز": "لقد استخدمت نظرية التطوُّر Evolution لتبرير فكرة سيادة جنس على غيره من الأجناس، وذلك لأن هذه الفكرة تتلائم مع مفهوم داروين عن [البقاء للأصلح] بل وأيضًا استخدمت لتبرير عدم الاعتراف بوجود أساس مُطلق للأخلاق.. بل تم أيضًا استخدام نظرية التطوُّر لتمجيد الحرب باعتبارها ممارسة شرعية لمبدأ البقاء للأصلح" (14).

وقد نجم عن " الداروينية " الشيوعية المُلحدة، وما أكثر ضحاياها!! فيقول "هارون يحيى": "وإذا أعتبرنا المفهوم الشيوعي للنزاع الجدلي الذي قتل نحو 120 مليون شخص طوال القرن العشرين (إله القتل) يمكننا حينئذ أن نفهم بشكل أفضل حجم الكارثة التي ألحقتها الداروينية بكوكبنا" (15).

وقد تأثر أدولف هتلر بفكرة الصراع من أجل البقاء بين الأجناس، واستوحى منها أفكاره في كتابه " كفاحي " وقال عن الصراع بين الأجناس " سوف يصل التاريخ إلى أوجه في إمبراطورية ألفية جديدة تتسم بعظمة لا مثيل لها، وتستند إلى تسلسل جديد للأجناس تقرره الطبيعة ذاتها" (16) كما قال أيضًا أن " الجنس الأعلى يُخضِع لنفسه الجنس الأدنى.. وهو حق نراه في الطبيعة ويمكن اعتباره الحق الأوحد القابل للإدراك" (17).

ويقول "الدكتور كمال شرقاوي": "وانتقلت فكرة التطوُّر لتصبح منهجًا للبعض، وجاء هتلر يومًا فأعلن عن فكرته النازية في استيلاد سلالات بشرية قوية، وإعدام السلالات الضعيفة، واتخذت الفاشية الافتراض المتعلق بالانتقال الطبيعي والبقاء للأصلح مبررًا للقضاء على بعض الأجناس البشرية، وأتخذها تجار الحروب مبررًا لهم لأن الحروب تقضي على العناصر الضعيفة وتستبقي العناصر القوية" (18).

الحواشي والمراجع
(1) القس عبد المسيح بسيط - الكتاب المقدَّس يتحدى نُقَّاده ص 14، 15

(2) د. أنور عبد العليم - قصة التطوُّر ص 57

(3) الأسقف إيسيذورس - الإخاء والسلم بين الدين والعلم ص 58 - 60

(4) ما أصل الإنسان؟ ص 45

(5) التطوُّر بين الضلال وممارسة حق النقد ص 29، 30

(6) د. رمسيس عوض - ملحدون محدثون ومعاصرون ص 120

(7) التطوُّر بين الضلال وممارسة حق النقد ص 74

(8) د. رمسيس عوض - ملحدون محدثون ومعاصرون ص 120

(9) د. رمسيس عوض - ملحدون محدثون ومعاصرون ص 120

(10) الدكتور القسم جون لوريمر - ترجمة عزرا مرجان - تاريخ الكنيسة ج 5 ص 56

(11) التطوُّر بين الضلال وحق النقد ص 38، 39

(12) أورده ريتشارد دوكنز - وهم الإله ص 99

(13) تأليف د. أمين عرفان دويدار وآخرون

(14) ترجمة عاطف سامي برنابا - المسيحية عبر العصور ص 490

(15) خديعة التطوُّر ص 13

(16) هارون يحيى - خديعة التطوُّر ص 11

(17) المرجع السابق ص 11

(18) التطوُّر بين الضلال وممارسة حق النقد ص 37


الفصل الثالث: الظُلم والطُغيان



س5: ما هي سمات البيئة التي أفرزت لنا الإلحاد؟ وهل يحق لنا أن نُعامل الملحدين بقسوة؟

ج: لم يخرج الإلحاد من بيئة مسيحية متدينة تدينًا حقيقيًا، إنما نبت من بيئة تدعو نفسها بأنها مسيحية، وهي ليست كذلك، لأنها متغربة عن مبادئ الإنجيل السامية، والبيئة التي أفرزت لنا الإلحاد تتسم من ناحية بتفشي الظلم والطغيان للرؤساء والحكام، وتتسم من ناحية أخرى بضعف الكنيسة وسلبيتها، فالحكام يطغون ويظلمون، ورجال الدين يداهنون ويبرّرون، والنتيجة الثورة، فإن لم تكن متاحة بالخارج فبداخل النفس، الثورة ليس ضد الحكام الجائرين فقط، بل وضد رجال الدين المداهنين، بل ضد الدين ذاته وضد الله ذاته، وهكذا يسقط الأفراد تباعًا في الإلحاد بهدف التمرد على الظلم والطغيان، بهدف التخلص من الكبت النفسي الذي تعرضوا له، بهدف السعي نحو الحرية المفقودة.

لقد عاملت كل من الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية الملحدين بقسوة، مما دفع بهم للعناد والتمسك بآرائهم الإلحادية، ففي سنة 1670م قال الكاردينال " ليو بولدد " للملحدين بأن زمن التسامح قد ولى وفات، وكم من جرائم اقترفتها محاكم التفتيش ضد الإنسانية، وهي تعتقد أنها تفعل الصواب دائمًا، فلو عذَّبت إنسانًا مبتدعًا أو ملحدًا حتى الموت، فهو يستحق هذا، ولو عذَّبت إنسانًا وكان بريئًا إلى الموت، فهو يفدي الإيمان الصحيح، وسيصل إلى الملكوت السمائي، ولنذكر ثلاثة أمثلة فقط من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا:

1- جيوفري فاليه Valee:

وهو أحد النبلاء في أورليانز بفرنسا وكان حسن الصورة جدًا، مهووسًا بطهارة جسده ورونقه، حتى أنه كان يلبس كل يوم قميصًا جديدًا ناصع البياض، وقبل إعدامه بعامين صرحت عائلته أنه مُختل عقليًا بسبب بعض الخلافات المالية، لكن تماسك أفكاره في النبذة التي ألفها "ذروة الصفاء الوحي عند المسيحيين" لا يتفق مع هذا الإدعاء، فقط كانت تنتابه بعض النوبات، وعندما سجن بسبب هذه النبذة حاول الانتحار، وكان " فاليه " في هذه النبذة قد أنكر وجود الله، وهاجم الكاثوليكية والبروتستانتية والإلحاد، وفضل المذهب الليبرتاني الداعي للتحرُّر الديني (هذا المذهب ينكر الوحي الإلهي ولا ينكر وجود الله) وقد هاجم فاليه الأديان لأنها تبث الهلع والفزع في النفس البشرية، ولم يقتنع بأن السيد المسيح هو النموذج الإنساني الكامل، ورغم أن فاليه كانت معرفته بالكتاب المقدَّس سطحية، فأنه تم تنفيذ حكم الإعدام فيه سنة 1574م، وأُحرق جسده مع تلك النبذة، ولم تنجو سوى نسخة واحدة منها مع السجل الذي حوى التحقيقات معه، ويقول عنه " د. رمسيس عوض": "والغريب فان فاليه الفرنسي الذي أُعدم بتهمة الإلحاد لم يكن ملحدًا حقيقيًا فهو رغم إنكاره للدين يعتقد أنه لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يشك في وجود الله" (1).

2- أيكنهد:

وهو طالب اسكتلندي أعدمته إنجلترا في نهاية القرن السابع عشر بسبب إلحاده، والأمر العجيب أن أيكنهد وهو على حبل المشنقة ألقى خطابًا أعلن فيه عداءه الشديد للدين المسيحي، وهذا يوضح لنا كم كان هذا الشخص معبأ بأفكار فاسدة لم يجرؤ من قبل أن يفصح عنها، لأن القوانين في تلك العصور كانت تبيح إعدام الملحدين، فكان الملحد يحتفظ بأفكاره لنفسه ويحاول أن يذيعها سرًا، وطالما أن مثل هذه الأفكار الإلحادية لم تخرج للنور، لذلك فلن تجد من يناقشها ويحللها ويرد عليها، ولن يجد الملحد من يحبه ويستوعبه ويرفع عن كاهله معاناته وقلقه.

3- جيوردانو برونو (1548 - 1600م):

وهو إيطالي، وفي الخامسة عشر من عمره ألتحق بأحد الأديرة، وعندما شك في بعض الحقائق الإيمانية وعُرف عنه ذلك فرَّ هاربًا من الدير، وتجوَّل في دول أوربا، ثم تلقى دعوة من شاب إيطالي أرستقراطي يُدعى " مورسينيجو " ليتولى تدريسه، ثم أكتشف مورسينيجو مدى ضلال أستاذه فشكاه لمحكمة التفتيش في البندقية لأنه يعتبر يسوع المسيح دجالًا وساحرًا لجأ إلى الحيل لخداع الناس، وأنه ينكر عقيدة الثالوث، وأن الروح تنتقل من جسد إلى جسد، وأن السحر أمر جيد لا غبار عليه، ويسخر من المقدَّسات المسيحية، ويعتقد أننا لسنا الوحيدين في هذا الكون اللانهائي، بل أن هناك عدد لانهائي من العوالم الأخرى، والله لا يكف عن خلق المزيد منها، ويعتقد بتناسخ الأرواح، وأن الروح القدس الذي كان يرف على وجه المياه هو روح العالم، وقام " مورسينيجو " بحبس أستاذه " جيوردانو " في إحدى غرف القصر إلى أن تم تسليمه للسلطات الكنسية في البندقية سنة 1592م، وجثا " جيوردانو " على ركبتيه، مقدمًا اعترافه واعتذاره قائلًا " إني أطلب بكل اتضاع من الله ومن قداستكم مغفرة الأخطاء التي ارتكبتها.. إنني أتوسل إليكم أن توقعوا أقصى عقوبة عليَّ حتى لا أدنس رداء الكهنوت الذي أرتديته، وإن شاء الله وشاءت قداستكم إظهار الرحمة نحوي والسماح لي بأن أعيش فإني أقطع على نفسي عهدًا بإصلاح حياتي إصلاحًا كبيرًا" (2) وعفت محكمة التفتيش عنه، إلاَّ أنه رجع لأفكاره بعد ثمان سنوات، فأمهلوه ثمانين يومًا، ولكنه ضيَّع الفرصة وأخذ يتلاعب برئيس الكرادلة، فنزعوا عنه رداء الكهنوت وسلموه للسلطة المدنية مع توصية بتجنب سفك دمه، ومنحته السلطات المدنية فرصة نهائية أسبوعين، ولكنه ظل متشبثًا بآرائه وأفكاره، وأخيرًا اُقتيد إلى المحرقة.

وإن كان كل هذا قد حدث في العصور الوسطى المظلمة، فإن البعض مازال يكن البغضة للملحدين في العصر الحديث، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. سأل " روبرت شرمان " الرئيس الأسبق " بوش الأب " عما إذا كان الملحدون يُعتبرون وطنيّين أو حتى مواطنين، فأجابه الرئيس بوش: "لا. لا أعلم كيف نعتبر الملحدين وطنيين أو حتى مواطنين. نحن أمة واحدة تحت راية الله" (3) والحقيقة أن تعبير الرئيس الأمريكي " نحن أمة واحدة تحت راية الله " ينطبق على جماعة المؤمنين في الكنيسة. أما في الدولة فالجميع سواسية مؤمنين وغير مؤمنين ويقول أحد الملحدين أنه لا يوجد أمل لأي ملحد أن يرشح نفسه في انتخابات مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، ولا يوجد أمل على الإطلاق أن يرشح أحد نفسه لرئاسة أمريكا، وربما هذا القول حق وصحيح إذ كيف يقود إنسان ملحد مجتمع مؤمن وبينهما هذه الهوة السحيقة؟!

وعلى كلٍ فإن الإنجيل لا يقر أبدًا القسوة في معاملة المُلحدين، ويجب أن ندين الرسائل الإلكترونية القاسية الموجهة ضد الملحدين مثل " أفضل ما هنالك هو أنك ستتعذب للأبد بتلك الذنوب التي تتجاهلها تمامًا. انتقام الله لن يريك رحمة" (4).. " يا عباد الشيطان التافهون.. أرجوكم موتوا وأذهبوا للجحيم. أمل أن يصيبكم وباء مؤلم مثل سرطان القولون وتموتوا ببطء وألم، حتى تلاقوا إلهكم الشيطان.. إذا كنتم لا تحبون هذا البلد والأسس التي بُنيت عليها، أخرجوا منها وأذهبوا للجحيم" (5) والحقيقة أن الإلحاد ظلمة، ولكن أيضًا البغضة والسخرية والشتيمة ظلمة، ولا يمكن أن الظلمة تطرد الظلمة، إنما شمعة الإيمان العامل بالمحبة هي التي تنير ظلمة الإلحاد.

لقد أفرز لنا ذلك الظلم وذاك الطغيان شخصيات غير سوية أتعبوا البشرية بأفكارهم وأفعالهم، من أمثال كارل ماركس، ولينين، وستالين، وهولباخ، وجورج هيجل، وشوبنهور، ونيتشه، وماوتسي تونج، وبرتراند راسل، وجان بول سارتر، وغيرهم مما سيكون محل دراستنا في الباب الثاني ، وإن كان الإلحاد هو وليد الظلم والطغيان، فأنه بعد ميلاده أندمج بأبويه وأرتبط بهما، وأُعجب بهما أيما إعجاب، حتى صارت صوُّر العذاب الأحمر سمة من سمات الإلحاد.

إن الإنسان المُلحد يحتاج بشدة إلى من يستمع إليه، ويصغى إلى صراخ يأسه، ويأخذ بعين الاعتبار لآرائه وانتقاداته، ولا يستخف بأفكاره، بل يحللها ويوضحها له، ويركز الأضواء على الصورة الحقيقية لإلهنا المحب الوديع المتواضع الذي تنازل إلى أن غسل أرجلنا، ويحترم حريتنا الشخصية إلى أنه مازال يلبث على باب قلوبنا يقرع، ولن يدخل إلاَّ إذا سمحنا نحن ودعوناه، فهو يحترم حريتنا الشخصية إلى أقصى درجة.. الإنسان المُلحد يحتاج بشدة إلى الحوار الهادئ لكيما تتضح الحقائق أمامه صحيحة وليست مقلوبة (أمحو الذنب بالتعليم).. الإنسان المُلحد يحتاج بشدة إلى من يمد له يد المعونة في حب صادق لكيما ينتشله من الغرق الذي يصر عليه، يحتاج بشدة إلى من ينفذ إلى أعماقه ليكتشف أسباب إلحاده، فغالبًا ما يُسقط المُلحد مشكلاته النفسية والمادية على علاقاته مع الله.. الإنسان المُلحد يحتاج حبًا صادقًا من القلب وصلاة نقية من القلب، فإن الأيدي المرفوعة والركب المنحنية ينقذانه من الهلاك الأبدي.

الحواشي والمراجع
(1) ملحدون محدثون ومعاصرون ص 17

(2) رأفت شوقي - الإلحاد.. نشأته وتطوُّره ج 1 ص 57، 58

(3) ريتشارد دوكنز - وهم الإله ص 25

(4) ريتشارد دوكنز - وهم الإله ص 100

(5) المرجع السابق ص 100



الفصل الرابع: شهوة الكبرياء



س6: لماذا يلجأ الإنساني الشهواني المتكبر للإلحاد؟

ج: قيل أن "وراء كل إلحاد شهوة" وهذا القول صحيح إلى حد بعيد، فعندما يسقط الإنسان في الشهوة والشر وهو يعرف أن للشر عقوبة زمنية وأبدية، فإن كان متواضعًا فأنه يقدم توبة واعترافا ملتمسًا من الله أن يصفح عنه ويتغاضى عن خطاياه. أما إن كان متكبرًا عنيدًا، ولا يريد أن يتخلى عن الخطية والفساد، ويود أن يهرب من الدينونة والعقاب، فكيف يحل هذه المعضلة؟ وكيف يريح ضميره..؟ أنه يلجأ إلى إنكار وجود الله، وبالتالي فهو حر يفعل كل ما يشاء خيرًا كان أم شرًا. والكبرياء يلقي بالإنسان في الجهل والعمى الروحي، فعندما فتح السيد المسيح عيني المولود أعمى، وعوضًا أن يمجد الفريسيون الله تزمَّروا بشدة لأن السيد المسيح صنع طينًا وطلى عيني المولود أعمى في يوم سبت، ولم يتواضعوا ليقبلوا عمل الله " فقال يسوع لدينونة أتيتُ أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذي يبصرون" (يو 9: 39) وهذا ما أوضحه بولس الرسول في موضع آخر " إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح" (2 كو 4: 3) فالكبرياء هي جهل بحقيقة الله المتواضع المُحب " قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز 14: 1) والكبرياء تؤدي لكسر الإنسان " قبل الكسر يتكبر قلب الإنسان" (أم 18: 12) ولا يوجد أكثر وأصعب من كسر الإلحاد وإنكار وجود الخالق، ففي الوقت الذي يظن فيه الملحد أنه أنتصر وكسب وربح وأبتعد عن العقيدة والديانة، فإنه في الحقيقة يخسر كل شيء. والكبرياء رجس، فعندما واجه السيد المسيح الفريسيين الذين يتكبرون ويستعلون على الناس " فقال لهم أنتم الذين تبرَّرون أنفسكم قدام الناس. ولكن الله يعرف قلوبكم. إن المستعلى عند الناس هو رجس قدام الله" (لو 16: 15).

لقد كان الشيطان ملاكًا وسقط بسبب الكبرياء عندما قال " أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب أصير مثل العلي" (أش 14: 13، 14) والشيطان المتكبر لا يكف عن نفخ الكبرياء في أتباعه، فقال " كارل ماركس " في قصائده المشهورة ضد الله " أنني أريد فقط أن أنتقم بكل جوارحي من ذلك الواحد الذي يسكن السماء، متسلطًا على البشر.. لقد خطف مني كل شيء.. كل العوالم تبخرت بين يديَّ، ولم يبقَ لي سوى الانتقام المُر.. سوف أعلو بعرشي فوق الرؤوس" (1).

وقد يقود الإنجاز العلمي الإنسان المتكبر إلى الإلحاد، ويقول "رأفت شوقي": "أن النجاح الخارق الذي حقَّقه العلم والتقنية ملأ البعض بشحنة من الكبرياء جعلتهم يأنفون من أي ارتباط بكائن أسمى، وحملتهم على الاعتقاد بأن الإنسان هو سيد الكون بقوته الذاتية وقادر على كل شيء.. إن هناك نزعة شعبية أُعجبت بالعلم وإنجازاته وبما حققه الإنسان، وأخذت هذه النزعة تُغيّر ما كان يُنسب مباشرة إلى الله على أنه ينسب ويفسر علميًا، وبالتالي الاستغناء عن الله والإيمان به" (2) والحقيقة أن الإنجاز العلمي هو وليد العقل البشري، والله هو صاحب الفضل الذي أنعم على الإنسان بعقل مُفكر مبتكر، وهو الذي يشرق على الإنسان بنور علمه الإلهي (أعطيتني علم معرفتك) والأمر العجيب هو بدلًا أن ينسب الإنسان هذا الإنجاز إلى توفيق الله ومعونته، فأنه ينسبه لنفسه، فيُضرَب بداء الكبرياء، ويرتفع بعقله، حتى يجعله سيدًا وإلهًا، ويعبده عوضًا عن الله، وتتضخم ثقة الإنسان المتكبر بعقله بينما تتضاءل ثقته بإلهه، ونحن لا نهاجم العلم ولا نقلل من أهميته، إنما نعترض على من يُؤلّه العقل الذي أنجب لنا هذا العلم العظيم، فمن الأمور الإيجابية للعلم أنه يسعى دائمًا نحو الحقيقة المجردة، والحقيقة دائمًا تقرّبنا إلى الله، وكم تلامس العلماء العظماء مثل " إسحق نيوتن" و"أينشتين " مع عظمة الله التي أبدعت الكون بهذه الروعة " السموات تحدث بمجد الله. والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 19: 1)،

والذين يدرسون أعضاء الإنسان ووظائف تلك الأعضاء كثيرًا ما يقفون لحظات عن التشريح ليسبحوا الله على عظمته وحكمته التي تفوق العقول، وأيضًا العلم جعل الإنسان يتخلى عن الخزعبلات التي آمن بها قديمًا، فقد نسب كل ما عجز عن تفسيره إلى إله معين، فجعل للبرق إلها وللرعد إلهًا وللمطر إلهًا وللنار إلهًا وللكواكب آلهة.. إلخ، والعلم هو الذي صنع ثورة الاتصالات التي ربطت بين البشر في كل مكان، حتى صار العالم كله مثل قرية صغيرة فما يحدث في ركن منها يُسمع في بقية الأركان، وأيضًا الحقائق العلمية الصحيحة نجدها متوافقة مع ما جاء في الكتاب المقدَّس.. كل هذه الأمور الإيجابية للعلم يهدرها الإنسان عندما يؤله نفسه ويقول ليس إله، ويهدرها عندما يسعى للسيطرة على الغير ويصنع حروبًا مع أخيه الإنسان (راجع أ. رأفت شوقي- الإلحاد نشأته وتصوُّره ج1ص31، 32).

الحواشي والمراجع
(1) أورده القس أنجليوس جرجس - وجود الله وصور الإلحاد ص 82

(2) الإلحاد.. نشأته وتطوُّره ج 1 ص 29، 33


الفصل الخامس: الكوارث والحروب والعقاب الأبدي



س7: لو كان الله موجودًا وقادرًا وصالحًا، فلماذا يترك الإنسان يعاني من الكوارث والحروب والمرض والموت؟ هل لأنه غير صالح أم لأنه غير قادر؟ وكيف يرسل الإنسان إلى العذاب الأبدي؟

ج: إن الجهل الروحي بحكمة الله وصلاحه وقدرته وحسن تدبيره، يقود الإنسان إلى الهلاك، ولذلك قال الكتاب " قد هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو 4: 6) فعدم المعرفة هي الجهل، ومن السهل أن ينزلق الإنسان الجاهل إلى هوة الإلحاد، ولاسيما عندما يتعرض لتجربة قاسية، إن لم يكن يقظًا، فمن السهل أن يفقد الثقة في العناية الإلهية، وعندما وقف " إيفانجلتا دي فتيورا " يُحاكم أمام محاكم التفتيش اعترف بأن انتشار مرض الطاعون الذي قضى على أمه وأخوته وأخواته جميعًا، وأضاع ممتلكاته، آل به إلى فقدان الثقة في عناية الله، فلو كان الله موجودًا فعلًا وكلي الصلاح فلماذا يترك الإنسان لكل هذه الكوارث؟! ونحن لا ننكر أن الإنسان قد يعاني من شر الكوارث والحروب والأمراض وهو برئ، وليس له يد في جلب هذه المعاناة، ولكن يجب أن يدرك أن الله موجود وهو ضابط كل شيء، ولا يسمح بألم قط لأولاده إلاَّ بحكمة إلهية، فقد تكون هذه المعاناة تأديب وتهذيب لهم، وبلا شك أن أعظم مدرسة هي مدرسة الألم والصليب.

ويقول "أوسكار وايلد " في كتابه " من الأعماق": "إن كان العالم قد تأسَّس على أساس المعاناة، فقد أسَّسته أيدي المحبة، لأنه لا سبيل آخر تصل به النفس إلى مستوى الكمال" (1).. لقد صار الألم في المسيحية هبة غالية لا يمنحها الله إلاَّ لمن يثق في محبته " لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تُؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لأجله" (في 1: 29).

وقد تكون هذه المعاناة قد جاءت بحسد إبليس، وستظل قصة أيوب شاهدة على هذا، ونثق أن كل الأمور داخل دائرة الضبط الإلهي، وعندما رأى التلاميذ الأعمى منذ ولادته سألوا السيد المسيح " يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى. أجاب يسوع لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه" (يو 9: 2، 3) وكذلك الأطفال الذين يُولدون معوقين (ذوي الاحتياجات الخاصة) يعطون الفرصة للآخرين لإظهار المحبة تجاههم، ويكونون بركة لأسرهم، فالأسرة المسيحية تعتز بابنها المعوق أكثر من ابنها السليم.

والذين يتساءلون عن مدى قدرة الله ومدى صلاحه، كل هدفهم هو إلقاء اللوم كل اللوم على الله، وتبرئة ساحة الإنسان تمامًا، وكأن الإنسان جماد، أو كائن يفتقد حرية الاختيار، وكأن الإنسان لا يجب أن يتحمل مسئولية تصرفاته، والحقيقة غير ذلك، لأن الله جبل الإنسان على صورته ومثاله في الخلود والمعقولية والابتكار، ووهبه حرية الاختيار وحرية التعبير وحرية التصرف، وكثير من الشرور والكوارث سببها الإنسان وليس الله الصالح، فلماذا يتمسك البعض بأن المسئول عن هذه الشرور هو الله وليس الإنسان صانع هذه الشرور؟! هل الله الذي يحذرنا من مغبة مخالفة وصاياه المقدَّسة يصبح مدانًا متى خالف الإنسان هذه الوصايا..؟! وهل الإنسان الذي يخالف الوصايا فيكره ويبغض ويغضب ويدخل في خصومات وحروب ويقتل، ويزني بالفكر أو بالفعل.. إلخ،

يصبح هذا الإنسان بارًا..؟! ما هذه الموازين المقلوبة؟!! هل الله الذي حذر الإنسان من إبليس الذي يجول كأسد زائر يريد أن يبتلعه، متى سقط الإنسان في قبضته يصير الله مُدانًا..؟! وهل الإنسان الذي يتغافل التحذير الإلهي وينساق وراء إبليس ويحسبه كصديقه الصدوق، ويشرب الإثم كالماء، مثل هذا الإنسان يحسب بارًا؟!!.. هل يُعقل هذا؟! وهل ارتكاب هذه الجريمة جاء بإرادة الله أم بسماح منه..؟! إرادة الله خيّرة دائمًا وأبدًا، ولكنه لا يمنع الشرير من ارتكاب الشر، بل يسمح له بهذا، لأنه سبق ووهبه حرية الاختيار.

حقًا أن الله كلي الصلاح وكلي القدرة، وقد حدَّد وقتًا للدينونة، فيه تُخمد الشرور إلى الأبد وتبدأ الحياة الملائكية السعيدة بلا حسد من إبليس ولا محاربات من العالم والجسد، أما الذين يطالبون الله أن يقضي على الشر الآن، فأنهم لا يدركون ماذا يقولون.. تصوَّر يا صديقي أن الله قرَّر في هذه اللحظة القضاء على الشر وعلى جميع الأشرار، تُرى من ينجو من هذه الدينونة..؟! إن الله يطيل أناته علينا، فلعل الذي يخطى الآن يتوب بعد الآن، ولعل شرير اليوم يمسى قديس الغد، فهذا ما يلتمسه الله منا " إني لا أسرُّ بموت الشرير، بل بأن يرجع عن طريقه ويحيا. أرجعوا أرجعوا عن طرقكم الرديئة فلماذا تموتون يابيت إسرائيل" (حز 33: 11).. وهو لا يشاء أن يهلك أُناس. بل أن يقبل الجميع إلى التوبة. حقًا أن الإنسان الذي ينظر للأمور بمعرفة روحية يستريح، ومهما تزايدت الكوارث فإن هذا لا يمنع عنه الفرح بالرب، مثلما قال حبقوق النبي " فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل في الكروم يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعامًا ينقطع الغنم عن الحظيرة ولا بقر في المزود. فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي" (حب 3: 17، 18).

أما عن العذاب الأبدي فالله لم يعده قط للإنسان، إنما أعده للشيطان وكل جنوده " أذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41) والذي تمسك بالشر فإن شره يقوده لهذا العذاب الأبدي، وما أجمل قول أحد الآباء: إن الله لن يدين الإنسان على خطيته، إنما سيدينه على عدم توبته، ويقول "بول ليتل": "عندما يسأل شخص: كيف يرسل الله الصالح الناس إلى الجحيم؟ هنا يجب أن نشير بأن الله لا يرسل أحدًا إلى الجحيم، نحن نُلقي بأنفسنا. الله صنع كل ما هو ضروري لنا لكي ننال الغفران والفداء والتبرير، ولكي نكون جاهزين للحياة معه في السماء. وكل ما تبقى هو فقط أن نستقبل هذه العطية. أما لو رفضنا نعمته فلن يكون لدى الله خيار آخر، إلاَّ أن يتمم اختيارنا، فبالنسبة للشخص الذي لا يريد أن يكون مع الله، فإن حتى السماء نفسها لن تكون سوى الجحيم بعينه" (2).

الحواشي والمراجع
(1) ريتشارد وورمبراند - ترجمة د. عزت زكي - جواب المسيحية على الإلحاد الشيوعي ص 18

(2) ترجمة وجدي وهبه - لماذا أؤمن - إجابات منطقية عن الإيمان ص 170



الفصل السادس: الخلط بين المسيحية والشيوعية



س8: هل ارتبطت الشيوعية بالمسيحية أم بالإلحاد؟

ج: في البداية أخذت الشيوعية بعض سمات المسيحية مثل:

أ - الشعار السوفيتي الشيوعي إن كان أحد لا يعمل فلا يأكل أيضًا مقتبس مما ورد في رسالة معلمنا بولس الرسول الثانية لأهل تسالونيكي " إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا" (2 تس 3: 10) مع الفارق، لأن النص يوضح " إن كان لا يريد " أي أنه يملك إمكانية العمل، ولكنه لا يريد أن يعمل، فلا يأكل. أما الشيوعية فقد رفضت كل من لا يعمل مهما كانت حالته الصحية لا تسمح بالعمل، وهذا هو فكر " القس توماس مالثوس " الذي أوصى بعدم مساعدة الفقراء والضعفاء على الحياة، بل يجب أن ينتهوا من الوجود، وهذه النتيجة التي وصل إليها " هتلر " إذ نفذ برنامج " القتل الرحيم " فقتل أطفال ألمانيا المعوَقين، وكان ينوي أن يقتل البالغين منهم أيضًا.

ويقول "ريتشار وورمبلاند": "عقد الشيوعيون مؤتمرًا ضم جميع الفئات المسيحية في بناية برلمان بلادنا، وحضره أربعة آلاف كاهن، واعظ وقسيس، مثَّلوا جميع المذاهب. وقد اختار هؤلاء الأربعة آلاف من رجال الدين " جوزيف ستالين " رئيسًا فخريًا للمؤتمر، في حين ترأس بذات الوقت حركة دولية جهنمية للفتك بجميع المسيحيين بالجملة. فنهض الأساقفة والوعاظ، الواحد تلو الآخر، في بناية البرلمان وصرَّحوا أن الشيوعية والمسيحية هما واحد في الأساس، وأنهما يستطيعان التعايش السلمي معًا. وقد أثنى واعظ بعد الآخر على الشيوعية، وأكدوا للحكومة الجديدة ولاء الكنيسة لها.

حضرنا هذا المؤتمر أنا وزوجتي. وما أن سمعت زوجتي ما قيل حتى ألتفتت إليَّ وقالت لي: {يا ريتشار، قف على رجليك وأغسل هذا العار عن وجه المسيح. فهم يبصقون في وجهه} فقلت لزوجتي: لو فعلت ذلك لخسرتِ زوجك. ولكنها استطردت قائلة: {أنني لا أرغب أن يكون لي زوج جبان}.

وعندما انتصبت على رجليَّ وخاطبت المؤتمر، مثنيًا، لا على سفاحي المؤمنين، بل على الله ومسيحه، مشدّدًا أن ولاءنا هو بالدرجة الأولى لله.. دفعت فيما بعد ثمن ما قلته" (1).



ب- أخذت الاشتراكية الشيوعية من المسيحية حياة الشركة في الكنيسة الأولى، والملكية العامة، فجاء في سفر الأعمال " وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة ولم يكن أحد يقول أن شيئًا من أمواله له بل كان عندهم كل شيء مشتركًا.. لم يكن فيهم أحد محتاجًا لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات. ويضعونها عند أرجل الرسل فكان يُوزَّع على كل واحد كما يكون له احتياج" (أع 4: 32 - 35) فهكذا كانت تسعى الاشتراكية الشيوعية للحياة الفضلى المثالية التي يتساوى فيها الجميع، ولكن شتان بين المسيحية التي قامت على أساس الحب والبذل والتضحية، فكل من أراد أن يضحي بممتلكاته ضحى بها بطيب خاطر بدون إجبار من أحد، أما الاشتراكية الروسية فقد قامت على الإجبار والقمع والتعذيب والاضطهاد.

في البداية قامت الثورة الشيوعية على أكتاف جماعة من العمال المسيحيين بقيادة الكاهن " جابون"، وفيما بعد تعدى الشيوعيون على هذه الحركة، بل قبضوا على القس جابون وأعدموه شنقًا، ويقول "ريتشار وورميلاند": "أن المسيحية دين ثورة أكثر من الشيوعية، ولكن ثورة تختلف في مفهومها وطريقها.. فالثورات الشيوعية تبدأ بسفك الدماء.. أي دماء، حتى الأطفال والنساء والمذنبين والأبرياء على السواء. ثم يصبح شرب الدم غريزة جامحة مثل قطيع الذئاب الذي يزداد شراسة كلما تفجَّر الدم من ضحاياه.. وينتهي البرنامج الشيوعي بجلوس دكتاتور على قمة الهرم أو النظام الهرمي أكثر عنفًا وقسوة ودموية من الذي تخلصت منه الثورة.. لقد كتب لينين مرة [إن الإرهاب لازم للغاية] ولكن القيصر نيقولا الثاني الذي أطاحت به الثورة الروسية ما كان يضع الإرهاب ضمن برنامجه.. تُرى كم من الأرواح أزهقها لينين..؟ وكم اغتال السفاح ستالين؟ يُقال أن ستالين هو الذي دس السم لقتل لينين الذي علمه فن القتل، ثم قتل كل أقارب لينين وأصدقاءه. وماذا عن معسكرات العمل والسخرة في روسيا؟ وكم من الأرواح تزهق هناك أو في سيبيريا؟! وكم من الملايين سالت دماؤهم في الصين الحمراء..؟! إن الثورات الشيوعية رهيبة دموية هدامة سلبية.. ولكن ثوار المسيحية هم على نمط آخر.. إننا نستخدم سيفًا مغايّرًا هو سيف الروح، ونقتل ليس الخاطئ بل خطيته.. ليس العدو بل عدوانه.. وإني أتحدى أي إنسان في الدول الشيوعية أن يذكر لي اسم سجين واحد في أمريكا أو في أية دولة مسيحية من دول الغرب سُجن لأنه مُلحد.. لكن في الدول الشيوعية تجد مئات الألوف بين الملايين تعج بهم السجون ويقاسون العذاب والمذلة والموت أيضًا وذلك لأنهم يتمسكون بدينهم" (2).

ويقول "الأب أنتوني م. كونيارس": "فعدد المسيحيين الذين اضطُهدوا واستُشهدوا في القرن العشرين فقط، يزيد عن مجموع كل الذين استُشهدوا في التسعة عشر قرنًا السابقة.. (في الإتحاد السوفيتي) نُفي وأُبيد حوالي 60 مليون شخص كما لو كانوا حشرات، وكان بالطبع نسبة 75 بالمائة من هؤلاء مسيحيين أرثوذكس.. واحد من الذين بقوا على قيد الحياة في سجون الأشغال المرعبة ويُسمى ألكساندر أوجورودنيكوف Alexander Ogarodnikov كتب يقول {عندما أضطلع البلاشفة بالسلطة، فقد قاموا بمحاربة الكنيسة.. وفي عام 1923م كانت هناك محاولة جادة، محكمة ثورية لتقديم الله للمحاكمة، الله نفسه كان يُحاكم! كان لوناشارسكي Lunacharsky وتروتسكي Trotsky هما المفوضان لقيادة هذه العملية، وفي أثناء هذه العملية حكما على الله بالموت.. كان لابد من سحق الله والكنيسة، ونجد في العديد من خطابات لينين Lenin التشديد على التخلص من الكهنة. كانت الحرب ضد الكنيسة والدين مُخطَّطًا لها جيدًا، وكان حامية وعنيفة للغاية.. (كان) عام 1932م موجَّهًا نحو خطة اقتصادية لمدة خمس سنوات، ونفس المدة لإقامة مجتمع مُلحد. كانت الخطَّة موجَّهة على أن جميع الكنائس تكون قد أُغلقت عام 1935م وعام 1936م تكون كلمة " الله أو إله " قد اختفت تمامًا من اللغة وقواميسها.. لا يمكنني أن أصف لك أنواع الرعب والإرهاب والعذابات التي نُفذت، حتى أن كثيرًا من الأساقفة والكهنة والرهبان والعلمانيين دُفنوا أحياء، أو قتلوا بطرق أخرى متعددة}.. أُعدم كثير من قادة الكنائس، وسُجن منهم عدد آخر لا يُحصى. وفي عهد ستالين تحوَّل الأمر إلى ما هو أردأ، فقد ذُبح مائتا ألف كاهن روسي، ورهبان، وراهبات كما سُجن خمس مئة ألف آخرين أو تم نفيهم إلى سيبريا، حيث مات حوالي 90 بالمئة منهم في معسكرات الأشغال الشاقة.
سجلات البوليس السوفيتية السريَّة المحفوظة تُبيّن أن أغلب الكهنة أُطلق عليهم النار أو صلبوا، ولو أنه كانت هناك طرق أخرى استخدمها الشيوعيون للإبادة الجماعية، منها تعليق الكهنة وصلبهم على أبواب الكنائس، أو تركهم ليموتوا بعد أن ينزعوا عنهم ملابسهم ويطرحونهم في بحيرات ثلج في الشتاء حتى يتجمدوا. وبالإضافة إلى قادة الكنائس الذي قُتلوا، سُجن عشرة ملايين من عامة المؤمنين، أو عُذبوا، أو قتلوا. كذلك فإن بلاد أخرى من الكتلة السوفيتية اضطهدوا المسيحيين بنفس الطريقة" (3).


س9: هل يمكن إلقاء الضوء على "مذهب الهادمين" بإنجلترا كمثال لارتكاب الشر والتجديف؟

ج: في القرن السابع عشر ظهرت بعض المذاهب الهدامة في إنجلترا مثل مذهب الصوصيان، ومذهب الهادمين، ومذهب الكويكرز، ومذهب الهادمين Ranters قام على معارضة النظام الملكي وقواعد الدين والأخلاق، والحرية غير المشروطة، حتى قالوا أن الإنسان يستطيع أن يرتكب الموبقات من سرقة وكذب وغش وزنا (باستثناء القتل) لأن الاستغراق في ملذات الجسد لا يلوث الروح، وكان لهذا المذهب اتجاهاته الشيوعية فدعا للملكية العامة، وقاوم الملكية الفردية، ونادى أصحاب مذهب الهدامين بأن الله سيخلص الجميع باستثناء الأغنياء، وقال " أبيزر كوب " أحد قادة الجماعة في كتاب " رعد طائر من اللهب " بأن الله في طريقه للأرض ليسوي عاليها بواطيها، وأن الهادم الأعظم سوف يتسلل إليهم ملوحًا بسيفه قائلًا " سلّموا حوافظ نقودكم. سلموا أيها السادة. سلموها وإلاَّ قطعت رقابكم" (4).

وفاق " أبيزر كوب " جميع أقرانه في ارتكاب الشر، ويقول عنه " دكتور موريس عوض " أنه كان " يلقي مواعظه وقد تجرَّد من كل ثيابه ويتفوَّه بتجاديفه وبذاءاته أثناء النهار، فإذا حل الليل أنصرف إلى معاقرة الشراب ومضاجعة البنات اللاتي جئن للاستماع إلى مواعظه وهن عرايا كما ولدتهن أمهاتهن" (5).

وتعرض كوب للسجن في سجن كوفنتري، وبينما كان سجينًا نشر كتابه " رعد طائر من اللهب " فأصدر مجلس العموم البريطاني أمرًا بحرق جميع نسخ هذا الكتاب، وعند التحقيق معه ادَّعى الجنون، ولكن هذه الحيلة لم تنطلي على لجنة التحقيق، وعندما ضاق ذرعًا بالسجن نشر كتابه " الرجوع إلى الحق " وألتمس من البرلمان العفو عنه، وفعلًا أُعفي عنه.

وحلمت جماعة الهادمين بمجتمع مثالي ومدينة فاضلة يختفي منها الفقر والشقاء، ونادت بأن الله موجود في كل الخليقة، كما أنه حال في الإنسان، ولذلك ينبغي أن يصل الإنسان لله الحال فيه (في الإنسان) وقال أحدهم " أنه يرى الله في كل زهرة وفي الإنسان والحيوان والسمك والدواجن وفي كل نبت أخضر" (6)،

وهذا هو مذهب " وحدة الوجود " الذي ينادي أتباعه بأن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله.

وقال " أدوارد هايد": "أنه طالما أن الله موجود في كل شيء فمعنى ذلك أن الخطية والشر يتمثلان فيه" (7) بينما نفت بقية الجماعة ارتباط الشر بالله، وقالوا أن الله لا يوجد في الحروب، ولا في الظلم، ولا في الكنائس، وهذا يوضح كراهيتهم للكنائس فساووها بالحروب والظلم.

وأعتبر الهادمون أن الكتاب المقدَّس عبارة عن قصص وحكايات رمزية، ورفضوا الوصايا العشر مدَّعين أنها من وضع البشر، وقال بعضهم أن الشيطان ليس بالشيء المقيت أو الشرير لأنه من صنع الله الكامل، وأنتشر مذهب الهادمين في أرجاء البلاد، ولاسيما بين الفقراء والعمال والعاطلين والمتشردين، وكان " أبيرز كوب " يفتخر بأنه أخًا للصوص والشحاذين والعاهرات. وكان للهادمين كتبهم مثل " إنجيل الهادمين" و"عقيدة الهادمين"، وفي كتاب " النور والظلام واحد " قال مؤلفه " كلاركسون " سنة 1650م، أن " الشيطان هو الله والجحيم هو النعيم والخطيئة هي القداسة واللعنة هي الخلاص" (8). وحاول مجلس العموم البريطاني التصدي للهادمين، فأعد مشروع قانون للحكم على الهادمين بالإعدام، ثم اكتفى بسجن الهادم لمدة ستة أشهر، وفي سبتمبر 1651م أصدر مجلس العموم قانون التسامح الديني مع الكل باستثناء الصوصيان والهادمين. وكان للهادمين تجاديفهم، فقال الهادم " ريتشارد كنج " أن زوجته الحامل ستلد له الروح القدس، وقالت " ماري أدمز " أنها سوف تلد يسوع المسيح، وأدعى الهادم " توماس تاني " بأن الله تكلم إليه. وأفهمه أنه يهودي، وعليه جمع شمل اليهود والعودة بهم إلى أورشليم لإعادة بناء الهيكل، وقام توماس بختن نفسه، وكان يجوب الشوارع مبشرًا بأعلى صوته على أنه الحبر الأعظم لليهود، فزجت به السلطات في السجن، وبعد خروجه أحرق الكتاب المقدَّس علنًا، وهاجم البرلمان ملوحًا بسيفه الذي علاه الصدأ، مدعيًّا أنه سليل شارلمان وأنه الوارث لعرش فرنسا فأعادوه إلى سجنه، وأدعى الهادم " جون روبيتز " أن روح آدم تقمصته، وأنه سيخرج من إنجلترا على رأس 144 ألفًا للتوجه إلى جبل الزيتون، فزجت به السلطات في السجن مع زوجته، وإحدى عشر تابعًا له، والهادم " ريتشارد فولكنر " شرب نخب الشيطان تحية له وقال " أن المسيح مخلصنا ابن زنا" (راجع الإلحاد في الغرب ص 106 - 111) ومذهب الهادمين يلقي الضوء على الحالة التي آلت إليها شعوب الغرب في القرن السابع عشر، والطريقة التي أتبعتها الكنيسة والدولة في التعامل معهم، والتي أتسمت بالعنف، والعقوبات التي تتراوح بين السجن والإعدام، مما أدى إلى كراهية البعض للدين.

الحواشي والمراجع
(1) العذاب الأحمر ص 14، 15

(2) ترجمة عزت زكي - جواب المسيحية على الإلحاد الشيوعي ص 103، 104

(3) تعريب ى. م. - الصليب والاستشهاد في القرن العشرين ص 5 - 8

(4) د. رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 96

(5) المرجع السابق ص 95

(6) د. رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 99

(7) المرجع السابق ص 99

(8) د. رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 102


***********

أكتفي هنا بالنقل من الجزء الأول ويتبع كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد، الجزء الثاني: ثمار الإلحاد - أ. حلمي القمص يعقوب الفصل الأول: إنكار وجود الله ؛ في المقالة القادمة

وتعمدت إختيار محاور الأفكار الدينية من الكتاب دون شخصياته لطولها ولأنها آراء شخصية مسبقة للمؤلف !!

لكن لماذا بدأت هذا النوع من المقالات والتي لا تتعدى النقل حرفيا ؟!!!

لأني أتطلع إلى فن جديد في النقد والدراسة لنظرة المؤمن نحو الملحد !!
المسلم المؤمن والمسيحي المؤمن على حد سواء ! ولفتح الباب للنقاش العقلاني بين المؤمنين والملحدين

ولسبب آخر سأذكره في وقته !

**** *** ****

المصدر والرابط :

كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد،
- أ. حلمي القمص يعقوب


http://st-takla.org/books/helmy-elkommos/atheism/



.



#عايد_عواد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإلحاد وماركس والخرافة بين النصوص والمفسرين
- يسوع قبل التجسد وشمشون النبي ورسول الإسلام
- معركة كسر العظم بين الإنجيليين والأرثوذكس ح1
- الدعارة المقدسة بين سامي لبيب والإسلاميين
- يسوع والمكر والشتم واحتقار البشر من كتبهم
- سامي لبيب بين يسوع وأبي لهب وغيره !
- الرسولة تكلة صلى الله عليها وسلم والصخرة !
- خرافة كبرى أم فضيحة والأنبا تكلا أنموذجا !
- موجز عايد المستقيم بالرد على صباح إبراهيم
- إيليا النبي بين الخرافة والعنعنة !
- الخرافة بين سفر الرؤيا والإسراء والمعراج
- قديسان ومبتدع بين المعجزة والخرافة
- الحمار والمؤمنون بالأديان والحقيقة
- ايدن حسين وعبدالله اغونان والأديان
- داعشيات سعودية حكومية - الجزء الأول
- أرثوذكسيات - الحلقة الثانية
- أرثوذكسيات - الحلقة الأولى
- كشف المستور بين الأرثوذكس والكاثوليك الجزء الرابع
- الأرثوذكس وسلطان الكنيسة والكهنة والخرافة
- كشف المستور بين الأرثوذكس والكاثوليك الجزء الثاني


المزيد.....




- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...
- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟
- اتفرج الآن على حزورة مع الأمورة…استقبل تردد قناة طيور الجنة ...
- خلال اتصال مع نائبة بايدن.. الرئيس الإسرائيلي يشدد على معارض ...
- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عايد عواد - رحلة إلى قلب الإلحاد بمنظور الأرثوذكس ج1