أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جابر حسين - أمي ، وحكايات المدينة عرب ، تفاصيل اليومي في لحظة الإبداع !















المزيد.....



أمي ، وحكايات المدينة عرب ، تفاصيل اليومي في لحظة الإبداع !


جابر حسين

الحوار المتمدن-العدد: 5424 - 2017 / 2 / 6 - 01:19
المحور: الادب والفن
    


أمي، وحكايات المدينة عرب،
تفاصيل اليومي في لحظة الإبداع !
--------------------------------

عل صوتك بالغنا
كل الأغاني ممكنة !

من ضمن آخر إصدارات مركز عبد الكريم ميرغني، صدر كتاب محمد سيف الدولة صالح
( أمي، وحكايات المدينة عرب ). وهي " الرواية " الفائزة بجائزة الطيب صالح للرواية التي يجريها المركز ويحتفي بها بعد طباعتها كل عام. الكتاب في 244 صفحة من القطع المتوسط، وبتصميم جميل جذاب. أؤمن تماما بأن التجربة الحياتية المعاشة، واقعا ومشاركة، تقع في موضع الجوهر مما نسميه المعرفة. تجاربنا وخبراتنا، علي تنوعها واتساعها، هي التي تشكل المعرفة وبالتالي الوعي، إذ أنها ليست كيانا مستقلا يوجد بمعزل عن فهمنا وإدراكنا وتأويلنا للحقائق والأحداث. هذا التأويل، لدرجة عميقة، ينبع أساسا، من تجاربنا الحياتية الشخصية. هكذا، يمكننا أن نلاحظ أنه يمكن يشاهد، مثلا، أثنان نفس الحدث، ويكون، في ذات الوقت، لكل منهما رواية مختلفة. وهذا، في ظني، ما فعله محمد سيف الدولة صالح في كتابه هذا. إذ عاش الحياة كما عاشها جميع أهل المدينة عرب ونهلوا من ينابيعها بالغة الغني الطيبة والحنان ونداوة الحياة. لكنه، وهذا بالضبط هو انجازه الكبير، رأي نفس تلك الحياة برؤياه هو حين عاشها، ومن ثم، تأملها بمحبة وحنان كامنان في ذات قلبه، ناقدا لبعض وجوهها أحيانا، ولكن أيضا بقلب المحب الوسيم، ثم كتبها، جعلها في لغة الناس حياة ثانية وبولادات مبتكرة بوجهات شتي، وأطلقها في الملأ الرحيب، تلك الحيوات بذات جواهرها، وتلك المدينة، المدينة عرب، مدينته التي تجرح رحيق عشقها ونالت فتنتها من قلبه الرحيم بها ووعيه العالق في تربتها.هكذا صار، منذ مبتدي الوعي بالكتابة عنده متبتلا ، حد التوجد، في محرابها الذي شيده في روحه ونذره ليكون موضع المحبة والعشق لها، وأينما ولي وجه الكتابة لديه فلا شك يراها ويراها ويراها! هكذا، يمكننا أن نري كيف تسامت وإندمجت سمت تجاربه الشخصية في هذه الكتابة حد غدت حاملة إبداعه وتشي به، فقد جعل اللغة تنطق برؤياه التي رأها وعاشها. وفيما يبدو لي، أن محمدا هنا، أشبه ب ( الباحث )، لكنه، الباحث الذي يستخدم أدواته التحليلية عبر منظوره الأدبي استاندا إلي خلفيته الإبداعية ومعارفه الحصرية بالزمان والمكان، ودربته الحصيفة في السير، سالما وغانما، في أدغال اللغة وكثافة أشجار الغابة، متربصا بالضوء ومقتفيا أثره. أراه، أيضا، قد شرع يطرح أسئلته ترافق جل خطواته، يقاربها مع الحياة التي من حوله خائضا في بلبالها و ... يعيشها! أبدا لم يبدأ سرده من فرضيات ثابتة ثم يتركها لشأنها، وهي بالقطع كانت كذلك للكثيرين. بل نجده قد فعلها، حين استقبلها كمعرفة فأشتغل عليها لتغدو وجها إبداعيا في الكتابة. من زاويته الخاصة، ومن خلال هذا المنظور نفسه إتسعت لديه الفوارق والمفارقات وأصبحت واضحة جلية، تلتمع منها جواهرها، عندما أضفي عليها رؤيته الخاصة وممكنات إبداعه. لهذا نراه قد رتبها وصنفها حسب أهميتها وتأثيراتها عليه، ثم أجري عليها تحليله الأدبي، ولكن في سياقاتها الأجتماعية والتاريخية لأجل اكتشاف معانيها. هذه أيضا، أعدها من تميزات وتجليات هذا العمل، قد تحولت ( الحكايات ) برمتها إلي كيان أدبي وإلي إبداع كتابي. ولكن، لماذا الأم، لماذا المدينة عرب، ولماذا هذي الكتابة كلها؟
يقول الراوي، الذي هو المؤلف نفسه وعلي طول الحكايات كلها، الذي هو المؤلف نفسه :
( المدينة عرب تمشيك حيثما أرادت تجلياتها المطمئنة لتعاهدات الطين والإنسان، حيث تتقارب التواريخ تنزع أصالتها من صحائف دفاتر الدواوين الكئيبة، ثم تعطي ختم الدولة ثمن الحبر وراتب الخازن، رغم أن العمر أستوي علي الماء، نما ثم شب، لم يحبو لكنه مشي. كانت الدروب بريئة وخواطر الناس باكرة وأماني المكان غنية سيدها المطر، بيتها العشب والشجر، ساكنها الحيوان، أخذت السهول بركة أسمها من الجزيرة، تصالحت والوديان والمستنقعات القديمة وجزر الأنهار المنتزعة من بطون الكتب المقدسة، فالخضرة أصل الحضارات الغامضة كما أديان الأقدمين! ). هكذا رأها، حياة من الماء والطين والعشب، من حيوات الناس والحيوان والطير، الحنان محصولها الدائم الذي لا يكف نضجه ولا بهاء سمته الطيبة تعمر القلوب والعيون وتطهر اللسان، هكذا، كما الفردوس الأرضي تشرق وتنير عتمات الدروب وأن قسي عليها الزمان، في بهاء جلالها وسماحة تدينها الشعبي الذي لا يعرف غير الرضا والتسامح وبذل المكرمات، هكذارأها، إذن، وبجلها في الكتابة والحكي الوفير. ثم نمضي، لنستبين الحكايات ونكون فيها، مثلما هي تسعي بيننا عقدا من الكتابة ورؤيا في الثقافة، فلماذا أنت منها وفيها يا محمد، وكيف؟ يقول: ( ... لست مؤرخا، برغم رغبتك أنت، تحاول ما وسعتك المحبة أن تنفذ لوجدان اللحظة التي صنعت الفعل، راكمته وحفرته كأخاديد الكهوف العتيقة ولا تهمك العظمة أو الخطورة، تعنيك الأحداث البسيطة، تطورها، هدوء استقرارها، جلسات ضل الضحويات، مشاوير أمك ومواجباتها، ختاتها الشهرية، زيارات الحواة واحتفالات الكيتة، مباريات العصاري وسباق الحمير، الغلاط ولعب السيجة، نوبات الحوليات ودوبيت السكاري والمجانين.). هكذا، ولأجل هذا كله وبداوعيه المحفزات كانت هذه الحكايات، للأم وعنها، للمدينة عرب وعنها، و عن أهلها الذين هم أهله أيضا!
هي ( حكايات ) إذن، تماما مثلما قال بها مؤلفها ووضعها عنوانا للكتاب وللكتابة. أنها، في ظني، حكايات وصفية، توصف وصفا دقيقا وجليا، تحكي، في مجملها، يوميات المدينة عرب وأهلها، بتفاصيل اليومي المرهقة لكن بإبداع مثير وسلاسلة في اللغة، في المعني وفي الدلالات. هي، إذن، حكايات وصفية أن جاز لي أن أوصفها، أنا الذي خلا ضميري الثقافي منذ سنوات عديدة من ( التصنيفات والمدرسيات ) في حق كل أنواع الأدب والفن بكافة ضروبه وأنواعه. فلست أملك، والحال كذلك، إلا أن أضعها، برغمي، في موضع ( الرواية الوصفية ) التي، في ظني، قد أفل نجمها وغابت لتكون إشارات في كلاسيكات الكتابة الروائية حين أفسحت في المشهد الثقافي للجديد المبتكر، الذي، حسب علمي، لم يجرؤ أحد بعد لإطلاق أسم عليها ليكون في الدلالة والمعني بشأنها! وقد كنت، إلي وقت قريب أقول بأنها كتابة ( التغيير ) بحسبان أن هنالك بالفعل تغيرات كونية وفكرية واجتماعية وسياسية وأقتصادية وثقافية أدبية وفنية أخذت تجري في العالم كله من حولنا منذ دخولنا الألفية الثالثة من عمر البشرية. هكذا رحت مطمئنا إلي أن ( أمي، وحكايات المدينة عرب ) قد خرجت لتكو في معية الكتابات الكبيرة التي تشتغل علي أوضاع وتجليات الحياة لدي بسطاء الناس، أناسا وحيوات وواقعا يضئ عوالما من حوله، يفعلها محمد وهو يدرك جيدا أنه هو نفسه معلولا لهذه الحياة في واقعها الخشن، لكنه الرائي الرحيم بها، يري أجمل ما لديها فيكتبها بأفضل ما يكون ليرينا كل وجوهها الجميلة تلك، حقا، فقد رأها وقالها:( حكايات المدينة عرب جميلات كسلام روحها وجنون مواسمها).1.
و ... ماذا عن الأم يا محمد، نسأله كيف جعل، منها ومنه، حياتان في واحدة، وفي الحكايات هي قمر ليلها وجدوي الحياة حين تكو نبيلة وأثيرة وذات فيوضات نورانية تضئ جواهر الحياة، لا حواشيها وهوامشها، فتجعلها في قلوب الناس محبات ورؤي إنسانية عظيمة الغني والثراء ؟
لكأن درويشا كأن يؤشر إليها، حب لحب، حين نادي قلبه علي أمه:


أحنّ إلى خبز أمي
و قهوة أمي
و لمسة أمي
و تكبر في الطفولة
يوما على صدر يوم
و أعشق عمري لأني
إذا متّ،
أخجل من دمع أمي!
خذيني ،إذا عدت يوما
وشاحا لهدبك
و غطّي عظامي بعشب
تعمّد من طهر كعبك
و شدّي وثاقي..
بخصلة شعر
بخيط يلوّح في ذيل ثوبك..
ضعيني، إذا ما رجعت
وقودا بتنور نارك..
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدت الوقوف
بدون صلاة نهارك
هرمت ،فردّي نجوم الطفولة
حتى أشارك
صغار العصافير
درب الرجوع..
لعشّ انتظارك!

شيئا كثيرا مثل هكذا قال به محمد عن أمه، لكأنه لم يكتفي بأن جعلها في الجوهر من الحكايات
كلها، بل وضعها في موضع التجلة في عنوان الكتاب! لا، لن أستطيع، وأنا المأخوذ بهذا القدر المهول للحب يسري في مفاصل الحكايات صوب فاطمة بت حوه، الأم التي أيقونة عشق ومحبات في كتاب الأم الكبير، فتجدها تطل بوجهها السمح وقلبها الملائكي في كل الفصول، لكأن محمدا نذر كتابته، التي هي بعضا كثيرا من حياته، لأجلها، عساه يوفيها بعض حقها عليه، علي عائلتها وأهلها ومدينتها!

الحكايات وجه الحياة في المدينة، والأم تحكيها !

الحكايات مقسمة، بإتقان ونباهة الأبن وحبه، في الكتاب إلي 23 فصلا، لا يكاد يخلو فصلا واحدا منها من حضور الأم، وتلك الروائح وأثرها الباقي، هي من بعض وجوه حضورها، ثم، ويا للجمال حين يكسو العبارات والمعاني بظلالها الرشيقات، فكل عناوين الفصل تشي بها وتؤشر عليها، لكأن الكتابة كلها مبذولة لمحض خواطرها، لنتابع معا هذا المنحي المبتكر في الكتابة إليها، للمدينة وأهلها، ولنا أيضا.

1: الجيرة الشيقة:
الجيرة والجيران، في التراث السوداني بساط ممدود بالمحبة والود والرحمة تتجلي غماما لطيفا يظلل أيام الناس فيجعلهم يستكثرون في التعاضد الرحيم والتسامح الذي لا يتيح، بينهم إلا للتعاطف والمؤازرة و الحب. فهنا تجد الحكي يؤشر، بلغة القلب المحب، للأحداث، للوقائع وتداعياتها، في المكان وفي الزمان، وفي الوعي أيضا، ولكن، ذلك المسري كله يعبرإلي الحكي من رؤي الأم ومحيطها، بيئتها التي هي من شد خيوط نسيجها وأحكمها. هنا تري التفاصيل في سمتها الوسيعة ورحابتها حد أن تطال كل الأشياء، ليست تترك شيئا ولا تكف عن إشارات الطلوع التي تجعل منها مؤلا صالحا لكي يدون ويحكي في العالمين. تبدأ الحكاية من الأم، وهي ( تشابي ) أعلي حائط بيتها لتطعم كلب ناس ( مرياتة وألبرتو) جيران العمر والحيطة بالحيطة، تفعل في صباحاتها ذلك وهي التي تعلم تلك المسافة بينها وقبيلة الكلاب، فالكلب نجاسة، بحسب ما توارثه العقل العربي الإسلامي جيلا من بعد جيل،فهل، حقا هي كذلك؟ لكنها الجيرة، وقد أوصي النبي بها لسابع جار، كما تقول، جعلتها في هذه الوجهة الإنسانية السمحة. وقد أمتدت هذه العلاقة فيما بين الكلب وأصحابه من أهل الجنوب والأم وأهل بيتها إلي مودة ورحمة ووفاء حد أن أصبح ذو نفع كثير للجيرة كلها وللحي بأكمله. اللوحة تجعلنا نري ألبرتو في تصالحه الحميم مع الجيرة وأهل المدينة، نجارا نظيفا يحاكي أجمل وجوه الحكايا حين تكون في وجهة أنساق جماليات الحياة وإنسانها الذي يكون في سعي الحب الإنساني فيسمو به ومن حوله.وزوجه مرياتة الجميلة فارعة الطول التي غدت شايقية بالمعاملات، مثلما جيرانها في محبات الرفقة ذات الحلاوة والطلاوة حين الحضور. فقد أمسكت، بيديها الماهرتين وسماحة روحها بالعواسة تتقنها وتجعل من طقسها فيوضات حب وتوادد وآصرات تشدهم إلي مواطن بريقها الهطال، حتي غدت أفضل من يقوم بعواسة الأبري، وللأبري، حضن يناديك لتكون في محبته، فرائحة الأبري( مثل الفضيحة والفجيعة والفرح، لا يمكن إخفائها)2. زخرت الحكاية هنا بأشراقات الحضور البهي لوجه السر، الشقيق الأصغر الراحل، فتجده ملازما للأم، كعطر ثوبها ورائحتها، علي طول مسار الحكايات، ذكري حلوة وإن شابها بعض حزن وحسرات، و الذكري حنين ملازم لسيرته لديهما، لهذه العائلة التي ما نال حزن فقده من مسرات حياتها. ثم تمضي الحكاية تعرض لنا شيئا من تاريخ تلك الحقبة السوداء في البلاد الكبيرة حين تسيدها الظلام والعسف إبان حكم ديكتاتورية النميري، أيام كان الراوي ناشطا في قيادة نقابة عمال نسيج الهدي بمدني بلحيته الماركسية التي ظنوها تخصهم فطاش ظنهم. ولم تخلو الحكاية من المفاكهة اللطيفة تتقافز كما العصافير النشوي بضوء الصباحات، حين يأتون لبيت العائلة بالباب الخطاء يحملون ( الجركانات ) الصغيرة وقد إلتبس عليهم موقع البيت( الدرب نعرفو بالصباح وبالليل يروح علينا !).

2: عوامل التكل :
التكل، هو مطبخ البيت في لسان أهل الشمال والوسط. وهو، لدي الأم، مملكتها وملكوتها وعالمها السحري الذي أتي بأهل البيت كلهم ليكونوا في حبه والسعي، بطيب الخاطر ومهارة الأيدي القادرة، ليجعلوه بهيا يتفتح، كزهور الحدائق، كل صباح وينثر فيهم عطره وروائحة ولذاذات الحنين. تلك الأيام تشع وتتفطر، كقطرات المطر، في معية الكلمات والمعاني، أيام ( طيب الذكر القطار وتصاريح السفر)4. وعلي ذكر( عوامل التكل ) تقول الحكاية عن حب الأم للأغنام وبعض ( النعيجات ) يتقاسمان حبهما واقتناءها كلاهما، الأم والأب، مشمولات بالرعاية المفرطة مأكلا ومشربا وإقامة رحيمة، والعصاري والعشيات، ملاذات للعشب الطري والماء النمير، وللدجاجات براحات وسيعات للحضن والتفريخ. تلك صباحات ( التكل ) تشي لعلاقة نجوي ووجد فيما بين الأم وبينه، وفيما بينه وأفراد العائلة، فالكل يسعي، سعيه كله، ليكون في شغله ليكون بهيا في نضارة الأيام، يعتني بأرضه الأخوات، فائزة، ليلي وآمنة، يطمبجن الأرضية بالماء، أحيانا ماء غسيل الملابس ويبلطنها بأيديهن حتي تستوي ناصعة بهية، وكان للمشهد ولع في خاطره وفي رؤياه: ( ... انشغلت به، حاولت ما وسعك الخيال أن تتقمص إيقاعه، لكن زمن لحنه يحتويك ويدوزن رغباتك، وددت لو أنك انتظمت ضمن سياقه، مددت يدك أردت لها أن تصير بعضه، لكن ظلها كسر الرقراق، ما جرحتك حدة زاوية الشعاع، بل إتكأت علي طين خلقك بعد أن فاضت بماء إنبهارك وعمدتك بنشوة إنجذابك ثم حممتك بالضوء وصيرتك جزء من مشهدها الفاتن.)5. تلك رؤي شعرية بالغة الغني، تتفتح، مثلما الأزاهير، من ذاته المبدعة، أنه الحنين، والحنين هو الرائحة، تسري في كينونته نفسها فتجعله يراها في ضوء شفيف(وأن الروائح لحاء الحياة وآصرة القربي وذاكرة العلاقات)، الرائحة تنغمس، عبر المسام، في الجسد وتكون أقامتها في الجسد وفي الوعي. أن محمد، إلي جانب الذاكرة المهووسة بالتفاصيل، ذاكرة التفاصيل، فأنه يري بقلبه ووعيه، ليس عبر عينيه فحسب. ينظرحوله ليري ( الزبالة ) علي الحائط الطيني فيقدر زمان اجرائها بأربع سنين، ويلاحظ ( صبيب ) المطر في خمس مواضع حد يري مقدار الإختلافات فيما بينها هنا وهناك! تحكي الحكاية عن( اللياسة واللياسين ) فتراهم جزء من العائلة حين يكونوا في شغلهم، إبداع الأيدي الماهرة لا شك! لا تتركنا الحكاية إلا وتجعلنا في ما يري ولا يري إلا لتلك القدرة الرائية، عبر ذاكرة التفاصيل، الراصدة لما لا يراه العاديون في يوميات حياتهم، كل ذلك والحكاية لا تزال في مشهد ( التكل ): نملية الغسيل، صحن عجنات الموليته، فرم الخدرة،حلة الدق الصغيرة، كبابي شاي الفطور، كيزان الأب الطلس البيضاء الكبيرة والصغيرة، بستلتي اللبن والفول وصحون الفطور، زير عجين الأبري، تجاور الزير ومجوز الدقيق، طبق السعف الصغير الذي حازته الأم من أحدي بائعات الطباقة بمحطة شندي، رف البهارات وإنتهاك خصوصيته أحيانا من الأخوات، محمصة الفول التي جلبتها الأم من مصر وحرصها عليها لتبقي رمزا لذكري وزمان، شخوت الأم علي حائط التكل مواقيتا لحساب الزمن ضد النسيان، مواقيت هي في حياتها وأهل بيتها أدخل وأبقي: النجوع صوب الكونيسي، تفريخ الدجاج، تعشير الغنيمات، تلقيح نخلة البيت، حساب زمن زريعة الأبري ورمضانه، فيا للتفاصيل !6.

3: تداعي ليل الغارة:

(

حــَزيــنـَـه وجُــوفِــك دمْـدَم هَـزيـم حِـزنـْتـِى وقَـلـب الحَــازنـِـك خـَــلـِى
تــعـَبــِّـى الحُـلـم الـشـفـتـِـيـهـو قـديــم وتــَمْـلـح سـارك قـلـبــك مَـــلِـى
وكــل مايـنـسِّـــم قـاصــدِك نـسيـــم يـلهْـلـِـب جـِلــدِك كـِضـْـبــًا طـَــلـِى
فطمْـتـِى جَـنـاكِ وحـُـضـنـِـك رحـيـم وحِــنـِّـك تــب ماصَـابـُـو الـبـِــلـِـى
سِــمِـعـتَ غـُـنـاكِ وصُــوتـِـك رخِــيــم شــدِيــد أوتــَـارك زايــِد حـِـلـِـى
عِرفـتَ الـغَـم الصَّـار لـِــك نـديـم وشـُفــتَ الكـُون بـى شـوفــًا جَــــلِـى
لـِقـِيـت الحـَــازنـِـك كـافـِـــر ذمِـيــم إنــتــى وحـِــيـــدِك قـلـبــِـك ولـِــى!)7...

هنا ، في هذا المنحي من الحكايات، يتناسل الحزن دافئا، لا، ليس محرقا ولا هو مدمرا للرؤي الوسيمة لدي الأم وأبنها الرائي، ولا لمن هم حولهم من تلك السلالة العظيمة. يمكنك، وأنت تطوف بالحكاية، بالأحري، هي التي تطوف بك في ردهاتها، أن تري كيف يولد من بين ركام الحزن الفرح العفي وزهور الحياة. رحيل ( السر ) أبدا لم أراه، برغم الحسرات الكثار، حزنا يورد إلي الهروب من فرح الحياة وجدواها النبيلة، رأيته محفزا لما هو أجدر بالبقاء في الحياة ومعافرة الفرح بها ونوال جمالها، نعم، هنالك حنين ينبثق، مثلما حساسية العواطف، من بين المواقف والأحداث جميعا التي تكون فيها تلك الحيوات، لكنه يشع، مثلما الرقراق يأتيهم من سقف التكل، فيضئ ما يتسلل إليهم من عتمات، فيكون ضياء، ويكون نور، فالحنين يستجلب الذكري علي أية حال، كأنما أنف القدر تمسكه الحكاوي علي قول محمد! هنا بالذات، في هذا الفصل، يأتي الحزن مطلا عليهم، ذكري رحيل ( السر ) تتزامن مع مجئ زوار الفجرالأمنجية للبيت ينشدون إعتقال محمد، برغم حرج اللحظات وارتباكاتها المتوقعة، يتواري الحزن ببطء متسللا إلي ما لست أدري ليفسح للأم برهة للصمود والجسارة والمقاومة، ليتحول المشهد بكامله إلي ملحمة للموقف الباسل، شغل الأم وديدنها المألوف في مواجهة لحظات الحزن والإنكسار. في ليلة إعتقال محمد، يتحول الموقف برمته، بفضل جسارة وصمود الأم يؤازرها الشيخ الفنقلو، إلي مشهد بطولي يحوز الشرف والشجاعة في مواجهة العسف المسلح لأمنجية الديكتاتورية. إنتفاضة عظيمة تلك التي نهضت بها الأم وسرت في من حولها، حد أن تقزم أمهامها رتل الأمنجية وذلك القمئ القصير في قيادتهم. تركت الأم، لأجل خاطر البسالة والصمود، عادتها في التفاني لأجل مساندة ودعم الآخر، فمنعت الماء لسقيا الأمنجي القمئ القصير، فصاحت به بلسان أهلها( مويتي نضيفي ما بشربوها علا النضاف!)، فإنكسر شيئا ما في دواخل القمئ القصير. لكنه، ولمحض الحقد الذي تمتلئ به نفوس هؤلاء الناس، يقوم بتوجيه حقده وحقارة عزائمه صوب محمد حين صار في قبضهم وزنازينهم بإستخدامه الصعق بالعصي الكهربائية، محاولة، لا شك، للتعالي واظهار القوة، وهو الوضيع في أسفل مواضع الحثالات! فصل خصص، لإضاءة مواقف ورجال في مواجهة الديكتاتورية: الشهيد عبد المنعم رحمة( محمد كتب فيما بعد قصيدة طويلة عنه واستشهاده تحت التعذيب )، صديقه المناضل الراحل عادل ميرغني والعديد العديد من المشاهد والمواقف لرجال ونساء وزمان، فكان فيها الولد جسورا في منازلات الطغيان، حقا، وكما وصفت الأم وأبانت ( أصلو الولد وادي، بتجيهو المويةمن غير خاطره)، برغمه يكون في الصمود وفي المقاومة. بعد إطلاق سراحه، تشرع العين، يؤازرها القلب والوعي، في الرصد وملاحظة التفصيل منذ باب مغادرة المعتقل ومرورا بالطريق إلي السوق وموقف المواصلات حتي لحظة وصوله المدينة عرب، وتلك أيضا مواقف ومواقف جليلة لأهل بيته ومدينته، مهرجان الفرح والصمود في مواجهة سلطة القمع والعسف، وكنت أري ما أري، فقد ( أحبتك المدينة عرب وناسها وحيتك!)8.

4: الضجة الرحيمة:

هذا الفصل من الحكايات مبذولا بأكمله لوجه البهجة المشاعة في الناس، جراء اطلاق سراح محمد من براثن الديكتاتورية وعودته، سالما ومقاوما، إلي حيث الأم والأهل والمدينة، إحتفالية بحجم الحدث وأكبر من شراسة القمع والدم، فرح الحياة أبدا يطل بهيا من بين ركام تلك المظالم والإنتهاكات لحرية الإنسان، ضوءا ونورهنا أيضا، إذ يتحول منزل الأم إلي مهرجان فرح وجرأة مقاومة وأناشيد! فرح المدينة عرب كما رأيته حد ظننتني قد عايشتها، عندما أحسستها، تلك اللحظات من عمر المدينة والعائلة.9.

5: الفارس والنعيم:

الحكاية هنا تروي عن عمر، وجه المدينة السمح، فاكهة المجالسات والسمر البرئ، مضمخا بالمحبة للأهل علي أطلاقهم وللمدينة، ندي المواددة لللأم ولمحمد والعائلة، ونجي العصاري والعشيات الوفي، يلتقون بسوق مدني الكبير حيث كشك صديقهم أبن المدينة ميرغني خضر، محمد وعمر ووليد، عمر حكاي، حكواتي وحلواني المدينة ونكهتها المعطرة بالنوايا الطيبة ونبيل العواطف، يتناولون، في مرح جلستهم، مذاق السكر من قصب الجزيرة حلو المذاق، ويحتسون الشاي والقهوة ونوادر الحكي تسري لطفا في القلوب وبهجة مزهرة. يفجأهم ما يحيلهم إلي مواقف الجد التي تتخلهها القفشات والسخرية والمفاكهة، فقد هبط عليهم ذلك الأمنجي القمئ القصير الذي كان يقود الليليين فجر اعتقال محمد وإتقياده من بمنزل الأم إلي زنازين الأمن في السرايات بمدني، وكما قال بها عادل ميرغني، كانت ليلة فتحت فيها باب العودة لا باب الإقتياد! !ذن، جاءهم ( النعير ) كما أسماه عمر، وهو ثاني البصاصين بوحدة أمن المدينة عرب، ويا للمفارقة، اتخذت من روضة المدينة موقعا لها!
يقول أمل دنقل:
(الشرطى السرى
الآكل لحم أخيه
كى يطعم زوجته وبنيه
ويعود ليطبق فمه الدموى
حتى لايسقط منه فتات الخبز اليومي) ...

ويقول محمد عن( النعير):

( النعير قصير وقمئ، أحسن فيه هواء المدينة عرب الطيب وخير الجزيرة العميم، فأكتسي عظمه الناشف شحما ولحما، ورطبت نداوة الصباحات عروقه النافرة فلمع جلده الجاف، كما لينت سلطة الأراذل صوته، ومنحته الذقن الدائرية بعض خفة وقورة وربشة غير طاعمة ولفافة تشمه ويشمها!)10. جري تبادل الحديث ساخنا ومحقرا له، في شخصه وأفعاله، حد أن تحداه عمر أن يضعا، معا، كل راحة يده يدسها في لهب جمر كانون القهوة والشاي أمامهم، ليروا من منهما الشجاع. تردد النعير حد الهلع، وتحت الإلحاح وضعها في موضع قليل الجمر واللهب، ثم سرعان ما سحبها وهو يصرخ ويلهج بكلمات صورت رعبه وهلعه، فإنتصر، هكذا، عمرا عليه! ليتهم يفهمون ويعون حقارتهم وسط شعبهم فينصرفوا عما هم فيه!

6: حكاية حسب الرسول:

حسب الرسول، خفير السوق، من أطيب الخلق، شاءت له أقداره أن يكون حارسا علي ممتلكات التجار والباعة في السوق ليلا، الواجب الذي ظل يقوم به في حرصة ونباهة وإخلاص، حتي يوم أ حلت به الكارثة شخصيا وهو منها برئ ومحايد إلا في القيام بواجه بأفضل ما يكون: الحدث في مطلع، في زمن الإنقاذ الكالح مطلع التسعينيات، أيام ( دنو عذاب روسيا وأختها أمريكا ) علي حد قول محمد. أعلن في الملأ عبر الميديا المرهونة بالكامل لأمرة السلطة الحاكمة، أن ( الراقص ) وضسفه الكبير سيحلون ذلك اليوم علي المدينة عرب لإفتتاح ( كنتين ورواكيبهم المسلحة بسوق المدينة ) ويقومان بقص شريطها الإحتفالي. حسب الرسول خضرجي صميم أيضا، يزواج فيما بين الخضرة والثمار والمحاصيل والحرص الذي لا يقسو ولا يعادي الخضرة والإخضرار. تلك الليلة، عشية وصول ذلك الركب الملعون، قام عبد الرسول، كما إعتادها، بجولته الليلية متفقدا السوق علي كامل وجوهه، ويالها من مهمة:
( مهنته المسائية الخفارة للسوق. كانت أدواته لذلك العمل عصا قوية يستند علي طولها وسمكها النسبي وبطارية يحرص علي تجديد حجارتها، وساعة يد يعرف بها الوقت. تعود حسب الرسول علي طواف يضبطه الحدس ويحدده ذهاب الليل في الظلام. يبتدر جولته من عند عنقريبه ببرندة دكان العم عبد الحفيظ مرورا ببرندات دكاكين الأعمام حاج أحمد شيخ السوق، عبد الوهاب أحمد، سلوكاب وقهوة عم بشير، مطعم زهرة بورتبيل، ورشة ميرغني، ثم ينعطف عند مخبز عبد الحفيظ ويمر بدكاني أعمامكم حاج أحمد السيد وخضر لقمان ويعبر نحو مخبز صديقك ياسين الطاهر ليواصل مشيه المتأني ببرندات مطعم ضبع ودكان عبده محمد الشيخ مرورا ببرندة مكنة خياطة عمك أحمد عبد الله ثم مكتبة خالد برير ودكاني علي حماد والعليقي ثم يتوقف لهنيهات يشاغل فيها الفرانة بمخبز علي حماد قبيل انعطافته الأخيرة نحو برندة علي البشير وصولا لموضع نومه. يغسل ضوء بطاريته الأرض ويراجع الأقفال والأبواب، ينثني ويستقيم، يصعد ويهبط، يحي الأركان ويفتش الشقوق، لكن حسب الرسول عند عودته لعنقريبه يعيد الضوء لبطن أمه البطارية ويسلم حراسته للظلام. ولأن المدينة عرب عاشت في أمان وجودها المستقرلسنوات طوال وما شهد سوقها ما يعكر صفو نوم خفرائه ولا ما يرفع احتمالات خوف السطو والسرقة، إضافة لتعب ذلك اليوم وطوله، سقط حسب الرسول في براثن النوم!)11.
قصدنا من إيراد تفاصيل جولة حسب الرسول الليلة، لتبيان كيف يلاحظ صاحب الحكايات أدق تفاصيل ذلك المشهد الليلي والمرور التفتيشي المرهق لحسب الرسول، لكأنه لا يترك شبرا من السوق إلا عاينه وأطمأن علي سلامته وهدوء حاله، ينام في الأمان كما أهل المدينة، وأيضا، لنري كيف للتعدي يتعرض لها هذا الرجل النبيل فيحملونه، وقد أعيتهم الحيلة في مواجهة المقاومة، أوزارا وحمولات هي من حرز أوهامهم وخوفهم من الآتي الذي بات قريبا دانيا ليقتلعهم من جذور منابتهم! فماذا حدث صبيحة ذلك اليوم، يوم الزيارة؟ أطل الصباح وقد تغطت عقارات ومحلات السوق كلها بالشعارات المناهضة للزيارة وتندد بالطغيان وتحض علي المقاومة والنضال لأجل إستعادة الديمقراطية والحريات وإسقاط النظام! بهت أهل النظام وزبانيته وأشتد بهم الهلع والخوف، فتلك الرائحة، رائحة النضال، قد نالت منهم ! كان الموقف متوترا يحفه الخوف والترقب والحيرة : ( وبخ الرئيس الوالي، عنف الوالي المحافظ، مسح المحافظ بالأرض المدير التنفيذي، فلم يكن غير خفير السوق عبد الرسول فصب عليه هوان الأجهزة الفوقية والمؤسسات القاعدية وركائز وشعب المشروع الحضاري!)12. أتهم عبد الرسول بالإنتماء لحزب البعث وجهات خارجية، وتمت معاقبته بالنقل إلي أحد نقاط القبانة الهامشية علي كبري البوليس، فخسر مصدر رزقه الأساس في سوق المدينة، عوقب اقتصاديا في معاشه! من بعد، حين عرف محمد أن عبد الرسول عضوا تنفيذيا في نقابة الحكم الشعبي المحلي، جلس إليه وأعد له ( عريضة ) لمكتب العمل أعادته إلي حيث عمله بسوق المدينة، فالقانون يمنع تعرض القائد النقابي للنقل بسبب من نشاطه النقابي!

7: النحوي وأبوك :

هما في حكم الأخوين، الأب والنحوي، أمتدت وتأصلت بينهما آواصر صداقة ووداد عظيم، تذكر حكايتهما العلاقة والزمن وتلك الرائحة التي تظللهم معا، العائلة في البيت الكبير وأهل المدينة، والجميع يعرفون لها شواهد في المودة والحب. تورد الحكاية الحراك الكثيف في منزل الأم قبل مجئ النحوي، تجهيز الحوش لإستقباله وإعداد سراير الحديد الوهيطة والملايات ذوات الزهور بألوانها البديعات، طقوس الطلاء بالبوهيات الملونات، ثم تأهب التكل للعواسة وإعداد الفطير ليكون باللبن، قصيدة طعام المائدة كما يقول عنها محمد. إحتفاء يليق بالأخ غير الشقيق للعميد الأب!74.

8: الباشري وهوجة الفئران اليانكية:

( القراصة ) أحدي مفضلات المدينة عرب، تحبها وتبادلها هي حبا بحب، فقد طابت المدينة لها مقاما وسكنا وطعاما محبوبا لأهلها، فبقيت لديهم، صلة فيما بين موطنها في الشمال والوسط حيث المدينة عرب واسطة عقد الجزيرة ووجهها سمح المحيا. من فرط حبهم لها إستلفوا أسمها يطلقونه علي بعضهم: محمد عبد الحفيظ أحد أنبه معلني وعرضحالجية محكمة المدينة أسموه ( قريص )، كمال أسطورة كة القدم بالمدينة لقبوه ب ( قرص ). القراصة يعدونها جزءا حيا طاعما من أطايب المائدة لديهم، ثم أمتدوا بها، بمحبة الذوق والتذوق، إلي الجزيرة وأهلها، ( اضافت لها الجزيرة روحها وريحانها وختمها )76. وكان لابد للمائدة من لمسة يد الأم وحضورها، فتوسطها، بكل جلاله، الباشري الذي أتت به من مصر تزين به مفاخر المائدة عزوة وحبا وإناقة! تمتد الحكاية فتروي هجوم ( فئران اليانكي ) الرهيب علي محاصيل المشروع أوان سنوات الهوان في السبعينيات، وياله من هجوم وأضرار ومواقف. ثم تمضي لتصف لنا حال المشروع وناسه إبان ثلاث ديكتاتوريات مرت عليه، تدميرا مقصودا في ذاته، الجنرال عبود، نميري واتحاده الإشتراكي المسخ، والبشير وبطانته من المؤتمرجية الفاسدين حيث تولوا، بمحض التخطيط التأمري والتدنيس المنافق والفساد، تدميره بالكامل. حكاية تؤلم القلب وتجلب الحسرات، لكنها مدعاة للتأمل وإجلاء الصيرة وشحذ الوعي للشروع في الصمود والمقاومة والنضال، صفحات من تاريخنا المعاصر وفي معية شعبنا وسعيه للنضال والحرية.15.

9: القمح وذاكرات الطواحين:

حكاية القمح والبروش، القمح الذي عماد حياة وسيرة نضال وتكافل ومحبات، حيثما حل كانت الحياة والخير والوفير وطمأنينة الفؤاد تقي من خشونة وعوادي الأيام، هو، بسمته الذهبية في لمعانها الأثير، الأكثر محبوبا من بين محاصيل المشروع، وفاق، بحضوره الزاهي، المحاصيل المستولدة ، أصلا، من التربة الخصيبة للمشروع، جاءها ضيفا فحل بها وتوطن وصار زين أيامها ، في طعامها وملابسها وحياتها! تحدثك الحكاية عن معاملات نظافته وغسيله وشره ليجف برفقة الأواني الخاصة به، تلك الرعاية المفرطة في الحنو، حتي لحظات وصوله الطاحونة، الطواحين وسيرورتها من الديزل وحتي الكهرباء ، أبرول عامل الطاحونة بألونه التي تشربت عليه بياط الدقيق ودكنة الزيت فغدا كلوحة تشكيلية عظيمة الشأن علقت بالذاكرة، مثلما الطاحونة نفسها وعوالمها، طاحونة عم يعقوب وتجلياتها في القمح والذرة وباقي المحاصيل البقولية و... الناس!87. ويمكنك أن تري هنا عم يعقوب بجلابيته ناصعة البياض، قد أسمته الحكاية ( ملك الترقيم )، رشيقا، هينا وبديع المحيا، منه تطلع إشارات التشكيل أيضا! وفي طاحونة ود الحكاوي كانت وصية الأم حاضرة في قلبه:(يا محمد، عارفاك تريد وكت يغيرو الحجر، أسألم يدققو ليك وكت يختوهو تاني!)، ومع تلك الوصية التي تنشد للقمح نقاء يطيب لها المذاق وطعمه عند المائدة، تستثيره الوصية فيكتب محمد:( كأن كيانك كله يرتعش إستثارة ووعدا وتمني!)71. أما المشاهد الوصفية لبيوت المدينة وساكنيها، بالأسم والصفات، والمواضع، تجد تفاصيلها محصورة ها وتؤشر، بالوصف الظاهري والعبارات الموحيات، في هذه الحكاية، حكاية القمح والطاحونة.92.

10: ليل المدينة عرب:

( ليل المدينة عرب، يشبهها، لكنه الآن، لا يماثلها! فهل أسقطت الفضائيات أحقية الأرض في الغناء والبكاء والعشق، الذي يمس حناياها ويترك ورده؟!). تقدم حكاية الليل فيها لوحات شعرية تأخذك إلي حضنها بالذات من جسدها الحي وملامحها الوضيئة، وكثرة هي التساؤلات هنا، وبعضا من الإجابات، تري هل محمد يكتب الشعر منذ وهلته الأولي في الوعي، وأينها تلك الأشعار التي أشرت إليها الحكايات، لكأنها تستدرجها لتأتي وتطل ؟
بيت زهرة بت طاشين:
عنوان فرعي، درب جانبي تسير فيه سيرها.حاجة زهرة بت طاشين الأمدرمانية سليلة حي العرب العريق، طعميتها طاعمة، دندرمة حفيدتها جعلت الثلج في الذاكرة معلقا بها، بطعومات شتي من واقع محصول المدينة، كركدي، عرديب، فراولة، لبن مقنن ثم الماء المطلق، هكذا تشكلت طعوم يديها وتعددت نكهتها وروائحها وهي تدير شئون المناسبات بحكمتها وحزمها وحنكتها وكفاية طعامها كما ونوعا، تصفها الحكاية بأنها ( منارة المدينة )، لكأن المدية بحرا، والناس منه البحارين، أحبت الناس وبادلوها الحب نفسه، فزرعت، تقول الحكاية، في تربة المدينة عربخيرات أمدرمانية طاعمةوخيرة.ثم تدرك الحكاية المشاوير الراتبة، برهقها الجميل، بالسفنجات عند السر وحسن، والعناقريب براح الصحاب في العصاري والعشيات الملاح.19.

جني ومني:
عنوان فرعي، تذهب فيه الحكاية وجهتها التي تراها واجبة ومستحبة لتكون وجها فيها، تلك التي نطق بها محمد قبل تدرجه بالكلام كما ذكر. هي عنده، هذه الحكاية وإشاراتها وما تشي بها، ( علامة لقدر نقابيتك المستقبلية). وقائع جلسات المذاكرة تحت ضوء الفوانيس، روح المفاكهة والخيالات الخصيبة للحكي فيها تظللهم في الشتاءات فتأتي البطاطين بدفئها، لكأنها تضفي عليهم حنانا هم مستقبلوه ، تلك البيوت وأهلها في أسمار وشدو الليالي بالفرح النقي والتمني.20.

11: بيت الأحلام:

هنا، تحلق بك الطيف في الأعالي، طيوف، في اليقظة والمنام، أحلام في سني الطفولة وما بعدها، تنهض ذاكرة التفاصيل لتحكي، ثلاثة شجيرات منقة في جوار البيت زرعها الأب ذات زمان طيب مضي وتركها تضئ الذكري وتأجج الحنين غاشية القلوب. كيف صارت في الذاكرة محبة بيوت الطين وهي في تشققات ما بعد الخريف المواتي، ثم محبة الناس، كل الناس، فسكنت شغاف القلوب، حد صار محمد ود الجنيد يخصهم، وهو الصديق الحميم، حلية الأنس الجم التهذيب، عظيم النفس والخاطر، الودود المنحاز لحاجات الناس. ووجوه الأمكنة تزهر ومضاتها في متن الحكاية وحواشيها. فرق كرة القدم، الزهرة، الكوكب والنضال، وما فيهم من وجوه وملامح وعطر المعايشة، ثم سيرة سيدة بت الجنيد التي غدت صاحبة الشقيقات ليلي وآمنة، المراسيل الليلية وخوف الكلاب، حذرا وخشية و مفاكهات!21.
راكوبة المعرفة وآل ود الجاك:
في ذات وجهة الأحلام تسير الحكاية في مسري صوب وجوه الناس، ستكون حكاية حول سماتهم وملامحهم وأنسابهم، والقربي التي تجعلهم في آصرة واحدة تتجلي في عديد الشخوص وأن حكت عن بعضهم، رمزا وإشارة، تلك من سنن جودة العبارة في المعاني واللغة. هما خطوتان فقط، بحسب الحكاية، فيما بين منزل الأم ودار آل الجاك، بينهما شجرة النيم الكبيرة. عند آل الجاك تجد مجدي وضياء، رفاق أزمان وحكاياتومودات، شهود خصومات وحروبات، لكنها عذبة علي قول الحكاية، عذوبة تجملها وطرافة تجعلها في حميميات العلاقات الإنسانية، لكنها أيضا، عويصة، تسير فيها الحكاية وتخوض غمارها، فتجلو عنها ما يمكن أن يشوبها من تلك البرهات العويصة فتغدو في المودات التي في القلوب أنوارا وضوء. كنت، فيما تراي لي سأسأل عن هؤلاء الناس ومن أين، أصلا، هم؟ أغنتني الحكاية عن السؤال، فذكرت: فيهم الضباينة، العركيين، الجعليين.22. ولست أدري لم تأت الحكاية هنا بذكر للشايقية؟ هكذا هي المدينة عرب، أنساب متداخلة، ساهمت النساء والتصاهر بتنويع قدرها وأثرائه علي ما تقول به الحكاية. أما ودا الجاك هذا، الذي صارا أخا للأب ووالدا للأبناء والبنات من العائلة، فهو عصاميا علم نفسه بنفسه فإلتحق بالعمل الحكومي، كان داعما ومؤازرا لآمنة، أول بنت تعلمت في المدينة، هو من شجعها وأعانها علي مسيرها في التعليم، وهو، أيضا، حكواتي، أشتهر بسرده حكايات أبو زيد السناري، وأبو زيد الهلالي، وشيئا غير يسير عن تاريخ المدينة عرب، وكرامات الصالحين في الزمان السناري، لكأنه أطلع علي كتاب الطبقات لود ضيف الله.له الريح أبنا والتومة بنتا، صاحب هيئة ذات هيبة ووقار، يلبس الأفرنجي وتعلو العمامة رأسه. أما حبوبتهم بت أبو حوه، فتصفها الحكاية بأنها: ( كانت حكاية جميلة من الطيبة، الهمة والبساطة، حين ملأت قصيدتي القدال، مسدار أبو السرة لليانكي، وما بين الخليفة وأمونة بت حاج أحمد، أسماح العالمين أيام مجاعة الجنرال المتدين!)23. تري هل كانت هي نفسها التي في القصيدة، دالة عليها؟! تطوف بنا الحكاية، مثلما أعتاد مؤلفا ذكر التفاصيل وتفاصيلها، عن الجيرة والجيران، عن اسماك الترع من القراميط وإلي الورل الغتيت، كراكات الحفريات زمان أن كانت الحفريات والكراكات، وخدمات تحسين مسري الري في القنوات، عن الدواوين والتفاتيش التابعة للمشروع وشاغليها ، أعتبرتها الحكاية في مقام منظمات المجتمع المدني!
ولم تخلوالحكاية من اللطف والمفاكهة، فهي بهار الحكي وليمونها. طرفة العم حسين، بصفاء قلبه، مداعبا محمد بسفره إلي موسكو:( والله يا ود الشايقية ماك ساهل، مشيت لي خروشوف في بلدو!)، فأشهرلمن حولهم شيوعيته! ومحمد نفسه حين أرسلته أمه إلي التومة فأتاها قائلا:
( أمي قالت ليك أدينا لايوقة ! ، فضحكت ملء قلبها وهي تردد: طايوقة يا محمد طايوقة!). تحدثت، فيما يشبه الوشاية، عن شيوعية محمد الريفية، تلك الأيام!24. ثم، ثم عن نشيد الروضة، لمن كنت صغيرة وبلعب في التراب، توجيه طبيب الجلدية بمدني له أن يمتنع عن لبس أحذية البلاستيك واللعب بالتراب، زيارات الجيران الذين غدو من الأهل وفي القلب من العائلة، مفاكهة الأب يحدثهم وهو يضحك ( هو محمد دا أصلو حوتي، ما استحم من عامنول).
والجارة بت بابكر تجعل أبنها يغسل الملابس وتدي المرض وهي ما عيانة!126. والكثير الكثير من مثل هذه المواقف والقفشات!

12: أم الحسن بت عثمان:

( طويلة وجميلة، مطارقها أرق وأخف ) وعامرا قلبها بالطيبة والحنية . تقول عنها الحكاية الكثير من المديح لجمال صفاتها وصفاء قلبها، ثم تمضي عنها لتكون الحكاية في ذكر ( نكبة الكلاب )، مذبحة قام بها البوليس أبادت فيها أكثر من ستين كلبا وتركت جثث الكلاب في شوارع الحي لتأتي ترلة وتراكتور الصحة فتقوم بنقلها لدفنها أو حرقها خارج المدينة!
طمي الود:
أنتهت حملة إبادة الكلاب مع آذان الفجر، تجعوا وإعتلوا الكومر وذهبوا ، عمال الصحة جمعوا جثث الكلاب، والأطفال جمع فوارغ الخراطيش للعب بها، شقاوة الطفولة ومرحها. (ثم دارت الحياة دورتها، سعت أولا الجريوات المرحة ثم أستوت طلابا لئيمة، لكن علي كبر )! مشهد الأم وصاحبة روحها أم الحسن بت عثمان يقمن بتنظيف التقانت في مجراها أمام بيوتهن. الأم تعتلي بنبرها وتاديها: آيا فاطني ... ، وتشب إليها هي أيضا ، فتكون الأحاديث طلية ورحيمة، طينية هي أم الحسن، من سلالة طينة المدينة عرب بخصوبتها العالية، هكذا رأيتها أم الحسن، وخوف الأطالة، وقد فعلت، تجونها بكل وجوهها في هذه الحكاية.25. حسن ود أدريس هو زوج أم الحسن، لم تغفله الحكاية أيضا، ولم تغفل راكوبتها، مركز حياتها وأهل البيت والغاشين والماشين، طعامها، رؤياها، وقائع حياتها، أنواع طعامها، شبهتها الحكاية بأم جوركي في روايته الشهيرة ( الأم )، وكم حزنت الأم لرحيلها فلم تبرأ منه حتي يوم الناس هذا: ( تحب تمشي بي غنيماتها للسرحة، عشان وكت يمشن، تغشي المقابر تزور قبر أم الحسن صاحبتي أسلم عليها وأقرأ الفاتحي وأترحم عليها! ثم، بطرف ثوبها مسحت دمعات عضم حزنها!)26.

13: الرادي:

الحكاية تحكي هنا، أم الرادي هو الحكواتي؟ محمد يأخذ، بيديه الماهرتين، وبذاكرته الحافظة، ناصية الحكي فيحكي، عن الرادي ومقدماته الموسيقية والتصويرية الرائعة وقتذاك، صوت الراحل محمد خيري أحمد، برامجه وموضعه متوسطا تربيزة الأبوإليه تأتي الأن في الصباحات والعشيات ، يستمعون ويتسقطون الأخبار وإعلانات الوفيات! تمضي الحكاية تتفرع إلي مسارات أخري، لكنها ذوات صلة بثيمة الحكي الجوهرية، المدينة وأهلها. تدلف، إذن، إلي شجو الرتوت! حيث (الباشري في ضوء الفانوس حين هتف لرؤيته القمر). وبعد أن أغلقوا الرادي بعد نشرة الأخبار وتلاوة الوفيات، جلسوا في بهاء تلك اللحظات يتبادلون الأنس والمواددات، حتي جاءهم الباشري بطلته البهية الموحية، وهم يطعمون طعامهم ويتسامرون:
( فجأة تعالت الأصوات، سعت بين دارجة الكنيس وفصيح خلاويها القرآنية...
- الرتوت لمن؟!
- لمن الرتوت؟!
يتبادلونها وهما في الصيحات والضحكات...
تبادلونها وأدوا أدوار مسرحها ...
ثم دار الباشري دورته العظيمة، إستلمته أياد وسلمته، وأعاده أصغرهم نظيفا للصينية. غسل وتمر ونام بدولابه، وحلمت به الأقمار ونادته النجوم).27.

14: وقائع خبر وفاة:

(حدث ذلك في شتاء رمضاني العام 1997م، موسم القمح، شهر يناير الميلادي، وإنتفاضة غضب الطلاب الذي ميز حقبة التسعينيات، كما شهد أحزانا عظيمة: رحيل مصطفي سيد أحمد، رحيل العم النحوي، ورحيل عمكم أبو شوك والد صديق عمرك مصطفي والرحيل الفاجع اصديقك السر مكاوي!)، موسم الأحزان وقد أتي! لكنها، الحكاية في قدرتها العجيبة في الإمساك باللحظات في تبدلاتها أيا ما كانت، فرحا أو حزنا، فشرعت تصور عمر في مفاكهاته ومرحه ونوادره ، ثم تتسلل إلي أشاعة الموت، تحكي عن الحزن والهلع والحيرة التي سرعان ما تبددها الحقيقة بأنه في رفقة الحياة لا يزال ! مثلما، الصبايا يبتردن في النهر ويطلعن خارجات منه مبللات وفاتنات، كذا تفعلها الحكاية فتخرج علينا إلي ( بوح المكان ) حلية أخري عن جماليات المكان، عن المدينة التي جاءتها فاطمة بت حوه فأستقبلتها، وجدت لسحرها وقعا في قلبها،( ولها سحر، يدخلك، عكس نظرية عاطف خيري وحنة العرسان، بمهل يجذبك، يعتصر حنينك،ينقيه كتنقيتك لعيش الذرة أو عدس المباصرة، ثم أنك، دفعة واحدة، تنحاز لنضم القلب!)28. و ... ما علمت، بعد، ما هي نظرية عاطف خيري تلك يا محمد ؟ الحكاية تنحو لتحكي، كلما واتتها،ذكريات قلبها التي هي حنانا وتحنانا ورؤيات في السمح والزيت، تدلف خلسة لترينا كيف أن الأم تخاف المطربرغم إحتفائها بالماء أيماء إحتفاء، وكم تدعوا الله يصرفه عن البيوت ويسعد به الهداب والوديان والأنهاروالحواشات والزراعة، مثلما تمنيات محمد علي أبيه أن يبدل الميري الحكومي ودابة الحكومة بحواشة وبقرات، يتمني وفي خاطره أن ( طين الجزيرة أية الماء وعشيقها!)29. ولابد من ذكرا يأتي الأم في كل حكاية وفي تداعيات مسيرها.30.

15: سبيل الغضب:

سافرت الأم وتركت لمحمد وصيتها إليه، سقيا وملأء الأزيار، شرع فيها، لكن، أحيانا كان يعز عليه الوفاء بالوصية حين يتفاقم إنقطاع الماء فتعززه الكهرباء بغيابها حد أن تتيبس الأزيار!
( غفلت، ويا لسوء حظك عن رعاية سبيلها ومملء أزيارها، فعوقبت، وأنها لحكاية!)، تغوص الحكاية في العواطف والمآلات وأضواء الحياة، فيا للوصية، وتلك الأم، قد ضلت وصيتها سبيلها والآمال!،( فعند سبيلها تقطعت الأزمنة، صلة حققها الأثر الطيب، وأكدتها رؤي المنامات اليقين، ومع كل ذلك صارت وصلا لأحياء يتعارفون عند بؤرة سقياهاويتطايبون!). من يغشون في سيرهم السبيل يطلبون السقيا، ومما قاله أحد اللصوص لمحمد:( أن مواظبتها علي السقيا أخجلته فلم يسعي أبدا لسرقة منزلها)، تلك مآلات أثر الأم وصلاحها في الناس. جعل محمد موضع نومه علي نحو خطوات من الباب المطل علي السبيل وشجرة النيم والمدرسة الثانوية. يستمع للراديو، صوت العرب وأم كلثوم، تحته علي الأرض الوصلة الطويلة للراديو وحجارة البطارية جاهزة للطوارئ. مفاكهة شقيقته آية تصيح فيه أن يملأ الأزيار وإلا ستصرخ في الملأ، شيوعي .. شيوعي، فيأتوا ليأخذوه إلي هناك يدقونه من تاني!
فصل جميل، رؤيات يانعات بالمحبات ومسرات الرفقة الطيبة، ناس وحيوات ومصائر وحب، هي الحياة، ولا محالة ستمتلئ الأزيار بالماء، فيصدح الكون بالحياة، تلك التي كان عمر صوت الماء فيها وإندلاقها علي الأحياء!

16: الرواكيب القصائد:

تغيرات، تغيرات طالت كل شئ، أصابت الزمان نفسه والمكان، والمدينة عرب نفسها قد تغيرت، حتي الرواكيب تغيرت، ذلك مما جعل الراوي يصرخ في هذي الحكاية: ( إستبدلتم فلكاب أشجار البان بمواسير الحديد، وركبكم الطفيليين التونسية فوصلتم بماسورتهم المتاهة، ترملت الشعب وتيتم القنا، أختفي عطر النال، أنه زمان الزنك والسيخ المسلح والأسمنت!)31.
هو يراها وملمس طينها كما الحريرفي أصابعه وحسه وعواطفه ووعيه. ثم هو وصناعة الراكوبة يتبادلان الحب، لربما مؤازرة لوالده الذي يحرص أن يأتي لها أهل الصنعة من حاذقيها. تفتنه الراكوبة، راكوبة أمه أكثرهن تعلقا بقلبه ويحبها،حد أن تمني شعرية درويش في وصف قهوة أمه واداء مارسيل خليفة، إذن، لفعل الأعاجيب، كما قال محمد! ويشرع يحلق بأحلامه عاليا عاليا، ولكن:( ... والمواسم تجر المواسم، والحكايات يلدن الحكايات،ثم الفواصل شواهد، لكن الجزيرة ذبلت بالتدريج حين أدار الجنون رأس البلاد الوسيعة، وحين، وحين قصرت المشاريع الوطنية علي حيث الأخيلة وإدراك الحكمة وإنتظمت بفراغ دوائرها الشيطانية تبتلع الأسيات وتلوك الإهانات وتتجشأ سوء هضم السقوط في فخ التغابي!)، يا للمهازل وسوء المآلات، و ... ( لكن الجزيرة ماضية في حب خيرها بثقب عمي السياسيين والجنرلات الكوني، و... الجيوش قصاص!) تري، هل من كتابة أدبية لها مثل هذا الوفاء للمشروع، وللحياة؟!
و ... ( والبرلمانات فضائح
وضيق الأفق لعنات
والفرص العظيمة وهدرات
ولا طريق سوي دروب الهاوية !!)32.

الهاوية، لماذا، إلا الهاوية يا محمد، أملتها تكون إلا دروب النضالات الهادرة مثلا؟!

17: حكاية فاطمة بت حوة:
أكاد أقول أن هذا الفصل كأن ما فيه قد سبق وقيل، فالحكاية تعود تتحدث عن المطر، أكتوبر1988، قبيل ( هجة ) محمد للبعيد البعيد، تتناول النساء، الأغلبية الراجحة وأنيقة، موجبات العصاري التي يدلكن لها الطرقات جمالا ومحاننة راتبة منذ أزل تقسيم العمل وفق مقتضيات العصر الأبوي!ف ( البهجة لا تقلق، لكن عدواها تجذبك!) هي العودة التي تضي الحكاية هنا ومشاوير الأم لتجلب للغنيمات القش، بهجة العودة، إذن، هي التي أذهبت عنه وعثاء السفر، لكنه يقول:( لا وعثاء ولا سفر، إنما تعثر البرنسة ومجابداتها وتراب دروب الجزيرة الفادح النعومة!)، لكنها، في خصيصة نفسه بهجة وفرح بالحياة، وأما النساء فهن هناك، في ذلك الملكوت المشيد لأجل الفرح بالحياةوعزوتها. هنا، في هذا الفصل تفصيل ومشاهد جميلة لبدء مشوار الأم سعيا لتأتي بالقش للغنيمات!33.

18: حكاية الشوارع والبيوت والزراعة:

مشوار الأم يمتد إلي هذه الحكاية ويستمر، أغنيات بديعة مزهرة لذلك المشوار، بلغة الشايقية وهي في عمق حنانها ذاك، صورة بارعة شفيفة في القول والوصف، لن أجتزي منها شيئا هناك، تستوجب القراءة في موضعها وتأملها!

19: حكاية فاطمة بت حوه والدبيب:

لدغة الدبيب الشين يا فاطنة، مؤلمة هي وجارحة، لكنها في حكايتها بلسانك الفصيح في لغة أهلك السمحين، زهور ودموع وحنان، وروعات ! يا محمد، آه، ثم آه من دي الحالة، فاطمة ست الأعاجيب المرحات في الزمان الشين، صاحبة القلوب المرهفة بفائض الحنان، رفيقة الآمال ساكنات القلوب النقية، مرفرفات وعاليات فيا للرفيف يا صاحبي، نطقت بما في قلوبنا فاطمة فأحسنت الأحسان كله والإبداع في الحكي!

20: حكاية فاطمة بت حوه والنهر والتمساح:

فصل لوصف التمساح وحضوره من كتب الأساطير وأحاجي الأقدمين، ينتمي لأزمنة لم يتسيدها الإنسان ولا خبر كنهها، لكن رسومات كهوف ما قبل التاريخحملت رمزه، شكله ووصفه، تناولت أيضا وصف طائره، طبيب أسنانه الملازمه، فصل الآمال، آمال الأم التي تضئ الأنفس والقلوب رحمة ورؤيابيضاء!

21: جزيرة مساوي:

( مساوي صخرة، تبدو كأنها سرة الأم التي أنجبت النيل، هي علاقة لأثر إرتباط النهر بالسماء، نقطة، فضت عندها المشيمة وقطعت قناة فيوض ماء فراديس الجنان، قديمة قدم النيل!

22: جزيرة مساوي ونداء الليلية:

مشهد الحكاية هنا يتناول تجليات الحنين إلي مساوي وصويجباتها المجاورات: الحليلي، المقل، السكينجاب، الكونيسيبمهاجرها، جزيرة الوراريق ، أركويت، نقزو وأوسلي وقوز قرافي وقوز هندي، تسوح الحكايات في الأمكنة برؤي زمانها وقتذاك ، حين تذكرها في الوعي والقلب وكتابتها!

23: حكاية فاطمة بت حوه وأب كريق والطار:

فصل في المواجدات ورؤي الأخيلة والتأملات، في كل ما يحيط وتراه العين، عين القلب أعني، لكأن محمد، بما يسنده من قدرته علي الحكي بالسلاسة التي يعقدها في اللغة، أراد يرينا قدرته الفذة في كتابة العواطف بما يشبهنا أو يكونه!

ليست خاتمة:
تجدر الإشارة هنا إلي أمرين، أن كتاب الحكايات كله، كما علمت، قد كتبه محمد علي هاتفه الجوال، لا علي الورق ولا علي اللابتوب، وتلك، في تقديري، قدرة فذة علي المثابرة والإصرار و ... بدوافع ( جمرة ) الإبداع في دواخله لا شك! ثم، أن كتابتي هذه قد جاءت علي عجل مخل بسبب من إصرار محمد لإنجاز التدشين للكتاب بأعجل ما يكون لإلتزامه السفر إلي مقر عمله باستراليا بعد يوم غد الخميس، وأضطررت أنا أن أعتمد قراءتي للكتاب علي نسخة الكترونية بعث بها لي قبل أيام معدودات فلم أحظي به ورقيا حتي الآن، تري هل يشفع لي كل هذا عن تأخير أرسالها وعن ملاحظات أخري عديدة علي ( الحكايات ) لم أتمكن من تضمينها في الكتابة، لربما يأتي أوانها، لذا توجب إيراد هذه الإشارات، فمعذرة!
ثم أنني ،أعتذر مني إلي وإليكم، من إطالة الكتابة، فقد أردتها تكون إضاءة لهذا العمل الجميل، وأعلم أن جلكم لم يقرأ الحكايات، فقد صدرت نسخ الكتاب بالأمس فقط لذا حرصت علي إيراد العديد من الإستشهادات من متن العمل، للوقائع التي اعتبرتها تستوجب إيرادها! و ... حقا، يا محمد، قد أتعبتني، لكنك أمتعتني بهذه الكتابة (الطاعمة )كما مقولات فاطمة ، بوركت لهذا الجمال، أضافة مستحقة في مشهدنا الثقافي، شكرا جميلا إليك، إلي كناري مدخلني إليك، وإلي مركز عبد الكريم ميرغني وجهنا المرموق في عوالم الثقافة والفن والفكر، شكرا لكم !
----------------------------------------------------------------------

جابر حسين.
ود مدني مساء 31 يناير2017م.
* كتبت لتقرأ في أمسية تدشين الكتاب أمسية الثلاثاء 31 يناير 2017م بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، ولظروف طارئة حالت دوني مشاركتي شخصيا قد اكتفيت بإرسالها علي إيميل المركز، ولسوء الطالع لم تصلهم في الوقت المناسب فقد كانت الفعالية قد بدأت بالفعل وقت إرسالها! أعتذر مني إليهم، للصديق محمد سيف الدولة وإلي مركز عبد الكريم ميرغني، ثم إلي الصديق الجميل محجوب الكناري الذي بذل كل وسعه أن تصل الورقة ويتلوها في الأمسية!
الهوامش:
1- ( أمي، وحكايات المدينة عرب )، ص166.
2- الكتاب ص 8.
3- نفسه ص 9.
4- نفسه ص 13.
5- نفسه ص 17.
6- ص 20.
7- القدال، من أناشيد الزنادقة.
8- الكتاب ص 40/41/42.
9- نفسه ص 51.
10- نفسه ص 56.
11- نفسه ص 63.
12- نفسه ص 64.
13- نفسه ص 74.
14- نفسه ص 76.
15- نفسه ص 82.
16- نفسه ص 87.
17- نفسه ص 91.
18- نفسه ص 92.
19- نفسه ص 95/96.
20- نفسه ص 100.
21- نفسه ص 101.
22- نفسه ص 114.
23- نفسه ص 115.
24- نفسه ص 121.
25- نفسه ص 142.
26- نفسه ص 146.
27- نفسه ص 160.
28- نفسه ص 164.
29- نفسه ص 169.
30- نفسه ص 169.
31- نفسه ص 181.
32- نفسه ص 85.
33- نفسه ص 192/193.
------------------------



#جابر_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وجهة أخري في الشعر، ليس عن معاوية وحده !
- ثلاث لوحات لمحمد محي الدين ...
- في الكتابة يشرق الحب أيضا !
- وداعا شاهندة مقلد !
- الشاعر محجوب شريف ، مات مقتولا !
- كلمات في مقام الشعر !
- كتابة إليه ، إلي الحزب وإلي شعبنا لمناسبة رحيله !
- دعوة للجنون !
- د . محمد محمود يكتب بعد موت الترابي ...
- الهوستس ، بين العجيلي ويوسف إدريس !
- كمال الجزولي بخير ...
- كمال الجزولي ، لا تتركنا بالله عليك !
- وداعا عثمان إبراهيم ، العامل الشيوعي ، قائد الحزب في شرق الس ...
- وداعا خليل كلفت ، الشيوعي النوبي الجميل !
- الشيوعيون أيضا ، يحبون عثمان بشري !
- أعراس محمد محي الدين !
- في التشكيل ، - أب سفة - حين يستنهض الألوان !
- رسالة بدر إلي جابر ...
- وداعا يعقوب زيادين !
- في مدني ، وأسيني الأعرج يتجلي فيمتدح الأمير !


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جابر حسين - أمي ، وحكايات المدينة عرب ، تفاصيل اليومي في لحظة الإبداع !