أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح24















المزيد.....



تناقضات العهد الجديد المنقح24


مهرائيل هرمينا

الحوار المتمدن-العدد: 5409 - 2017 / 1 / 22 - 12:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إن أول المصادر الوثنيه التى تذكر المسيح فى أول مائة عام بعد المسيح هى :




أولا : بلنى الأصغر و قد ذكر أن هناك مسيحيين من مختلف الطبقات الاجتماعيه يعبدون المسيح كإله, إنه لم يذكر اسم "يسوع" نصا بل قال "المسيح" , و ذلك فى رسالته العاشره الى الامبراطور تراجان التى تؤرخ بعام 112 ميلاديه .





و يليه ثانيا : صديق بلنى الأصغر و هو المؤرخ الرومانى الشهير تاسيتوس مؤلف



" the annals of Rome ", أو الذى يتناول تاريخ روما , و قد ذكر قصة اتهام نيرو للمسيحيين بحرق روما و كان يكتب حوالى عام 115 و كان يحكى عن هذه القصه التى حدثت قبل ذلك بخمسين عام فى عهد نيرو حوالى عام 64 م ....ذكر فى كتابه " annals of Rome " فى الفصل الخامس عشر , أن المسيح قد أعدم بواسطة بيلاطوس البنطى , اذن هو ايضا لم يذكر اسم يسوع , بل ذكر لقب المسيح فقط .




أما أول المصادر اليهوديه التى ذكرت المسيح هو يوسيفوس فلافيوس عند نهاية القرن الأول الميلادى , و قد ذكر المسيح مرتين , فى فقرات قصيره , و الفقره الاقصر منهما فى الكتاب العشرين تشير الى أن بعض الناس لقبوا يسوع بالمسيح و انه كان له أخ يدعى يعقوب , و الفقره الأطول نسبيا مختلف عليها و يدور حولها الجدل , فى الكتاب الثامن عشر , و السبب فى هذا أن الكلام يبدو كما لو أن يوسيفوس يؤمن بيسوع انه المسيح و الذى تنبأت عنه الأنبياء بأنه يقوم فى اليوم الثالث , و هذا لا يتسق مع كون يوسيفوس رجل يهودى .




قد أشرنا سابقا أن يوسيفوس كان قد سلم نفسه للرومان وقت الحصار على اليهود , و بالتالى فقد اعتبره اليهود خائنا , و لم يحافظوا على كتبه , و لكن من حافظ على كتبه هم المسيحيون , و بالتالى يعتقد العلماء أن يوسيفوس قد ذكر يسوع و لكن شخصا مسيحيا قد أضاف الكلام عن كونه المسيح و أنه قام من الأموات , و بالتالى عليك أن تتجاهل هذه الأضافات , و مع ذلك يتبقى هناك معلومات مثيره للاهتمام , فقد ذكر يوسيفوس أن يسوع قد بدا كرجل حكيم و له تعاليم حكيمه , و قام بأفعال مدهشه و كان له أتباع من اليهود و اليونانيين , و قد قبضت عليه السلطات الرومانيه , و قد قتله بيلاطوس البنطى , و بعد ذلك كون أتباعه مجتمعات بدأت فى اليهوديه , ثم توسعت وصولا الى روما .




من المثير أن يوسيفوس قد حكى بتوسع كبير عن يهود كثيرين , و منهم كثير يحملون اسم يسوع , و لكنه ذكر معلومات قليله عن يسوع المسيح , و بالتالى فيبدو انه لم يكن يهتم بشأنه كثيرا .




هذه الفقرات فى كلام يوسيفوس هى الفقرات الوحيده الوارده فى التراث اليهودى خلال مائة عام من موت يسوع .




هناك فقرات وردت عن يسوع فى التلمود , و التى تعتبر " المشنا " هى قلبه , و هى تجميع للتقليد الشفوى عن القوانين اليهوديه , و قد جمعت حوالى عام 200 م , و بقية التلمود عباره عن تعليقات على " المشنا " . لم يذكر يسوع مطلقا فى " المشنا " , و لكن ورد ذكره فى التعليقات على المشنا و التى كتبت لأول مره فى القرن الخامس , و هذه التعليقات قد كتبت بعد زمن يسوع بمئات السنين و بالتالى فهى غير نافعه تاريخيا .




إن بولس لا يقدم سوى القليل جدا عن يسوع التاريخى . مثلا فى غلاطيه 4-4 , أن يسوع ولد من امرأه تحت الناموس , و هذا يعنى أن بولس كان يعتقد ان المسيح كان يهوديا ما دام يقول كلمة " تحت الناموس " . و كذلك فى كورنثوس الاولى 9-5 , يشير بولس أنه يوجد ليسوع أخوه , و فى غلاطيه الاصحاح الاول يذكر اسم أحد هؤلاء الإخوه و هو رجل يدعى يعقوب .



و يشير فى كورنثوس الاولى اصحاح 15 , أن يسوع كان له اثنى عشر تلميذا , و فى روميه 15 يشير الى كرازة يسوع لليهود , و ينقل قولين ليسوع بعدم الطلاق و الإنفاق على من يكرزون, فى كورنثوس الأولى اصحاح سبعه و تسعه .



و هو أيضا يعلم اقوال يسوع فى العشاء الأخير و يصف أحداث هذا العشاء , فى كورنثوس الاولى 11 , و يشير هنا الى أن أحدهم قد خان يسوع .



و أخيرا يشير الى صلب يسوع فى كورنثوس الاولى اصحاح 2 .





هناك مصدر آخر يتحدث عن يسوع و هو الوثيقه "كيو " و التى يعتقد أن الأناجيل اعتمدت عليها ...من المعتقد أن لوقا و متى قد اعتمدا على مرقص , و لكن من أين أتيا بالمعلومات الزائده فيهما التى لا توجد فى مرقص ؟ , لا يعتقد العلماء أنهما قد نقلا من بعضهما البعض , و لكن يعتقدون أنهما قد استقيا المعلومات الزائده من الوثيقه " كيو " .



و فى الواقع فإن الزيادات التى توجد فى متى و لوقا و لا توجد فى مرقص هى " اقوال ليسوع " , و بالتالى فقد كانت الوثيقه كيو تحتوى على أقوال ليسوع , و هى تحتوى على بعض من أفضل اقوال يسوع , مثل الصلاه الربانيه الموجوده فيهما و لا توجد فى مرقص , و بعض الأقوال الأخرى .



هناك مصادر أخرى اعتمد عليها لوقا و متى , فيوجد قصص فى متى لا توجد فى لوقا , و بالتالى لا يمكن أن نقول أنها كانت فى الوثيقه كيو , و لا توجد كذلك فى مرقص , اذن من أين جاءت , يبدو أن متى كان بحوزته مصادر أخرى , و بالتالى يسمى العلماء هذا المصدر M , اشارة الى متى , و الذى يحتوى مثلا على زيارة الحكماء الى يسوع عندما كان طفلا .



نفس الأمر بالنسبه للوقا , فقد ذكر قصصا لا توجد فى متى , و بالتالى ليست من الوثيقه كيو , و كذلك لا توجد فى انجيل مرقص , و يسمى العلماء هذا المصدر L اشاره الى لوقا , و يحتوى مثلا على قصة السامرى الصالح , و الابن الضال .



هذا يعنى ان متى و مرقص و لوقا كان بحوزتهم أربع مصادر , فإنجيل مرقص نفسه يعتبر مصدرا و معه الوثيقه كيو و M و L, و يبدو أن كلا من هذه المصادر الأربعه كان مستقلا عن الآخر .



و قد جذبت الوثيقه كيو خصيصا أنظار الناس و لأنها بدت قريبة الشبه جدا بإنجيل توما , فهى أيضا مجموعه من اقوال المسيح , و لكن ليس من الممكن أن يقال انها كانت انجيل توما , لأن بعض الاقوال بها لا توجد فى انجيل توما .



و يقول العلماء أنها كتبت تقريبا فى نفس وقت كتابة انجيل مرقص , و ربما قبله , ربما فى خمسينيات القرن الاول

حتى تتمكن من فحص أمر ما تاريخيا لا بد من :






1- أن تكون المصادر متعدده

2- أن تكون المصادر تعود الى وقت قريب للأحداث


3- أن تكون المصادر قد أنتجت بصوره مستقله عن الأخرى

4- ألا تكون المصادر متعارضه

5- أن يكون المصدر متسقا داخليا .

6- ألا يكون المصدر منحازا تجاه رؤيه معينه , و بالتالى فهو لا يذكر الأحداث من أجل خدمة هذا الهدف .






للأسف الشديد فإن المصادر التاريخيه المتوفره عن يسوع , لا تتوافر فيها كل هذه الصفات , بل على العكس تتوافر فيها النقيض من بعض هذه الصفات .



يوجد لدينا مصادر متعدده و قديمه و مستقله عن بعضها الآخر





هذه المصادر مستقله عن بعضها , فمرقص لم يعرف الوثيقه كيو , و بولس قد كتب قبل فترة الأناجيل , و مؤلف انجيل يوحنا ربما لم يطالع الأناجيل الإزائيه







و لكن المشكله التى تقابل المؤرخ أن مؤلفى هذه الكتب لم يكونوا أشخاصا مستقلين يسجلون الأحداث , بل كانوا أتباع يسوع الذين رغبوا أن يقولوا شيئا ما بخصوصه , و قد كتبوا بعد حوالى 35 الى 65 سنه بعد يسوع , و لم يكن أيا منهم شاهد عيان , بل و كانوا يتكلمون بلغة تختلف عن لغة من يحكون قصتهم , و عاشوا فى بلاد غير التى عاش فيها من يحكون قصتهم





و لا بد أن أشير الى أنه حتى لو فرضنا جدلا أن هؤلاء كانوا شهود عيان , فسيظل من الواجب علينا أن نفحص شهاداتهم بدقه, لأنهم كانوا يتكلمون بحسب الظروف و المواقف و الناس الذين يخاطبونهم ..... و لكن فى واقع الأمر هم لم يكونوا شهود عيان .




إن لوقا و يوحنا يخبرانا أنهما استقيا معلوماتهما من مصادر أقدم مكتوبه , كان لكل منها وجهة نظرها الخاصه أيضا .





السؤال الآن هو : كيف نستخدم وثائق ايمانيه كتبها مؤمنون من أجل مؤمنين كأمر نافع فى الدلاله التاريخيه ؟؟؟؟؟







أولا هناك بعض القواعد التى يتفق عليها المؤرخون و هى :






1- أن المصدر الأقدم هو الأقدر على تقديم الحقيقه التاريخيه , لأنه المصدر الأقل تعرضا للتغيير , و بالتالى فإن ما يقدمه انجيل يوحنا أقل دقه مما يقدمه انجيل مرقص , و هذا واضح مثلا من اختلافهما فى تاريخ صلب المسيح .....و بالتالى فإن اقدم مصدر هو كتابات بولس , يليه الوثيقه كيو و هى المصدر لما يوجد فى متى و لوقا و لا يوجد فى مرقص , ثم انجيل مرقص , ثم

Μ
, ثم L , و هكذا .




2- لا بد من الانتباه الى التطورات اللاحقه خصوصا اللاهوتيه منها و مدى تأثيرها على المصادر , و التى نشأت بعد موت يسوع , فنحن نجد أن انجيل يوحنا و هو آخر الأناجيل يرسم كريستولوجيه عاليه للمسيح أعلى من الأناجيل المبكره .






3- لا بد من الانتباه أن كل كاتب قد يكون له وجهة نظر ينحاز اليها و تظهر فى شهادته , فمثلا نجد فى انجيل بطرس سمة العداء لليهود , و هى الصبغه الواضحه فى كل فقراته تقريبا , و بالتالى لا بد من أخذ " انحياز الكاتب " فى الاعتبار , و التعليقات التى كتبها بناء على هذا , فمن الواضح أنها تعليقات سببها انحيازه الفكرى تجاه أمر ما , و ليس أمرا تلقاه عن طريق التقليد المستلم ....نحن لا نقول أن يتوجب عليك أن تهملها تماما , بل نقول أن عليك أن تنظر اليها بحرص أكثر , و على سبيل المثال الفقره الوارده فى انجيل بطرس من أن الملك اليهودى هيرودس , و محكمته اليهوديه , هم المسئولون عن صلب يسوع , بينما نجد باقى المصادر المبكره تذكر أن الحاكم الرومانى بيلاطوس هو المسئول .





و كذلك التغيير فى وقت صلب المسيح الوارد فى انجيل يوحنا , حيث جعل كاتب هذا الانجيل موت يسوع فى نفس اليوم و فى نفس الساعه التى كانت فيه خراف عيد الفصح فى الهيكل , فقد كان كاتب هذا الانجيل يعتبر أن يسوع نفسه هو خروف الفصح , كما قال فى الاصحاح الأول "هو ذا حمل الله الذى يرفع خطيئة العالم " .......و بالتالى فقد حدد موعد صلب المسيح بناء على أجندته اللاهوتيه .







هناك ثلاثة أشياء سنعتمد عليها فى تناولنا لمبحث يسوع التاريخى , و سوف نتناول أولها اليوم و هى قاعدة " المصادر المستقله " :the criterion of independent attestation ,´-or-sometimes called" the criteria of multiple attestaion






فى أية محكمه , من الأفضل أن يكون لديك شهود كثيرون , عن أن يوجد لديك شاهد واحد , و اذا كان الشهود مستقلين فى كلامهم عن بعضهم البعض , فهذا أفضل , و هو نفس الأمر عندما نبحث فى الأمور التاريخيه .





اذا ذكر تقليد معين فى أكثر من مصدر , فهو أكثر قابليه أن يكون صحيحا تاريخيا عن تقليد يوجد فى مصدر واحد




ربما توجد قصه فى مصدر واحد و يتبين أنها الصحيحه , و لكن هذا يحتاج الى العديد من الأدله .





ان لدينا بالفعل عددا من المصادر المستقله عن بعضها عن حياة يسوع , و بالتالى فاذا وجد تقليد معين عن يسوع فى أكثر من مصدر , و هذه المصادر أنتجت مستقله عن بعضها , فمعنى هذا أن هذا التقليد ليس أمرا مفبركا فى أحدها , فلو كان مفبركا فى أحدها , فكيف نفسر وجوده فى مصادر أخرى مستقله عنه ؟؟؟





و أيضا , فإن وجود تقليد معين فى العديد من المصادر يشير الى قدم هذا التقليد , لأن هذه المصادر قد أخذت بالتأكيد من مصدر أقدم .





لا بد ان أؤكد أن الكلام السابق ينطبق فقط على المصادر المستقله عن بعضها البعض , و لا ينطبق على المصادر التى أنتجت معتمدة على بعضها البعض , و على سبيل المثال قصة الرجل الغنى الذى قال له يسوع " بع أملاكك " , هذه القصه توجد فى متى و مرقص و لوقا , و لكن هذه القصه لم تنتج بصوره مستقله , لأن متى و لوقا قد أخذا القصه عن مرقص , و بالتالى فالمصدر الوحيد المستقل هنا هو انجيل مرقص ....اننى لا أزعم أن هذه القصه لم تحدث , و لكنى أقول أنك لا تستطيع ان تدلل على صحة و أصالة هذه القصه باستخدام دليل " المصادر المستقله " بل عليك أن تبحث عن دليل آخر .





اذن فقاعدة " المصادر المستقله " لا يمكن أن تطبق على أية قصه وردت فى الأناجيل الإزائيه الثلاثه أو وردت فى اثنين منها , لأنها اما أخذت من انجيل مرقص , أو من الوثيقه كيو .







فلنأخذ مثالا عمليا :




اننا نجد قصة يوحنا المعمدان و يسوع فى الأناجيل الثلاثه , فنجد فى انجيل مرقص أن يوحنا المعمدان قد عمد يسوع , متى و لوقا كان لديهما القصه الوارده فى مرقص , و لكن كان نجد عندهما أيضا أقوال يوحنا المعمدان عن "النهايه القريبه للزمان" , و بالتالى هما لم يأخذاها عن انجيل مرقص , بل أخذاها من الوثيقه كيو , ثم تجد فى انجيل يوحنا قصة "مقابلة يوحنا و يسوع" , و انجيل يوحنا لم يعتمد على انجيل مرقص أو الوثيقه كيو .....اذن لدينا ثلاثة مصادر مستقله تخبرنا أن يسوع قد بدأ كرازته بمقابلة يوحنا المعمدان ( انجيل مرقص , و الوثيقه كيو , و انجيل يوحنا ) , اذن من أين أتى هذا التقليد ؟؟؟؟ ...لا بد اذن من وجود مصدر آخر أقدم , و وجود هذه القصه فى عدة مصادر مستقله يزيد من احتمالية أصالتها .





مثال آخر :





تقول الأناجيل الأربعه القانونيه أن يسوع قد صلب , و كذلك نجد نفس الأمر فى انجيل بطرس الذى يبدو أنه لم يعتمد على الأناجيل الاربعه القانونيه , و فى كلام بولس , و فى كلام يوسيفوس , و فى كلام المؤرخ الرومانى تاسيتوس .....فى كل هذه المصادر- باستثناء مصدر واحد فقط هو بولس -يؤرخ ميعاد صلب المسيح بالفتره التى حكم فيها بيلاطوس البنطى فى عهد الامبراطور طايبريوس .






اننا نعلم أن بيلاطوس البنطى كان حاكم اليهوديه من عام 26 الى 36 ميلاديه , اننا نعلم هذا من كلام يوسيفوس , اذن فالمصادر المستقله هنا تشير أنه من المحتمل جدا أن صلب المسيح قد حدث فى عام 26-36 ميلاديه .






مثال آخر :





قيل أن ليسوع أخوه , فى انجيل مرقص 6-3 , و فى انجيل يوحنا 7-3 , و فى رسالة بولس الأولى الى أهل كورنثوس 9-5 , و فوق هذا , فإن بولس فى رسالة غلاطيه 1-19 , و مرقص و يوسيفوس , قالوا أن أحد أخوة يسوع اسمه يعقوب .......اذن من المحتمل جدا أنه كان ليسوع اخوه و أن أحدهم كان اسمه يعقوب .






مثال آخر :




دخول يسوع للهيكل و تنبأه عن دمار الهيكل , نجد هذا فى مرقص 11 و 13 , و يوحنا 2 , انجيل توما الآيه 71 , هذه مصادر مستقله , اذن فالنتيجه أنه من المحتمل جدا أن يسوع قد فعل هذا فى الهيكل و قد تنبأ بدماره .







مثال آخر :





قال يسوع امثالا يشبه فيها مملكة الله بالبذور , نجد هذا فى مرقص , و الوثيقه كيو , و انجيل توما , اذن من المحتمل أنه قال هذه الأمثال .







هناك دائما استثناءات لكل قاعده , و بالتالى هناك استثناءات لقاعدة " المصادر المستقله " ......لا بد ان أشير الى أن وجود أمر ما فى مصدر واحد فقط لا يعنى أن نقول أنه خطأ بطريقه اوتوماتيكيه , فمثلا "مثل الابن الضال " لم يرد الا فى انجيل لوقا , هذا لا يعنى أوتوماتيكيا أن يسوع لم يقل هذا المثل , بل يعنى أنك لا تستطيع ان تقول أن يسوع قد قاله بناء على قاعدة " المصادر المستقله " .






اذن فقاعدة " المصادر المستقله " تخبرك أى أمر تزداد احتمالية أصالته , و لكنها لا تخبرك أى أمر ليس أصيلا , و بين الشيئين بون شاسع .







و فى نفس الوقت كذلك , فإن القصص التى يوجد لها شهادات متعدده ليس بالضروره ان تكون أصيله , بل فقط تزداد احتمالية أن تكون أصيله ليس أكثر , بمعنى أنه لو كان هناك تقليد معين تشهد له عدة مصادر مستقله , فإن هذا يعنى أن هناك "مصدر أقدم" ترجع اليه كل هذه "المصادر المستقله " , و هذا يختلف كلية عن قولنا أن هذا الأمر فعله المسيح فعلا

"at the very least , the tradition must be older than all of the sources that recorded it , that s not the same thing as saying it goes all the way back to jesus "







اذن هذا يزيد من الاحتماليه , و لكنه لا يعطينا نتيجة مؤكده


و بالتالى فإن هذه القاعده الاولى لا بد أن ينضم اليها قواعد أخرى ,سنتناول اليوم القاعديتن الأخرتين , وهما قاعدة " التباين أو الاختلاف " و قاعدة " مصداقية السياق "
criterion of "dissimilarity " and " contextual credibility"


إن أكثر القواعد اثارة للجدل , و التى غالبا ما يستخدمها العلماء , و للأسف فى الغالب يستخدمونها بطريقة خاطئه , هى قاعدة " التباين
" .



إن أى شاهد فى المحكمه سوف يروى الأحداث بالطريقه التى يراها , و بالتالى فإن وجهة نظر الشاهد لا بد تؤخذ فى الاعتبار , و فى بعض الأحيان يكون لدى الشاهد اهتمام بما ستسفر عنه المحاكمه , و بالتالى يظهر تساؤل و هو , هل يفبرك الشاهد كلاما من أجل أن تصل المحكمه لنتيجة معينه ؟؟؟ , و بالتالى لا بد للمؤرخ ان يأخذ فى اعتباره دائما وجهة نظر و ميول الشاهد .



إن هذا الأمر يقابلنا عند تناول حياة يسوع , فكلنا نعلم أن المسيحيين الأوائل غيروا فى قصة حياة يسوع , و اخترعوا أشياء فيها , فلا يوجد أحد أعرفه يصدق أن يسوع قد صنع من الطين طيرا يطير , و لا أنه خرج من قبره و رأسه فوق السحاب فكان بطول ناطحات السحاب .....اذن كيف يتسنى لنا ان نعرف أى القصص تمثل الواقع التاريخى , و أى منها قد اخترعه المسيحيون ؟؟؟؟!!!!




لدينا أمر آخر , و هو أننا قد نجد انجيلين يقصان نفس القصه , و لكن يوجد بينهما اختلافات , فكيف يتسنى لنا أن نعرف أيهما أكثر دقة من الآخر ؟؟؟!!!!



اذن لا بد من وجود قاعدة نحكم على اساسها , و هذه القاعده هى قاعدة " التباين " و التى على أساسها نستطيع ان نتعرف على القصص المفبركه و القصص التاريخيه الحقيقه .




أول خطوه أن تحدد , ما الذى حاول المسيحيون القدامى أن يقولوه عن يسوع ؟؟؟؟ و هل التقاليد التى تحكى حياة يسوع تدعم هذه الرؤى المسيحيه أم لا ؟؟؟؟؟ , فإذا وجدت أن التقاليد تحكى تماما الأهداف التى حاول المسحييون القدامى أن يقولوها , فهناك احتمال أنهم قد اخترعوا هذه القصص من أجل ترويج رؤاهم عن المسيح .




و لكن ماذا اذا وجدنا أن التقليد لا يدعم هذه الرؤى المسيحيه بوضوح , أو حتى يعمل ضدها ؟؟؟ , فى هذه الحاله لا بد أن هذا التقليد لم يخترعه المسيحيون , و الا لم بقى فى التقليد ؟؟؟؟!!!! , ربما السبب أن هذا الأمر قد حدث فعلا بهذه الطريقه .



قبل أن نتناول الأمثله الموضحه لهذه القاعده , لا بد أن أؤكد أن وجود عمل أو قصه عن يسوع متناسقه من الأهداف التى كان يهدف المسيحيون الى ترويجها , لا يعنى بالضروره أن هذا العمل أو القصه خطأ تاريخى , فلا بد أن تلاميذ يسوع الذى يقدرون أقواله قد حكوا هذه الأقوال و قصوا المواقف التى عاشها , و لكن هذه القاعده تلقى بظلال الشك فقط على بعض التقاليد , و على سبيل المثال فإن التقاليد الوارده فى انجيل الطفوله لتوما يبدو عليها أنها نسج خيال مسيحى متأخر , و كذلك بعض الأقوال فى انجيل توما القبطى , تظهر يسوع داعما للاهوت الغنوصى , و هذا لا يتسق مع كون يسوع معلما يهوديا من القرن الأول الميلادى .




إن أفضل طريقه لاستخدام قاعدة "التباين" ألا تستخدمها بطريق " السلب " , بحيث تقول ما الذى لم يفعله يسوع أو لم يقله , بل عليك ان تستخدمها بطريق " الايجاب " بحيث تقول ما الذى يحتمل أن يكون قد فعله أو قاله يسوع .




اذن أهم فائدة من هذه القاعده أنها تريك ما يحتمل أنه "يعود" بالفعل الى قصة يسوع الحقيقيه , أكثر من أن تريك ما الذى "لا يعود" الى قصته الحقيقه .





المثال الأول:



اجتماع يسوع مع يوحنا المعمدان :



بعض التقاليد التى لدينا تخبرنا أن يوحنا المعمدان قد عمد يسوع , و قد لاحظ العلماء أن هذه القصه لا يمكن أن يختلقها مؤمن بالمسيح , فقد كان الشائع فى المسيحيه الأولى , أن من تجرى له المعموديه أقل روحيا ممن يجريها له , و بالتالى فلن يخترع مسيحى قصة قد يفهم منها أن يسوع أقل روحيا من يوحنا المعمدان , و اذا قرأنا القصه فى انجيل متى سنجد اشاره الى هذه النقطه , و الى الشعور المسيحى بالحرج من هذه القصه , فنجد تقليدا فى هذا الانجيل لا نجده فى أى مكان آخر , و هو حوار يجرى بين يسوع و يوحنا المعمدان قبل المعموديه , فقد أراد يوحنا أن يمنع يسوع , و قال له أنه هو الذى يحتاج الى أن يتعمد منه , فأجابه يسوع بأن يسمح له حتى يكمل كل بر .




ان هذا التقليد لا نجده سوى فى متى فقط , و لا يتسم بصفة " التباين " , لأن هذا التقليد يحكى تماما وجهة النظر المسيحيه المتوقع وجودها حينئذ , فلا بد أن العقل المسيحى حينها كان يتساءل " لماذا عمد يوحنا" المعمدان" "يسوع المسيح" ؟؟؟ .....و بالتالى فمن المحتمل جدا أنهم اخترعوا هذا التقليد حتى لا يظهر يسوع أنه أقل روحيا من يوحنا المعمدان .




و لكن بالنسبه لقصة المعموديه نفسها , فلن يوجد مسيحى سيخترع قصة يفهم منها أن يسوع أقل من يوحنا , اذن من المحتمل جدا أن هذه القصه تنتمى لقصة يسوع الحقيقيه بالفعل , و بالتالى من المحتمل جدا أن قصة المعموديه حقيقيه , فقد توفر بها شرط " التباين " .







المثال الثانى :



نهاية يسوع و صلبه :




أن أمر صلب المسيح ليس بالتقليد الذى يظن أن المسيحيين سيخترعونه , لماذا ؟؟؟؟ ....ان لدينا العديد من المصادر اليهوديه التى تعود الى القرن الأول و القرون السابقه التى تتحدث عن صفات المسيح المنتظر , كان بعضها يصفه بملك اسرائيل المستقبلى و أنه قائد سياسى ومحارب عسكرى سيقضى على أعداء اسرائيل و يؤسس مملكة الله فى اورشاليم , حيث سيحكم هناك , و أنه سيكون ملكا قويا مثل داود .



هناك تقليد آخر , يصور فيه المسيح بصوره روحانيه , بأنه حكم سيأتى من السماء ليحاكم العالم , و يقضى على قوى الشر , و يؤسس مملكة الله .



بعض اليهود توقعوا المسيح فى صورة كاهن قوى , مؤيد من الله , يفسر التوراه .




كانت هناك العديد من الرؤى اليهوديه حول شخصية المسيح المنتظر , و لكن يجمعها جميعا أنها صورته فى صورة شخصية قويه , و لم يكن هناك يهودى واحد قبل المسيحيه يتوقع ان يكون المسيح انسانا يعانى فى حياته و يموت .



لم يكن هناك يهودى واحد يقبل أن يصف المسيح بأنه سيعانى و يموت , و لهذا قال بولس فى رسالته الأولى الى أهل كورنثوس فى الاصحاح الاول , أن مسألة صلب المسيح " عثرة لليهود " .



اذن لماذا سيخترع المسيحيون قصة صلب المسيح , اذا كانت هى أكبر عقبه تمنع اليهود من التحول للإيمان المسيحى ؟



اذن فمسألة " صلب المسيح " يتوفر بها صفة " التباين " . (1)





مثال آخر :


خيانة يهوذا :


هذه القصه يشهد لها عدة مصادر , و لا يمكن أن نتخيل أن مسيحيا قد اخترعها , فكيف سيخترع مسيحى أن أحد الاثنى عشر الذين اختارهم يسوع قد خانه ؟؟؟ , ألا يعنى هذا أن يسوع لم يكن له سلطه على أقرب الناس حوله ؟؟؟ , اذن من المحتمل جدا أن يهوذا قد خان المسيح بالفعل .



مثال آخر :


اننا نستطيع ان نطبق هذه القاعده على أقوال خاصه بيسوع , و على سبيل المثال مرقص8-38 , يقول يسوع لتلاميذه :


"
لأن من استحى بى و بكلامى فى هذا الجيل الفاسق الخاطىء , فإن ابن الانسان يستحى به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين "



قد اعتقد المسيحيون أن يسوع نفسه هو ابن الانسان الذى سيأتى ليحاكم العالم , فهناك العديد من العبارات فى الأناجيل التى يتحدث فيها يسوع عن "ابن الانسان" و يبدو واضحا أنه يتحدث عن نفسه , و بالتالى فقد اعتقد المسيحيون أن يسوع هو " ابن الانسان " و احتفظوا بأقوال يسوع هذه , و لكن ماذا عن النص الوارد فى مرقص 8-38 , و الذى لا يبدو فيه اطلاقا أن يسوع يتحدث عن نفسه ؟؟ , فاذا لم تكن تعلم أن يسوع هو ابن الانسان , فستفترض العكس تماما من خلال قراءتك لهذا النص .



اذن فليس من المعقول أن يخترع مسيحى نصا قد يفهم منه أن المسيح ليس ابن الانسان , و بالتالى فمن المحتمل جدا أن يسوع قد قال هذا النص .




مثال آخر :

"مثل الخراف و الجداء " :


هنا نجد أن يسوع يتحدث عما سيحدث فى نهاية الايام عندما يأتى ابن الانسان , و هنا أيضا لا يعرف نفسه باعتباره هو " ابن الانسان "


31 ومتى جاء ابن الانسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده. 32 ويجتمع امامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم من بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء. 33 فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. 34 ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي ابي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. 35 لاني جعت فاطعمتموني.عطشت فسقيتموني.كنت غريبا فآويتموني. 36 عريانا فكسيتموني.مريضا فزرتموني.محبوسا فأتيتم اليّ. 37 فيجيبه الابرار حينئذ قائلين.يا رب متى رأيناك جائعا فاطعمناك.او عطشانا فسقيناك. 38 ومتى رأيناك غريبا فآويناك.او عريانا فكسوناك. 39 ومتى رأيناك مريضا او محبوسا فأتينا اليك. 40 فيجيب الملك ويقول لهم الحق اقول لكم بما انكم فعلتموه باحد اخوتي هؤلاء الاصاغر فبي فعلتم


41 ثم يقول ايضا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين الى النار الابدية المعدة لابليس وملائكته. 42 لاني جعت فلم تطعموني.عطشت فلم تسقوني. 43 كنت غريبا فلم تأووني.عريانا فلم تكسوني.مريضا ومحبوسا فلم تزوروني. 44 حينئذ يجيبونه هم ايضا قائلين يا رب متى رأيناك جائعا او عطشانا او غريبا او عريانا او مريضا او محبوسا ولم نخدمك. 45 فيجيبهم قائلا الحق اقول لكم بما انكم لم تفعلوه باحد هؤلاء الاصاغر فبي لم تفعلوا. 46 فيمضي هؤلاء الى عذاب ابدي والابرار الى حياة ابدية






المثير فى هذا المثل أنه يوضح أن طريق الخلاص هو "مساعدة المحتاجين" , و هذا خلاف المعتقد السائد لدى المسيحيين القدامى بأن الخلاص يأتى عن طريق الايمان ب "صلب يسوع و قيامته" ..... اذن فمن المستبعد أن يخترع مسيحى هذه القصه , و بالتالى فمن المحتمل جدا أن هذه القصه تعود بالفعل الى قصة يسوع الحقيقيه .







هناك أقوال و أفعال ليسوع لا تتوافر فيها صفة " التباين " , و كما أشرت سابقا , أن هذا لا يعنى بالضروره أن هذه القصه غير حقيقيه , و لكنه يعنى أنك لا تستطيع ان تستخدم مقياس " التباين " كدليل على أصالة هذه القصه .




دعونى أعطيكم أمثله على اشياء لا تتوافر فيها صفة " التباين " , فى ثلاثة مواضع من انجيل مرقص , يتنبأ يسوع بأنه لا بد أن يذهب الى أورشاليم , و يرفض , و يقتل , ثم يقوم من الأموات .....هل هذه المواضع يتوافر بها صفة التباين ؟؟؟؟ كلا بكل تأكيد , فهذا بالتحديد ما كان يقوله المسيحيون عن يسوع , و لذلك فمن المحتمل جدا أن المسيحيين قد اخترعوا هذه الكلمات و وضعوها على لسان يسوع .




و كذلك فى انجيل يوحنا , نجد أن يسوع يدعى أنه مساو لله , فقد قال أنه و الآب واحد , و هذا أمر لا نجده فى الأناجيل الأخرى , و بكل تأكيد فهذا التقليد لا تتوفر به صفة " التباين " , لأن هذا الادعاء يتسق تماما مع ما كان يدعيه المسيحيون عن يسوع عند نهاية القرن الأول الميلادى , أى فى الوقت الذى كتب فيه انجيل يوحنا , و بالتالى فمن المحتمل جدا أن يسوع لم يقل هذا الكلام .




اذن فلا بد للمؤرخ أن يأخذ فى اعتباره المفاهيم المسيحيه السائده فى ذلك العصر , و أن يطبق قاعدة التباين على الكلام الذى يقرؤه من خلال معرفته بهذه المفاهيم المسيحيه , و لكن المشكله التى تواجهنا , اننا لا نمتلك صورة كامله عما كان يؤمن به المسيحيون أو يمارسونه من طقوس فى هذه الفتره , اننا نمتلك أجزاءا من المعلومات عن هذه الفتره , و لكنها ليست صورة كامله .





إن ما يمكننا من الحكم بطريقة أسهل على النص , هو معيار " مصداقية السياق " .




من الواجب علينا أن نفهم السياق الذى عاش فيه يسوع , حتى نستطيع أن نحدد أى من هذه التقاليد يحتمل أن ينسب اليه , و بالتالى فحتى نثق فى تقليد معين , فلا بد أن يكون هذا التقليد متسقا مع سياق القرن الاول الميلادى فى مجتمع يهودى فى فلسطين , و التقاليد التى لا تتسق مع هذا السياق الزمنى تدخل دائرة الشك أوتوماتيكيا .


هناك أمثلة قد ذكرناها سابقا , لا يتوفر بها شرط " مصداقية السايق
" ,



و على سبيل المثال :


العبارات الغنوصيه الوارده فى انجيل توما القبطى




مثال آخر :


ما ورد فى انجيل بطرس أن الملك اليهودى هيرودس هو الذى أمر بإعدام يسوع , و هذا لا يتوافق مع ما نعلمه عن طريقة ادراة و حكم الرومان لل " يهوديه " فى زمن يسوع , و بالتالى فهذه القصه لا يتوفر بها شرط " مصداقية السياق " .





مثال آخر :



فى يوحنا الاصحاح الثالث , فى قصة يسوع و نيقوديموس , نجد أن يسوع يخبر نيقوديموس بضرورة الولادة "الجديده" , أو "مرة ثانيه" , أو "من أعلى" ..... لقد قلت ثلاثة معانى لأنه يوجد بالنص كلمه يونانيه ذات معنى غامض



ان نيقوديموس نفسه لم يفهم قصد يسوع بهذا , فتساءل هل سيرجع مرة ثانية الى بطن أمه و يولد مرة ثانيه ؟ فأوضح له يسوع المعنى الذى قصده بهذه الكلمه من أنه لا بد أن يولد روحيا مرة ثانيه و ليس جسديا .....لقد أخطا نيقوديموس فى الفهم لأن الكلمه اليونانيه تحتمل أكثر من معنى , وظن أن المعنى المقصود هو أن تولد "مرة ثانيه" , و لكن يسوع أوضح له انه يقصد بالكلمه أن يولد " من أعلى " , ان هذا أمر تقرؤه باللغه اليونانيه , و ملخصه أن الكلمه اليونانيه لها معنيان , و قد فهمها نيقوديموس بناء على أحد هذه المعانى و هو " الولاده مره ثانيه " , بينما أراد يسوع المعنى الآخر و هو " الولاده من أعلى " .




, و لكن لسوء الحظ , فلو قلنا هذا الحوار قد جرى فى أورشاليم بالآراميه , ستواجهنا مشكله , فالكلمه الآراميه التى تعنى " مرة ثانيه " ليس من معانيها " من أعلى " .




ان الغموض الذى اكتنف فهم نيقوديموس مؤسس على الغموض فى الكلمه اليونانيه , و لكن الحوار الذى جرى بين يسوع و نيقوديموس لم يكن باليونانيه بل بالآراميه , و لا يتوفر فيه هذا الغموض الذى دار الحوار على اساسه , و بالتالى فلو افترضنا أن هذا حوارا ما قد حدث بين يسوع و نيقوديموس , فلا بد أنه كان بشكل آخر غير الذى يقصه علينا انجيل يوحنا .







بعكس الصفتين الأولتين , أى صفة " الشهادات المستقله " و " التباين " , نجد أن صفة " مصداقية السياق " تؤدى وظيفتها بطريق "السلب " , فصفة " الشهادات المستقله " و " التباين " تستخدمان كحجه ل "التقليد" , بناء على وجود شهادات مستقله تشهد له , أو أنه من المستبعد أن يكون هذا " التقليد " مفبركا , أما صفة " مصداقية السياق " فهى حجه تستخدم ضد " التقليد " , بناء على أن هذا " التقليد " لا يتسق مع ما نعرفه عن السياق الإجتماعى و التاريخى لزمن يسوع .






و اجمالا نقول :



لا بد من فحص المصادر المتوفره لدينا من خلال قواعد صارمه , حتى نقرر ما حدث فعلا فى قصة يسوع , فإننا نعلم أن المسيحيين كانوا يخترعون قصصا عن حياة يسوع , و أن المصادر المكتوبه المتوفره لدينا تحتوى على معلومات تاريخيه صحيحه , و معها تعليقات سببها الدوافع العقائديه .



و بالتالى فالتقاليد التى يمكننا أن نعول عليها هى التى يشهد لها مصادر متعدده , و التى لم تنتج من أجل اشباع رغبات الناس فى مجتمع معين , و التى تتوافق مع السياق التاريخى لفلسطين فى القرن الأول الميلادى .



و مع كل الاحترام لشخصية يسوع التاريخيه و لأى شخص يحكى عنه التاريخ , فليس أمام المؤرخ سوى أن يتمسك بالاحتماليات التاريخيه .

فى البدايه لا بد أن أشير الى أن انجيل مرقص و يوحنا , أى أول و آخر الأناجيل , لا يحكيان شيئا عن قصة ميلاد يسوع و لا عن طفولته , إنهما يعزوان بعض الأشياء الى هذه الفتره , فكلاهما يشير الى أن المسيح قد جاء من الناصره فى مرقص 1 , يوحنا 1 , و كلاهما يشير الى إخوه يسوع , يوحنا 7 , و مرقص 3 .




إن انجيل متى و لوقا هما الوحيدان اللذان يقصان ميلاد يسوع , و لكن لسوء الحظ فإنهما يختلفان مع بعضهما البعض فى بعض النقاط ...على سبيل المثال , نقرأ فى انجيل لوقا أن يوسف و مريم من الناصره , و لكننا نقرأ أنهما من بيت لحم فى انجيل متى ...هل عاد يوسف و مريم الى الناصره بعد شهر من ميلاد يسوع كما ورد فى لوقا ؟؟؟ , أم هربا الى مصر كما ورد فى انجيل متى ؟؟ ....الخ .




و لكن اذا نظرنا الى الجانب الايجابى فى هذه المسأله , فإن هذه الاختلافات الموجوده بين متى و لوقا تدل على أنهما لم يعتمدا على بعضهما البعض , و هذا أمر جيد .




ان بعض المعلومات الموجوده فى متى و لوقا , يمكن أن تتحد ب "التعليقات الخارج انجيليه " المستقله عنها




و على سبيل المثال , فإن بولس أيضا يشير الى أن يسوع له إخوه , فى كورنثوس الأولى الاصحاح التاسع العدد خمسه , و يشير أيضا الى أن أحدهم كان يدعى يعقوب , فى غلاطيه 1-19 .. ان هذه المعلومات تتحد مع ما يوجد لدينا فى الأناجيل .




ان أناجيل الطفوله الغير قانونيه كذلك , تغطى هذه المساحه أيضا , و لكن كما رأينا , فإنه لا يصح الاعتماد عليها , لأنها لا تحتوى على المعلومات التاريخيه الدقيقه فى معظمها , فمثلا انجيل الطفوله لتوما , له طبيعه أسطوريه على نحو كبير , و هو الأقدم من بين هذه الأناجيل المسماه ب " أناجيل الطفوله " , و هو ينتهى بتعليق عن يسوع عندما كان فى الهيكل و عمره اثنى عشر عاما , و هى قصه استقاها هذا الكاتب من انجيل لوقا , و هذا يعنى أن انجيل توما ليس مصدرا مستقلا , لأنه اعتمد على لوقا كأحد مصادره .




ان أناجيل الطفوله الأخرى تمدنا أيضا بتفصيلات اسطوريه عن حياة يسوع المبكره , و على سبيل المثال قصة حماية الله المعجزيه لمريم و يوسف فى طريق هروبهما الى مصر , و هذا نطالعه فى انجيل يسمى ب " متى المزيف " "pseudo-mathew" , انه انجيل ألف تحت اسم "متى" , و لكن الجميع لاحظ أنه انجيل مزيف , فعرف باسم " انجيل متى المزيف " , و قد كتب هذا الانجيل فى العصور الوسطى , بعيدا جدا عن الفتره التى نتناولها بالدراسه فى هذه المحاضرات , و هو يحتوى على الكثير من التعليقات الأسطوريه .



اذن , فسيقتصر معظم عملنا على الكتب القانونيه , و بصفة خاصه انجيلى متى و لوقا .




لو طبقنا المعايير التى درسناها سابقا على انجيلى متى و لوقا , فما الذى نستطيع أن نقوله بخصوص حياة يسوع المبكره ؟؟؟





سوف أقسم هذه المناقشه الى جزئين كبيرين :



الأول : الأمور المحتمل ألا نعرفها بخصوص ميلاد يسوع أو حياته المبكره .



الثانى : الأمور المحتمل أن نعرفها عن ميلاد يسوع أو حياته المبكره .






اذن , فلنبدأ بالأمور التى لا نستطيع أن نعرفها ... هناك العديد من التقاليد الخاصه بحياة يسوع المبكره و ميلاده , و لكن لا يمكن أن نثق فيها تاريخيا عندما نطبق عليها المعايير التى تعلمناها فى المحاضره السابقه



دعونى أؤكد مرة أخرى , أنك اذا كنت ترفض هذه المعايير التى طرحناها و التى يعتمد عليها الدارسون , فعليك أن تطرح لنا معاييرك الخاصه التى تراها مناسبة فى الوصول الى حقيقة يسوع التاريخى .. عليك فى النهايه أن تستخدم معاييرا محدده , و اذا لم تعجبك هذه المعايير , فما هى المعايير التى ترتضيها ؟؟



اذن فلنتناول بعض هذه التقاليد بالدراسه .




فعلى سبيل المثال :


ميلاد يسوع العذراوى :



لا توجد أية طريقة لدينا لمعرفة , هل كانت أم المسيح عذراء فعلا عندما ولدته أم لا ؟؟؟ (1) .. ان متى و لوقا كلاهما يشهدان بأنها كانت عذراء , و هما مصدران مستقلان , و لكن الأمر الذى صدم الباحثين دائما هو أن هذا الميلاد العذراوى لا يشهد له أى مصدر آخر من مصادرنا القديمه , حتى بين الكتاب الذين توفرت لديهم الرغبه أن يقولوا أن الله نفسه هو أبو يسوع .



على سبيل المثال , فإن مرقص و بولس , كلاهما يعتبران يسوع ابنا لله , و كلاهما فى الواقع يشير الى أن يسوع كانت له أم , فى مرقص 3-31 , و فى غلاطيه 4-4 , و لكن أيا منهما لم يقل شيئا عن كون والدة يسوع عذراء .. ان هذه المعلومه تخدم غرضهما بشده اذا كانا يريدان الترويج لفكرة أن يسوع هو ابن الله , و لكنهما لم يذكراها أبدا .




ما نجده فى انجيل مرقص , أن أم يسوع نفسها , لم تكن تدرك من هو يسوع , مرقص 3-21 , " و لما سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه , لأنهم قالوا إنه مختل " , و كذلك فى مرقص 3-31 , " فجاءت حينئذ اخوته و أمه و وقفوا خارجا و أرسلوا اليه يدعونه " .. لا يبدو اى ذكر فى انجيل مرقص لولادة يسوع من عذراء , بل و فوق ذلك , لا يوجد ما يشير الى أن مريم فهمت أن يسوع شخص فريد , خصوصا أنك تتوقع أن تظن مريم أن ابنها يسوع شخص فريد اذا ما أخذت فى اعتبارك أنه قد جاءها ملاك و بشرها بميلاد يسوع دون علاقه جسديه .



نطالع فى انجيل يوحنا ذكرا لأبى يسوع , يوسف النجار , و يدعى يوسف فى هذا الإنجيل بأنه أبو يسوع , يوحنا 1-45 , و اذا لم يكن لديك فكره عما ورد فى انجيل لوقا و متى عن الميلاد العذراوى , فسوف تعتقد أن يسوع قد ولد كما يولد البشر من خلال علاقه جسديه .




يضاف على ما سبق , أن الإنجيلين اللذين ذكرا قصة الميلاد العذراوى , متى و لوقا , لديهما ميول عقائديه , و هذا واضح من القصه الوارده فى كل منهما , ف "متى" يشير الى الميلاد العذراوى بوصفه متمما للنبوءه الوارده فى اشعياء 7-14 , أى أن متى يستخدم قصة الميلاد العذراوى ليقول أن يسوع هو المسيح المتنبأ عنه , متى 1-23 .. و أما بالنسبه للوقا , فقد قصد بذكر ميلاد يسوع العذراوى أن يشير الى أن الله هو أبو يسوع , لوقا 1-35 .



اذن فالقصتان الواردتان فى كلا الانجيلين لا تتوفر بهما صفة " التباين " .



بسبب كل هذه الأسباب التى طرحتها , فقد شك الدارسون كثيرا فى أمر ميلاد يسوع من عذراء , و فى النهايه , فإنه لا سبيل لدينا لمعرفة طبيعة العلاقه الجسديه بين أبوى يسوع .





ثانيا : ميلاد يسوع فى بيت لحم :


من المستحيل أن نعرف , هل ولد يسوع حقا فى بيت لحم أم لا


ان أناجيلنا الأربعه كلها تفترض أن يسوع قد جاء من الناصره , و لكن اثنين منهما و هما متى و لوقا يقولان - بصفة مستقله - أن يسوع قد ولد فى مكان آخر , و هو بيت لحم , و كما رأينا فى محاضرة سابقه , فإن قصة متى و لوقا غير متناسقتين مع بعضهما البعض , فلو افترضنا أن قصة متى عن ولادة يسوع فى بيت لحم هى الصحيحه , فمن الصعب علينا أن نفهم كيف تكون قصة لوقا أيضا صحيحه .




كذلك فإن قصة متى و قصة لوقا تواجهان اشكاليات تاريخيه عندما نفحص كل منهما على حده , و على سبيل المثال ما ذكرناه سابقا عن أمر الاحصاء العام الذى أمر به أغسطس قيصر , و الذى ذكره لوقا .. كذلك فأن كلا الكاتبين متى و لوقا لديه رغبه عقائديه فى اثبات أن يسوع قد جاء من بيت لحم , لأن هناك نبوءه يهوديه بأن ملك اليهود سيظهر من هناك , ميخا 5-2 , و التى اقتبسها متى بشكل واضح فى الاصحاح الثانى العدد سته .. اذن هذه القصه أيضا لا تتوفر فيها صفة " التباين " .



كذلك , فمن المستغرب أن هذا التقليد , بأن يسوع قد جاء من بيت لحم لم تذكره المصادر الأخرى القديمه , فكيف هذا لو كان أمرا مشهورا و معروفا ؟ , و على سبيل المثال فإن هذا التقليد لم يرد فى كتابات بولس .



و بالتالى , فإن معظم الدارسين يعتبرون أن التقليد القائل بمولد يسوع فى بيت لحم أمرا مشكلا .






ثالثا :التقليد القائل بأن مريم و يوسف قد سافرا الى بيت لحم من أجل التسجيل فى الاحصاء :



ان هذا التقليد لا نجده سوى فى انجيل لوقا , و بالتالى لا تتوفر مصادر متعدده بخصوصه , و فوق ذلك , فمن الواضح أنه متعارض مع الأحداث التى حكاها متى عن ولادة يسوع فى بيت لحم , و أيضا لا تتوفر فيه صفة " مصداقية السياق " , فإننا نعرف قدرا جيدا عن فترة حكم أغسطس قيصر , و لا نعرف مطلقا فى تاريخه أنه صدر أمر باكتتاب عام بحيث يعود كل انسان الى بلد أسلافه ليكتتب هناك , و كذلك فمن المستحيل أن نتخيل هذه الهجره الجماعيه فى كافة أرجاء الامبراطوريه دون أن يتكلف أحدهم عناء ذكر هذا الاكتتاب الهائل , و دون أن نجده مذكورا فى مصدر آخر .


اذن , فمن الواضح أن هذا الأمر غير مقبول تاريخيا .






رابعا : قصة الحكماء الذين أتوا لعبادة يسوع الطفل :



اننا نجد هذه القصه فى انجيل متى فقط , و بالتالى لا توجد شهادات متعدده بخصوصها , و هى غير قابله للتصديق من الناحيه التاريخيه , فلم يسجل أحد آخر الحدث الفلكى غير المعتاد الذى يحكى قصة هذا النجم الذى قاد هؤلاء الرجال الحكماء , فلو كان هذا الأمر قد حدث , فلا بد أنه قد جذب انتباه العديدين , و كذلك من الصعب أن نفهم هذه القصه بصوره عقلانيه , فهذا النجم قد قاد الرجال الحكماء الى أورشاليم , ثم قادهم الى بيت لحم حيث توقف النجم فوق البيت الذى ولد فيه الصبى , فكيف يمكن لنجم أن يقف فوق بيت ما ؟؟؟؟!!!!




كذلك , فمن الواضح أن متى قد استخدم هذه القصه ليظهر أن السماء نفسها تنبأت بميلاد يسوع حتى تراه كل عين , و هذا يبدو تتميما لنبوءة أخرى , و بالتالى فهذه القصه هى الأخرى لم يتوفر فيها شرط " التباين " .




كذلك , فإن متى قد استخدم هذه القصه ليظهر أن رؤساء اليهود قد رفضوا يسوع , فقد جاء الرجال الحكماء الى أورشليم أولا , و أخبرهم رؤساء اليهود بأن المسيح سيولد فى بيت لحم , و لكننا نجد أن من ذهب ليسوع هم الرجال الحكماء و ليس رؤساء اليهود , و هذه مقدمه لما سوف يتوصل اليه متى فى نهاية انجيله , فقد رفض رؤساء اليهود قبول يسوع منذ البدايه , و أن رفضهم هذا قد قاد المسيح الى الصليب , و بالتالى فمن الواضح أن هذه القصه تخدم أهدافا عقائديه , و بالتالى فإنه لا يتوفر بها صفة "التباين" .





خامسا :


يذكر لوقا أن يسوع قد ولد عندما كان " كيرينيوس " وال على سوريا , و لكنه يشير أيضا أن هذا قد حدث عندما كان هيرودس ملكا على فلسطين , و لكن فى واقع الأمر , فإننا نعرف أن " كيرينيوس " لم يكن وال على سوريا الا بعد عشر سنوات من موت هيرودس , بناء على ما سجله المؤرخ يوسيفوس , و المؤرخ تاسيتوس .





سادسا :


من المستحيل - تقريبا - أن نقول أن قصة يسوع التى تحكى فترة صباه حدث تاريخى حقيقى بالفعل , فالقصه التى تحكى حياة يسوع فى سن الاثنى عشر عاما لا توجد سوى فى لوقا , اذن , لا توجد شهادات مستقله متعدده بخصوصها , و كذلك فإنه لا تتوفر بها صفة " التباين " , فهذه القصه وراءها هدف عقائدى , فهى تحكى قصة يسوع واقفا فى الهيكل , يتكلم مع معلمى اليهود , و يثير اعجابهم بمعرفته , و بالتالى فهذه القصه تظهر يسوع منذ هذا العمر المبكر بوصفه شخصا مكرسا لله , و أعلى فى المقام و المعرفه من معلمى اليهود برغم سنه الصغير .



اذن فهذه القصه لا تتوفر بها صفة " المصادر المستقله المتعدده " و لا صفة " التباين " , و بالتالى فإن ظلال الشك تحوم حولها بكل قوه .







على الجانب الآخر , هناك تقاليد تتوافر بها المعايير التى اشترطنا توفرها فى القصه المحتمل وقوعها تاريخيا , و لا بد أن تشكل هذه القصص حجر الاساس فى فهمنا لقصة ميلاد يسوع التاريخى و حياته المبكره .




أولا : يسوع قد ولد و تربى كيهودى :



هذا الأمر قد يشكل صدمة لبعض الناس , و لكنه أمر معروف , و قد قاله بولس صراحة فى رسالته الى غلاطيه 4-4 , و الشهادات المتعدده بخصوص هذا الأمر كثيرة جدا , و بالتالى فهذه القصه يتوفر بها صفة " الشهادات المتعدده المستقله " بكل تأكيد .


ليس هناك أمر مؤكد يفوق هذا , فقد ولد من أبوين يهوديين , و كان يظن أنه يعبد اله اليهود , و كان يقرأ الكتاب المقدس اليهودى , و كان يمارس العادات اليهوديه ...الخ .





ثانيا : مجىء يسوع من قرية "الناصره" فى "الجليل" :


هذا التقليد يتوفر به صفة " المصادر المستقله المتعدده " بكل قوه , فهو أمر تشهد لها الأناجيل الأربعه , بل و كان يطلق على يسوع اسم " يسوع الناصرى " فى مصادر أخرى قديمه , و على سبيل المثال , أعمال 3 .



كما رأينا منذ قليل , فقد حاول متى و لوقا أن يشرحا , كيف أنهما يقولان أن يسوع قد ولد فى بيت لحم , مع أن الكل يعلم أنه قد جاء من الناصره !!!! , فقد حاولا تبرير هذا الأمر ... فما أريد قوله هو , أن قصة مجىء يسوع من الناصره تتوفر بها صفة " التباين " , فهذه القصه لن يرغب أى مسيحى باختراعها , بل على العكس , سيرغب أى مسيحى أن يقال أن المسيح قد جاء و ولد فى بيت لحم حتى يتطابق هذا مع النبوءه , اذن فالمسيحيون سيرغبون أن يقولوا أن يسوع قد جاء من بيت لحم , و لكنهم لم يستطيعوا ذلك , لأن الكل كان يعلم أن يسوع قد جاء من الناصره .





و كذلك فيما يتعلق بصفة " التباين " , فمن العسير جدا أن نستوعب , لم قد يختلق مسيحى قصه يقال فيها أن يسوع قد جاء من الناصره و ليس من أى مكان آخر , فقد كانت الناصره فى هذا الوقت قريه صغيره و غير مهمه على الاطلاق فى " الجليل " , و التى تشكل اليوم الجزء الشمالى من دولة " اسرائيل " الحديثه , و كذلك لم تذكر الناصره على الاطلاق فى الكتاب اليهودى المقدس , و كذلك فإن يوسيفوس قائد القوات فى هذا الجزء من اسرائيل , و الذى تحدث فى تاريخه عن أمور كثيرة جدا تتعلق باليهود و تاريخهم , لم يذكر اسم " الناصره " على الاطلاق .



ان أول مره نطالع فيها اسم " الناصره " فى مصدر مكتوب , هو فى العهد الجديد , الذى يتحدث عن مجىء يسوع من هناك .


اذن , ليس هناك ما يدعو المسيحيين أن يختلقوا قصة يقولون فيها أن يسوع قد جاء من هذه البلده الصغيره غير المعروفه , أى الناصره , بدلا من أن يقولوا أن يسوع قد جاء من بيت لحم بلد داود , أو جاء من أورشاليم التى تشكل مركز القوه فى وطن اليهود .



فى الواقع , إن ما سبق يشير كله الى أن يسوع قد جاء من الناصره بالفعل , و قد شعر المسيحيون بالحرج من هذا , كما نطالع مثلا فى يوحنا 1- 46 , " فقال له نثنائيل : أمن الناصره يمكن أن يكون شىء صالح ؟ " , و هو سؤال بدهى فعلا .


اذن لا بد أن هذا التقليد حقيقى و ليس أمرا مفبركا .






ثالثا : هناك بعض الأمور المؤكده عن والدى يسوع :



كل المصادر تشير الى أن أبوى يسوع كانا يهوديين عاشا فى الناصره , و اسمهما يرد بصوره واحده هى " يوسف" و " مريم " .




لا يوجد فى أى من التقاليد التى وصلت الينا حديث عن حياة يوسف والد يسوع بعد بدأ يسوع لكرازته , بينما تظهر أمه فى بعض القصص بعد بدأه لكرازته , و لهذا فمن المعتقد أن أباه قد مات إبان الوقت الذى بدأ فيه كرازته .



ان الفكره القائله بأن يوسف النجار كان رجلا عجوزا فى وقت خطبته لمريم , تقليد ترسخ فى القرن الثانى الميلادى و ما يليه .. لقد قيل أن يوسف رجل عجوز حتى يفسر فى ذهن السامع لماذا لم يحدث بينه و بين مريم علاقه جسديه , و لكن هذا التقليد ليس له جذور فى التقاليد المبكره التى لا تذكر شيئا مطلقا عن السن .



الشىء الوحيد الذى ذكر عن يوسف خارج نطاق قصة ميلاد يسوع , أنه كان عاملا , فى متى 13 , و ربما أن انجيل الطفوله لتوما يشهد لهذا الأمر أيضا بصورة مستقله .... ان الكلمه اليونانيه المستخدمه لوصف وظيفة يوسف النجار يجرى ترجمتها الى " نجار " , و لكن فى حقيقة الأمر فإن هذه الكلمه اليونانيه قد تشير الى العديد من الوظائف التى تمارس يدويا .




على أى حال , و أيا ما كنت وظيفة يوسف النجار , فقد كانت وظيفته من الوظائف الدنيا , و بالتالى فهذا التقليد تتوفر به صفة " التباين " , فلن يخترع المسيحيون أن والد يسوع كان يعمل بوظيفة دنيا , بل لو اخترعوا قصة بخصوص هذا الأمر لقالوا مثلا أن والد يسوع كان معلما عظيما , او أى وظيفة أخرى من الوظائف المرموقه .




بخصوص مريم , فقد سجلت العديد من المصادر أنها قد عاشت بعد موت يسوع , و يصورها انجيل يوحنا بأنها كانت موجوده فى وقت الصلب .



لا يوجد لدينا ما يشير الى ما كانت تعتقده مريم فى يسوع , لأن التقاليد القائله بأنها قد علمت أن يسوع هو ابن الله قبل أن تلده , لا تشهد لها مصادر متعدده مستقله , فقد وردت هذه التقاليد فى لوقا فقط , و من الواضح أيضا أنه لا تتوفر بها صفة " التباين " , لأنه من المتوقع أن المسيحيين أرادوا أن يقولوا أن مريم أم يسوع كانت تعلم بحقيقته من بداية القصه حتى نهايتها , و من المثير - كما أشرت سابقا - أن أقدم الأناجيل و هو انجيل مرقص يبدو فيه أن مريم لا تعلم شيئا عن حقيقة يسوع .






رابعا : من المؤكد أن يسوع كان له أقرباء من كلا الجنسين :



كان ليسوع أخوه , و كان منهم أخوة ذكور , و قد ذكرهم مرقص , و يوحنا , و يوسيفوس , و فى كتابات بولس , اذن فقد ذكرت فى أربع مصادر مستقله .


أما أخواته من الإناث , فيظهرون فى أحد هذه المصادر فقط , فى انجيل مرقص 3-32 , مرقص 6-3 .


و لا بد للمرء أن يتساءل , لم سيختلق المسيحيون قصة أن ليسوع أخوات اناث ؟؟؟؟ , اذن من المحتمل جدا أن هذا التقليد حقيقى , و أنه كان له أخوة اناث , مع أن هذا التقليد لا يشهد له عديد من المصادر المستقله .




يقول بعض المسيحين أن هؤلاء لم يكونوا اخوة يسوع بالحقيقه , فعلى سبيل المثال , قد قال المترجم الشهير للفلولجاتا اللاتينيه " جيروم " أن هؤلاء كانوا أولاد خالة يسوع و ليسوا أخوه مباشرين ليسوع .... ربما أفلت جيروم بقوله هذا , ربما لأنه كان الشخص الوحيد فى عالمه الصغير الذى يستطيع أن يتحدث اليونانيه , و بالتالى كان بوسعه أن يقف أمام الناس و يقول لهم هذا ما تعنيه الكلمه اليونانيه , و لكن فى واقع الأمر فإن هناك كلمه يونانيه أخرى هى التى تعنى أولاد الخاله , و بالطبع هى ليست الكلمه التى وردت فى وصف أخوة يسوع .



يدعى البعض الآخر , أن هؤلاء كانوا إخوة له , و لكن من زواج سابق ل" يوسف " , و لكن لا يوجد أى ايعاز بهذا فى أى من مصادرنا القديمه .



إن الادعاء بأن هؤلاء لم يكونوا أخوة يسوع بالحقيقه , سببه العقيده الرومانيه الكاثوليكيه التى نشأت بعد ذلك , من أن مريم لم تكن فقط عذراء عندما ولدت يسوع , بل لقد ظلت عذراء لبقية حياتها أيضا .... و لكن هذه الأمور لا نجدها فى الأناجيل , و بالتالى فالاستنتاج الطبيعى , أن يوسف و مريم قد ارتبطا جسديا و أنجبا عائلة كبيره , كان يسوع فيها هو الإبن الأكبر . (2)





خامسا : تعليم يسوع :



من الواضح أن يسوع قد تحدث الآراميه , و هى لغة ساميه قريبة الصله بالعبريه , و يشهد لهذا العديد من الفقرات فى الأناجيل , حيث يتحدث يسوع , و ربما فى نهاية كلامه تأتى كلمه آراميه , فيقوم مؤلف الانجيل بترجمة هذه الكلمه من كلام يسوع الآرامى الى اليونانيه , و أشهر مثال لهذا , أخر كلمات ليسوع , و التى جاءت فى انجيل مرقص , " الوى الوى لم شبقتنى ؟ " .



كذلك يوجد لدينا اشارات أن يسوع كان بمقدوره أن يقرأ الكتاب اليهودى بالعبريه , كما نجد فى لوقا 4 , و مرقص 12 , و من المؤكد أنه عرف كمفسر للكتاب اليهودى , فقد أطلق عليه لفظ " راباى " فى مصادرنا .



كذلك , فإن لدينا تقاليد متعدده مستقله , أن الناس الذين كانوا على علم بخلفية يسوع , كانوا يندهشون من علمه الغزير , و هذه التقاليد أيضا تتوفر بها صفة " التباين " , لأنه لن يوجد مسيحى سيرغب أن يخبر الناس أن يسوع كان يتعلم ببطء عندما كان طفلا صغيرا .



ان المعلومات السابقه تشير الى أن يسوع قد تعلم كيفية القراءه كطفل , و أنه حظى بنوع ما من التعليم , و لكن أحدا ممن كان حوله و شاهد يسوع و هو ينمو عاما بعد عام لم يعتقد أن يسوع كان مثقفا خارقا للعاده .




لا توجد أية تقاليد تشير الى أن يسوع قد تحدث اليونانيه , بالرغم أن بعض الناس قد يعتقد أنه كان يتحدث اليونانيه , حيث أنها كانت تستخدم أحيانا فى "الجليل" حيث عاش يسوع .




اننى أعتقد أن يسوع قد تحدث الآراميه , و كان بوسعه أن يقرأ بعضا من العبريه , و ربما كان يعرف القليل من اليونانيه .







للأسف , فإن حياة يسوع المبكره يكتنفها الظلام , و معرفتنا عنها قليلة جدا , و لكن ربما علينا أن نفترض أنه حظى بطفولة طبيعيه , و لكن لسوء الحظ , فإنه لا يتوفر لدينا معلومات عن سمات الطفوله الطبيعيه فى بلد مثل " الجليل " , و ربما أنه مارس مهنة أبيه كما هو متوقع , و قد وصفت مهنة يسوع بنفس الكلمه اليونانيه التى وصفت بها مهنة أبيه , و قد ورد ذلك فى مرقص 6 , و من المستبعد أن مسيحيا قد اختلق عبارة يفهم منها أن يسوع كان يمتهن مهنة من المهن الدنيا .





اذن فقد رأينا فى هذه المحاضره كيفية تطبيق المعايير التى درسناها على قصة يسوع , من أجل أن نعرف أيا منها يحتمل أنه يمت بصله الى قصة يسوع الحقيقه , و ايا منها يحتمل أنه أمر مختلق مفبرك لا صلة له بقصة يسوع الحقيقه .




و سنطبق هذه المعايير فى المحاضرات القادمه على حياة يسوع كإنسان بالغ , و لكن قبل ذلك لا بد أن ندرس السياق التاريخى لسمات معلم يهودى فى عشرينيات القرن الأول
ن التاريخ السياسى لفلسطين يتضمن حوالى ثمانمائة عام من الحروب المتقطعه و الخضوع لحكام غرباء .



كان الجزء الشمالى من فلسطين يدعى باسم " مملكة اسرائيل " , و الجزء الجنوبى يعرف باسم " اليهوديه " .




أسقطت " الإمبراطوريه الآشوريه " مملكة اسرائيل فى عام 721 قبل الميلاد , و بعد ذلك بقرن و نصف تقريبا , فى عام 587-586 قبل الميلاد قهر البابليون مملكة " يهوذا " الجنوبيه تحت قيادة القائد البابلى نبوخذ نصر , الذى دخل أورشاليم و دمر الهيكل , و أخذ قادة شعب اسرائيل الى السبى , و بعد ذلك بخمسين عام تغلب الفارسيون على الامبراطوريه البابليه , و أنهوا سبى القاده اليهود , و سمحوا لهم بالعوده الى ديارهم , و أعيد بناء الهيكل .




و قد منح الكاهن المسئول عن الهيكل , و الذى لقب بالكاهن الأعظم , سلطة قضائيه كحاكم محلى على هذا الشعب , و كما يتبين فقد كان رجلا يمتد نسله عبر مئات السنين الى رجل قديم يدعى " صاداق " , و بالطبع فقد كانت السلطه النهائيه الأعلى للفارسيين , و لكن الأمور المحليه كانت تدار بواسطة طبقه أرستقراطيه تتواجد فى الهيكل بصوره رئيسيه , و قد استمر هذا الوضع حوالى قرنين من الزمان , حتى فتح الاسكندر الأكبر حاكم " مقدونيه " , الذى أسقط الامبراطوريه الفارسيه , و فتح معظم البلدان فى شرق البحر المتوسط .




أحضر الإسكندر الحضاره اليونانيه معه و أدخلها فى البلدان التى فتحها , و شجع الناس على قبول الثقافه و الدين اليونانى , و كذلك استخدام اللغه اليونانيه , و هذا هو السبب فى أن كل شخص متعلم فى الامبراطوريه الرومانيه التى جاءت بعد ذلك بعدة قرون كان يتحدث اليونانيه , و لهذا أيضا كتب العهد الجديد باليونانيه لأنه كتب فى المناطق التى فتحها الإسكندر .




مات الاسكندر عن عمر يناهز الثلاثه و الثلاثين عاما , فى عام 323 قبل الميلاد , قسم قواده المملكه بين أنفسهم , و قد وقعت فلسطين تحت حكم " بطليموس" , الذى كان يحكم مصر .




خلال هذه الفتره , من فتوحات الاسكندر و ما يليها , فقد ظل الكاهن الأعظم هو الحاكم المحلى لأرض " اليهوديه " , و هذا أيضا لم يتغير عندما بسط حاكم سوريا سلطانه على فلسطين بدلا من " البطلميين " فى عام 198 قبل الميلاد .




برغم وجود حالة عداء و خصومه خلال هذه الفتره الطويله من الحكام الغرباء , من الأشوريين الى البابليين الى الفارسيين الى اليونانيين الى البطلميين الى السوريين , الا أنه قد زادت حدتها تحت حكم الملوك السوريين , و خصوصا " أنطيوخوس الرابع " , أو الذى دعى نفسه باسم " أنطيوخوس أبيفانيوس " , كأنه يريد أن يقول أنه ظهور لكائن الهى , و الذى قرر توحيد الثقافه بين الناس فى امبراطوريته , و تعميم الثقافه اليونانيه على الناس .




لم يعترض بعض اليهود على هذا , لأنهم كانوا يشعرون أن الثقافه اليونانيه أعلى بالفعل من أى ثقافة أخرى , و لكن الكثير منهم عارضوا ذلك لأنهم رأوا أن هذا سيجبرهم على تغييرات فى عقائدهم و تقاليدهم , و بالتالى فقد تظاهروا ضد ذلك .



بسبب تظاهر اليهود , شدد أنطيوخوس قبضته عليهم , فأصدر قانونا يجرم على اليهود ختن أولادهم , و حول هيكل اليهود الى حرم وثنى , و طلب من اليهود أن يقدموا الذبائح للآلهه الوثنيه , و ما هدف اليه أنطيوخوس بهذا هو صبغ كل الناس بصبغه ثقافيه واحده .



قامت ثوره بقيادة عائله من الكهنه اليهود , الذين يعرفون فى التاريخ باسم " المكابيين " أو " الحشمونيين " , و بدأت الثوره فى عام 167 قبل الميلاد على نطاق ضيق , و لكنها انتهت بثورة عامه فى البلاد ضد الحكام السوريين , و فى أقل من 25 عاما , نجح المكابيون فى طرد الجيش السورى خارج أراضيهم , و أنشأوا دوله يهوديه ذات سياده لأول مره منذ أربعة قرون .



أعاد المكابيون تكريس الهيكل , و كان هذا من أول أعمالهم فى عام 164 قبل الميلاد , و الذى لا يزال يحيى ذكراه باحتفال " الهانوكاه " , و عينوا الكاهن الأعظم كحاكم على الأرض , و لكن ما أفزع اليهود أن هذا الكاهن الأعظم لم يكن من نسل " صاداق " , بل كان من العائله " الحشمونيه " , و قد اعتقد كثير من اليهود أن " الحشمونيين " قد تجاوزا الحد بفعلتهم هذه .



تسيد " الحشمونيون" لحوالى ثمانين عاما , حتى عام 63 قبل الميلاد , الى أن قهرهم الحاكم الرومانى " بومبى " , و استولى على الأرض , و لكن تم الابقاء على الكاهن الأعظم كحاكم محلى على اليهود , و لكن كانت السيطره النهائيه على الأرض لروما بكل تأكيد .



و فى النهايه , و فى عام 40 قبل الميلاد , عين الرومان ملكا ليدير شئون فلسطين , و هو " هيرودس الأعظم " , و الذى عرف بفرط استخدامه للقوه , و بسبب منشآته المعماريه الرائعه , و التى لم تهدف فقط الى تزيين منطقة حكمه , بل أيضا الى استغلال الأيادى العامله , و قد ساهم أيضا فى الهيكل اليهودى الذى كان عملا معماريا رائعا .



على الرغم من ذلك , فقد كان الكثير من اليهود ممتعضين من حكم هيرودس , و اعتبروه رجلا انتهازيا متعاونا مع العدو , و اتهموه بأنه " نصف يهودى " , و قد أسسوا هذه التهمه بناء على نسبه , لأن أبويه أجبرا على اعتناق اليهوديه قبل ميلاده , و بالتالى فقد ولد لأبوين تحولا الى اليهوديه , و لم يولدا أصلا يهوديين .



فى الواقع , فإن انجيل متى و لوقا يخبرانا أن يسوع قد ولد فى زمن هيرودس الأكبر , و فى الواقع فقد حدث هذا فى أواخر حكم هيرودس الأكبر ... و بعد موت هيرودس الأكبر , حكم ابنه المسمى " هيرودس أنتيباس " منطقة " الجليل " و التى كانت فى الجزء الشمالى من الأرض , فى فترة حياة يسوع و كرازته .... و فى فترة صبا يسوع , حكم أرض " اليهوديه " التى تقع فى الجنوب منتدب رومانى ..... اذن فى حياة يسوع كان يوجد حاكمان خاضعان للرومان , حاكم للشمال و هو ملك تابع للرومان , و منتدب رومانى على الجنوب .



كان بيلاطوس البنطى هو المنتدب الرومانى طيلة الفتره التى كرز فيها يسوع , و بعد عدة سنوات من موت يسوع , و كان مقر بيلاطوس فى قيصريه , و لكنه كان يأتى الى العاصمه أورشاليم بقواته اذا ظهرت حاجة لذلك .




هناك مفهوم خاطىء لدى الناس الذين يشاهدون أفلاما كثيره عن يسوع , و هو أن القوات الرومانيه كانت تتواجد فى كل مكان , و لهذا كان الناس يشعرون بالاضطهاد , لأنهم يشعرون أن الرومان يراقبونهم فى كل حركاتهم ....هذا الكلام غير صحيح بالمره , فلم يضع الرومان قواتهم فى كل مكان فى فلسطين , بل كانوا يضعونها على الحدود حيث يمكن أن يواجهوا خطر الغزو , و كانت هناك مجموعه صغيره فقط من الحراس فى فلسطين , كحراس شخصيين للحاكم , و هى أصغر بكثير من أن تعتبر جيشا , و لهذا فإن يسوع لم ير جنديا رومانيا فى فلسطين مطلقا , و لكنهم كانوا يعلمون أنهم خاضعين لروما لأنهم يدفعون الضرائب لروما , و لكن الفكره القائله بوجود جنود رومانيين فى كل مكان غير صحيحه بالمره .




كان لا بد أن نذكر هذا السياق التاريخى السريع لأنه كانت له تداعيات اجتماعيه و ثقافيه , أثرت على حياة اليهود فى فلسطين



فقد أثرت فتره المكابيين على الحياه السياسيه و الاجتماعيه و الدينيه , و تسببت فى إعادة هيكلة الفرق اليهوديه التى وجدت فى عصر يسوع , و على سبيل المثال الفريسيين و الصدوقيين و الآسينيين



كذلك فقد تسبب الاحتلال الرومانى فى حدوث العديد من الثورات العنيفه أو غير العنيفه فى زمن يسوع .




دعونى أتكلم أولا عن الفرق التى ظهرت أثناء فترة " الحشمونيين " .. لقد ذكر المؤرخ اليهودى يوسيفوس أربعا من هذه الفرق , و جميع هذه الفرق تلعب دورا هاما - بطريقة أو بأخرى- فى فهمنا لشخصية يسوع التاريخى



هناك بعض النقاط التى نستطيع أن نقولها عن هذه الفرق اليهوديه مجتمعه



أولا : و خلافا للمتوقع , فإن معظم اليهود لم يكونوا ينتمون الى أى من هذه الفرق , و قد قال يوسيفوس أن أكبر الفرق و هى فرقة " الفريسيين " ادعت لنفسها أنها تضم ستة آلاف عضو , و أن فرقة " الأسينيين " ادعت لنفسها أنها تضم أربعة آلاف عضو , أما فرقة الصدوقيين فمن المحتمل أن عدد أعضائها كان أقل من ذلك



اذا قارنا هذه الأعداد بالتعداد الكلى لليهود فى العالم فى ذلك الوقت و الذى كان يبلغ حوالى ثلاثة أو أربعة ملايين , سيتضح لنا أن هذه الفرق كانت صغيرة جدا , و سيتضح أن معظم اليهود لم يكونوا ينتمون الى هذه الفرق .



و لكن , بالرغم مما سبق , فإن هذه الفرق الصغيره كانت قوية التأثير من الناحيه السياسيه أو الاجتماعيه فى فلسطين .



كان كل عضو من أعضاء هذه الفرق يشارك نفس الرؤى العقائديه الأساسيه التى يشترك فيها اليهود فى أى مكان , فكلهم كان يعبد الها واحدا يعتقد أنه خالق كل شىء , و الذى تحدث عنه الكتاب المقدس اليهودى , و الذى اختار شعب اسرائيل ليكون شعبه المختار , و الذى وعد بحماية هذا الشعب فى مقابل اخلاص هذا الشعب له و اتباعهم للناموس ....هذه أمور يشترك فيها كل اليهود .



بالرغم من ذلك , فإن هذه الفرق السابقه قد اختلفت فى العديد من الأشياء المهمه , خصوصا فيما يتعلق بتفسير " المتطلبات اللازمه لاتباع ناموس الله" , و فى كيفية التعامل مع الحاكم الأجنبى , أو مع الكاهن الأعظم الذى لا ينحدر من نسل " صاداق " .



تعتبر فرقة " الفريسيين " من أكثر الفرق التى نمتلك معلومات بخصوصها , و لكنها تظل مع ذلك أكثرها غموضا بالنسبة لنا , و الذين لم يكونوا منافقين خلافا للمفهوم الشائع عنهم , فقد كانوا يحرصون على اتباع أوامر الله الوارده بالتوراه , و لكن المشكله أن الأوامر الوارده فى التوراه قد تكون غامضة فى بعض الأحيان .




كان من الأوامر الواضحه مثلا أن يحفظ اليهود يوم السبت , بمعنى ألا يمارس اليهودى عملا فى يوم السبت , و لكن ما لم يكن واضحا ما هى الأعمال التى يشملها هذا الأمر , لأن التوراه لم تحدد هذه الأعمال , و لهذا فإن الفريسيين الذين أرادوا أن يحافظوا على ناموس الله قد وضعوا قواعد لتحديد ما الذى يمكن عمله و ما لا يمكن عمله فى يوم السبت , و قد انتشرت هذه القواعد شفويا , و أصبح من المفهوم أنك اذا اتبعت هذه الأوامر الشفهيه التى وضعها الفريسيون فإنك بهذا تحافظ على ناموس موسى المكتوب .



هذه الأوامر الشفويه سجلت بعد ذلك بواسطة أحبار متأخرون , حوالى مائتى عام بعد يسوع , فى كتاب " المشنا " , الذى هو بمنزلة القلب من التلمود .



سيكون من الخطأ أن ننظر الى الفريسيين على أنهم مجموعه من المنافقين , فعلى العكس تماما , لقد كانوا أناسا مخلصين لشريعتهم , يريدون أن يحافظوا على ناموس الله بكل حذافيره , و لكن سوف نرى لاحقا أن يسوع كان له رأى آخر فيما يتعلق بكيفية المحافظه على الناموس .




ان المعلومات المتوفره لدينا عن فرقة " الصدوقيين " قليلة نوعا ما , لأنهم لم يتركوا لنا أى مصدر مكتوب على الاطلاق , و لكن يبدو مما قاله عنهم يوسيفوس , و ما قيل عنهم فى العهد الجديد , أنهم كانوا يتألفون من الطبقه الأرستقراطيه العليا بين اليهود , و يبدو أن كثيرا منهم كانوا كهنة فى الهيكل اليهودى .



من المعروف أن الصدوقيين كانوا على خلاف مع الفريسيين بخصوص القواعد الشفهيه التى وضعها الفريسيون فيما يتعلق بكيفية تطبيق ناموس موسى , فقد اعتبر الصدوقيون أن ما يجب الاهتمام به هو "ما كتبه موسى فى التوراه " , خصوصا فيما يتعلق بكيفية عبادة الله فى الهيكل .




و خلافا لما هو شائع , فقد كان الصدوقيون - و ليس الفريسيون - هم أصحاب اليد الطولى فى النفوذ فى القرن الأول فى فلسطين , فقد كان الكاهن الأكبر يأتى من وسطهم , و كانوا هم من يتحدثون عن احتياجات الشعب اليهودى أمام الحاكم الرومانى .




كان اهتمام الصدوقيين الرئيسى منصبا على طقس الذبائح الذى يجرى فى الهيكل , و يبدو أنهم كانوا منفتحين على الحكام الرومان طالما سمح لهم الرومان بتأدية طقس الذبائح فى هيكلهم و التى أمر الله بها فى التوراه .... و مرة أخرى نجد أن يسوع كان له فهم مختلف عما يهتم به الله خلافا لأمر الذبائح التى تقدم فى الهيكل .






الفرقه الثالثه , هى فرقة " الأسينيين " , و قد كانت تتألف من مجموعه من اليهود المتدينين , الذين يعتقدون أن باقى شعب اسرائيل قد ابتعد عن الله , و كما سيتضح , فربما أننا نعرف عن الأسينيين أكثر من الفرق الأخرى السابقه , برغم أنهم لم يذكروا أبدا بوضوح فى العهد الجديد .



بخلاف ما أورده " يوسيفوس " و كتاب قدماء آخرون , فإنه بحوزتنا الآن مجموعه من الكتابات يبدو أنها كتبت بواسطة الأسينيين , و هى تنتمى الى لفائف البحر الميت الشهيره , التى كتب معظمها بالعبريه , و بعضها بالآراميه , و القليل منها باليونانيه , و التى احتوت على أنواع كثيره من الكتابات الأدبيه , فهناك تقريبا نسخه من معظم أسفار كتاب اليهود المقدس , و هناك تعليقات على هذه الكتب , و هناك كتب خاصه بالتراتيل , و هناك كتب خاصه بالنبوات , و هناك قواعد خاصه بمجتمع الأسينيين .




من خلال مطالعتنا لهذه الكتب نستطيع أن نتعرف على حياة الأسينيين , فمن الواضح أنهم اعتقدوا أن اليهود فى أورشاليم قد ضلوا , و لهذا فقد أسسوا مجتمعاتهم الخاصه من أجل المحافظه على الناموس الالهى , و قد توقعوا أن تحل نهاية العالم قريبا , و أن الله سيتدخل عما قريب و يطيح بقوى الشر و منها اليهود المنحرفين , و يؤسس مملكته على الأرض , و أن أبناء النور سوف يهزمون ابناء الظلمه فى المعركه الأخيره , و بالطبع فإن المقصود بأبناء النور هم الأسينيون , و أن ما على الأسينيين أن يفعلوه حاليا أن يبتعدوا عن رجاسات العالم , و عن الانحرافات التى يمارسها اليهود فى الهيكل , و بالتالى أسس هؤلاء الأسينيون مجتمعات تشبه المجتمعات الرهبانيه , و وضعوا قواعد صارمه لمن يرغب بالإنضمام اليها .



يبدو أن الحرب اليهوديه عندما اندلعت فى عام 66 ميلاديه , قام الأسينيون باخفاء كتبهم قبل أن يشاركوا فى هذا الصراع , و ربما ظنوا أن هذه هى معركة النهايه , و أن الله سينصرهم , و لكنهم لم ينتصروا , و دمروا تماما .



و باختصار , فإن الأسينيين يعتبرون ان طهارتهم الطقسيه هى أهم شىء فى العلاقه بينهم و بين الله .... و مرة أخرى نجد أن يسوع كانت له وجهة نظر مختلفه .






المجموعه اليهوديه الرابعه التى ذكرها يوسيفوس أطلق عليها اسم " الفلسفه الرابعه " , و هذا المصطلح فى الحقيقه يشمل العديد من فرق اليهود , كانوا يؤمنون أن الله أعطاهم أرض اسرائيل , و أنه يتوجب استرجاعها بالقوه ممن انتزعوها منهم , و بالتالى فقد آمنت هذه المجموعه بالمقاومه المسلحه ضد أى محتل غريب و خصوصا الرومان .



كما ذكرت سابقا , فقد اندلعت ثورة ضد الرومان فى عام 66 ميلاديه , و أدت الى حرب مدتها ثلاث سنوات و نصف , انتهت بدمار أورشاليم , و احتراق الهيكل .


اذن هذه المجموعه آمنت بالمقاومه المسلحه , و أن أرض اسرائيل قد أعطاها الله لهم , و لا يصح لأى حاكم غريب أن يحكمهم فيها ..... و مرة أخرى نجد أن يسوع كانت له وجهة نظر مختلفه عن هذه .





اذن فقد تحدثنا عن الفرق اليهوديه الأربعه و عن صفاتها , و كما يتضح فإن يسوع كانت له وجهة نظر تختلف عما تؤمن به أى فرقه من هذه الفرق الأربعه .



و فى الختام نقول , أنه من الواجب علينا أن نستوعب سمات المجتمع اليهودى الذى عاش فيه يسوع , حتى يتسنى لنا أن نميز أى من التقاليد يصلح أن ينسب له من خلال هذه السياق , و أى منها لا يصح .. أما لو انتزعنا التقاليد الوارده لنا عن يسوع من سياقها التاريخى فسنخطىء فى فهم معناها بكل تأكيد
إن المعتقد الشائع بأن اليهود عانوا فى معيشتهم تحت ظل الامبراطوريه الرومانيه أكثر من غيرهم ليس صحيحا على الاطلاق , فلقد كانت السلطات الرومانيه تتعامل مع اليهود بنفس الطريقه التى تتعامل بها مع الشعوب فى أى منطقه فتحوها , و لقد كانت الامبراطوريه شاسعه مترامية الأطراف , و وصلت حدودها فى النهايه من أول ما يعرف الآن بإنجلترا و أسبانيا فى الغرب حتى سوريا فى الشرق , و قد قسمت المنطق المفتوحه الى مقاطعات , كان يحكم كلا منها حاكم رومانى من الطبقه الأرستقراطيه , و فى بعض المناطق كانوا يتركون السلطه فى يد أحد الأرستقراطيين من أهل البلد , الذى يحكم كملك , و لكنه تابع لروما .






عندما ولد يسوع , كانت فلسطين كلها يحكمها ملك تابع لروما , و هو هيرودس الأكبر , و عندما مات يسوع , حكم الجزء الشمالى من " اسرائيل " المسمى ب " الجليل " أحد ابناء هيرودس , و لكن أرض " اليهوديه " فى الجنوب كان يحكمها حاكم رومانى هو بيلاطوس البنطى , و بالتالى فقد حدث انقسام بعد موت هيرودس الأكبر .






كان على كل من "الملك التابع لروما" أو "الحاكم الرومانى" أن يؤدى شيئين رئيسيين للامبراطوريه الرومانيه , هما : أن يرفع الجزيه الى روما , و أن يحافظ على السلام و الاستقرار فى منطقة حكمه , و لم تضع الامبراطوريه قواعد معينه حتى يتبعها هؤلاء الحكام من أجل تحقيق هذين الهدفين , و لكنهم تركوا كل حاكم ليقرر بنفسه الوسائل المناسبه لتحقيق ذلك حسبما يرى .





لم يكن للرومان قوات أو حاميات عسكريه داخل المناطق المفتوحه , و لهذا , فمن المحتمل أن معظم اليهود فى فلسطين لم يشاهدوا أبدا جنديا رومانيا , فقد كانت القوات تتركز على الجبهات , و فى حالة فلسطين مثلا , فقد كانت القوات تتركز بالأعلى فى سوريا , لتحمى الامبراطوريه من أى غزو خارجى .





كانت القوات الوحيده الموجوده داخل فلسطين مجموعه صغيره يستبقيها الحاكم الرومانى فى مقر اقامته فى قيصريه على الساحل , و كان من الممكن استخدامها لو حدث اضطراب داخلى , و لكنها فى العاده تبقى لحماية الحاكم .





كان من المعتاد أن يأتى الحاكم الرومانى الى أورشليم - عاصمة اليهوديه - فى وقت عيد الفصح السنوى , حيث يتركز بقواته حول الهيكل , من أجل القضاء على أى اضطراب محتمل .





كان العبء الرئيسى الملقى على عاتق اليهود هو دفع الجزيه , كما هو الحال مع سائر البلاد المفتوحه , و من الصعب علينا أن نحدد مقادر هذه الجزيه التى كان يدفعها الناس فى سائر أرجاء الامبراطوريه , و لكن معظم الدراسات الحديثه تخمن أن الفلاح مثلا كان يؤدى 12-13 فى المائه من محصوله من أجل تلبية احتياجات المواطنين الرومان .





كانت اليهود يؤدون هذه الضريبه بالطبع , بخلاف الضرائب التى يؤدونها لرعاية الهيكل و الاداره اليهوديه المحليه , و التى تبلغ حوالى 20 فى المائه من الدخل , و بالتالى فقد كان اجمالى الضرائب يمثل حوالى ثلث دخل اليهودى .




قد لا يبدو هذا عبئا فى عالمنا المعاصر , و لكنه كان عبئا كبيرا فى العالم القديم .






اذن فلم يكن اليهود أسوأ حالا من باقى المواطنين فى أرجاء الامبراطوريه الرومانيه .





بل اننا نجد من ناحية أخرى , أن اليهود كانوا أفضل حالا من باقى الناس فى أرجاء الامبراطوريه , فمنذ عهد يوليوس قيصر الذى اغتيل قبل ميلاد يسوع بأربعين سنه , لم يعد واجبا على اليهود أن يمدوا الامبراطوريه الرومانيه بالجنود , بعكس باقى المناطق الأخرى التى تخضع للرومان , و كان هذا مكافأه لليهود الذين ساعدوا عائلة قيصر أثناء بعض النزاعات مع مصر .






و كذلك لم يكن واجبا على اليهود أن يعاونوا المعسكرات الحربيه الرومانيه التى تعسكر بالقرب من بلادهم .






هناك شىء يعتبر اليهود فيه أسوأ حالا من باقى سكان الامبراطوريه الرومانيه , فقد كان الكثير من اليهود يعتبرون أن دعم الإداره الرومانيه بالمال نوع من التجديف , فقد آمن اليهود أن الله قد أعطاهم هذه الارض , فكيف يدعمون الرومان من خلالها ؟؟؟؟؟!!!!! و بالتالى فقد كان هذا الأمر يمثل مشكلة عقائديه بالنسبه لهم و ليس مجرد رفض لشعب محتل أن يدعم المحتلين بالمال .








اختلفت طريقة تعامل اليهود مع الاداره الرومانيه على عدة اشكال , فقد كان الكثير من اليهود الارستقراطيين لا يرون فى الاحتلال الرومانى مشكله , و على العكس كانوا يجنون من وراء هذا المنفعه , فقد قام الرومان بتنمية البنيه الأساسيه , و حمايتهم من الأمم الشرسه فى الشرق , و هذا أمر جيد بالنسبه لهم .





من ناحية أخرى , فقد اعتبر كثير من اليهود الاحتلال الرومانى كابوسا سياسيا و دينيا غير محتمل , و قد قاوم اليهود الرومان فى القرن الأول الميلادى فى العديد من المواضع و بأساليب مختلفه , و سوف أتحدث عن خمس طرق قاوم بها اليهود الرومان .





إننى لا اقول أن هذا يشمل كل اليهود , فلم يكن كل اليهود يحاولون مقاومة الرومان , و كذلك لم يستخدم كل اليهود المقاومين هذه الطرق الخمسه , و لكنى اقول أن هذه هى الطرق الخمسه التى استخدمها بعض اليهود لمقاومة الرومان .






الطريقه الأولى :




كان بعض اليهود ينظمون مظاهرات صامته , أثناء عيد الفصح على سبيل المثال , الذى يمثل احتفالا بتخليص الله لشعب اسرائيل من قوة خارجية تظلمهم , و كما خلصهم الله فى الماضى على يد موسى , فإنهم يتوقعون أن يخلصهم الله فى المستقبل من الرومان أيضا تحت قيادة المسيح .





كان الرومان على درايه تامه بالايحاءات السياسيه لهذا العيد , و لهذا كانت القوات الرومانيه تتواجد فى هذا الحدث , استعدادا لأى اضطرابات قد تحدث .





فى مرة من المرات , تسبب تواجد القوات الرومانيه فى نتيجة غير التى يتمنونها , و هناك مثال على هذا قد ذكره يوسيفوس , حدث فى خمسينيات القرن الأول الميلادى , بعد حوالى 22 عاما من اعدام يسوع , أثناء حكم الوالى الرومانى " كيومانس " , الذى وضع القوات الرومانيه حول الهيكل أثناء عيد الفصح , فقام أحد الجنود من السخريه من الحشد اليهودى , و نزع ملابسه , و بالطبع فإن الحشد اليهودى لم يعتبر هذا أمرا مضحكا , لأنهم كانوا يعتبرون أن هذا مكان مقدس , و بالتالى فقد تناولوا حجارة و بدءوا فى قذف الجندى بها .





أرسل " كيومانس " تعزيزات من القوات لإخماد هذا الاضطراب , و بحسب يوسيفوس الذى ربما يكون قد بالغ فى العدد الذى كتبه , فإنه قد قتل فى هذا الحادث عشرون ألف يهودى .







الطريقه الثانيه :





عندما كانت الاداره الرومانيه تضايق اليهود فى بعض الأحيان , كان اليهود ينظمون مظاهرات سلميه , و قد حدث هذا الأمر فى حياة يسوع , عندما جاء " بيلاطوس " فى أول حكمه عام 26 ميلاديه , دخل أورشاليم ليلا , و كان الجنود الرومان يحملون رايات عليها صورة الامبراطور , و لما استيقظ اليهود , غضبوا من هذه الرايات التى تحمل صورا , و قاموا باعتصام سلمى لمدة خمسة أيام حول قصر بيلاطوس كما ذكر يوسيفوس , و عندما فاض الكيل ب "بيلاطوس " , هددهم بالقتل , فانبطح اليهود على الأرض قائلين انهم يفضلون الموت على تدنيس مقدساتهم , و بالتالى فقد اضطر بيلاطوس أن يسحب هذه الرايات التى تحمل صورة الامبراطور .








الطريقه الثالثه : المقاومه العنيفه ضد الرومان :




لم يكن هذا الأمر يحدث كل يوم , بل فى الواقع كان نادر الحدوث , و قد حدث مرتين فقط فى القرن الأول الميلادى , و لكن أحدهم فى الواقع أدى الى عواقب كارثيه , و كان بعد 35-40 عاما من وفاة يسوع .





قام الحاكم الرومانى بسلب الهيكل , لأنه أراد أن ينفق على مشروع خاص به , فحدثت ثوره عارمه , فأرسل الرومان الجنود الذين كانوا يعسكرون فى سوريا من أجل اخماد هذه الثوره , و نجحوا فى اخضاع " الجليل " التى تمثل الجزء الشمالى من الأرض سريعا , و هذا هو الحادث الذى استسلم فيه يوسيفوس للرومان .





هرب بعض اليهود من الجليل الى أورشاليم , و أشعلوا حربا دموية بها , و هذه المجموعه تعرف فى التاريخ باسم " الغيورين " , و قد سيطروا على المدينه , و أعلنوا تحديهم للرومان حتى المنتهى , و أدى هذا الى حصار أورشاليم لمدة ثلاثة سنوات , حيث حاصر الرومان المدينه و منعوا أية امدادات من الوصول الى داخلها , و قد أدى هذا الأمر الى مجاعة عظيمه , و فى النهايه اقتحم الرومان المدينه و حدثت مذبحة عظيمه , و انتهت هذه الحرب بحمام من الدم , قتل فيها عشرات الآلاف من اليهود , و صلب الرومان قادة هذا التمرد , و دمرت أجزاء واسعة من المدينه , و أحرق الهيكل , و لم يبن مرة ثانية بعد ذلك .








الطريقه الرابعه :




تتميز هذه الطريقه بالمسحه الدينيه , فخلال القرن الأول الميلادى ظهر بعض الانبياء الذين قالوا أن الله سيتدخل قريبا , و يهزم الرومان ..هؤلاء الناس لم يكونوا يقاومون الرومان بأنفسهم , و لكنهم فقط يقولون ان الله سينصرهم على الرومان , و قد كان لبعضهم أتباع كثيرون , و سأعطيكم بعض الأمثلة عنهم .





بعد 15 عاما من صلب يسوع , ظهر نبى اسمه " ثودس " , اننا لا نعرف عنه سوى القليل الذى ذكره يوسيفوس , و كذلك فإن كتاب الأعمال قد ذكره .. كان " ثودس " نبيا يهوديا , و قد قاد مجموعة كبيره من اليهود الى خارج أورشاليم , الى نهر الأردن , و هناك ادعى بأنه سيشق نهر الأردن , حتى يتسنى للشعب أن يعودوا الى اسرائيل ماشين على أرض جافه , و هو بذلك يريد ان يقلد ما فعله موسى , فى اشاره الى أن الله سوف يعيد السياده لليهود على أرض الموعد مرة أخرى .





علم الرومان بذلك , فذهبوا الى نهر الاردن , و قتلوا " ثودس " و أتباعه , و أرسلوا برأسه الى أورشاليم .






بعد ذلك بعقد من الزمان , ظهر رجل يدعوه يوسيفوس و كتاب الاعمال باسم " المصرى " , اننا لا نعرف اسم هذا الشخص , و لكنه لقبه هو " المصرى " , و قد قاد مجموعة كبيره تبلغ حوالى ثلاثين الف كما قال يوسيفوس , و مرة أخرى قام الرومان بمذبحة عظيمه .






مثال ثالث على هؤلاء الأنبياء هو يوحنا المعمدان , الذى لا يخبرنا عنه يوسيفوس فقط , بل كذلك نقرأ قصته على صفحات العهد الجديد , فقد تنبأ هو الآخر أن الله سيتدخل لانقاذ شعبه و تدمير أعدائهم , كما نقرأ فى اقوال يوحنا المعمدان التى وردت فى الوثيقه " كيو " " من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتى ...و الآن , قد وضعت الفأس على أصل الشجر , فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع و تلقى فى النار "






لقد كان يوحنا المعمدان يتحدث عن ضرورة التوبه , و الا فإن من يرفض التوبه سيعرض نفسه لغصب الله الآتى قريبا .





و كما هو متوقع , فقد أعدم الرومان يوحنا المعمدان أيضا , و هذا هو المصير الذى لقيه العديد من أنبياء اليهود الذى ساروا على هذا الدرب , و لا بد أن نضع فى اعتبارنا هذا السيناريو عندما نسلط الضوء على قتل يسوع أيضا .








الطريقه الخامسه :





كانت عباره عن عقيده دينيه انتشرت فى هذه الفتره , و صحيح أن جذورها تعود الى الوراء الى فترة ثورة المكابيين , و لكنها انتشرت بشكل واسع بين يهود فلسطين أثناء الحكم الرومانى , و هو ما يعرف حاليا باسم النزعه " الرؤويه " , و هى عقيده آمن بها العديد من اليهود , و منهم الأنبياء الذين ذكرناهم للتو منذ قليل .





ادعى هؤلاء الأنبياء الرؤويون أن الله قد كشف لهم ما سيحدث فى المستقبل , و أنه سيتدخل و يؤسس مملكته على الأرض , و اننا نعرف عن هذه النزعه الرؤويه من خلال العديد من المصادر , مثل كتاب دانيال , و لفائف البحر الميت .







كان الرؤويون اليهود يتشاركون فى أربعة أشياء أساسيه .





الأول : كان اليهود الرؤويون ثنويين
dualists


, يؤمنون بوجود قوى للشر , و قوى للخير , و أن كل شىء فى هذا العالم ينضم الى أحد هذين القسمين , فلديك مثلا الملائكه فى صف الله , بينما الأرواح النجسه تقف فى صف الشيطان , لديك الحياه و الطهاره فى جانب الله , و الخطيئه و الموت فى جانب الشيطان , و كذلك فإن تاريخ العالم ينقسم الى قسمين , العصر الحاضر الذى تحكمه قوى الشر , و العصر المستقبلى الذى ستحكمه قوى الخير .




الثانى : لديهم نزعه تشاؤميه , فلا توجد فرصه لحياة جيده فى ظل قوى الشر التى تحكم العالم فى الحاضر , و بالتالى فإن من ينحاز الى جانب الحق , ستعاقبه هذه القوى الشريره , و كذلك فإن هذه القوى الشريره تزداد فى قوتها , و بالتالى فإن الأحداث ستتطور من سىء الى أسوأ, و لا يوجد ما يمكن فعله حيال ذلك .





الثالث : أمن الرؤويون أن الله سيتدخل و يؤسس مملكته و يطيح بقوى الشر , فسوف يأتى يوم للمحاكمه , ينهى الله فيه سلطان القوى الشريره , ثم يقيم الأموات ليحاسبهم , و من كان فى جانب الحق سيحظى بالمكافأه , و من كان فى جانب الشر سيعاقب الى الأبد .





الرابع : آمن هؤلاء الرؤويون أن هذا التدخل الإلهى سيكون فى القريب العاجل , و لهذا نقرأ فى كلام يسوع , " إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوه " , مرقص 9-1 , و بالتالى فمن الواضح أن يسوع نفسه كان يؤمن بهذه النزعه الرؤويه ,
إن أقدم مصادرنا , الوثيقه كيو , و انجيل مرقص , و


M , وL ,كلها ترسم يسوع فى صورة نبى رؤوى




أما مصادرنا المتأخره مثل انجيل يوحنا و انجيل توما , لا ترسم صورة رؤوية ليسوع .







إن هذا لا يبدو من قبيل المصادفه , و سوف أشرح هذا الامر بتوسع فى محاضرة لاحقه , و لكن على هنا أن أذكر الفكره الأهم , و هى أن المصادر الأقدم التى تتحدث عن يسوع تتحدث عنه كنبى رؤوى , يتحدث عن مملكة لله ستكون هنا على الأرض , تطيح بقوى الشر , و من سيسمح له بالانضمام الى هذه المملكه هم من يتوبون و يتبعون تعاليم يسوع , و سوف يأتى ابن الانسان ليحاكم الناس , و يستخدم يسوع هذا المصطلح ليشير الى شخص كونى سيأتى من السماء فى أية لحظه , و لن يكفى الانسان مجرد انتمائه الى شعب اسرائيل , بل يجب طاعة أوامر الله و اتباع تعاليم يسوع قبل أن يفوت الأوان .






لقد قال يسوع هذه الرساله فى الوثيقه كيو , و انجيل مرقص , و


M ,وL , أى فى أقدم المصادر التى تتوافر لدينا , فنقرأ مثلا فى مرقص الاصحاح الثالث عشر , العدد 24 -31 , يقول يسوع :



24 ( واما في تلك الايام بعد ذلك الضيق فالشمس تظلم والقمر لا يعطي ضوءه. 25 ونجوم السماء تتساقط والقوات التي في السموات تتزعزع. 26 وحينئذ يبصرون ابن الانسان آتيا في سحاب بقوة كثيرة ومجد 27 فيرسل حينئذ ملائكته ويجمع مختاريه من الاربع الرياح من اقصاء الارض الى اقصاء السماء. 28 فمن شجرة التين تعلّموا المثل.متى صار غصنها رخصا واخرجت اوراقا تعلمون ان الصيف قريب. 29 هكذا انتم ايضا متى رأيتم هذه الاشياء صائرة فاعلموا انه قريب على الابواب. 30 الحق اقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله. 31 السماء والارض تزولان ولكن كلامي لا يزول ).





يتحدث يسوع عن محاكمه كونيه للعالم , ستحدث فى حياة الجيل المعاصر له .






ماذا عما جاء فى الوثيقه كيو , و التى تتضمن الأقوال التى أتت فى انجيل متى و لوقا و لا توجد فى مرقص , فنقرأ فى الوثيقه كيو مستخدمين انجيل لوقا على سبيل المثال فى الاصحاح السابع عشر , العدد 24 -27, يقول يسوع :





24 (لانه كما ان البرق الذي يبرق من ناحية تحت السماء يضيء الى ناحية تحت السماء كذلك يكون ايضا ابن الانسان في يومه.... 26 وكما كان في أيام نوح كذلك يكون ايضا في ايام ابن الانسان. 27 كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون الى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان واهلك الجميع).








اذن فى هذا النص يتكلم يسوع عن الدمار الشامل الذى سيحدث عندما يأتى ابن الانسان .






و كذلك نقرأ فى الوثيقه كيو , مستخدمين لوقا الاصحاح الثانى عشر و الأعداد 39-40 :





39 (وانما اعلموا هذا انه لو عرف رب البيت في اي ساعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب. 40 فكونوا انتم اذا مستعدين لانه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الانسان)







ان الوثيقه كيو , و انجيل مرقص , و


M , وL , تحتوى على أقوال مثل هذه , تتحدث عن مجىء بن الانسان القريب , ليطيح بقوى الشر , و ضرورة استعداد الناس لمثل هذا اليوم عن طريق التوبه .





إن هذه التقاليد الرؤويه تختفى فى المصادر المتأخره , و على سبيل المثال , فقد اشرت سابقا الى أن أقدم أناجيلنا هو انجيل مرقص , و أن كاتب انجيل لوقا قد اعتمد عليه بجوار الوثيقه كيو , و المصدر


L , و بالتالى فمن السهل علينا أن نرى كيف تعامل لوقا مع التقاليد التى وردت إليه من انجيل مرقص





من المثير للاهتمام , أنك حين تقارن بين مرقص و لوقا , أن التقاليد الرؤويه التى وردت فى مرقص يجرى بترها فى لوقا , و تستطيع أن ترى هذا عندما تقارن أعداد معينه بعينها , فلنأخذ مثلا مرقص 9-1 :





"إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوه "




إن لوقا لديه هذا العدد , و لكنه بتر النهايه , ففى لوقا يقول يسوع :





"إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله "




هل تؤدى هذه العباره نفس المعنى الذى ورد فى مرقص ؟؟!! , فى الحقيقه ليس تماما , لأنه فى لوقا لن يرى الناس مملكة الله فى قوتها , بل سيرونها فى كرازة يسوع نفسها !!!!! .





و فى عدد ورد فى لوقا فقط , و لا نجده بالطبع فى مصادرنا الأقدم , فى لوقا الاصحاح السابع عشر و الأعداد 20-21 , يتحدث يسوع الى خصومه من الفريسيين , فيقول :



"لا يأتى ملكوت الله بمراقبه , و لا يقولون هوذا ههنا , أو هوذا هناك , لأن ها ملكوت الله داخلكم "





إن هذا نجده فى لوقا , و لا نجده فى مرقص .





إن لوقا لا يتحدث عن مملكة لله ستأتى بقوه , و لكن بدلا من ذلك , يتحدث عن مملكة لله موجودة بالفعل , انها موجوده بينهم من خلال كرازة يسوع .






و هذا هو السبب فى التغيير الذى تجده فى انجيل لوقا , فيما قاله يسوع لرئيس الكهنه أثناء محاكمته , ففى انجيل مرقص , يسأل رئيس الكهنه " أأنت المسيح ابن المبارك ؟ " , فيرد يسوع " أنا هو , و سوف تبصرون ابن الانسان , و آتيا فى سحاب السماء " ....إن يسوع يخبر رئيس الكهنه أنه سيرى هذا بنفسه .




لقد غير لوقا هذا الأمر , فقد قال يسوع كما ورد فى لوقا :



"منذ الآن يكون بن الانسان جالسا عن يمين قوة الله " , انه لا يخبر رئيس الكهنه أنه سيكون حيا ليرى حدوث هذا , لماذا ؟؟؟!!!!




ان لوقا الذى كان يكتب بعد مرقص بحوالى خمسة عشر سنه , لم يعتقد أن مملكة ما ستؤسس خلال حياة تلاميذ يسوع , و لماذا اعتقد بهذا ؟؟؟؟ , بكل بساطه لأنه كتب انجيله بعد وفاتهم , و علم بكل تأكيد أن النهايه لم تأت , و حتى يتعامل مع هذا التأخر فى قدوم النهايه , فقد قام ببعض التغييرات على تنبوءات يسوع .





كذلك فى المصادر المتأخره عن انجيل لوقا , فقد جرى استئصال العناصر الرؤوية كلية , و على سبيل المثال فى انجيل يوحنا , فإن المملكه لا توصف بأنها وشيكة الحدوث , بل توصف بأنها موجودة بالفعل .






فى الواقع , فإن انجيل يوحنا يدحض الرؤويه القديمه بأنه سيكون قيامه للأموات فى نهاية العالم , نجد هذا فى يوحنا الاصحاح الحادى عشر و الأعداد 23-26 , فيقول أن قيامه الأموات ليست حدثا سيحدث فيما بعد , بل إن القيامة تحدث فور ايمان الانسان بيسوع , و هكذا يحظى الانسان بالحياه الأبديه .





من الممكن أن نسمى هذا الأمر ب " تجريد رسالة يسوع من النزعه الرؤويه


" , " deapocalyptisizing of jesus message , فكلما مضى الوقت , كانت النزعه الرؤويه بقدوم مملكة الله على الارض تتلاشى , فقد بترها لوقا , ثم ذكر انجيل يوحنا نقيضها تماما , و ذكر نقيضها بصورة أشد فيما بعد , و على سبيل المثال , فى انجيل توما الذى يعود الى القرن الثانى الميلادى , فنجد هجوما عنيفا على أى شخص يعتقد بوجود مملكه مستقبليه هنا على الأرض , تجد هذا مثلا فى المقوله رقم ثلاثه , حيث يقول يسوع :




"اذا أخبركم أحد أن مملكة الله ستظهر فى البحر , و أن الطيور و الأسماك ستكون أمامكم , اذا أخبركم أحد أن مملكة الله ستأتى فى السماء , و أن الطيور ستكون أمامكم , بل إن مملكة الله بينكم , فيكم و حولكم "




و هناك أقوال أخرى فى انجيل توما تهاجم النزعه الرؤويه .





بناء على ما سبق , فإننا مقتنعون أن التقاليد الأقدم رسمت يسوع فى صورة رؤويه , أما التقاليد المتأخره فقد بترت هذه الصوره , و التقاليد التى بعد ذلك لم تبترها فقط بل وصرحت بنقيضها .






يبدو أن النهايه عندما لم تأت , فقد توقف المسيحيون عن القول بأن يسوع قد قال بقدومها الوشيك , و قاموا بتغيير أقواله تبعا لذلك .





ان العلماء يفضلون المصادر الأقدم , و التى ترسم يسوع فى صورة نبى رؤوى .





اننى أريد أن أنظر الى مصادرنا الأقدم هذه فى ضوء المعايير التى درسناها من قبل , و هى " المصادر المستقله المتعدده " و " التباين " و " مصداقية السياق " .








أولا : مصداقية السياق :






اننا لا نواجه أى اشكال على الاطلاق فى قبول يسوع كنبى رؤوى فى ضوء السياق التاريخى الذى عاش فيه , فنحن نعلم أنه وجد الكثير من الأنبياء الرؤويين فى عصره و فى مكانه , فى فلسطين فى القرن الأول الميلادى , و قد خلف عدد منهم بعض الكتابات لنا , و على سبيل المثال لفائف البحر الميت , و قد كتب عن البعض منهم , مثل يوحنا المعمدان الذى كتب عنه فى العهد الجديد , و قد كتب يوسيفوس عن أنبياء رؤويين آخرين خلال هذه الفتره , و على سبيل المثال " ثودس " , و الرجل الملفب ب " المصرى " .






و بالتالى , فلا توجد أية اشكاليه على الإطلاق فى السياق التاريخى فى أن يكون يسوع أحد هؤلاء الأنبياء الرؤويين .







ثانيا : التباين :






إن معظم التقاليد الرؤويه تتسم بصفة " التباين " , و قد ذكرت اثنين من هذه التقاليد الرؤويه أثناء شرحى لهذا المعيار الذى نستخدمه فى الحكم على التقاليد التى وردت الينا , و بالتالى دعونى أراجع لكم ما رأيناه هناك .





هناك بعض الأقوال التى يبدو أنها تتسم بصفة التباين مثل ما ورد فى مرقص 8-38 , حيث يتكلم يسوع عن ابن الانسان





يقول يسوع لتلاميذه :





"لأن من استحى بى و بكلامى فى هذا الجيل الفاسق الخاطىء , فإن ابن الانسان يستحى به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين "





قد اعتقد المسيحيون أن يسوع نفسه هو ابن الانسان الذى سيأتى ليحاكم العالم , فهناك العديد من العبارات فى الأناجيل التى يتحدث فيها يسوع عن "ابن الانسان" و يبدو واضحا أنه يتحدث عن نفسه , و بالتالى فقد اعتقد المسيحيون أن يسوع هو " ابن الانسان " و احتفظوا بأقوال يسوع هذه , و لكن ماذا عن النص الوارد فى مرقص 8-38 , و الذى لا يبدو فيه اطلاقا أن يسوع يتحدث عن نفسه ؟؟ , فاذا لم تكن تعلم أن يسوع هو ابن الانسان , فستفترض العكس تماما من خلال قراءتك لهذا النص .






اذن فليس من المعقول أن يخترع مسيحى نصا قد يفهم منه أن المسيح ليس ابن الانسان , و بالتالى فمن المحتمل جدا أن يسوع قد قال هذا النص .





مثال آخر :





"مثل الخراف و الجداء " :




حيث يتحدث يسوع عما سيحدث فى نهاية الايام عندما يأتى ابن الانسان , و هنا أيضا لا يعرف نفسه باعتباره هو " ابن الانسان " .






31 ( ومتى جاء ابن الانسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده. 32 ويجتمع امامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم من بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء. 33 فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. 34 ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي ابي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. 35 لاني جعت فاطعمتموني.عطشت فسقيتموني.كنت غريبا فآويتموني. 36 عريانا فكسيتموني.مريضا فزرتموني.محبوسا فأتيتم اليّ. 37 فيجيبه الابرار حينئذ قائلين.يا رب متى رأيناك جائعا فاطعمناك.او عطشانا فسقيناك. 38 ومتى رأيناك غريبا فآويناك.او عريانا فكسوناك. 39 ومتى رأيناك مريضا او محبوسا فأتينا اليك. 40 فيجيب الملك ويقول لهم الحق اقول لكم بما انكم فعلتموه باحد اخوتي هؤلاء الاصاغر فبي فعلتم




41 ثم يقول ايضا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين الى النار الابدية المعدة لابليس وملائكته. 42 لاني جعت فلم تطعموني.عطشت فلم تسقوني. 43 كنت غريبا فلم تأووني.عريانا فلم تكسوني.مريضا ومحبوسا فلم تزوروني. 44 حينئذ يجيبونه هم ايضا قائلين يا رب متى رأيناك جائعا او عطشانا او غريبا او عريانا او مريضا او محبوسا ولم نخدمك. 45 فيجيبهم قائلا الحق اقول لكم بما انكم لم تفعلوه باحد هؤلاء الاصاغر فبي لم تفعلوا. 46 فيمضي هؤلاء الى عذاب ابدي والابرار الى حياة ابدية )








المثير فى هذا المثل أنه يوضح أن طريق الخلاص هو "مساعدة المحتاجين" , و هذا خلاف المعتقد السائد لدى المسيحيين القدامى بأن الخلاص يأتى عن طريق الايمان ب "صلب يسوع و قيامته" ..... اذن فمن المستبعد أن يخترع مسيحى هذه القصه , و بالتالى فمن المحتمل جدا أن هذه القصه تعود بالفعل الى قصة يسوع الحقيقيه .






ثالثا : الشهادات المستقله المتعدده :






من المثير أيضا أن التقاليد الرؤويه تتسم بوجود مصادر عديده مستقله تشهد لها , فقد ظهر يسوع كنبى رؤوى فى مرقص , و الوثيقه كيو , و


M , وL .




و على العكس من هذا فإن انجيل توما المتأخر زمنيا عن المصادر السابقه , يجادل ضد صورة يسوع الرؤويه , و هذه نقطه فى غاية الأهميه , لأنك لن تجادل ضد شىء معين , الا اذا كان أمامك شخص ما يجادل فى صالحه , و بالتالى فإن ما ورد فى انجيل توما , يؤكد ان هناك أناسا اعتقدوا فى المسيح أنه نبى رؤوى بناء على التقاليد التى سمعوها .






اذن فمن الواضح أن " كون يسوع نبيا رؤويا " يتسم بكل المعايير الثلاثه التى وضعناها .





هناك حجة أخرى أريد أن أسوقها للتدليل على أن يسوع كان نبيا رؤويا , و هى تعتبر الأكثر اقناعا من وجهة نظرى , انها الطريقه التى بدأ بها يسوع كرازته , و الطريقه التى أنهاها بها , فمعرفة البدايه و النهايه يعطيك فكرة عما يوجد فى الوسط بينهما .






لا يوجد ثمة شك أن يسوع قد بدأ كرازته بمعمودية يوحنا المعمدان له , ان هذا أمر تشهد له العديد من المصادر المستقله , فى انجيل مرقص و الوثيقه كيو و فى انجيل يوحنا , و كذلك فإن هذا الحدث يمتاز بصفة " التباين " لأنه لن يوجد مسيحى سيختلق هذه الحادثه التى قد يفهم منها أن يوحنا أفضل من المسيح .






قد رأينا فى السابق أن يوحنا المعمدان كان نبيا رؤويا , كما ورد فى الوثيقه كيو , فقد قال يوحنا , أنه يجب على الناس التوبه لأن الفأس قد وضع على أصل الشجره , و كل شجره لا تنتج ثمرا ستقطع و تلقى فى النار , و هذا كلام واضح عن المحاكمه القريبه .






لقد ذهب يسوع مقتنعا الى يوحنا المعمدان , مع أنه كان بوسعه أن يذهب الى "الفريسيين" أو "الأسينيين" أو أتباع "الفلسفه الرابعه " , و لكن ذهابه المتعمد الى يوحنا يعنى أنه يشترك معه فى نفس الرساله الرؤويه عن النهايه القريبه .







من ناحية أخرى , فإنه لا يوجد لدينا أدنى شك عن مآل كرازة يسوع , فقد أسس المسيحيون مجتمعاتهم فى نطاق البحر المتوسط , و إننا نعلم عن هذه المجتمعات من خلال الكتابات التى خلفها قادتهم الأوائل , و أول من سنتناوله منهم هو بولس الرسول , الذى يتضح من كتاباته ايمانه بأنه يعيش فى نهاية الزمان , و أن يسوع سيعود فى زمانه ليحاكم الأرض , كما نجد مثلا فى رسالته الأولى الى كورنثوس الاصحاح 15 , و تسالونيكى الأولى الاصحاح الرابع .






لقد أشار بولس الى أنه نفسه سيكون حيا عندما تحين هذه النهايه , و هذا يعنى أن أول المجتمعات المسيحيه آمنت بالرؤويه و اتسمت بها .






اذن , اذا كنا نعلم البداية حيث بدأ يسوع مع يوحنا المعمدان الرؤوى , و نعلم النهايه و هى مآل كرازته الظاهر فى تأسيس مجتمعات مسيحيه رؤويه بعد موته , فما الذى نتوقع أن يكون قد حدث ما بين هذين الحدثين ؟؟؟ , اذا كانت البدايه رؤويه و النهايه رؤويه , فكيف لا يكون ما بينهما رؤويا ؟؟؟!!!!!




لو كان يسوع قد بدأ رؤويا مع يوحنا المعمدان , و لكن المجتمعات المسيحيه الأقدم لم تكن رؤويه , لأمكن أن يقال أن يسوع قد غير فكره .






و لو كان يسوع لم يبدأ كشخص رؤوى , و اتسمت المجتمعات المسيحيه الأقدم بالرؤويه , لأمكن أن يقال , أن يسوع نفسه لم يكن روؤيا , و لكن أتباعه تركوا تعاليمه و اتبعوا تعاليم الرؤويه بعد موته .






إن وجود البدايه الرؤويه , و النهايه الرؤويه , دليل مقنع على أن حياة يسوع فيما بينهما كانت رؤويه .






و لكن معرفتنا بأن يسوع شخص رؤوى , لا يعنى أننا نعرف ما الذى نطق به , و لهذا فإنة مهمتنا القادمه أن نرى ما الذى بشر به يسوع على وجه التحديد , بناء على التقييم النقدى لأقدم مصادرنا التى بحوزتنا .
The problem of pseudonymity

مشكلة انتحال الأسماء



فى المحاضرتين السابقتين ركزنا على حياة و رسائل القديس بولس , و نحن لا ندرى متى بدأ تجميع رسائل بولس فى شكل مجموعه واحده , ربما أن المسيحيين كانوا ينسخون عدة نسخ من رسائل بولس و يوزعونها على بعضهم البعض ....... اننا نعلم ايضا أن بعضا من رسائل بولس قد فقد , و نعلم هذا من اشارة بولس الى بعض هذه الرسائل مثلما ورد فى رسالته الأولى الى أهل كورنثوس فى الاصحاح الخامس و العدد التاسع :

(9 كتبت اليكم في الرسالة ان لا تخالطوا الزناة)

هذا ورد فى الرساله الأولى الى أهل كورنثوس و لكن كما هو واضح فإن بولس كان قد أرسل اليهم رسالة قبلها و لكنها مفقوده .


يبدو لنا أن رسائل بولس كانت تتداول فى شكل مجموعه مع نهاية القرن الأول الميلادى , بعد حوالى ثلاثين الى أربعين عاما تقريبا من زمن كتابة بولس لرسائله , و اننا نعرف هذا من خلال آخر ما كتب من كتب العهد الجديد و هو رسالة بطرس الثانيه , و هى رساله لم يكتبها بطرس الرسول و يرجع تاريخها الى بدايات القرن الثانى الميلادى تقريبا , و يشير فيها الكاتب الى مجموعه من الهراطقه اعتقدت أن تعاليم بولس عسيرة على الفهم , فنقرأ فى هذه الرساله فى الاصحاح الثالث و العدد السادس عشر ما يلى :


16 (كما في الرسائل كلها ايضا متكلما فيها عن هذه الامور.التي فيها اشياء عسرة الفهم يحرّفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب ايضا لهلاك انفسهم)


ما يثير الاهتمام هنا هو أن رسائل بولس قد تشكلت فى صورة مجموعه , و الشىء الآخر أنه بدأ ينظر اليها كوحى مقدس


فى واقع الأمر فإن بولس أثناء كتابته لرسائله لم يكن يعتقد أنه يكتب كتابا مقدسا , كما هو الحال مع أى كاتب آخر يكتب كتابا , و سوف نتناول كيف تحولت هذه الكتابات الى كتابات مقدسه فى المحاضرات القادمه .


من الواضح ايضا أن هناك خطابات زورت و نسبت الى بولس منذ العصر المبكر للمسيحيه , فكان بعض المسيحيين يكتبون رسائل معينه و ينسبونها الى بولس , و هناك أدلة قوية على هذا , و أحدها نجده فى رسالة تسالونيكى الثانيه فى الاصحاح الثانى و العدد الأول , حيث يقول الكاتب و الذى يزعم أنه بولس متحدثا عن عودة يسوع الى الأرض من أجل الدينونة ما يلى :



1 (ثم نسالكم ايها الاخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا اليه 2 ان لا تتزعزعوا سريعا عن ذهنكم ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كانها منا اي ان يوم المسيح قد حضر. 3 لا يخدعنكم احد على طريقة ما.لانه لا ياتي ان لم يات الارتداد اولا ويستعلن انسان الخطية ابن الهلاك 4 المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى الها او معبودا حتى انه يجلس في هيكل الله كاله مظهرا نفسه انه اله)


أن هذا الكاتب يطلب من قرائه ألا يتزعزعوا بسبب كِتاب منسوب اليه يحدثهم أن يوم المسيح قد أتى , لأن هذا لا يمكن أن يحدث الا بعد حدوث أشياء أخرى قبله , و هى الارتداد و استعلان ابن الهلاك , و ربما يشير بذلك الى ضد المسيح ........ما يهمنا فى مقامنا هذا أن الكاتب لرسالة تسالونيكى الثانيه يشير الى أن شخصا ما أرسل رسالة تحمل اسمه الى أهل تسالونيكى مخبرا اياهم أن النهايه قد أوشكت .



ان رسالة تسالونيكى الثانيه من الرسائل الثلاث عشره التى تنسب الى بولس ضمن اطار العهد الجديد , و ما ذكرناه منذ قليل يثبت أن الرسائل كانت تزور و تنسب الى بولس منذ القرن الأول الميلادى .



المشكله التى تواجهنا هى أن بعض الدارسين غير مقتنعين أن هذه الرساله - أى تسالونيكى الثانيه- قد كتبها بولس , و هذا يخلق موقفا مفعما بالسخريه , أن نستشهد برسالة مشكوك فى نسبتها الى بولس كدليل على تزوير رسائل أخرى و نسبتها الى بولس , و لكن على كلا الحالين سواء كان بولس هو كاتب رسالة تسالونيكى الثانيه أم أنها رسالة نسبت اليه و هم لم يكتبها , فإننا فى كلا الحالين سننتهى الى نفس النتيجه و هى , أن بعض المسيحيين كانوا يكتبون رسائل معينه و ينسبونها الى بولس كذبا و زورا و هو لم يكتبها أصلا , أن هذا الأمر موجود منذ القرن الأول الميلادى .


من الأسباب التى تجعل الباحثين يظنون أن بولس لم يكتب رسالة تسالونيكى الثانيه هى الفقره التى قرأتها لكم منذ قليل من هذه الرساله , فبحسب ما ورد فى رسالة تسالونيكى الثانيه فإن نهاية العالم ليست وشيكة , و المسيح لن يعود فورا ....يبدو أن بعض المسيحيين فى تسالونيكى تركوا أعمالهم و بدأوا فى انتظار قدوم المسيح فى الأيام القريبه القادمه , و بدأوا يعيشون عالة على غيرهم , و يريد كاتب تسالونيى الثانيه من هؤلاء الناس أن يعودوا الى حياتهم العاديه لأن النهاية ليست وشيكه .



المشكله هى أن بولس نفسه كان يقول بغير هذا فى رسالة تسالونيكى الأولى , فقد كان يؤكد على قرب النهايه الوشيكه , أنها ستكون مثل لص بالليل , و ينبغى على المسيحيين أن يكونوا منتبهين و مستعدين لأنها قد تأتى فى أية لحظه .


ربما أن بولس قد غير رأيه , أو أن رسالة تسالونيكى الثانيه قد كتبها شخص آخر غير بولس , كانت لديه رؤيه مختلفه عن الأحداث , لأن النهايه لم تحدث فورا كما أخبر بولس ....على أى حال فان هذه الرساله توضح لنا ان هناك رسائل كتبت زورا تحت اسم بولس مع أنه لم يكتبها .



كما أوضحت لكم فى محاضرة سابقه , فإن هناك أسباب تدعو الى الاعتقاد أن ستة من رسائل بولس لم يكتبها بولس
"pseudepigraphical"
, و لكن كيف نفسر ظهور هذا التصرف بين المسيحيين الأوائل , أليست نسبة الكتب زورا الى كاتب لم يكتبها اصلا نوع من الخداع ؟؟؟ , فهل يقوم بذلك أناس على قدر عال من التدين ؟؟؟؟ .


للأجابه على هذا السؤال لا بد أن نعرف شيئا عن " نسبة الكتابات زورا الى غير أصحابها " كظاهره فى العالم اليونانى-الرومانى , أى أن ندرس هذه الظاهره على نطاق أوسع .... اننا نعرف قدرا كبيرا من المعلومات عن هذه الظاهره لأنه يوجد العديد من الكتاب فى العالم القديم الذين تحدثوا عنها, و منهم مثلا طبيب شهير فى القرن الثانى الميلادى يدعى " جالان " , و قد ألف العديد من الكتب , و يخبرنا فى أحد كتبه هذه أنه فى يوم ما كان يتمشى فى أحد شوارع روما , و رأى محلا يبيع كتابا ينسب اليه , و رأى اثنان يتجادلان حول ما اذا كان " جالان" قد كتب هذا الكتاب أم لا , و سمعهما " جالان" , و اتضح أنه لم يكتب هذا الكتاب , و بالتالى فقد عاد " جالان " الى منزله و كتب كتابا عنوانه " كيف تتعرف على الكتب التى كتبها جالان" .



اذن فقد كان تزوير الكتب أمرا شائعا فى العصور القديمه , أكثر منه فى عصرنا الحاضر , و تتذكرون بالطبع " مذكرات هتلر" التى ظهرت فى الثمانينيات من القرن العشرين , و التى ظن البعض أن هتلر بالفعل قد كتبها , الا أن اكتشف فى نهاية المطاف أنها مزورة عليه .


كانت هناك العديد من الأسباب التى تدفع الناس أن يزوروا كتبا بهذه الطريقه , و سأخبركم ببعضها ....فى بعض الأحيان كان الدافع ربحيا , فقد كانت المكتبات تدفع ثمنا باهظا لشراء نسخه اصليه من كتب افلاطون و غيره من الكتاب المشهورين , و بالتالى فقد كان بعض الناس يزورن الكتب و ينسبونها الى هؤلاء الكتاب المشهورين من أجل الحصول على المال .

و فى بعض الأحيان كان التزييف يتم فى داخل المدارس الفلسفيه , فيقوم بعض الطلاب بنسبة كتابات الى استاذهم , ليس بغرض اعلاء قدر هذه الكتابات , و لكن بهدف التواضع , و الإيهام بأن هذه الأفكار انما هى افكار معلمهم .


و فى بعض الأحيان كان البعض يستخدم التزييف من أجل أن تحظى كتاباتهم باهتمام الناس , فلو تخيلت نفسك فيلسوفا لا يعرف الناس عنه شيئا و قمت بتوقيع الكتاب باسمك فإن أحدا لن يلتفت اليه , بخلاف ما لو وقعته باسم سقراط , فبكل تأكيد أن الناس سوف يتهافتون على قراءته .


اذن ففى كثير من الأحيان , كان التزييف يتم لغرض نبيل , وليس من أجل الخداع , و اننا نعرف أشخاصا بارزين فى المسيحيه المبكره قاموا بالتزييف , و على سبيل المثال فهناك العديد من الرسائل يزعم أنها أرسلت ما بين بولس و الفيلسوف الأشهر فى زمنه " سينيكا" ....لقد كان "سينيكا" الفيلسوف الاشهر فى زمنه و لكنه لم يتكلم عن المسيحيين مطلقا و لم يذكر على الاطلاق اسم بولس أو بطرس أو يسوع , و لم يذكر أى شىء له علاقه بالمسيحيه على الاطلاق .


أصاب المسيحيين اللاحقين نوع من التشويش , كيف أن هذا الفيلسوف الشهير " سينيكا" لم يذكر مؤسس دينهم على الاطلاق , و بالتالى فقد قام مسيحى فى القرن الرابع الميلادى بتزوير رسائل ما بين بولس و "سينيكا " , حتى يظهر أن بولس كان يعمل على أعلى المستويات الفلسفيه فى العالم القديم , و هذه الخطابات المزوره ممتعة جدا , فقد زور الكاتب على لسان "سينيكا" مدحا لبولس و أعجابا برسائله و فلسفته لدرجة أنه أراها للإمبراطور " نيرو" الذى تأثر بها أيضا و تعجب أن هذه الرسائل المذهله قد كتبها شخص محدود التعليم ......و بالتالى فقد كان الغرض من هذا التزوير أن يظن الناس أن أعظم الفلاسفه فى زمن بولس كان ينظر اليه باعتباره فيلسوفا عظيما أيضا .



و دعونى أعطيكم مثالا آخر , لدينا فى العهد الجديد رسالة كورنثوس الأولى و الثانيه , و لكن أود أن أخبركم أن هناك ما يعرف باسم رسالة كورنثوس الثالثه و التى لا توجد فى العهد الجديد , و هو كتاب كتب فى القرن الثانى الميلادى يحذر من هرطقات معينه , و بالأخص " الهرطقه الدوسيتيه " , و الكاتب يزعم أن بولس هو كاتب هذه الرساله


اذن هذا مثال آخر على التزوير من أجل غرض نبيل من وجهة نظر الكاتب و هو مقاومة " الهرطقه الدوسيتيه" , و قد كتبت هذه الرساله فى القرن الثانى الميلادى عندما شاعت الهرطقه الدوسيتيه , و التى لم تكن قد ظهرت بعد فى عهد بولس .


لقد أشرت سابقا الى أن رسائل بولس تنقسم الى الآتى :


1- سبع رسائل غير مشكوك فى نسبتها الى بولس و هى :
الرساله الى روميه , و الرساله الأولى و الثانيه الى كورنثوس , الرساله الى غلاطيه , الرساله الى فيلبى , و تسالونيكى الأولى , و الرساله الى فيلمون


2- ثلاث رسائل أخرى تعرف باسم رسائل بولس الثانيه
" deutro-pualine epistles"
, أى أنها تأتى فى مرتبة ثانيه أو أقل من الأولى , و التى يظن أن بولس ربما لم يكتبها , و هى تسالونيكى الثانيه , و رسالة أفسس , و رسالة كولوسى .........ان الدارسين يتجادلون حول موثوقية هذه الرسائل , بناء على نوعية التراكيب اللغويه المستخدمه فى هذه الرسائل , و أسلوب الكتابه , و الاعتقادات اللاهوتيه التى توجد بهذه الرسائل ... الخ .


و سأعطيكم مثالا ..... كنت قد حدثتكم قليلا عن رسالة كورنثوس الأولى , و محور هذه الرساله أن الناس لم يستحقوا بعد الانتفاع الكامل بالخلاص الذى قدمه يسوع , و لكن المشكله ان بعض الكورنثيين اعتقد انه يعيش نوعا ما من القيامه و أن قد انتفع بكل قوة الخلاص , و بالتالى فإن بولس قد كتب هذا الخطاب ليوضح لهم أن يسوع قد قام من الموت , و لكن المسيحيين لم تحدث لهم قيامة بعد , فهذا حدث مستقبلى , و أن هذه القيامه ستكون جسديه , فسوف يبعث الناس من موتهم و تصير أجسامهم غير فانيه كجسد المسيح .



الآن اذا قرأنا رسالة افسس , و التى تنسب الى بولس , فأننا نجد أن الكاتب يدافع عن الفكره التى عارضها بولس فى رسالة كورنثوس الأولى , فكاتب رسالة أفسس يعتقد أن المسيحيين قد قاموا مع المسيح و يحكمون معه , و أن المسيحيين قد انتفعوا بكل قوة الخلاص .......بسبب هذا التعارض بين رسالة أفسس و ما ورد فى رسالة كورنثوس الأولى , فإن بعض الدارسين يعتقد أن بولس قد كتب رسالة كورنثوس الأولى و لكنه لم يكتب رسالة أفسس حسب اعتقادهم .


3- الرسائل الرعويه , و هى الرساله الأولى و الثانيه الى تيموثاوس و رسالة تيطس

من الواضح عند معظم الدارسين أن بولس لم يكتب هذه الرسائل , و من الواضح أن من كتبها الجيل الثانى أو الثالث اللاحق لبولس , لأنها تختلف عما كتبه بولس من نواحى متعدده .


يزعم أن هذه الرسائل قد كتبها بولس الى اثنين من أتباعه و هما تيموثاوس و تيطس , و هما اللذان عينهما بولس كرؤساء للكنيسه فى مدينة أفسس و جزيرة قبرص , و هذه الرسائل تعطى نصائح رعويه عن كيفية معالجة مشكلة "التعليم الكاذب" فى المجتمعين المسيحيين اللذين رأسهما تيموثاوس و تيطس , و هى تعطى نصائح عن الصفات الواجب توافرها فى الرجل الذي سيعين قائدا فى الكنيسه , و أننى اقول لكم " الرجل" لأن المرأه لم يكن مسموحا لها أن تعين فى الكنيسه .



اذا قرأت هذه الرسائل الرعوية قراءة سريعه فسيبدو لك أن بها ما يشبه أسلوب بولس , ان الكاتب يزعم أنه بولس , و القراءه السريعه تجعلك تشعر أن هذا أسلوب بولس , و لكن المشكله أن الشخص الذى سيزور خطابا و ينسبه الى بولس سيحاول بكل تأكيد أن يبدو هذا الخطاب المزور مشابها لأسلوب بولس فى الكتابه , و بالتالى فإذا كنت تقرأ خطابا تجد به أسلوب بولس فى الكتابه , فإن هذا ليس دليلا على أن بولس هو الكاتب أو غير ذلك , لأن بولس بالطبع سيكتب بأسلوبه , و لو كان كاتب آخر فإنه سيقلد أسلوب بولس .



فى واقع الأمر , فإنه من الواضح أن بولس لم يكتب هذه الرسائل الرعويه , و الدليل على هذا عدة أشياء :

أولها أن أسلوب الكتابه اذا كنت مجيدا لليونانيه يختلف عن أسلوب بولس , فهذه الرسائل بنظرة سطحيه تبدو مثل أسلوب بولس , و لكن بالتحليل العميق لأسلوب الكتابه اليونانى يظهر لك الاختلاف بين اسلوب بولس و أسلوب من زور هذه الرسائل , فالتراكيب اللغويه -على سبيل المثال- التى استخدمت فى هذه الرسائل لا توجد فى رسائل بولس الموثوق فى نسبتها اليه , فهناك عدد كبير من الكلمات ذكرت فى الرسائل الرعويه و لم يستخدمها بولس فى رسائله الأخرى .


ثانيا : الهرطقات التى تتكلم عنها الرسائل الرعويه يبدو أنها قد ظهرت أصلا بعد زمن بولس .


الثالث و الأهم : هو وضع الكنيسه و شكلها الذى ترسمه هذه الرسائل , غير متوافق مع شكل الكنيسه و صورتها فى عصر بولس , فهذه الرسائل الرعويه تتكلم عن قاده مسيحيين يريدون أن يسيروا الكنيسه بنظام , و لكن فى عصر بولس لم يكن هناك قادة للكنائس التى أسسها بولس , فقد كانت الكنائس فى عصر بولس تدار بواسطة شخصيات كاريزماتيه لا أكثر , فهناك من له موهبة التعليم , و هناك من له موهبة الشفاء , و هناك من له موهبة التكلم بألسنه و هكذا .....لقد كانت هناك مشاكل فى كنيسة كورنثوس , فقد كان هناك مسيحيون يقتادون بعصهم البعض الى المحاكم , و كان بعضهم يشرب الخمر ...الخ , فلماذا لم يكتب بولس الى قادة الكنيسه و يأمرهم أن يضبطوا الأحوال فى كنيستهم ؟؟؟!!!!! , الجواب ببساطه , أنه لم يكن ثمة قادة للكنيسه فى عصر بولس , فلم يكن هناك هيكل تنظيمى للكنيسه بحيث يكتب بولس الى القاده فى قمة هذا الهيكل التنطيمى و يأمرهم أن يسيطروا على من تحت سلطتهم .



و لكننا نجد فى الرسائل الرعويه شكلا مختلفا لهيكل الكنيسه , فتجد أساقفه و شمامسه , أى قادة كنسيين مسئولين عن النظام فى الكنيسه , و هناك شروط معينه يجب أن تتوفر فى كل رتبه من هذه الرتب الكنسيه , و بالطبع فإن هذا يختلف جذريا عن شكل الكنيسه و تنظيمها فى عصر بولس .


و لهذا فإن معظم الدارسين يؤمنون أن هذه الرسائل الرعويه لم يكتبها بولس , و أنها كتبت بواسطة مجاهيل انتحلوا اسم بولس لرسائلهم هذه , و هذا مهم جدا اذا أردنا أن نفهم هذه الرسائل لعدد من الأسباب , و دعونى أذكر لكم واحدا منها , فهناك فقرة مهمه جدا فى الرسائل الرعويه تتحدث عن دور المرأه فى الكنيسه , و كما سيظهر لكم فإنه لا دور لها على الاطلاق , بل أن المرأه لا ينبغى لها أن تتكلم اطلاقا بحسب ما ورد هذه الرسائل الرعويه , فنقرأ الرساله الأولى الى تيموثاوس , الاصحاح الثانى , و العدد الحادى عشر و ما يليه :




الغرض من هذا أن تعلموا أن هذا ليس تعليم بولس , بل هو تعليم شخص لاحق لزمن بولس , فبولس قد علم بخلاف هذا كما نجد فى رسالته الى غلاطيه , فى الاصحاح الثالث , و العدد الثامن و العشرين , فنقرأ ما يلى :



و كذلك فى رسالة بولس الأولى الى أهل كورنثوس , أن نساء كورنثوس يسمح لهن بالصلاه و التنبؤ فى الكنائس و رؤوسهن مغطاه .....اذن فالنساء يستطعن أن يتحدثن فى الكنائس بحسب تعاليم بولس هذه , و أيضا فإنك اذا قرأت رسالة بولس الى روميه سيتضح لك جليا أن عددا من النساء كانت لهن مكانة بارزه فى الكنائس التى أسسها بولس , فهناك من يعرفن بأنهن "شمامسه" , و منهن "مبشرات" , و منهن راعيات للكنائس , و هناك امرأه تدعى يونيا تعرف بأنها الأولى بين الرسل , و نجد هذا فى رسالة روميه فى الاصحاح السادس عشر و العدد السابع .



#مهرائيل_هرمينا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تناقضات العهد الجديد المنقح25
- تناقضات العهد الجديد المنقح22
- تناقضات العهد الجديد المنقح23
- تناقضات العهد الجديد المنقح20
- تناقضات العهد الجديد المنقح21
- تناقضات العهد الجديد المنقح18
- تناقضات العهد الجديد المنقح19
- تناقضات العهد الجديد المنقح16
- تناقضات العهد الجديد المنقح17
- اسطورة العود الابدى ميرسيا الياد
- تناقضات العهد الجديد المنقح15
- تناقضات العهد الجديد المنقح13
- تناقضات العهد الجديد المنقح14
- تناقضات العهد الجديد المنقح11
- تناقضات العهد الجديد المنقح12
- تناقضات العهد الجديد المنقح9
- تناقضات العهد الجديد المنقح10
- تناقضات العهد الجديد المنقح8
- تناقضات العهد الجديد المنقح5
- تناقضات العهد الجديد المنقح6


المزيد.....




- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح24