أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح26















المزيد.....



تناقضات العهد الجديد المنقح26


مهرائيل هرمينا

الحوار المتمدن-العدد: 5410 - 2017 / 1 / 23 - 11:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كيف أصبح يسوع (عيسى) إلها، تمجيد واعظ يهودي من الجليل[2]، How Jesus Became God: The Exaltation of a Jewish Preacher from Galilee هو عنوان الكتاب الأخير للباحث الأمريكي بارت إيرمان Bart D. Ehrman، المُتخصص في الدراسات حول تاريخ المسيحية المبكرة والنقد النصي للعهد الجديد، وأستاذ الدراسات الدينية بجامعة تشابل هيل بكارولاينا الشمالية. صدر الكتاب في الخامس والعشرين من مارس 2014، ويقع في 416 صفحة للنسخة الورقية، و307 صفحة للنسخة الإلكترونية[3]. واستطاع دخول لائحة أكثر الكُتب مبيعا لشهر أبريل لمجلة نيويورك تايمز[4]، كما أثار جدلا واسعا داخل أوساط المُحافظين، فاقت الضجة التي صاحبتْ كتاب رضى أسلان[5] Reza Aslan، ولا أدل على ذلك من إصدار كتاب في الأسبوع نفسه لصدور كتاب بارت إيرمان، يحمل عنوان: “كيف تحول الإله إلى يسوع: الأصول الحقيقة للإيمان بالطبيعة الإلهية ليسوع، ردا على بارت إيرمان”[6]، بالإضافة إلى مجموعة من المُناظرات والمُراجعات المبثوثة على القنوات والمواقع الأمريكية.

تتمحور فكرة الكتاب الرئيسية في التتبع التاريخي لصورة يسوع من القرن الأول إلى القرن الرابع الميلادي وتحديداً سنة 325م وهي السنة التي تم فيها عقد مجمع نيقية لإرساء أسس العقائد المسيحية الرسمية بما فيها صورة وطبيعة المسيح، وكيف استطاع نبي من الجليل ذو خلفية يهودية حُكم عليه بالموت من طرف الامبراطورية الرومانية أن يتحول من إنسان إلى ابن الله مُساو للآب في الجوهر، يستكشف بارت إيرمان المُتخيل الذي رسمته الجماعات المسيحية الأولى عن يسوع بعد حادثة الصلب، وقصصهم عن القيامة من الموت، وهي الروايات التي تم تأويلها لاحقاً إلى أن صارت دليلا على ألوهيته.

إن الإطار النظري الذي ينطلق منه بارت إيرمان في كتابه الأخير، وفي مُجمل أطروحاته، يعتمد بالأساس على مجموعة من الفرضيات الحديثة التي وسمتْ البحث الأكاديمي الغربي حول تاريخ المسيحية المُكبرة، وتحديداً الجدل حول إشكاليتين كبيرتين كان لهما الأثر البالغ في توجيه البحوث الحديثة، وهما: إشكالية ثنائية أرثوذكسية/هرطقة وإشكالية المسيح التاريخي. فبخصوص الأولى كانت نظرية والتر بور WBauer التي عرضها في كتابه الأرثوذكسية والهرطقة في المسيحية المبكرة Orthodoxy and Heresy in Earliest Christianity سنة 1934م، بمثابة نقلة ثورية تم فيها إعادة النظر حول الصورة الرسمية التي روجتها الكنيسة طيلة قرون من الزمن، مُدافعة فيها عن أصالة تعاليمها ومعتقداتها بإرجاعها تاريخيا إلى الرسل أنفسهم الذي عاشوا مع يسوع، وأن عقائد الهراطقة هي زيغ بعض المسيحيين عن التعاليم الصحيحة، غير أن أطروحة والتر بور أثبتتْ العكس؛ مؤكدة أن بعض التعاليم التي وُصفتْ بالهرطقة كانت هي الشكل الأقدم والأكثر أصالة للمسيحية، وفسر بور نجاح الأرثوذكسية بتفوق أتباعها وتمكنهم من الوصول إلى الحُكم بعد المُصالحة التاريخية التي قام بها الإمبراطور الروماني قسطنطين، فأعادت الجماعة المُنتصرة كتابة التاريخ وفرضت آرائهم كتعاليم أصيلة، وهي الأطروحة التي دافع عنها بارت إيرمان في إحدى كُتبه، وناقش فيها منهجية والتر بور[7]. أما إشكالية المسيح التاريخي فقد عرفت ثلاث محطات تاريخية مُهمة ساهمت كل واحدة منها في بلورة النتائج النهائية للأبحاث، انطلقت الأولى مع رايماروس H. S. Reimarus سنة 1778[8]، وأما الثانية فقد تزعمها كل من ألبرت شويتزر A. Schweitzer ورودولف بولتمان R. Bultmann وانتهت باعتبار المسيح مُجرد نتاج للجماعات المسيحية المُبكرة ولا علاقة له بالمسيح التاريخي الذي حاول ألبرت شويتزر رسم معالمه من خلال التعاليم الإسكاتولوجية للمسيح، بل ذهب بولتمان وأتباع مدرسته إلى القول باستحالة إيجاد المسيح التاريخي داخل نصوص العهد الجديد[9]. في ظل هذا النزاع ظهرت المرحلة الثالثة من الأبحاث حول المسيح التاريخي، والتي انطلقت مع مجموعة من العلماء على رأسهم روبرت فنك Robert W. Funk وجون دومينيك كروسان John Dominic Crossan اللّذين أسسا جمعية تحت اسم “ندوة يسوع” Jesus Seminar سنة 1985، فأعطوا بذلك شحنة جديدة وبُعداً آخر للأبحاث، خصوصاً مع الاكتشافات المُتوالية للعديد من المخطوطات التي تعود للقرون الأولى للمسيحية، فظهرت بذلك مئات المُحاولات لمتخصصين أكاديميين -سواء داخل جمعية ندوة يسوع أو خارجها- لتحديد صورة يسوع التاريخي[10]، وهنا تبرز أعمال بارت إيرمان باعتباره واحداً من أبرز المُدافعين عن صورة يسوع النبي الإسكتولوجي eschatological Prophet أو النبي الرؤيوي Apocalyptic Prophet، الذي تتمثل مُهمته بالدرجة الأولى في تحذير الناس من النهاية القريبة والمُروعة للعالم، وقد عرض هذا التصور في كتاب له بعنوان: Jesus: Apocalyptic Prophet of the New Millennium[11].

بهذا العرض المُقتضب للإطار النظري، نستطيع الوقوف على السياق العام الذي ناقش من خلاله بارت إرمان أطروحة “المسار التاريخي لتأليه المسيح” في كتابه الحديث، من خلال الإضافة اللاحقة للطبيعة الألوهية على يسوع، والتي تبلورتْ بشكل أكثر نُضجاً منذ أواخر القرن الأول إلى أن استقرت في صورتها النهائية مع بداية القرن الرابع، وأيضا من خلال البحث في تعاليم وأقوال يسوع نفسه، مُدافعاً في ذلك عن الصورة التي رسمها في العديد من أبحاثه عن مهمة يسوع كنبي رؤيوي.

استهل بارت إيرمان كتابته الذي يقع في تسعة فصول، بمقدمة يعرض فيها الدافع الذي جعله يُقدم على تأليف هذا الكتاب، وبعيداً عن طابع تشويق القارئ، فإن الفكرة المحورية للمقدمة -والتي استخدمها أيضا في بعض كتبه[12]– هي محاولة بارت اثبات التعارض بين اللاهوت والتاريخ، بين دراسة المسيحية من مُنطلق لاهوتي، ودراستها من مُنطلق علمي تاريخي، وهنا يضع عنوان كتابه داخل هذا السياق، إذ أن المُهتم باللاهوت يبحث عن الكيفية التي أصبح بها الإله إنساناً، بينما المؤرخ يسأل: كيف أصبح الإنسان إلهاً.

وفي الفصلين الأول والثاني وعنوانهما: الإنسان المقدس في اليونان القديمة وروما والإنسان المقدس في اليهودية القديمة، يُحاول بارت إيرمان عرض الإطار التاريخي والسوسيولوجي الذي نشأت فيه المسيحية، من خلال البحث في مفهوم الألوهية عند الشعوب القديمة، فسواء بالنسبة للمسيحية المبكرة وأيضا اليهودية والوثنيين في الإمبراطورية الرومانية، لم يكن لديهم في منظومة الأفكار الدينية، حد فاصل بين العالم المقدس (مملكة السماء: عالم الإله، أو عالم الآلهة) وبين عالم البشر، فهُناك العديد من نقاط التماس بين العالمين وتواصل دائم بينهما، يمكن من هذا المُنطلق الحديث عن الإنسان المقدس أو المؤله من خلال منظورين، الأول: عن طريق الاختيار، وذلك بأن يختار الإله أحد البشر (ملك، كاهن، مُحارب) ليضمه إلى صفوف الآلهة، الثاني: عن طريق التجسيد، بأن يتجسد كائن مقدس (أحد الآلهة، مَلَك) في صفة إنسان، وهذا ما نجده حاضراً في نصوص العهد الجديد، فإنجيل مرقص يعتمد الطريقة الأولى ويروي لنا قصة المسيح الإنسان الذي تحول إلى إله، بينما يعتمد إنجيل يوحنا الطريقة الثانية مُصوراً المسيح كإله منذ البدء وقبل خلق العالم ثم نزل إلى الأرض وتجسد في إنسان، وبالتالي نُلاحظ أن كلا من مرقص ويوحنا يصل في الأخير إلى رفع يسوع إلى مرتبة الألوهية لكن من منطلقات مُختلفة.

وبالرجوع إلى الأفكار الدينية عند اليونان والرومان، فإن التداخل بين عالم الآلهة وعالم البشر يبدو أكثر جلاء لكل مُطلع على الأساطير القديمة، سواء في نزول أحد الآلهة إلى عالم البشر، أو في صعود أحد البشر إلى عالم الآلهة. لم يكن هذا التحول والانتقال بين العالمين فجائيا، إذ يُحدده بارت إيرمان باعتماد نموذج هرمي يتم فيه الانتقال بين العالمين بشكل تدريجي[13]، فعلى قمة الهرم يوجد دائما إله قوي، الخالق والمُتحكم في كل شيء، ثم نجد طبقات أخرى من الآلهة أقل قوة ومكانة. أما بخصوص الحديث عن الديني اليهودي الذي يؤمن بإله واحد مطلق، فإن التداخل بين مملكة السماء وعالم البشر يبدو أصعب تحديداً، لكن مع ذلك يرصد بارت إيرمان نقاط تواصل عديدة، مشيراً إلى أن الفكر اليهودي استبدل الآلهة بكائنات مقدسة، كالملائكة والكيروبيمات والسفنكوسات[14]، ففي القرن الأول ميلادي آمن اليهود بإمكانية الانتقال بين العالمين كأن يتحول أحد البشر إلى ملاك، وبالتالي فإن إعطاء صفة القدسية وأحيانا الألوهية لأحد الشخصيات الهامة في الفكر اليهودي يندرج داخل هذا السياق. وهذا كان التصور السائد في العصور القديمة وأيضا في الفترة التي شهدت ميلاد المسيحية، غير أن القرن الرابع الميلادي شهد تغيراً لافتاً، ففي خضم انتقال العالم الروماني من الوثنية إلى المسيحية، عبَّر العديد من الفلاسفة الوثنيين عن وجود فج عميق بين العالم المقدس وعالم البشر، إذ لا وجود إلا لإله واحد قوي، وتم بذلك الابتعاد عن الإيمان بوجود هرم الآلهة الذي يربط العالمين[15]، وبالرجوع إلى نشأة المسيحية فإن يسوع أيضا تم إدخاله حسب المُتخيل الشعبي في القرن الأول من الميلاد إلى هرم الآلهة، واختلفتْ مرتبته في هذا الهرم وارتقاؤه فيه حسب معتقد كل جماعة، لكن زوال مفهوم الهرمية في الفكر الروماني الوثني في مُستهل القرن الرابع الميلادي وتزامنه مع وضع أول قانون للإيمان المسيحي، أدى إلى تحول يسوع من عُضو داخل هرم الآلهة، إلى الإله نفسه المُساو له في الطبيعة، وفي هذا السياق يعرض بارت إيرمان نقطة جوهرية تتمحور حول أن البحث في ألوهية يسوع يجب أن لا ينطلق من الصورة التي رُسمتْ له في القرن الرابع الميلادي التي تميزت بكسر هرم الآلهة ورسم تصور كوسمولوجي جديد يتكون من إله مطلق وبشر عاديين، فيسوع أصبح إلها في القرن الرابع الميلادي حسب التصور الأرثوذكسي، وهذا المفهوم يختلف تماما عن نظيره في القرن الأول، وبالتالي عندما نحاول البحث عن الكيفية التي أصبح بها يسوع إلها يجب إعادة صياغة سؤال البحث كالتالي[16]: داخل أي منظور آمنت الجماعات المسيحية المبكرة بأن يسوع إله، إذا كانت مملكة السماء تتكون من هرم الآلهة.

بعد عرض مفهوم الألوهية والالتقاء بين العالمين في الموروث الديني اليهودي والروماني، ينتقل بارت إيرمان في الفصل الثالث المُعنون بـ: هل اعتقد يسوع بأنه إله؟، إلى الحديث عن يسوع التاريخي، مؤكدا من خلال سياق أقواله وأعماله أنه نبي رؤيوي حذر الشعب اليهودي من نهاية العالم، لكن هل من بين تعاليمه نستطيع الوقوف على جانب من الكشف عن الطبيعة الإلهية ليسوع؟ يُجيب بارت من خلال مُناقشة مجموعة من النصوص في إنجيل يوحنا[17] إلى أن يسوع ليس هو الآب، مع أنه وضع نفسه على قدم المُساواة معه، غير أن جميع هذه الأقوال المنسوبة إلى يسوع في إنجيل يوحنا لا تصمد أمام أي معيار من معايير النقد التاريخي، فيصعب بالتالي الجزم أنها أقوال أصيلة، خصوصا وأنها دُونتْ فقط عند يوحنا، فالعديد من المصادر الأقدم تاريخيا من هذا الإنجيل كرسائل بولس وإنجيل مرقص والمصدر Q وإنجيل متى ولوقا لم تتحدث عن يسوع بهذه الصورة. ما يؤكد أن هذا التقليد حول ألوهية يسوع يرجع إلى لاهوت جماعة يوحنا وليس إلى يسوع نفسه[18]، وقد استعرض بارت إيرمان في هذا السياق مجموعة من النماذج في التاريخ اليهودي لأناس تم تقديسهم والرفع من مكانتهم في مرحلة سابقة عن الزمن الذي عاشوا فيه، وهذا بخلاف ما كان سائدا عند الحضارات المُجاورة، ففي مصر كان الفرعون يُعلن نفسه إلها، وكذلك الشأن بالنسبة للإسكندر المقدوني وأغسطس وآخرين، أما بالنسبة لليهودية فإن تمجيد الأنبياء والملوك كان من عمل الأتباع الذين جاؤوا بعدهم.

أما الفصل الرابع: قيامة يسوع: ما لا يُمكننا معرفته، والفصل الخامس: قيامة يسوع: ما يُمكننا معرفته، فقد خصصهما بارت إيرمان للحديث عن قصة القيامة، فإيمان المسيحيين الأوائل بأن يسوع قام من بين الأموات شكل الحدث الرئيسي الذي ساهم في رسم المعالم الأولى لألوهية المسيح، ويبدو واضحاً أن الأناجيل الأربعة اتفقت على سرد هذا الحدث، وكانت الإشارة إلى القبر الفارغ دليلا على أن القيامة لم تكن بالروح فقط بل أيضا بالجسد. ومع توالي الأحداث والظهورات ليسوع بين العديد من الأتباع انتشرت التأويلات المُتفرقة، فيسوع في آمالهم هو ملك إسرائيل ابن الله[19]، وهو أيضا المُخلص المتألم، وهو السيد في نظر الأتباع الأوائل، فارقهم بعد أحداث الصلب ليجلس عن يمين الآب، فكل هذه الألقاب في المُتخيل الشعبي تم ربطها بنصوص العهد القديم، فمثلا في سفر المزامير نقرأ: “يقول الأزلي لسيدي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ”[20]، فمن سيكون السيد في هذا النص غير يسوع، وها قد صدق وعد الإله بأن جعله ملكاً ليس على إسرائيل فقط بل في مملكة السماء، فتحقق بذلك أن كان يسوع هو ابن الله الحقيقي، وهكذا بدأت عمليات التأليه داخل هذا السياق، وهو تأليه لا يزال في مراحله الأولى ولم يبلغ بعدُ طوره النهائي[21]، واللافت للانتباه من خلال النصوص الكرستولوجية الأولى أن يسوع لم يكن مُساويا للآب في الجوهر والطبيعة، فهو فقط الشخص الذي أعطاه الآب مكانة قدسية أعلى من مكانة البشر.

لا ترجع النصوص الأولى للمسيحية إلى أي من أتباع يسوع المقربين، فلم يكن رواة الأناجيل شهود عيان ولم يتم تدوين أولى الشهادات إلا بعد سنوات عديدة. لماذا إذن لم يدون الأتباع الأوائل قصتهم مع يسوع؟ يُجيب بارت إيرمان على هذا التساؤل في الفصل السادس: بداية الكريستولوجيا: المسيح المُمجد في السماء، من خلال الإشارة إلى أن أغلب هؤلاء الأتباع كانوا ينتمون من الناحية الاجتماعية إلى طبقة الفقراء والفلاحين والجليليين القادمين من الأرياف، فكان بالتالي احتمالية إتقانهم للقراءة ضعيفة جداً ناهيك عن الكتابة، بالإضافة إلى التأكيد على أن الهاجس الإسكتولوجي ظل مُصاحباً للرسل الاثني عشر ولباقي الأتباع الأوائل، فلم يهتموا بتدوين تعاليم يسوع أو كتابة حياته ليقينهم بالاقتراب الوشيك لنهاية العالم. وكانت المُشافهة هي الطريقة الوحيدة لنقل قصة يسوع للمؤمنين الجُدد، وظل هذا التراث الشفهي ينتقل من شخص لآخر ومن ثقافة لأخرى إلى أن تم تدوينه بعد سنين عديدة في أولى نسخ الإنجيل، وفي هذا المعرض يطرح بارت إيرمان فرضية جدلية عن الشكل الذي سيكون عليه إنجيل كتبه شاهد عيان أو أحد أتباع يسوع المقربين فإنه حتما سيكون مُختلفا بشكل جذري على الأناجيل التي لدينا وعن التصور الرسمي للكنيسة حول طبيعة المسيح. هذا الإنجيل الافتراضي سيحتوي على التعاليم الأخلاقية ليسوع، كما سيحتوي أيضا على رحلاته من قرية إلى أخرى يُحذر فيها الناس من اقتراب نهاية العالم ويحثهم على التمسك بالوصايا.

يُعالج بارت إيرمان في الفصل السابع: يسوع كإله في الأرض: كرستولوجيا التجسد المبكرة، بداية تشكل الكريستولوجيا المسيحية في النصوص الدينية الأولى للعهد الجديد، حيث كان الإيمان الشعبي يُنزل يسوع منزلة أرفع من باقي البشر، وحتى لو تم اعتباره ذو طبيعة إلهية، فهي تندرج داخل سياق الآلهة الأقل مكانة من الإله المُطلق، يُمكن تلخيص هذا الإيمان بالصيغة التالية: “يسوع إله لكنه ليس الآب”، ومع ذلك حافظت المسيحية على مكانتها كدين توحيدي يؤمن بإله واحد. لقد شهدت هذه الفترة سجالات عديدة حاولت إعطاء حلول لهذه المعضلة، وظهرت العديد من الأفكار والتعاليم لجماعات مسيحية مُختلفة، لكن في الأخير لم يستطع سوى فريق واحد أن ينتصر في هذه المعركة، ويجعل من آرائه الدين الرسمي للمسيحية، واصفاً آراء الآخرين بالبدعة والهرطقة والخروج عن تعاليم يسوع الصحيحة.

في الفصل الثامن وعنوان: بعد العهد الجديد: الطريق المسدود للكرستولوجيا في القرن الثاني والثالث ميلادي، ينتقل بارت إيرمان إلى الحديث عن ثنائية أرثوذكسية/هرطقة، فوصف تعاليم جماعة مُعينة بأنها هرطقة أو بدعة يقتضي أمرين، الأول: وجود الوجه المقابل للهرطقة وهو التعليم الصحيح أو الأرثوذكسي، والثاني: أسبقية التعليم الصحيح عن التعليم الخاطئ الهرطوقي. إن هذا الاستعمال هو رهين النطاق اللاهوتي، إذ أن الكنيسة الرسيمة التي انتصرت في معركة الآراء والعقائد، وصفتْ آراء كل المُخالفين بأنها هرطقة وبدعة، أما داخل سياق البحث التاريخي فإن الأمر مُختلف تماماً، لقد سبق وأن أشرنا في مقدمة هذه القراءة أن عمل والتر بور أعاد الجدل حول هذه الثنائية إلى سياقه التاريخي، وفي هذا الفصل أكد بارت إيرمان -من خلال مُناقشة العديد من النصوص- على أسبقية العديد من التعاليم التي وُصفت بالهرطقة على التعاليم الأرثوذكسية، وعلى أن كل الجماعات المبتدعة في القرن الثاني والثالث والرابع ميلادي نشرت معتقداتها ودعتْ إليها إيماناً منها أنها التعاليم الصحيحة والأكثر أصالة. لقد ظهرت تعاليم تُحاول التأكيد على بشرية يسوع، وفي الجهة المُقابلة ظهرت تعاليم تؤكد أن يسوع هو الآب نفسه نزل إلى الأرض، وظهرت آراء أخرى تُحاول الجمع بين القولين باعتبار يسوع ذو طبيعة بشرية وإلهية في نفس الوقت، إلى غيرها من الآراء المُختلفة والمُتناقضة، والتي لم يكن مُحركها الأساسي حب الجدل، بقدر ما كان المحاولة المُستميتة لبلوغ الصورة الحقيقية للعبادة والتدين الصحيحين، فإذا توجب التوجه إلى يسوع بالعبادة، فهل يكون ذلك على أساس أنه الآب؟ أم أنه إله أقل من الآب مكانة؟ أم يتم إفراد الآب فقط بالعبادة؟ والإله الذي يُتوجه له بالعبادة هل هو خالق الكون أم أنه فرع آخر في هرم الآلهة؟ كلها إشكالات حاولت الجماعات المسيحية المبكرة أن تجد لها حلاً.

واحدة من هذه الإجابات فقط استطاعتْ أن تُمثل الرأي الرسمي الذي سينتصر ويسود بعد مجمع نيقية المُنعقد سنة 325، وهو ما تطرق إليه بارت إيرمان في الفصل التاسع: مفارقات الأرثوذكسية في الطريقة إلى نيقية من خلال بيان سياق انعقاد المجمع وطريقة الحسم في قانون الإيمان الأول، الذي تم فيه الانتهاء من رسم صورة يسوع الإله المُساوي للآب في الجوهر الأزلي والذي سيأتي في نهاية العالم ليُحاكم الأحياء والأموات، ويبدو جليا أن مسيح الإيمان كما هو مكتوب في قانون نيقية يُخالف تماماً بل ويتناقض مع صورة يسوع التاريخي.

ختاماً، كيف نستطيع تقييم حصيلة الفصول التسعة لكتاب بارت إيرمان داخل السياق الغربي؟ نستطيع القول إن الكتاب يكاد يخلو من أي إضافة نوعية فيما يخص جديد الأبحاث حول تأليه يسوع، وإشكالية البحث التي اشتغل عليها بارت إيرمان قد تم التطرق إليها بشكل أكثر دقة مما عرضه، ويُمكن الرجوع في هذا الباب للكتاب الأخير لـ: James D G Dunn[22] الصادر سنة 2010 وأيضا كتاب Larry W. Hurtado[23] الصادر سنة 2003 وكتاب [24]Wilhelm Bousset الصادر بالألمانية سنة 1913 والمُترجم للإنجليزية سنة 1970. غير أن الميزة الحقيقية لكتاب بارت إيرمان تتجلى في قدرته على نقل النقاش حول تاريخ المسيحية المبكر من داخل أسوار الجامعات إلى الرأي العام والمُجتمع بجميع فئاته ومرجعياته الفكرية. إن اللافت للانتباه في تتبع أثر الأبحاث الحديثة حول المسيحية على المجتمع الغربي في أوربا وأمريكا، أنها أبحاث تُخاطب فئات مُعينة لا تخرج عادة عن فئة الباحثين داخل الجامعات والمعاهد الأكاديمية، في حين يبقى التعليم اللاهوتي في معزل عن عرض هذه النتائج على المؤمنين سواء داخل المعاهد المُتخصصة في الدراسات اللاهوتية أو داخل الكنيسة، إلا إذا ما استثنينا بعض المُحاولات النادرة ككتاب الباحث الكاثوليكي ميير جون Meier P. John [25]. وفي هذا الإطار يذهب بارت إيرمان إلى أن حصر النشر في النطاق الأكاديمي يزيد من تعميق الفجوة بين الليبراليين والمحافظين، ويؤكد في أكثر من موضع من كتبه ومقالاته، أن نتائج البحث التاريخي في المسيحية لا تؤدي بالضرورة إلى نبذ الدين وتقويض العقائد المسيحية كما يُروج لذلك المُحافظون، بقدر ما أنها تكشف عن التعليم الأكثر أصالة ليسوع وأتباعه، وهذا التوجه هو ما جعل إيرمان يتوجه إلى إصدار كُتبه الثلاثة الأخيرة في واحدة من أكبر دور النشر في العالم HarperOne عوض نشرها كما هو الحال بالنسبة لكتبه الأولى في جامعة أوكسفورد، وذلك في مُحاولة للاستفادة من القوة الترويجية الهائلة التي تتمتع بها دور النشر الكبيرة، حتى تتمكن فكرة الكتاب من الوصول إلى أكبر عدد من القُراء[1]، وقد استطاع الكتاب كما سبق وأن أشرنا في المقدمة أن يحتل المراتب الأولى في لائحة نيويورك تايمز لأعلى الكتب مبيعا، غير أن هذا الجانب الإيجابي في توسيع دائرة القراء، يعود أحياناً على المؤلف ببعض السلبيات، كتبسيط لغة الكتاب والتناول السطحي لبعض القضايا الحساسة. ورغم ذلك تبقى فكرة الكتاب مثيرة للاهتمام ومُحفزة للقراءة لكل الباحثين في تاريخ المسيحية المُبكر والمُهتمين بالتطور التاريخي لصورة يسوع في القرون الأولى.
“استعادة نص موحد ليسوع هو أمر مستحيل”

David C. Parker

يحكي لنا العهد القديم بسفر الملوك الأول الإصحاح 13 كيف أن أحد الأنبياء (كذب) على نبي آخر مثله زاعماً أن الرب قد أوحي له بأمر عكس ما كان قد أوحاه نفس الرب سابقاً للنبي المخدوع:

13: 15 فقال له (النبي الكاذب) سر معي إلى البيت وكل خبزاً

13: 16 فقال (النبي المخدوع) لا أقدر أن أرجع معك ولا أدخل معك ولا آكل خبزاً ولا أشرب معك ماءً في هذا الموضع

13: 17 لأنه قيل لي بكلام الرب لا تأكل خبزاً ولا تشرب هناك ماءً ولا ترجع سائراً في الطريق الذي ذهبت فيه

13: 18 فقال له (النبي الكاذب) أنا أيضاً نبي مثلك وقد كلمني ملاك بكلام الرب قائلا ارجع به معك إلى بيتك فيأكل خبزاً ويشرب ماءً كذب عليه

ولأن سمة الأنبياء هي الصدق فيما يخبرونه عن الوحي فلم يشك النبي (المخدوع) للحظة في كلام النبي (الكاذب)، وكانت عاقبته أن قتله الأسد نتيجة لأنه (خالف كلام الرب) بناءً على تعليمات من النبي الكاذب الذى زعم كاذباً ان الرب نفسه هو من أمره بنقل تلك التعليمات !!.

فإذا كان السؤال المستفاد من تلك القصة هو: هل أنبياء الله بالكتاب المقدس قد يكذبون فيما يقولونه عن الله ؟!

فإن إجابة نفس هذا السؤال ليست بالضرورة مقصورة فقط على أنبياء العهد القديم بل هي في الحقيقة منصوص على حقيقتها جملة وتفصيلاً وبدون خلاف –يذكر – بين العلماء على كتبة العهد الجديد أيضاً.

الصلاة الربانية

الصلاة الربانية هي تلك الكلمات التي يذكر إنجيلي (متى) و(لوقا) أن المسيح علمها بنفسه للتلاميذ عندما طلب واحد من تلاميذه ذلك (لوقا 11-1)

وفقاً لترجمة الفاندايك فإن جواب يسوع على هذا الطلب وفقاً لروايتي (متى 6/9-13) و (لوقا 11/2-4) جاء متطابقاً:

أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك
ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض
خبزنا كفافنا أعطنا اليوم (لوقا: خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم)
واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا (لوقا: واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضاً نغفر لكل من يذنب إلينا)
ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير.
على أن رواية (متى) عكس (لوقا) تضيف بنهاية العدد 13 تسبيحة ختامية: (لأن لك الملك، والقوة، والمجد، إلى الأبد. آمين)[1].

للوهلة الأولى فإن القارئ سيلاحظ أن ألفاظ الصلاة متطابقة وواضحة وبالتالي لا أحد يملك أن يقولها بشكل مختلف لأن تلك الألفاظ على حد وصف البابا شنودة الثالث: ((أما الصلاة الربية ، فلا نملك أن نغيرها. لقد علمنا الرب أن نقولها هكذا، باسم الجماعة.[2]))[3]

ولأن البابا شنودة ولا السائل عاصر يسوع وهو يقول تلك الكلمات ولأننا لا نملك أي مصادر أخري غير الأناجيل لألفاظ الصلاة الربانية فإنه لا ضير أن نعيد صياغة المقطع الأخير من الجملة السابقة ليكون ((لقد علمنا الرب أن نقولها هكذا وفقاً لما نقله لنا متى ولوقا من قوله بأنها تنطق باسم الجماعة))

ومع الإيمان المسيحي بالوحى وشهادة العيان لـ (متى) و(لوقا)[4] وتطابق الألفاظ فإن القارئ سيحمل جزم البابا شنودة بكل ثقة.

لكن ماذا لو أن رواية وألفاظ (متى) فعلاً تختلف مع رواية وألفاظ (لوقا) ؟!

نص الصلاة الربانية

نظرياً فإن أقدم الشواهد لألفاظ الصلاة الربانية تأتينا من كتابات آباء الكنيسة حيث القرن الثاني والثالث والقديس (أوريجانوس) الذي يذكر في كتابه عن الصلاة الربانية اختلاف صيغتي الصلاة بإنجيلي (متى) و (لوقا):[5]

الصلاة وفقاً لرواية متى الصلاة وفقاً لرواية لوقا
أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمكليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض
خبزنا كفافنا أعطنا اليوم

واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا

ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير.

الآب، ليتقدس اسمكليأت ملكوتك.
خبزنا اليومي أعطنا كل يوم

وأغفر لنا ذنوبنا لأننا أيضاً نغفر لكل من يُذنب إلينا

ولا تدخلنا في تجربة.

هذا النقل من قبل القديس (أوريجانوس) للصلاة الربانية المعروفة وقتها في كنيسته يعطى لنا صورة مبسطة عن الاختلافات اللفظية لصيغة الصلاة التي علمها يسوع لتلاميذه خلال القرون الأولى. من هذا النقل أيضاً يمكننا أن نرى أن تسبيحة (متى) بنهاية العدد 13 لم تكن معروفة سواء بإنجيل (متى) أو بإنجيل (لوقا) في ذلك الوقت، كذلك فإن رواية (لوقا) تظهر وبشكل ملحوظ أنها أقصر من رواية (متى)، ففي الوقت الذي يفتتح فيه (متى) الصلاة بـ(أبانا) فإن (لوقا) يقرأها فقط (الآب) مع حذفه لـ(الذي في السماوات)، كذلك فإن رواية (لوقا) لا تتضمن طلب (لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض) ، أيضاً فإن (لوقا) يقرأ (كل يوم) خلافاً لـ(متى) الذى يقول (اليوم)، وأخيراً فإن الصلاة الربانية بـ(لوقا) لا تتضمن (لكن نجنا من الشرير) و بالطبع كما أشرنا مسبقاً لا تتضمن التسبيحة (لأن لك الملك، والقوة، والمجد، إلى الأبد. آمين).

أما من الناحية العملية فإنه ينضم إلى شهادة (أوريجانوس) النظرية شهادة أقدم برديات العهد الجديد ألا وهي البردية بودمير 75 والتي يعود بها العلماء بشكل عام إلى ما بين العامين 175م- 225م، تلك البردية والمكتشفة عام 1952 تقدم أقدم صيغة معروفة للصلاة الربانية بالقرن الثاني والثالث بالإضافة للعديد من المخطوطات اليونانية والترجمات المختلفة والآباء الذين يدعمون تلك الرواية، والتي يمكننا بسطها للقارئ من خلال الجدول التالي:[6]

صيغة الصلاة الربانية برواية (لوقا) وفقاً للمخطوطات:
قراءه (الآب) بدلاً من (أبانا) Greek: P75 01 Β 1 22 57 130 372 700 1192* 1210 1342 1582 Version: Lat(aur Vg) Sy(S) Arm
Father: Org MarT Cyr Tert

حذف (الذي في السماوات) Greek: P75 01 Β L 1 22 57 130 372 443* 700 1192* 1210 1342 1582Version: Lat(aur Vg) Sy(S) Arm
Father: Org MarT Cyr Tert

حذف (لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض) Greek: P75 Β L 1 22 130 1192* 1210 1342 1582Version: Lat(g1 30 Vg) Sy(S C Diatessaron) Arm
Father: Org MarT Cyr Tert Aug

قراءة (كل يوم) بدلاً من (اليوم) كل المخطوطات بإنجيل (لوقا) تقرأ (كل يوم) عدا المخطوطات التالية تقرأ (اليوم):Greek: D 2 27 28 71 472 1009 1071 1195* 1242* 1458 2542 2713 L1761
Version: Lat(a aur b c e d f ff2 g1 i l r1 Vgmss) Sy(Htxt) Cob(b2mss) Aeth

Father: Aug Hil

حذف (لكن نجنا من الشرير) Greek: P75 01*-2 Β L 1 22 57 130 131 226* 237 242 426 372 700 1192* 1210 1342 1582 2193
Version: Lat(g1 Vg) Sy(S) Cob(sa bmss) Arm Geo

Father: Org MarT Cyr Tert Aug

حذف (لأن لك الملك، والقوة، والمجد، إلى الأبد. آمين). كل المخطوطات بإنجيل (لوقا) بلا إستثناء
نظراً لأن الطابع الأغلب لدى النساخ- بشكل عام[7]– وبهذه الحالة- بشكل خاص- هو إحداث التوازن والتناغم بين نصوص الأناجيل المختلفة أو ما يعرفه علماء النقد النصي باسم ((Harmonization، حتى أن العالم (جوردون في) يعترف بأنه لا يوجد أي مخطوط أو تقليد مخطوطي خالي من إحداث تلك التوازنات[8]، فإن قرار علماء النقد النصي كان مبنياً على أن قراءة (الفاندايك) والموجودة بأغلب المخطوطات اليونانية وغير اليونانية هي (تحريف أو فساد) تم بداعي إحداث توازن بين الصيغتين بإنجيلي (متى) و(لوقا)، أقر بذلك (بروس متزجر)[9] و(كورت ألاند)[10] و(فيليب كمفورت)[11] و(إيرمان بارت)[12] و(كليتون هاروب)[13] و(وليام وارين)[14] و(تشارلز وليام)[15] و(هارولد جرينلى)[16] و(ويلاند ويلكر)[17] و(واين كاندي)[18] و(فريدريك وايز)[19] و(ديفيد باركر)[20] و(اندرو بندسترا[21]( و(فينست تايلور)[22] و(روجر أومانسون)[23] والكثير والكثير غيرهم.

ولهذا فلا غرابة أن نجد أن الأغلبية الساحقة من الترجمات المختلفة والنسخ اليونانية النقدية تقرأ الصلاة الربانية بإنجيل (لوقا) بالصيغة القصيرة.

فمن الترجمات الإنجليزية: RSV. NRSV. ESV. NASB. NIV. TNIV. NEB. REB. NJB. NAB. NLT. HCSB. TEV. NET.

ومن الترجمات العربية: اليسوعية والمشتركة والبولسية والآباء الدومنيكان وبين قوسين بترجمة الحياة

ومن النسخ اليونانية النقدية: (جريسباخ) و(تريجليز) و(تشندورف) و(الفورد) و(ويستكوت وهورت) و(نستل ألاند) و(UBS) و(تاسكر) و(ألكسندر سوتير) و(جوزيف بوفر) و(فون سودن) و(هاينريك جوزيف فوجليز) و(أوغسطينوس ميرك) و(ماري جوزيف لاجرانج) و(برنارد وايس) و(هاينريك جريفين) و(مايكل هولمز) و(جورج كيلباتريك) وغيرهم. الأمر الذي لم يجد معه العالم الإنجليزي (ديفيد باركر) سوى التأكيد على أنه: ((اليوم فإن الجميع -عدا داعمي نص الأغلبية- يوافقون على أن القراءة الأقصر بـ (لوقا) هي الأفضل))[24]

وحي أم كذب

خلال القرون الأولى للفكر المسيحي فإن مفهوم الوحي لم يكن متبلوراً بالشكل الذي نعرفه الآن[25]، فمرجعية الوحي كانت تطلق على كل رأي أو فكرة يمكن أن تفيد في إيمان الكنيسة، فمثلاً نجد أن القديس اكليمنضس الروماني (القرن الأول) يعتبر نصيحته مدعومة من الروح القدس نظراً لأنها حازت على القبول والتطبيق من قبل سامعيها، فيقول في رسالته الأولي إلي كورنثوس 63/2 ما نصه: ((إنكم تبعثون فينا الفرح والسعادة، إذا أطعتم نصيحتنا التي نكتبها لكم بالروح القدس))[26]، الأمر ذاته نجده عند القديس أغناطيوس الأنطاكي (القرن الأول) في رسالته إلي فيلادلفيا :((فأنى أشهد لله أن اللحم لم يكشف لي ذلك، أن الروح يقول لا تفعلوا شيئاً بدون الأسقف واحتفظوا بأجسادكم كهياكل الله))[27]، لكن الأمر لم يكن متوقفاً على الآباء الرسل فقط بل أنه يمكن أن نجد آثاره أيضاً عند نساخ الكتاب المقدس أنفسهم، فيقول العالم (كورت ألاند) واصفاً فكر النساخ المسيحيين في القرون الأولى قائلاً: ((حتى بالنسبة للنساخ المتأخرين، فعلى سبيل المثال الفقرات الإزائية بالأناجيل كانت مألوفة لديهم فعمدوا إلى تكييف كل نص مع الآخر. كذلك فإنهم رأوا أنفسهم أحراراً في عمل تصحيحات بالنص، تحسينه من خلال معايير خاصة للتصحيح، سواء نحوية أو أسلوبية أو بشكل أكثر جوهرية. كل هذا كان حقيقة أيضاً خلال الفترة المبكرة، عندما لم يكن النص يتمتع بالشكل القانوني، خصوصاً وأن تلك الفترة الأكثر قدماً كان المسيحيون يعدون أنفسهم ممتلئين بالروح القدس))[28]، ورغم اختلافه مع نتيجة ذلك إلا أن العالم (آرثر باتزيا) يقر بنفس الحقيقة قائلاً: ((يجب علينا أن ندرك أن نص العهد الجديد كان (نصاً حياً) في عملية تطوير حرة، خصوصاً خلال القرنين الأول والثاني))[29]، إن هذه الفوضى من الوحي المقدس (الكاذب) خلال القرون الأولى لانتقال العهد الجديد تجعلنا نتساءل بشكل جدي عن حقيقة الوحي لدى كتبة الأناجيل أنفسهم !! فمع أخذ عمل (تاتيان) والمسمى (الدياطسرون) في الاعتبار والذي حاول فيه إخراج الإنجيل برواية واحدة فإن التاريخ المسيحي لا يخبرنا الكثير عن تعامل آباء القرن الأول والثاني مع اختلافات الروايات الإزائية بالأناجيل المختلفة اللهم إلا في شهادة لـ (أوريجانوس) القائلة:

((أنا لا ألومهم إذا كانوا في بعض الأحيان تعاملوا بحرية مع أشياء هي في نظر التاريخ حدثت بشكل مختلف، وقاموا بتغييرها لتأييد أهداف باطنة في رؤيتهم، كما لو كانوا يتكلمون عن شيء حصل في مكان ما وكأنه حصل في مكان آخر، وعن أمر حدث في زمن ما وكما لو أنه حدث في وقت آخر، ويدخلون بعض التغيرات من أنفسهم بطريقة ما فيما قيل فعلاً. كان قصدهم قول الحقيقة حيثما كان هذا ممكناً بشكل مادي وروحي، وفي حال استحالة ذلك كانوا يفضلون قول الوجه الروحي عن المادي. الحقيقة الروحية كانت غالباً تنقل بما يمكن للمرء أن يسميه الكذب المادي))[30]، تلك الشهادة الصادمة يجب أن نفهم واقعها بنفس واقع فهم النساخ للنص المنحدر من قبل هؤلاء الإنجيليين، أو كما يقول العالم (هولمت كوستر):

((حتى وعندما صارت المادة بشأن يسوع متاحة في الشكل النصي فإنهم كانوا أحراراً في التعديل والتغيير وفقاً للاحتياجات الحالية))[31]، ما يجب أن نفهمه إذاً أنه خلال تلك الحقبة الزمنية من عملية الانتقال النصي للعهد الجديد: هو أن أقوال يسوع مرت بعدة مراحل من الـ(الإفساد) المركب خلال عبورها من مرحلة الانتقال الشفهي وحتى تقنينها لتكون مكتوبة فكل القصص والأقوال عن يسوع: ((سردت واعيد سردها العديد من المرات قبل ان تصل مرقس أو أي من الإنجيلين من خلال المبشرين والمعلمين والمعوذين وصانعي المعجزات كل فرد من هؤلاء قد ترك علامة في قالب التقليد))[32]، فإذا كان من المعلوم لدي علماء المسيحية كافة قيام النساخ بعمليات (تحريف) من حذف وإضافة وتغيير لتلك الأقوال فإن كتبة العهد الجديد أنفسهم قد قاموا بنفس العمليات في مرحلة استخدامهم للمصادر الشفهية والمكتوبة عن يسوع، يمكننا تبسيط تلك الفترة بالشكل التالي:

فمع إقرار معظم علماء المسيحية أن (مرقس) كان مصدراً من مصادر الإنجيل لدى كلاً من (متى) و (لوقا)[33]، فإنه يجب علينا أن نتخيل قول العالم (ماثيو واليامز): ((على الرغم من اختلاف وسائل النساخ وكتبة الأناجيل، فإنه من المفترض هنا أن العديد من أنواع التغييرات التي تمت من قبل النساخ ربما تمت أيضاً من قبل (متى) إذا كان قد استخدم (مرقس) كمصدر عندما كان يؤلف إنجيله، أو من قبل (مرقس) لو كان استخدام نص (متي) كمصدر.))[34]، كذلك قيامهما: ((متي ولوقا سمحا لأنفسهما بحرية كبيرة في تعديل ملاحظات مرقس الزمنية والمكانية المتصلة بالقصص معاً))[35]، أو كما يقول العالم: (تشارلز وليام): ((تماماً كما قام (متى) و(لوقا) بتنقيح يونانية (مرقس) من خلال تلطيف الكلمات الخشنة أو الكلمات والمقاطع غير المألوفة، كذلك فإن النساخ عملوا في الأناجيل نفس الشيء)) [36]، وهو الأمر الذى شدد على خطورته العالم (جودون في) عندما نبه على أنه: ((يجب أن يكون المرء حذراً في عدم الافتراض التلقائي لما فعله الكتبة والنساخ))، نظراً لأن الكتبة -يقصد الإنجيليين- : ((في أغلب المواضع،.. يميلون إلى إعادة كتابة (مصادرهم) بدرجة متفاوتة من الدقة))[37]، في حين أن الميل الأعظم للنساخ هو: ((جعل الفقرات متناسقة من بعضها))[38]، وذلك لأن عمل الكتبة قد اكتسب الصيغة القانونية والروحية بالكنيسة في حين أن مرحلة عمل النساخ بعد هذا التقنين لعمل الكتبة هو التغلب على معوقات فهم البعض للفظ (الوحي) في ضوء الاختلاف الواقع بتلك الصيغ القانونية من خلال (التنسيق) بين فقراتها.[39]

فإذا كانت الصلاة الربانية بألفاظها الحقيقية أو حتى (المحرفة) جزءاً من التقليد الشفهي أو التقليد المكتوب في مصادر ضائعة (Q)[40]، ومع رفض أغلب العلماء لنظرية المواقف المختلفة[41]، فإن تفسير رواية (لوقا) القصيرة يعد أمراً صعباً للغاية[42]، لأنه بإثبات اختلاف صيغة (لوقا) عن صيغة (متى) كما بينا من قبل، فإن هذا يعنى أن أحدهما قد أعاد كتابة صيغة الصلاة التي بين يديه أو أن هذا الأمر قد تم من قبل (كليهما) وذلك لأغراض وأهداف معينه[43]، ومن ثم بعدما أخذت الكتابات الإنجيلية مكانتها بالقرن الثاني بدء النساخ في عملية (التنسيق) بين تلك الصيغ المختلفة ظهرت حينها صيغة (لوقا) الطويلة لتتناسب مع صيغة (متى) وذلك لحل مشكلة الاختلاف بينهما، بل وفى بعض المواضع بـ (لوقا) تمت عملية (التنسيق) مع الصيغة المستخدمة شفهياً عند البعض كما هو الحال في إضافة قراءة (ليحل الروح القدس علينا ويطهرنا) ببعض المخطوطات والآباء[44]، أو حتى بإضافة صيغة التعميد بنهاية صيغة (متى).[45]

الخلاصة

مما سبق نستنتج أنه إذا كان واقع الإنجيليين في التعامل مع مصادرهم هو كما يقول يقول العالم (دانيال والاس):

((الحقيقة أن الإنجيلين ليسوا كالنساخ. كل واحد فيهم لديه شيئاً من منظروه الخاص يساهم به في القصة وبالتأكيد لم يعدوا أنفسهم كنساخ لإنجيل (مرقس). (متى) له أسلوبه في الكتابة بالإضافة إلى دوافع معينة، والتي تختلف عن التي لدي (لوقا). كل إنجيلي يُظهر نمطاً واضحاً في تقديمهم للأناجيل.))[46]

فإنه لن يكون صادماً للبعض التفكير في كل المواضع الأخرى التي قام الإنجيليين بإدخال فكرهم وأسلوبهم في كلمات يسوع نفسها:

فعلى سبيل المثال عندما علم يسوع بوجود أمه وإخوته ماذا كان رده:

هل قال وفقاً لرواية (مرقس): لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي

أم أنه قال وفقاً لرواية (متي): لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي

أم أنه أجاب بشكل أبسط وفقاً لراوية (لوقا): أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها

وبالمثل ماذا كانت رؤية (بطرس) حرفياً ليسوع:

هل هي كما قال (مرقس): أنت المسيح

أم أن الأمر كان أكثر توسعاً كما هو في رواية (متى): أنت هو المسيح ابن الله الحي

أم أن الوصف ببساطة كما هي عادة (لوقا): مسيح الله

لماذا كان كل هذا الاهتمام لدى الإنجيليين بتعديل كلمات أصحاب القصص بأناجيلهم ؟!، للحد الذي جعل الكثير من العلماء يقرون بأنه: ((عندما قام كتبة العهد الجديد باستخدام أقوال يسوع لم تكن هناك حاجه الى كلمات يسوع حرفياً، بدون شك كلمات يسوع الحرفية موجودة بالعهد الجديد لكنها ليست بالضرورة في كل المواضع))[47]، مشددين على أنه: ((لا توجد جملة واحدة يمكننا ان نؤكد انها تتضمن كلمات يسوع الحرفية …))[48]، وذلك لأنه: ((الاختلافات في سرد نفس الأقوال بالأناجيل المختلفة تكفي بمفردها لتأكيد ذلك))[49]، بل أن بعضهم أقر بأن من يطلب الحرفية في تلك الروايات يضع عصمة الأناجيل نفسها على المحك نظراً لأنهم يطالبون بدقة تفصيلية أكثر مما يمكن للإنجيليين أنفسهم ان يعطوها !![50]، الأمر إذاً قد لا يكون بتلك البساطة فإذا كنا في الأمثلة السابقة رأينا القصة من منظور ثلاثي فإنه ببعض المواضع قد يكون الأمر من منظور ثنائي فقط -فبالإضافة إلى مثالنا عن الصلاة الربانية- فإنه يمكننا أن نتساءل أيضاً عن كلمات يسوع، هل هي كما قال (متى):

10: 32 فكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضاً به قدام أبي الذي في السماوات

10: 33 ولكن من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السماوات

أم أن ما نطق به يسوع هو كما قال (لوقا):

12: 8 وأقول لكم كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الانسان قدام ملائكة الله

12: 9 ومن أنكرني قدام الناس ينكر قدام ملائكة الله

كذلك فإنه علينا ان نتدبر جيداً في وصف يسوع لإيمان تلاميذه عندما خافوا من الهلاك هل هو وفقاً لرواية (متي):

8: 26 فقال لهم: ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟

أم انه وصفهم كما نقل عنه (مرقس): 4: 40 وقال لهم: ما بالكم خائفين هكذا؟ كيف لا إيمان لكم

وبشكل أكثر تعقيداً فإنه ينبغي علينا أن نفتح مجال إدراكنا لصورة أكبر وأكثر عمقاً وتعقيداً، وأعني هنا مع استدعاء فكر الوحي (الزائف) وهاجس المسيحيين الأوائل- بما فيهم الإنجيليين أنفسهم- بالإضافة والحذف والتعديل في أقوال يسوع وفقاً لحاجتهم الاجتماعية او اللاهوتية، النظر كذلك إلى الأقوال ذات المنظور الواحد، لنتساءل هل قالها يسوع حرفياً أم أن الإنجيلي كعادته وكما فعل في معظم الأماكن قام بتعديل كلماته وربما أضاف عليها او حذف منها ؟![51]، وبالتالي فإن المرحلة الحالية ليست مرحلة النص الأصلي فحسب ولكنها مرحلة توثيق ما قبل هذا النص المكتوب الذى يمكننا الوصول إليه أم كما يقول العالم (إيرمان بارت): ((حتى لو استطاع العلماء النجاح في إعادة تكوين العهد الجديد، فإن هذا في حد ذاته ليس شهادة لحقيقة رسالته))[52]، الأمر إذاً ليس نوعاً من أقوال المشككين السفسطائية كما يزعم العالم (والاس)[53]، لكنه أمر نابع من نظريات عملية لعلماء مسيحيين والذين يقرون بحقيقة أن: ((كتبه الإنجيل لا يقدمون معلومات عن تعاليم يسوع التاريخي وإنما يوفرون معلومات مباشرة عن لاهوت الكنيسة الأولي))[54]!!، الأمر الذي سيبدو صادماً لمحبي البابا شنودة عندما يقرءون ما نقله العالم (أندرو بندسترا) عن أن معظم علماء المسيحية يقرون اليوم بأننا:

((نمتلك صوت (أو إحساس) يسوع في الصلاة الربانية لكنه من الصعوبة إن لم يكن من المستحيل استعادة كلمات يسوع حرفياً)) [55]

[مقال منشور في العدد الاول من مجلة الدراسات الدينية، ديسمبر 2014م – صفر 1436هـ]

[1] الأغلبية العظمي من علماء النقد النصي لا يقرون بصحة تلك التسبيحة (يراجع تعليقات متزجر النصية ص13-14)

[2] جاء هذا كرداً على سؤال من أحدهم للبابا حول إمكانية ان يقرأ صيغة الصلاة الربانية بصفة المفرد كأن يقول مثلاً (أبي الذى في السموات) بدلاً من (أبانا الذى ….).

[3] سنوات مع أسئلة الناس ج 8 ص88

[4] وذلك عند من يؤمن بأنه من الرسل السبعين وأنه شاهد يسوع وعاصر أقواله وأفعاله

[5] Origen, On Prayer 18.2

[6] يراجع: IGNTP Projects (Luke) & Swanson Projects (Luke & Matthew) & NA27-28 & UBS4th & Souter 1947 & Huck-Greeven13th

[7] The Implications of Textual Criticism for Understanding the ‘Original Text’, Tommy Wasserman, p90

[8] Studies in the Theory and Method Of New Testament Criticism, Eldon J. Epp & Gordon D. Fee, p175

[9] The Text of The New Testament 4th, Bruce M. Metzger , p262

[10] The Text of The New Testament, Aland and Aland, p309

[11] New Testament Text & Translation Commentary, Philip W. Comfort, p203

[12] Misquoting Jesus, Bart D. Ehrman, p97

[13] History of The New Testament in Plain Language, Clayton Harrop, p59

[14] The Reliability of The New Testament, Robert B. Stewart, p118

[15] Alterations to the Text of the Synoptic Gospels and Acts, C. S. C. Williams, p2

[16] A Student’s Guide to New Testament Textual Criticism, Harold Greenlee, p75

[17] A Textual Commentary on The Greek Gospels (Luke), Wieland Willker, p301-305

[18] Apologetic Discourse and the Scribal Tradition, Wayne C. Kannaday, p212

[19] The Gospel Traditions in The Second Century, William L. Petersen, p48-49

[20] The Living Text of the Gospels, D. C. Parker, p49-74

[21] The Original Form Of The Lord’s Prayer, Andrew J. Bandstra, CalvTJ 16 (1981), p15-37

[22] The Text of the New Testament – A short Intriduction, Vincent Taylor, p64

[23] A Textual Guide to the Greek New Testament, Roger L. Omanson, p130-131,

[24] The Living Text of the Gospels, D. C. Parker, p53

[25] يراجع مقال الكاتب: النقد النصي وأثره في تعريف الوحي والعصمة –الجريدة النقدية– العدد الأول ص59-80

[26] لعل هذا ما جعل اكليمنضس السكندري يعدها من الكتاب المقدس!!! (Strom iv.17)

[27] رسالة فيلادلفيا الفصل السابع الفقرات 2،1

[28] The Text of The New Testament, Aland and Aland, p69

[29] The making of the New Testament, Patzia, A. G., p135

[30] Origen, Commentary on John, 10:4

JBL v.113 N.2 p295 [31] Written Gospels´-or-Oral Tradition?, Helmut Koester,

[32] An Introduction To The Study Of The New Testament, A H McNeile, 2nd Rev, C S C Williams, p48

[33] لمزيد من الاستفاضة يراجع:

تكوين الأناجيل – الأب سيداروس اليسوعي – دار المشرق بيروت ص33

The Bible Knowledge Background Commentary, Craig A. Evans ,p18

[34] Two Gospels from One, Matthew C. Williams, p44

[35] An Introduction To The Study Of The New Testament, A H McNeile, 2nd Rev, C S C Williams, p47

[36] Alterations to the Text of the Synoptic Gospels and Acts, C. S. C. Williams, p3

[37] كلمة (مصادرهم) مضافة لتوضيح السياق

[38] Studies in the Theory and Method Of New Testament Criticism, Eldon J. Epp & Gordon D. Fee, p175

[39] What is The Best New Testament?, Ernest C. Colwell, p56

[40] Luke, Craig A. Evans, p476 – Matthew, Davies and Allison 1988, p591

[41] النظرية الاعتذارية والمقدمة من قبل (أوريجانوس) والتي تنص على ان يسوع علم الصلاة في مناسبتين مختلفتين وبالتالي فإن كل إنجيلي نقل كلمات كل مناسبة، تلك النظرية مرفوضة من قبل أغلب العلماء حتى ان العالم (رايموند براون) اعتبرها نظرية غير جديرة بالاهتمام وتمثل حلاً مستحيلاً لعلاقة الأناجيل الإزائية فضلاً عن أن تطبيقها يعنى ان التلاميذ قد نسوا تعاليم الصلاة ومن ثم طلبوا تعلمها مرة أخري !! ( The Pater Noster as an Eschatological Prayer, R.E.Brown,p220-n5 )

[42] Luke, Darrel L. Bock, p1045

[43] كثيرون من العلماء يرون ان (لوقا) صيغته أفضل وأقرب للأصل (المصدر الذى ينقل عنه) نظراً لأنه من الصعب تخيل إقدام (لوقا) على حذف أجزاء من الصلاة الربانية بدون أسباب واضحة إذا كانت موجودة أصلاً أمامه، في حين يرى البعض منهم ان صيغة (متى) أفضل لأن (لوقا) من عادته اختصار مصادره، خلافاً لذلك فإن هناك نظرية مغايرة تماماً تقول ان هذا الاختلاف كان في مصدرهما أصلاً وليس من فعل الإنجيلين أنفسهم !! (يراجع New Testament Theology, J. Jeremias, 1971, p195)

[44] من المخطوطات اليونانية: 700, 162 ومن آباء الكنيسة: القديس غريغوريوس النيسى والقديس مكسيموس المعترف والعلامة ترتليان (او ماركيون)

[45] من المخطوطات اليونانية: 2730, 2715, 2693s, 2452*, 1348, 1253, 1228, 1060, 1050, 931, 740, 513, 418, 310, 225

[46] Revisiting The Corruption of The New Testament, Daniel B. Wallace, p50

[47] The Meaning of Inerrancy, Paul Feinberg, p301

[48] An Introduction To The Study Of The New Testament, A H McNeile, 2nd Rev, C S C Williams, p462

[49] Ibid , p463

[50] Historical Criticism and the Evangelical, Grant R. Osborne, JETS42, p203

[51] واحد من أشهر الأمثلة هو نص التثليث الشهير (متى) 28: 19 والذى يستخدمه البعض في إثبات وحدة الثالوث!! هل قاله يسوع حقاً حرفياً أم أن (متى) عدل في كلمات المصدر الذي بين يديه لأهداف معينة؟! (Derickson, TMSJ14 2003, p94) أم ان يسوع لم يقل ذلك أصلاً وإنما قام الإنجيلي بتركيب الصيغة برمتها !! (Petersen, TC List, Jan 2003). ولماذا تلك الصيغة مختفية تماماً في نص (مرقس) الموازي (الذى يعتبره العلماء زائفاً) والذي يقول ان تعبير يسوع لفظه هو: (اذهبوا إلى العالم أجمع وأكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها)، كذلك إذا كانت تلك الكلمات الهامة قد نقلت حرفياً عند (متي) فلماذا لم ينقلها (لوقا) او (يوحنا)!! يمكننا أيضاً القياس على ذلك قول إنجيل يوحنا (10: 30) على لسان يسوع: (أنا والآب واحد)، متسائلين هل قالها يسوع حرفياً ام ان الإنجيلي نقل ما فهمه البعض من ان يسوع قد قاله ؟!!!

[52] A Historical Introduction to The Early Christian Writings, Bart D. Ehrman, p489

[53] The Case for The Real Jesus, Lee Strobel, p73

[54] What is Redaction Criticism?, N. Perrin, p69

[55] The Original Form Of The Lord’s Prayer, Andrew J. Bandstra, CalvTJ 16 (1981)
لقد اعتبر الفلاسفة اليونانيون الأخلاق فرعًا من فروع الفلسفة، وقد درسوا معظم القضايا الأخلاقية إن لم يكن جميعها، وكان لهم أكبر الأثر في الفلسفات اللاحقة بحيث يسهل علينا أن نرى بصماتهم واضحة في الفكر الفلسفي في العصور الوسطى والعصر الحديث، بل لا نكون مبالغين لو قلنا أن لكل نظرية فلسفية عامة أو أخلاقية خاصة ظهرت بعد العصر اليوناني جذورًا يونانية. وقد اهتم العقل الفلسفي منذ القدم بتحديد ماهية السعادة وعلاقتها بالأخلاق والفضيلة، ما دام كل إنسان يسعى إلى أن يكون سعيدًا، فهناك من الفلاسفة مَنْ فسرها بالعقل، وهناك مَنْ فسرها بالحس، وهناك مَنْ تصورها مطلقة، وهناك مَنْ جعلها نسبية فحسب.

لقد اقترن مفهوم السعادة بالأخلاقية لدى فلاسفة اليونان حتى صارت فلسفة الأخلاق عندهم فلسفة من أجل السعادة وتمثّلت أطروحتهم الأساسية في الربط بين السعادة والفضيلة. لقد اعتقد أفلاطون (427 – 347 ق.م)، بتحديد الفضائل الأربع أن استكمال السعادة هو أسمى تحقيق للطبيعة البشرية: فضيلة العقل هي الحكمة، فضيلة النفس النبيلة هي الشجاعة، فضيلة النفس الشهوانية هي الاعتدال، والفضيلة الرابعة هي العدالة بوصفها موحّدة للفضائل السابقة. ويرى أرسطو (384 – 322 ق.م) أن السعادة تقوم على نشاط يختص به الإنسان ولابد أن يتطابق مع العقل بمثل ما يتوافق مع الفضيلة. ويصعب أن تستمر سعادة هذا الكائن من دون رقابة العقل. وبالتالي فإن أفضل سبيل يتبعها هي سبيل الحذر والفطنة طالما أن سعادته لا تتأتي بمحض الصدفة وإنما بالسعي والتحصيل.

السعادة عند الفارابي (872 – 950م) مرتبطة بتصوره للتركيبة الإنسانية والنفس الإنسانية، والسعادة تكون عندما تسيطر النفس العاقلة (وفضيلتها الحكمة) على النفس الغضبية (وفضيلتها الشجاعة) والنفس الشهوانية (وفضيلتها العفة) فيصل الإنسان للسعادة.

القديس توما الأكويني الكاثوليكي (Saint Thomas Aquinas)([1]) مؤسس الاتجاه التجديدي بواسطة الأرسطية (أي المتصل بفلسفة أريسطوطاليس) في الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، استخدم العقل والنقل في إبراز المفاهيم اللاهوتية، ووظف الفلسفة لتوضيح هذه المفاهيم ومنها التبرير والخلاص والإيمان والمحبة والرجاء، وعلاقتهم بالسعادة الإنسانية.

ينطلق الأكويني من السؤال حول علاقة السعادة الإنسانية بالخيرات المعروضة في الحياة الدنيا كالغنى واللذة وغيرهما، فهل هذه الخيرات كافية لتحصيل السعادة؟

يجيب بأن الغنى مثلاً يستحيل أن يكون أساس قيام سعادة الإنسان، وقد قسّم الغنى إلى طبيعي وآخر صناعي، فالغنى الطبيعي هو ما يستعين به الإنسان على دفع النواقص الطبيعية كالمطعم والمشرب، والغنى الصناعي هو ما لا تستعين به الطبيعة في نفسه كالمال مثلاً. لأن الغنى الطبيعي إنما يُطلب تحصيله للقيام بحوائج طبيعة الإنسان، فهو ليس غاية الإنسان القصوى، بل الإنسان غاية له، ولهذا كان الغنى ونحوه أدنى في رتبة الطبيعة من الإنسان ومصنوعًا لأجله. أما الغنى الصناعي فيُطلب تحصيله لأجل الغنى الطبيعي. ومنه فمن غير المعقول أن تكون السعادة التي هي غاية الإنسان الكاملة والقصوى قائمة بالغنى([2]).

صحيح، لا توجد إلا غاية واحدة قصوى لجميع الناس، بالنظر إلى كون الذهن السليم يشتهي ويرغب في رؤية الغاية النهائية والكاملة، ولكن ما يصدق عليه هذا الذهن في الواقع فهو مختلف، لأن الناس لا يميلون إلى نفس الغاية القصوى، فبعضهم يبحثون عن الثروات كخير أسمى، والبعض الآخر يرونها في أي ذوق يكون مصدرًا للمتعة، وقد تكون عند الآخرين في حلاوة العسل أو ما يماثلها، كما قد يكون اللطف (Gratia) الإلهي عند بعضهم هو مصدر المتعة العليا. رغم أنه قد يكون هناك ذوقٌ أعلى ومتعة أكثر شهوة على الإطلاق، وهو الخير الذي نرغب فيه كغاية قصوى ومطلقة([3]).

كما يستحيل أيضًا قيام سعادة الإنسان عند الأكويني في خيرات البدن وفي اللذة، لأن الإنسان يفوق سائر الحيوانات بالسعادة، ولكن كثير من الحيوانات تفوقه بخيرات البدن، مثلما يفوقه الفيل بطول الحياة، والأسد بالشجاعة. أما اللذة فما هي إلا عرض خاص لاحق للسعادة، وليست جوهرها. يقول: «إنما يلتذّ ملتذّ بحصوله على خير ملائم له إما فعلاً أو رجاءً أو تذكرًا في الأقل، والخير الملائم إن كان كاملاً فهو سعادة الإنسان، أو ناقصًا فهو سعادة بالمشاركة قريبة أو بعيدة أو ظاهرية على الأقل. ومن ذلك يتضح أن اللذّة اللاحقة للخير الكامل أيضًا ليست ذات السعادة بل شيئًا لاحقًا لها كعرض ذاتي… يتضح أن الخير الملائم للبدن والصادر عنه اللذة البدنية بإدراك الحس، ليس بخير الإنسان الكامل».([4]) وهنا ينفي أن تكون لذات الجسم الحسية سبيلاً نحو السعادة. رغم أن سعادة الإنسان في هذه الحياة تحتاج بالضرورة إلى الجسم وأعضائه، ومنه خيرات هذا الجسم ولذّاته. أما السعادة الكاملة فهي لا تحتاج إلى وجود الجسم، والحجة في ذلك أن نفوس القديسين منفصلة عن أجسامهم نتيجة اتصالها بالله، فلا تحصل السعادة المنشودة قبل يوم البعث. وهكذا، فالسعادة الحقيقية لا تستدعي الجسم، فالنفس يمكنها أن تكون سعيدة دون الجسم وخيراته العضوية([5])، ومعنى ذلك وجود سعادة كاملة، وأخرى ناقصة تحصل في هذه الحياة.

لقد استبعد الأكويني أيضًا أن تكون غاية الإنسان القصوى هي النفس أو شيئًا فيها، لأن النفس في حد ذاتها موجودة بالقوة، لأنها من عالمة بالقوة تصير عالمة بالفعل، ومن فاضلة بالقوة تصير فاضلة بالفعل. وبما أن القوة لأجل الفعل من حيث هو كمالها، يستحيل أن يكون ما هو في نفسه بالقوة متضمنًا حقيقة الغاية القصوى. فلا يمكن أن تكون النفس غاية قصوى لذاتها، وكذا يستحيل ذلك في شيء فيها قوة كان أو فعلاً أو ملكة، لأن الخير الذي هو الغاية القصوى هو الخير الكامل المكمّل الشهوة، والشهوة الإنسانية التي هي الإرادة تتعلق بالخير الكلي، وكل خير في النفس فهو خير بالمشاركة، لذلك فإنه لا يعدو أن يكون مجرد خير جزئي([6]).

كما استبعد الأكويني خيرات جزئية أخرى كالمجد والسلطة والكرامة وغيرها، لأن نسبة المعلوم إلى العلم الإلهي ليست كنسبته إلى العلم الإنساني، فإن العلم الإنساني معلول للمعلومات، والعلم الإلهي علة لها، فلا يجوز أن يكون كمال الخير الإنساني والذي يقال له سعادة معلولاً للعلم الإنساني، بل العلم الإنساني يصدر على نحو ما عن السعادة الإنسانية في حال ابتدائها أو كمالها، ومن ثَمَّ لا يجوز أن تكون سعادة الإنسان قائمة بنباهة الشأن أو المجد، بل إن خير الإنسان يتوقف على معرفة الله توقف الشيء على علته، ومنه فسعادة الإنسان تتوقف على المجد الذي عند الله توقف المعلول على علته. وأيضًا فالعلم الإنساني يعرضه الخطأ فيكون مجده باطلاً، على خلاف المجد الإلهي الحقيقي مادام الله منزّهاً عن الخطأ. أما بالنسبة للسلطة، فيستحيل كذلك أن تقوم بها السعادة. أولاً لأن السلطة تتضمن حقيقة المبدأ، في حين أن السعادة تتضمن حقيقة الغاية. وثانيًا لأن السلطة يجوز تعلقها بالخير والشر، أما السعادة فهي خير الإنسان الحقيقي والكامل([7])، ويعني ذلك أن الأكويني ينفي أن يكون أي خير مادي أو نفعي هو الماهية الحقيقية للسعادة الإنسانية.

لذلك، يستحيل في نظره قيام هذه السعادة بخير مخلوق يقول: «فالسعادة هي الخير الكامل الذي تسكن عنده الشهوة بالكلية، وإلا لم يكن هو الغاية القصوى إن بقي وراءه مطمحٌ للشهوة. وموضوع الإرادة التي هي الشهوة الإنسانية هو الخير الكلي، كما أن موضوع العقل هو الحق الكلي. ومن ذلك يتضح أن إرادة الإنسان لا يمكن أن تسكن إلا عند الخير الكلي، وهذا ليس يوجد في مخلوق بل في الله وحده، لأن كل مخلوق خيّر بالمشاركة، فإذاً ليس يقدر أن يشبع إرادة الإنسان إلا الله وحده»([8]).

فالسعادة الحقة غير مرتبطة بأي خير مخلوق، بل هي الخير الأسمى المشبع بالشهوة، لأنه إذا كان هناك شيء آخر نرغب فيه فهو ليس غاية قصوى، باعتبار موضوع الإرادة الذي هو الشهوة الإنسانية فهو في الآن عينه الخير العام أو الكلي. فمن البديهي أنه لا شيء يُشبع إرادة الإنسان إذا لم يكن خيرًا كليًا، إنه الخير الذي لا يمكن أن يوجد في مخلوق ما، لأن كل مخلوق مرتبط بالخيرية والغبطة عن طريق المشاركة فقط، لذلك فإن الله هو الوحيد الذي يُشبع إرادة الإنسان، والذي يجد فيه سعادته الحقيقية([9]).

أليست السعادة إذن قائمة بمطالعة العلوم النظرية؟ لقد أجاب الأكويني بالنفي، لأن العلوم النظرية تحصل عن طريق الحواس، إنها سبيل نحو معرفة الوقائع الحسية التي لا يمكن للإنسان أن يجد فيها سعادته، كون هذه السعادة هي الكمال الأقصى، فالشيء الذي يحتوي على نسبة عالية من الكمال لا يحصل عليها عن طريق شيء أدنى منه، على أن علاقة الأدنى بالأعلى مجرد مشاركة فحسب([10]).

يرى الأكويني أن السعادة عند أرسطو (Aristotle) فعل صادر عن فضيلة كاملة، وقد عدّ الفضائل النظرية التي لم يذكر منها أرسطو إلا ثلاث وهي العلم والحكمة والفهم، وهي كلها ترجع إلى مطالعة العلوم النظرية. ولكن سعادة الإنسان عند الأكويني على ضربين: كاملة وناقصة، فالسعادة الكاملة هي الحقيقية، أما الناقصة فهي تشتمل على شبه جزئي بالسعادة، والمبادئ الأولى للعلوم النظرية إنما تُستفاد بالحس، وإدراك المحسوسات لا يجوز أن تقوم به سعادة الإنسان القصوى التي هي غاية كماله([11]).

لمّا رأى أرسطو أنه ليس لنا من معرفة في هذه الحياة سوى العلوم النظرية، قال بأن الإنسان لا يسعى إلى تحقيق السعادة الكاملة، بل إلى السعادة التي تلائم حاله. فيرى أرسطو أن هناك مَنْ يجعل السعادة تقوم على اللذة والفن وغيرهما، وهو لا ينكر أن هذه الخيرات الخارجية كاللذة والثروة والصحة والصداقة، تؤثر في فعل السعادة، لكنها تبقى مجرد وسائل تستعمل لتحقيق ما هو قائم بذاته، كما أن هذه الأنواع المختلفة للحياة لا نحبها لذاتها. لذلك يجب البحث عن الغاية القصوى، وهي السعادة كغاية في ذاتها، وهي نشاط خاص بالجزء النفسي (النفس العاقلة)، لذا فهي فعل إنساني محض، أي أنها تقوم على الجزء الأسمى لوجودنا (العقل) أو ما هو إلهي فينا. فالسعادة إذن الخير الأسمى والكامل، والنهائي، إنها غاية كل الغايات، وكل الأفعال الممكنة للإنسان([12]).

لقد حدد أرسطو للنشاط الإنساني غاية هي السعادة، ووضع السعادة في الممارسة العليا للملكة البشرية العليا التي هي العقل، ومعروف أن العمل الأسمى للعقل هو التأمل الإلهي. وهنا يستعيد الأكويني هذه النظرية، إلا أنه يدخل عليها تحويرًا مهمًا، فبالنسبة لأرسطو يجب أن تتحقق السعادة في حدود الوجود الأرضي، أي في ظروف زائلة، ويجعل الأكويني تلك السعادة في متناول الجميع، ولكنه يحتفظ بها للآخرة، فتلك السعادة ستكون عنده أيضًا تأمل الله، بل ويسميها باللغة اللاهوتية بـ “الرؤية الطوباوية” أو “السعادوية”([13]).ولكن مبادئ العلوم النظرية عند الأكويني تُكتسب بالحس ثم بالتجريد والمماثلة، فلابد أن يكون كمال الإنسان من جهة الموضوع المشترك للعقول جميعًا، وهو الوجود، وذلك بمعرفة موجود أعلى معرفة مباشرة([14]).

وهكذا؛ فإن السعادة الحقيقية عند الأكويني لا تقوم في الخيرات الجزئية السابقة، حيث يمكن إيراد أربع أدلة تثبت ذلك: الدليل الأول يتمثل في كون السعادة هي خير الإنسان الأقصى أو الأعظم الذي لا يتضمن أي شر، أما الخيرات السابقة فهي مشتركة بين الأشرار والأخيار. والدليل الثاني كون السعادة كافية بنفسها، بينما من حصل على إحدى الخيرات السابقة تفوته خيرات أخرى كثيرة ضرورية، كالحكمة والعافية وغيرها. والدليل الثالث أن السعادة هي الخير الكامل، حيث لا يجوز أن يصدر عنه شر لأحد، وهذا جائز في تلك الخيرات السابقة، كأن يُدخّر الغنى لمضرة مالكه. وما يقال على الغنى يقال على الخيرات الجزئية الأخرى. والدليل الرابع يتمثل في أن الإنسان يتوجه إلى السعادة بالمبادئ الداخلية توجّهًا بالطبع، أما هذه الخيرات السابقة فهي معلولة لعلل خارجة كالثروة، فهي خيرات الثروة([15]). يلزم عن ذلك استبعاد جميع الخيرات العاجلة الجزئية، وبالتالي فقوام السعادة الحقة مختلف عنها بالماهية.

الخلاصة

في الحقيقة؛ لا يمكن إطلاقًا أن نذكر فلسفة العصور الوسطى إلا بأن نخصص مساحة كبيرة للقديس توما الأكويني (1225 – 1274)، لأنه تميَّز بحسٍّ نقدي لا نجده بالدرجة نفسها عند كل الفلاسفة الذين قبله في كل العصور الوسطى المسيحية، لأنه نقد أكثر الاتجاهات التي قبله، فوقف على قمة العصر.

يهدف كل سلوك إنساني أخلاقي أو فاضل عند القدّيس توما الأكويني إلى تحقيق السعادة، والتي لا علاقة لها بالخيرات المعروضة في الحياة الدنيا كالغنى، وخيرات البدن، والمجد والسلطة وغيرها، كونها خيرات جزئية. السعادة هي الخير الكلي الكامل الذي يسعى الإنسان إلى تحقيقه بوصفه كائنًا عاقلاً ومريدًا، لأنها تتمثل في تأمل العقل للحقيقة.

مقال منشور في العدد الثالث من المجلة

الهوامش:

([1]) عن حياته، راجع: الموسوعة العربية العالمية: رئيس التحرير أحمد مهدي الشويخات، أعمال الموسوعة، الإصدار الرقمي 2004. عن مؤلفاته، انظر: ميخائيل ضومط، توما الأكويني: دراسة ومختارات.- بيروت: المكتبة الشرقية، 1956. (ص 146).

([2]) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية/ ترجمة: الخوري بولس عواد.- بيروت: المطبعة الأدبية، 1891. (ج3/ ص 183-184).

([3]) Saint Thomas d’Aquin: Sur le bonheur, textes introduits, traduits et annotés par Ruedi Imbach, Ide Fouche, Librairie philosophique, J. Vrin, Paris, 2005, p 61.

([4]) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، (ج3/ ص 190، 199).

([5]) Saint Thomas d’Aquin: Sur le bonheur, textes introduits, traduits et annotés par ruedi imbach, ide fouche, librairie, philosophique, j.vrin, paris, 2005, pp 89, 91.

([6]) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، (ج3/ ص 195-196).

([7]) المصدر نفسه، (ج3/ ص 187-189).

([8]) المصدر نفسه، (ج3/ ص 197-198).

([9]) Saint Thomas d’Aquin: Sur le bonheur, p. 69.

([10]) Op.cit., pp. 81, 83.

([11]) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، (ج3/ ص 210-211).

([12]) Aristote: Éthique à nécomaque, traduction, barthélemy saint hilaire, librairie générale française, 1992, pp 42, 70.

([13]) إدوار جونو، الفلسفة الوسيطية/ ترجمة: علي زيعور.- بيروت: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، 1982. ص 136.

([14]) يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط، ص 176-177.

([15]) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، (ج3/ ص 189
دراسات الآبائيات هي حقل معرفي يعني بدراسة المسيحية عن طريق آباء الكنيسة، وتسمى بالباترولوجي تعريباً لكلمة Patrology المشتقة من (Pater) في اللاتينية وتعني (أب)، يسعى الدارسون من خلال دراسة نصوص أولئك الآباء إلى تتبع تاريخ المسيحية من حيث النشأة والتطور، وتاريخ العقيدة واللاهوت المسيحيين منذ الكنيسة الأولى مروراً بالعصور الوسطى إلى الحديثة، في مختلف المناطق الجغرافية مثل منطقة الشام وسوريا، وفي مصر القبطية، وفي شمال أفريقيا وفي أوروبا الشرقية والغربية، وأيضاً في آسيا. وتسهم أيضاً دراسة الآباء في دراسة الكتاب المقدس من حيث النص – فاقتباسات الآباء الأوائل من الكتاب المقدس والعهد الجديد خاصة، تعد من أهم مصادر النقد النصي – ومن حيث التفسير وأيضاً في دراسة قانون العهد الجديد. كما تسهم دراسات آباء الكنيسة أيضاً في مجالات معرفية أخرى خارج المسيحية، كتاريخ الفكر بشكل عام وفي دراسة تاريخ العصور القديمة والوسطى وفي دراسة الفلسفة خاصة، أغسطينوس وتوما الأكويني، وفي دراسة عصور النهضة وفي العلوم السياسة نظراً للصراع في العصور الوسطى بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة. ربما تساهم أيضاً نصوص الآباء في الدراسات اللغوية حيث توفر مادة مكتوبة كبيرة ومتنوعة بلغات شرقية وأوروبية عدة مثل القبطية والسيريانية والجورجية واللاتينية واليونانية.

نصوص الآباء في لغاتها الأصلية:
تعد أهم مجموعات نصوص الآباء في لغاتها الأصلية هي مجموعة Acta Sanctorum في 68 مجلداً، يُرتَب فيها القديسون المسيحيون حسب يوم الاحتفال بكل منهم، نُشر أول مجلداتها عام 1943م وآخر مجلد عام 1794م.

أما المجموعة الثانية، وهي تعد أكمل المجموعات بالرغم من احتوائها على كثير من الأخطاء المطبعية، هي مجموعة Patrologiae cursus completes أو (الأعمال الكاملة للآباء)، أشرف عليها جاك بول ماين Jacques-Paul Migne، واستغرق تجميعها 14 عاماً منذ 1841م وحتى 1855م.

تنقسم المجموعة إلى قسمين، الأول: Patrolrogia Latina وبها كتابات الآباء اللاتينية، وتتكون من 221 مجلداً، ويرمز إليها اختصاراً بــــ (PL). والقسم الثاني يحتوي على مجموعة كتابات الآباء اليونانية، ويتكون من 159 جزءاً، ويرمز إليه اختصاراً بــــ (PG).

هناك أيضاً مجموعة مهمة وهي Patrologia Orientalis وتحتوي على عدد كبير من كتابات الآباء الشرقيين بلغات عدة، مثل العربية، السيريانية، السلافية، الجورجية، الأرمينية، والقبطية. حررها ريني جرافان René Graffin وفرنسوا نو François Nau، وخرجت في 49 مجلداً في الفترة بين 1904م و1984م.

أهم الترجمات الإنجليزية لنصوص الآباء:
تعتبر أهم مجموعة لنصوص الآباء باللغة الإنجليزية هي مجموعة: A Library of the Nicene and Post-Nicene Fathers of the Christian Church (مكتبة مختارة من كتابات آباء مجمع نيقية وما بعده)، وقد حررتها دار نشر T&T Clarck وأوكلت الإشراف على السلسلة الأولى منها إلى فيليب شاف Philip Schaff، والسلسلة الثانية إلى هنري ويس Henry Wace، كل سلسلة مكونة من 14 مجلداً، نشر أول مجلداتها عام 1886م وآخرها عام 1900م.

ومعها مجموعة آباء ما قبل نيقية، وقد صدرت أولاً باسم Ante-Nicene Christian Library (مكتبة الكتابات المسيحية السابقة لمجمع نيقية)، بتحرير ألكساندر روبرتس Alexander Roberts وجيمس دونالدسون James Donaldson، في الفترة ما بين 1867م و1873م، ثم أعاد الأسقف كليفلاند A. Cleveland Coxe نشر نسخة مراجعة منها عام 1885م، باسم The Ante-Nicene Fathers (آباء ما قبل مجمع نيقية).

من مجموعة الترجمات الإنجليزية المهمة الأخرى نجد مجموعة Library of the Fathers (مكتبة الآباء)، نشرها جون هنري باركر John Henry Parker وحررها إدوارد بوزي Edward Bouverie Pusey، وخرجت في 50 مجلداً في الفترة بين 1838م و1881م، لكن البعض عاب عليها الميول الكاثوليكية للترجمة.

من المجموعات الحديثة مجموعة Ancient Christian Writers (كُتَّاب المسيحية الأوائل) في 65 مجلداً لدار Paulist Press، وتنقسم إلى أربع مجموعات: مجموعة ما قبل نيقية، مجموعة عصر مجمع نيقية، مجموعة ما بعد مجمع نيقية، ومجموعة كتابات القديس أغسطينوس.

نصوص الآباء بالترجمات العربية:
تعتبر أشمل وأهم سلسلة للنصوص الآبائية باللغة العربية هي تلك الصادرة عن المركز الأرثوذوكسي للدراسات الآبائية، التابع لمؤسسة القديس أنطونيوس، نشرت أول أعدادها عام 1961، واستمر المركز في إصدار المزيد من الترجمات لنصوص الآباء حتى اليوم، مصدراً ما مجموعه 191 كتاباً.

هناك أيضاً سلسلة أقدم النصوص المسيحية من منشورات المكتبة البولسية، وخرجت في ستة سلاسل مقسمة تقسيماً موضوعياً: (سلسلة النصوص اللاهوتية: 6 أجزاء، سلسلة النصوص الليتورجية: 7 أجزاء، سلسلة النصوص النسكية: 3 أجزاء، سلسلة النصوص التقيظية: جزء، سلسلة النصوص الدفاعية: جزء، سلسلة نصوص متنوعة: جزء.)

أيضاً سلسلة آباء الكنيسة، وبها أيضاً كتابات عدد من آباء الكنيسة القبطية، ترجمها وأعدها أنطون جورج فهمي، نشر: كنيسة مار مرقس والبابا بطرس، عام 1992، وبها 35 مجلداً.

هناك أيضاً عددا من الترجمات المتفرقة لبعض كتابات الآباء مثل:

الخلاصة اللاهوتية، 5 أجزاء، بولس عواد، المطبعة الأدبية، 1908.
أوريجانوس الرد على كلسس، مرقص داوود، مكتبة المحبة.

تاريخ الكنيسة، يوسابيوس، مرقص داوود، مكتبة المحبة.

نصوص مختارة من كتابات العلامة ترتليان، ترجمة: راهب من دير أنبا أنطونيوس، مكتبة مارجرجرس سبورتنج، 2014.

مقالات القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة، ترجمة: الراهب القمص مرقريوس الأنبا بيشوي، مكتبة النسر، 2008.

مدينة الله للقديس أغسطينوس، 3 مجلدات، نقله إلى العربية: الخور أسقف يوحنا الحلو، دار المشرق، بيروت، 2006.

في اللاهوت غريغوريوس النزينزي، ترجمة: الراهب القمص مرقريوس الأنبا بيشوي، مكتبة النسر، 2008.

تجسد الكلمة للقديس كيرلس الإسكندري، ترجمة: ريمون يوسف رزق، المركز الثقافي القبطي الأرثوذوكسي.

الآباء الرسوليون:
نظراً للأهمية الخاصة لآباء الكنيسة أفضل عرض ما يخصهم من نصوص ودراسات بشكل منفصل.

مقدمة

يطلق لقب الآباء الرسوليين على مجموعة من الأشخاص يفترض أنهم كانوا على معرفة ما بالرسل لكن لم يكونوا منهم. أصل هذا المصطلح كان ’آباء العصر الرسولي‘، أطلقه للمرة الأولى المؤرخ الفرنسي كوتلييه J. B. Cotelier على أعمال خمسة من الآباء عام 1672. احتوى كتابه على أعمال كل من برناباس، إكليمنضس الروماني، هرماس، إغناطيوس وبوليكاربوس. أصدر وليام ويك William Wake عام 1693 ترجمة إنجليزية للعديد من الوثائق تحت عنوان: “الرسائل الأصلية للآباء الرسوليين. The Genuine Epistles of the Apostolical Fathers” ثم جرت العادة فيما بعد على إضافة الرسالة إلى ديوجنيتوس مجهولة الكاتب إلى هذه المجموعة، بقايا كتابات بابياس (كان ذلك بعد عام 1883 حين صدرت أول ترجمة كاملة لها) والديداخي المسماة في المخطوطة تعليم الرب للأمم من خلال الرسل الاثني عشر.

مجموعة كتابات الآباء الرسوليين باللغة اليونانية

صدرت، نسخة يونانية نقدية، من ضمن سلسلة Loeb Classical Library، أحد أكمل وأهم مكاتب الكلاسيكيات على الإطلاق، وقد صدرت في مجلدين بعنوان The Apostolic Fathers، حررها العالم الكبير كيرسوب ليك Kirsopp Lake، عام 1912/1913م.

هناك نسخة أيضاً للنص اللاتيني مصحوب بترجمة إنجليزية حررها وترجمها مايكل هولمز Michael Holmes، بعنوان The Apostolic Fathers: Greek Texts and English Translations، عام 2007.

وأيضاً هناك نسخة مميزة للعالم لايتفوت J.B. Lightfoot، بعنوان: Apostolic Fathers in Greek and English، وخرجت في مجلدين، يحتويان على النص اليوناني مصحوباً بترجمة إنجليزية لكتابات الآباء الرسوليين.

مجموعات كتابات الآباء الرسوليين المترجمة إلى الإنجليزية

صدر أيضاً من ضمن سلسلة Loeb Classical Library، نسخة إنجليزية لكتابات الآباء الرسوليين، ترجمها وعلق عليها العالم الشهير بارت إيرمان Bart Ehrman، بعنوان The Apostolic Fathers، في مجلدين عامي 2003 و2005، وهي تعتبر أفضل النسخ الإنجليزية لترجمات الآباء الرسوليين.

مجموعات كتابات الآباء الرسوليين المترجمة إلى العربية

ترجمت كتابات الآباء الرسوليين ضمن سلسلة، الكتابات المسيحية الأصلية في السنوات المائة الأولى بعد العهد الجديد باللغة اليونانية والعربية، في سلسلة خاصة بعنوان: الآباء الرسوليون من 5 أجزاء، صادرة عن دار النشر الأسقفية، في الفترة بين 2011 و2015، وقد أوردت النص اليوناني الذي حرره مايكل هولمز Michael Holmes والذي ذكرناه مسبقاً، أما الترجمة إلى العربية فاعتمدوا على الترجمة الإنجليزية من الكتاب نفسه.

الدراسات الآبائية (الباترولوجي)

المراجع الإنجليزية:

رغم قدمها (1950م) تعد سلسلة Patrology لأستاذ الآبائيات الأبرز يوهان قواستن Johannes Quasten، التي أصدرها في أربعة مجلدات: (أ. من قانون الإيمان الرسولي حتى إيرينيئوس ب. كتابات ما قبل نيقية التالية لإيرينيئوس ج. من مجمع نيقية وحتى مجمع خلقيدونية د. العصر الذهبي للكتابات الآبائية اليونانية من مجمع نيقية وحتى مجمع خلقيدونية ه. العصر الذهبي للكتابات الآبائية اللاتينية من مجمع نيقية وحتى مجمع خلقيدونية) أهم الدراسات الآبائية فقد دشنت عصراً جديداً لتلك الدراسات ولا يخلو أي عمل لاحق من الاعتماد عليها.

أما العمل القديم أيضاً والذي لا يقل أهمية، وهو مرجع أساسي لكل ما كتب عن الآباء في القرن الماضي هو كتاب Patrology: the lives and works of the fathers of the church (الباترولوجي: حياة وأعمال آباء الكنيسة)، لكل من أوتو وشاهان Otto & Shahan، 1908. وفيه تحليل عميق ومفصل لعدد كبير جداً من الآباء، وجميع ما استخدم من مراجع ومصادر متاحة الآن على الشبكة وهو ما يسهل عمل أي باحث يريد التوسع في دراسة أي أب من المذكورين في هذا المجلد القيم.

من ضمن المراجع الشاملة والمهمة أيضاً كتيب الباترولوجي A Hand book of Patrology لـــــ Tixeront، 1923.

من الكتابات الحديثة هناك الدراسة المميزة التي نشرتها دار نشر جامعة كامبريدج، لكل من فرانسيس يونج، لويس أيريس وأندرو لوث، بعنوان: The Cambridge History of Early Christian Literature، عام 2004. وبها دراسات للآباء مصحوبة بشرح للسياقات التاريخية والثقافية لكل منهم.

وأيضاً المقدمة الشاملة The Fathers of the Church: A Comprehensive Introduction، لــــ Hubertus Drobnerترجمها للإنجليزية Siegfried Schatzmann، وقد وسعها وحدث ببليوغرافياتها كل من William Harmless, SJ, & Hubertus Drobner ، وصدرت عام 2007. وتجد فيها مقدمة لكل أب مع ببليوغرافيا مكثفة.

الدراسات الآبائية العربية
تادرس يعقوب ملطي، نظرة شاملة لعلم الباترولوجي، 2008

مقدمة مختصرة لعلم الباترولوجي مع عرض وجيز جداً لعدد وافر من الآباء يعبر فيه الكاتب بشكل واضح عن أرثوذوكسيته في نظرته للآباء.
عادل فرج عبد المسيح، موسوعة آباء الكنيسة، 3 أجزاء، دار الثقافة

وهي دراسة أشمل وأوسع مدعمة بصور وخرائط وجداول وخالية من الدوغمائية في التعرض للآباء وبالتالي هي أفضل بكثير من مقدمة تادرس يعقوب ملطي.
أسد رستم، آباء الكنيسة، منشورات المكتبة البولسية، 1990

من أفضل ما كتب بالعربية. دراسة شاملة لعدد كبير من الآباء بمنهجية علمية معهودة عن الدكتور أسد رستم، ومزودة بعدد ضخم من المراجع الأجنبية المفيدة بلا شك لأي باحث يريد التوسع في دراساته.
أحد رهبان دير أنبا مقاريوس، دراسات في آباء الكنيسة، دار مجلة مرقص، 1999

دراسة مختصرة لعدد من آباء الكنيسة وبينهم عدد من آباء الكنيسة القبطية
حنا جرجس الخضري، تاريخ الفكر المسيحي، 3 مجلدات

من أهم ما كتب بالعربية في دراسات الفكر المسيحي، فهي دراسة ماتعة للفكر المسيحي يناقش فيها مواضيع وجوانب متعددة من الفكر المسيحي والفكر الآبائي.
كيرلس سليم بسطرس (مطران)، حنا الفاخوري (أب)، جوزيف العبسي البولسي (أب)، تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، منشورات المكتبة البولسية، 2001

دراسة قيمة واسعة تقدم دراسة لكل أب من آباء الكنيسة مع مختارات من كتاباته ومعتمدة على عدد كبير من المراجع الأجبنية.
د. نصحي عبد الشهيد (باترولوجيا Patrologia)، مدخل إلى علم الآباء، مؤسسة القديس أنطونيوس، 2000.

تحتوي على مقدمة لعلم الآباء، وسرد لأهم الكتابات الآبائية وأهم الترجمات الإنجليزية والفرنسية، مع عرض لبعض كتابات الآباء.

الآباء والعهد الجديد
الآباء ونص العهد الجديد

بجانب المخطوطات اليونانية واللاتينية والمخطوطات باللغات الشرقية للعهد الجديد، تعد كتابات الآباء من أهم مصادر دراسة نص العهد الجديد وانتقاله وقانونيته.

أهم الأعمال التي تناولت دراسة علاقة الآباء بنص العهد الجديد هو الكتاب الصادر عن جمعية أوكسفورد للتاريخ اللاهوتي، بعنوان The New Testament in the Apostolic Fathers (الكتاب المقدس عند الآباء الرسوليين)، عام 1905. في ذلك المجلد الذي أعده لجنة من أبرز علماء الدراسات الكتابية، تجد كل فقرة من كتابات الآباء الرسوليين تشير أو يُعتقد أنها تشير إلى أي من نصوص العهد الجديد، مصحوبة بنصها اليوناني، مع تحليل لكل فقرة وعرض لمعرفة كل أب بالعهد الجديد بشكل عام. وتقيم كل إشارة إلى نصوص العهد الجديد برمز (A, B, C,D)، فالرمز A يعني أن الفقرة الآبائية مقتبسة من العهد الجديد بلا أدنى شك؛ بينما D يعني أن النص لا يمكن اعتباره اقتباساً من العهد الجديد لشدة عدم وضوح الصلة بينهم.

بعد مائة عام من إصدار هذا العمل (2005) أصدرت أوكسفورد مجلداً آخر، بعنوان: The reception Of the New Testament in Apostolic Fathers (استقبال العهد الجديد عند آباء الكنيسة)، وشارك فيه عدد كبير من علماء الكتاب المقدس، قدموا دراسات وتحليلات عميقة للعلاقة بين نص العهد الجديد وكتابات الآباء الرسوليين، مستفيدين من كل التطورات التي طرأت على علم الدراسات الكتابية في تلك السنوات المائة.

من أهم المواقع الإلكترونية النافعة في معرفة الاقتباسات الآبائية من العهد الجديد:

نجد سلسلة e-catena، التي تحتوي على تجميع لكل الإشارات إلى العهد الجديد في كتابات آباء ما قبل نيقية: http://www.earlychristianwritings.com/e-catena/

أما الموقع الأهم فهو موقع فهرس الكتاب المقدس، أو Biblia Patristica (الكتاب المقدس الآبائي) http://www.biblindex.mom.fr/ ، فيمكن بعد التسجيل في الموقع، اختيار أي نص من الكتاب المقدس، ثم يخرج لك الموقع كل الاقتباسات الآبائية لهذا النص، يمكن تحديد نطاق البحث حسب التاريخ أو اللغة، أو غيره.

الآباء وتفسير العهد الجديد

من الدراسات المهمة نجد كتيب التفسيرات الآبائية Handbook of Patristic Exegesis، لتشارلز Kannengiesser, Charles، 2004. وفيه إشارة لكل التفسيرات الآبائية للكتاب المقدس.

من أهم مصادر التفاسير الآبائية هي سلسلة Ancient Christian Commentary on -script-ure (التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدس)، استخدمت التكنولوجيا الحديثة في جمع كل تفاسير الآباء لنصوص الكتاب المقدس، ثم تم تحريرها وجمعها وإضافة المقدمات والحواشي وخرجت في 29 مجلداً.
«أي تقليد يعتبر مزيفاً حتى تثبت صحته» (Richard T. France)

يحكي لنا الفيلسوف والمؤرخ البريطاني: برتراند راسل[1] كيف أن الخرافات كانت لديها المقدرة أن تنتشر بسرعة جداً كواقع تاريخي حقيقي بين المسيحيين المؤمنين إذا توافرت لها البيئة الصالحة لنموها ورعايتها وتعين سببها، ففي كتابة (الدين والعلم) يشرح لنا كيف أن الدوافع الاقتصادية كانت تستخدم من قِبَل الكنيسة للمتاجرة بمخلفات القديسين كمصدر دخل لها، ناقلاً تقليد إيمان الناس لقرون طويلة بقدرة عظام القديسة روزاليا المحفوظة فى باليرمو بإيطاليا على شفاء الأمراض قبل أن يكتشف أحد علماء التشريح أن تلك العظام ما هي إلا عظام ماعز ولا تمت للبشر بصلة[2] !!

هنا فإن (حاجة) المجتمع المسيحي في فترة ما كانت هى المحرك الرئيسي لنشأة التقليد الخرافة وتناقله، الأمر الذى أدى إلى ترسيخه كحقيقة وصار له كيان في التاريخ ولم يعد من السهولة إنكاره حتى ولو اكتشفنا أن أصله كان مبنياً على كذبة، وذلك لأن الخرافة لها المقدرة على التكيف نظراً للغتها الشفوية وتناقلها من فم إلى فم لذا فقد كان لدي تلك الخرافة القدرة الكافية للتضخم من فرد إلى اثنين إلى كل المجتمع[3]، حتى صارت الخرافة (حقيقة) تنتقل من جيل إلى جيل.

في بحثنا هذا سنرى باختصار أنه لا يختلف المجتمع المسيحي عبر عصوره عن التبلور الفكري والتاريخي حسب حاجة (المجتمع)، فإذا كانت لدى الكنيسة بتلك الفترة الرغبة في هالة دينية لها بعد اقتصادي خفي فإن الكنيسة الرئيسية القديمة والكنيسة الحديثة كانت لديها نفس الاحتياجات مع اختلاف الأبعاد والأسباب.


التقليد

يقول علماء المسيحية أن كلمة التقليد (Tradition) هي كلمة مأخوذة من الكلمة اللاتينية (Traditio) والتي هي في الأصل ترجمة للكلمة اليونانية (Paradosis)، ومعنى تلك الكلمة حرفياً هو: ما يتم تسليمه من شخص لشخص كما تُسلم العصا فى سباقات التتابع، أما الشيء الذي (يُقلد) فهو الشيء الذي سلمه الشخص للشخص الآخر.[4] وفقاً للعهد الجديد فإن التعاليم المسيحية كانت تنتقل في إطارين، الشفهي والكتابي، حيث يقول القديس بولس بالإصحاح الثاني من رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي ((فاثبتوا إذا أيها الإخوة وتمسكوا بالتعاليم التي تعلمتموها، سواء كان بالكلام أم برسالتنا))[5]، من هذا النص أيضاً فإنه بإمكاننا أن نتفهم طبيعة العلاقة المترابطة بين التقليد الشفهي والتقليد المكتوب.

فالتقليد الشفهي له حالتان فقط في العلاقة مع التقليد المكتوب:[6]

يمكن أن يتقاطع مع التقليد المكتوب في تفاصيل معينة لكنه ليس بالضرورة يجب أن يتداخل بشكل كلي مع التقليد المكتوب[7]
يمكن أن يتوازى التقليد الشفهي مع التقليد المكتوب بجانب بعضهما بدون أن يتداخلا أو يتماسا من الأساس
العلاقة الأولى: علاقة التداخل غير المتطابق:

TURKY 1

العلاقة الثانية: علاقة التوازي غير المتماس:

TURKY 2

التقليد الشفهي

التقليد الشفهي هو التعاليم والأقوال التي تناقلها المجتمع المسيحي خلال الفترة من بداية رحلة يسوع وحتى نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني.

ففي تلك الفترة تناقلت شفهياً أقوال يسوع وقصص أعماله ومعجزاته بين المسيحيين، مصدر هذا التقليد وفقاً لإيمان الكنيسة كان هو التلاميذ بعد يسوع نفسه، ورغم عدم توافر أي تقليد اليوم عن أي كرازة مادية أو أقوال منقولة عن معظم هؤلاء التلاميذ[8] وتأكيد العلماء على صعوبة قيام التلاميذ بعمل جلسات ومحاضرات دورية أو منظمة عن يسوع[9] إلا أن البعض يرى أن التقليد في تلك الفترة عُد هو المادة الخصبة التي اعتمد عليها مؤلفو الأناجيل الحالية في تجميع روايتهم عن حياة يسوع.

وجود هذا التقليد لم يكن حكراً على الكنيسة الرئيسية فالكنائس الأخرى والتي تعدها الكنيسة اليوم من الطوائف المهرطقة كالغنوصية كانت تعتبر أناجيلها أصلية لأنها تقدم التعليم السري عن حياة وتعاليم يسوع الذي تسلمته تلك الكنائس من التلاميذ أنفسهم.

لا يقتصر هنا التعقيد التاريخي في فهم هوية التقليد الشفهي في تلك الفترة على انقسامه بين الكنائس الأرثوذكسية والكنائس المهرطقة، وإنما يظهر التعقيد بشكل أكبر في الخلافات بين التقليد الشفهي بين الكنائس الأرثوذكسية نفسها، الأمر الذي جعل بعض علماء المسيحية اليوم يقرون بأنه: (( ليس من الممكن تاريخياً فهم نشأة تقليد المسيحيين الأوائل بالبدء مع وعظ الكنيسة الرئيسية ))[10]

فالدلائل التاريخية في كيفية التعامل الحر لكتبة الأناجيل مع مصادر أناجيلهم يشهد وبوضوح لفكرة التقليد الحر ذاته المتضمن لأقوال يسوع وأعماله. فهناك على الأقل دليل قوي على أن الكنيسة الرئيسية لم تتعامل مع التقليد المُسلم لها بصورة حرفية وإنما كان هناك سياقات تاريخية ومتطلبات مجتمعية ساهمت فى ظهور أشكال مختلفة من التقليد الشفهي، هذه الأشكال ليست بالضرورة هي اختلافات تكاملية ولكنها في حقيقة الأمر قد تظهر أنها تقاليد متضاربة. فما كانت تؤمن به كنيسة ليس بالضرورة أن يكون هو نفسه ما تؤمن به الكنيسة المجاورة. فضلاً عن أن التقليد الشفهي كان متاحاً للعامة يتناولونه شفهياً بدون أي قيود.

يمكن تحديد موثوقية التقليد الشفهي بالكنيسة الرئيسية من خلال مقارنة هذا التقليد مع الدراسات العلمية الحديثة فضلاً عن إيمان الكنيسة المتأخرة الحالية.

ففي بداية القرن الثاني[11] دَوَّن القديس (بابياس) أسقف كنيسة هيرابوليس أقوال وحياة يسوع المسيح المنقولة عبر التقليد الشفهي بخمسة مجلدات ضخمة زاعماً نقل تلك الأقوال من الصوت الحي للتلاميذ والآباء الرسل من بعدهم.[12] وبرغم أهمية عمل مثل هذا فى ذلك الزمن إلا أنه من الغرابة أن الكنيسة لم تهتم به بالشكل الكافي ليضيع أول تأريخ شفهي مسيحي ليسوع، حيث لم ينقل الآباء عنه بالمجمل إلا شذرات هنا وهناك مع تصريح أحدهم أنه (محدود الإدراك) !![13]

القيمة الحقيقية لشهادة (بابياس) هي كونه أول من شهد لنسبه كتاب الأناجيل – أو بعضهم- بالاسم، ومنه أخذت الكنيسة عبر عصورها شهادته كحقيقة.

حيث ينقل لنا المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري عن شهادة (بابياس) حول إنجيلي (متى) و(مرقس) قائلاً:[14]

إنجيل القديس (متى) : (( وهكذا كتب متى الأقوال الإلهية باللغة العبرانية، وفسرها[15] كل واحد على قدر استطاعته ))

إنجيل القديس (مرقس) : (( هذا ما يقوله القس أيضاً: أن مرقس إذ كان هو اللسان الناطق لبطرس كتب بدقة، ولو من غير ترتيب، كل ما تذكره عما قاله المسيح أو فعله، لأنه لا سمع للرب ولا اتبعه، ولكنه فيما بعد – كما قلت – اتبع بطرس الذى جعل تعاليمه مطابقة لاحتياجات سامعيه، دون أن يقصد بأن يجعل أحاديث الرب مرتبطة ببعضها. ولذلك لم يرتكب أي خطأ إذ كتب – على هذا الوجه – ما تذكره. لأنه كان يحرص على أمر واحد : أن لا يحذف شيئاً مما سمعه، وأن لا يقرر أي شيء خطأ ))

بأخذ هذا التقليد كقاعدة لمعرفة الكنيسة عن الإنجيل وبموازاتة مع التقاليد الأخري اللاحقة عليه عند الكنيسة الأولي يمكننا ان نستنتج مايلي:

تقليد الآباء عن الكنيسة الأولى الكنيسة المتأخرة وأقوال علماء المسيحية
إنجيل القديس (متي) · إنجيل (متي) كتب ونشر باللغة العبرانية من أجل اليهود المتنصرين.[16]· يشهد المؤرخ (يوسابيوس)[17] والقديس (جيروم)[18] أن الكنيسة حتى القرن الرابع لم تكن تعرف أي نسخة يونانية (رسمية) منسوبة لـ (متى) بل كان المعروف أن المترجم مجهول.[19]· وفقاً لشهادة العلامة (أوريجانوس) فإن تقليد الكنيسة الأولى كان ينص على أن إنجيل (متى) هو أول إنجيل كتب.[20] · القديس (متى) كتب إنجيله باللغة اليونانية.[21]· وحتي بفرض صحة أن الأصل كان (عبرانياً) فإن من قام بترجمته هو القديس (متى) نفسه.[22]


· الأغلبية الساحقة من العلماء وحتى الدارسين بالكنيسة القبطية يقولون بأن أول الأناجيل هو مرقس بل أن متى اعتمد عليه.[23]

إنجيل القديس (مرقس) · إنجيل (مرقس) هو ثالث الأناجيل المكتوبة بعد (متى) و (لوقا).[24]· تمت كتابته بروما،[25] وكتب باللغة اليونانية.[26]· (مرقس) كاتب الإنجيل كان مشهوراً في الكنيسة الأولى أنه لم يسمع يسوع ولا اتبعه.[27] · كل علماء اللغة يقرون بأن لغة (مرقس) تثبت أن تدوينه سبق تدوين إنجيلي (متى) و (لوقا).[28]· بعض العلماء يؤمن بأنه كتب باللاتينية[29] أو حتي بكليهما !![30]· (مرقس) كان من تلاميذ يسوع السبعين.[31]
من الجدول السابق إذاً يمكننا أن نرى أوجهاً لبعض الاختلافات الجزئية والكلية في تطور التقليد داخل الكنيسة عبر الزمان، فالكنيسة اليوم لا تعرف أي إنجيل عبراني للقديس (متى)، فهذا الإنجيل قد ضاع بشكل كامل على الرغم من شهادة الآباء – بنتينوس – من وجود تلك النسخة العبرية في الهند بنهايات القرن الثاني وأن من تركها هم الرسل أنفسهم !![32] ولا يختلف الأمر تعقيداً حتى في الإنجيل اليوناني فعلى الرغم من أن الشاهد الكنسي القديم غائب تماماً عن مصدرية الإنجيل اليوناني[33] مقارنة بقوة مصدرية التقليد عن أصولية الإنجيل العبري[34]، إلا أن علماء اليوم يقرون بأصوليته متجاهلين – أو في الحقيقة جاهلين- علاقة الإنجيل العبري بالإنجيل اليوناني ومقرين بعجزهم عن فك طلاسم تلك العلاقة.[35] لا تتوقف التعقيدات على تلك الاختلافات القديمة والحديثة وإنما كذلك في الاختلافات الداخلية بين التقاليد نفسها سواء القديمة أو الحديثة. فإنجيل (مرقس) وإن كانت إشارات الآباء تشير إلى كتابته بروما أو أي مكان آخر بإيطاليا فإنه هناك إشارات أخرى من الآباء أيضاً تشير إلى أن التقليد يقول بأن الإنجيل كتب بالطلب في مصر!![36] ليست الكنائس الجغرافية فحسب من تعيش في هذا التخبط وإنما قد نفاجأ بأن الكنيسة الواحدة نفسها تختلف في فاصل زمني لا يزيد عن بضعة سنوات فقط. فإذا كان العلامة (أوريجانوس)[37] قد صدر شهادته عن ترتيب تدوين الأناجيل كما نجدها الآن (متى – مرقس – لوقا – يوحنا) بقوله: ((عرفت من التقليد ))، فإن معلمة القديس (أكليمندس السكندري) في كتابه “وصف المناظر” قد قدم أيضاً تقليد التدوين عن الآباء الأولين بصورة مناقضة تماماً (متى – لوقا – مرقس – يوحنا).[38]

ولأنه تاريخياً لا مدخل لدينا لمعرفة العهد الجديد إلا من خلال هذه التقاليد فعلى القارئ ألا يُصدم إذا علم أن علماء الكنيسة المتأخرة قد ضربوا بكلا التقليدين عرض الحائط موضحين أن الأقدمية هي لإنجيل (مرقس)[39] وليس (متى) أو حتي (لوقا) حتى وإن كان: (( الرأي الغالب عند آباء الكنيسة هو أن إنجيل مرقس آخر ما كُتب من الأناجيل الثلاثة المتشابهة، )).[40]

تلك التناقضات المتضخمة للتقليد الشفهي[41] المُسلم بزعم الكنيسة من كتبة الأناجيل أنفسهم تجعلنا نتساءل عن الحقيقة التاريخية لعملية انتقال التقليد برمتها، فبوضع كل تلك التناقضات كخطوط عريضة لفهم انتقال التقليد الشفهي بالكنيسة في القرن الأول فإن حقيقة وجود: (( طائفية ومجهولية وتغييرات بهذا الوسيط جعلت من المستحيل تتبع تاريخ التقليد خلال هذا الانتقال ))[42]، وإذا وضعنا في أذهاننا قضية أن: (( التقاليد لم تُخترع من العدم، ولا بد أنها تتضمن بعضاً من الحقيقة الجوهرية. ))[43]، فإن هذا يقودنا بالضرورة إلى حقيقة أخرى تنص على أن التقليد الشفهي قد تم العبث به قبل أن يدخل الكنيسة في انتقاله من العامة أو حتى بعد دخوله الكنيسة في انتقاله إلى مرحلة التقليد المكتوب، بصورة أدق يمكننا إذاً أن نستعير هنا كلمات العالم: “واليام والكر” القائلة: (( تقليد الإنجيل المكتوب هو انعكاس لشكل يظهر كنتاج لعملية طويلة ومعقدة من الاختيار والانتقال وإعادة التفسير والتكييف والتحريف وحتى الاختراع[44] داخل الكنيسة .. ))[45]، لنتساءل هل تقاليد الكنيسة تعود للرسل حقاً أم أنها ذات جذور رسولية ولكن تم بلورتها وفقاً لاحتياجات الكنيسة أم أنها في النهاية تقاليد مزورة برمتها؟[46]

التقليد المكتوب

التقليد المكتوب هو تقليد العهد الجديد في صورته المكتوبة التي بين أيدينا اليوم. يخبرنا العلماء بأن قيمة الأناجيل في هذا النوع من التقليد من الناحية التاريخية هي: (( أناجيل العهد الجديد الأربعة هي تقريباً المصدر الوحيد لمعرفتنا بأعمال وتعاليم يسوع الأرضي. ))[47]، أما من الناحية الإيمانية هي: (( هذا يعني أنه ليس على المؤمن البسيط إلا أن يقبل الإنجيل كما تعلمه الكنيسة وحسب تفسيرها، ……… لأن من الكنيسة استلم الإنجيل وبالكنيسة يفهمه. )).[48]

فإذا كنا اليوم نتسلم الكتاب من الكنيسة فكيف تسلمت الكنيسة نفسها الكتاب بالأمس من الرسل ؟

الإجابة تاريخياً لا أحد يعرف ولا يوجد تقليد واحد يخبرنا كيف سلم الإنجيل للكنيسة ولا في أي زمن[49]، بل أن الشواهد التاريخية – كما بينا في التقليد الشفهي – تخبرنا أن الأناجيل لم تسلم إلى الكنيسة وإنما سلمت إلى العامة[50]، خلال فترة وجود النص المكتوب مع العامة وقبل انتقاله إلى سلطة النص المكتوب بالكنيسة الرئيسية وقعت بالنص العديد من التغييرات الهامة سواء أكان ذلك بتأثير مباشر من الكنيسة أو بدافع الاحتياجات المجتمعية.[51]

فعلى سبيل المثال: وفقاً لإنجيل (يوحنا) 21/24 فإن النص يقول: ((هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق))، إلا أنه وفقاً لتأصيل ما تحته خط فإن العالم “Andreas J. Kostenberger” يخبرنا بأن: (( الرؤية بأن يوحنا 21:24-25 وضعت من نفس اليد التي وضعت باقي الإنجيل وبالأخص الرسول يوحنا هي قرار الأقلية من علماء يوحنا المعاصرين. ))[52]، دلالات تلك الجملة أيضاً لا تقتصر فقط على الكاتب في ذلك الموضع ولكنها قد تمتد أيضاً إلى باقي أجزاء الإنجيل، فإذا كان يسوع قد أنهى كلامه قائلاً بـ14/31 ((قوموا ننطلق من ههنا)) فكيف تكون افتتاحية الإصحاح 15 هي استمرار لكلامه المنتهي بدون أي ربط بما سبق: ((أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرّام)) على أن يكون العدد الأول من الإصحاح 18 هو أقرب افتتاحية لنهاية الإصحاح 14.[53]

مثال آخر: وفقاً لإنجيل (متى) 27/ 52-53 فإن رواية الصلب تتضمن: ((والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين * وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين )) ، رغم أن هذا الحدث فريد من نوعه ومهم للغاية في تأصيل حادثة صلب يسوع تاريخياً إلا أن الغريب أنه لم يثبت أحد تلك الواقعة سوى (متى)، دلالات الكلمات المحددة تُظهر بعض النقاط الغريبة في تلك القصة: لماذا انتظرت الأجساد حتى قيامة يسوع نفسه وما هو تأثير (القبور تفتحت) و (ظهروا لكثيرين) على اليهود وأتباع يسوع نفسه والذي لم يظهر له أي أثر في الأعداد اللاحقة ؟![54]

هنا فإن التقليد المُسلم من الكاتب الأًصلي أعيدت صياغته مرة تلو أخرى ليتواءم مع متطلبات محددة في التاريخ المسيحي من قبل المسيحيين الأوائل، فكما يقول العالم البريطاني “ديفيد باركر”: (( التقاليد سردت وأعيد سردها، كتبت وأعيد كتابتها، في التقليد الشفهي وفي النسخ المتتابعة للنصوص ))[55]، وفي موضع آخر يقول: (( النص الحر يشير إلى أنه على الأقل بعض المسيحيين الأوائل كان الأكثر أهمية عندهم هو تسليم روح تعاليم يسوع أكثر من الحفاظ على حرفيتها )).[56]

تأثيرات تلك الجماعات المسيحية على النص المنقول من المرحلة الشفهية يتعذر اليوم تحديده فضلا عن إحصاء مداه، فإذا كان (مرقس) قد اعتمد في الأصل ليس فقط على التقليد الشفهي وإنما أيضاً على مواد مكتوبة من قبل تلك الجماعة كما يقر بذلك الخوري (بولس الفغالي) قائلاً: (( لم ينطلق من لا شيء بل استند إلى عمل سابق قامت به الجماعة المسيحية: تذكرت أقوال وأعمال يسوع، دونت أخباراً منعزلة وأقوالاً متفرقة، جمعتها وهكذا حصلنا على نصوص متناسقة. ))[57]، فإن الإنجيلي نفسه في طريقة استخدامه لتلك المواد لم يتقيد هو الآخر بحرفيتها شأنه شأن كل مكتوبات الأناجيل التي: (( لم تنتوِ الحفاظ على الحساب الدقيق للتقليد الشفهي لكنها عوضاً عبرت عن الاستجابة اللاهوتية للوضع الاجتماعي الجديد )لا توجد أي دلالة تاريخية توضح هوية “ترتيوس” الذي وصف بأنه “كاتب هذه الرسالة”[60]، هل هو كاتب الرسالة كسكرتير لـ(بولس) أم أنه مجرد ناسخ في الحلقة الوسيطة بين التقليد الشفهي والتقليد المكتوب لرسائل (بولس) والتي ينص أكثر من عالم على أنها شهدت: (( حدثت العديد من الأمور الهامة في الخمسين سنة بين كتابة الرسائل وإنتاجها كمجموعة ))[61]، وبما أنه: (( من المحتمل أن يكون عام 100 ميلادي هو عام تجميع ونشر رسائل بولس مجتمعة بفارق عن زمن كتابتها الأصلي يقدر بأربعين أو خمسين عاماً ))، فلا شك إذاً في أنه: (( مثل كل التقاليد للكتابات القديمة فإن “النموذج الأصلي” و”الأصل” لا يتطابقان ))[62]

الخاتمة

نأتي الآن للسؤال الأهم والذي يلخص نقاط البحث ألا وهو: ما هي طبيعة العلاقة بين المكتوب بين أيدينا والتقليد المؤسس لما هو مكتوب ؟

إن أبسط جواب على هذا السؤال هو أنه لا علاقة واضحة بين التقليد المكتوب والذي صار هو الأصل في التعبير عن التقليد بشكل عام بالكنيسة اليوم كما أقر القس (أنجيلو جرجس) القائل: (( لا يمكن أن يوجد شيء في التقليد ضد أي حرف في الإنجيل. فالإنجيل يعاش في التقليد والتقليد يؤكده الإنجيل. ))[63]، وبين التقليد الشفهي للكنيسة الأولى والذي يقول الآباء أن: (( كل التقاليد الموجودة في الكنيسة مستلمة من الرسل أو من المجامع )).[64]

فكما رأيناه في تحليل بعض التقاليد الشفهية الخاصة بالعهد الجديد فإن الآباء لم يستلموا تقاليدهم من الرسل بل إن الحقيقة هي كما قال الأب (متى المسكين) في رده لتقليد (بابياس) عن تلمذة (مرقس) الإنجيلي للتلميذ (بطرس): (( من هذه التحقيقات يتضح لنا أن كل المؤرخين القدامى أخذوا عن بابياس أخذاً أعمى دون تحقيق أو مضاهاة هذه الأقوال على واقع الإنجيل نفسه ))[65]، لكن هذا الرفض ليس بتلك البساطة لأنه: (( في استطاعتنا بالفعل، بعد الغربلة والتقييم، رفض مثل هذه التقاليد، ولكننا إن فعلنا هذا الأمر، فإننا سنتخبط في الظلام أكثر مما لو أننا أخذنا بها، ذلك أنه ليس لدينا غيرها مما يعود إلى مثل هذا الزمن المتناهي القدم كما أن التقليد المتأخر عنها زمنياً يتوافق على الأقل في خطوطه العريضة مع بابياس. ))[66]، وبالتالي فليس هناك من معنى لرفض تقليد الكنيسة بهذا الشأن وغيره سوي أن أصل هذا التقليد لم يكن الرسل أو التلاميذ وإنما هو من (اختراع) أحدهم !![67]

أما التقليد المكتوب فهو لا يقل تعقيداً عن التقليد الشفهي فمع غموض أصل ونشأة هذا التقليد سواء من ناحية الجمع والترتيب والنشر[68]، فإن العلماء اليوم لا يقولون فقط أن التقليد المكتوب الحالي يحمل: (( إشارة واضحة على التغييرات الجذرية والتطورات الجديدة ))[69]، وإنما يحمل أيضاً إشارات إلى أن الأحداث والأقوال التي به ليست بالضرورة تاريخية بل هي قصص: (( صيغت في مراحل مختلفة في تاريخ التقليد لتخدم احتياجات المجتمعات المسيحية )).[70]

فإذا وضعنا أعيننا صوب هذه التعقيدات والتي لا تستقيم مع قول الكنيسة اليوم: (( إننا نسمي “دائرة تأويلية” أن يجد الكتاب المقدس أساسه في الكنيسة وأن تجد الكنيسة أساسها في الكتاب المقدس ))[71]، فضلا عن إقرارها أيضاً بانقطاع علاقة ذلك الكتاب المكتوب بالتقليد الشفهي[72]، فإن أي حديث عن أنه: (( عن طريق التقليد فقط نستطيع أن نعرف أسفار الكتاب المقدس الحقيقية وعددها وأسماء كاتبيها وزمان كتابتها وتفاصيل ما جاء فيها. ))[73] ما هو إلا مجرد خدعة زائفة للعامة لأن الحقيقة أن تناقضات التقليد الشفهي وعلاقته المجهولة مع التقليد المكتوب لا تدع مجالاً لأي شك من أن:

(( نظرية التقليد الشفهي الأصلي الذي انتقل من تعاليم يسوع إلى التلاميذ ومن ثم إلى الكنيسة والعهد الجديد هي واحدة من أكثر الأخطاء خطورة في دراسات الكتاب المقدس. فبقبولها كتاريخ لكلمات وأفعال يسوع فإن العديد من الأقوال والقصص عنه تم اختراعها لاحقاً في الكنيسة المبكرة، تلك النظرية تسببت في كمية هائلة من سوء في تفسير الأناجيل القانونية وسوء فهم مأساوي في حياة يسوع وبدايات الكنيسة
برتراند أرثر ويليام راسل: فيلسوف وعالم منطق ورياضي ومؤرخ وناقد اجتماعي بريطاني حاز على جائزة نوبل للأدب عام 1950م قبل أن يتوفى عام 1970م

[2] الدين والعلم، برتراند راسل، ترجمة رمسيس عوض، ص78-79

[3] نقد النص التوراتي: التأريخ التوراتي المزيف، د. إسماعيل ناصر الصمادي، ص57

[4] هل الكتاب المقدس وحده يكفي؟ كلمات حول التقليد الكنسي، مراجعة وتقديم نيافة الأنبا رافائيل، ص13

[5] ترجمة الفاندايك

[6] يمكن إثبات هذا التقسيم من خلال قول كاتب إنجيل يوحنا نفسه: (( وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ. )) يوحنا 21/25 او (( وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هذَا الْكِتَابِ. )) يوحنا 20/30 ، الأمر الذي يعني أن المكتوب من تعاليم وأفعال يسوع لا يشمل كل التعاليم والأفعال المتناقلة بشكل شفهي ومعروفة لدى المجتمع المسيحي الأول أو على الأقل كاتب الرواية الإنجيلية.

[7] التقليد، القس أنجيلو جرجس، ص27

[8] خلال كتابات القرون الأولى فإن العلماء وجدوا بعض الأقوال المنسوبة ليسوع بكتابات الآباء ولكنهم لم يجدوا لها ما يوازي بالأناجيل القانونية وإن كان لبعضهم وجود بالأناجيل الأبوكريفا، تلك الأقوال تُسمى (Agrapha) وهي أقوال باقية من التقليد غير المكتوب ليسوع تم تناقلها لا شفهياً عبر الكنيسة ولكن كتابياً في كتب الآباء الرسل وقديسي الكنيسة من بعدهم !!، من أشهر هذه الأقوال مقولة (كونوا صيارفة ماهرين) والذي تعددت أوجه اقتباساته حتى تجاوزت الخمسين اقتباساً ما بين نسبتها ليسوع أو بولس وما بين نسبتها للتقليد المكتوب أو التقليد الشفهي. للمزيد يراجع (Hidden Sayings of Jesus, William Morrice, p169-170)

[9] Stephen H. Travis, “Form Criticism”, in “New Testament Interpretation: Essays on Principles and Methods”, p154

[10] Birger Gerhardsson, Memory and Manu-script-: Oral Tradition and Written Transmission, p324

[11] Papias of Hierapolis, ET v.117 n.8, p309

[12] (( 3- ولكنني لا أتردد أيضاً عن أن أضع أمامكم مع تفسيري كل ما تعلمته بحرص من المشايخ، وكل ما أتذكره بحرص، ضامناً صحته. لأنني لم ألتذ – كالكثيرين – بمن يتكلمون كثيراً، بل بمن يعلمون الحق. لم ألتذ بمن يقدمون وصايا غريبة، بل بمن يقدمون وصايا الرب للإيمان، الصادر من الحق نفسه. 4- وكلما أتى أحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم، عما قاله أندراوس أو بطرس، عما قاله فيلبس أو توما أو يعقوب أو يوحنا أو متى أو أي واحد آخر من تلاميذ الرب، أو عما قاله أريستيون أو القس يوحنا أو تلاميذ الرب. لأنني لا أعتقد أن ما أتحصل عليه من الكتب يفيدني بقدر ما يصل إلي من الصوت الحي، من الصوت الحي الدائم )) تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري، الكتاب الثالث ، الفصل 39 ، الفقرة 3-4 ، تعريب القمص مرقس داود، ص144

[13] تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري، الكتاب الثالث ، الفصل 39 ، الفقرة 13 ، تعريب القمص مرقس داود، ص146

[14] تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري، الكتاب الثالث ، الفصل 39 ، الفقرة 13 ، تعريب القمص مرقس داود، ص146

[15] أو ربما يمكن القول “وترجمها كل واحد على قدر استطاعته”, David L. Turner, Matthew, p15

[16] إيريناوس أسقف ليون، كتاب ضد الهرطقات، الكتاب الثالث، الفصل الأول

[17] (( مصطلح “السبت مساءً” راجع إلى مترجم الإنجيل، لأن الإنجيلي “متى” نشر إنجيله باللسان العبري، لكن الشخص الذي قدمة باللغة اليونانية غير ذلك. )) Eusebius, Quast. ad Marin. 2, iv

[18] في رسالته إلى سيدة تدعي هيديبيا قام بالرد على سؤالها حول اختلاف نصي إنجيل (متي) 28/1 وإنجيل (يوحنا) 20/1 قائلاً: (( يبدو لى أن نص إنجيل “متى” والذي كتب إنجيله بالعبرانية هو “عندما صار الوقت متأخراً” وليس “مساءً”، حيث قام المترجم والذي لم يكن على علم بالمعنى الحقيقي لتلك الكلمة بترجمتها “مساءً” بدلا من القول ” عندما صار الوقت متأخراً” )) – الرسالة رقم (120) إلى هيديبيا، إجابة السؤال الرابع، رسائل القديس جيروم

[19] Jerome, On Illustrious Men, Chapter III

[20] تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري، الكتاب السادس ، الفصل 25 ، الفقرة 4 ، تعريب القمص مرقس داود، ص274

[21] (( إنجيل متى في الحقيقة يعطي الانطباع بأنه غير مترجم بل كتب أصلا في اليونانية، )) دائرة المعارف الكتابية، نخبة من العلماء واللاهوتيين، ج1 ص455

[22] (( وكتب العهد الجديد باللغة اليونانية التي كانت سائدة وقتها – اليونانية القديمة – ما عدا إنجيل متى فهو كتب بالعبرية وترجمه القديس متى لليونانية أيضاً فأصبح العهد الجديد كله يوناني الأصل )) مقدمة عامة عن الكتاب المقدس، القمص بولس عطية بسليوس، ص7

[23] (( يوجد اتفاق عام الآن في أن إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل، وهذا الاتفاق في الوسط العلمي وأيضاً بين الدارسين في الكنيسة القبطية، )) المدخل إلى تفسير العهد الجديد، د. جورج فرج – باحث بالمركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية ودكتوراه في علوم اللاهوت من جامعة ستراسبرج، ص112

[24] تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري، الكتاب السادس ، الفصل 14 ، الفقرة 5 ، تعريب القمص مرقس داود، ص261

[25] Heard, The Old Gospel Prologues, JThS n.6 1955

[26] Thiessen, Introduction to The New Testament, p144

[27] (( والثاني مرقس مترجم بطرس الرسول وأول أسقف على الإسكندرية الذى نفسه لم ير المخلص ولكنه قص الأمور التي سمع معلمه يعظ بها )) التعليقات على إنجيل متى – مقدمة – القديس جيروم

[28] (( ولا ينكر عالم أن لغة إنجيل مرقس وأسلوبه في الكتابة يظهر أنه كتب قبل الإنجيلين الآخرين )) المدخل إلى العهد الجديد، الدكتور القس مرقس عزيز، ص243

[29] Burkitt, “Was The Gospel Of Mark Written in Latin?” , JTS 29 1927-1928: p375-381

[30] Hoskier, Codex B and its allies. A study and an indictment, p126

[31] (( جميع مؤرخي الأقباط في كافة عصورهم أجمعوا على أن مار مرقس كان من السبعين رسولاً الذين ذكرهم لوقا الإنجيلي (10: 1-12) )) ناظر الإله الإنجيلي: مرقس الرسول، الأنبا شنودة الثالث، ص15

[32] تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري، الكتاب الخامس ، الفصل 10 ، الفقرة 3 ، تعريب القمص مرقس داود، ص218

[33] David F. Bacon, Lives of the apostles of Jesus Christ, p369

[34] (( شهادة الآباء مقبولة لأنها تعكس التقليد الرسمي للقرن الثاني )) Schodde, “The Gospel of Matthew”, Inter, Stand. Bible Ency., p2010

[35] داِئرة المعارف الكتابية – نخبة من العلماء واللاهوتيين – الجزء الأول – حرف أ – إنجيل متي

[36] (( أيضاً “متى” يقال بأنه عندما أتى إليه من اليهود من كان يؤمن طلبوا منه أن يترك لهم مكتوباً بتلك الأمور، وبينما كان يتحدث إليهم بالكلام فإنه أيضاً جمع إنجيله فى اللغة العبرانية. “مرقس” أيضاً بـ”مصر” يقال أنه قام بنفس الشيء بناءً على التماس من التلاميذ )) عظات إنجيل متى، يوحنا ذهبي الفم، العظة الأولى – فقرة 7

[37] والذي قال عنه الأب “متى المسكين” أنه: (( لا يستهان بعلمه وتقاريره فكلها يأخذها جميع العلماء أخذ ثقة واحترام )) – تفسير إنجيل متى

[38] (( وفي نفس الكتب أيضاً يقدم اكليمنضس تقليد الآباء الأولين عن ترتيب الأناجيل على هذا الوجه التالي: فيقول أن الإنجيلين المتضمنين نسب المسيح كتبا أولا. )) تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري، الكتاب السادس ، الفصل 14 ، الفقرة 5 ، تعريب القمص مرقس داود، ص261

[39] R. T. Simpson, “The Major Agreements of The Matthew and Luke against Mark”, In The Two-Source Hypothesis ,p382

[40] المدخل إلى تفسير العهد الجديد، د. جورج فرج – باحث بالمركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية ودكتوراه في علوم اللاهوت من جامعة ستراسبرج، ص113

[41] (( نجد أن التقليد المنسوب للقديس بطرس بدأ ينمو ويُزاد عليه. والكلام يناقض بعضه، فالقول إن القديس مرقس كتب إنجيله فى حياة بطرس يناقض ما جاء فى إيرينيئوس والمقدمة ضد ماركيون )) تفسير إنجيل مرقس – الاب متى المسكين، ص49

[42] Barry W. Henaut, Oral Tradition and The Gospels, p15

[43] التفسير الحديث للكتاب المقدس، العهد الجديد – إنجيل مرقس – ، ص40

[44] أي اختراع تقاليد وأقوال وأعمال ليست لها حقيقة تاريخية.

[45] William O. Walker, “The Quest For The Historical Jesus”, in “The Historical Jesus – Critical Concepts”, v1 p401 – المائل مضاف للسياق

[46] إجابة هذا السؤال قد نجدها في مقولة: (( عزو أي من الأناجيل إلى مؤلفين من دائرة الاثني عشر ليس له سند تاريخي ))Markus Bockmuehl – Donald A. Hagner, The Written Gospel, p73

[47] E. Earle Ellis, “The Synoptic Gospels and History”, In “Authenticating The Actvities of Jesus”, p49

[48] التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي، الأب متى المسكين، ص62

[49] لعل أبسط الدلائل على هذا هو أن الكنيسة حتى تلك اللحظة لا تتفق على عام موحد لتاريخية كتابة أي من الأناجيل الأربعة.

[50] (( لما كرز بطرس بالكلمة جهاراً في روما … طلب كثيرون من الحاضرين إلى مرقس أن يدون أقواله، … وبعد أن كتب الإنجيل سلمه لمن طلبوه. )) – تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري، الكتاب السادس ، الفصل 14 ، الفقرة 6 ، تعريب القمص مرقس داود، ص262

[51] D. G. A. Calvert, “An Examination of The Criteria..”, in “The Historical Jesus – Critical Concepts”, v1 p427

[52] Andreas J. Kostenberger, “The Conclusion of John’s Gospel”, in ” The New Testament in Its First Century Setting”, p74-75

[53] ((قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون)) يوحنا 18/1

[54] Craig A. Evans, Matthew, p466-467

[55] David C. Parker, The Living Text of The Gospels, p179

[56] David C. Parker, -script-ure is Tradition, Theology 1991 94:11 , p15

[57] المدخل إلى الكتاب المقدس – الجزء الرابع -، الخوري بولس الفغالي, ص413-414

[58] Barry W. Henaut, Oral Tradition and The Gospels, p14

[59] أيمن تركي، الصلاة الربانية والكذب المقدس، مجلة الدراسات الدينية، العدد الأول، 2014م.

[60] رومية 16/22

[61] G. Zuntz, The Text Of the Epistles, p278

[62] Ibid, p14

[63] التقليد، القس أنجيلو جرجس، ص32

[64] المرجع السابق، ص40

[65] تفسير إنجيل مرقس، الأب متى المسكين، ص51

[66] التفسير الحديث للكتاب المقدس، العهد الجديد – إنجيل مرقس – ، ص30-31

[67] يلاحظ هنا ان الكنيسة الأولي لم تستطع تمييز التقليد الصحيح من التقليد المزيف

[68] (( نحن لا نمتلك أى دليل قديم يشهد لكيفية جمع الأناجيل ونشرها )) P. Perkins, Introduction to the Synoptic Gospels, p40

[69] Ernst Kasemann, “The Problem of The Historical Jesus”, in “The Historical Jesus – Critical Concepts”, v1 p137

[70] Arland J. Hultgren, Jesus and His Adversaries, p198

[71] مدخل إلى الكتاب المقدس، الأب سليم دكاش، ص35

[72] (( السيد المسيح كان يتحدث الآرامية وليس اليونانية التي كُتبت بها الأناجيل مما يجعلنا نستبعد فكرة التقليد الشفوي في تفسير التشابه اللغوي في الأناجيل المتشابهة. )) المدخل إلى تفسير العهد الجديد، د. جورج فرج، ص107
يَلْزَم الحديث عن المرأة اليهودية في الموروث الديني اليهودي الانطلاق من التوراة باعتبارها مصدر أحكام اليهود وتشريعاتهم. والدراسة هنا تتناول النص التوراتي المتداول بمعزل عن الطرح القائل بصحة أو بعدم صحة ما ورد فيه، سواء من الناحية التاريخية أو الدينية. كما أن الاستشهاد بنصوص من التلمود من شأنه أن يوضح بشكل جلي مكانة ووضعية هذه المرأة في العهود القديمة للديانة اليهودية، وهي المكانة التي خضعت في جانب كبير منها لفُهوم الحاخامات اليهود وتأويلاتهم.

تبدأ التوراة الحديث عن المرأة لأول مرة – كما يرى فيليب حداد – Philippe Haddad من خلال رواية الخلق”[2]. إذ نقرأ ما يلي: “فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم. فقال آدم: هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أخذت”[3].

وقد رأت العقيدة اليهودية في هذه الفواسيق (الآيات) مبرِّرا للتهجم على المرأة، واتهامها بالاعوجاج ، وبتلك المكانة الدنيا والهامشية مقارنة بالرجل، لكونها خلقت من ضلع آدم ليس إلا.

وهذا الطرح القائل بكون حواء/ المرأة خُلقت من ضلع آدم أقرَّه العديد من المفكرين، مثل ألكسندر روسAlexander Ross الذي يرى أن “حواء خُلقت من ضلع آدم الأيسر، وكان هذا الضلع بمثابة الجانب الأضعف. لذلك وُصفت المرأة بالضعف وبالدونية” [4]. ولعل أبرز مثال على دونية المرأة ما يأتي في الصلاة اليومية التي يتلوها الرجل، إذ يقول: “مبارك أنت يا رب لأنك لم تجعلني لا وثنيا، ولا امرأة، ولا جاهلا. بينما تقول المرأة في هذه الصلاة: “مبارك أنت يا رب الذي خلقتني بحسب مشيئتك” [5] .

والواقع أن نَعتُ المرأة بهذه الصفة (الضعف)، يتضح أكثر من خلال الإصحاح الثالث من سفر التكوين، حيث تُحَمِّل التوراة المرأة مسؤولية، بل خطيئة الأكل من الشجرة. فقد خلق الله آدم وحواء وأسكنهما الجنة، وسمح لهما بالأكل من ثمرها إلا الشجرة الموجودة في وسط الجنة، والتي يفضي الأكل منها إلى رُقِيِّ التفكير وانبثاق أغطية الجهل. لذلك نهاهما الله عن الأكل منها قائلا: “… هل أكلت (الخطاب موجه لآدم) من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟”[6]. فأجاب آدم: “المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت”[7]. فكان عقاب الرب لحواء- لأنها هي التي أغوت آدم- من خلال مخاطبتها: “تَكثِيرا أُكثِّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود علي”[8]. وهكذا عاقب الله حواء[9] عقابا ثلاثي الأبعاد: أن تلد بالألم، لكن في رأيي لا توجد امرأة لا تريد الولادة خوفا من الألم، وكذلك الاشتياق للرجل، وأخيرا سيادة هذا الأخير عليها.

فالتوراة – حسب هذا الإصحاح – تَعتَبِر المرأة جنسا هشا قابلا للإغواء. فقد أغوت آدم، فأكلا من الشجرة المحرمة عليهما. وكانت بذلك سببا في غضب الرب، وإخراجهما، بل كل الإنسانية من الجنة. المرأة إذن أساس الخطيئة، وأساس كل مصيبة. وبسببها دخل الموت العالم. ولهذا عاقبها الله عقابا ثلاثي الأبعاد: الولادة بالآلام والأوجاع، والاشتياق للرجل، ثم سيادته عليها.

وارتباطا بالولادة، وما يتصل بها من نجاسة، فرضت التوراة قوانين مشددة على المرأة الحائض والنفساء. وهي قوانين خاصة بالطهارة. ففي سفر اللاويين[10]، نجد أن المرأة الحائض محرمة على رجلها لمدة سبعة أيام. ونجاستها تلوث وتفسد الأشياء التي تجلس عليها. كما أن الرجل يصبح نجسا بمجرد ما يلامسها أو يمسك بالفراش الذي جلست عليه. هذه النجاسة تزول عن الرجل مع حلول المساء، كما أن الرجل الذي يجامع امرأة نجسة، يصبح هو الآخر نجسا لمدة سبعة أيام. وفي سفر اللاويين[11] أيضا، تكون المرأة نجسة بعد الولادة لمدة سبعة أيام في حالة ولادة مولود ذكر. وعليها أن تبقى ثلاثة وثلاثين يوما إضافية دون لمس أي شيء مقدس، أو تدخل أماكن مقدسة طوال هذه الفترة. وفي حالة ولادة الأنثى، تظل المرأة نجسة أربعة عشر يوما، ثم ستة وستين يوما إضافية، ما معناه ثمانين يوما على هذا الحال السابق. وهكذا “يصبح سن الإنجاب- كما ترى سوزان نيديتش Susan Niditch- شهادة على نجاسة المرأة. هذه النجاسة مصاحبة للحالات النفسية والبدنية التي تمر منها المرأة أثناء الحمل والولادة. وعلى هذا الأساس، تكون المرأة مصدر خطر وقوة ونجاسة كل شهر. نجاسة قد تنتشر، وتفسد كل شيء. جاعلة من الارتباط الديني بين الإنسان والله أمرا مستحيلا. ولهذا تبقى المرأة من وجهة نظر كهنوتية دون قيمة في أغلب مظاهر الحياة الدينية. وبعد كل هذا، هذه هي الثقافات التي تجعل من النساء القادرات على الإنجاب غير مؤهلات، وغير فاعلات في المجال الديني “[12].

وفي هذا الإطار، أشار سويلدر أيضا إلى أن “المرأة الحائض – ولتجنب أي تعامل معها – كانت تُنفى أحيانا إلى بيت يسمى »بيت الدناسة« طوال فترة المحيض”[13].

وحتى تتضح الصورة أكثر، أنتقل إلى عرض قصة من قصص النساء كما وردت في التوراة[14]، ثم محاولة استقراء ما تحمله من دلالات ومعان.

ففي سفر التكوين قرر أبرام – الذي سيصبح اسمه أبراهام فيما بعد- الهجرة إلى مصر مع زوجته ساراي بسبب المجاعة التي حدثت في فلسطين. وبعد عودتهما إلى فلسطين، لم تلد له بنينا لأنها كانت عاقرا. فقالت ساراي لأبرام: »هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة ، أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين«، فسمع أبرام لقول ساراي. فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان، وأعطتها لأبرام رجلها زوجة له. فدخل على هاجر فحبلت، ولما رأت أنها حبلت، صغرت مولاتها في عينيها”[15]. فهذا النص يصور المرأة كأنها شيء غير جدير بالتقدير والاحترام، وما عبارة “صغُرت مولاتها في عينيها “إلا دليل على ذلك. كما أن ساراي جعلت من هاجر وسيلة لتحقيق مصلحتها “لعلي أرزق منها بنين”، مما يتنافى مع العبارة السابقة “وأعطتها لأبرام زوجة له”. وحين ولدت هاجر إسماعيل، أذلتها ساراي، فهربت. فخاطبها الرب قائلا: “ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يديها”[16]، ولم يخاطبها باعتبارها زوجة أبرام. كما أن أبرام هو الآخر لم يعترف بهاجر كزوجة، حين خاطب ساراي: “هو ذا جاريتك في يدك، افعلي بها ما يحسن في عينيك”[17].

المرأة اليهودية في التلمود[18]

يوحي الاطلاع على فصول المشنا باعتبارها جزءً مهما من التلمود على وجود اختلاف في النظرة إلى النساء، من خلال الحديث عن بعض النساء المستقلات، وأخريات خاضعات. وهذا التقسيم أشارت إليه جوديث رومي ويكنر Judith.R.Wegner من خلال قولها إنه: “في الجانب الخاص بوضعية الأفراد، تقسم المشنا النساء إلى قسمين متناقضين: قسم خاضع، والآخر مستقل. وكل قسم يُقَسَّم هو الآخر إلى ثلاثة أجزاء ، تتحدد استنادا إلى طبيعة الرقابة الجنسية والوظيفة المفروضة على النساء”[19].

ومما لا شك فيه أن تقسيم النساء إلى هذين القسمين قد ارتكز على وضعيتهن الاجتماعية، وما يستتبع ذلك من حقوق وواجبات، ونظم الطهارة. وفي هذا الصدد أشار جاكوب نوسنرJacob Neusner إلى أن “الرؤية الاجتماعية لليهودية المشنوية تشمل قضايا النوع Gender ، والبنية الاجتماعية، والغنى، والتعاملات الخاصة، فضلا عن نظام الطبقات الاجتماعية”.[20]

وهكذا، فالنساء الخاضعات هن: “البنت القاصر، والزوجة، والأرملة التي يتزوجها أخو المتوفى. أما النساء المستقلات فهن: البنت المحررة، والمطلقة، والأرملة العادية. وحتى يتضح هذا التقسيم أُورِد هنا بعض نصوص المشنا[21] التي تُعَلِّل ازدواجية هذه الصورة: خضوع واستقلال، أو بالأحرى الصورة السلبية، والصورة الإيجابية اللتين رسمتهما المشنا عن المرأة.

وبخصوص الجوانب الإيجابية، تتمتع المرأة مثل الرجل، بالاستقلالية في مباشرة خطبتها أو تعيين من يمثلها: “يخطب الرجل بنفسه، أو بمبعوثه، وتخطب المرأة بنفسها، أو بمبعوثها”[22].

وإذا قرر الزوج تطليق زوجته بسبب شَكِّه في زناها، فالمشنا تفرض وجود دليلين أو شاهدين على ذلك: “ومن ارتاب بزوجته: يقول رابي أليعيزر: إنه يرتاب بها بشهادة اثنين. ويسقيها بشهادة واحد”[23]. فالنص المِشنوي هنا يمنح للمرأة قيمتها المعنوية حين يعترف لها بهذا الحق أثناء الزواج.

وحتى إن تم الطلاق، فبإمكان المرأة أن تطالب بتعويض عنه، أو عن التَّرَمُّل. ففي فصل كتوبوت: “فإذا آمت المرأة، أو طلقت، وقالت للورثة أو للزوج: »تزوجتني بكرا«. وقال الزوج لها: »ليس كذلك بل تزوجتك ثيبا«، فإذا كان ثمة شهود يشهدون أنها خرجت في تخت روان حاسرة الرأس، فإن صداقها مئتا دينار”[24]. كما أن المرأة تنوب عن زوجها في بيع سلعه: “ومن نَصَّب زوجته مديرة لحانوت، أو عَينها ناظرة وصية، فله الحق في تحليفها اليمين متى شاء. يقول رابي أليعيزر: »حتى على مغزلها، وعلى عجينها«”[25].

لكن إذا انتقلنا لاستكشاف تلك الصورة السلبية، والحديث عن المرأة الخاضعة، نجد أن أخ الزوج المتوفى يرث الوظيفة الجنسية لأرملة أخيه، التي لا يمكنها الزواج حسب رغبتها: “فُرض على أكبر زوج أن يتزوج أرملة أخيه، فإذا رفض، عـرض زواجـها على جمـيع الإخوة علـى التـوالي: فإذا رفـضـوا، أُعيد العرض إلى الأكبر، فيُقال له: »عليك فرض، فإما خلع النعل[26]، وإما الزواج بأرملة أخيك«”[27]. وبهذا الخصوص ترى باسكين أن “شخصية هذه الأرملة بمثابة تضحية لوظيفتها الاجتماعية الجنسية. ولهذا، فالنظام المشنوي يربط بشكل مطلق الهوية الاجتماعية للمرأة بامتلاك جنسانيتها”[28].

كما تلقى المرأة معارضة في المجال الديني من طرف العلماء، إذ يمنع عليها هؤلاء دراسة التوراة: “يقول الرابي أليعزر: »كل من علم بنته التوراة، فكأنه علمها الدعارة«”[29]. فحِرمان المرأة من دراسة التوراة يعني حرمانها من الرأسمال الرمزي الذي يُكسبها سلطة ونفعا ماديا ومعنويا، في مستوى معرفة الدين وأموره. فلكون التوراة تشريع لواجبات وحقوق المرأة، فإن دراسة المرأة لها يُكسبها معرفة بحقوقها. إلا أن الرِّبِّيين يَحرمونها من ذلك حتى لا تستفيد من تلك الحرية “السلبية” كلما فكَّرت في الطلاق أو الشقاق. لكن علماء التلمود لم يُفكروا في الجانب الإيجابي في تعلم المرأة وتفَقُّهها، والذي سيجعلها تُسهم إلى جانب الرجل في سيادة الشريعة السماوية، ونشرها واستعمالها لجلب المنفعة للفرد والأسرة والمجتمع.

وفضلا عن هذه الصورة التي تجعل من المرأة مقيدة الحرية وخاضعة، يمكن ذكر مسألة أخرى، وهي أن قانون المشنا لا يخول للزوجة تطليق زوجها. فهذا الأخير هو الذي يُخَوَّل له هذا الأمر، لأسباب تجعل من المرأة بشكل عام عنصرا خاضعا لا يُسمح له حتى بالتحدث بحرية داخل منزلها، أو التمتع بقسط من هذه الحرية في الشارع، مما يجعل من التساؤل حول سبب فرض هذا القانون على المرأة دون الرجل أمرا مشروعا. ففي فصل كتوبوت، تُطَلَّق المرأة “… إذا خرجت فارغة الرأس، أو غَزَلت في الشارع. أو تحدثت مع أي إنسان… يقول رابي طرفون: »وكذلك كانت امرأة عالها«. ومن العالة ؟ كل من تكلمت داخل بيتها فسمع جيرانها صوتها”[30].

يتبين إذن أن إقبال المرأة المتزوجة على إصدارها لصوت عال ولو من داخل منزلها، سَيُعرضِّها للطلاق بحكم النص التشريعي الآنف الذكر. وهذا يجعل من اليهودية الرِّبِّية تتحكم في جسد المرأة وتَحُد من أنشطتها التي تجعلها محصورة داخل المنزل فقط. فالمرأة الفاضلة حسب اليهودية الرِّبِّية هي التي تقوم بواجباتها العائلية، والطبيعية خاصة (الولادة) مع منع صارم للاتصال بالرجال.

مقال منشور في العدد الثاني من المجلة

الهوامش:

[1] – أستاذ اللغة العربية وطالب باحث بسلك الدكتوراه، تخصص مقارنة الأديان. جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس- فاس. المغرب.

Haddad Philippe, La Torah, Editions Eyrolles, 2010, p. 30-[2]

[3] – التكوين 2 / 21 – 23

[4]– Philips C . Almond, Adam and Eve in seventeenth centry thought, Cambridge University

press, 1999, p. 146

-[5] ورد هذا الدعاء في كتاب:- Leonard J. Swilder, Women in Judaism : The status of women in Formative Judaism. Metuchen, NJ: Scarecrow Press, 1976, p. 80- 81 .

[6] – التكوين 3 / 11

[7] – التكوين 3 / 12

[8] – التكوين 3 / 16

[9] – للإشارة فقد عاقب الله آدم أيضا حسب النص التوراتي، لكن ما يهمنا هنا هو التركيز على طبيعة العقاب التي أنزله الله على حواء.

[10] – اللاويون 15 / 19 – 24

[11] – اللاويون 12 / 1 – 5

[12]- Judith R. Baskin, Jewish Women in Historical Perspective, Wayne State University Press, 1998, p. 31.

[13]– Leonard J. Swilder, Women in Judaism : The status of women in Formative Judaism,

Metuchen, NJ: Scarecrow Press, 1976, p. 137.

[14] – قد يُلاحظ القارئ ركاكة في الأسلوب، ناتجة عن الترجمة العربية لنسخة التوراة التي اعتمدتها.

1- التكوين 16 / 1 – 4

[16] – التكوين 16 / 9

[17] – التكوين 16/ 6

[18] – في غياب النسخة العربية للتلمود، فقد اعتمدت بعضا من نصوصه من خلال النسخة الإنجليزية:

-Complete Talmud under the editorship of Rabbi. Dr. I . Epstein. B. A, Ph. D, D. lit – London

The Soncino Press, (1935 – 1948).

[19]– Judith R. Baskin, Jewish Women in Historical Perspective, By Wayne State University

Press ,1998, p. 75.

[20]– Jacob Neusner , An introduction to Judaism : a Textbook and Reader, West Minster John

Knox Press, 1991, p. 176.

[21] – اعتمدت الترجمة العربية للمشنا من خلال كتاب: حمدي النوباني، “المشنا ركن التلمود الأول، النظام الثالث، نظام النساء”، ترجمة إلى العربية نقلا عن الأصل لعبرية المشناه، القدس، 1987.

[22] – المشنا، قيدوشين، الفصل 2 : أ

[23] – صوطاه، الفصل 1 : أ

[24] – كتوبوت، الفصل 2 : أ

[25] – كوتوبوت، الفصل 9 : د

[26] – يتعلق الأمر بالطقوس التي يتخلص فيها المعني بالأمر بالزواج، من الأرملة بعد رفضه. إذ يذهب مع الشيوخ والمرأة إلى بوابة المدينة- وهي مكان المحاكمة القديم قبل إنشاء المحاكم- وأمام شيوخ المدينة تبصق الأرملة في وجه أخ الزوج، وهي بذلك تبدي احتقارها الشديد له؛ لأنه رفض أن يقوم بواجبه تجاهها وتجاه أخيه الميت. ثم تَخلع حذاءه، فيُدعى اسمه في إسرائيل: بيت مخلوع النعل.
مجلة الدراسات الدينية



#مهرائيل_هرمينا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تناقضات العهد الجديد المنقح27
- تناقضات العهد الجديد المنقح24
- تناقضات العهد الجديد المنقح25
- تناقضات العهد الجديد المنقح22
- تناقضات العهد الجديد المنقح23
- تناقضات العهد الجديد المنقح20
- تناقضات العهد الجديد المنقح21
- تناقضات العهد الجديد المنقح18
- تناقضات العهد الجديد المنقح19
- تناقضات العهد الجديد المنقح16
- تناقضات العهد الجديد المنقح17
- اسطورة العود الابدى ميرسيا الياد
- تناقضات العهد الجديد المنقح15
- تناقضات العهد الجديد المنقح13
- تناقضات العهد الجديد المنقح14
- تناقضات العهد الجديد المنقح11
- تناقضات العهد الجديد المنقح12
- تناقضات العهد الجديد المنقح9
- تناقضات العهد الجديد المنقح10
- تناقضات العهد الجديد المنقح8


المزيد.....




- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح26