أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علاء الدين عبد المولى - محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الثالثة















المزيد.....



محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الثالثة


محمد علاء الدين عبد المولى

الحوار المتمدن-العدد: 1428 - 2006 / 1 / 12 - 05:21
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


جماهيريّة نزار قبَّاني
بين اليقين و الوهم
و تداعيات المسألة

ينطوي شعر نزار قباني على مفارقةٍ قلَّما التفت إليها قارئوه ودارسوه , فمن جهةٍ , لا أحد يستطيعُ أن يناقش في أنَّ هذا الشعر مقروءٌ على المستوى الجماهيري بدرجةٍ بالغةٍ.
و لكن ماذا يرى الجمهور في الشّعر؟هل يرى فيه نفسه؟-إذا انطلقنا من الحاجة المباشرة التي يطالب بها جمهورٌ شاعره, أو نجمه؟ - أم هل يكتفي الجمهور بإشباع رغبة الفضول و الاطلاع على كتابات تتعامل مع المناطق الحرّمة؟
أم أن هذا الجمهور لا يتناول الشّعر إلا على أنه يقول له ما يعرفه من قبل؟أي لا يتوقَّع منه أن يفاجئه و يهزّه و يخلخل معرفّته المسبقة و القارّة؟
لا نتصور أن أحداً يضمن الإجابة بالإيجاب على هذه التساؤلات . وقد يكون مُجدياً أن نضع جماهيريّة شعره في لحظة فحص مختلفة , معتمدين على أسئلة أخرى تقترحها طبيعة شعر نزار بعد قراْته مرّاتٍ كثيرة .
إن كثيرا من الشّعراء العرب كتبوا الشعر بوضوح , و خاطبوا حاجات الجماهير, كلّهم لم يكونوا جماهيريّن , مع أن منهم من شارك في وقائع جماهيريّة و سياسيّة ذات طابع إعلامي ّ , و عملوا على تحريض المشاعر و الأحاسيس الوطنيّة و الأمميّة والقوميّة... صفَّّق لهم النَّاس. لكن أثرهم كان مرحليّاً و فاعليّة علاقاتهم بالجمهور تابعة للأحداث و الوقائع . فإذا اشتدت وتيرنها تجددت هذه الفاعلية أما إذا اندحرت و تلاشت , تراجعت صلتهم بالجمهور.
فهل كانت المسألة ذاتها تتكرَّر مع نزار قباني ؟ هل انتهت صلته بالجمهورالقارئ بعد أن انتهت الوقائع؟ و أيّة وقائع تلك التي انتهت في شعره حتى نحكم على العلاقة بالانتهاء؟.
لو دقَّقنا في الخيارات الساسيَّة لشعر نزار , و التي تحدثننا عنها في غير هذا المكان لوجدنا أنها خيارات ٌ قد تُوهم الآخرين بأنها مرحليّة و عابرة . لكنها في الحقيقة دائمةٌ ديمومة الإنسان و مستمرّة مع كل ما يطرأ على خطِّها البياني من صعود و انحدار أو استقرار.فمن جهةٍ لا تستطيع أن نتجرّأ على إنهاء مفهوم الحب , و العشق , بالمعنى البعيد العميق , أو المعنى المباشر و البسيط. لسببٍ واحد على الأقلّ , هو أننا بذلك نكون قد أنهينا الإنسان...و شعرُ الحبّ عند نزار يضعه في مصافّ شعراء العالم الذين أنشدوا للحب وأبدعوا فيه أعمالاً خالدة.
أمّا الجسد و حاجة الإنسان إلى حريّته الجسديّة و الداخلية , فلا ينتهي خطابُه في وجدان الثقافة العربية , بدليل أنّ نصوص الحبّ الجسديّ , و الرغبات المقموعة مع كل ما تعرضت له من شطب وإلغاء, ظلَّت تشكّل خطاباً جماليّاً يتجدّد مع الزَّمن.
أمّا الإحساس بالفرح و الحزن و الياس و الإحباط و طاقات الحياة, الوحشة و الفراغ و الحنين إلى الآخر, أمّا صراع الشَّاعر مع اللغة و مع ذاته المبدعة, مع شكله الضّمني , مع تناقضات أعماقه... أمّا كل ذلك, فيشكّل كل ذلك مادة ً غير منتهية للكتابة. و هي مادَّة لا يتمّ إغلاق الحاجة إليها. و هي المادَّة التي اشتغل نزار كثيراً على استيلاد أبعاد فنيّة وجدانيّة خاصّة منها , كما أنها شكَّلت مساحةً مهمَّة ً و أساسية في شعره و مواقفه.
إذاً ما اختار نزار أن يكون شعره تابعاً لحاجةٍ تنتهي الآن , لينتهي معها شعرُهُ. بل استطاع التصدّي –على امتداد معاركه الأدبيّة- لأهمّ قيم الذات الإنسانية الخالدة, يدافع عنها و يشعِلُ الحرائق من أجل أن ينهض من رمادها كائنٌ جميلٌ قادرٌ على الحياة في ملكوت الجمال والخير و الحقّ. حتّى يمكن الأدّعاء بأن هناك نموذجاً ما , خاصّاً به, كان يشتغل على تكوينه , فيما يتعلق بهذا الكائن, رجلاً و امرأةً , شاعراً عاشقاً و حزيناً و محاصراً بالفراغ,نموذجاً يلائمُ الزمان في تحرّكه لا في جموده.
وحده شعره الذي اصطلح على تسميته بالشّعر السّياسيّ, يحتمل هنا كلاماً مختلفاً, فبعض ٌ منه كان لا يخلو من ردّات فعلٍ مباشرة , وصخب إعلاميّ يوميّ . و هنا تميل الكفّة لصالح الحادثة و الواقعة و أبعادها الآنيّة , و يخسَر الشعر غاياتٍ كثيرة له . و نزار في نصوص مُسيَّسةٍ ما , كان يترك الحادثةَ هي التي تخلق نصَّها الذي يورّخ لها بصفة شعبيّة عفوية , تحرّض جمهوراً ما على قراءة الشعر بوصفه تفريغاً لقهرٍ سياسيٍّ و كبتٍ أيديولوجيّ.
و لكن علينا أن نميّز كذلك في هذا المستوى بين قصائد سياسيّة مباشرة لم تتجاوز حدود الحدث , تهدف إلى التحريض و الحماس بين قصائد سياسيّة (قصائده عن معاناة الإنسان من صراعه غيـر العادل مع حياة يوميّة تستلبه , و قصائد في هجاء نموذج الطّاغية و الدكتاتور في العالم الثالث ...) كانت تعمّق لحظة الحدث لترفعه إلى شأن عامّ يخصّ مُطْلَقَ الإنسان مع كلّ مل قد توحي به من أنها شؤونٌ صغيرةٌ .
إن مثل هذه العوالم التي لها طابعٌ إنسانيٌّ, و منشأٌ سياسيٌّ, لا نستطيع أن نقول أن نزارا استغلَّها لتحقيق جماهيريته , فهي من جهةٍ عمل عليها غيرُه من الشعراء , و لم يصلوا إلى الجمهور, ومن جهةٍ ثانيةٍ فعندما أخذ نزار يتناول هذه العوالم , كان جماهيريّا خالصاً!.
بين شعر الحب و الجسد و شؤون الذكر و الأنثى و الكبت في كل منهما , و بين شعر هزيمة حزيران , و هي النّقطة التي يراها الجميع فاصلاً قاطعاً بين مرحلتين. و كأنّ هزيمة النَّفس و الروح , و هزيمة الحلم بالجمال , و هزيمة الدَّاخل البشريّ, كأن كل هذه الهزائم مفصولةٌ عن هزيمة الحرب ! . و كأنها ليست هزائم شكَّلت مقدمات أساسية للهزيمة العسكريّة ... هل كان مطلوباً من نزار أن يكتب البيانات الموزونة المقفّاة , في همّ الجوع و الرَّغيف , حتّى يعتبر شاعراً وطنيّاً في نظر الجمهور !.
إن هذا الجمهور وجد شعراء يهتمّون بغرائز الجّوع و القضايا المتولّدة عنه , فصفَّق لهم, لكنّه وجد كذلك شاعراً يتعامل مع غرائز أخرى . كلها مقموعة مشلولةٌ. كأنّ النَّقد العربيّ يريد أن يقنع نفسه أنّ غريزة الحياة ليست ضروريّة ً و لا تساعد على تشييد موقف وطنيٍّ. هل إبقاء طلقاتنا الحيويّة الغريزيّة عائقاً أمام النّضال يساعد على بناء وطن؟ أم أن الوطن سيتَّسع فضاؤه عندما ينكشف الإنسان فيه على باطنه... ليقرأ ما يجب معرفته عن نفسه. إن علماء الاجتماع يعملون هذا العمل الثقافيّ الذي يعرّف الإنسان على مجمل مشكلاته النفسيّةِ التَّريخيّة المزمنة التي تمنع حركة الإنسان و تكسر أحلامه. و لا أحد يعترضُ على عالم اجتماع , و لا على محلل نفسي, فلماذا يتم الاعتراض على شعر نزار في الحب و الجسد, ويتمّ التعامل على أنّه ضدّ الوطن ؟ .
إنّ هذه النتائج المكرَّسة حول شعر نزار في الرأة و الحب و تحرير الجسد, هي من مخلَّفات (جماهيريته)...
و هي نتائج تدلّ على موقفٍ متخلف من مفهوم الوطن و الحب, هو موقفٌ يجتزئ هذا من ذاك و لا يمكن التقاط الرّابط بين الوطن الجغرافيّ و الوطن النّفسي , كما يسمّيه نزار, أو لإقامة العلاقة بين كرامة النّفس و حريتها الدّاخلية و كرامة المواطن و حريته السياسية و الاجتماعيّة.
لقد كان الجمهور , بقاعِهِ المكبوت, ينتظر من يلامس عنده وجعه التّاريخيّ الدَّاخليّ الذي قفز من فوقه شعراء الأحزاب و المسيرات الثّوريّة الظّافرة.كان ينتظر مَن بفجّر فيه هذا الدّمل المحشوّ بالوهن الثقافي و الوسخ الأيديولوجي و الصّمت الرّطب. لم يكن شعراء النّضال يلتفتون إلى أن جماهيرهم بحاجة استراتيجيّة إلى من يحرّض أعماقها و وجدانها , بدءاً من الأسرة و البيت و العلاقة مع الآخر , تحريضها على الحريّة , قبل أن يحرّضوا آذانهم و أكفّهم.
نزار إذا ً اكتشف هذا الخطأ الذي ارتكبه شعر السياسة و الثّورويّة , و أتى من باب أنّه الوحيد المُنتظر منه أن يقوم بهذا الدَّور.مغتنماً نشوب معارك مع الآخرين على جغرافيا لم تكن من شأنه كثيراً. لم تكن من شأنه على طريقتهم, لكنها كانت من شأنه إنسانيّاً, وطنيّاً و لا يحق لأحد محاولة الشك في هذا , أو إثارة الغبار حول هذا الموضوع .
كان نزار يؤسس علاقة مع الجمال, مع حرية الجسد , و كان يفقأ الأورام التاريخيّة التي تحملها أرواحنا , لذلك لم يصرخ في مظاهرة , و لم يكتب شعراً لآذان الثَّائرين . ما جدوى أن نكتب شعراً في النضال و تحرير الأرض , و نحنُ مكبوتون في أدق مشاعرنا؟ مفصولون عن فضائنا العاطفيّ الإنسانيّ, مكبَّلون بأغلال التاريخ.
أمّا من أين أتت عددا من النّقاد, جرأةُ أن يغفلوا عن قصائد لنزار قبل 1967 , تتحدث عن الهمّ السياسيّ و الوطنيّ و القوميّ, فهذا ما لا أجد له مبرراً غير إعلان حرب غير عادلة على الشاعر.
كيف استطاعوا تجريد نزار من علاقته الجمالية بوطنه , ببيته, بالموَّال الذي يولد, بالميجنا و الأوف و الّليّا التي تغمّس بلاده و بلاد آبائه, كيف انتزعوا عنه رثاءه للأندلس و حضارتنا فيها, كيف شطبوا حنينه المقدس لبلاده, للفلّ و القطة و الكتب المدرسيّة, عند أول تجربةغربة له , كيف تجاوز النقد البائس هجاء الشّاعر لثقافة البترول في وقتٍ مبكّر , و دورِها في مسخ روح المرأة و تحويلها إلى تجارة , كيف تجرّأ هذا النقد على الادّعاء أن نكسة حزيران , هزيمة حزيران , حوّلت الشاعر إلى منطقة جديدة؟...
أعود فأقول إنّ هذا من مساوئ أن يكون الشّاعر جماهيريّاً...



هو شاعر ٌ جماهيريٌّ
إذاً...
لا بد من شنقهِ
على أهداب محبّيه. (لا غالب إلا الحب – ص 173)

هذا ما قاله نزار واضعاً يده على ماساة أن يكون الشّاعر جماهيرياً, تشكّله الجماهير على هواها...
و لماذا لا تكون هزيمة حزيران نقطة تحوّل عند شاعرٍكان يدافع عن جمال الوطن, و النّبات , و الجسد , و الظلّ, و الحمام؟. لماذا لا يفجع بوطنه؟ . هل هذا الوطن حكرٌ على شعراء المظاهرات والأحزاب اليساريّة؟ كيف نستنكر أن تحلَّ السوداوية ُ و الكآبة في روح مبدع مثل نزار, ما كان غيرَ ضميرنا جميعاً, مثقفين و جماهير غوغائيّة و مفكّرين...الجميع تحولّوا عند صباح الهزيمة...ماذا فعل نزار إذاً؟...
إذاً...
و عودةً إلى علاقته بجمهوره , و بإشارة من يده سحب نزار قباني الجمهور وراءه , آخذاً إيّاه من لحظة المظاهرة , و متاعب الكفاح والصراع المباشر, إلى فسحة جديدةٍ , فاتحاً أمامه حدائق واسعة من ومن الجمال و الحب و الرّغبة بعناق كل ما هو جميل على الأرض, و كان يتوغَّل شعره فب الأعماق بصورة سريّة و يفعل فيها ويحررها و يغسلها من خوفها و اضطهادها النّفسي و العاطفيّ , مؤدياً المهمة بصورةٍ شعريّة ٍ بحتةٍ.
استنطق في شعره منطقة اللاشعور لهذه الجماعات المقهورة , فجّر كوامنه دون الرّضوخ لأي عائقٍ أو رقيب ٍ, متجاوزاً الخطاب الشعريّ السّائد حول المرأة و الذّات و العشق و الطبيعة و الجسدو مسمّياً الأشياء بمسميّاتها غير آبهٍ بنتائج فعلته ( السّوداء) ... لم يكن حالماً رومانسيّاً, و لا اتّباعياً تقليدياً. بل كسَرَ الرَّتابة التّاريخيّة التي برمج الجّمهور أسلوب القراءة عليها , صدم الذّهنيّة المستقرّة المسلّمة و المستسلمة.
فضح أسرارها و مخابئها و أحلامها بطريقة لم تتحملها هي نفسها, فاضطربت و تشوشت و فقدت توازنها إذ وجدت نفسها لأول مرّة بهذا القدر من الانكشاف, و الوضوح و العراء أمام نفسها.
أول مرّة , شعراً ,يُخرج نزار قباني محتويات لا شعورنا المغلق إلى الشَّمس لينشرها عنصراً عنصراً, قائلاً لنا بكل هدوء: ها أنتم بكل وضوح تختزنون كل هذه التَّناقضات و الزّيف في فهمكم للمرأة , والجسد و الدّين. تتناقضون بين صوتكم المعلن , و بين شبقكم اللانهائي للمرأة , ترفضونها في النّضال و العبادة و الكبرياء, وترسمون العالم في سرّكم ‘على أنه جسدٌ و في العلن تحاربون هذا الجسد نفسه, و ترتعد فرائصكم ممن يكشف النّقاب عنه و عن قيمه. كلٌّ منكم يربّي داخله شهرياراً صغيراً, أو دونجواناً , أو السّلطان عبد الحميد, و في العلن تدعون لقتل هؤلاء للتحرر منهم و تقيمون الدنيا لأن أحداً ما كشف هذه اللعبة و بيَّن مدى الغش في الأوراق السرّية...
لم يكشف نزار و هو يلعب بمحتويات لا شعورنا , عن صراع مع الآخر فقط. بل كشف عن صراع الإنسان مع نفسه, مع نقيضه القابع فيه, مع رغبته من جهة و ما يعيق الرّغبة , بين موقفه المتطلع إلى حريّته الفرديّة, و بين متطلبات التزامه بالقانون الأخلاقي والاجتماعي.
و إذا كان اللا شعور منطقة غامضة , لا يمكن أن نتجاهل تأثيرها فينا و في سلوكنا اليوميّ و تحديد مواقفنا , و هي تضجّ بالفضائحية , مليئة بالليل و الضّباب و التناقض , فإنها- لكل ذلك – كانت واحداً من أهم مرتكزات عدد من المذاهب الفنية و الأدبية.(مثلا السريالية). لكن لا يخطر في بالنا أن الشاعر نزار كان سريالياً مثلاً لأنه نبش مخزوننا اللاشعوري و إلا ما كان له هذا الحضور الكبير لدئ قرّائه.
و الطرافة تكمن في: أن نزارا تعامل مع عالم سريالي بشعر غير سريالي. بشعر واضح حول عالم غامض. ما كانت لغته مشوشة و لا مضطربةو لا متداعية و لا منغلقة برموز و إشارات .و هذه كلها من دواعي الوضعية السريالية. لكن نزارا صاغ هذا اللاشعور و قدمه إلينا بطريقة يوحي من خلالها إلينا أنه لا شعور صار مفهوماً عاديا واضحاً . و من أثر نبشه المتواصل له حوله إلى مألوف متسرب في مفهومنا اليومي, فصرنا نرى أنفسنا أمام عالم سري صار علنياً, ولم يعد أحد يصدق أن ما يقوله نزار كان سراً.
لكننا سنفاجا بما فينا, بما يرينا إيّاه الشاعر, بما يذكرنا به من أننا نكره, و نحقد كثيراً, و نتفّه الأنثى و نذّلها, و نشتريها بأموالنا, نهمل حاجاتها , و نفرغ فيها ماءنا و قهرنا ثم ندير ظهورنا...
نزار جعل من ظلامنا الداخلي اللاشعوري حقيقة ملموسة, نتعاطى معها بعد أن انتقلت إلى حيّز الكشف و العادة.
إذاً, من ميزات نزار أنّه أوهمنا أن هذه العوالم هي عوالم طبيعية غير مخجلة. فممَّ نخجل إذا كنَّا جميعاً هكذا بعد أن نغلق علينا الباب؟
من هنا بدأ نزار, من لحظة إغلاق الباب, لهذا أقلق راحة من ينكر نفسه وراء الباب, و أربك معايير من يعتقدون أنهم في مأمن وسلام...
أوقعنا نزار في إشكالية - و لطالما فعل ذلك – مصدرها, أن هذا العالم الممنوع المهمّش المقموع فينا , غير متَّسق بعضُه مع الآخر. بل هو مبنيّ على أساس التناقض و التناحر , و مترع بالأضداد والاختلاف, متحرر من صيغة نهائية لا وجه له , و هنا أهميته: لا هوية له , و هويته في هذه الشبكة العجيبة من التناقضات و الأضداد , شكله الطبيعي هو لا شكله...و عندما نقل هذا اللاشعور إلى الشعر ,نقله و هو موصوف بهذه الصّفات جميعها, فظهر التناقض في شعره, و الاختلاف,و المواقف المتضاربة, مما أوقع النّقاد والقرّاء في حيص بيص كما يقولون.
و في الواقع لم يكن شعره متناقضاً, متقلب المواقف, بقدر ما كان هذا الشّعر أميناً على المادة التي تعامل معها, مستثمراً كل ما فيها من تناقض و اختلاف , و هذا هو الانسان في حقيقته الدّاخلية , ليس مفهوماً على أنّه قطب أو قطبان فقط , بل هو مجموعة صراعات من الصعوبة بمكان إرجاعها إلى حالات قطبية...و كل ما صنعه نزار, تذكيرنا بهذه الصّراعات بين الرّغبات و الانفعالات خلف ستار الوعي...
الشاعر أصغى لإيقاع النفس في لحظة عريها, و لم يكذب ما سمع ورأى. وما كذب ما رأى. لم يكن مطلوباً منه تزييف ما يراه في داخل ظلمات النفس ,بل اعتقد أن هذه الظّلمات المختلفة المتناقضة تغريه بالكتابة المتنوعة التي لا تستقر على بقعة ما , ثم تغادرها إلى بقعة أشدّ غلياناً.
كم كان سهلاً أن يقنعنا نزار بأن الإنسان دائماً ينبوع نبل و عفاف وأناقة كما كان الأدب الرومانسي يفعل. كم كان سهلاً أن يرسم المرأة على أنّها الأم الطاهرة و العشيقة المتفانية في حبها و إخلاصها , لا تعاني من انتمائها للأقنعة و الوجوه المختلفة.
لكن ذلك صعب في حساب ضمير الشاعر الذي أبى إلا أن يتوجه إلى الكثرة في داخل الشّعور الواحد... الكثرة الموجودة في الصدق والكذب و النفاق و الطّهر و العفة ...كل ذلك معاً... و هي كثرة تدلّ على حقيقة الإنسان, الذي من التزييف اختزاله إلى بعد واحد.
إننا يمكن أن نسجّل اعتراضاً حاداً على رأي الجمهور , الذي يعترض على ما يراه تناقضاتٍ و ذبذبات ٍفي شعر نزار , و هو رأي تبناه أشباه نقّاد, رأوا في شعر نزار اضطراباً و تناقضاً فجنّ جنونهم ...و الاعتراض عليهم أشدّ حدّة... فهم يقعون في مغالطات على صعيد فهم طبيعة العمل الابداعي غير الملتزم بأن يجد ضالَّته في هذه اللحظة إلى الأبد. الأدب هو بحث غير منته عن ضالَّة مثل السراب , لا يصل إليها الأديب حتى يتطلع إلى الطريق البعيد مرة ثانية ...
الموقف النَّقدي المثقف ينبغي أن يميل إلى إبداع يحتفي بمتناقضات الانسان داخله. فلماذا يرفض هذا الموقف شعراً يحقق هذا الاحتفاء بصورة مثالية؟.
و لنتساءل : أي مبدع مهم مشى طوال حياته على الصراط المستقيم؟ و هل من مصلحة الإبداع الطامح إلى التنوع و الثّراء , أن يمشي على هذا الصراط؟... إن المسلّمات و الاستقرار, مما يهدد حيوية الإبداع... و من حق نزار أن ينأى بشعره عن هذا الاستقرار . إنه منذ طفولته يتعلم إشعال الحرائق...
أقول مرة ثانية , إن آفة قرّاء نزار , و استسلامهم لآراء مسبقة , ونَقْلُها شفاهةً من مكان إلى مكان, دون التدقيق فيها. و دون اللجوء على الأقل إلى شعر الشاعر ليكون الحكم النّهائي , لكنهم يقرأونه وفي ذهنهم مجموعة من التصورات لا يمكن لقوة أن تزحزحها . لقد بات اليوم من العيب المعرفي و القصور النَّقدي أن نبقى مستسلمين لتصورات سائدة حول شعر نزار قباني , خاصة و أنّ كثيراص من استنتاجات الفعل النقدي و المعرفي التي وصلنا إليها جميعاً , ونطالعها في ثنايا المفاهيم النَّقدية و الثقافية , أقول أن كثيراً منها تؤكد أن شعر الجسد عند نزار كان مهمّاً بصورة غير متوقعة . فهو الذي يتعامل مع المحرم و المسكوت عنه و الصامت و الليل الداخلي... إلخ و هو الذي يقدم خطاباً عن الجسد يقف إلى جانب أبرز الخطابات القديمة و المعاصرة حول الجسد و ثقافة الجسد من زينة و ملابس و جمال و آداب و روائح و غذاء و عراء , مع ما يؤثر فيه ذلك من علاقة الإنسان بكل هذا , و كيفية تحديد الموقع الاجتماعي و السياسي , اعتماداً على ثقافة الجسد...
إن بعضاً من العلوم الانسانية اليوم يعتمد على مقولات الجسد, لتحليل خطابه , و تفكيك رموزه, للوصول إلى الآثار الكبيرة التي يتركها الجسدعلى لغة الانسان و علاقاته مع الكون و الآخرين, وهنا يتم درس كل شيء يتعلق بالجسد, من رائحة العطر , حتى آداب المائدة. و دور كل ذلك في الافصاح عن ثقافة الإنسان المعاصر...
و هذه كلها بعض من عوالم نزار قباني التي كان يركز عليها في جزئياتها و تفصيلاتها منذ تجاربه الأولى. و على هذا يمكن القول بكثير من الاطمئنان , إن نزارا كان من النّادرين من مثقفينا المعاصرين و المبدعين معاً ,الذين شيّدوا خطاباً مستقلّاً للجسد , لم يترك فيه فاصلة أو صمتاً , إلا و قالها أو فجرها... من الداخل إلى
الخارج, و من الخارج إلى الدّاخل. و لا أدري لو شطبنا شعر نزار من دائرة ثقافتنا المعاصرة, كم سنخسر على صعيد خطاب الجسد ؟
كم من النصوص التي حوربت و همشت في تاريخ آداب العالم واستهزأ بها النقّاد المعاصرون لها, و لم يرَ فيها أحد غير المغامرة و التخريب, مضى عليها زمن ليثبت الزَّمن صلاحيتها الدَّائمة, تستعيد أهميتها ثانية , عندها يقولون: كانت نصوصاً سابقةً لعصرها , و رائدة... و لا أتخيل أن نزارا الشاعر كان يكتفي بمجدٍ معاصر زائل , مع أنّه يصرّح أنه لا يهتم بالخلود و لا القرّاء الذين سيأتون في المستقبل,فهو يكتب الآن لمن يعيش بينهم , مع أنه كذلك , فأعتقد أن صموده في ميدان لغة الجسد , لم يكن من أجل نجومية تسقط مع نهايته. كان في الأمر سر آخر يدل عليه طموح المبدع في أن يترك أثراً في جماهيره, المعاصرة و القادمة . لذلك كما سبق و أشرنا , كان الشاعر يختار عوالم خالدة في تأثيرها مع قدرة على نقل المخبوء السري إلى العلن...
لكن , من جهة أخرى, أدت هذه الطريقة في فضح الأسرار إلى ردة فعل, أيضاً لها سمة الجماهيرية , لكنها هذه المرة سلبية. – و كم كانت هذا الجماهيرية سلبية كما نرى في كل خطوة نخطوها – تلك هي الانقلاب على الشاعر عندما أوغل في ملامسة المحرّم العاطفي, و المكبوت انَّفسي . فلقد بلغ السّيل الزّبى لدى الجماهير. لقد جعل الشاعر فضيحتها (بجلاجل) كما يقولون ! .
فلتَرْفُضْهُ, و لتنكّل به أشد تنكيل, و لتشوّه صورته كذلك, فما عاد يُحتمل هذا الشاعر الذي أصبح شمساً حادة في منتصف آب لا يملك أحدٌ الهروب منها و هذه الردة هنا قد تكون مشروعة من أحد أوجهها. ذلك أن أي صدمة فكرية و فلسفية و ثقافية , ستخلق أصداء معادية لها . و هنا دليل من جانب ما على حيوية الأدب الصادم و دوره في إثارة التساؤلات و الغبار حوله . و إلا ما قيمة مبدع يمرّ على الأرض سبعين عاماً و لا أحد يشعر به؟... إن له مهمات كثيرة لا بد أن يجعل أداءها من أولويات وجوده على الأرض . و من طبيعة هذا الأداء ألا يكون تسلية يقوم بها الشاعر. إنه أداء قلق جارح مرصود, متبوع بالرفض و الاستهجان.
إن الأمثلة كثيرة على رفض الآخرين لأداء المبدع لدوره الصدامي في حياة مجتمعه. و ذلك في صعيد ألدب و الفلسفة و الرسم والرقص و النبوّة... كل رائد و طليعي سيرجمه قومه بالحجارة ... و كم من كتاب صودر و حوكم صاحبه و منع تداوله و أشيع حول مبدعه جوّ من الأقاويل و الإشاعات و القراءات المغلوطة المنبثقة عن ذهنيّة تآمرية.
إن كثرة الأمثلة على هذا , لن تمنعني من الاستئناس بمثال (فرويد) الذي كان كلما أوغل في كشوفه الهامّة حول طبيعة النّفس و الطفل والشخصية , و ألغازها و شرورها و كهوفها و تناحرها مع نفسها , و كلما قام بنزع غطاء جديد عن بئر من آبار النفس و المشاعر لتبدو عارية تماماً , هادفاً إلى تدشين معرفة جديدة بالنفس و الجسد , عندما كان فرويد يفعل ذلك كان يواجه بالاستنكار و الاستخفاف, وفي كل مرة يتجاوز ذلك و لا يكترث بما يشنه عليه أعداء المعرفة و العلم, حيث يثبت الزمن في كل مرة صدق تحليلاته و فرضياته . ( و لا يغيب عن بالنا طبعاً مدى التّطور الذي طرأ على فرضياته والتجديد الذي قام به تلامذة له أو محللون جاؤوا بعده , لكنهم يعودون إلى الريادة التي كان لفرويد فضل القيام بها )...
و نحن نستدعي فرويد تحديداً , لأنه يخدمنا في سياق حديثنا عن رفض الآخرين لنزار و الأقاويل التي نسجوها حوله عندما أخذ على عاتقه قراءة لا وعينا و نفسيتنا و ذهنيتنا المتخلفة أساساً , و أجرى في كل ذلك أدوات الحفر و الجرح لكل ما يعترض خطواته / خطواتنا من مظاهر التخلف و عصور عقول الطرابيش و التكايا , فاقئاً دمامل مزمنة في راقات النفس و التي تشكل أخطر المثبطات الوجدانية والفكرية لنشاط الإنسان المعاصر . و كما أشرنا مراراً إلى أن نزارا لم يكن ليقف عند حد, و لا يردعه رادع في مهمته تلك. لقد كان يعرّي النفس بالشّعر و ينقل لنا صورتها بعد أن يفاجئها في مخدعها عارية مكشوفة متحررة من شوائب الأقنعة. فيرى فيما يرى أنانية الذكر , و سلطويته , و لم يبرئ نفسه من ذلك , اذ رأى ازدواجيته في نظرته للأشياء و المفاهيم و الآخرين خاصّة المرأة , رأى كيف يفرغ الذكر المقهور في الأنثى قهره التّاريخي و النفسي ملغياً ما قد تنطوي عليه هي من قهر أكبر و أعمق .
إن الجمهور فوجئ بصورته الحقيقة أمامه... و لن يكون طبيعياً في ردّة فعله , سيشن الحرب تلو الحرب ضد (شاعره) و هو يصرّ على أنه يمثله في شعره, حروب متكررة ليدافع الجمهور عن موقعه , لكن بعد ماذا؟ . لقد قدم شاعره هذه الصورة عنه , و لا بد أنه صادق , و ما على الجمهور إلا التصديق و التّسليم . فهو لا يرى أن نزارا يعني كائنات أخرى في كوكب غير مكتشف. بل هو يعني هذا الجمهور نفسه... و هذه اللحظة أيضاً لا تفهم إلا سيكولوجيا... حيث أنها لحظة مزدوجة, بين رفض و استهجان , و تسليم و اقتناع. لقد ارتفع رصيد الشاعر النجم إلى درجة أنه صار يشكل سلطة لها قرارها و هيمنتها على نفوس أتباعها. هكذا اختار الجمهور نجمه وصوته, و عليه أن يتعامل مع خياره و حتى النهاية.
و كي أمثل على جوهر علاقة الجمهور بنزار قباني , أذكر بأمرين الأول : هجوم كثير من الطبقات و الفئات عليه و على شعره مواقفه, خلال حياته كلها, و الأمر الثاني: كيف أصبح الشاعر المحمول على الأكتاف في نعشه العامر بالحزن و الورد و التّاريخ , أصبح رمز الجميع , مسقطا ً جميع الخلافات و المهاترات .
الأيدي التي حملت جثة نزار قباني, و الحناجر التي نسجت له الزغاريد الأخيرة و هو يدخل عتبة الرحيل النهائي , و الدموع التي سالت من القلوب قبل العيون... هذه كلها ذات معنى على صعيد تجمع الجمهور حول شاعره الفارس العاشق النجم و على امتداد العلاقة بين الشاعر و جمهوره, كانت هاتان اللحظتان تتضايفان وتتعايشان معاً. يرفضه و يحنو عليه في الوقت نفسه.
و ثمة أمثلة لا تحصى على كيفية تعامل الجمهور الرافض له في عدد من المجتمعات العربية المحافظة . حيث ذكر لنا أكثر من شاعر كيف فوجئ مرة بهجوم الحاضرين على شعر نزار ( الإباحي- الفاضح-الفاسق الخ...), فقام هذا الشاعر بنوع من الدفاع الجميل عن شعر نزار , و بعد أن قدم لهم وجوهاً أخرى للشاعر تكشف عمقه و أبعاداً مختلفة, أخذت النّبرة الهجومية الإلغائية تتراجع ليأخذ عدد من الحضور المحافظين بقراءة قصائد حفظوها غيباً للشاعر نزار , منتشين بها متمايلين مع (إباحيتها...) .
هذا هو جمهور نزار قباني, لا يستطاع ضبطه للوقوع على شكل واحد من (الجمهور). إنه جمهور نموذج للازدواجية التي يكشف عنها شعره نفسه...
من هنا نستطيع فهم أسباب التّذمر الذي كان يحس به نزار من جمهوره، فهو الآخر يهجو جمهوره الحبيب, يشكو عدم فهمه الحقيقي له طيلة حياته. فهو جمهور يضطهد شاعره و يعد عليه أنفاسه و لا يتركه في حاله!. يطارده من مدينة إلى مدينة لالتقاط الصّور المثيرة له , و ضبطه متلبّساً في حالات شروده و تأمله , بم تتأمل؟ بأي امرأة؟ بأي مشروع مغامرة؟ ما الذي سوف تلبس لها؟ كيف ستجلس معها؟ كم طبقاً ستتناول على مائدة العشاء؟ كم مرة ستحرك عينيك على الجهة المليئة بالنّساء؟ .
لقد ضاق الشاعر/النّجم بجمهور يصادر حريته الشّخصيّة, معتقداً ألا حق لروحه في البكاء و الوحشة و الضجر. و لا حق له في التعبير عن ياس و إحباط ما , أو التّفكير بالاستقالة و العودة إلى البيت هرباً من الأضواء و الولائم و مكبّرات الصّوت...
الجمهور أصبح هنا سلطةهو الآخر لا ترحم, كلمته هي المسموعة , الوشاية التي ينسجها هي الحكم على الشّاعر . الرأي الأول و الأخير له فهو الجمهور و الحكم .
مثلما صنع الجّمهور من الشاعر بطلاً دفع به نحو مصائر تراجيدية لم يكن غير الشاعر يتعايش معها و يحمل دمها على ثيابه, و عندما يفاجئه الجمهور كان يبتسم له و يهديه قبلة على الهواء... و إلا فسوف (يحكي الجمهور عليه)...
مثلما صنع الجمهور فارسه و حمله ما لا طاقة له به, كذلك فعل نزار عندما أصرّ على هذا الزواج من الجمهور... و عندما أراد أن يتأخر قليلاً في السّهرة خارج البيت يفاجأ بأن الجمهور كله عند باب بيته يسأله فيما تاخر من أجله...
عندما أراد الشاعر الالتجاء إلى حزنه و دموعه, لم يستطع أن يفعل, فالجمهور وراءه وراءه ...
مان الجمهور إذاً يريد القصيدة لا الشاعر , يريد الاستماع إلى صوت القيثارة لا تأمل الأصابع التي تعزف عليها. حتى و لو سال الدّم على الأوتار فالجمهور مأخوذ بروعة العزف لا بمصرع الشاعر!.
الجمهور رسم صورة أبدية للشاعر و يرفض أن يتخلى عنها . وضع في هذه الصورة أفكاراً أعطاها صفة الاستمرار و الديمومة! و كأنه يتعامل مع صنم و تمثال ... و لم يكن لدى الجمهور وقت لقراءة ما في أعماق التمثال ... و لكم بكى في صمته تمثال! لم يكن لدى الجمهور فسحة لمشاهدة دموع (شهريار) المزعوم . إنه محكوم بشهرياريته إلى أبد الآبدين, و غير مسموح له بتغيير المشهد لئلا تفسد الصورة الملتقطة له..! و في كل مرة كان الجمهور مهيأ للاحتجاج على شاعره... كلما فضح سرّاً جديداً من أسراره. الجمهور يريد (الطابق مستوراً) و الشاعر لا يتعامل مع الستر, بل يكشف الحجب كلما صادفها.
كان الجمهور لا يتقبل في كل مرة أن يصدم هذا الشاعر الرجيم هدأة عقله و قناعاته و ما توصل إليه من معارف و ثقافات! من أين يأتي هذا الشاعر و يجلدنا كل مرّة, و يوجع ضمائرنا , و يخرب علينا(الطبخة) ؟ لكنه جمهور عجيب , يعود فيحضن الشاعر لأنه يؤمن أنه لا يقول إلا الحقيقة... مهما كانت مرّة .
تلك كانت مجمل الصورة التي يشكلها الجمهور عن نزار قباني , الذي كان يقسم الجمهور إلى نمطين... يتعامل كل منهما مع شاعره بطريقة ما . و يمكن القول إن الجمهور كان منقسماً على نفسه كذلك, بين موقفين: الأول موقف طبيعي , و الثاني موقف ثقافي . فمع الموقف الطّبيعي تبرز التقييمات الأولى, خارج القانون النقدي والفكري, بعيداً عن الدّرس و التحليل , بل هو موقف
أولي مرتهن بالأثر الانفعالي الوجداني المنفلت من اللغة المنقَّحة المزيدة. بعكس الموقف الثقافي , الذي يأتي فيما بعد , منقَّحاً, مبنياً وفق معيار ما , تصور يعمل صاحبه على إثباته و معالجته و محاولة إرساله إلى الآخرين للمشاركة فيه , معززاً إياه بالبرهان والأفكار…
و كما لاحظنا في الصفحات الماضية , فقد كان الموقف الطبيعي للجمهور هو مدار كلامنا و تعليقنا .
و لاحظنا أن الجمهور -من الناحية الطبيعية – كان يجيز لنفسه توصيف شاعره/نجمه, و تحليله على هواه , و تقويله ما قاله و ما لم يقله... أليس هو الذي نذر نفسه ليكون ناطقاً بلسان مائتي مليون عربي؟! من إذاً يمنع هذا الكم الهائل من إطلاق الأحكام كما يشاء , دون رادع و لا تحديد؟.
لقد كان مما يحرض الجمهور على إطلاق أحكامه بهذه الطريقة, أنه جمهور يريد البحث في شعر نزار عما يعرفه , أو يحلم به في أحلام يقظته و نومه .
و سواء أوجدوا فيه ما يحلمون أم لم يجدوا , كانوا يجيّرون الشعر لصالحهم !.
ينطقونه بما يشتهون , و يتوهمون أن الشاعر هو الذي قال... إنها الآلية السلطوية لعفوية الجماهير , عندما تعمد إلى تشكيل موقف ما من ظاهرة ما , تنزع الظاهرة من سياقها و ظروفها و احتياجاتها المتغيّرة و تطورها , و ترفعها إلى لحظة خارج التّاريخ...
لقد تحول شعر نزار إلى كتلة من العجين, يلعب بها الجمهور على هواه, يعيد صياغتها وفق احتياجاته! ... و إذا كنا نميل إلى قراءات متعددة للنص الإبداعي , فإننا لا نميل مطلقاً إلى القفز فوق النَّص
و معناه الدّاخلي و رسالته المحددة معه , لا نميل إلى إلغاء علاقة النص بصاحبه و هي علاقة أساسية . و لم تقنعنا النقودات الحديثة و ما بعد الحديثة بضرورة موت المؤلف . إن الأمر مرفوض لأنه تحول إلى اغتيال المؤلف عمداً و إزاحته عن نصه بصورة لا تفسر إلا على أنها من نتائج الثقافة الإمبريالية المتغلغلة في أعصابنا دون أن ندري.
نحن ضد أن يرى الجمهور –على سبيل المثال – في شعر نزار قباني عن لحظة حزن و إحباط و فشل, لحظةً من لحظات التّحريض على الرفض و هزّ الخصور و الانتشاء بسماع أغنية حوَّلت نزيف الشاعر إلى رقصٍ شرقيّ... لا يمكن أن نستسلم لمثل هذه القراءات الخائنة لشعر نزار قباني . و هي قراءات انتشرت و عمت , و ظلت مع الأسف تشكل شبه إجماع جماهيري على تحليل الشاعر بهذه الطريقة المنتهية غير القابلة للحوار و التغيير.
إن الجمهور المقموع , بحاجة دائماً إلى بطل سياسي , ثوري سينمائي , رياضي , يحمله مشاريعه و أحلامه و يلقي عليه تبعات فشله و إحباطه ...
لقد وصل الأمر في مرّات عديدة إلى مستوى مبتذل من هذه الرؤية الامبريالية للمبدعين. و كلنا يستدعي من الذاكرة القريبة كيف اتَّهم الاعلام و الصحافة و الناس نزار قباني بأنه المسؤول عن هزيمة حزيران ... كما اتهموا أم كلثوم كذلك...كما اتهموا غيرها ... إن هذا من نتائج الجماهيرية المزعومة التي لا تتوانى عن قتل المبدع من أجل أن تكون الفكرة عنه صحيحة. إذ لا ضرورة لوجوده عندما يكون هذا الوجود معيقاً لرأي الجمهور...و هذا داخل في باب الاتّكالية على الشاعر البطل , الذي يحلم به الجمهور حاملاً آلامه وأخطاءه و خطاياه , و ذلك هرباً من مواجهة الذات و القيام بمسؤوليتها .
لكن النجم عندما يكتشف ورطته , يستلذها و يتطلب المزيد منها. ويمعن فيها , و ذلك متعمدا أو غير متعمد . و لا أعتقد أن نجماً قرر أن يعتزل نجوميته. بل سيكرسها و يعتاد عليها و على أوجاعها
و نتائجها مهما كانت تراجيدية . و سوف لن يستطيع نزار حتى ساعات ما قبل موته أن يتخيل أن غرفته خالية من مائتي مليون عربي! نجم كهذا سيقتنع بتداعيات قضية النّجومية, و سوف ينميها داخله كقيمة ملازمة , و يرعاها كحاجة للتنفس...
هل كان هذا يعني خضوع نزار قباني شاعرا لحاجات الجمهور؟ أم أنه طوَّع هذا الجمهورَ نفسه للحاجة الشعرية؟ و قدًّم هذه الحاجة الشعرية بشكل يضعها في متناول الجميع؟ إن نزارا لم يكن موظفّاً عند الجمهور ليكتب له ما يطلبه . مع أن شعره يدخل في الأذهان هذا الالتباس. و ذلك المستوى الواضح الذي يتسم به مجمل شعره. لكن ثمة فروق ً مهمة , بين أن يكون الشعر واضحاً , و بين أن يكون جماهيرياً. و هذه هي اللعبة التي عرف الشاعر نزار كيف يديرها عبر خمسين عاماً. كان من مهام نزار شاعراً أن يبني علاقة خاصة بين الجمهور و الشعر , منطلقاً من ضرورة توريط الجمهور بلغة الشعر. و هذه الضرورة عملت على خلق ظاهرة خاصة في واقع الشعر العربي. فلم يسبق لشاعر عربي أن كان بمثل هذا الانتشار من محيط الوطن إلى خليجه...
ما فعله نزار أنه شارك الجميع إيقاعهم . و جذبهم إلى حضور طقوس الشعر, و حفظه و تناقله سرّاً و خفيةً عن أعين الرقابة الأسرية و الاجتماعية . و فتح قلوب الناس للشعر , و حببهم به , بتراثهم البعيد. جعله عادة من عاداتهم اليومية . و قد كان شعره البوابة الأفضل لدخول الكثيرين إلى غابة الشعر الحديث ... لأنه حلَّ للجميع معضلة التواصل مع الشعر .
يمكن الزعم إذاً أن نزار قباني يؤكد على تقديم فريضة النّجومية بطقس شعري خاص. يشترك فيه الجميع. هذا الطقس لم يكن من اختراع الجمهور , بل هو شأن الشاعر وحده .اذا ً كان الجمهور –كمفهوم- حرض الشاعر على تغيير شكل الخطاب الشعري, فإنه يجب أن نضع هذا التحريض في موقعه الصحيح.
فأولاً لم يكن الجمهور واعياً لذلك التحريض الذي يمارسه هو . كان نزار هو من يعي أن هذا الجمهور من حقه أن يصادق القصيدة , فكتب قصيدة و أرسلها إلى العنوان الذي ضيَّعه شعراء الحداثة , كما يقول نزار...هذا العنوان هو الجمهور طبعاً.
لكن نزارا أرسل إلى العنوان رسالة كبيرة. فحواها: من حقك أيها الجمهور أن تعيش قيم الجمال و الحرية و العدالة الروحية... و أنا مستعد لأن أؤمن لك العلاقة مع هذه القيم...
و قد استبدل الجمهور الرسالة و فرح بأن عثر أخيراً على شاعر يهجس به و بأحلامه السرية و أشباح روحه. عثر على شاعر قبل به غير مترفّع عنه.
و لكن العلاقة – كمارأينا في الصفحات السابقة – أصابها ما أصابها من مرض و قصور و التباسات ألقت بظلالها على العلاقة الأساسية بين الشاعر و جمهوره...
و ما يهمنا الآن أن نؤكد على أن الشاعر مع كل هذه السمعة
و النجومية, كان يسعى لتشكيل خطاب شعري خاص به مختلف عن السائد. عن السائد الفنّي و الجمالي , و السائد الثقافي و الاجتماعي و الشعبي...
وثمة ما يجب - في توجّهنا هنا - أن نؤكّد عليه والاهتمام به في هذا الصعيد .
فإذا كان نزار الجماهيري بنى موقعَه الشِعري وأسّس جماليّات شِعريّة وفق حاجة الشِعر ، وإذا كان هو الذي استدرج الجمهور إلى جمهورية الشِعر التي طالما تكلمنا عنها ، فإنّ الأمر الذي نريد أن نواجه به أنفسنا الآن هو : هل شِعر نزار قباني جماهيريٌّ ؟ هل مناخاتُ وآفاق شِعره هي مناخات الجمهور وآفاقُه ؟ . هل رؤيتُه للشِعر ودوره في التَّأريخ للجمال الحر ، ورؤيته للعالم والأشياء والأنوثة والحضارة والمكان والبحر والتّراث . . كل ذلك ، هل هي رؤيةٌ جماهيريّةٌ ؟ .
إن السؤال مطلوب وبإلحاح من وجهة النَّظر النّقديّة ، التي ترى فرقاً نوعياً وأساسياً بين أن يقرأ جميع الناس عملاً أدبياً ما ، فيكون لهذا العمل (جمهورُه)، وبين أن تكون بنية هذا العمل ومفاهيمه وأحوالُه ، جماهيرية . فرقٌ كذلك بين وضوح الشِعر ، وسهولة التّواصل معه ، وبين ما يحمل هذا الشِعر داخله من ثقافة جماهيرية
لقد ذكرنا أن نزارا كان يُلبّي حاجة الشِعر ، قبل أن يهتمّ بحاجة الجمهور . مهما تغزّل هو بعلاقته مع مئتي مليون عربي . فالشاعر يتناول هذه الموضوعات بلغةٍ مجازيةٍ لا يُعتَدُّ بها عند البحث عن الحقيقة التي نستقصيها بعيداً عن معيار العدد والكمّ . .
فمع انحياز نزار إلى حاجات الشِعر وما يخدمها ، كان يقيم مسافةً بين قانون الجمهور وقانون الشِعر . ومن مهمتنا كمثقّفين وشِعراء ونقاد أن نحدّد هذه المسافة الدقيقة التي شيّدها الشاعر بين مطالب الآخرين ، وشِعره .
إنه وظّف الآخرين للشِعر ، لا العكس ، بحيث نستطيع القول من خلال معاينةٍ دقيقةٍ ونوعيَّة لشِعر نزار : أن الشاعر كان لا يتنازل عن ضرورة وجود هذه المسافة التي تحقّق له غايتين مهمتين : الأولى استمرار علاقته مع الجمهور ، والثانية أنه لا يريد أن يقدّم للجمهور شِعراً جماهيرياً . . ذلك أن الشاعر منذ بداياته لم يكن معنيَّاً بثرثرة الجمهور وتفاصيله العابرة ، ولا معنياً بقضايا تتمّ معاناتها بطريقة شعبية ، جماهيرية ، شائعة . . إلخ ، بل على العكس من ذلك ، فإن شِعره ينبئ عن عالم باذخٍ ، مترفٍ ، ممتلئ بالنّعمة ،لا يتّصل بنمطٍ شعبي ، حتى ولو كان مثل هذا النمط من قرّاء شِعره .
هنا نتلمّس أنَّ نزارا كان يدور في فلكٍ تغمُره قيم الجمال ، وعدالةُ الرّوح والجسد ، مدافعاً عن هذه القيم جاعلاً منها أحد عناصر رسالته الشِعرية الفنية. وكان يعمل من جهة أخرى على تدريب الذّائقة الشائعة ( الجماهيرية ) على التّعامل مع إبداع ذي عوالم جماليةٍ جديدة ، مفاجئة ، مدهشة ، مضيفاً إلى خبرات هذه الذائقة خبرةً جديدةً ، حتى ولو تأخّر تكوينها وأصابها فتورٌ بين مرحلة وأخرى ، خبرة مفادُها العلاقة مع شِعر مختلفٍ باختياراته ولغته وبلاغته وأمكنته . شِعر يبتكر أسلوب استقباله من تلقاء نفسه ، بعيداً عن المسبقات .
ومنذ البداية ، كان اختيار الشاعر أن يتّجه إلى قارئ ما ، عندما نلاحق صفاتِه وسماته ، نكتشف ببساطة أنه ينبغي أن يتحلّى بالحدّ الأدنى من الرّهافة وحُسن التّعاطي مع موضوع الجمال ، قارئ للشِعر ، بالأساس . وقارئ الشِعر الذي يكتبه نزار والذي يتوجه به إلى ذلك القارئ ، كما يحلم الشاعر ، عليه أن يكون على مستوى قراءة الشِعر ، يكون جديراً بالمسؤولية التي يتأملها منه هذا الشاعر . .
فيا قارئي . . . يا رفيق الطّريق

أنا الشّفتان . . . وأنتَ الصّدى

سألتك بالله . . كن ناعماً

إذا ما ضممتَ حروفي غدا . .

تذكَّر . . وأنتَ تمرُّ عليها

عذاب الحروفِ . . لكي توجدا . . ( * )


وقد اخترنا هذا النموذج لأنه من بدايات نزار التي تكتسب أهميتها عند متابعته حتى نهاياته . وهذا النموذج القديمُ يضع في حسبانه " قارئاً " يكون" رفيق الطريق " الذي يسأله الشاعر بكل تهذيب أن " يكون ناعماً " عندما
" يضم حروف الشاعر " . ويريد من هذا القارئ أن " يتذكّر غداً عذاب ومعاناة الشاعر ، الذي تمخضت عنه هذه الحروف ، فهي حروف تعذّبت حتّى تشكّلت ووجدت " ..
هذا قارئ نزار الذي وضعه في باله ، وظل يتقدّم بشِعره إليه . فهو ليس قارئاً بليداً ، ولا محايداً ، وإنما له موقفٌ ما في تعامله مع شِعر نزار . لذلك ما ثار في وجهه غيرُ القارئ البليد القاسي الذي راح يطارد شِعره مسلّحاً بذئبية عدوانية تحطم بنيان الشِعر لينتصر العقل الثابت . لكن ما كان له هذا النصر .
إذاً ، قارئ نزار ليس غافلاً عن عذاب الشاعر . وصعوبة عمله الإبداعي. وليس هو القارئ الذي يرقص على ألحان أغنياته التي شوّهها الملحّنون والمغنّون فحوّلوا النّزف فيها والبكاء إلى هزٍّ للخصور وتصفيق بالأرجل .
جمهور نزار هو هذا بالضبط : من يحترم الشاعر ويكاشفه الشاعر دون وجل ولا تحرّج . أمّا الملايين ، فهي جمهور عدديٌّ لا يعوَّل عليه . لا يعوّل على جمهورٍ من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج ينتظر من القصيدة أن تكون راقصةً يصفق لها ، ولا غانية يفرغ فيها شهواته . جمهور نزار الحقيقي هو الكمُّ النّوعيُّ الذي يتّجه للخطاب الجمالي فيتفاعل معه دون آراء مسبقة ، ولا غايات خارج مسار الشِعرية التي يفعِّلُ نزار من طاقاتها بطريقةٍ تسمح للجميع بأن يتعاملوا مع الجمال الأدبي قبل أن يتعاملوا مع الجمال المحسوس .
ليس مقصدنا انتزاع الشاعر من أحضان جمهوره ، بل هدفنا أن نعيد تركيب هذه العلاقة بين الشاعر وجمهوره . تركيباً يسمح لنا بأن نختلف مع غلاة جماهيرية الشاعر نزار . ويسمح لنا بأن نضع مداخل أخرى لفهم هذه العلاقة ، غير المداخل الشَّائعة ، مداخل نستنبطها من داخل ، لا من خارج الشِعر ، من أجل أن نضبط أكثر معنى الجماهيرية ، لنزيل عنه ما لَحِقَ به من تزييف ، تحوّل معه مفهوم الشاعر إلى مطربٍ يؤدي ما يطلبه الجمهور . ولنا الآن أن نتساءل : هل كان نزار يفعل ما يطلبه الجمهور ؟ .
أشرنا قبيل قليل إلى ضرورة تحييد مديح الشاعر لعلاقته مع الجمهور ، وأشرنا إلى أنه مديحٌ مجازيٌّ ، تنقضه وتنسقه شكوى الشاعر نفسه ، الدائمة من جمهوره .
أبدأ بوضع مجموعة من العوالم اشتغل في إطارها خطاب نزار . مجموعات كل منها تحت بند معين وعلى الشكل الذي نستضيء من خلاله حول مدى انشغال نزار في مختلف هذه العوالم بجمهوره أو بشؤون جماهيرية.. وهي مجموعات مأخوذة حرفياً من مجمل قصائده وعلى اختلاف المراحل الشِعرية ، بصيغة إشارات إلى مفردات ، قاموس لفظي ذي دلالات واسعة ، على مدى ذلك الانشغال بالجماهير . .
( استخدم نزار قباني في شِعره المفردات التَّالية ( على سبيل الأمثلة ) :
جانيت - سوزان - كوليت - مايا - جانين - غاردينيا - مانوليا - توليب
هارودز - مارلو - الباستيل - ديزني - الكونكورد - كنيسة نوتردام - برج إيفل- قصر فرساي
آلاسكا - بافاريا - كنيسة بيزنطة - سامبا- فلامنكو - كوريدو - كونشرتو البيانو - سمفونية - موزارت
شوبان - تشايكوفسكي - الباسادوبلي - الماندولين - بيتزا - كرواسان - نبيد فرنسي - فودكا - ويسكي
خيز الباغيت - الروكفور - سجّاد الكاشان - الكريستال - الفيروز - الياقوت - اللؤلؤ - العقيق - الموكيت
مانيكور - الذهب - الدَّانتيل - وبر الكشمير - الفرو - كيمونو - رافعة النَّهد -
أعمال رينوار - أعمال ماتيس - أعمال سيزان - أعمال فيرلين - أعمال رامبو - أعمال بودلير - ملحمة جاجامش
شِعر سافو - نصّ آشوري - نصّ فرعوني - أشعار لوركا - مجنون إلزا - أشعار نيرودا

الآن ماذا سيقول قارئ من ( جماهير ) نزار حول هذه المفردات ؟ ما الذي سيفقه منها ؟ وما مدى دخولها كشأن يوميٍّ في اهتماماته ؟ ماذا تعني له؟ ألن تختلط الأمور في مخيلته : ما هو الفرق بين الأكل والاسم والموسيقى ؟ ألم يحسب أنّ جانين اسم لفاكهة ، وأن موزارت نوعٌ من أنواع الموز ؟ . أو أن الباسادوبلي شكلٌ محسّنٌ من أشكال الباسكت بول ؟ .
لا بأس إذا أخذ الأمر جانب السخرية قليلاً ، فالجماهيرية المزعومة ، ستصطدم بهذه السخرية حتماً . لأنها كلمة حقّ أريد بها باطل .
سيقال بأننا انتزعنا هذه المفردات من سياقها ... حسنٌ ... اعتراض موفَّقٌ. لكننا نملك التّعليق عليه لصالح الشِعر . فهذه مفرداتٌ عاناها الشاعر . وتملك وجوداً روحياً لديه وتعني له مواد شِعرية صاغ منها مجمَلَ رؤيته للأشياء والأفكار والأطعمة والزّينة والإبداع ، وهي رؤية أنيقةٌ ، لا يتخلَّلها أيُّ مسحةٍ شعبيةٍ من أي نوع كانت . رؤية باذخة لا يستطيع " الجماهيريُّ " المزعوم ادّعاء ملكيتها . لا لأنها محرّمة عليه . بل لأنّه غريب عنها بسبب شعبيته . ولا يمكن أن نقارن أن موزارت شعبي في بلاده ، بموزارت في البلدان العربية التي قد تعتقد جماهيرها أن موسيقى موزارت " طنطنة " ! . موزارت النخبوي عندنا شعبيّ في بلاده ، وهذا ما أريده . أي أن نزارا عندما يضع موزارت في شِعره . لا يضعه لأنه أحمد عدويّة ، بل يضعه لأنه موسيقيٌّ خاصّ بطبقةٍ من الذوّاقة ، المترعين بحساسية بعيدة المدى ، تستطيع أن تمتلك الوقت والرّوح والصيغة، للتّعامل مع موزارت .( ونذكره على سبيل المثال كذلك ) .
إن هذه الحالة ليست شعبية عندنا ، ولا جماهيريّة ، ولم يكن في بال الشاعر تقزيمُ هذا الموسيقيّ العبقريّ إلى درجة أن يجعل منه شعبياً على طريقتنا العربيّة . القارئ النخبوي وحده يتملّكه جمال الاسم وجلالُه ، بينما القارئ الجماهيري الشائع سيتملكه الاستخفاف حتماً . وهو حاصل بشدة في صفوف الجماهير . .
كذلك ليس من شأن الوسط الجماهيري أن يدرك ما معنى أن يتحدث شاعر مثل نزار عن زهرة ( الغاردينيا ) . بل إن الجمهور الشائع يقطف الورود بعدوانية ويقطع أغصان الأشجار ، ويسرق خُضرة الغابات ويسطو على الكرم والفستق الحلبيّ . . ثم يتّجه ليسمع نزار قباني . . فكيف يكون هذا الجمهور جمهور شِعر ؟ . وحده القارئ العميق الذي يحس بجمالِ الوجود الطّبيعي ، وبعظمةِ الزهرة جانب الكتاب ، تحت ضوء مصباح رائع ، مع صوت بيانو يحوّل المكان إلى بحرٍ لا يُرى ، وحده ذلك القارئ ، من يحقّ له التّوغّل في حرم شِعر نزار دون تصفيق ولا ميل بالخصر ، بل بمنتهى التأمل والصّلاة .
ووحدها قارئةٌ مشبَعَةٌ بإيقاع الرهافة والجمال الكوني ، والبذخ المعنوي والإشباع ، من يحق لنا أن نسميها جمهور نزار ، والتي تتواصل بشفافية مع قوله ( على سبيل المثال ) :

خطاكِ في ساحة ( الفاندوم ) أغنيةً

وكحلُ عينيك في ( المادلين ) ينتشرُ

صديقة المطعم الصّينيّ . . مقعدنا

ما زال في ركننا الشِعري ، ينتظرُ

كلّ التّماثيل في باريس تعرفنا

وباعةُ الورد ، والأكشاك ، والمطرُ

حتّى النوافير في ( الكونكورد ) تذكرنا

ما كنتُ أعرف أنّ الماء يفتكر

نبيذ بوردو .. الذي أحسوه يصرعني

ودفء صوتكِ لا يُبقى ولا يذرُ(*).


الآن ، ماذا تريد هذه المقولة تكريسَهُ ؟ . هل تريد السّير عكس التيّار والإطاحة بكل هذه الآراء حول جماهيرية نزار قباني ؟ .
لا شكَّ أنّ القراءةَ النقديّة قد تنطلق وتتشكَّل خارج التّيّار السّائد . لهذا لا مانع أن تكون مقولتنا عكس التّيّار . لكنّنا لا نريد أن نقوم بفعل إطاحة بجماهيرية نزار ، بقدر ما نريدُ وضع هذه الجماهيرية في مكانها الطبيعي . بعيداً عن الآراء المسبقة والمصنّعة سلفاً . ونرجو أن تكون هذه المقولة قد تبلورت بالشَّكل المقنع ، أو بالشكل الذي تملك معه أن تكون قد حرّضت ، إلى حدٍّ مقبول ، على إعادة تقييم جماهيرية هذا الشاعر الملتبس .



#محمد_علاء_الدين_عبد_المولى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محاولة قراءة جديدة في شعر نزار قباني الحلقة الثانية *
- قصائد قصيرة
- حلقة أولى من سلسلة دراسات نقدية عن تجربة نزار قباني
- صحوُ القصيدة
- حِوَارٌ مع المفكّر السّوري د. برهان غليون


المزيد.....




- -إسرائيل تنتهك قوانينا.. وإدارة بايدن لديها حسابات-.. مسؤولة ...
- الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته في محيط مستشفى الشفاء بغزة لل ...
- موسكو تدمر عددا من الدبابات الأوكرانية وكييف تؤكد صدّ عشرات ...
- مفتي روسيا يمنح وسام الاستحقاق لفتى أنقذ 100 شخص أثناء هجوم ...
- مصر.. السفيرة الأمريكية تثير حفيظة مصريين في الصعيد
- بايدن يسمي دولا عربية -مستعدة للاعتراف بإسرائيل-
- مسؤول تركي يكشف موعد لقاء أردوغان وبايدن
- الجيش الاسرائيلي ينشر فيديو استهدافه -قائد وحدة الصواريخ- في ...
- مشاهد خراب ودمار بمسجد سعد بن أبي وقاص بمخيم جباليا جراء قصف ...
- قتيل بغارة إسرائيلية على جنوب لبنان والمقاومة تقصف شبعا


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علاء الدين عبد المولى - محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الثالثة