أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يعقوب زامل الربيعي - الغريبان والعنكبوت قصة قصيرة















المزيد.....

الغريبان والعنكبوت قصة قصيرة


يعقوب زامل الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 5418 - 2017 / 1 / 31 - 20:12
المحور: الادب والفن
    


اصطبغت لهجته بالخشونة، وبقدر من القساوة، وهو يتحدث معها. عندها رمقته بكبرياء نفس مريضة. لم تجبه على أي من اسئلته العديدة، لكنها لم تكف عن العبث بأشياء كانت قريبة من يديها، أو هكذا انشغلت حينا بمتابعة خوط تنورتها بأصابع مرتعشة، وكما لم تهمل النظر غير الدقيق لباطن كفها المعروقة.
كانت لها نفس طيبة، ومستقيمة، إلا أنها لم تكن منتبهة لعواطفها التي أخذت تتلوث على نحو كريه. قسمات وجهها كانت مضطربة، وكابية، أكثر من كونها حزينة، سوى أنها كانت تحس بأنها مهدمة من الداخل، وهي تواجه خطابه بتلقائية كريهة.
ــ كيف تركتِ نفسكِ تعبث بك بهذه الوقاحة. حين استسلمتِ لها عندما أخذتي تزورينه يوميا؟. هل تتصوريني مغفلا؟.
ألقت عليه نظرة قاسية. وكانت تعابير وجهها قد تبدلت فجأة. شفتاها اللتان كانتا قبل قليل رقيقتين طريتين قد ارتعشتا متيبستين، لتعبثا بصفاء خديها والعينين. لم تتحرج كثيرا حين أبدت بعض الحركات البائسة، وغير الدقيقة في محاولة منها للانفلات من نسيج حقده الأهوج الذي بدا يلتف لزجا على جسدها بكل شراسة. على إن حركتها لم تكن سوى رقصة فراشة فوق نار.
قررت أخيرا أن تأتي بمحاولة جدية ومعلومة حتى لو كانت بائسة وغير مأمونة الجانب.
رشقته بتلك النظرة المذعورة، والسريعة. وبنفس الوقت خفضت عينيها الحمراوين، لتستدير في مكانها. ومن غير أن تنطق بكلمة واحدة. وبتوهج معلول ظل يراقب قدميها تخطوان وتترددان. تستديران لتخطو من جديد. وكأنها من خلالهما تعاود التفكير ببطء ثقيل. وأيضا رأى عندما خرجت من الغرفة المظلمة الرطبة الشبيهة بكهف كئيب.
لم تعد متشجعة لتصغي إلى كلماته الاخيرة حتى وهي تشعر بثقل ووطئ نظراته عليها. غير أنها وهي توليه ظهرها كسيرة، قررت أن لا ترفع رأسها أمامه أبدا.
لم تكن راغبة بالرد على أي من اسئلته. روحها كانت متيقظة ومشغولة بامتصاص شكل وصورة المرأة التي كان يلتقيها هو من خلف ظهرها. وجهها النحيل كان لشدة ما تعرض من اذلال، بدا اسمرا وأن كان داخل مستنقع أخضر. وقت كان هو، حتى حين وافته في موعد الامس، وافتضحت فجأة خلوته الغرامية، ما يزال على انحلال طرفه ونفسه القلقة، يرين على وجهه الجهد والهم. لكنه وبمجرد واجهته بوجهها اليوم بالذات وارتعدت فرائصه وكأنه أصيب بصعقة كهربائية على حين غفلة، وقد رفع اليها وجها، لاحظ ولأول مرة، أنها كانت ترتدي ثيابا بسيطة، غير أنها كانت نظيفة وأنيقة. ومن غير أن تكره نفسها على تغيير ملامح وجهها، كانت تشعر بدفء يتسرب داخل جسدها الذي كان قبل قليل باردا متهالكاً، ليشرق في عينيها مرح غريب.
احتضنت يدها يده بقوة، وعلى رصيف الطريق، راحا يخطوان بزهو وخيلاء لافتين الانتباه والانظار إليهما.
تأمل كل منهما وجه الآخر، كأنما يكتشف فيه جمالا غريبا. رغم ما كانت لتلك الملامح من معان الرأفة والحزن، شبيه بالذي يطغي على وجوه الطاعنين بالسن. جمالا مريضا، ومطمئنا في آن واحد. وكان ايضا، وعلى نحو يافع، يبرّز أهدابها الكثة المعقوفة بحنو على عينين سوداوين تختلجان على بسمة حانية داخل محجريهما الكابيين. أما هو، فكان لضخامة البنية أقرب. بوجه فتي سمح، وبقسمات منسجمة بوضوح مع بنيته بتوافق دون نشاز، أو غرابة. أما نظراته اللامعة فقد كانت فيها لمحة جريئة تضفي عليه طابعا من التصدي والشهوانية.
يسيران متلاصقين في وضح النهار بمرح نادر لا يمكن وصفه إلا بمتعة الاحاسيس التي لا ترتقى إليها كلمات الاستشعار، حتى يبات من الصعب أن يرى المرء في هذا اليوم أرق وأندر منهما.
وعلى مسامعها راح يدندن بكلمات أغنية ريفية قديمة يعشقها، غير أنه قد طور إيقاعها ليسد بذلك أية ثغرة في مساحة نفسه المتوهجة. كان يشعر بأن في نفسه بقية آثار معركة، حتى بعد أن خلفتها جيوش بربرية كورا من دخان وأجساد مشوية، مع اصداء متقطعة لأنين أجساد جريحة تنتظر دورها في الموت المحتدم، ظلت نيرانها مستعرة. وثمة احساس عميق أيضا في جانب من نفسه، يحاول جاهدا تحرير وجيب قلبه من تلك المطاحن الرهيبة، وليخفق بالحياة من أجل اكمال مهام تنتظر مجيء من يكمل المهام المستحيلة.
وكمن خشيت أن تخدش صفوة المناسبة اللذيذة همست:
ــ " ستموت قريباً. لذا عليك أن تريح رأسك المتعبة قليلا. إن على الانسان أن يعرف كيف يتمتع بالحياة.
شعرت بأن ارادتها غير واضحة، وغير مستقرة، إرادة باردة بيضاء قياساً لحجم ولون ارادته الحارة، والحازمة، والمثابرة. وكان ذهنها أكثر من ارادتها، جادا، ومتحولا، وإن لوّن بشيء من قلة التبصر. فكرت " أن علاقتهما تبدو أكثر انسجاما. ذلك شيء مهم. إذ بدون ذلك، سيبدو غير معقول، وغير مبرر، كما يراه الآخرون.
في مكان منعزل بعض الشيء، بعيدا عن رقابة العيون المتلصصة، جلسا متجاورين. ومثل توأمين سياميين، كانا متلاصقين.
كان هو يلتهم وجهها بنظرات شهوانية والهة، مما يبعث داخل عينيها السوداوين بريقا مرتبكا. فمها المغزلي، كان طريا، ورأسها المحفوف بالشعر الاسود الناعم كان هواء المكان يبعثره على كتفيها ووجهها حينا، بخيوط مرنة، وحينا، بخصل كثيفة. على أن نظراتها كانت تنطوي على مخزون من كم الذكاء والألم معا. مما يشير بأن صاحبته تعاني من مرض مزمن وبطيء، مهدم للجسم. مخلوق نزق وأن جهدت كثيرا لتسيطر على نفسها. على أنها فجأة، شعرت بدفء يسري داباً في فجوات جسمها، مصدره جنبه اللصيق لجنبها. لذا وبمودة زائدة حشرت نفسها فيه بتلذذ صبياني غامر.
امتدت اصابعه رقيقة على فخذها اللصيق لفخذه. رأته يُسيّر اصابعه بإمعان متعقبا مسار خطوط تنورتها المتعامدة مع ساقيها . وكانت بها رغبة حارة أن تختلس النظر، كأن لفخذيها اللدنين عينان واسعتان تتابعان تلك اللمسة الخبيرة. في تلك اللحظات انقطعت عما حولها، حتى أن تتنفس بوضوح، إلا من تدفق دماء قلبها السريعة المتلاطمة بباطن صدرها ورأسها. وللتو تحولت حواسها مثل خلية نحل تتجمع، وبطنين واحد داخل عينيها، ولكأن روحها انتقلت بكلها الى عينيها المجمرتين.
ــ " هل كان يرى اشياءك الدقيقة هذه "؟!
ولما كانت عما قاله توا، مشغولة تماما بمراقبة حركة اصابعه الاثيرية التي لملمسها إيقاع أصابع جيولوجي خبير تزيل عن وجه مومياء نفيسة، ما خلفه الماضي السحيق من مخلفات ورواسب. لم تشعر بوجودها تماما، عندما همست بنبرة متقطعة الأنفاس:
ــ " لزمن طويل.. نعم قديما، كان يرى هذه الخطوط على ملابسي وعلى جسدي. الآن غدى غير معني بكل هذا. ليس فقط بالنسبة إليه وحده، الأمر لم يعد يهمني أنا أيضا. أبعدته عن تفكري. أصبحنا، أنا وأياه مثل قطعة نقد معدنية بوجهين".
أضافت بعد أن توقفت للحظة. حاولت أن تلتقط انفاسها لكأنها كانت تُرشْح أفكارها بهدوء، ولتجهز نفسها بعد أن تتنفس من جديد.
ــ " لقد أنتهى كل شيء بيننا. الوباء كان ماحقا وهو يصيبنا. تصور، تحولنا نحن الاثنين إلى مثل ورقتي تين يابستين. كان لنا ماضٍ، لكنه غدا بعيداً جدا. تخْيّل كيف تسرب هذا مثل الماء بين كومة من الصخور".
ازاحت خصلة شعر عن وجهها ظلت تباغتها تلج بين شفتيها وهي تتحدث. حين ابعدت الخصلة تكشفت ما بين شفتيها عما يشبه ابتسامة عليلة لم تلبث أن تناءت ليحل محلها تقوس غريب قاسٍ. بعد لحظة من الصمت المطبق اضافت:
ــ " بمعنى آخر، أكثر دقة. كان عالمنا القديم واسعاً ومضيئاً، بل قل ــ مضطرباً ومزدحماً ــ ". أنا أحاول كما ترى أن أجد الكلمات المناسبة للتعبير. أقول كان عالماً دون فواصل. لم نكن غرباء عن بعضنا كما غدونا. كلانا له نفس الاسباب، أن نكون مشدودين لعوالم لها نفس المكونات الارادية، وبعبارة أوسع، كانت حياتنا تسير في الطريق الصائبة لخلود التوافقات مع العالم الكامل. لم يكن ينقص ذلك سوى ادراكنا لنهاية الشوط قبل أن تصيبنا الخيبة المميتة التي أنهت كل شيء ".
وإليه من جديد نظرة متفحصة. كانت تنتظر أن يقول شيئا يعينها على الامساك بهذه اللحظة المتمردة، المنزلقة، من بين قبضتها الرقيقة لئلا تتبدد. وكانت له نظرة من يتلذذ باكتشاف اسرارها بدقة. لم يكن مشاركاً لكنه كان الرجل المتصيد للأفكار المضطربة.
كان في وجهها لحظة من الفقدان والوجوم. وأثرٌ من كبرياء متخشب. وجه طويل مغلف بجلد عاجي رقيق، أشبه ببلور مضبب، وبأنف وفم صارمين مع قليل من النمش الذي لا يكاد يُلمح إلا بعد التدقيق فيه عن كثب. وجه له لون معطر شبيه بعطر السهوب الذي يتوهج لحظة الاستقرار اليوغوي. لون لهرمون الكروتزول الحياتي الذي لا يرى إلا على وجه إنسان يغط بسبات عميق.
ومن جديد قطعت عليه خلوة التجسس والمراقبة. قالت:
ــ " هل رأيت أشياءها الدقيقة أيضا؟. أعني .. هل لزوجتك تنورة مخططة مثل هذه؟ ".
ودون ان يعير بالا لما يعنيه، قال باقتضاب حذر حتى لا يقع فريسة الفقدان مثلها:
ــ اليوم، لاحظت أنها كانت ترتدي واحدة.
وكمن تجبره على الاسترسال بالاعتراف، أضافت تسأله بصوت معدني، خالٍ من الود:
ــ رصاصية اللون طبعا؟.
تأملت وجهه. بدا لها أكثر ايغالا بالهرم. وكان هو يتأملها بشرود واضح، وفي دعة بائنة. كانت له سحنة من طُعن بالهرم فجأة. لكنه وكمن يخاف سقوط طير الصمت فوقهما، أضاف:
ــ خطوط تنورتها، كانت واضحة أمامي اليوم. كنا بعيدين نعوم على سطح شرودنا، لكني رأيت تلك الخطوط جيدا. لم نكن على استعداد أن يقترب أحدنا نحو الآخر. العالم المضطرب كان تحتنا مباشرة، لكنه مثل غريق شبع موتاً لكنه لم يطف بعد. حاولت أن أقول لها أفكاري بصوت مسموع، لكني فشلت. تصوري كانت تنورتها رصاصية اللون مخططة بالأبيض البلوري. حاولت أن أقول لها ذلك، غير أنها لم تترك لي فرصتي كي تنضج بشكل جيد. تركتني. كانت مهيأة تماماً لتذهب إليه. وفي سركِ، شعرت بسرور غامر حينما سنحت لي فرصة اللقاء بكِ.
كانت تمتلك شجاعة نادرة . وأعترف بأنها كانت متمدنة، فهي لم تخف صلتها به، أو تنفي، حتى ولو على سبيل المجاملة. تصوري ، كلانا كان يعرف ما يفعله. وهذا ما كان يفسر تجزؤ شعورينا بالذنب، وبارتكاب الاثم إزاء بعضنا. كلانا كان يشعر بالرضا المؤقت وبالهدنة العقيمة حين يندس كل في فراشه المستقل.
ــ " الحلم يسبب لي الحمى ( قالت ). كنت أشم رائحته القديمة. ورغم أنها مزيج من عطر التبغ وبخر البصل، أو التبغ المخلوط بالخمر، إلا أنها كانت رائحة نفاذة حيية ومحببة. تخيل. أحيانا وبالمصادفة، حين نكون معا في فراش واحد أشعر بحنين لتلك الرائحة. آه ، تلك رائحة كانت قديمة.
ــ كانت جميلة مثلُكِ تماما، قبل أن تفقد سحر روحها وتألق نفسها.
ــ ومثلُكَ تماما كان، قبل أن يتحول إلى قارورة عطر فارغة. ما عدت أطيقه ذلك.... اشعر معه بنفور غريب.
.......
أمام حائطين متقابلتين من الغرفة المعتمة التي تشبه كهفاً قديماً، وقفا متعاكسين. كلٌ في جهة من الغرقة. وكلٌ منهم أمام مرآته الكبيرة الخاصة، والتي أقتناها لنفسه لتناسب حجمه. كان جلياً أنهما كان يهمان بالضحك، كأن عليهما أن يهينا نفسيهما، أو ليذلانها. كانا سوية، يشعران أن ما يحسان به الآن، ليس حزناً، إنما شجناً فقط. صامتين أمام المرآتين واجمين، لا ينطقان بشيء. كأنهما صبيين معاقبين من قبل أبويهما.. مهدميّن، لأن قواهما قد فارقتهما دفعة واحدة. ودون تحديد كان ينظران لأشياء غير محددة ومجهولة، غائبين عن وعيهما.
اليوم وبعد أن عادا من التجوال في طرقات المدينة وساحاتها متسكعين، كان الليل قد أنتصف. يشعران أنهما تحررا من التحفظ المطلق. وانهما دون مسؤولية أتجاه كل منهما للآخر.
قالت محدقة بطرف في مرآتها وكأنها تحدث شخصا ما غير موجود:
ــ أخشى أن أسرف في احاسيسي. وعليك أن لا تسرف معي بالتبسط. احتفظ بالمروءة لنفسك أو لتلك المرأة الأخرى.
لم يجبها بشيء . أكتفى بأن هز رأسه للوراء رافعاً كتفيه للأعلى. أدركت أنه يستمتع بتلذذ بالوقاحة والسذاجة. وأنه كان يمحضها قدرا من الاحتقار والهزء صرفاً. وكما توقعت رأته يتمطى خلف ظهرها مثل حيوان استيقظ توا من نوم عميق. بدءاً، كانت حركته صغيرة وبسيطة، ثم ما لبث أن استمر متنوعا في ايقاعها كراقص يشعر بدنو الشيخوخة. وفي مرآتها، كانت ترى ظهره ووجهه في آن واحد. شعرت بأن وجهه يشبه وجه يهوذا الخائن الذي رأت صورته يوما ما. تلك الصورة الباهتة الملامح لم تعد تتذكر أين ومتى رأتها. ثمة أفكار مرعبة ولجت رأسها فجأة. فكرت " هو بالتأكيد يريد أن يرى ذعري واندهاشي.. تلك هي ذاتها غطرسة الشيطان تتملكه الآن. فهو يعرف بأنني كنت مع نقيضه الذي أحبه ".
قالت دون أن تترك وجهها الذي في المرآة:
ــ أتراني اليوم مبعثا مجنوناً لخيالات هشة؟. أقصد حين قضينا أكثر من عشر ساعات على أقدامنا؟ ".
ودون أن يترك مرآته التي جسدت معالم وجهها وجسدها بوضوح، ومن الأمام والوراء بنفس الوقت، قال:
ــ ها أنا أحس بالعافية القديمة.
قطعت افكاره لترد:
ــ مثل شعوري تماماً. فقط الشيء المحْيّر أنني أرى عواطفي لينة، تتسابق بنفس الوتيرة القديمة.
أسبلت جفونها الطويلة المعقوفة للوراء على خطوط تنورتها، وكأنها تراها أول مرة، وقت راحت في سبات فكرها من جديد. لم تكن اطراق رأسها تشيء بانها تعاني من أفكار قاسية، ولا عن هموم صاخبة. كانت متواضعة الهيأة كسولة ببرود وانحياز، مثل لون رمادي. امرأة محاصرة ووحيدة في كهف غرفتها الرطب، ومهجورة بسبب أنها انتظرت طويلا كي تقضي حياتها بالآمال المستحيلة.
السماء في الخارج كانت حالكة في سواد من العتمة، وقت كانت حركة المرور الصغيرة ما تزال تتوزع أحيانا في جهات مجهولة. منذ الصباح وقطع الغيوم تحوم متحركة بهلامية. تتجمع وكأنها في حركة استعراضية مثل قطيع عسكري يستكمل استعداده، ليحتشد لشن هجوم يائس. منذ ثلاث سنوات لم تسقط قطرة واحدة على رصيف الشارع الذي تشرف عليه نافذة غرفتها البائسة. أما اليوم فأنهما لم يشكا في أن السماء ستفتح حلوقها بماءٍ منهمرٍ وستتفجر عيونها بغضب طفواني هائل ربما سيغرق الارض.
ولما كان زجاج شباك الغرفة الوحيد كابياً، ومتسخاً في أكثر من موضع، ولأن ستارته المصنوعة من نسيج قطني كالح ومتسخ، لذا لم يعودا يريان ما كان يجري خارج كهف الغرفة الباردة من انفعال السماء وقلق الارض.
تعلقت على وجهها حمرة منفرة وهي تخلع تنورتها الرصاصية المخططة. ولأول مرة ومنذ ثلاث سنين، أخذ يتابع حركة خلعها لملابسها بعين مستغرقة على نحو ساهم. ولأول مرة كان يرى وجهها مشوهاً بالذعر القاسي. في حين رأى كيف أنها كانت تبذل جهداً هائلاً لخنق انفعالها.
كان لونها يزداد شحوباً، وقت ظلت تعابير وجهها أمامه واضحة. وكانت هي ترى معالم حيرته مثل ضياء القمر المحجوب بسحب من دخان المداخن. كانا يعومان فوق لجة امازيج متناقضة ومتنافرة وسلبية على العموم.
لم تعد، حين أفاقت، كم من الوقت مر عليها وهي بهذا البؤس والتهتك الذي تاهت في طغيانه. وكيف أنها للآن كانت تحدق إلى توازي خطوط تنورتها التي ما تزال بين يديها مذ خلعتها قبل وقت. عندما أحست على صوته يوقظها:
ــ الامتلاء. الامتلاء وحده كان يشعرنا بالمتعة والعافية. الامتلاء على ما أظن. بل هو بالتأكيد.
لأول مرة أحست بالرغبة أن تنفجر ببكاء طويل. عندها اندهشت لمثالية الفكرة. لاحظت أن أمارات الخبث الشيطاني على وجهه قد اختفت تماما، لتأخذ مدى أمارات من الشقاء والإساءات الموحشة.
مدت يديها أمام صدرها. لامست سطح المرآة بإهمال شديد . كانت شبكة النسيج العنكبوتية هائلة ولزجة، لكنها كانت متماسكة حول جسدها. وبالطريقة نفسها، مد يديه، فوجدهما ثقيلتين متلبدة بلزوجة النسيج. وحولهما كان شبح عملاق أسود يدور حولهما بمكوكية مخيفة. وبصعوبة بالغة استطاعت أن تهمس:
ــ لا يمكننا بعد هذا أن نستمر بهذه الطريقة غير المهذبة، على تحليل نفسينا. علينا أن نكف عن تمثيل دور الأخوة الأعداء.
بتكاسل شديد.. وبتوافق الموتى على تحولهما النهائي، استسلما داخل شرنقتهما الخبيثة. حينها سمعته بالكاد يقول:
ــ هل رأيتِ ... وحده الخواء ينهي ما بدأنا فيه!.
............................
نُشرت في صحيفة " العرب " العالمية ، الصادرة في لندن 1/6/2001 العدد 6153. ثم أعادت الصحيفة نشرها بمناسبة اليوبيل الفضي على الصدور العدد 6122 في 19/4/2001.



#يعقوب_زامل_الربيعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كن أول من يحطم الارض كأسه!..
- هكذا .. حدث هذا ببطء!.
- لمحاولة أبعد !..
- سوق الجمعة ....
- إلتماس...
- الفرص، غير مؤاتية دائماً..
- لا شيء أكثر من ذاك !..
- ما يُحلقُ صدفة...
- هناك، حيث ولدتُ تباعاً !...
- لمن أنّاه أنا !..
- مريء النطفة....
- بعض حالات التورية ..
- لطارش القداح والعصافير !...
- ما يأتي ببطء ..
- المخفوق بالطين قصة قصيرة
- زيارة حلم....
- سَرَيان بلا تؤدة..
- الاردية الزيتونية قصة قصيرة
- إلى كل هذا...
- يا قوى الخير أتحدي..


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يعقوب زامل الربيعي - الغريبان والعنكبوت قصة قصيرة