أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح30















المزيد.....



تناقضات العهد الجديد المنقح30


مهرائيل هرمينا

الحوار المتمدن-العدد: 5418 - 2017 / 1 / 31 - 09:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مصادر المنظمات اليهودية‏، ‏ أو منابع الفكري اليهودي: ‏
للفكر اليهودي منبعان رئيسان‏: ‏ هما ‏"‏التوراة والتلمود‏"‏، والعديد من روافد خرجت منهما أو تأثرت بهما؛ مثل‏: "بروتوكولات حكماء - حمقاء - صهيون‏"، ‏ وكتاب ‏"‏الدولة اليهودية‏"‏ لهيرتزل، وكتاب ‏"‏الأمير‏"‏ لميكافيللي، وغيرها، فمعظم كتَّاب اليهود والمتهوِّدين القدامى منهم والمحدثين - فيما عدا مَن كتب منهم في العلوم البحتة - قد تأثروا بالتوراة والتلمود تأثرًا عظيمًا؛ لأنهم يُرَبَّون عليهما صغارًا، وقلما تجد كاتبًا يهوديًّا أو متهودًا لا يضع التوراة والتلمود نصب عينيه عندما يكتب، فهما المنبع والمصب لكل يهودي أو متهود‏. ‏
ونأخذ إشارات سريعة حول أهم هذه المصادر، وفيما يرتبط بموضوع بحثنا، لبيان المصدر العقدي الذي ترتب عليه الجانب العملي فيما قام به اليهود - ويقومون به - من أدوار مع غيرهم، لا تنحصر في المسيحية والمسيحيين وحدهم، بل مع العالَمين‏. ‏
المبحث الأول‏: ‏ ‏(‏التوراة‏)‏ أو العهد القديم:
التوراة لفظة مأخوذة من تورة - بالعبرانية - معناها‏: ‏ الهدى والإرشاد، والتوراة الحقيقية هي الصحف التي أنزلت على موسى، وقد ضاعت في ثنايا التوراة المحرَّفة التي بين يدي اليهود، وأما ما جاء قبل صحف موسى وما جاء بعدها من رسالات الأنبياء والرسل، فإنها ليست من التوراة في شيء، ‏ فهل التوراة التي بين أيدي اليهود هي صحف موسى‏؟ ‏ وهل هي صوت السماء إلى الأرض‏؟ ‏
إن مَن يطلع على التوراة التي بين أيدي اليهود يجدها جماعًا بكل ما زعم اليهود أنه أنزل على جميع الأنبياء والرسل منذ آدم وحتى ظهور المسيح"‏.
ويفجع دارس التوراة للوهلة الأولى بما يرى فيها من سخافات وأخيلة ومخازٍ وخرافات‏، ‏يفجع وهو يراها تتكلَّم عن الله، وكأنها تتكلم عن شخص عادي، يخطئ ويصيب، ويتعب ويجهل ويحزن، ويأكل ويشرب، وينام ويمشي‏. ‏‏. ‏‏. إلخ.
لقد أنزل اليهود مكانة الله - تعالى -في عليائه، ووضعوها في مرتبة البشر، كي يحطموا الحواجز بينهم وبينه، ويحملوه من آثامهم وشرورهم ما يشاؤون‏. ‏
و‏"‏يهوه‏"‏ إله قبلي متوحش، متعطش لشرب الدماء، إنه إله أناني متحيز يعمل لمصلحتهم وحدهم، والإضرار بغيرهم من الشعوب، وهم شعبه المختار، وحتى بقية البشر لم يخلقهم‏ "‏يهوه‏" ‏على صورتهم التي هم عليها إلا لخدمة شعبه المختار‏، إنه إله جشِع طمَّاع، يحب الذهب والمال، ويأمر شعبه المختار بجمعه واقتنائه بأية وسيلة‏. ‏
لقد ندم - رب التوراة - حين سمح بتشتيت شعبه، وتدمير هيكله، فبكى وصاح ولطم خديه، لقد وعد ‏(‏يهوه‏)‏ مَن زعموا أنهم أجدادهم ‏"‏إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب‏"‏ بملك فلسطين، ملكًا لهم ولأبنائهم وأحفادهم من بعدهم، ليس أرض فلسطين وحدَها، بل وما بين النهر الكبير‏ (‏الفرات‏)‏ ونهر مصر ‏(‏النيل‏)‏، وليس هذا فحسب بل وكل أرض تدوسها بطون أقدامهم‏‏‏! ‏
هذا بعض ما جاء في توراة اليهود عن إلههم ‏(‏يهوه‏)، ‏ إنه عبد ذليل لهم، ليس له عمل إلا خدمتهم وتنفيذ أغراضهم، إنه يسكت عن جرائمهم، بل يحثهم عليها، إنه يخشاهم ولا يخشونه، ولا يتراجع لهم؛ وَهْمٌ ثَبَتَ في جرائمهم وسخائمهم ومخازيهم‏‏! ‏
ولهذا حَرَصت أسفار العهد القديم منذ البداية على تميز الكهنة على سائر الناس؛ حتى يحملوا ‏"‏التلمود‏"، ‏ما ناءت ‏"‏التوراة‏"‏ بحمله، فأعفَوْهم من القتال ودفع الضرائب، ومنحوهم من الامتيازات والحقوق ما لم يمنحه الله لنبي من أنبيائه؛ وذلك كي يكون عندهم الوقت والجهد للخلط والتزييف والتضليل‏. ‏
إن قارئ التوراة يفجع أيضًا وهو يراها تتكلم عن الأنبياء، وكأنها تتكلم عن مجرمين سفاحين، وزُنَاة قَوَّادين، يشربون الخمر، ويعبدون الأصنام، ويحبون الدسائس والمؤامرات‏، ‏ ولو شئنا أن نعدَّ المخازي والجرائم التي ألصقها الأحبار في توراتهم بالأنبياء والرسل وبغيرهم من الناس، لضاق بنا المجال‏.
فمدوِّنو التوراة كان لهم ولعٌ خاص بالحضِّ على سفك الدماء، وهتك الأعراض، واغتصاب الأموال، والحديث عن الزنا، خاصة بالمحارم، وكذا اللواط، والمساحقة، ومواقعة البهائم، حتى خلطوا الملاذ بالطقوس الدينية، وغدت ضروب البغاء لونًا من التكريم، وغدا السُّكْر نوعًا من العبادة‏‏! ‏
وإن مَن يقرأ التوراة يفجع كذلك وهو يراها تتطاول على الشعوب وتطالب بالانتقام منهم، بينما تزهو بشعب الله المختار‏‏! يفجع وهو يراها تزيف التاريخ، فتقلب الحقائق أو تزورها، وتتغاضى عن أبسط قواعد العقل والمنطق، فتسطر التوراة الآتي‏: ‏
‏"حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعِها للصلح، فإن أجابتْك فكل الشعب الموجود فيها يكون للتسخير، وإن لم تسالمك وعملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، أما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فتغنمها لنفسك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك إلهك الرب نصيبًا فلا تستبقِ منهم أحدًا، بل تحرمها تحريمًا‏: ‏الحثيين، والعموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والحوريين، واليبوسيين‏. ‏‏. ‏‏. ‏ كما أمرك الرب إلهك‏؛‏ [‏العهد القديم، سفر التثنية، الإصحاح ‏(‏20‏)‏‏].
وكذلك: ‏"‏وإذا أدخلك الرب إلهك الأرض التي أنت سائر إليها لترثها، واستأصل أممًا كثيرة من أمام وجهك وضربتهم، فأبسلهم إبسالاً، لا تقطع معهم عهدًا، ولا تأخذك بهم رأفة، ولا تصاهرهم، بل كذا تصنعون بهم‏: ‏ تنقضون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم، وتقطعون غاباتهم، وتحرقون بالنار تماثيلهم‏"‏‏؛ [‏سفر التثنية، الإصحاح، ‏(‏7‏(‏1-6‏)‏ بتصرف‏]. ‏
وتقول‏: "‏وأهلكوا جميع ما في المدينة ‏(‏أريحا‏)‏ من رجل وامرأة وطفل وشيخ، حتى البقر والحمير بحد السيف، وأحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار إلا الذهب والفضة وآنية النحاس والحديد، فاجعلوها في خزانة الرب"؛ ‏[سفر يشوع‏: ‏ الإصحاح 6‏(‏21، 22‏)‏‏]. ‏
"‏وقال يشوع لقواد رجال الحرب الذين ساروا إلى مصر‏: ‏ تقدَّموا، وضعوا أقدامكم على رقاب هؤلاء الملوك‏"؛ ‏‏[‏سفر يشوع‏: ‏ الإصحاح ‏(‏6‏)‏‏]‏.
‏"‏وكلَّم الرب موسى قائلاً‏: ‏وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكن الذين تستبقون منهم أشواكًا في أعينكم، ومناخس في جنوبكم‏"؛ ‏‏[‏سفر العدد، الإصحاح ‏(‏33‏)‏‏]. ‏
• فأين هذا من النصائح الغالية التي أوصى بها ‏"‏أبو بكر الصديق" - رضي الله عنه -‏ الجيوش التي سيَّرها لتحرير العراق وبلاد الشام من الفرس والروم، بألا يقتلوا النساء والشيوخ والأطفال، وألا يبقروا البطون ويقطعوا الأشجار، ويقتلوا الحيوان‏. ‏‏. ‏ وأن يعاملوا شعوب البلاد المفتوحة بالحسنى‏؟ ‏‏! ‏
إن ما زعموه في التوراة يذكرنا بمذابح اليهود في "دير ياسين"، و"ناصر الدين"، و"الجورة"، و"الطنطورة"، و"كفر قاسم"، و"صبرا" و"شاتيلا"‏. ‏‏. ‏‏. ‏وأخيرًا - وليس آخرًا - "جينين"‏‏‏! ‏
هذا، ‏ولقد بُدئ بتدوين التوراة بصورة متصلة جادة في الأسر البابلي في القرن السادس قبل الميلاد وما بعده، حين كان اليهود يعيشون عيشة أسر ونفي وذل، فأراد أحبارهم وحاخاماتهم بذلك إذكاء روح المقاومة والحمية فيهم، وبعث الأمل بالخلاص والعودة في نفوسهم، فخلعوا عليهم من الصفات ما ليس فيهم، ووعدوهم بما ليس لهم، وصبُّوا جامَّ غضبهم على أعدائهم، واستمطروا اللعنات على مضطهديهم ومبغضيهم‏. ‏‏. ‏‏. ‏ وهكذا كتبت التوراة بأقلام حاقدة، وحبر مسموم، وصدور تغلي بالكراهية والحقد، فبعدوا بذلك كثيرًا عن جادة الصواب، وحلت رقاعات الأحبار محل رسالات الأنبياء، وهكذا كان‏. ‏
عندما بدأ أحبار اليهود يدونون التوراة كانوا أمام ثلاثة حوافز نفسية‏: ‏
الحافز الأول‏: ‏ أنهم كانوا في الأسر جماعة مضطهدة معزولة، بحاجة إلى تعبئة روحية عالية تمسح عن جباههم ذل العبودية، وترفعهم إلى مصاف الشعوب الحضارية‏. ‏
الحافز الثاني‏: ‏ إرجاع انتمائهم إلى شخصية محترمة في المنطقة، هي شخصية ‏"إبراهيم الخليل‏"‏، يغطون بها سخائمهم وسخافاتهم، مع أن ‏"إبراهيم الخليل‏"‏ سليل إحدى القبائل الآرامية العربية، ولا علاقة له بأخلاط هؤلاء ‏"الخبيرو‏"؛‏ فهو جد بني إسرائيل، وليس جد كل هذه الأخلاط من ‏"‏الخبيرو‏"‏ وغيرهم ممن تمسحوا بنبله وأصالته‏. ‏
أما الحافز الثالث‏: ‏ فهو إعطاء أنفسهم صفة الشجاعة والرجولة بانتمائهم إلى موسى، مع أن قوم موسى كانوا أخلاطًا من بقايا بني إسرائيل، الذين قدِم بهم ‏"‏يعقوب‏"‏ عند أخيهم ‏"يوسف‏"‏، ومن الهكسوس والمصريين الذين فروا مع ‏"‏موسى‏"‏ أيضًا؛ هربًا من ظلم فرعون واضطهاده، ناجين بكرامتهم وأرواحهم‏. ‏‏. ‏‏. ‏ كل ذلك ليحقق كتبة التوراة لليهود قوة الإله ومكانة النبوة، ورفعة الأصل والجاه، والعودة إلى أرض الميعاد‏. ‏‏. ‏‏. ‏ وهكذا اتخذوا من ‏"‏يهوه‏"‏ إلهًا، ومن ‏"‏إبراهيم‏"‏ أبًا، ومن ‏"موسى‏"‏ قائدًا وزعيمًا‏‏! ‏
لقد اتخذت التوراة من بني إسرائيل الموضوع الرئيس لها، وكأن الكون فعلاً ما خلق إلا لهم، وكأن التاريخ لا يعرف أحدًا غيرهم‏‏! ‏
لقد حرَّمت التوراة على اليهودي أن يستعبد يهوديَّا، أو أن يستغله‏. ‏‏. ‏
فاليهودي مثلاً إذا زنى بغير يهودية فلا يُعَد زانيًا؛ لأنها من الأغيار، والأغيار في عُرفهم نوع من الحيوان الأعجم‏! ‏
واليهودي إذا سرق شيئًا من يهودي يعد سارقًا، أما إذا سرق من غير يهودي، فلا يعد كذلك؛ لأنه من الأغيار، ومالُ الأغيار في عُرفهم هو مال يهودي، نَهَبه الأغيار منهم، ويجب استرداده وإرجاعه لأصحابه بأية وسيلة؛ لأن الأرض ومَن عليها وما عليها إنما خلقت لهم لتخدمهم، وتسبِّح بحمدهم‏‏‏! ‏ وهكذا. ‏‏. ‏فإسحاق حين بارك يعقوب، باركه بقوله‏: ‏‏"يستعبد لك شعوب‏"؛ ‏‏[‏سفر التثنية، الإصحاح ‏(‏17‏)‏‏]. ‏
وداود يقول في ترنيمة له من مزاميره‏: ‏ ‏"‏على أدوم أطرح نعلي‏"؛‏ أي: كل نفيس وغالٍ إنما هو تحت قدميه‏‏! ‏
ومن ثم فإن اليهود يستحلون ذبح الأغيار في عيدي ‏"‏كيبور، والبوريم‏"‏، واستخدام دمائهم في صنع الخبز المقدس، مع أن أكل الدم حرام على اليهود‏؟ ‏‏! ‏
ويعدون كل عقود زواج الأغيار لاغية، وأن كل أولادهم أولاد سفاح وزنا؛ لأن هذه العقود أبرمت بين حيوان وحيوان‏؟ ‏
إنهم يعتبرون أن الله هو إلههم فقط، إله إسرائيل، وشعب إسرائيل، وأن الأغيار لا إله لهم‏؟ ‏‏! ‏ وتقول التوراة‏: ‏‏"للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا‏"؛ ‏‏[‏سفر التثنية‏: ‏ الإصحاح‏(‏23‏)‏].
"‏وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث رجل، تستعبدونهم أبد الدهر، وأما إخوتكم بنو إسرائيل، فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف‏"؛ ‏‏[‏سفر اللاويين، الإصحاح ‏(‏25‏)‏‏]. ‏
وهكذا استطاعت تلك التوراة المحرفة أن توجِد هذا الشعب اليهودي بتلك النفسيات المعقدة، والمنظمات الحاقدة، والأفكار المعاندة، والسلوكيات المتطرفة المتعصبة، مع كل شعوب الأرض، وخاصة أصحاب الرسالات التي جاءت بعدهم من أتباع عيسى - عليه السلام - وأتباع ‏"‏محمد‏"‏ - صلى الله عليه وسلم -‏. ‏
وإذا كان هذا بعض ما جاء في التوراة - فيما يخص التعامل مع الناس - فما بالك بغيرها‏؟ ‏‏‏‏! ‏ ‏[‏جذور الفكر اليهودي، ص 57 - 81، بتصرف‏]‏‏. ‏
لقد حفلت التوراة - ولا شك أنها المحرَّفة - بنماذج من التعصب، بصورة فاقتْ كل حد للوحشية والشراسة، وتشعرك أنك أمام‏ "‏تركيبة‏"‏ بشرية مزعجة غاية الإزعاج، وفائقة القدرة على الالتواء والتحريف، والافتراء الفاحش على كل شيء، حتى الله - عز وجل - وملائكته، ورسله، والناس أجمعين‏! ‏‏
فقد زعمت التوراة أن إسرائيل سأله إلهه‏: ‏ لِمَ خلقت خلقًا سوى شعبك المختار‏؟ ‏ فقال له‏: ‏ ‏"‏لتركبوا ظهورهم، وتمتصوا دماءهم، وتحرقوا أخضرهم، وتلوِّثوا طاهرهم، وتهدِموا عامرهم‏"؛ ‏‏[‏سفر المكابيين الثاني، 15‏(‏24‏)‏‏].
والوحي الإلهي - بداهة - يبرأ كل البراءة من هذه الأساطير، ولكنها الطبيعة اليهودية المتوحشة تتبدى وتتجدد في هذه النصوص، فتقول‏: ‏‏"‏وأخرج الشعب الذي فيها ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد، وفؤوس حديد، وأمرهم في أتون الآجُر‏"؛ ‏‏[‏وهكذا نرى أن إحراق الشعوب في الأفران هو اختراع يهودي قديم، وهم يشنعون به على النازية زورًا‏! ‏‏]. ‏
وهكذا صنع بجميع مدن بني عمون، ثم رجع داود وجميع الشعب إلى أورشليم‏"؛ ‏‏[‏سفر صموئيل الثاني، 12 ‏(‏31‏)‏‏]. ‏
وجل شأن ربنا عن هذا البهتان المستطير، وتنَزَّهت كتبه ورسله عن هذا الإفك المبين‏‏! ‏
إنه أمرٌ بعيد عن كل معالِم الرحمة والإنسانية، وتعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا‏. ‏
وهكذا، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن التوراة التي بين يدي اليهود تختلف اختلافًا بينًا عن التوراة المنزلة التي ذكرها القرآن، وأن التوراة الموجودة الآن ضمن الكتاب المقدس‏‏‏ ليست المذكورة في القرآن بحال، وإن كانت تحتوي على نُبَذ منها، مع الخطأ والتحريف والتبديل أيضًا، ‏ وفي الأرض أكثر من توراة، بينها فروق واختلافات، وقد علم أيضًا أن التوراة التي أنزلت على موسى قد فُقِدت منذ حرق ‏"بختنصر‏"‏ الهيكل، بعد حرق أورشليم، وسبي اليهود إلى بابل‏. ‏
ويؤيد الدكتور ‏"‏هربري لوي‏"‏ اليهودي - صاحب كتاب: ‏"‏أديان العالم الكبرى‏"‏ - أن هناك عقائد دخيلة انسابت إلى اليهودية عن فارس وبابل والإغريق، لا سند لها في اليهودية بالذات، وأبرز تجاوزاتها أنها لا تتكلم عن الآخرة والبعث والحساب، حيث لا يشير اليهود إلى حياة أخرى بعد الموت، ولم يَرِدْ فيها شيء عن الخلود، ويعتقدون أن الجنة على الأرض، وأن كل ثواب وعقاب هو في الدنيا، وأن الجنة الأرضية خاصة بهم دون شعوب الأرض‏. ‏
ويلاحظ الباحثون أن رائحة الوثنية الخالصة واضحة في العقيدة الجديدة: ‏(‏الهيكل - التابوت - الطقوس‏)‏، ومن ذلك كله يتبين أن التوراة الحالية زائفة، وأنها كتبت وَفْق أهواء اليهود ومطامعهم، ورسمت طريقتهم في الحياة إلى آخر الدهر؛ وأبرز أهدافهم من حيث امتيازهم الخاص الذي يتميَّزون به عن غيرهم من سائر الأمم، وتبريرهم جرائمهم على أنها أخلاق فاضلة‏ شخصية يسوع في الأناجيل الأربعة نموذجاً للثوري الذي جاء ليعلن نهاية عالم قديم، وتأسيس عالم جديد يتحقق في المثالي باعتباره واقعاً واليوتوبيا باعتبارها حالة يمكن أن نحياها. قال يسوع: "روح الرب نازل عليّ، لأنه مسحني وأرسلني عودة البصر إليهلأبشِّر الفقراء، وأبلغ المأسورين إطلاق سبيلهم، والعميان (والعميان هنا هم الراسخون في ظلمات الجهل، لا عميان البصر.) م، وأفرِّج عن المظلومين." (لوقا: 8:4). وقال: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والمثقلين بالأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة نفوسكم." (متَّى: 28-29).

لقد كانت رسالة يسوع موجهة بالدرجة الأولى إلى الشرائح الاجتماعية الدنيا المتعبة والمعذبة، وكان راعياً للحرية والعدل والمساواة، ولم يلقَ الأغنياء منه أي تعاطف، بل لقد طالبهم بالتخلِّي عن ممتلكاتهم وتوزيعها على المحتاجين، فقد قال لغني أراد الانضمام إلى رفاق يسوع: "إذا أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع ما تملكه وتصدق به على الفقراء... لأَن يدخل جمل في سَم الإبرة أيسر من أن يدخل الغني ملكوت السماوات. " (متى: 21:19-4- جميع مقتبسات العهد القديم في هذه المقالة مأخوذة عن الترجمة الكاثوليكية الجديدة.). وقال: "الويل لكم أيها الأغنياء فقد نلتم عزاءكم، الويل لكم أيها الشِباع فسوف تجوعون، الويل لكم أيها الضاحكون الآن فسوف تحزنون وتبكون." (لوقا: 24:6-25).

انطلاقاً من هذا الالتزام الاجتماعي فقد فضل يسوع الالتفات إلى الأفراد المنبوذين والمهمشين والخاطئين. ولما رأى منه بعض الكتبة من الفريسيين ذلك قالوا لتلاميذه: لماذا يؤاكل الخاطئين والعشارين؟ فسمع يسوع كلامهم فقال لهم: "ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى. ماجئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين." (مرقس: 16:2-17). وقال لهم في مناسبة أخرى: "إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله. جاءكم يوحنا المعمدان سالكاً طريق البر فلم تؤمنوا به، وآمن به العشارون والزواني، وأنتم رأيتم ذلك فلم تندموا وتؤمنوا به ولو بعد حين." (متى 31:21-32).

من هنا جاءت سخرية يسوع من السلطة، وحضه على إلغاء المراتبية الاجتماعية. فعندما وقع جدال بين تلاميذه في من يُعد أكبرهم قال: "إن ملوك الأمم يسودونها، وأصحاب السلطة فيها يريدون أن يُدعَوا محسنين. أما أنتم فليس الأمر فيكم كذلك، بل ليكن الأكبر فيكم كالأصغر، والمترئس كالخادم." (لوقا: 24:22-26). وقد ضرب لهم مثالاً في المساواة وتواضع الكبير عندما كان يتناول معهم العشاء الأخير. فقد "قام عن العشاء فخلع رداءه وأخذ مئزرة فائتزر بها، ثم صب ماء في مطهرة وشرع يغسل أقدام تلاميذه... فلما غسل أقدامهم ولبس رداءه وعاد إلى المائدة قال لهم: أتفهمون ما صنعت إليكم؟ أنتم تدعونني معلماً وسيداً، وأصبتم فيما تقولون فهكذا أنا. وإذا كنت أنا المعلم والسيد قد غسلتُ أقدامكم، فيجب عليكم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض. فقد جعلتُ لكم من نفسي قدوة لتصنعوا ما صنعت إليكم." (لوحنا 5:13-15).

ولقد أدان يسوع سعي البشر المحموم إلى مراكمة الثروات والإقبال على الاستهلاك: "فلا تهتموا فتقولوا ماذا نأكل وماذا نشرب، فهذا كله يطلبه الوثنيون. وأبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون هذا كله. فاطلبوا الملكوت وبرَّه قبل كل شيء، تُزادوا على هذا كله." (متى 31:6-33). وقد طبق يسوع هذا على نفسه قبل أن يدعو الآخرين إليه، فترك أسرته وبيته في سبيل دعوته، وراح يتجول في القرى والبلدات غير آبه بما يأكل أو يشرب أو يلبس: "وبينما هم سائرون قال له رجل في الطريق: أتبعك حيث تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطير السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له ما يضع رأسه عليه." (لوقا: 57:9-58).

مثل هذا الانقلاب الشامل على القيم التقليدية لن يحصل بيسر وسهولة، ولا بد من الصراع بكل عنف وشراسة، لأن حركة يسوع هي حركة راديكالية من شأنها تمزيق المجتمع القديم تمهيداً لإحلال المجتمع الجديد. قال يسوع: "لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض. ما جئت لأحمل سلاماً بل سيفاً." (متى 34:10-35). والعالم القديم يجب أن يحترق ليخرج من رماده العالم الجديد: "جئت لألقي على الأرض ناراً، وكم أرجو أن تكون قد اشتعلت." (لوقا: 49:12).

ولقد تمثل المجتمع القديم وقيمه في الوثنية التقليدية التي فقدت روحها خلال الفترة الهيلينستية، وفي اليهودية وشريعتها البالية، التي تكمن خصوصيتها في أنها شريعة طقوس ترمي بالدرجة الأولى إلى تأسيس الطرائق التي يُحب الإله يهوه أن يُبجَّل بها، ونوع الأضاحي المقربة إليه، والحفاظ على السبت، والاحتفالات الدينية الدورية، وتحديد ما يجوز وما لا يجوز في كل مناحي الحياة حتى زادت القواعد التي تقيد حياة اليهودي وسلوكه اليومي عن الستمئة قاعدة.

لقد كان الشغل الشاغل لليهود خلال القرون الخمسة السابقة للميلاد، وهي فترة تشكُّل العقيدة التوراتية، هو الحفاظ على تفردهم الديني بأي ثمن. وهذا ما أدى إلى إنتاج ظاهرتين مهمتين في الحياة الدينية اليهودية، أولاها التنظيم الكهنوتي، والثانية الحرص على الالتزام بالشريعة التي اعتُبرت حاجزاً يفصل اليهود عن بقية الأمم، وحارساً على إيمان إسرائيل. ولكن يسوع هدر ركني السلطة اليهودية هذين، أي الشريعة وحراسها من الكهنة والكَتَبة، والناموسيين (= علماء الشريعة)، والفريسيين الذين يمثلون النخبة المتعلمة من المجتمع اليهودي.
يسوع والشريعة:

على أن من يقرأ الإنجيل للمرة الأولى، ويُعجب بهذا الانقلاب الشامل الذي أراده يسوع، يدهش من أقوال له ترسخ القديم وتكرسه. فقد ورد في إنجيل مَتَّى قوله: "لا تظنوا أني جئت لأبطل كلام الشريعة والأنبياء. ماجئت لأبطل بل لأكمِّل. الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة حتى يتم كل شيء. فمن خالف وصية من أصغر تلك الوصايا وعلّم الناس أن يفعلوا مثله عُدَّ صغيراً جداً في ملكوت السماوات، وأما الذي يعمل بها ويُعلّمها فذاك يُعد كبيراً في ملكوت السماوات." (متى 17:5-19).

فهل كان يسوع نبياً يهودياً أخذ على عاتقه ترسيخ شريعة العهد القديم، أم كان صاحب رسالة جديدة تبطل الشريعة اليهودية الضيقة وتؤسس لعهد جديد بين الله والبشرية، يتجاوز العهد القديم بين يهوه وشعبه الخاص؟ في الحقيقة إن كل أقوال يسوع وأعماله التي تُفصلها الأناجيل الأربعة، تدل على تجاوزه لشريعة موسى، شريعة الحرف، وتأسيسه لشريعة الروح. قال يسوع في إنجيل يوحنا: "لم يعطكم موسى خبز السماء، بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق، لأن خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم حياة... أنا خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المنَّ في البرية وماتوا. هوذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت. أنا الخبز الذي نزل من السماء." (يوحنا: 32:6-51). وبذلك يستبدل يسوع شريعة موسى العتيقة التي وهبت الموت، بشخصه الحي الذي يهب الحياة الأبدية.

وهو لا يتجاوز موسى فقط وإنما يتجاوز كل شخصيات العهد القديم الدينية وصولاً إلى الأب الأول إبراهيم. فقد قال لليهود: "ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي، ورآه ففرح. قال له اليهود: أرأيت إبراهيم وما بلغتَ الخمسين بعدُ؟ فقال يسوع: الحق أقول لكم، كنت قبل أن يكون إبراهيم." (يوحنا: 56:8-58). وبهذا القول يتجاوز يسوع التاريخ اليهودي بأكمله، والذي يبتدئ بإبراهيم، ويجعل من نفسه مؤسساً لحركة روحية جديدة. وفي مقابل القول الذي نسبه إليه متى: "إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة من الناموس." نجده يقول: "الأرض والسماء تزولان وكلامي لايزول." (متى: 36:24).

في مطلع حياة يسوع التبشيرية، أعلن يسوع موقفه الواضح من شريعة العهد القديم. فعندما مرَّ وتلاميذه بين الزروع في يوم السبت، أخذ التلاميذ يقطفون السنابل ويأكلون منها. فقال له الفريسيون: انظر لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟ فقال لهم: إن السبت جُعل لأجل الإنسان، وما جُعل الإنسان لأجل السبت." (مرقس 23:2-28). وبذلك أخلَّ يسوع ببند من أهم بنود الشريعة، كان منتهكه يستحق الموت، على ما ورد في سفر الخروج 14:31. وقد دخل يسوع أيضاً في يوم سبتٍ أحد مجامعهم وكان فيه رجل يده مشلولة. وكان الفريسيون والكتبة يراقبونه ليروا هل يشفيه في السبت. فعلم يسوع أفكارهم فقال لهم: "أسألكم أعَمَلُ الصالحات يحل في يوم السبت أم عمل السيئات؟ أتخليص نفس أم إهلاكها؟ ثم أجال الطرف فيهم جميعاً وقال له: امدد يدك، فمدها، فعادت صحيحة.". وفي حادثة شفاء أخرى، أخذ اليهود يشغبون على يسوع لأنه عمل في يوم السبت، وسمح للمريض الذي شفاه أن يعمل أيضاً عندما قال له: قم احمل سريرك وامش. فقال يسوع لليهود جملة تحمل كل معاني السخرية من مفهومهم عن السبت: "إن أبي ما يزال يعمل، وأنا أيضاً أعمل." (يوحنا 16:5-17).

وقد ثار يسوع على مفاهيم الطهارة الشرعية التي تركز على الطهارة الظاهرة وتنسى الطهارة الحقيقية طهارة الباطن. فقد اجتمع لديه بعض الفريسيين والكتبة الآتين من أورشليم، فرأوا بعض تلاميذه يأكلون دون أن يغسلوا أيديهم، فسألوه: "لماذا لا يجري تلاميذك على سُنَّة الشيوخ، بل يتناولون الطعام بأيدٍ نجسة؟ فقال لهم: ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان. ألا تدركون أن ما يدخل الفم ينزل إلى الجوف ثم يخرج في الخلاء، وأما الذي يخرج من الفم فإنه ينبعث من القلب، وهو الذي ينجس الإنسان. فمن القلب تنبعث مقاصد السوء والقتل والزنى والفحش والسرقة وشهادة الزور والنميمة. تلك هي التي تنجس الإنسان. أما الأكل بأيدٍ غير مغسولة فلا ينجس الإنسان." (متى 1:15-20). وفي تعليق مرقس على الحادثة نفسها، يقول بأن يسوع في رده على الفريسيين قد جعل الأطعمة كلها طاهرة. (مرقس 19:7).

وقد عبَّر يسوع عن تخفيفه من أثقال الشريعة اليهودية التي لا يطيقها إنسان بقوله: "تعالوا إليَّ جميعاً أيها المرهقون والمثقلون فإني أريحكم. احملوا نيري وتتلمذوا لي، أنا الوديع المتواضع القلب، تجدوا الراحة في نفوسكم، لأن نيري لطيف وحملي خفيف." (متى 28:11-30). وهذه الحرية من الشريعة هي التي أكثر بولس الرسول من الحديث عنها في رسائله. فقد قال على سبيل المثال في الرسالة إلى أهالي غلاطية: "فاثبتوا إذاً في الحرية التي حررنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضاً بنير العبودية. ها أنا بولس أقول لكم إنه إذا اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئاً... لأنه في المسيح لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة." (1:5-6).

وقد شبه يسوع شريعة القلب والمحبة بالخمرة الجديدة التي لا تقبل الاحتواء في زِقاق قديمة (جمع زق وهو القربة الجلدية) هي قوالب شريعة الحرف. فقد سُئل يسوع: "لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين ولا يصوم تلاميذك؟ فقال لهم: أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن سيأتي زمن يرتفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون... ما من أحد يجعل الخمرة الجديدة في زقاق قديمة، لئلا تَشُقّ الخمر الزقاق فتتلف الخمر والزقاق معاً. ولكن للخمرة الجديدة زِقاق جديدة." (مرقس 18:2-22).

وهو يلغي طقوس الذبائح والمحارق اليهودية، لأن الرحمة عنده تحل محل الذبيحة. فعندما استهجن الفريسيون مخالطته للعشارين والزواني والخاطئين، قال لهم: "ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى. فهل عرفتم معنى هذه الآية: إنما أريد الرحمة لا الذبيحة. وما جئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين." (متى 11:9-13). وفي قول آخر له يُحل يسوع المحبة محل الشريعة: "أحبب الله ربك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والأولى. والثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك. بهاتين الوصيتين يرتبط كلام الشريعة والأنبياء." (متى: 34:22-40). وقال أيضاً: "افعلوا للناس ما أردتم أن يفعله الناس لكم. هذه هي خلاصة الشريعة وكلام الأنبياء." (متى 12:7).

وفي موعظة الجبل الشهيرة يناقض يسوع شريعة موسى في عدد من أهم فقراتها، مستخدماً صيغة "سمعتم أنه قيل للأولين... كذا، أما أنا فأقول... كذا." وبذلك يضع يسوع سلطة أقواله فوق سلطة بنود الشريعة القديمة. فقد قال على سبيل المثال: "سمعتم أنه قيل للأولين: العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لاتقاوموا الشرير. من لطمك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر."... "سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك. أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وادعوا لمضطهديكم، فتكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار." (متى 38:5-39، و43-44).

إن التناقض بين هذه الأقوال والمواقف ليسوع (وغيرها مما لم نذكره هنا) والقول الذي ينسبه إليه متى: "ماجئت لأنقض بل لأكمل". لن يزول حتى يتم حذف المداخلات اليهودية التي تم زرعها في "العهد الجديد". والتي آتت أُكُلُها أخيراً عندما اعتبرت الكنيسة كتاب التوراة جزءاً من الكتاب المقدس المسيحي.
عالمية رسالة يسوع:

في مداخلة يهودية أخرى، يضع إنجيل متى على لسان يسوع قوله إن رسالته محصورة ببني إسرائيل، ثم يصف الكنعانيين بالكلاب الذين لايستحقون بركته الشافية: "ثم خرج يسوع من هناك وذهب إلى نواحي صور وصيدا. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك البلاد تصيح: رحماك سيدي يا ابن داود، إن ابنتي يتخبطها الشيطان تخبطاً شديداً. فلم يجبها بكلمة. فدنا منه تلاميذه يتوسلون إليه فقالوا: أجب طلبها واصرفها، فإنها تتبعنا بصياحها. فأجاب: لم أُرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل. ولكنها وصلت إليه فسجدت له وقالت: أغثني سيدي. فأجابها: لا يُحسن أن يؤخذ خبز البنين فيلقى إلى جراء الكلاب. فقالت رحماك سيدي، حتى الكلاب تأكل من الفُتات الذي يتساقط عن موائد أصحابها. فأجابها يسوع: ما أعظم إيمانك أيتها المرأة، فليكن لك ما تريدين. فشفيت ابنتها من ساعتها." (متى 21:15-28). وعندما وجه يسوع تلاميذه للتبشير، يجعله متى يقول لهم: "لاتسلكوا طريقاً إلى الوثنيين، ولا تدخلوا مدينة للسامريين، بل اذهبوا نحو الخراف الضالة من بيت إسرائيل." (متى: 1:10-6). فإلى أي حد تتوافق هذه الأقوال والمواقف الشوفينية المنسوبة إلى يسوع مع بقية أقواله ومواقفه في الأناجيل الأربعة، والتي أعلن يسوع من خلالها عن عالمية رسالته وشمولها للإنسانية جمعاء؟

في الحقيقة إن الأناجيل الأربعة تتكرر فيها مشاهد الوثنيين الذين يتبعون يسوع ويصغون إلى تعاليمه. من ذلك ما ورد في إنجيل مرقس حيث نقرأ: "فانصرف يسوع إلى البحر يصحبه تلاميذه، وتبعه جمع كبير من الجليل، ومن اليهودية، ومن عبر الأردن، والذي حول صور وصيدا." (مرقس 7:3-8). أي إن من وصفهم يسوع بالكلاب من سكان صيدا كانوا في عداد من تبع يسوع، وكذلك سكان المدن العشر اليونانية الوثنية في عبر الأردن. وفي إنجيل لوقا نجد يسوع يشفي أناساً كثيرين من ساحل صور وصيدا، حيث نقرأ: "ثم نزل بهم فوقف في مكان منبسط، وهناك جماعة كبيرة من تلاميذه، وحشد كبير من الشعب من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا، فقد جاءوا ليسمعوه ويبرأوا من أمراضهم." (لوقا 17:6-18).

ونجد متى الذي وردت في إنجيله هذه المداخلة اليهودية عن الخراف الضالة من بيت إسرائيل، يقول بعد ذلك على لسان يسوع قوله في المرأة التي سكبت زجاجة العطر على رأسه: "الحق أقول لكم، حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في العالم يُخبر أيضاً بما فعلته هذه المرأة تذكاراً لها." (متى 13:26). كما أن متّى ينهي إنجيله بالقول المشهور ليسوع "فاذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به. وها أنذا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر." (متى 19:28-20). ومن الكلمات التي قالها يسوع لتلاميذه قبل صلبه بيومين، في إنجيل مرقس، نقرأ قوله: "سيسلمونكم إلى مجالس، وتُجلدون في مجامع، وتوقفون أمام وُلاة وملوك من أجلي شهادة لهم. وينبغي أن يُكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم." (مرقس 9:13-10).

ويسوع الذي جعله متّى يقول لتلاميذه ألا يدخلوا مدينة للسامريين، قد مر بالسامرة وبشر فيها، على ما يرويه لنا إنجيل يوحنا في قصة وقوفه عند بئر يعقوب قرب مدينة سامرية تدعى سيخارة، وحواره مع امرأة سامرية انتهى بإيمان تلك المرأة وإيمان عدد كبير من السامريين. نقرأ في الإصحاح الرابع: "فآمن به عدد كبير من سامريي تلك المدينة بدافع من كلام المرأة... فلما جاءه السامريون سألوه أن يقيم بينهم، فأقام يومين. فآمن عند سماع كلامه عدد يفوق بكثرته عدد الأولين، وقالوا للمرأة: لا نؤمن بعدُ تبعاً لكلامك بل لأننا سمعناه نحن وعلمنا أنه مخلِّص العالم." (يوحنا: 39:4-42).

وفي قصة السامري الصالح، التي يضربها يسوع مثلاً لمستعميه، نجده يفضل السامري على اليهودي بسبب عمله الصالح. فقد سأله ناموسي عن من هو القريب الذي يتوجب على المرء أن يحبه بعد الله، فقال له يسوع: "كان بعضهم نازلاً من أورشليم إلى أريحا، فوقع في أيدي اللصوص، فعروه ثم انهالوا عليه بالضرب ومضوا وقد تركوه بين حي وميت. فاتفق أن أحد الكهنة كان نازلاً فمر من ذلك الطريق، فرآه فمال عنه ومضى. وكذلك جاز لاويٌ (= من خدم الهيكل) في ذلك المكان، فرآه فمال عنه ومضى. ثم مرَّ به سامري مسافر، فرآه فأشفق عليه، فمال إليه فضمد جراحه وصب عليه زيتاً وخمراً، ثم حمله على مطيته وجاء به إلى فندق واعتنى بأمره... فمن كان في رأيك من هؤلاء الرجال الثلاثة قريب الذي وقع بأيدي اللصوص؟ فقال: الذي عامله بالرحمة. فقال له يسوع: اذهب فاعمل أنت أيضاً مثل ذلك." (لوقا: 25:10-37).

وفي أكثر من قول له، يصرح يسوع بأن ملكوت الله سيصير إلى غير اليهود من الوثنيين، بسبب عنادهم وقساوة قلوبهم وعزوفهم عن سماع كلمة الله. نقرأ في إنجيل متى: "إن العشارين والبغايا يسبقونكم إلى ملكوت الله." (متى: 31:21). وأيضاً: "فهكذا يصير الآخرون (أي الوثنيين) أولين، والأولون (أي اليهود) آخرين. لأن كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون." (متى: 16:20). وأيضاً: "لذلك أقول لكم إن ملكوت الله سيُنزع عنكم ليُسلم إلى أُمة تجعله يخرج ثماره." (متى 43:21). ونقرأ في إنجيل لوقا: "ترون في ملكوت الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء، وترون أنفسكم في الخارج مطرودين. وسوف يأتي الناس من المشرق والمغرب ومن الشمال والجنوب، فيجلسون على المائدة في الملكوت. فيصير من الآخِرين أولون، ومن الأولين آخِرون." (لوقا: 28:13-30).

وفي مقابل القول الذي نسبه إليه متى من أنه لم يُرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، فإن يسوع يقول صراحةً بأن اليهود ليسوا من خرافه، عندما يخاطبهم في إنجيل يوحنا قائلاً لهم: "إن الأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي، ولكنكم لاتؤمنون لأنكم لستم من خرافي، فخرافي تسمع صوتي وأعرفها فتتبعني، وأنا أهب لها الحياة الأبدية فلا تهلك أبداً." (يوحنا: 25:10-28).
يسوع واليهود:

تميزت علاقة يسوع باليهود بالعدائية والكراهية المتبادلة بين الطرفين منذ بداية رسالته. فهو لم يترك نقيصةً إلا ونسبها إليهم، وهم لم يوفروا مناسبةً لم يحاولوا فيها إهلاكه والتخلص منه. ففي أول تبشير علني له بعد أن خرج من ماء العماد، قام اليهود بأول محاولة لقتله. نقرأ في إنجيل لوقا: "فلما سمع أهل المجمع هذا الكلام، ثار ثائرهم جميعاً، فقاموا ودفعوه إلى خارج المدينة، وساقوه إلى حرف الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ليلقوه عنه، ولكنه مرَّ من بينهم ومضى." (لوقا: 28:4-30). وبعد ذلك تكررت محاولاتهم ولكن دون جدوى. نقرأ في إنجيل يوحنا عما حدث بعد أن شفى يسوعاً مريضاً في يوم سبت: "فأخذ اليهود يشغبون على يسوع لأنه يفعل ذلك يوم السبت. فقال لهم يسوع: إن أبي ما يزال يعمل وأنا أيضاً أعمل. فاشتد سعي اليهود لقتله." (يوحنا: 16:5-18). وأيضاً: "وأخذ يسوع يسير بعد ذلك في الجليل، ولم يشأ أن يسير في اليهودية، لأن اليهود كانوا يريدون قتله." (يوحنا: 1:7). وأيضاً: "فأتى اليهود بحجارة ليرجموه، فقال لهم يسوع: أريتكم عدة أعمال صالحات من لدن الأب، فلأي عمل منها ترجمونني؟" (يوحنا: 31:10-32). وبعد إحيائه لعازر عقد الفريسيون والأحبار مجلساً وعزموا منذ ذلك اليوم على قتله، فصار لا يظهر بين اليهود واعتزل في بلدة تدعى أفرام هو وتلاميذه. (يوحنا: 46:11-54).

وفي المقابل كان يسوع يمطرهم بكلماته القاسية. فقد قال للفريسيين وهم النخبة المتعلمة من اليهود: "يا أولاد الأفاعي، أنى لكم أن تقولوا كلاماً طيباً وأنتم خبثاء. فمن فيض القلب ينطق اللسان." (متى: 34:12). وفي موضع آخر وصفهم بأنهم عمياناً يقودون عمياناً (أي بقية اليهود): "فدنا منه تلاميذه وقالوا له: أتعلم أن الفريسيين استاؤوا عندما سمعوا هذا الكلام؟ فأجابهم: كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلع. دعوهم وشأنهم، إنهم عميان يقودون عمياناً." (متى 12:15-13).

وكان يسوع يخاطب اليهود من موقع مفارق، وبصيغ كلامية تدل على أنه لم يعتبر نفسه واحداً منهم، فيقول مثلاً: "بماذا أوصاكم موسى" ولا يقول "بماذا أوصانا موسى"، و "ألم يكتب في شريعتكم" ولا يقول "ألم يكتب في شريعتنا.". وهذه نماذج من خطابه لهم: "فأجابهم يسوع: ألم يكتب في شريعتكم...إلخ." (يوحنا: 34:10). وأيضاً "وما كان هذا إلا لتتم الآية المكتوبة في شريعتهم: أبغضوني بلا سبب." (يوحنا: 25:15). وأيضاً: "وكُتب في شريعتكم شهادة شاهدين صحيحة." (يوحنا: 17:flowers. وأيضاً: "ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي." (يوحنا: 56:. وأيضاً: "فأجابهم: بماذا أوصاكم موسى؟... من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية." (مرقس: 3:10-5). وأيضاً: "ألم يعطكم موسى الشريعة، وما من أحد يعمل بأحكام الشريعة؟" (يوحنا: 19:7). وبالمقابل فقد قال نيقوديموس، وهو يهودي انحاز إلى جانب يسوع: "أتحكم شريعتنا على أحد قبل سماع أقواله؟" ولم يقل لهم: "أتحكم شريعتكم...إلخ." (يوحنا: 56:flowers.

واليهود هم قتلة الأنبياء والمرسلين. قال لهم يسوع: " تقولون لو عشنا زمن آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء. فأنتم تشهدون على أنفسكم بأنكم أبناء قتلة الأنبياء... أيها الحيات أولاد الأفاعي، أنى لكم أن تهربوا من عقاب جهنم؟ ها أنذا (يقول الرب) أرسل إليكم من أجل ذلك أنبياء وحكماء وكتبة، ففريقاً تقتلون وتصلبون، وفريقاً في مجامعكم تجلدون، ومن مدينة إلى مدينة تطاردون، حتى يقع عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض..." (متى 29:23-39). وقد أثبت اليهود بعد ذلك صدق قول يسوع فيهم. فعندما حاول الوالي الروماني عبثاً إقناع اليهود بإطلاق يسوع، غسل يديه أمام الجميع وقال: "إني بريء من هذا الدم. أنتم وشأنكم فيه.". "فأجاب الشعب بأجمعه: دمه علينا وعلى أولادنا." (متى: 24:27-29).

واليهود لا يعرفون الله الحق، بل هم أبناء إبليس. قال لهم يسوع: "أنتم لاتعرفونني ولاتعرفون أبي." (يوحنا: 19: وأيضاً: "على أني ما جئت من نفسي، بل هو حقٌ الذي أرسلني. أنتم لاتعرفونه، وأما أنا فأعرفه." (يوحنا 28:7). وأيضاً: "لو كان الله أباكم لأحببتموني، لأني من الله خرجت وأتيت. إنكم أولاد أبيكم إبليس، وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم. من كان من الله سمع كلام الله. فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لستم من الله." (يوحنا: 41:8-47). وهم في عبادتهم لإلههم يهوه إنما يكرهون الله الحق. ولهذا قال فيهم يسوع: "وهم مع ذلك يبغضونني ويبغضون أبي. وما ذلك إلا لتتم الآية المكتوبة في شريعتهم: أبغضوني بلا سبب." (يوحنا: 24:15-25).

وقد لخص يسوع موقفه من اليهود في جملة واحدة، عندما قال في حديثه للمرأة السامرية بأن الخلاص لا يتم إلا بالتخلص من اليهود: "يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق." (يوحنا 21:4-23).

فأي شيء بعد هذا يبقى من الأقوال المنسوبة إلى يسوع بأنه لم يُرسل إلا إلى الخراف الضالَّة من بيت إسرائيل، وأنه ما جاء لينقض وإنما ليكمِّل؟
فراس السواح
يقول البروفيسور (إلس روفكن) في كتابه "صياغة التاريخ اليهودي": "أن فكرة التوحيد وتطبيقها لدى اليهود، لم ترتكز على أسس دينية أو روحية بقدر ما ارتكزت على ضرورات سياسية واقتصادية". ويكشف أنها عقيدة وثنية تؤمن بتعدد الآلهة، قائلاً: "ظهرت فكرة التوحيد لدى اليهود ورسخت بناء على مقتضيات معينة تاريخها محدد بدقة، وهو تاريخ الكتبة والفريسيين في بابل، أي حوالي العام 400 قبل الميلاد، وهي الفترة التي "ألفوا" فيها الأسفار الخمسة الأولى من التوراة. ومن هؤلاء المشككين من يعتمد على برهان لغوي ظريف، إذ أن أول كلمة كتبت من قبل الفريسيين هي "في البدء خلق الرب السموات والأرض"، (تكوين 1:1)، وفي النص العبري (في البدء خلقت الآلهة السماوات والأرض)، وفيما يلي ذلك، وبناء على استنتاج البروفيسور رفكن، اعتمد الكتبة صفة المفرد عوضاً عن الجمع لوصف الإله".
أما الفكرة المنتشرة والشائعة عند المؤرخين وعلماء الآثار من مسلمين وغير مسلمين، عن أخذ اليهود عن الكنعانيين فكرة "الإله الواحد" فأنها فكرة خاطئة، وإلا ما كانوا اعتبروا (اليهودية دين سماوي). وذلك لأن بني إسرائيل الذين دخلوا فلسطين كانوا يعرفون فكرة "الإله الواحد" عن طريق أنبيائهم، وأجدادهم من لدن إبراهيم عليه السلام مروراً بموسى عليه السلام إلى وداود وسليمان عليهما السلام. ولكن الصواب: أن اليهود بعد إقامتهم في فلسطين لأن نفوسهم مريضة وجبلتهم شريرة، ولأنهم معاندون ومكابرون، وطبعهم الكفر والمعصية، فقد عمدوا إلى أحد آلهة الكنعانيين فعبدوه، وأعطوه الصفات الشريرة التي تتناسب وطبائعهم وميولهم النفسية، وكذلك غذوه باتجاهاتهم السياسية منذ البداية.
ذلك أنه بلغ تأثير (الحضارة الكنعانية) على اليهود إلى درجة أنها غزتهم في عقيدتهم، حيث اقتبس اليهود منها كل ما استطاعوا، حتى فكرة "الإله الواحد"، كما يقول المؤرخين. يقول رجاء جارودي: "فحين التقى الكنعانيون والعبرانيون في المرحلة الأولى كان هناك رفض متبادل بين المؤمنين بالإله (يهوه) والمؤمنين بالإله (إيل) ثم ضعف اهتمام العبرانيين بإلههم مع استمرار توطنهم في كنعان، وقوي إحساسهم بإله المواطنين الأصليين حتى أنهم تبنوا اسمه (إيل) وجمعوه على (إيلوهيم)".
وقد أدخلوا عليه بعض التغييرات يقول (ول ديورانت): "يبدو أن اليهود (الفاتحين) لفلسطين عمدوا إلى أحد آلهة كنعان فصاغوه في الصورة التي كانوا هم عليها وجعلوا منه إلهاً صارماً ذا نزعة حربية صعب المراس". كما أن "يهوه" بقي عند اليهود إله لا يُحدد ولا يُوصف، وأن طبيعته لا يحدها قيد ولا شرط، وبناءاً على ذلك لم يضعوا له تمثال، ولم يتخيلوه على أي صورة كالكنعانيين وغيرهم. كما أننا لا نجد له زوجه أو ولد كآلهة الكنعانيين. وكثيراً ما كان يغضب الرب على شعبه لأنه كان يعبد آلهة الكنعانيين ويشعل لها ناراً، ويبني لها معابد...إلخ، وهذا دليل على أن "يهوه" كان إله مثله مثل بقية آلهة الكنعانيين.
وهذه هي الحقيقة التي يتفق عليها العلماء أكثر من غيرها، إذ يرون أن "إله اليهود (يهوه) هو تطور طبيعي وبطيء من مرحلة تعدد الآلهة التي مر بها اليهود، شأنهم شأن القبائل البدائية الأخرى، تلك الآلهة التي كان (يهوه) مجرد واحد منها، إلى مرحلة الإله الواحد، وقد يكون نتيجة هذا التطور تلك الحرب الشعواء التي يشنها (يهوه)، من خلال التوراة، على غيره من الآلهة والتي بقيت آثارها عالقة في أذهان اليهود المتعددي الآلهة بالفطرة". كما أن "يهوه" خلال تطوره البطيء كما يقول (هومير سميث) قد اتخذ "(في فوضى تعدد الأديان، الكثير من خصائص آلهة إسرائيل المتعددة)، والصفة المشتركة لأكثر آلهة القبائل القديمة هي الحجر والنار، وتشترك هاتان الصفتان معا لتشكلا جبلاً بركانياً، وهو رمز القوة الهائلة: "هو ذا اسم الرب (يهوه) يأتي من بعيد غضبه مضطرم والحريق شديد وشفتاه ممتلئتان سخطاً ولسانه كنار آكلة وروحه كسيل طاغ يبلغ إلى العنق فيغربل الأمم من البوار .. إشعيا 30: 27 ـ 28".
كما يعتبر الأستاذ أندرسون عقيدة التوحيد اليهودية عقيدة وثنية، فيقول: "إن الوحدانية التي كانوا (الكنعانيون) يدركونها في ذلك الوقت لم تكن وحدانية تفكير ولكنها وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب". ويصف الدكتور (أنيس فريحة) "يهوه": "إن (يهوه) كما تصوره الكاتب اليهودي مجرد إنسان قدير عظيم ينزل إلى الفردوس ليتحدث إلى آدم ويأمر قابيل وهابيل أن يقدما قرابين فيقبل لواحد منهما ويرفض قرابين الآخر".فكرة "الإله الواحد" أو التوحيد عند اليهود، التي تم استعارتها من الكنعانيين هي فكرة وثنية، تقوم على توحيد الآلهة في إله واحد. أو تغليب إله على بقية الآلهة. وهذه العقيدة خلاف عقيدة الوحدانية التي دعا لها جميع الأنبياء والرسل، والتي كان عليها بني إسرائيل قبل إقامتهم في فلسطين، وتأثرهم بـ(الحضارة الكنعانية). وقد يكون أصل فكرة التوحيد عند الكنعانيين يعود إلى ما كان عليه "ملكي صادق" الذي عرف عبادة الله العلي القدير، وبارك سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما عاش في ضيافته، كما ذكرت التوراة.، وقد يكون ملكي صادق أحد أتباع أنبياء الله هود وصالح عليهما السلام، الذين يؤكد المؤرخون هجرتهم بعد نزول العقاب الإلهي بقوميهما الكافرين إلى فلسطين وجوارها من بلاد الشام.
وإن كان اليهود في بداية عهدهم لم يتخذوا لإلههم زوجة مثل الأقوام الأخرى؛ إلا أنهم في بعد ذلك أصبح لألههم زوجة وأبناء كما يكشف ذلك البروفيسور اليهودي (إسرائيل شاحاك). الذي يؤكد على ما ذهب له العلماء السابقين من أن الديانة اليهودية ليست ديانة توحيدية كما يتوهم البعض ـ على حد تعبيره ـ ولكنها ديانة وثنية! فقد كتب: "أن الديانة اليهودية هي، وكانت دائماً، ديانة توحيد كما يُعرف في الوقت الراهن كثير من العلماء التوراتيين، وكما تُبين أي قراءة متأنية للعهد القديم بسهولة، فإن هذا الرأي اللا تاريخي خاطئ تماماً. هناك في كثير من ، إن لم نقل في كل أسفار العهد القديم حضور وسلطة لأرباب آخرين معترف بهم صراحة، لكن يهوه أقوى الأرباب، غيور جداً من منافسيه ويحظر على شعبه عبادتهم. ولا يظهر إلا في نهاية التوراة فقط، لدى بعض الأنبياء المتأخرين، إنكار لوجود جميع الأرباب ما عدا يهوه".
ويواصل حديثه بالقول: أن ما يعنينا هنا ليس اليهودية التوراتية (أي ما ورد في التوراة) بل اليهودية الكلاسيكية، إن الثانية خلال بضع مئات من سنواتها الأخيرة، كانت بمعظمها بعيدة كل البعد عن التوحيد الخالص. وهذا ينطبق أيضاً على الحقائق المهيمنة في الأرثوذكسية اليهودية في الوقت الراهن، وهي استمرار مباشر لليهودية الكلاسيكية، لقد جاء انحطاط التوحيد من خلال انتشار الصوفية اليهودية (القبالاه) التي ظهرت في القرنين الثاني والثالث عشر. وبحسب اعتقاد القبالاه فإنه {لا يُحكم الكون من جانب إله واحد بل من جانب أرباب عدة ذوي شخصيات وتأثيرات مختلفة تنبثق من علة أولى بعيدة مبهمة. وإذا أقصينا كثير من التفاصيل جانباً، نستطيع تلخيص تلك المنظومة على النحو التالي: هناك أولاً إله يدعى (الحكمة) أو (الأب) ثم إلهة تدعى (الحكمة) أو (الأم) وقد انبثقا أو وِلِدا من العلة الأولى. انبثق عن زواج الاثنين زوج من الآلهة الأصغر: (الابن) يدعى أيضاً بأسماء كثيرة أخرى مثل (الوجه الأصغر) أو ( المبارك المقدس)، والابنة تدعي أيضاً (السيدة) أو ("ماترونيت" وهي كلمة مشتقة من اللاتينية) و(شخينة) أو (الملكة) ..إلخ، ثمة ضرورة لتوحيد (الابن) و(الابنة) إلا إن مكائد الشيطان تحول دون ذلك، وهو يمثل في هذه المنظومة شخصية هامة جداً ومستقلة.
وقد تولت العلة الأولى كي تتيح لهما التوحد، لكنهما أصبحا أكثر بُعداً من السابق بسبب السقوط (أو الهبوط) وتمكن الشيطان، فعلاً، من الاقتراب كثيراً من (الابنة) المقدسة وحتى من اغتصابها (سواء بالرمز أو الواقع. تختلف الآراء) وقد خُلق الشعب اليهودي لسد القطيعة التي أحدثها آدم وحواء، وفي جبل سيناء تحقق هذا الأمر لفترة معينة: و(الابن)، الذي تجسد في موسى، توحد بالابنة (شخنية). ولكن. لسوء الحظ، تسببت خطيئة العجل الذهبي بالانفصال مرة أخرى، لكن توبة الشعب اليهودي رتقت الشَق نوعاً ما.
بنفس القدر، يقترن كل حدث في التاريخ التوراتي اليهودي باتحاد أو انفصال الزوجين السماويين}.



#مهرائيل_هرمينا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تناقضات العهد الجديد المنقح28
- تناقضات العهد الجديد المنقح29
- تناقضات العهد الجديد المنقح26
- تناقضات العهد الجديد المنقح27
- تناقضات العهد الجديد المنقح24
- تناقضات العهد الجديد المنقح25
- تناقضات العهد الجديد المنقح22
- تناقضات العهد الجديد المنقح23
- تناقضات العهد الجديد المنقح20
- تناقضات العهد الجديد المنقح21
- تناقضات العهد الجديد المنقح18
- تناقضات العهد الجديد المنقح19
- تناقضات العهد الجديد المنقح16
- تناقضات العهد الجديد المنقح17
- اسطورة العود الابدى ميرسيا الياد
- تناقضات العهد الجديد المنقح15
- تناقضات العهد الجديد المنقح13
- تناقضات العهد الجديد المنقح14
- تناقضات العهد الجديد المنقح11
- تناقضات العهد الجديد المنقح12


المزيد.....




- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- لوموند: المسلمون الفرنسيون وإكراهات الرحيل عن الوطن
- تُلّقب بـ-السلالم إلى الجنة-.. إزالة معلم جذب شهير في هاواي ...
- المقاومة الإسلامية تستهدف تحركات الاحتلال في موقعي المالكية ...
- مكتب التحقيقات الفيدرالي: جرائم الكراهية ضد اليهود تضاعفت ثل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح30